زبدة التفاسير الجزء ٦

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
ما وجب معه عليه الطلب والخروج. فلما انعكس ذلك وظهرت أمارات الغدر فيه وسوء الاتفاق ، رام الرجوع والمكافّة والتسليم كما فعل أخوه ، فمنع من ذلك وحيل بينه وبينه. فالحالان متفقان ، إلا أن التسليم والمكافّة عند ظهور أسباب الخوف لم يقبلا منه ، ولم يجب إلى الموادعة ، وطلبت نفسه فمنع منها بجهده ، حتّى مضى كريما إلى جنة الله ورضوانه ، وهذا واضح لمتأمله (انتهيكلام السيد المرتضى).
٢٨٧ ـ تعليق العلامة المجلسي :(أسرار الشهادة للدربندي ، ص ٢٦)
قال المحقق المحدث المجلسي بعد نقل كلام السيد المرتضى :
وقد مضى في كتابه (الإمامة) وكتاب (الفتن) أخبار كثيرة دالة على أن كلا منهمعليهالسلام كان مأمورا بأمور خاصة ، مكتوبة في الصحف السماوية النازلة على الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فهم كانوا يعملون بها. ولا ينبغي قياس الأحكام المتعلقة بهم على أحكامنا. وبعد الاطلاع على أحوال الأنبياءعليهمالسلام وأن كثيرا منهم كانوا يبعثون فرادى في ألوف من الكفرة ، ويسبّون آلهتهم ويدعونهم إلى دينهم ، ولا يبالون بما ينالهم من المكاره والضرب والحبس والقتل والإلقاء في النار ، ولا ينبغي الاعتراض على أئمة الدين في أمثال ذلك ، مع أنه بعد ثبوت عصمتهم بالبراهين والنصوص المتواترة ، لا مجال للاعتراض عليهم ، بل يجب التسليم لهم في كل ما صدر عنهم.
على أنك لو تأملت حق التأمل علمت أنهعليهالسلام فدى بنفسه المقدسة دين جدهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولم تنزلزل أركان دولة بني أمية إلا بعد شهادته ، ولم يظهر للناس كفرهم وضلالتهم إلا عند فوزه بسعادته. ولو كان يسالمهم ويوادعهم كان يقوى سلطانهم ويشتبه على الناس أمرهم ، فتعود بعد حين أعلام الدين طامسة وآثار الهداية مندرسة. مع أنه قد ظهر لك من الأخبار السابقة أنهعليهالسلام هرب من المدينة خوفا من القتل.
إلى مكة ، وكذا خرج من مكة بعد ما غلب على ظنه أنهم يريدون غيلته وقتله ، حتّى لم يتيسّر له أن يتمّ حجّه ، فتحلل وخرج منها خائفا يترقب. وقد كانوا ضيّقوا عليه جميع الأقطار ولم يتركوا له موضعا للفرار.
ولقد رأيت في بعض الكتب المعتبرة أن يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم ، وولاه أمر الموسم ، وأمّره على الحاج كلهم ، وكان قد أوصاه بقبض
الحسينعليهالسلام سرا ، وإن لم يتمكن منه بقتله غيلة. ثم إنه دسّ مع الحاج في تلك السنة ثلاثين رجلا من شياطين بني أمية ، وأمرهم بقتل الحسينعليهالسلام على أي حال اتفق. فلما علم الحسينعليهالسلام بذلك حلّ من إحرام الحج وجعلها عمرة مفردة.
وقد روي بأسانيد معتبرة ، أنهعليهالسلام لما منعه محمّد بن الحنفية عن الخروج
إلى الكوفة ، قال : «والله يا أخي لو كنت في جحر هامّة من هوام الأرض ، لاستخرجوني منه حتّى يقتلونني». بل الظاهر أنه لو كان يسالمهم ويبايعهم لا يتركونه ، لشدة عداوتهم وكثرة وقاحتهم ، بل كانوا يغتالونه بكل حيلة ويدفعونه بكل وسيلة. وإنما كانوا يعرضون البيعة عليه أولا لعلمهم بأنه لا يوافقهم في ذلك.ألا ترى مروان ابن الحكم كيف كان يشير على والي المدينة بقتله قبل عرض البيعة عليه؟. وكان عبيد الله بن زياد يقول : اعرضوا عليه فلينزل على أمرنا ، ثم نرى فيه رأينا؟.
ألا ترى كيف أمنّوا مسلم بن عقيل ، ثم قتلوه؟!.
فأما معاوية فإنه مع شدة عداوته وبغضه لأهل البيتعليهمالسلام كان ذا دهاء ونكراء وحزم ، وكان يعلم أن قتلهم علانية يوجب رجوع الناس عنه وذهاب ملكه وخروج الناس عليه ، فكان يداريهم ظاهرا على كل حال. ولذا صالحه الحسنعليهالسلام ولم يتعرض له الحسينعليهالسلام . ولذا كان معاوية يوصي ولده اللعين بعدم التعرض للحسينعليهالسلام لأنه كان يعلم أن ذلك يصير سببا لذهاب دولته (انتهى كلام العلامة المجلسي).
٢٨٨ ـ لماذا خرج الحسينعليهالسلام بعياله إلى العراق؟ :(مقتل المقرم ص ١٢٥)
ان الكلمة السديدة الناضجة في وجه حمل الحسين عياله إلى العراق مع علمه بما يقدم عليه ومن معه على القتل ، هو أنهعليهالسلام لما علم بأن قتلته سوف تذهب ضياعا لو لم يتعقبها لسان ذرب(١) وجنان ثابت ، يعرّفان الأمة ضلال ابن ميسون(يزيد) وطغيان ابن مرجانة (ابن زياد) ، باعتدائهما على الذرية الطاهرة الثائرة في وجه المنكر ، ودحض ما ابتدعاه في الشريعة المقدسة.
وعرف سيد الشهداءعليهالسلام من حرائر الرسالةعليهالسلام الصبر على المكاره وملاقاة
__________________
(١) ذرب اللسان : ذو لسان حادّ. ولسان ذرب : أي فصيح.
الخطوب والدواهي بقلوب أرسى من الجبال ، فلا يفوتهن تعريف الملأ المغمور بالترّهات والأضاليل ، نتائج أعمال هؤلاء المضلين ، وما يقصدونه من هدم الدين ، وأن الشهداء أرادوا بنهضتهم مع إمامهم إحياء شريعة جده محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم .
وفي الحقيقة لقد أدت عقائل الوحي هذه الرسالة الجوهرية الخطيرة ، بجرأة وإخلاص ، وثبات ورباطة جأش ، رغم تفاقم الخطب وعظم المصيبة وقساوة المحنة فهاهي عقيلة الوحي زينبعليهاالسلام أخت الحسينعليهالسلام تقف بجرأة وحزم أمام ابن زياد الجبار المتهور ، تفرغ عن لسان أبيها ، تقول له بكلام أنفذ من السهم ، وتلقمه حجرا وهي تقول :
«هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم ، فانظر لمن الفلج (أي الفوز) ثكلتك أمك يابن مرجانة».ثم لا ننسى خطبها في الكوفة ومواقفها في الشامعليهاالسلام .
وها هي فاطمة بنت الحسين وأم كلثوم وسكينةعليهمالسلام يتحدثن بمثل ما تحدثت به عمتهن زينبعليهاالسلام ، في ذلك الموقف الرهيب المحفوف بسيوف الخسف والغدر والجور ، فما يستطيع أحد أن يتفوه بكلمة واحدة مهما أوتي من الجرأة والثبات والصمود ، ومهما بلغ من القوة والمنعة والمنزلة ، فكيف بهنّ وقد أعلنّ للملأ أجمع عن كل موبقات ابن ميسون وابن مرجانة.
هذا على أنه وإن وضع الله الجهاد ومكافحة الأعداء عن المرأة وأمرها بلزوم بيتها ، فذاك فيما إذا قام بتلك المكافحة غيرها من الرجال ، وأما إذا توقف إقامة الحق عليها فقط ، بحيث لولا قيامها لدرست أسس الشريعة وذهبت الغاية من تضحية الصفوة ، كان الواجب القيام به.
ينتج من هذا أن جهاد العقيلات في معركة كربلاء كان في طرف موازنة مع جهاد الشهداء.
وجاء في (اللهوف) ص ٤٧ : ومما يمكن أن يكون سببا لحمل الحسينعليهالسلام عياله ، أنه إن تركها بالحجاز أو غيرها من البلاد ، كان يزيد بن معاوية قد أنفذ ليأخذهن إليه ، وصنع بهن من الاستئصال وسيّئ الأعمال ، ما يمنع الحسين من الجهاد والشهادة.
٥ ـ هل ألقى الحسينعليهالسلام بيده إلى التهلكة؟
٢٨٩ ـ هل عرّض الحسينعليهالسلام نفسه للتهلكة؟ :
(مقتل الحسين للمقرّم ، ص ٣٩)
يقول السيد عبد الرزاق المقرّم عن استشهاد الأئمةعليهمالسلام :
وليس في إقدامهم على الشهادة إعانة على إزهاق نفوسهم القدسية وإلقائها في التهلكة الممنوع منه بنص الذكر المجيد ، فإن الإبقاء على النفس والحذر من إيرادها مورد الهلكة إنما يجب إذا كان مقدورا لصاحبها أو لم يقابل بمصلحة أهمّ من حفظها. وأما إذا وجدت هنا لك مصلحة تكافىء تعريض النفس للهلاك ، كما في الجهاد والدفاع عن النفس ، مع العلم بتسرب القتل إلى فئة من المجاهدين ، فيجب عندها بذل النفس والتضحية بها. ولقد أمر الله الأنبياء والمرسلين والمؤمنين فمشوا إليه قدما موطّنين أنفسهم على القتل وكم فيهم سعداء ، وكم من نبي قتل في سبيل دعوته ولم يبارح قوله دعوته حتّى أزهقت نفسه الطاهرة!. وقد تعبّد الله طائفة من بني إسرائيل بقتل أنفسهم فقال :( إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ ) [البقرة : ٥٤].
وقد أثنى سبحانه على المؤمنين في إقدامهم على القتل والمجاهدة في سبيل تأييد الدعوة الإلهية ، فقال تعالى :( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) [التوبة : ١١١] وقال تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) [البقرة : ٢٠٧] وقال تعالى :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١٦٩) [آل عمران : ١٦٩].
