زبدة التفاسير الجزء ٥

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
المشاهدات: 15946
تحميل: 3569


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 597 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15946 / تحميل: 3569
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 5

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-07-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) أنفسهم بالكفر( مَعْذِرَتُهُمْ ) أي: لا يمكّنون من الاعتذار، ولو اعتذروا لم يقبل عذرهم. وقرأ الكوفيّون بالياء، لأنّ المعذرة بمعنى العذر، أو لأنّ تأنيثها غير حقيقيّ، وقد فصل بينهما.( وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) لا يطلبون إلى ما يقتضي إعتابهم، أي: إزالة عتبهم، من التوبة والطاعة، كما دعوا إليه في الدنيا. من قولهم: استعتبني فلان فأعتبته، أي: استرضاني فأرضيته.

( وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ) ولقد وصفنا لهم فيه بأنواع الصفات الّتي هي في غرابتها كالأمثال، مثل صفة المبعوثين يوم القيامة، وما يقال لهم وما يقولون، وما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة والاستعتاب. أو بيّنّا لهم من كلّ مثل يدعوهم إلى التوحيد والبعث وصدق الرسول.

ثمّ أخبر عن عناد القوم وتكذيبهم بالإيمان، فقال:( وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ ) من آيات القرآن، أو معجزة باهرة ممّا اقترحوها منك( لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) من فرط عنادهم، وقساوة قلوبهم( إِنْ أَنْتُمْ ) يعنون الرسول والمؤمنين( إِلَّا مُبْطِلُونَ ) مزوّرون.

( كَذلِكَ ) مثل ذلك الطبع( يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) لا يطلبون العلم، ويصرّون على خرافات اعتقدوها، فإنّ الجهل المركّب يمنع إدراك الحقّ، ويوجب تكذيب المحقّ. ومعنى طبع الله: منع الألطاف الّتي ينشرح لها الصدور حتّى تقبل الحقّ. وإنّما يمنعها من علم أنّها لا تجدي عليه، ولا تغني عنه كما يمنع الواعظ الموعظة من يتبيّن له أنّ الموعظة تلغو ولا تنجع فيه. فوقع ذلك كناية عن قسوة قلوبهم، وركوب الصدأ والرين إيّاها. فكأنّه قال: كذلك تقسو وتصدأ قلوب الجهلة، حتّى يسمّوا المحقّين مبطلين، وهم أعرق خلق الله في تلك الصفة.

٢٨١

( فَاصْبِرْ ) على أذاهم وعداوتهم، وإصرارهم على الكفر( إِنَّ وَعْدَ اللهِ ) بنصرتك، وإظهار دينك على الدين كلّه( حَقٌ ) لا بدّ من إنجازه والوفاء به( وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) ولا يحملنّك على الخفّة والقلق، جزعا ممّا يقولون ويفعلون، من التكذيب والإيذاء، ولشدّة الغضب عليهم، فإنّهم ضالّون شاكّون، لا يستبدع منهم ذلك. وعن يعقوب بتخفيف النون.

٢٨٢

(٣١)

سورة لقمان

مكّيّة. وهي أربع وثلاثون آية. عن أبيّ بن كعب، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة لقمان كان لقمان له رفيقا يوم القيامة، وأعطي من الحسنات عشرا، بعدد من عمل بالمعروف وعمل بالمنكر». وفي رواية اخرى: ونهى عن المنكر.

وروى محمّد بن جبير العزرمي، عن أبيه، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة لقمان في كلّ ليلة، وكلّ الله به في ليلته ثلاثين ملكا يحفظونه من إبليس وجنوده حتّى يصبح، فإن قرأها بالنهار لم يزالوا يحفظونه من إبليس وجنوده حتّى يمسي».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ

٢٨٣

عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) )

واعلم أنّه سبحانه لـمّا ختم سورة الروم بذكر الآيات الدالّة على صحّة نبوّته، افتتح هذه السورة بذكر آيات القرآن، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ) ذي الحكمة. أو وصف بصفة اللهعزوجل على الإسناد المجازي. ويجوز أن يكون تقديره في الأصل: الحكيم قائله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فبانقلابه مرفوعا بعد الجرّ استكن في الصفة المشبّهة.

( هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ) بيانا ودلالة ونعمة للمطيعين الّذين يحسنون العمل. وهما حالان من الآيات، والعامل فيهما معنى الإشارة. ورفعهما حمزة على الخبر بعد الخبر، أو الخبر لمحذوف.

ثمّ بيّن إحسانهم بقوله:( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) تخصيص هذه الثلاثة الّتي هي من شعب الإحسان، لفضل الاعتداد بها. وتكرير الضمير للتأكيد والاختصاص.

( أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) لاستجماعهم العقيدة الحقّة والعمل الصالح.

ثمّ وصف الّذين حالهم يخالف حال هؤلاء، فقال:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ) كالأحاديث الّتي لا أصل لها، والأساطير الّتي لا اعتبار بها، والتحدّث بالمضاحيك وفضول الكلام. ونحو الغناء، وتعلّم الموسيقى، وما أشبه ذلك.

والإضافة بمعنى «من». وهي تبيينيّة إن أراد بالحديث المنكر. والمعنى: من يشتري اللهو من الحديث. وتبعيضيّة إن أراد به الأعمّ منه. والمعنى: من يشتري بعض

٢٨٤

الحديث الّذي اللهو منه.

والاشتراء إمّا من قوله:( اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ ) (١) أي: استبدلوه منه واختاروه عليه. وعن قتادة: اشتراؤه استحبابه، واختياره حديث الباطل على حديث الحقّ.

وإمّا من الشراء، على ما روي أنّها نزلت في النضر بن الحارث، وكان يتّجر إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم فيحدّث بها قريشا، ويقول: إن كان محمّد يحدّثكم بحديث عاد وثمود، فأنا أحدّثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة، فيستحسنون حديثه، ويتركون استماع القرآن.

وروي: كان يشتري المغنّيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلّا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنّيه. ويقول: هذا خير ممّا يدعوك إليه محمّد من الصلاة والصيام والمقاتلة بين يديه.

ويصحّح هذه الرواية ما روى عن أبي امامة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «لا يحلّ تعليم المغنيّات، ولا بيعهنّ، وأثمانهنّ حرام. وقد نزل تصديق ذلك في كتاب الله:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي ) الآية. والّذي نفسي بيده ما رفع رجل عقيرته(٢) يتغنّى إلّا ارتدفه شيطانان، يضربان أرجلهما على ظهره وصدره حتّى يسكت».

وأكثر المفسّرين على هذا القول. وهو منقول عن ابن عبّاس وابن مسعود وغيرهما. ومرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن الرضاعليهم‌السلام .

وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ملأ مسامعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيّين يوم القيامة. قيل: وما الروحانيّون يا رسول الله؟ قال: قرّاء أهل الجنّة».

__________________

(١) آل عمران: ١٧٧.

(٢) العقيرة: صوت المغنّي والباكي والقارئ. يقال: رفع عقيرته، أي: صوته.

٢٨٥

وقيل: الغناء منفدة للمال، مسخطة للربّ، مفسدة للقلب.

( لِيُضِلَ ) غيره( عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) عن دينه، أو قراءة كتابه، ومن أضلّ غيره فقد ضلّ. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، بمعنى: ليثبت على ضلاله الّذي كان عليه، ولا يصرف عنه، بل يزيد فيه.( بِغَيْرِ عِلْمٍ ) بحال ما يشتريه، أو بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن.

( وَيَتَّخِذَها هُزُواً ) عطف على «يشتري» أي: ويتّخذ السبيل سخريّة، فإن السبيل مؤنّثة، كقوله:( وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً ) (١) . وقد نصبه حمزة والكسائي ويعقوب وحفص عطفا على «ليضلّ».

( أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) مذلّ يهينهم الله به، لإهانتهم الحقّ باستئثار الباطل عليه.

