زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
المشاهدات: 22442
تحميل: 3730


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22442 / تحميل: 3730
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-08-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإنس. ولم يبعث الله نبيّا إلى الإنس والجنّ قبله.

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥) )

ولـمّا صدّر السورة بتحقيق المبدأ، أراد ختمها بإثبات المعاد، فقال :

( أَوَلَمْ يَرَوْا ) أولم يعلموا( أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ ) أي: لم يصبه في خلق ذلك إعياء ولا تعب، ولم يعجز عنه. يقال: فلان عيّ بأمره، إذا لم يهتد له ولم يقدر عليه، أي: قدرته التامّة ثابتة على حالها بعد خلق السماوات والأرض، ولا تنقص ولا تنقطع بإيجادهما.

( بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ) في محلّ الرفع على أنّه خبر «أنّ». ويدلّ عليه قراءة يعقوب: يقدر. وإنّما دخلت الباء المزيدة عليه، لاشتمال النفي في أوّل الآية على «أنّ» وما في حيّزها، كأنّه قال: أليس الله بقادر. ولذلك أجاب عنه بقوله:( بَلى ) هو قادر عليه( إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) تقريرا للقدرة على وجه عامّ يكون كالبرهان على المقصود، وهو قدرته على البعث.

٣٤١

( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) منصوب بقول مضمر مقوله( أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ ) والإشارة إلى العذاب، بدليل قوله:( قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) بكفركم في الدنيا. ومعنى الأمر هو الإهانة بهم، والتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده، وقولهم:( وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) (١) .

( فَاصْبِرْ ) يا محمد على أذى هؤلاء الكفّار، وعلى ترك إجابتهم لك( كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) أولوا الثبات والجدّ منهم، فإنّك من جملتهم. و «من» للتبيين. وقيل: للتبعيض. وأولوا العزم أصحاب الشرائع اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمّل مشاقّها ومعاداة الطاعنين فيها. ومشاهيرهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام . ومرويّ أيضا عن ابن عبّاس وقتادة.

وقيل: الصابرون على بلاء الله، كنوح صبر على أذى قومه، كانوا يضربونه حتّى يغشى عليه. وإبراهيم على النار، وذبح ولده. والذبيح على الذبح. ويعقوب على فقد الولد، وذهاب بصره. ويوسف على الجبّ والسجن. وأيّوب على الضرّ.

وموسى قال له قومه:( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ) (٢) . وداود بكى على ترك ندبه أربعين سنة. وعيسى لم يضع لبنة على لبنة. قال: إنّها معبر، فاعبروها ولا تعمروها. وقال الله تعالى في آدم:( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (٣) . وفي يونس( وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ) (٤) .

( وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ) لكفّار قريش بالعذاب، أي: لا تدع عليهم بتعجيله، فإنّه

__________________

(١) الصافّات: ٥٩.

(٢) الشعراء: ٦١ ـ ٦٢.

(٣) طه: ١١٥.

(٤) القلم: ٤٨.

٣٤٢

نازل بهم لا محالة وإن تأخّر( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ ) من العذاب في الآخرة( لَمْ يَلْبَثُوا ) في الدنيا( إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) أي: إذا عاينوا العذاب استقصروا من هوله مدّة لبثهم في الدنيا والبرزخ، حتّى يحسبوها ساعة من نهار.

( بَلاغٌ ) هذا الّذي وعظتم به أو هذه السورة بلاغ، أي: كفاية. أو هذا تبليغ من الرسول. وقيل: مبتدأ خبره «لهم»، وما بينهما اعتراض، أي: لهم وقت يبلغون إليه، كأنّهم إذا بلغوه ورأوا ما فيه استقصروا مدّة عمرهم.( فَهَلْ يُهْلَكُ ) أي: لا يهلك( إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ ) الخارجون من أمر الله، المتمرّدون في الفسق والمعاصي. وعن الزجّاج: ما جاء في رجاء رحمة الله شيء أبلغ من هذه الآية.