٢٩٠ ـ التعبّد بالقتل أسمى درجات السعادة ، وليس هو إلقاء إلى التهلكة :
(اللهوف للسيد ابن طاووس ، ص ١٢)
يقول السيد ابن طاووس : ولعل بعض من لا يعرف حقائق شرف السعادة بالشهادة ، يعتقد أن الله لا يتعبّد بمثل هذه الحالة. أما سمع في القرآن الصادق المقال ، أنه تعبّد قوما بقتل أنفسهم ، فقال تعالى :( إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ ) [البقرة : ٥٤] أنه هو القتل ، وليس الأمر كذلك ، وإنما التعبد به من أبلغ درجات السعادة.
ثم يعرض تفسير آية التهلكة بما ذكره الإمام الصادقعليهالسلام ، وهو أن بعض الصحابة تخلّفوا عن نصرة النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم وأقاموا في بيوتهم لإصلاح أحوالهم ، فنزلت الآية :( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) [البقرة : ١٩٥] ومعناه : إن تخلّفتم عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وأقمتم في بيوتكم ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة وسخط الله عليكم فهلكتم. وليست هذه الآية في رجل يحرّض على العدو أو يطلب الشهادة بالجهاد في سبيل الله رجاء الثواب والآخرة.
٢٩١ ـ دفع شبهة : هل ألقى الحسينعليهالسلام بنفسه إلى التهلكة؟ :
(الأنوار النعمانية لنعمة الله الجزائري ، ج ٢ ص ٢٣٦)
يقول السيد نعمة الله الجزائري :
واعلم أن جماعة من مخالفينا أورد واهنا شبهة ، بل وربما قاله بعض الجهال فينا ، وهو أن الحسينعليهالسلام كان عالما بأن يجري عليه ما جرى قبل مسيره إلى العراق ، فلم سار إليها حتّى صار كالمعين على نفسه؟. وهذه شبهة ركيكة ، والجواب عنها من وجوه :
الوجه الأول : أن الإمام إذا وجد الأعوان وجب عليه القيام بأمر الجهاد ، ولا يجوز له التقاعد عنه لظنه بهم الخذلان له ، كما لم يجز للأنبياءعليهمالسلام ترك الجهاد لهذه المظنّة ، بل قاموا بالدعوة حتّى أصيبوا من الأمة بالمصائب العظام ، كما وقع لأولي العزم وغيرهم ، استتماما لحجة الله تعالى على الخلائق.
الوجه الثاني : أنهعليهالسلام لو لم يسر إلى العراق لما تركوه ، ولو ذهب إلى المكان البعيد ، مصداقا لقولهعليهالسلام لأخيه محمّد بن الحنفية ، حين نصحه بأن يلحق بالرمال من اليمن حتّى ينظر بواطن أهل العراق ، فقال له : يا أخي نعم ما رأيت من الصلاح ، ولكن هؤلاء القوم ما يسكتون عن طلبي أينما ذهبت حتّى يسفكوا دمي ، فعند ذلك يلبسهم الله ذلّ الدنيا والآخرة.
الوجه الثالث : أن الأنبياء والأئمةعليهمالسلام قد خصّهم الله تعالى بأنواع من التكاليف ، فلعل هذا ـ وهو الإلقاء إلى التهلكة ـ منها ، نظرا إلى الحكم والمصالح الإلهية.
فإن قلت : كيف لم يبايع ليزيد حتّى لا يصل إليه الضرر ، كما بايع أخوه الحسنعليهالسلام ؟ قلت : هذا مجرد كلام ، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. وذلك
أنهعليهالسلام رأى أخاه الحسنعليهالسلام لما سالم معاوية ، وكيف فعل به أولا ، وكيف غدر به آخرا ، حتّى قتله مسموما. فما كان يصنع ابنه يزيد مع الحسينعليهالسلام إلا أسوأ من هذا ، لأن معاوية كان فيه الدهاء ، وما كان يتجرأ على قتل الحسينعليهالسلام ظاهرا ، ولهذا أوصى عند موته ليزيد ، أنك [إن] تظفر بالحسينعليهالسلام فلا تقتله ، واذكر فيه القرابة من رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم .
٢٩٢ ـ بين هجرة الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم وهجرة السبطعليهالسلام :
(من وحي الثورة الحسينية لهاشم معروف الحسني ، ص ٣١)
يقول السيد هاشم معروف الحسني :
هناك هجرتان من أجل الإسلام ورسالة الإسلام :
الأولى منهما : كانت فرارا من الموت الّذي استهدف رسالة محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم بشخصه ، وقد نفّذها الرسول الأعظمصلىاللهعليهوآلهوسلم بأمر من ربه ، ليتابع رسالته وينقذها من مشركي مكة وجبابرة قريش وعلى رأسهم أبو سفيان.
والثانية : قام بها سبطه الزكي الحسين بن عليعليهالسلام ولكنها كانت للشهادة ، بعد أن أدرك أن الأخطار المحدقة برسالة جده ، لا يمكن تفاديها وتجاوزها إلا بشهادته.
لقد هاجر رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم من مكة إلى المدينة لأجل رسالته ، بعد أن تآمرت قريش على قتله لتتخلص منها ، لأن بقاءها وانتشارها مرهون بحياته ، وبعد أن وجدت أن جميع وسائل العنف التي استعملتها معه خلال ثلاثة عشر عاما لم تغير من موقفه شيئا ، كما لم تجدها جميع الاغراءات والعروض السخية. وكان ردّه الأخير على عروض أبي سفيان وأبي جهل ومغرياتهما أن قال : «والله لو وضعتم الشمس في يميني ، والقمر في شمالي ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتّى يحكم الله أو أهلك دونه».
وظل الحزب الأموي بقيادة أبي سفيان وأبنائه يتحيّن الفرص ويستغل المناسبات ليجهض على الإسلام وعلى قادة الإسلام ، بعد أن عملوا بكل جهدهم لإفراغ الإسلام من مضمونه الحقيقي واتخاذه أداة ظاهرية للوصول إلى الحكم.
وحين عادت الجاهلية تعصف برياحها على بلاد الإسلام ، وتلقي بظلها على المسلمين ، سطع ضوء في الظلام ومن بين ركام الإسلام المتداعي ، وأضاءت للملأ
ملامح أمل جديد في دياجي ذلك الظلام المطبق ، وبدا للعالم إنسان يخطّ على التراب بدمه هذه الكلمات :
«ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما».
إنه الحسين ، ابن علي وفاطمة الزهراءعليهمالسلام سبط ذلك الرسول الّذي هاجر [الهجرة الأولى] من مكة إلى المدينة ، لأجل رسالته ولا نقاذها من الشرك والوثنية.جاء يهاجر [الهجرة الثانية] لأجل نفس الرسالة ولانقاذها من الشذوذ والانحراف والجور والفساد. خرج من مدينة جده محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم إلى عاصمة أبيه الكوفة ، خرج مهاجرا لإحياء دين جده ورسالته ، وإيقاظ الآمال في نفوس الفقراء والمستضعفين ، الذين باتوا يساقون كالأنعام بيد الولاة والحكام.
ولقد رضي الحسينعليهالسلام أن يقدّم نفسه وأهله قربانا لهذه الرسالة ، حين رأى الموت والشهادة أحلى إلى قلبه من العقد الّذي يزيّن جيد الفتاة ، وحين أدرك أن لا عزّة ولا كرامة إلا بالجهاد والفداء.
لقد هاجر الحسينعليهالسلام من مدينة جدهصلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أرض الشهادة والخلود ، ليقدّم دمه الزكي ودماء إخوته وأنصاره ثمنا لإحياء شريعة جده محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم وإنقاذها من الضياع والاندثار.
وهكذا كانت نهضة الحسينعليهالسلام الامتداد الطبيعي لرسالة جده محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وجهاد الحسينعليهالسلام امتدادا لجهاد جده وأبيهعليهالسلام ، مصداقا لقول النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم :
«حسين مني وأنا من حسين». فعقيدة الحسين هي من النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم ، ورسالة النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم تحيى وتبقى بالحسينعليهالسلام .
٦ ـ معالم النهضة المقدسة
٢٩٣ ـ ثلاثة مشاعل من رسالة الحسينعليهالسلام :
(مجلة الإسلام في معارفه وفنونه للشيخ حبيب آل إبراهيم ، بعلبك ،
السنة العاشرة ، العدد الأول ، نيسان ١٩٦٨)
ماهي رسالة الحسينعليهالسلام ؟
تعال نسأل عنها الإمام الحسين نفسه
في يوم شهادته بالذات رفع الشهيد شعارات ثلاثة ،
كانت خير عنوان للرسالة التي خرج يؤديها بدمه ،
ودم الشهداء الذين معه.
هذه الشعارات هي : المسؤولية ـ التصميم ـ العزّة.
١ ـ المسؤولية :
قال الإمام الحسينعليهالسلام : «إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ، ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين».
هذه الكلمات مشاعل ، تضيء الطريق للسالكين ، بها يحدد سيد الشهداء أغراض نهضته : إنه لم يخرج طمعا بمنصب ولا عن انحراف ، إنما خرج يطلب الإصلاح في دين جده خاتم الرسلصلىاللهعليهوآلهوسلم ، يريد أمرا بمعروف ونهيا عن منكر.
ها هنا مشعل!. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنه المسؤولية ؛ مسؤولية المسلم عن عقيدته وممارستها.
ولقد كان أبو عبد الله الحسينعليهالسلام حيثما سار وثار ، نموذجا مثاليا للمسلم حين تحيق بعقيدته الآفات والأخطار.
ثم قال الحسينعليهالسلام : «فمن قبلني بقبول الحق ، فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر ، حتّى يحكم الله ، وهو خير الحاكمين».
إنه ينادي : أيها الناس لا يكن ميزان قبولكم إياي شخصي ، إنما اقبلوني لأني أمثّل حقا. فمن قبلني فإنما يقبل الحق ، ومن ردّ عليّ فإنما يردّ على الحق هكذا ترتفع المبادئ فوق الأشخاص. وحينذاك تضيع النفوس وحاجاتها ، ويبقى المبدأ هو القائم البارز. ونعم ، يبقى الشخص بمقدار ما يمثّل من مبدأ.