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا ) وإذا قرئ عليه القرآن( وَلَّى مُسْتَكْبِراً ) أعرض عن سماعه، رافعا نفسه فوق مقدارها، فلا يعبأ بها.( كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ) مشابها حاله حال من لم يسمعها. وهو حال من المستكن في «ولّى» أو في «مستكبرا». والأصل في «كأن» المخفّفة «كأنّه». والضمير ضمير الشأن.

( كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ) مشابها بحال من في أذنيه ثقل، لا يقدر أن يسمع.

وهذا بدل من الحال الأولى، أو حال من المستكن في «لم يسمعها». ويجوز أن يكونا استئنافين. وقرأ نافع بسكون الذال.( فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) أعلمه بأنّ العذاب يحيق به لا محالة. وذكر البشارة على التهكّم.

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) )

__________________

(١) الأعراف: ٨٦.

٢٨٦

ثمّ أخبر سبحانه عن صفة المؤمنين المصدّقين، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ) أي: لهم نعيم الجنّات، فعكس للمبالغة.

( خالِدِينَ فِيها ) حال من الضمير في «لهم» أو من( جَنَّاتُ النَّعِيمِ ) . والعامل ما تعلّق به اللام.( وَعْدَ اللهِ حَقًّا ) مصدران مؤكّدان. الأوّل مؤكّد لنفسه. والثاني مؤكّد لغيره، لأنّ قوله:( لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ) في معنى: وعدهم الله جنّات النعيم، فأكعد معنى الوعد بالوعد، وليس كلّ وعد حقّا.

( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) الّذي لا يغلبه شيء، فيمنعه عن إنجاز وعده ووعيده( الْحَكِيمُ ) الّذي لا يفعل إلّا ما يوجبه حكمته وعدله.

( خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) )

ثمّ أخبر سبحانه عن أفعاله الدالّة على عزّته الّتي هي كمال القدرة، وحكمته الّتي هي كمال العلم، فقال:( خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) جملة مستأنفة. أو في محلّ الجرّ، على أنّه صفة للعمد، أي: بغير عمد مرئيّة. يعني: أنّه عمدها بعمد لا ترى، وهي إمساكها بقدرته.

( وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ ) جبالا شوامخ ثوابت( أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) كراهة أن تميل بكم، فإنّ تشابه أجزائها يقتضي تبدّل أحيازها وأوضاعها، لامتناع اختصاص

٢٨٧

كلّ منها لذاته أو لشيء من لوازمه بحيّز ووضع معيّنين.

( وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ) وفرّق فيها بعضا من الدوابّ، تدبّ على وجهها من أنواع الحيوانات.

( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً ) مطرا( فَأَنْبَتْنا فِيها ) بذلك الماء( مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) من كلّ صنف كثير المنفعة، حسن النبتة، طيّب الثمرة.

مهّد بذلك قاعدة التوحيد، وقرّرها بقوله:( هذا ) أي: هذا الّذي ذكر من الأشياء العظيمة، المتضمّنة بدائع الحكم، وغرائب المصالح( خَلْقُ اللهِ ) أي: مخلوقه، فإنّ الخلق جاء بمعنى المخلوق( فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) ماذا خلق آلهتكم حتّى استحقّوا عندكم مشاركته؟ وفيه تبكيت لهم. و «ماذا» نصب بـ «خلق». أو «ما» مرتفع بالابتداء، وخبره «ذا» بصلته، و «فأروني» معلّق عنه.

ثمّ أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضلال الّذي لا يخفى على ناظر، فقال:( بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) وضع الظاهر موضع المضمر، للدلالة على أنّهم ظالمون بإشراكهم في العبادة.

( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ

٢٨٨

فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) )

ولـمّا ذمّ سبحانه الشرك، وذكر الأدلّة الدالّة على توحيده وقدرته وحكمته، بيّن عقيب ذلك قصّة لقمان، ووصيّته لولده بالتوحيد واجتناب الشرك، وأنّه أعطاه الحكمة، فقال:( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ) وهو لقمان بن باعورا، من أولاد آزر ابن أخت أيّوب، أو ابن خالته. وعاش ألف سنة، وأدرك داود، وأخذ منه العلم. وكان يفتي قبل مبعث داود، فلمّا بعث قطع الفتوى، فقيل له؟ فقال: ألا أكتفي إذا كفيت؟ والجمهور على أنّه كان حكيما ولم يكن نبيّا. والحكمة في عرف العلماء: استكمال النفس الانسانيّة باقتباس العلوم النظريّة، واكتساب الملكة التامّة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها.