٣٤٣
٣٤٤

(٤٧)

سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وتسمّى سورة القتال. وهي مدنيّة. وقال ابن عبّاس وقتادة: غير آية منها نزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يريد التوجّه إلى المدينة من مكّة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا عليه، فنزلت:( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ ) الآية.

وهي ثمان وثلاثون آية.

أبيّ بن كعب قال: «قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان حقّا على الله أن يسقيه من أنهار الجنّة».

وروى أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأها لم يدخله شكّ في دينه أبدا، ولم يزل محفوظا من الشرك والكفر أبدا حتّى يموت، فإذا مات وكلّ الله به في قبره ألف ملك يصلّون في قبره، ويكون ثواب صلواتهم له، ويشيّعونه حتّى يوقفوه موقف الأمن عند الله، ويكون في أمان الله وأمان محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وقالعليه‌السلام : «من أراد أن يعرف حالنا وحال أعدائنا فليقرأ سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه يراها آية فينا وآية فيهم».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا

٣٤٥

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) )

واعلم أنّ الله سبحانه لـمّا ختم تلك السورة بوعيد الكفّار، افتتح هذه السورة بمثلها، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) امتنعوا عن الدخول في الإسلام وسلوك طريقه، أو منعوا الناس عنه. وهم المطعمون يوم بدر.

وكانوا عشرة أنفس، أطعم كلّ واحد منهم الجند يوما. وعن مقاتل: كانوا اثني عشر رجلا من أهل الشرك، يصدّون الناس عن الإسلام، ويأمرونهم بالكفر. أو شياطين قريش. أو المصرّون من أهل الكتاب، صدّوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام. أو عامّ في جميع من كفر وصدّ.

( أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) أي: جعل مكارمهم ـ كصلة الرحم، وفكّ الأسارى، وحفظ الجوار ـ ضالّة، أي: ضائعة محبطة بالكفر. أو جعلها ضالّة في كفرهم ومعاصيهم، كالضالّة من الإبل الّتي هي مضيّعة لا ربّ لها يحفظها ويعتني بأمرها. أو مغلوبة مغمورة في الكفر، كما يضلّ الماء في اللبن. أو ضلالا، حيث لم يقصدوا به وجه الله. أو أبطل ما عملوه من الكيد لرسوله والصدّ عن سبيله، بنصر رسوله، وإظهار دينه على الدين كلّه.

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) يعمّ المهاجرين والأنصار والّذين آمنوا من أهل الكتاب وغيرهم( وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ ) تخصيص للمنزل عليه ممّا

٣٤٦

يجب الإيمان به تعظيما له، وإشعارا بأنّ الإيمان لا يتمّ بدونه، وأنّه الأصل فيه.

ولذلك أكّده بالجملة الاعتراضيّة الّتي هي قوله:( وَهُوَ ) أي: وما نزل على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) وحقيقته بكونه ناسخا لا ينسخ( كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) سترها، وغفر لهم بالإيمان وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي، لرجوعهم عنها وتوبتهم( وَأَصْلَحَ بالَهُمْ ) شأنهم وحالهم في الدين والدنيا، بالتوفيق واللطف في امور الدين، وبالتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصرة والتأييد.

( ذلِكَ ) إشارة إلى ما مرّ من إضلال أعمال أحد الفريقين، وتكفير سيّئات الثاني، والإصلاح. وهو مبتدأ خبره( بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ) أي: ذلك كائن بسبب اتّباع هؤلاء الباطل، واتّباع هؤلاء الحقّ. وهذا تصريح بما أشعر به ما قبلها، ولذلك سمّي تفسيرا.

( كَذلِكَ ) مثل ذلك الضرب( يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ ) يبيّن لهم( أَمْثالَهُمْ ) أحوال الفريقين، أو أحوال الناس. أو يضرب أمثالهم، بأن جعل اتّباع الباطل مثلا لعمل الكفّار، والإضلال مثلا لخيبتهم، واتّباع الحقّ مثلا للمؤمنين، وتكفير السيّئات مثلا لفوزهم، لرجوعهم عنها وتوبتهم.

( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ

٣٤٧

(٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) )

ثمّ أمر سبحانه بقتال الكفّار، فقال:( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) في المحاربة( فَضَرْبَ الرِّقابِ ) أصله: فاضربوا الرقاب ضربا، فحذف الفعل، وقدّم المصدر، وأنيب منابه، مضافا إلى المفعول. ففيه اختصار، مع معنى التوكيد. والتعبير به عن القتل إشعار بأنّه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة حيث أمكن، إن اختاره الإمام عندنا.

وتصوير له بأشنع صورة، لأنّ في هذه العبارة من الغلظة والشدّة ما ليس في لفظ القتل، وهو حزّ العنق، وإطارة العضو الّذي هو رأس البدن وعلوه(١) وأوجه أعضائه. ولقد زاد في هذه الغلظة في قوله تعالى:( فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ ) (٢) .

( حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ ) أكثرتم قتلهم وأغلظتموه. من الثخين، وهو الغليظ.

أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتّى أذهبتم عنهم النهوض.( فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) فأسروهم واحفظوهم. والوثاق بالفتح والكسر اسم ما يوثق به.( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ ) فإمّا تمنّون منّا( وَإِمَّا فِداءً ) وإمّا تفدون فداء.

والمراد التخيير بعد الأسر بين المنّ والإطلاق، وبين أخذ الفداء. وهو ثابت عند الشافعيّة، فإنّ الذكر الحرّ المكلّف إذا أسر تخيّر الامام بين القتل والمنّ والفداء

__________________

(١) علو الشيء: نقيض سفله وسفالته.

(٢) الأنفال: ١٢.

٣٤٨

والاسترقاق. وعند الحنفيّة يتخيّر بين القتل والاسترقاق. فعلى قولهم الآية منسوخة، أو مخصوصة بحرب بدر. وظاهر الآية قريب من مذهب الشافعيّة.

وفي التحقيق الآية تمنع القتل بعد الإثخان والأسر، لتقييد المنّ والفداء بكونه بعد الأسر، ولم يذكر معهما القتل. وعلى التقادير ؛ فالاسترقاق علم بالسنّة. هذا، وقد قيل: إنّ الأسر كان محرّما بقوله:( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ) (١) . حتّى نسخ بهذه الآية.

( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) أي: يضع أهل الحرب آلاتها وأثقالها الّتي لا تقوم الحرب إلّا بها، كالسلاح والخيل والركاب، أي: تنقضي الحرب ولم يبق إلّا مسلم أو مسالم. وسمّيت أوزارها، لأنّه لـمّا لم يكن لها بدّ من جرّها فكأنّها تحملها وتستقلّ بها، فإذا انقضت فكأنّها وضعتها. وقيل: آثامها. والمعنى: حتّى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم. وهو غاية للضرب، أو الشدّ، أو للمنّ والفداء، أو للمجموع. يعني: أنّ هذه الأحكام جارية فيهم حتّى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم. وقيل: بنزول عيسى.

وقال الحسن: إنّ الامام مخيّر بين المنّ والفداء والاسترقاق، وليس له القتل بعد الأسر. فكأنّه جعل في الآية تقديما وتأخيرا، تقديره: فضرب الرقاب حتّى تضع الحرب أوزارها. ثمّ قال: حتّى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق فإمّا منّا وإمّا فداء.

وقيل: حكم الآية منسوخ بآية السيف(٢) . وليس بشيء، لأصالة عدم النسخ. والتخصيص خير منه.

والمنقول عن أهل البيتعليهم‌السلام : أنّ الأسير إن أخذ والحرب قائمة، كان الإمام

__________________

(١) الأنفال: ٦٧.

(٢) التوبة: ٥ و٢٩.