٢ ـ التصميم :
وقالعليهالسلام : «ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ ، قد ركز بين اثنتين : بين السّلةّ والذلة ، وهيهات منا الذلة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف حميّة ، ونفوس أبيّة ، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».
ها هو الحسينعليهالسلام يعلن تصميمه على أداء رسالته ، وأنه لن يتراجع. وأنه يؤثر أن يموت ميتة الكرام في سبيل الرسالة ، على أن يطيع اللئام ولكن لماذا؟. من أين ينبع هذا التصميم؟.
من الله ورسوله ، ومن تربيته ، ومن نفسه. فلا الله يرضى له التراجع ولا رسوله ، ولا حقّ من ربّوه ، ولا نفسه.
مزيج من الدوافع ، لا أشمل ولا أكمل : الدين والتربية والنفسية. كلها تدفعه لأن يعلنها صريحة مدوّية : أنه لن يتراجع عن أداء رسالته ، ولو كلّفه ذلك مصرعه ...والدين في المقدمة.
وهذا مشعل!. الدين حافز لا يرضى التراجع ، ولا يقبل بأنصاف الحلول.
٣ ـ العزّة :
ثم قالعليهالسلام : «لا والله ، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد».
كلمات تنضح بالعزة
إنه لن يسكت ذليلا ، ولن يسكت عبدا والمنحرفون يريدونه ذليلا وعبدا معا. ولو أنه ذل واستعبد لربما أنالوه ما يرضيه ؛ ولكنه عزّ ، وإذ عزّ ثار ولكم تكلّف.
العزة غاليا( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) [المنافقون : ٨].
وهذا مشعل!. الإيمان عزّ ، ولا ذلّ مع الإيمان.
٧ ـ أهداف نهضة الحسينعليهالسلام
* مدخل :
قبل أن يسير الحسينعليهالسلام من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ، دعا بدواة وبياض وكتب وصية تاريخية لأخيه محمّد بن الحنفية. وهذه الوصية هي أفضل وثيقة صادرة عن صاحب النهضة ، يوضح فيها بجلاء أهداف نهضته المباركة ، يقول فيها :
«إني لم أخرج أشرا (أي فرحا) ولا بطرا ، ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن
المنكر ، وأسير بسيرة جدي محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وسيرة أبي علي بن أبي طالبعليهالسلام .فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق ، ويحكم بيني وبينهم وهو خير الحاكمين».
ففي هذه الوثيقة يبيّن الحسينعليهالسلام ما يلي :
١ ـ أن نهضته ليس غرضها السلطان والدنيا وما يلازمها من الفرح والبطر ، ولا الإفساد والظلم.
٢ ـ أن نهضته تنطلق من مبدأ وجوب الإصلاح لكل فاسد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٣ ـ أن غايته الأولى والأخيرة إحقاق الحق الّذي أبطله المتحكمون والمبطلون ، المتمثل بسيرة جده محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم وأبيه عليعليهالسلام .
٤ ـ أنه سوف يعمل جاهدا لتطبيق مبادئه السامية مستعينا بأنصار الحق ، وسوف يبذل في سبيل ذلك كل غال ورخيص ، ويصبر على تنفيذ ذلك ولو ضحّى بنفسه وما يملك.
والحسينعليهالسلام رغم علمه بمصيره وشهادته ، التي وصلت حدّ الاشتهار ، إلا أنه كان يعمل وفق تكليفه الشرعي المبني على ظواهر الأمور.
٢٩٤ ـ هدفان رئيسيان للنهضة :
(الوثائق الرسمية لثورة الحسين لعبد الكريم الحسيني القزويني ، ص ١٢)
لو تصفحنا الوثائق الأولى لقائد هذه الثورة ـ الحسينعليهالسلام ـ لرأيناها تحمل الهدفين التاليين :
١ ـ الثورة على حكم يزيد ، أي تغيير الجهاز الحاكم.
٢ ـ إقامة الشريعة الاسلامية وتطبيقها ، في مقابل المخالفات التي أشاعها الحكام آنذاك.
٢٩٥ ـ الحسينعليهالسلام فاتح وليس مغامرا :(مقتل الحسين للمقرم ، ص ٥٦)
كان الحسينعليهالسلام يعتقد في نهضته أنه فاتح منصور ، لما في شهادته من إحياء دين الرسول وإماتة البدعة وتفظيع أعمال المناوئين وتفهيم الأمة أنه أحق بالخلافة من غيره ، وإليه يشير في كتابه إلى بني هاشم :
«من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلفّ لم يبلغ الفتح»(١) .
فإنهعليهالسلام لم يرد بالفتح إلا ما يترتب على نهضته وتضحيته من نقض دعائم الضلال وكسح أشواك الباطل عن الشريعة المطهرة ، وإقامة أركان العدل والتوحيد ، وأن الواجب على الأمة القيام في وجه المنكر.
وهذا معنى كلمة الإمام زين العابدينعليهالسلام لإبراهيم بن طلحة بن عبيد الله
لما سأله حين رجوعه إلى المدينة : «من الغالب؟». فقال السجّادعليهالسلام : إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم ، تعرف الغالب!(٢) .
فإنه يشير إلى تحقّق الغاية التي ضحّى سيد الشهداء بنفسه القدسية من أجلها ، وفشل يزيد بما سعى له من إطفاء نور الله تعالى ومحو ذكر أهل البيتعليهمالسلام ، وما أراده أبوه من نقض مساعي الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم وإمائة الشهادة له بالرسالة ، بعد أن كان الواجب على الأمة في أوقات الصلوات الخمس الإعلان بالشهادة لنبي الإسلام ، ذلك الّذي هدم صروح الشرك وأبطل عبادة الأوثان. كما وجب على الأمة الصلاة على النبي وعلى آله الطاهرين في التشهدين ، وأن الصلاة عليه بدون الصلاة على آله : بتراء(٣) .
كما أن العقيلة زينبعليهاالسلام أشارت إلى هذا الفتح بقولها ليزيد : «فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا يرحض عنك عارها وشنارها».
تصريحات الفيلسوف الألماني ماربين
٢٩٦ ـ أسرار شهادة الحسينعليهالسلام للفيلسوف الألماني (ماربين):
(ذكرى الحسين للشيخ حبيب آل إبراهيم ، ج ٨ ص ٥٢)
قال الحكيم الألماني ماربين في كتابه (السياسة الإسلامية) من جملة كلام طويل :
لا يشك صاحب الوجدان إذا دقّق النظر في أوضاع ذاك العصر ، وكيفية نجاح بني
__________________
(١) كامل الزيارات ، ص ٧٥ ؛ وبصائر الدرجات للصفار ، ج ١٠ ص ١٤١.
(٢) أمالي الشيخ الطوسي.
(٣) الصواعق المحرقة ، ص ٨٧.
أمية في مقاصدهم واستيلائهم على جميع طبقات الناس وتزلزل المسلمين ، أن الحسين قد أحيا بقتله دين جده وقوانين الإسلام. ولو لم تقع تلك الواقعة ، ولم تظهر تلك الحسّيات الصادقة بين المسلمين لأجل قتل الحسين ، لم يكن الإسلام على ماهو عليه الآن قطعا ، بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانينه حيث كان يومئذ حديث العهد.
عزم الحسينعليهالسلام على إنجاح هذا المقصد وإعلان الثورة ضد بني أمية من يوم توفي والده ، فلما قام يزيد مقام معاوية خرج الحسينعليهالسلام من المدينة ، وكان يظهر مقصده العالي ، ويبث روح الثورة في المراكز الإسلامية المهمة كمكة والعراق وأينما حل ، فازدادت نفرة قلوب المسلمين ، التي هي مقدمة الثورة على بني أمية ، ولم يكن يجهل يزيد مقاصد الحسينعليهالسلام ، وكان يعلم أن الثورة إذا أعلنت في جهة والحسين قائدها مع تنفر المسلمين عموما من حكومة بني أمية وميل القلوب وتوجه الانظار إلى الحسينعليهالسلام ، عمّت جميع البلدان ، وفي ذلك زوال ملكهم وسلطانهم ، فعزم يزيد قبل كل شيء من يوم بويع على قتل الحسينعليهالسلام . ولقد كان هذا أعظم خطأ سياسي صدر من بني أمية ، فجعلهم نسيا منسيا ولم يبق منهم أثر ولا خبر.
وأعظم الأدلة على أن الحسينعليهالسلام أقدم على قتل نفسه ولم تكن من غرضه سلطنة ولا رئاسة ، هو أنه مضافا إلى ما كان عليه من العلم والسياسة والتجربة التي وقف عليها زمن أبيه وأخيه في قتال بني أمية ، كان يعلم أنه مع عدم تهيئة الأسباب له واقتدار يزيد ، لا يمكنه المقاومة والغلبة.
وكان يقول من يوم توفي والده إنه يقتل وأعلن يوم خروجه من المدينة أنه يمضي إلى القتل ، وأظهر ذلك لأصحابه والذين أتبعوه من باب إتمام الحجة ، حتى يتفرق الذين التفوا حوله طمعا بالدنيا ، وطالما كان يقول «وخير لي مصرع أنا لاقيه». ولو لم يكن قصده ذلك ولم يكن عالما عامدا ، لجمع الجنود ولسعى في تكثير أصحابه وزيادة استعداده ، لا أن يفرق الذين كانوا معه. ولكن لما لم يكن له قصد إلا القتل مقدمة لذلك المقصد العالي ، وإعلان الثورة المقدسة ضد يزيد ، رأى أن خير الوسائل إلى ذلك (الانفراد والمظلومية) ، فإنّ أثر هذه المصائب أشد وأكثر في القلوب.
من الظاهر أن الحسينعليهالسلام مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين
في ذلك الزمان ، لو كان يطلب قوة واستعدادا لأمكنه أن يخرج إلى حرب يزيد جيشا جرارا ، ولكنه لو صنع ذلك لكان قتله في سبيل السلطة والإمارة ، ولم يفز (بالمظلومية) التي انتجت تلك الثورة العظيمة. هذا هو الذي جعله لا يبقي معه إلا الذين لا يمكن انفكاكهم عنه ، كأولاده وإخوانه وبني أخوته وبني أعمامه وجماعة من خواص أصحابه ، حتى أنه أمر هؤلاء أيضا بمفارقته ، ولكنهم أبوا عليه ذلك ، وهؤلاء أيضا كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر وعظم المنزلة وقتلهم معه مما يزيد في عظم المصيبة وأثر الوقعة. نعم إن الحسينعليهالسلام بمبلغ علمه وحسن سياسته بذل كمال جهده في إفشاء ظلم بني أمية وإظهار عداوتهم لبني هاشم وسلك في ذلك كل طريق.