وعن ابن عبّاس: لقمان لم يكن نبيّا ولا ملكا، ولكن كان عبدا راعيا أسود، فرزقه الله العتق، ورضي قوله ووصيّته، فقصّ أمره في القرآن لتمسكوا بوصيّته.

وقال عكرمة والشعبي: كان نبيّا. وكانا يفسّران الحكمة بالنبوّة. وقيل: خيّر بين النبوّة والحكمة، فاختار الحكمة.

وروي عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «حقّا أقول: لم يكن لقمان نبيّا، ولكن كان عبدا كثير التفكّر، حسن اليقين، أحبّ الله فأحبّه، ومنّ عليه بالحكمة. وكان نائما نصف النهار، إذ جاءه نداء: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحقّ؟ فأجاب الصوت: إن خيّرني ربّي قبلت العافية ولم أقبل البلاء. وإن عزم عليّ فسمعا وطاعة، فإنّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني.

٢٨٩

فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟

قال: لأنّ الحكم أشدّ المنازل وآكدها، يغشاه الظلم من كلّ مكان، إن وقي فبالحريّ أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة. ومن يكن في الدنيا ذليلا وفي الآخرة شريفا، خير من أن يكون في الدنيا شريفا وفي الآخرة ذليلا. ومن يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة.

فتعجّبت الملائكة من حسن منطقه. فنام نومة فاعطي الحكمة، فانتبه يتكلّم بها.

ثمّ كان يؤازر داود بحكمته. فقال له داود: طوبى لك يا لقمان! أعطيت الحكمة، وصرفت عنك البلوى.

وعن ابن المسيّب: كان أسود من سودان مصر خيّاطا. وعن مجاهد: كان عبدا أسود، غليظ الشفتين، متشقّق القدمين. قيل له: ما أقبح وجهك؟ قال: تعتب على النقش، أو على فاعل النقش؟

وقيل: كان نجّارا. وقيل: راعيا كما مرّ. وقيل: كان يحتطب لمولاه كلّ يوم حزمة. وعنه أنّه قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنّه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض.

وروي: أنّ رجلا وقف عليه في مجلسه فقال: ألست الّذي ترعى معي في مكان كذا؟ قال: بلى. قال: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، والصمت عمّا لا يعنيني.

وروي: أنّه دخل على داود وهو يسرد الدرع، وقد ليّن الله له الحديد كالطين، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلمّا أتمّها لبسها. وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله. فقال له داود: بحقّ ما سمّيت حكيما.

وروي: أنّ داود قال له يوما: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت في يد غيري.

٢٩٠

فتفكّر داود فيه فصعق صعقة.

وروي: أنّ مولاه أمره بذبح شاة وأن يأتي بأطيب مضغتين منها، فأتى باللسان والقلب. ثمّ أمره بمثل ذلك بعد أيّام وأن يأتي بأخبث مضغتين منها، فأتى باللسان والقلب. فسأله عن ذلك؟ فقال: هما أطيب شيء إذا طابا، وأخبث شيء إذا خبثا.

وقيل: إنّ مولاه دخل المخرج، فأطال فيه الجلوس. فناداه لقمان: إنّ طول الجلوس على الحاجة يفجع منه الكبد، ويورث الباسور، ويصعّد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هونا، وقم هونا. قال: فكتب حكمته على باب الحشّ(١) .

قال عبد الله بن دينار: قدم لقمان من سفر، فلقي غلامه في الطريق، فقال: ما فعل أبي؟

قال: مات.

قال: ملكت أمري.

فقال: ما فعلت زوجتي؟

قال: ماتت.

قال: جدّد فراشي.

قال: ما فعلت أختي؟

قال: ماتت.

قال: سترت عورتي.

قال: ما فعل أخي؟

قال: مات.

قال: انقطع ظهري.