٣٤٩

مخيّرا بين أن يقتله، أو يقطع يده ورجله من خلاف، ويتركه حتّى ينزف ويموت. وإن أخذ بعد انقضاء الحرب تخيّر الامام بين المنّ والفداء والاسترقاق، ولا يجوز القتل. ولو حصل منه الإسلام في الحالين منع القتل خاصّة.

فعلى هذا يكون قول الحسن موافقا لمذهبنا. ويقوى القول بالتقديم والتأخير، ولا حرج في ذلك.

( ذلِكَ ) أي: الأمر ذلك، أو افعلوا بهم ذلك( وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ) لانتقم منهم ببعض أسباب الهلكة، من خسف، أو رجفة، أو حاصب، أو غرق، أو موت مستأصل( وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) ولكن أمركم بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين، بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب العظيم، والكافرين بالمؤمنين، بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر.

«والذين قاتلوا» جاهدوا( فِي سَبِيلِ اللهِ ) قرأ البصريّان وحفص: قتلوا، أي: استشهدوا( فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ) فلن يضيّعها( سَيَهْدِيهِمْ ) إلى الثواب، أو سيثبت هدايتهم( وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ) بالرسوخ على العقيدة الحقّة( وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ) وقد عرّفها لهم في الدنيا حتّى اشتاقوا إليها، فعملوا ما استحقّوها به. أو بيّنها لهم بحيث يعلم كلّ واحد منزله ويهتدي إليه.

قال مجاهد: يهتدي أهل الجنّة إلى مساكنهم منها لا يخطئون، كأنّهم كانوا سكّانها منذ خلقوا.

وعن مقاتل: إنّ الملك الّذي وكلّ بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه، فيعرّفه كلّ شيء أعطاه الله.

أو طيّبها لهم، من العرف وهو طيب الرائحة. أو حدّدها لهم بحيث يكون لكلّ جنّة مفرزة عن غيرها.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ ) أي: إن تنصروا دينه ورسوله( يَنْصُرْكُمْ ) على عدوّكم( وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ) في مواطن الحرب، بالتشجيع وتقوية القلوب وتثبيتها. أو على محجّة الإسلام، والقيام بحقوقه.

٣٥٠

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ ) فعثورا وانحطاطا وهلاكا. ونقيضه: لعا له، أي: نجاة. وتقول للعاثر: لعا لك، إذا دعوت بالانتعاش والثبات. وانتصابه بفعله الواجب إضماره سماعا، تقديره: فقال: تعسا لهم، أو فقضى تعسا لهم، أو أتعسهم الله فتعسوا تعسا. والجملة خبر «الّذين كفروا».( وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) عطف عليه. وعن ابن عبّاس: يريد: في الدنيا القتل، وفي الآخرة التردّي في النار.

( ذلِكَ ) التعس والإضلال( بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ) القرآن، لـما فيه من التوحيد والتكاليف المخالفة لـما ألفوه واشتهته أنفسهم، من الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذّ، فشقّ ذلك عليهم وتعاظمهم. وهذا تصريح بسببيّة الكفر بالقرآن للتعس والإضلال.( فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) كرّره إشعارا بأنّ إحباط الأعمال يلزم الكفر، ولا ينفكّ عنه بحال.

( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) )

ثمّ نبّههم سبحانه على الاستدلال على صحّة ما دعاهم إليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله، فقال :

( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) استأصل عليهم ما اختصّ بهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم( وَلِلْكافِرِينَ ) من وضع الظاهر موضع الضمير( أَمْثالُها ) أمثال تلك العاقبة المذكورة. أو العقوبة. أو الهلكة، لأنّ التدمير يدلّ عليها. أو السنّة، لقوله:( سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ ) (١) .

__________________

(١) غافر: ٨٥.

٣٥١

( سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا ) (١) .

( ذلِكَ ) أي: الّذي فعلناه في الفريقين( بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ) وليّهم وناصرهم على أعدائهم وحافظهم( وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ) ينصرهم، فيدفع العذاب عنهم عاجلا أو آجلا. وهو لا يخالف قوله:( وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ ) (٢) فإنّ المولى فيه بمعنى المالك.

( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) )

__________________

(١) الأحزاب: ٣٨.

(٢) يونس: ٣٠.

٣٥٢

ثمّ ذكر مآل حال الفريقين بقوله:( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) من تحت أشجارها وأبنيتها( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ) ينتفعون بمتاع الدنيا أيّاما قلائل( وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ) في مسارحها ومعالفها، غافلة عمّا هي بصدده من النحر والذبح. فهم أيضا يكونون حريصين غافلين عن وخامة العاقبة، غير مفكّرين فيها.( وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) منزل ومقام لهم.

( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ) على حذف المضاف وإجراء أحكامه على المضاف إليه. كأنّه قال: وكم من قرية هم أشدّ قوّة من قومك الّذين أخرجوك، أي: كانوا سبب خروجك.( أَهْلَكْناهُمْ ) بأنواع العذاب( فَلا ناصِرَ لَهُمْ ) يدفع عنهم العذاب. وهو كالحال المحكيّة، كقولك: أهلكناهم فهم لا ينصرون.

ثمّ قال سبحانه على وجه التهجين والتوبيخ للكفّار والمنافقين :

( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) حجّة واضحة من عنده. وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات. أو ما يعمّه من الحجج العقليّة للمؤمنين.( كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ) من الشرك والمعاصي. وهم أهل مكّة الّذين زيّن لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ورسوله.( وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) شهواتهم في ذلك، لا شبهة لهم عليه فضلا عن حجّة. وتوحيد الضمير أوّلا وجمعه ثانيا على اللفظ والمعنى.

( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) صفة الجنّة العجيبة الشأن فيما قصصنا عليك. وقيل: هو مبتدأ خبره( كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ ) الآتي بعد.

وهذا كلام صورته الإثبات، ومعناه النفي والإنكار، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار، ودخوله في حيّزه، وانخراطه في سلكه. فهو كقوله:( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ) . فكأنّه قيل: أمثل أهل الجنّة

٣٥٣

كمثل من هو خالد؟ أو أمثل الجنّة كمثل جزاء من هو خالد؟ وحذف ما حذف استغناء بجري مثله.

وفي تعريته من حرف الإنكار زيادة تصوير لمكابرة من يسوّي بين المتمسّك بالبيّنة والتابع لهواه، وأنّه بمنزلة من يسوّي بين الجنّة الّتي تجري فيها تلك الأنهار، وبين النار الّتي يسقى أهلها الحميم. ونظيره: قول القائل :

أفرح أن أرزأ الكرام وأن

أورث ذودا(١) شصائصا نبلا

فإنّه كلام منكر للفرح برزيّة الكرام ووراثة الذود، مع تعرّيه عن حرف الإنكار، لانطوائه تحت قول من قال: أَتفرح بموت أخيك وبوارثة إبله؟ والّذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصوّر قبح ما اتّهم به. فكأنّه قال: نعم، مثلي يفرح بمرزأة الكرام، وبأن يستبدل منهم ذودا يقلّ طائله. وهو من التسليم الّذي تحته كلّ إنكار.

وعلى الأوّل قوله: «كمن هو خالد» خبر محذوف، تقديره: أَفمن هو خالد في هذه الجنّة كمن هو خالد في النار؟ أو بدل من قوله:( كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ) . وما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من على بيّنة في الآخرة، تقريرا لإنكار المساواة.

( فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) استئناف لشرح المثل، كأنّ قائلا قال: وما مثلها؟ فقيل: فيها أنهار. ويجوز أن يكون في موضع الحال، أي: مستقرّة فيها أنهار.

أو خبر لـ «مثل». و «آسن» من: أسن الماء بالفتح إذا تغيّر طعمه وريحه، أو بالكسر على معنى الحدوث. وقرأ ابن كثير: أسن بغير مدّ.