ولما كان يعلم الحسينعليهالسلام عداوة بني أمية له ولبني هاشم ، ويعرف أنهم بعد قتله يأسرون عياله وأطفاله ـ وذلك يؤيد مقصده ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين سيما العرب كما قد وقع ـ حملهم معه وجاء بهم من المدينة.
نعم إن ظلم بني أمية وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمد وصباياه أثّر في قلوب المسلمين تأثيرا عظيما لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه. ولقد أظهر في عمله هذا عقيدة بني أمية في الإسلام وسلوكهم مع المسلمين سيما ذراري نبيهم. لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السفر : «إني أمضي إلى القتل» ولما كانت أفكار المانعين محدودة وأنظارهم قاصرة لا يدركون مقاصد الحسينعليهالسلام العالية ، لم يألوا جهدهم في منعه ، وآخر ما أجابهم به أن قال لهم «شاء الله ذلك وجدي أمرني به». فقالوا إن كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال ، فقال : «إن الله شاء أن يراهن سبايا». ولما كان الحسين بينهم رئيسا روحانيا لم يكن لهم بدّ من السكوت.
ومما يدل على أنه لم يكن له غرض إلا ذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه ، ولم يتحمل تلك المصائب لسلطنة وإمارة ولم يقدم على هذا الخطر من غير علم ودارية ـ كما تصوره بعض المؤرخين منا ـ أنه قال لبعض ذوي النباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة ، على سبيل السلوة : إنه بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة ، يبعث الله رجالا يعرفون الحق من الباطل ، يزورون قبورنا ، ويبكون على مصابنا ، ويأخذون بثأرنا من أعدائنا ، أولئك جماعة ينشرون دين الله وشريعة جدي ، وأنا وجدي نحبهم وهو يحشرون معنا يوم القيامة. وليتأمل المتأمل في كلام
الحسينعليهالسلام وحركاته يرى أنه لم يترك طريقا من السياسة إلا سلكه في إظهار شنائع بني أمية وعداوتهم القلبية لبني هاشم ومظلومية نفسه ، وهذا مما يدل على حسن سياسته وقوة قلبه وتضحية نفسه ، في طريق الوصول إلى المقصد الذي كان في نظره ، حتى أنه في آخر ساعات حياته عمل عملا حير عقول الفلاسفة ، ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة والهموم المتراكمة وكثرة العطش والجراحات ، وهو قصة (عبد الله الرضيع). فلما كان الحسينعليهالسلام يعلم أن بني أمية لا يرحمون له صغيرا رفع طفله الصغير تعظيما للمصيبة على يده أمام القوم وطلب منهم أن يأتوه بشربة من الماء فلم يجيبوه إلا بالسهم.
ويغلب على الظن أن غرض الحسينعليهالسلام من هذا العمل تفهيم العالم بشدة عداوة بني أمية لبني هاشم وأنها إلى أي درجة بلغت. ولا يظن أحد أن يزيد كان مجبورا على تلك الأعمال المفجعة لأجل الدفاع عن نفسه ، لأن قتل الطفل الرضيع في تلك الحال بتلك الكيفية ، ليس هو إلا توحش وعداوة سبعية ، منافية لقواعد كل دين وشريعة ، ويمكن أن تكون هذه الفاجعة كافية لافتضاح بني أمية ورفع الستار عن قبائح أعمالهم ونياتهم السيئة بين العالم ، سيما المسلمين ، وأنهم يخالفون الإسلام في حركاتهم بل يسعون بعصبية جاهلية إلى إبادة آل محمد وجعلهم أيدي سبأ.
ونظرا لتلك المقاصد العالية التي كانت في نظر الحسينعليهالسلام مضافا إلى وفور علمه وسياسته التي كان لا يشك فيها اثنان لم يرتكب أمرا يوجب إجبار بني أمية للدفاع عن أنفسهم ، حتى أنه مع ذلك النفوذ والاقتدار الذي كان له في ذلك العصر لم يسع في تسخير البلاد الإسلامية وضمها إليه ولا هاجم ولاية من ولايات يزيد إلى أن حاصروه في واد غير ذي زرع ، قبل أن تبدو منه أقل حركة عدائية أو تظهر منه ثورة ضد بني أمية لم يقل الحسينعليهالسلام سأكون ملكا أو سلطانا أو أصبح صاحب سلطة. نعم كان يبث روح الثورة في المسلمين بنشره شنائع بني أمية واضمحلال الدين إن دام ذلك الحال ، وكان يخبر بقتله ومظلوميته وهو مسرور. ولما حوصر في تلك الأرض القفراء أظهر لهم من باب إتمام الحجة بأنهم لو تركوه لرحل بعياله وأطفاله وخرج من سلطة يزيد ، ولقد كان لهذا الإظهار الدال على سلامة نفس الحسينعليهالسلام في قلوب المسلمين غاية التأثير.
لقد قتل قبل الحسينعليهالسلام ظلما وعدوانا كثير من الرؤساء الروحانيين وأرباب
الديانات وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضد الأعداء ، كما وقع مكررا في بني إسرائيل ، وقصة يحيى من أعظم الحوادث التاريخية ، ومعاملة اليهود مع المسيح لم ير نظيرها إلى ذلك العهد ، ولكن واقعة الحسينعليهالسلام فاقت الجميع لم يرشدنا التاريخ إلى أحد من الروحانيين وأرباب الديانات أنه أقدم على قتل نفسه عالما عامدا لمقاصد عالية لا تنجح إلا بقتله ، فإن كل واحد من أرباب الديانات الذين قتلوا ، ثار عليهم أعداؤهم وقتلوهم ظلما ، وبمقدار مظلوميتهم قامت الثورة بعدهم ، ومقاصد الحسينعليهالسلام كانت على علم وحكمة وسياسة وليس لها نظير في التاريخ ، فإنه لم يزل يوالي السعي في تهيئة أسباب قتله نظرا لذلك المقصد العالي ، ولم نجد في التاريخ رجلا ضحّى بحياته عالما عامدا لترويج ديانته من بعده إلا الحسينعليهالسلام .
المصائب التي تحمّلها الحسينعليهالسلام في طريق إحياء دين جده تفوق على مصائب أرباب الديانات السابقين ، ولم ترد على أحد منهم. نعم إن هناك رجالا قتلوا في طريق إحياء الدين ولكنهم لم يكونوا كالحسين ، فإنه ضحّى بنفسه العزيزة في طريق إحياء دين جده وفداه بأولاده وإخوانه وأقربائه وأحبابه وأمواله وعياله ، ولم تقع هذه المصائب دفعة واحدة حتى تكون في حكم مصيبة واحدة ، بل وقعت متوالية واحدة بعد أخرى ، ويختص الحسينعليهالسلام دون غيره بتواتر أمثال هذه المصائب كما يشهد له التاريخ.
لم تنته المصائب التي وردت على الحسينعليهالسلام من قتله وقتل أصحابه وتسيير نسائه وبناته ، إلا وانكشف الغطاء عن سرائر بني أمية وقبائح أعمالهم ، وظهرت بين المسلمين الحسيات السياسية ، وتوطدت أسباب الثورة ضد سلطنة يزيد وبني أمية ، وعلم الجميع أن بني أمية مخربو الإسلام ، وصار الجميع يرفض بدعهم وتقولاتهم ، وعرفوا بالظلم والغصب ، بالعكس من بني هاشم فإنهم عرفوا بالمظلومية وأن لهم الرئاسة الروحانية بالاستحقاق ، وإليهم تنمى الحقيقة الروحانية.
كأن المسلمين بعد قتل الحسينعليهالسلام قد دخلوا في دور جديد وظهرت الروحانية الإسلامية بأجلى مظاهرها وتجددت بعد أن كانت مندرسة غائبة عن أذهان المسلمين وكما أنه لا يشك اثنان في تفوق مصائب الحسينعليهالسلام على جميع مصائب روحاني السلف ، فكذلك لا يشك في الثورة التي حدثت بعده بأنها فاقت جميع الثورات السالفة وأن امتدادها وأثرها أكثر ، وأن بها ظهرت للعالم (مظلومية
آل محمد) فكانت أولى نتائج هذه الثورة اختصاص الرئاسة الروحانية التي لها أهمية عظمى في عالم السياسة ببني هاشم ، وخصوصا في أولاد الحسينعليهالسلام (فكان منهم أئمة الشيعة) ونظرة عموم المسلمين إلى بني هاشم سيما أولاد الحسين نظرهم إلى الروحانيين. ولم يطل العهد حتى نزعت تلك السلطة من بني أمية وزالت السلطة والقدرة من آل يزيد في أقل من قرن ، واندرست آثارهم على وجه لم يبق منهم عين ولا أثر. وأينما ذكرت أسماؤهم في متون الكتب قرنها المسلمون بكلمة الشماتة ، وكل ذلك نتيجة سياسة الحسين الذي يمكن أن يقال إنه لم يأت في أرباب الديانات والروحانيين رجل عرف عواقب الأمور مع بعد نظر وحسن سياسة كالحسينعليهالسلام .
قبل أن تصل سبايا الحسين إلى الشام قامت الثورة ضد يزيد وظهرت بمظلومية الحسين سرائر بني أمية ، وكشف الغطاء عن نياتهم وتوجه اللوم على يزيد حتى من أهل بيته وحرمه(١) . وصار يزيد يسمع تقديس الحسينعليهالسلام وأولاد علي وعظمتهم ومظلوميتهم بعد أن لم يكن يمكن ذكرهم عنده بخير. وكان يصعب عليه ذلك إلا أنه لم يكن له بدّ غير السكوت ، ولما أراد تبرئة نفسه من تلك الأعمال ألقى المسؤولية على عماله ولم يزل يسمع محامد الحسينعليهالسلام . قال يزيد ذات يوم : إن سلطنة الحسين كانت أهون عليّ من هذا المقام العالي الذي فاز به آل علي وبنو هاشم.