__________________

(١) الحشّ: موضع قضاء الحاجة.

٢٩١

وقيل للقمان: أيّ الناس شرّ؟ قال: الّذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا.

وفي كتاب من لا يحضره الفقيه: «قال لقمان لابنه: يا بنيّ! إنّ الدنيا بحر عميق، وقد هلك فيها عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الإيمان بالله، واجعل شراعها التوكّل على الله، واجعل زادك فيها تقوى اللهعزوجل ، فإن نجوت فبرحمة الله، وإن هلكت فبذنوبك»(١) .

وروى سليمان بن داود المنقريّ، عن حمّاد بن عيسى، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «في وصيّة لقمان لابنه: يا بنيّ سافر بسيفك وخفّك وعمامتك وخبائك وسقائك وخيوطك ومخرزك(٢) . وتزوّد معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك. وكن لأصحابك موافقا إلّا في معصية اللهعزوجل .

يا بنيّ! إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم، وأكثر التبسّم في وجوههم، وكن كريما على زادك بينهم. فإذا دعوك فأجبهم، وإذا استعانوا بك فأعنهم. واستعمل طول الصمت، وكثرة الصلاة، وسخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد.

وإذا استشهدوك على الحقّ فاشهد لهم، واجهد رأيك لهم إذا استشاروك، لا تعزم حتّى تثبّت وتنظر. ولا تجب في مشورة حتّى تقوم فيها وتقعد، وتنام وتأكل وتصلّي، وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته، فإنّ من لم يمحّض النصيحة لمن استشاره سلبه الله رأيه، ونزع عنه الأمانة.

وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم.

واسمع لمن هو أكبر منك سنّا. وإذا أمروك بأمر وسألوك شيئا فقل: نعم، ولا تقل :

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢: ١٨٥ ح ٨٣٣.

(٢) المخرز: ما يخرز به ويثقب، كالإبرة.

٢٩٢

لا، فإنّ «لا» عيّ(١) ولؤم.

وإذا تحيّرتم في الطريق فانزلوا. وإذا شككتم في القصد فقفوا وتآمروا. وإذا رأيتم شخصا واحدا فلا تسألوه عن طريقكم، ولا تسترشدوه، فإنّ الشخص الواحد في الفلاة مريب، لعلّه يكون عين اللصوص، أو يكون هو الشيطان الّذي حيّركم.

واحذروا الشخصين أيضا، إلّا أن تروا مالا أرى، فإنّ العاقل إذا أبصر بعينه شيئا عرف الحقّ منه، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.

يا بنيّ! إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخّرها لشيء، صلّها واسترح منها، فإنّها دين. وصلّ في جماعة ولو على رأس زجّ(٢) .

ولا تنامنّ على دابّتك، فإنّ ذلك سريع في دبرها(٣) . وليس ذلك من فعل الحكماء، إلّا أن تكون في محمل يمكنك التمدّد لاسترخاء المفاصل.

وإذا قربت من المنزل فانزل عن دابّتك، وابدأ بعلفها قبل نفسك، فإنّها نفسك(٤) .

وإذا أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها لونا، وألينها تربة، وأكثرها عشبا. وإذا نزلت فصلّ ركعتين قبل أن تجلس.

وإذا أردت قضاء حاجتك فأبعد المذهب في الأرض. وإذا ارتحلت فصلّ ركعتين، ثمّ ودّع الأرض الّتي حللت بها، وسلّم على أهلها، فإنّ لكلّ بقعة أهلا من الملائكة. وإن استطعت أن لا تأكل طعاما حتّى تبتدئ فتصدّق منه فافعل.

وعليك بقراءة كتاب الله ما دمت راكبا. وعليك بالتسبيح ما دمت عاملا عملا.

__________________

(١) العيّ: العجز والجهل.

(٢) الزجّ: الحديدة التي في أسفل الرمح.

(٣) دبر البعير دبرا: أصابته الدبرة. وهي قرحة الدابّة تحدث من الرّحل ونحوه.

(٤) لعلّ الكلمة محرّكة، أي: نفسك، من النفس بمعنى السعة والعيش والفسحة.