وأخيرا فشيعة الحسينعليهالسلام لم يزالوا يستفيدون من هذه الثورات ، وتزيد قوة بني هاشم وعظمتهم حتى لم يمض أقل من قرن إلا وصارت السلطنة الإسلامية الوسيعة في بني هاشم من دون مزاحم ، وأبادوا بني أمية على وجه لم يبق منهم اسم ولا رسم. (انتهى كلام ماربين).
__________________
(١) قال السيد عبد الرزاق المقرم في مقتله صفحة ٢٠ : ولقد فشا الانكار على يزيد حتى من حريمه وأهل بيته ، حتى أن زوجته هند بنت عمرو بن سهيل وكان زوجة عبد الله بن عامر بن كريز ، فأجبره معاوية على طلاقها لرغبة يزيد فيها فإنها لما أبصرت الرأس مصلوبا على باب دارها ، والأنوار النبوية تتصاعد منه إلى عنان السماء ، وشاهدت الدم يتقاطر طريا ويشم منه رائحة طيبة ، عظم مصابه في قلبها فلم تتمالك أن دخلت على يزيد في مجلسه مهتوكة الحجاب وهي تصيح : رأس ابن بنت رسول الله مصلوب على دارنا. فقام إليها وغطاها وقال لها : أعولي على الحسين فإنه صريخة بني هاشم ، عجّل عليه ابن زياد قصد بذلك تعمية الامر وإبعاد السبة عنه وذلك بإلقاء التبعة على عامله
إنها لكلمات حرة صادقة جاءت على لسان رجل غربي مدقق مطّلع. ومن المؤسف أن نرى أمثال هذا الفيلسوف من الغربيين أشد إنصافا ودفاعا عن الحق ، حتى من علماء العرب أنفسهم (وإن تتولّوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) صدق الله العظيم.
٢٩٧ ـ مختصر ما حصل للحسينعليهالسلام حتّى مقتله :
(تاريخ الخلفاء للسيوطي ، ص ٢٠٧)
يقول السيوطي : فأما ابن الزبير فلم يبايع ، ولا دعا إلى نفسه.
وأما الحسينعليهالسلام فكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم زمن معاوية ، وهو يأبى. فلما بويع يزيد أقام على ما هو مهموما ، يجمع الإقامة مرة ، ويريد المسير إليهم أخرى. فأشار عليه ابن الزبير بالخروج.
وكان ابن عباس يقول له : لا تفعل.
وقال له ابن عمر : «لا تخرج ، فإن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم خيّره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة. وإنك بضعة منه ، ولا تنالها (أي الدنيا).
(وفي رواية تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني ، ج ٢ ص ٣٥٧) : «لا ينالها أحد منكم ، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير ، فأبى».
واعتنقه [ابن عمر] وبكى ، وقال : أستودعك الله من قتيل!. فكان ابن عمر يقول :غلبنا حسين بالخروج ، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة.
وكلّمه في ذلك أيضا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري وأبو واقد الليثي وغيرهم ، فلم يطع أحدا منهم.
وصمم على المسير إلى العراق. فقال له ابن عباس : والله إني لأظنك ستقتل بين نسائك وبناتك كما قتل عثمان ، فلم يقبل منه. فبكى ابن عباس وقال : أقررت عين ابن الزبير.
وبعث أهل العراق إلى الحسينعليهالسلام الرسل والكتب يدعونه إليهم ، فخرج من مكة إلى العراق في عشر ذي الحجة ، ومعه طائفة من آل بيته ، رجالا ونساء وصبيانا.
فكتب يزيد إلى واليه بالعراق عبيد الله بن زياد بقتاله ، فوجّه إليه جيشا من أربعة آلاف ، عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فخذله أهل الكوفة ، كما هو شأنهم مع
أبيه من قبله. فلما رهقه السلاح عرض عليهم الاستسلام والرجوع ، والمضي إلى يزيد فيضع يده في يده [هذه الدعوى مغلوطة من وضع الإعلام الأموي] فأبوا إلا قتله!. فقتل وجيء برأسه في طست ، حتّى وضع بين يدي ابن زياد ؛ لعن الله قاتله ، وابن زياد معه ويزيد أيضا.
ويتابع السيوطي حديثه فيقول : وكان قتله بكربلاء. وفي قتله قصة فيها طول ، لا يحتمل القلب ذكرها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقتل معه ستة عشر رجلا من أهل بيته
ولما قتل الحسينعليهالسلام وبنو أمية ، بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد ، فسرّ بقتلهم أولا ، ثم ندم لمّا مقته المسلمون على ذلك ، وأبغضه الناس ، وحقّ لهم أن يبغضوه. اه
٨ ـ ثمرات النهضة الحسينية
٢٩٨ ـ نهضة الحسينعليهالسلام تحقق أهدافها القريبة والبعيدة ، ثمرات نهضة الحسينعليهالسلام :
(الأئمة الاثنا عشر لعادل الأديب ، ص ١٣٦)
لقد استطاعت ثورة الحسينعليهالسلام أن تحقق من قيامها الثمرات التالية :
١ ـ وضع الحدّ الفاصل أمام الجماهير ، بين الإسلام الصحيح والحكم الأموي الخادع ، وتحطيم الإطار الديني المزيّف الّذي كان الأمويون يحيطون به سلطانهم ، وبيان مدى بعده عن الدين.
٢ ـ الشعور بالإثم : ولّد استشهاد الحسينعليهالسلام المفجع في كربلاء في ضمير كل مسلم استطاع أن ينصره فلم ينصره ، بعد أن عاهده على الثورة ولّد فيهم الشعور بالإثم ، ولزوم التكفير عن ذلك التقصير.
ولقد قدّر لهذا الشعور بالإثم أن يظل دائم الأوار ، حافزا دائما إلى الثورة والانتقام ، من رؤوس الفتنة والانحراف ، وقدّر له أن يدفع الناس إلى الثورات على الأمويين والظالمين كلما سنحت الفرصة.
٣ ـ تنمية الروح النضالية في الإنسان المسلم ، وتحطيم كل الحواجز النفسية والاجتماعية التي حالت دون الثورة.
ولكي نخرج بفكرة واضحة عن مدى تأثير ثورة الحسينعليهالسلام في بعث روح الثورة والنضال في المجتمع الإسلامي ، يحسن بنا أن نلاحظ أن هذا المجتمع خلال عشرين عاما من مقتل الإمام عليعليهالسلام وحتى ثورة الحسينعليهالسلام أخلد إلى السكون ولم يقم بأي ثورة أو احتجاج جدّي جماعي على ألوان الاضطهاد والظلم والقتل وسرقة أموال الأمة ، التي كان يقوم بها الأمويون وأعوانهم ، بل خلد إلى الخنوع والنوم والتسليم.
أما بعد ثورة الحسينعليهالسلام واستشهاده ، فقد اندلعت الثورات على يد الجماهير وتوثّبت الروح النضالية فيهم ، وبدؤوا يبحثون عن زعيم يقودهم لنزع قيد الخنوع والاستسلام ، وإرجاع الحياة والحركة للإسلام. ونلاحظ هذه الروح الثورية في كل الثورات التي حملت شعار الثأر لدم الحسينعليهالسلام والتي هي في واقعها تثأر لكرامة الإسلام والمسلمين.
٢٩٩ ـ ثورات على خطّ الحسينعليهالسلام :(المصدر السابق ، ص ١٣٩)
ونجمل هنا ذكر بعض هذه الثورات :
١ ـ ثورة التوابين : التي اندلعت في الكوفة بقيادة الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي ، وكانت ردّ فعل مباشر لمقتل الحسينعليهالسلام ، وانطلقت من مبدأ الشعور بالإثم والتقصير في نصرة الحسينعليهالسلام . وكانت سنة ٦٥ ه.
٢ ـ ثورة أهل المدينة : وكانت تهدف إلى تقويض سلطان الأمويين الظالم اللاإسلامي ، وقد بدأت هذه الثورة بطرد حاكم يزيد من المدينة ، ومعه كل الأمويين وعددهم ألف شخص. فكان من نتيجة ذلك أن بعث يزيد بالمجرم السفّاك مسلم بن عقبة المرّي ، الّذي اشتهر باسم (مسرف) من شدة ما أسرف في قتل أهل المدينة من أبناء الصحابة والتابعين. وقد سبى المدينة ثلاثة أيام ، حتّى أن جيشه افتضّ ألف فتاة عذراء من بنات الصحابة الأجلاء.
٣ ـ ثورة المختار الثقفي : الّذي خرج من العراق طالبا الأخذ بالثأر من قتلة الحسينعليهالسلام ، وذلك سنة ٦٦ ه. فتتبّع المختار قتلة الحسينعليهالسلام وآله ، وقتلهم ومثّل بهم. فقتل منهم في يوم واحد مائتين وثمانين رجلا ، حتّى قتل منهم الآلاف.ولم ينج منه أحد ، حتّى عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وأضرابهم.
٤ ـ ثورة ابن الأشعث : وفي سنة ٨١ ه ثار عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث على الحجاج في العراق ، وخلع عبد الملك بن مروان. وقد استمرت ثورته إلى سنة ٨٣ ه ، وأحرزت انتصارات عسكرية ، ثم قضى عليها الحجاج بمساعدة جيوش شامية.
٥ ـ ثورة الشهيد زيد بن علي : وفي سنة ١٢٢ ه ثار في الكوفة على طغيان الأمويين زيد بن علي ، وهو ابن الإمام زين العابدينعليهالسلام . ولكن سرعان ما أخمدت ثورته ، وقتل وصلبرحمهالله .
وكان من نتيجة هذه الثورات تقويض ملك بني أمية خلال تسعين سنة ، وقد كان يتوقع له أن يستمر مئات السنين.
فلسفة الابتلاء
٣٠٠ ـ الدنيا دار ابتلاء :
(الأنوار النعمانية للسيد نعمة الله الجزائري ، ج ٢ ص ٢٣٦)
يقول السيد نعمة الله الجزائري : اعلم أيّدك الله أن البلاء إنما كتب على المؤمن ، وأن الدنيا ليست بدار ثواب ولا بدار عقاب ، لم يرض سبحانه بأن يجعل ثواب المؤمن فيها ولا عقاب الكافر فيها ، وذلك لقلة أيامها ونقصان الأعمار فيها ، ومن ثم بعث الدواهي والمصائب فيها إلى أحبابه وأقاربه.
ولا مصيبة مثل مصيبة مولانا الحسينعليهالسلام ، فإنها هدّت أركان الدين وصدّعت قواعد الشرع المبين ، وأبكت الأجفان وأقرحت القلوب. ولعمري إنها المصيبة التي يتسلى بها المؤمن عن كل مصاب ، والداهية المنسية له مفارقة الخلان والأحباب.
٣٠١ ـ المؤمن أشدّ ابتلاء :
(المنتخب للطريحي ، ص ١٦٨)
روي أن رجلا جاء إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم فوقف بين يديه ، فقال : يا رسول الله إني أحب اللهعزوجل ، فقال : استعدّ للبلاء!. فقال : يا رسول الله وإني أحبك ، فقال له : استعدّ للفقر!. فقال : وإني أحبّ علي بن أبي طالبعليهالسلام ، فقال : استعدّ لكثرة الأعداء!.
زيارتها والإقدام على مزاولتها فأمر مستبعد. فمعنى «ثمّ» الإيذان بأن فعل المقدم عليها بعد ما رآها وعاينها شيء يستبعد في العادات والطباع. وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحقّ، من تليت عليه وسمعها، كان مستبعدا في العقول إصراره على الضلالة عندها، واستكباره عن الإيمان بها.
( كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ) أي: كأنّه، فخفّفت وحذف ضمير الشأن. والجملة في موضع الحال، أي: يصرّ مثل غير السامع.( فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) على إصراره.
والبشارة للتهكّم، أو على الأصل، فإنّها ما يظهر أثره على البشرة مهما كان، وإن غلب استعماله في السرور.
قيل: نزلت في النضر بن الحارث، وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم، ويشغل الناس بها عن استماع القرآن. والآية عامّة في كلّ من كان مضارّا لدين الله.
( وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً ) وإذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنّه منها( اتَّخَذَها هُزُواً ) لذلك العلم، من غير أن يرى فيها ما يناسب الهزء، وليري العوام أنّه لا حقيقة لها، كما فعله أبو جهل حين سمع قوله:( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ ) (١) . أو كما فعله النضر بن الحارث حين كان يقابل القرآن بأحاديث الفرس. والضمير لـ «آياتنا». ولم يقل: اتّخذه راجعا إلى «شيئا» ـ كما هو مقتضى الظاهر ـ إشعارا بأنّه إذا سمع كلاما وعلم أنّه من الآيات، بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلّها، ولم يقتصر على ما سمعه، لفرط العناد والتوغّل في اللجاج. أو الضمير راجع إلى «شيئا» وتأنيثه لأنّه بمعنى الآية.
( أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ) من قدّامهم، لأنّهم متوجّهون إليها. أو من خلفهم، لأنّها بعد آجالهم، فإنّ الوراء اسم للجهة الّتي يواريها الشخص من خلف أو قدّام.( وَلا يُغْنِي ) ولا يدفع( عَنْهُمْ ما كَسَبُوا ) من الأموال والأولاد
__________________
(١) الدخان: ٤٣ ـ ٤٤.
( شَيْئاً ) من عذاب الله( وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ ) أي: الأصنام( وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) لا يتحمّلونه.
( هذا هُدىً ) الإشارة إلى القرآن، أي: هذا القرآن كامل في الهداية، كما تقول: زيد رجل، تريد: كامل في الرجوليّة. ويدلّ عليه قوله:( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ) أي: القرآن( لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ) . وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص برفع «أليم». والرجز أشدّ العذاب.
( اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) )
ثمّ نبّه سبحانه خلقه على وجه الدلالة على توحيده، فقال :
( اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ ) بأن جعله أملس السطح، يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب، ولا يمنع الغوص فيه( لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ) بتسخيره وأنتم راكبوها( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) ولتطلبوا بركوبها في أسفاركم من الأرباح، بالتجارة وغوص اللآلئ والجواهر وصيد اللحم الطريّ، وغير ذلك من المنافع( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) هذه النعم.
( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ ) من الشمس، والقمر، والنجوم، والمطر، والثلج، والبرد، وغير ذلك( وَما فِي الْأَرْضِ ) من الجمادات، والنباتات، والحيوانات( جَمِيعاً ) خلقها جميعا لانتفاعنا بها، فهي مسخّرة لنا من حيث إنّا ننتفع بها على الوجه الّذي نريده( مِنْهُ ) حال من «ما» أي: كائنة منه، حاصلة من
عنده. يعني: أنّه مكوّنها وموجدها بقدرته وحكمته، ثمّ مسخّرها لخلقه. ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، أي: هي جميعا منه. أو خبر لـ «ما في السموات»، و «سخّر لكم» تكرير للتأكيد.( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) في صنائعه.
( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) )
ولـمّا بيّن وحدانيّته وعلمه وحكمته، خاطب نبيّهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال :
( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ) حذف المقول لدلالة الجواب عليه. والمعنى: قل لهم اغفروا يغفروا، أي: يصفحوا.( لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ) لا يتوقّعون وقائعه بأعدائه. من قولهم: أيّام العرب لوقائعهم. أو لا يأملون الأوقات الّتي وقّتها الله لنصر المؤمنين وثوابهم ووعدهم بها. قيل: إنّها منسوخة بآية القتال(١) .( لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) علّة للأمر. والقوم هم المؤمنون، أو الكافرون، أو كلاهما. فيكون التنكير للتعظيم، أو التحقير، أو الشيوع. والكسب: المغفرة، أو الإساءة، أو ما يعمّهما. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: لنجزي بالنون.
( مَنْ عَمِلَ صالِحاً ) طاعة وبرّا( فَلِنَفْسِهِ ) إذ ثواب ذلك العمل عائد إليه( وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ) إذ وبال إساءته وعقابه عليه( ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) أي: يوم القيامة إلى حيث لا يملك أحد النفع والضرّ والنهي والأمر غيره سبحانه، فيجازيكم على قدر أعمالكم.
__________________
(١) التوبة: ٥ و٢٩.
( وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) )
ولـمّا تقدّم ذكر النعم ومقابلتهم إيّاها بالكفران والطغيان، بيّن عقيب ذلك ذكر ما كان من بني إسرائيل أيضا في مقابلة النعم بالكفران، فقال :
( وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ ) التوراة( وَالْحُكْمَ ) والحكمة النظريّة والعمليّة في الدين. أو فصل الخصومات.( وَالنُّبُوَّةَ ) إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثروا في غيرهم. وقد روي أنّه كان فيهم ألف نبيّ.( وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) ممّا أحلّ الله لهم من أنواع الأرزاق( وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) على عالمي زمانهم، حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم.
وقيل: فضّلناهم في كثرة الأنبياء منهم على سائر الأمم، وإن كان أمّة محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم أفضل منهم في كثرة المطيعين المخبتين الأخيار من آله، وكثرة المطيعين لله والمجتهدين العلماء فيهم. وهذا كما يقال: هذا أفضل في علم النحو ،
وذاك في علم الفقه. والفضل الخير الزائد على غيره. فأمّة محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم أفضل بفضل محمّد وآله، وكثرة العلماء الراسخين منهم.
( وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ ) أدلّة في أمر الدين. ويندرج فيها المعجزات. وقيل: آيات من أمر النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم ، مبيّنات لصدقه( فَمَا اخْتَلَفُوا ) في ذلك الأمر( إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ ) ما هو موجب لزوال الخلاف، وهو العلم بحقيقة الحال.
( بَغْياً بَيْنَهُمْ ) عداوة وحسدا، وطلبا للرئاسة، وأنفة من الإذعان للحقّ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) بالمؤاخذة والمجازاة له.
( ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ ) على طريقة ومنهاج من أمر الدين بعد موسى وقومه، فإنّ الشريعة السنّة الّتي من سلك طريقها أدّته إلى البغية، كالشريعة الّتي هي طريق إلى الماء. فهي علامة منصوبة على الطريق ـ من الأمر والنهي ـ يؤدّي إلى الجنّة، كما يؤدّي ذلك إلى الوصول إلى الماء.
( فَاتَّبِعْها ) فاتّبع شريعتك الثابتة بالحجج، واعمل بها( وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) آراء الجهّال التابعة للشهوات، من أهل الكتاب الّذين غيّروا التوراة اتّباعا لهواهم، وحبّا للرئاسة، واستتباعا للعوام.
( إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا ) لن يدفعوا( عَنْكَ مِنَ اللهِ ) من عذابه( شَيْئاً ) ممّا أراد بك إن اتّبعت أهواءهم( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) إذ الجنسيّة علّة الضمّ، فلا توالهم باتّباع أهوائهم( وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) ناصرهم وحافظهم. فلا تشغل قلبك بتناصرهم وتعاديهم عليك، فإنّ الله ينصرك ويحفظك. فواله بالتقى واتّباع الشريعة.
( هذا ) أي: القرآن، أو اتّباع الشريعة( بَصائِرُ لِلنَّاسِ ) بيّنات تبصّرهم أمور دينهم. جعل سبحانه ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعله روحا وحياة( وَهُدىً ) من الضلالة( وَرَحْمَةٌ ) ونعمة من الله( لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) يطلبون اليقين، لأنّهم هم المنتفعون به.
( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) )
ثمّ قال سبحانه للكفّار على سبيل التوبيخ لهم:( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ ) «أم» منقطعة. ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان. والاجتراح: الاكتساب. ومنه: الجوارح. وفلان جارحة أهله، أي: كاسبهم.( أَنْ نَجْعَلَهُمْ ) أن نصيّرهم( كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) أي: مثلهم. وهو ثاني مفعولي «نجعل». والجملة الّتي هي قوله:( سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ) بدل من الكاف، لأنّ الجملة تقع مفعولا ثانيا، فكانت في حكم المفرد. ألا ترى لو قلت: أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم، كان سديدا، كما تقول: ظننت زيدا أبوه منطلق.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص: سواء بالنصب ـ بمعنى: مستويا ـ على البدل، ومحياهم ومماتهم على الفاعليّة. فكان مفردا غير جملة. أو على الحال من الضمير في الكاف، أو المفعوليّة، والكاف حال.