٢٩٣

وعليك بالدعاء ما دمت خاليا. وإيّاك والسير في أوّل الليل إلى آخره. وإيّاك ورفع الصوت في مسيرك».

وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «والله ما أوتي لقمان الحكمة لحسب، ولا مال، ولا بسط في جسم، ولا جمال، ولكنّه كان رجلا قويّا في أمر الله، متورّعا في الله، ساكنا سكينا، عميق النظر، طويل التفكّر، حديد البصر. لم ينم نهارا قطّ. ولم يتّكئ في مجلس قوم قطّ. ولم يتفل في مجلس قطّ. ولم يضحك من شيء قطّ.

ولم يعبث بشيء قطّ. ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط، ولا على اغتسال، لشدّة تستّره وتحفّظه في أمره. ولم يغضب قطّ مخافة الإثم في دينه. ولم يمازح إنسانا قطّ. ولم يفرح بشيء أوتيه من الدنيا، ولا حزن منها على شيء قطّ.

وقد نكح من النساء، وولد له الأولاد الكثيرة. وقدّم أكثرهم أفراطا(١) ، فما بكى على موت أحد منهم. ولم يمرّ بين رجلين يقتتلان أو يختصمان إلّا أصلح بينهما، ولم يمض عنهما حتّى تحاجزا. ولم يسمع قولا استحسنه من أحد قطّ إلّا سأله عن تفسيره، وعمّن أخذه.

وكان يكثر مجالسة الفقهاء والعلماء. وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين. فيرثي(٢) للقضاة بما ابتلوا به. ويرحم الملوك والسلاطين، لعزّتهم بالله، وطمأنينتهم في ذلك. ويتعلّم ما يغلب به نفسه، ويجاهد هواه، ويحترز من السلطان.

وكان يداوي نفسه بالتفكّر والعبر. وكان لا يظعن(٣) إلّا فيما ينفعه، ولا ينظر إلّا فيما يعنيه. فلذلك أوتي الحكمة، كما قال سبحانه:( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ) .

__________________

(١) الأفراط والفرط: الولد يموت صغيرا. يقال: سبقه فرط كثير، أي: ولد ماتوا ولم يدركوا.

(٢) أي: يرقّ لهم ويرحمهم.

(٣) أي: لا يسير ولا يرحل.

٢٩٤

( أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ) لأن اشكر، أو أي اشكر، فإنّ إيتاء الحكمة متضمّن معنى القول، كأنّه قال: ولقد قلنا للقمان أن اشكر لله. فقد نبّه الله سبحانه على أنّ الحكمة الأصليّة والعلم الحقيقي هو العمل بهما، وعبادة الله والشكر له، حيث فسّر إيتاء الحكمة بالبعث على الشكر.

( وَمَنْ يَشْكُرْ ) على نعمة الله ونعمة من أنعم عليه( فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ) لأنّ نفعه عائد إليها. وهو دوام النعمة، واستحقاق مزيدها، واستيجاب ثوابه في الآخرة.

( وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ ) لا يحتاج إلى الشكر( حَمِيدٌ ) حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد. أو محمود، إذ نطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال.

( وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ ) وهو أنعم. وقال الكلبي: هو أشكم. وقيل: ماثان.

( وَهُوَ يَعِظُهُ ) في حال ما يؤدّبه ويذكّره( يا بُنَيَ ) تصغير إشفاق( لا تُشْرِكْ بِاللهِ ) قيل: كان كافرا فلم يزل به حتّى أسلم. ومن وقف على «لا تشرك» جعل «بالله» قسما.( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) لأنّ التسوية بين من لا نعمة إلّا منه، ومن لا نعمة منه البتّة ولا يتصوّر أن تكون منه، ظلم لا يكتنه عظمه. وقيل: إنّه ظلم نفسه ظلما عظيما، بأن أوبقها.

( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ) أي: بالإحسان إليهما. ثمّ بيّنعزوجل زيادة نعمة الأمّ على الولد بالنسبة إلى الأب بقوله:( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً ) ذات وهن، أو تهن وهنا( عَلى وَهْنٍ ) أي: تضعف ضعفا فوق ضعف، بأن يتزايد ضعفها ويتضاعف، لأنّ الحمل كلّما ازداد وعظم ازدادت ثقلا وضعفا. وعلى التقديرين «وهنا» في موضع الحال.

( وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) أي: فطامه في انقضاء عامين، وكانت ترضعه في تلك المدّة. ويدلّ عليه قولهعزوجل :( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ

٢٩٥

يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ) (١) . وذكر الفصال هاهنا لـما تلحق الأمّ من المشقّة به أيضا، فليكن الاهتمام بالإحسان والبرّ في حقّها أكثر من حقّ الأب. ومن ثمّ قالعليه‌السلام ـ لمن قال له: من أبرّ؟ ـ: أمّك، ثمّ أمّك، ثمّ أمّك. ثمّ قال بعد ذلك: ثمّ أباك.

( أَنِ اشْكُرْ لِي ) على نعمائي بالحمد والطاعة( وَلِوالِدَيْكَ ) بالبرّ والصلة.

و «أن» تفسير لـ «وصّينا»، أو علّة له، أو بدل من «والديه» بدل الاشتمال.( إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) فأحاسبك على شكرك وكفرك.

( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) باستحقاقه الإشراك تقليدا لهما. وقيل: أراد بنفي العلم به نفيه، أي: لا تشرك بي ما ليس بشيء. يريد الأصنام، كقوله:( ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) (٢) .( فَلا تُطِعْهُما ) في ذلك( وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) صحابا معروفا حسنا، يرتضيه الشرع، ويقتضيه الكرم والمروءة، من خلق جميل وحلم واحتمال مكروه وبرّ وصلة، وغير ذلك.

( وَاتَّبِعْ ) في الدين( سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ ) بالتوحيد والإخلاص في الطاعة.

وهو النبيّ ومتابعيه من المؤمنين. ولا تتّبع سبيلهما في الكفر، وإن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما في الدنيا مراعاة لحقّ الأبوّة والأمومة، وتعظيما لهما، وما لهما من المواجب الّتي لا يسوغ الإخلال بها.

ثمّ بيّن حكمهما في الآخرة فقال:( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ) مرجعك ومرجعهما( فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) بأن أجازيك على إيمانك، وأجازيهما على كفرهما.

والآيتان معترضتان في تضاعيف وصيّة لقمان، تأكيدا لـما فيهما من النهي عن الشرك، كأنّه قال: وقد وصّينا بمثل ما وصّى به. وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك، فإنّهما مع أنّهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطاعة، لا يجوز أن يستحقّاه في

__________________

(١) البقرة: ٢٣٣.

(٢) العنكبوت: ٤٢.

٢٩٦

الإشراك، فما ظنّك بغيرهما؟

روي: أنّها نزلت في سعد بن أبي وقّاص وأمّه. وفي الخبر: أنّها مكثت ثلاثا لا تطعم ولا تشرب، لإسلام ابنها، حتّى فتحوا فاها بعود ليطعموها شيئا.

( يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) )

ثمّ عاد سبحانه إلى الإخبار عن لقمان في وصيّته لابنه، وأنّه قال له:( يا بُنَيَّ إِنَّها ) أي: الخصلة أو الفعلة من الإسارة أو الإحسان( إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ) أي: إن كانت مثلا في الصغر، كحبّة الخردل. ورفع نافع «مثقال» على أنّ الهاء ضمير القصّة، و «كان» تامّة. وتانيثها لإضافة المثقال إلى الحبّة، أو لأنّ المراد به الحسنة أو السيّئة.

( فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ) في أخفى مكان وأحرزه كجوف صخرة، أو أعلاه كمحدّب السماوات، أو أسفله كمقعّر الأرض( يَأْتِ بِهَا اللهُ ) يحضرها يوم القيامة، فيحاسب بها عاملها.

٢٩٧

قال الزجّاج: يروى أنّ ابن لقمان قال له: أرأيت الحبّة تكون في مقل البحر ـ أي: مغاصه ـ يعلمها الله؟ فقال: إنّ الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة، لأنّ الحبّة في الصخرة أخفى منها في الماء.