والمعنى: إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا، وأن يستووا مماتا، لافتراق أحوالهم أحياء، حيث ينصر الله المؤمنين في الدنيا، ويمكّنهم من المشركين، ولا ينصر الكافرين، ولا يمكّنهم من المسلمين، وينزّل الملائكة عند
الموت على المؤمنين بالبشرى، وعلى الكافرين بضرب وجوههم وأدبارهم. أو حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على ركوب المعاصي، ومات هؤلاء على البشرى بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه، وأولئك على اليأس من رحمة الله والوصول إلى هول ما أعدّ لهم.
وقيل: معناه إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة، لأنّ المسيئين والمحسنين مستو محياهم في الرزق والصحّة، وإنّما يفترقون في الممات.
وقيل: سواء محياهم ومماتهم كلام مستأنف، على معنى: أنّ محيا المسيئين ومماتهم سواء، وكذلك محيا المحسنين ومماتهم، فإنّ كلّا يموت على حسب ما عاش عليه، فلا يكون حال هؤلاء مساوية لهؤلاء.
وقيل: الضمير للكفّار. والمعنى: أنّهم يتساوون محيا ومماتا، لأنّ الحيّ متى لم يفعل الطاعة فهو بمنزلة الميّت.
( ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) ساء حكمهم هذا. أو بئس شيئا حكموا به ذلك.
وعن تميم الداري: أنّه كان يصلّي ذات ليلة عند المقام، فبلغ هذه الآية، فجعل يبكي ويردّدها إلى الصباح.
وعن الفضيل: أنّه بلغها فجعل يردّدها ويبكي ويقول: يا فضيل، ليت شعري من أيّ الفريقين أنت.
( وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ ) أي: لم يخلقهما عبثا، وإنّما خلقهما لنفع خلقه، بأن يكلّفهم ويعرّضهم للثواب الجزيل. وهذا كالدليل على الحكم السابق، من حيث إنّ خلق ذلك بالحقّ المقتضي للعدل يستدعي انتصار المظلوم من الظالم، والتفاوت بين المسيء والمحسن في المحيا وبعد الممات.
( وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) عطف على «بالحقّ» لأنّه في معنى العلّة. أو على علّة محذوفة، مثل: ليدلّ بها على قدرته. أو ليعدل ولتجزى.( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) بنقص ثواب وتضعيف عقاب.
( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) بأن يكون مطواعا لهوى النفس، يتّبع كلّ ما تدعوه إليه، فيترك متابعة الهدى رأسا إلى مطاوعة الهوى، فلا يهوى شيئا إلّا ركبه، فكأنّه يعبده كما يعبد الرجل إلهه( وَأَضَلَّهُ اللهُ ) وخذله وخلّاه( عَلى عِلْمٍ ) عالما بأنّ اللطف لا يجديه، ويستحقّ التخلية والخذلان. أو مع علمه بوجوه الهداية، وإحاطته بأنواع الألطاف المحصّلة والمقرّبة.
( وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) خذلانا. فلا يبالي بالمواعظ، ولا يتفكّر في الآيات.( وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً ) تخلية. فلا ينظر بعين الاستبصار والاعتبار. ومرّ تفسير(١) الطبع والختم والإضلال والغشاوة غير مرّة. وقرأ حمزة والكسائي: غشوة.
( فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) من بعد إضلاله ومنع ألطافه.( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أَفلا تتّعظون بهذه المواعظ؟ وهذا استبطاء بالتذكّر منهم.
( وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) )
__________________
(١) راجع ج ١ ص ٦٠، ذيل الآية ٧ من سورة البقرة، وغيرها.
ثمّ أخبر سبحانه عن منكري البعث فقال:( وَقالُوا ما هِيَ ) ما الحياة أو الحال( إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ) الّتي نحن فيها( نَمُوتُ وَنَحْيا ) أي: نكون أمواتا نطفا وما قبلها، ونحيا بعد ذلك. أو نموت بأنفسنا، ونحيا ببقاء أولادنا. أو يموت بعضنا، ويحيا بعضنا. أو يصيبنا الموت والحياة فيها، وليس وراء ذلك حياة. ويحتمل أنّهم أرادوا به التناسخ، فإنّه عقيدة أكثر عبدة الأوثان.
( وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) إلّا مرور الزمان. وهو في الأصل مدّة بقاء العالم، من: دهره إذا غلبه.
والمعنى: أنّهم قالوا: المؤثّر في هلاك أنفسنا ليس إلّا مرور الزمان، وكرور الليالي والأيّام. فينكرون ملك الموت، وقبضه الأرواح بأمر الله. وكانوا يضيفون كلّ حادثة تحدث إلى الدهر والزمان. وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان. ومنه قولهعليهالسلام : «لا تسبّوا الدهر هو الله». أي: فإنّ الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر.
( وَما لَهُمْ بِذلِكَ ) بنسبة الحوادث إلى حركات الأفلاك وما يتعلّق بها( مِنْ عِلْمٍ ) أي: ما يقولون ذلك عن علم، ولكن عن ظنّ وتخمين( إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) إذ لا دليل لهم عليه، وإنّما قالوه بناء على التقليد.
( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ) واضحات الدلالة على ما يخالف معتقدهم. أو مبيّنات له.( ما كانَ حُجَّتَهُمْ ) ما كان لهم ما يتمسّك به في مقابلتها( إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا ) أي: أحيوهم حتّى نعلم أنّ الله قادر على بعثنا( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .
وإنّما سمّاه حجّة وليس بحجّة، لأنّه في حسبانهم حجّة، فساقه مساقها. أو لأنّه في أسلوب قوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع(١) . كأنّه قيل: إلّا ما ليس بحجّة.
__________________
(١) لعمرو بن معد يكرب. وصدره: وخيل قد دلفت لها بخيل.
وتقدّم شرحه في ج ٢ ص ٢٨٨.
والمراد نفي أن يكون لهم حجّة البتّة. فسمّيت حجّة على سبيل التهكّم.
وإنّما لم يجبهم الله إلى ذلك، لأنّهم إنّما قالوا ذلك متعنّتين مقترحين، لا طالبين الرشد. ولهذا خاطب سبحانه نبيّهصلىاللهعليهوآلهوسلم رادّا عليهم قولهم بقوله:( قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ) في دار الدنيا، لأنّه لا يقدر على الإحياء أحد سواه( ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ) عند انقضاء آجالكم( ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) بأن يبعثكم ويعيدكم أحياء( لا رَيْبَ فِيهِ ) لقيام الحجّة على أنّ من قدر على فعل الحياة في وقت، قدر على فعلها في كلّ وقت. فلمّا كان يقدر على الإبداء، فلا ريب أنّه يقدر على الإعادة، بل كانت أهون عليه من الإبداء. وأيضا الحكمة اقتضت الجمع للمجازاة على ما مرّ مرارا، والوعد المصدّق بالآيات دلّ على وقوعها، وإذا كان كذلك أمكن الإتيان بآبائهم، لكنّ الحكمة اقتضت أن يعادوا يوم الجمع للجزاء.
( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) لقلّة تفكّرهم، وقصور نظرهم على ما يحسّونه.
( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ
لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧) )
( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) تعميم المقدرة بعد تخصيصها( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) أي: ويخسر العادلون عن الحقّ الفاعلون للباطل يوم تقوم الساعة. و «يومئذ» بدل منه.
( وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ) مجتمعة. من الجثوة، وهي الجماعة. وجمعها: جثيّ. وفي الحديث: «من جثى جهنّم»(١) .
أو باركة مستوفزة(٢) على الركب.( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ) صحائف أعمالها. فاكتفى باسم الجنس، كقوله :
__________________
(١) هذه قطعة من حديث الحرث بن الحرث الأشعري قال: «قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم ...»: وجثى جمع الجثوة، وهي: الحجارة المجموعة. انظر مسند أحمد ٤: ١٣٠.
(٢) استوفز في قعدته: قعد غير مطمئن، كأنه يتهيأ للوثوب.
( وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) (١) . وقرأ يعقوب: كلّ، على أنّه بدل الأولى.
و «تدعى» صفة، أو مفعول ثان.( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) محمول على القول، تقديره: يقال لهم هذا القول. وإضافة الكتاب إليهم للملابسة، فإنّ أعمالهم مثبتة فيه. وقيل: المراد كتابها المنزل على رسولها ليسألوا عمّا عملوا به.
( هذا كِتابُنا ) أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه، لأنّه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم( يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ ) يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ) نستكتب الملائكة( ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أعمالكم.
وعن ابن عبّاس: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، يشهد بما قضي فيه من خير وشرّ. وعلى هذا ؛ فيكون معنى «نستنسخ»: أنّ الحفظة تستنسخ الخزنة ما هو مدوّن عنده من أحوال العباد، من الكافرين والمؤمنين.
( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) في جنّته( ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) الفلاح الظاهر، لخلوصه عن الشوائب.
( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي ) أي: فيقال لهم: ألم يأتكم رسلي، فلم تكن آياتي( تُتْلى عَلَيْكُمْ ) فحذف القول والمعطوف عليه، اكتفاء بالمقصود، واستغناء بالقرينة( فَاسْتَكْبَرْتُمْ ) عن الإيمان بها، وتعظّمتم عن قبولها( وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ ) أي: كافرين، كما قال:( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ) (٢) .
( وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ ) يحتمل الموعود به، أي: ما وعد الله به من الثواب والعقاب. أو المصدر.( حَقٌ ) كائن هو أو متعلّقه لا محالة( وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها ) في حصولها. إفراد للمقصود، عطفا على محلّ «إنّ» واسمها. وقرأ حمزة بالنصب، عطفا على اسمها.
__________________
(١) الكهف: ٤٩.
(٢) القلم: ٣٥.
( قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) أيّ شيء الساعة؟ استغرابا لها( إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا ) أصله: نظنّ ظنّا، فأدخل حرفا النفي والاستثناء لإثبات الظنّ ونفي ما عداه، كأنّه قال: ما نحن إلّا نظنّ ظنّا. أو لنفي ظنّهم فيما سوى ذلك مبالغة. ثمّ أكّده بقوله:( وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) أي: لإمكانه.
( وَبَدا لَهُمْ ) ظهر لهم( سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ) على ما كانت عليه، بأن عرفوا قبحها، وعاينوا وخامة عاقبتها. أو جزاؤها. وتسميته بها من قبيل( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (١) .( وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) أي: جزاء استهزائهم.
( وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ ) نترككم في العذاب ترك ما ينسى( كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) كما تركتم مقتضى عدته، ولم تبالوا به. وإضافة اللقاء إلى اليوم إضافة المصدر إلى ظرفه، كمعنى إضافة المكر في قوله:( مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) (٢) أي: نسيتم لقاء جزاء الله في يومكم هذا.( وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) يخلّصونكم منها، ويدفعونها عنكم.
( ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً ) استهزأتم بها، ولم تتفكّروا فيها( وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) بحسنها وزينتها، فحسبتم أن لا حياة سواها( فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها ) وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضمّ الراء.( وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربّهم ـ أي: يرضوه ـ لفوات أوانه. يقال: أعتبني فلان، إذا عاد إلى مسرّتي راجعا عن الإساءة.
( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) إذ الكلّ نعمة منه، ودالّ على كمال قدرته. فاحمدوه، فإنّ مثل هذه الربوبيّة العامّة يوجب الحمد والثناء على كلّ مربوب.
__________________
(١) الشورى: ٤٠.
(٢) سبأ: ٣٣.
( وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) إذ ظهر فيها آثار كبريائه وعظمته. فكبّروه، فإنّ حقّ مثله أن يكبّر ويعظّم. وفي الحديث: «يقول الله سبحانه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في جهنّم».( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) الّذي لا يغلب( الْحَكِيمُ ) فيما قدّر وقضى. فاحمدوه، وكبّروه، وأطيعوا له.
(٤٦)
سورة الأحقاف
مكّيّة. قال ابن عبّاس وقتادة: إلّا آية منها نزلت بالمدينة:( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) (١) في عبد الله بن سلام.
وهي خمس وثلاثون آية.
أبيّ بن كعب، عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ سورة الأحقاف، أعطي من الأجر بعدد كلّ رمل في الدنيا عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات».
وعن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: «من قرأ كلّ ليلة أو كلّ جمعة سورة الأحقاف، لم يصبه الله بروعة في الدنيا، وآمنه من فزعه يوم القيامة».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا
__________________
(١) الأحقاف: ١٠.
مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) )
ولـمّا ختم الله سورة الجاثية بذكر التوحيد، وذمّ أهل الشرك والوعيد، افتتح هذه السورة أيضا بالتوحيد، ثمّ بالتوبيخ لأهل الكفر من العبيد، فقال :
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) قد مرّ(١) تفسيره( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ ) إلّا خلقا ملتبسا بالحقّ. وهو ما تقتضيه الحكمة والمعدلة. وفيه دلالة على وجود الصانع الحكيم، والبعث للمجازاة، على ما قرّرناه مرارا.( وَأَجَلٍ مُسَمًّى ) وبتقدير أجل مسمّى ينتهي إليه الكلّ. وهو يوم القيامة. أو أجل كلّ واحد. وهو آخر مدّة بقائه المقدّرة له.
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا ) أنذروه من هول ذلك اليوم الّذي لا بدّ لكلّ خلق من انتهائه إليه. ويجوز أن تكون «ما» مصدريّة، أي: عن إنذارهم ذلك اليوم.
__________________
(١) راجع ص ٢٩٨، ذيل الآية ٢ من سورة الجاثية.
( مُعْرِضُونَ ) عادلون عن أن يتفكّروا فيه، ويستعدّوا لحلوله.
( قُلْ ) لهؤلاء الكفرة( أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) من الأصنام( أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ) أي: أخبروني عن حال آلهتكم بعد التأمّل فيها، هل يعقل أن يكون لها في أنفسها مدخل في خلق شيء من أجزاء العالم، فتستحقّ به العبادة؟ وتخصيص الشرك بالسماوات احتراز عمّا يتوهّم أنّ للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفليّة.
( ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا ) من قبل هذا الكتاب، يعني: القرآن، فإنّه ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك، فإنّه ما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلّا وهو ناطق بمثل ذلك، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحّة ما أنتم عليه من عبادة غير الله.
( أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) أو بقيّة من علم بقيت عليكم من علوم الأوّلين. هل فيها ما يدلّ على استحقاقهم للعبادة؟ من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم، أي: على بقيّة شحم كانت بها.( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) في دعواكم، أي: هاتوا إحدى هذه الحجج الثلاث. أولاها: دليل العقل. والثانية: الكتاب. والثالثة: الخبر المتواتر. فإذا لم يمكنكم شيء من ذلك فقد وضح بطلان دعواكم.
( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ) من الجنّ والإنس والأوثان. ومعنى الاستفهام فيه: إنكار أن يكون أحد أضلّ من المشركين، حيث تركوا عبادة السميع المجيب الخبير، القادر على تحصيل كلّ بغية ومرام، إلى عبادة( مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ ) دعاءه، فضلا أن يعلم سرائره، ويراعي مصالحه( إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) أي: أبدا ما دامت الدنيا( وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ ) لأنّهم إمّا جمادات، وإمّا عباد مشتغلون بأحوالهم.
( وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ) يضرّونهم ولا ينفعونهم، كقوله تعالى :
( وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) (١) ( وَكانُوا ) وكانت آلهتهم( بِعِبادَتِهِمْ ) بعبادة عبدتهم( كافِرِينَ ) مكذّبين بلسان الحال أو المقال. وقيل: الضمير للعابدين. وهو كقوله:( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (٢) . وعلى الأوّل كنّي عن الآلهة بالواو والنون، لأنّه أضيف إليها ما يكون للعقلاء، كقوله:( رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) (٣) .
( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا ) حجج وشواهد من القرآن، وسائر المعجزات الّتي ظهرت على يد النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم ( بَيِّناتٍ ) واضحات، أو مبيّنات( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ ) لأجله وفي شأنه. فاللام فيه كما في قوله:( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ) (٤) . والمراد بالحقّ الآيات، وبالّذين كفروا المتلوّ عليهم. فوضع الظاهران موضع الضميرين، للتسجيل عليها بالحقّ، وعليهم بالكفر والانهماك في الضلالة( لَمَّا جاءَهُمْ ) أي: بادروه بالجحود ساعة أتاهم وأوّل ما سمعوه، من غير نظر وتأمّل، عنادا ولجاجا( هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) ظاهر بطلانه.
( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ) إضراب عن ذكر تسميتهم إيّاه سحرا إلى ذكر ما هو أشنع منه، وهو إسناد الافتراء إلى محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم . ومعنى الهمزة الإنكار والتعجيب. كأنّه قيل: دع هذا واسمع قولهم المستنكر الموجب للتعجّب. وذلك أنّ محمدا كان لا يقدر عليه حتّى يقوله ويفتريه على الله، وذلك باطل، لأنّه قدر عليه دون أمّة العرب، فكانت قدرته عليه معجزة، لخرقها العادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له، والحكيم لا يصدّق الكاذب، فلا يكون مفتريا.
( قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ ) على الفرض( فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً ) أي: إن
__________________
(١) مريم: ٨٢.
(٢) الأنعام: ٢٣.
(٣) يوسف: ٤.
(٤) الأحقاف: ١١.
عاجلني الله بعقوبة الافتراء، فلا تقدرون على دفع شيء منها، فكيف أجترئ عليه، وأعرض نفسي للعقاب، من غير توقّع نفع ولا دفع ضرّ من قبلكم؟!( هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ ) تندفعون فيه من القدح في آياته، بتسميتها سحرا تارة وافتراء اخرى( كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) يشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والإنكار. وهو وعيد بجزاء إفاضتهم.( وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وآمن، وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم جرأتهم.
( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) )
روي: أنّهم كانوا يقترحون عليه الآيات، ويسألونه عمّا لم يوح به إليه من الغيوب، فنزلت :
( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ) البدع بمعنى البديع، كالخفّ بمعنى الخفيف. والمعنى: ما كنت بديعا ـ أي: لست بأوّل رسول بعث ـ فآتيكم بكلّ ما تقترحونه، وأخبركم بكلّ ما تسألون عنه من المغيّبات، فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلّا بما آتاهم الله من آياته، ولا يخبرون إلّا بما أوحى إليهم، ولم يقدروا على المقترحات إلّا بمشيئة الله، فكيف أقدر على مقترحاتكم؟!
( وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا. فلا أدري أَأموت أم أقتل؟ ولا أدري أيّها المكذّبون أَترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم؟ أو غير ذلك من أنواع العقاب على الأمم المكذّبة في الدنيا، إذ لا علم لي بالغيب. وأمّا في الآخرة ؛ فإنّه قد علم أنّه في الجنّة، وأنّ من كذّبه في النار. وهذا الوجه منقول عن الحسن والسدّي.
وعن الكلبي: قال لرسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم أصحابه ـ وقد ضجروا من أذى المشركين ـ: حتّى متى نكون على هذا؟ فقال: «ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، أَأترك بمكّة، أم أؤمر بالمهاجرة عنها إلى بلد آخر؟».
وعن ابن عبّاس معناه: لا أعلم ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة. ثمّ قال: هي منسوخة بقوله:( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) (١) .
ويجوز أن يكون نفيا للدراية المفصّلة، أي: لا أدري ما يصنع بي وبكم على التفصيل؟ لأنّه عالم بحاله وحالهم على الإجمال.
واعلم أنّ لفظة «لا» مزيدة لتأكيد النفي المشتمل على «ما يفعل بي». و «ما» إمّا موصولة منصوبة، أو استفهاميّة مرفوعة.
( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ ) لا أتجاوزه. وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عمّا لم يوح إليه من الغيوب، أو استعجال المسلمين أن يتخلّصوا من أذى المشركين.( وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ ) من عقاب الله( مُبِينٌ ) بيّن الإنذار بالشواهد المبيّنة والمعجزات المصدّقة.
( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) )
روي: أنّ النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم لـمّا قدم من مكّة إلى المدينة، نظر ابن سلام إلى وجهه، فعلم أنّه ليس بوجه كذّاب. وتأمّله فتحقّق أنّه هو النبيّ المنتظر. وقال له: إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ. ما أوّل أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام يأكله أهل الجنّة؟ والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟
__________________
(١) الفتح: ٢.