وقيل: الصخرة هي الّتي تحت الأرض. وهي السجّين يكتب فيها أعمال الكفّار.

روى العيّاشي بالإسناد عن ابن مسكان، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال: «اتّقوا المحقّرات من الذنوب، فإنّ لها طالبا، لا يقولنّ أحدكم: أذنب واستغفر الله، إنّ الله تعالى يقول:( إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ) الآية».

( إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ ) يصل علمه إلى كلّ خفيّ( خَبِيرٌ ) عالم بكنهه. وعن قتادة: لطيف باستخراجها، خبير بمستقرّها».

( يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ ) تكميلا لنفسك( وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ) وهو كلّ ما حسن فعله عقلا وشرعا.( وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) وهو كلّ ما قبح فعله عقلا وشرعا. وكلاهما لتكميل الغير.( وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ ) من الشدائد خصوصا في باب الحسبة.

( إِنَّ ذلِكَ ) الإشارة إلى الصبر، أو إلى كلّ ما أمر به( مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) ممّا عزمه الله تعالى من الأمور، قطعه قطع إيجاب وإلزام. ومنه: عزمات الملوك، وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده: عزمت عليك إلّا فعلت كذا. وإذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله، ولا مندوحة في تركه. وحقيقته: أنّه من تسمية المفعول بالمصدر. وأصله من معزومات الأمور، أي: من مقطوعاتها ومفروضاتها. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الفاعل، أي: من عازمات الأمور، من قوله: فإذا عزم الأمر أي: جدّ.

وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات، وأنّها كانت مأمورا بها في سائر الأمم، وأنّ الصلاة لم تزل عظيمة الشأن، سابقة القدم على ما سواها، موصى بها في

٢٩٨

الأديان كلّها.

( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ) لا تمله عن الناس، ولا تولّهم صفحة وجهك تكبّرا منك واستخفافا لهم، كما يفعله المتكبّرون، بل أقبل عليهم بوجهك تواضعا.

من الصعر، وهو داء يعتري البعير فيلوي عنقه. وقرأ نافع وحمزة والكسائي: ولا تصاعر، بمعناه.

( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ) أي: فرحا. مصدر وقع موقع الحال، أي: تمرح مرحا. أو لأجل المرح. وهو البطر والأشر.( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) علّة للنهي. وتأخير الفخور، وهو مقابل للمصعّر خدّه، والمختال مقابل للماشي مرحا، لتوافق رؤوس الآي.

( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) أي: توسّط في المشي بين الدبيب والإسراع، فلا تدبّ دبيب(١) المتماوتين، ولا تثب وثيب الشطّار. وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن».

( وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ) وانقص من الصوت واقصر. من قولك: فلان يغضّ من فلان، إذا قصر به ووضع منه.( إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ ) أوحشها. من قولك: شيء نكر، إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت.( لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) أوّله زفير، وآخره شهيق. والحمار مثل في الذمّ البليغ، سيّما نهاقه. ولذلك عدّ في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة، فيكنّى عنه فيقال: الطويل الأذنين، كما يكنّى عن الأشياء المستقذرة، لاستفحاشهم لذكرها. ففي تمثيل الصوت المرتفع بصوته، ثمّ إخراجه مخرج الاستعارة، مبالغة شديدة في الذمّ.

__________________

(١) دبّ يدبّ دبيبا: مشى كالحيّة، أو على اليدين والرجلين كالطفل. وثب يثب وثيبا: نهض وقام، وقفز وطفر. والشطّار جمع الشاطر، وهو المتّصف بالدهاء والخباثة.

٢٩٩

وتوحيد الصوت لأنّه ليس المراد أن يذكر صوت كلّ واحد من آحاد هذا الجنس حتّى يجمع، وإنّما المراد أنّ كلّ جنس من الحيوان له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده. أو لأنّه مصدر في الأصل.

( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) )

ثمّ ذكر سبحانه نعمه على خلقه، ونبّههم على معرفتها، فقال:( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ ) من الشمس والقمر والنجوم والسحاب، وغير ذلك ،

٣٠٠