__________________

(١) الذّود: الإبل لا يتجاوز عددها الثلاثين ولا يقلّ عن الثلاث. والشصائص جمع الشصوص: الناقة أو الشاة القليلة اللبن. والنبل: الكبار من الإبل، والصغار منها، فهو من الأضداد.

٣٥٤

( وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ) لم يصر قارصا(١) ولا حازرا، كما يكون في ألبان الدنيا.

( وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) لذيذة لا يكون فيها غائلة مرارة وسكر وخمار وريح وصداع. وهي تأنيث لذّ، وهو اللذيذ. أو مصدر نعت به بإضمار ذات، أي: ذات لذّة. أو تجوّز. والمعنى: ما هو إلّا التلذّذ الخالص، ليس معه ذهاب عقل ولا خمار، ولا آفة من آفات الخمار.

( وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ) لم يخالطه الشمع والرغوة، وسائر فضلات النحل وغيرها، كما في عسل الدنيا. والمعنى: فيها أنواع الأشربة الّتي تكون في الدنيا، مجرّدة عمّا ينقصها وينغّصها، موصوفة بغاية الالتذاذ. وفي الأنهار دلالة على غزارة أنواع الأشربة واستمرارها.

( وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) أي: لهم فيها صنف من الثمرات لا يعرفون اسمها، وصنف منها يعرفون اسمها، كلّها مبرّأة من كلّ مكروه يكون لثمرات الدنيا( وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ) عطف على الصنف المحذوف. أو مبتدأ خبره محذوف، أي: لهم مغفرة.( كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً ) شديد الحرارة، مكان تلك الأشربة( فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ) من فرط الحرارة.

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ

__________________

(١) القارص من الطعام: الحديد المنغّص والحازر: الحامض.

٣٥٥

أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَ‌اطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَ‌اهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ‌ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (١٩))

ثمّ بيّن سبحانه حال المنافقين، فقال:( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) يسمعون كلامك( حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ) من مجلسك. وتوحيد الضمير وجمعه ثانيا نظرا إلى لفظ «من» ومعناه.( قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) أي: لعلماء الأصحاب. وقيل: قالوه لعبد الله بن مسعود. وعن ابن عبّاس: أنا منهم.

وعن الأصبغ بن نباتة، عن عليّعليه‌السلام قال: إنّا كنّا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيخبرنا بالوحي، فأعيه أنا ومن يعيه، فإذا خرجنا قالوا لنا:( ما ذا قالَ آنِفاً ) ما الّذي قال الساعة؟ استهزاء، أو إظهار أنّا لم نشتغل بوعيه وفهمه، أو استعلاما، إذ لم يلقوا له آذانهم تهاونا به.

وقيل: كان يخطب فإذا عاب المنافقين خرجوا فقالوا ذلك للعلماء.

و «آنفا» من قولهم: أنف الشيء لـما تقدّم منه. مستعار من الجارحة. ومنه: استأنفت الشيء إذا ابتدأته. ونصبه على الظرف، بمعنى: في أوّل وقت يقرب منّا. أو حال من الضمير في «قال». وقرأ ابن كثير: أنفا.

( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ) تخلية بينهم وبين اختيارهم وخذلانا. أو وسما عليها بسمة الكفر، لتكون دالّة عليه، فلعنتهم الملائكة لذلك.( وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) شهوات نفوسهم، وما مالت إليه طباعهم. فلذلك استهزؤا بكلام الله، وتهاونوا به.

ثمّ وصف سبحانه المؤمنين بقوله:( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ) أي: زادهم الله بالتوفيق والإلهام. وقيل: الضمير لقول الرسول، أو لاستهزاء المنافقين.( وَآتاهُمْ

٣٥٦

تَقْواهُمْ ) بيّن لهم ما يتّقون، أو أعانهم على تقواهم، أو أعطاهم جزاءها.

( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ ) فليسوا ينتظرون إلّا القيامة( أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ) بدل اشتمال من السّاعة، نحو: «أن تطؤهم» في قوله:( رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ ) (١) .( فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ) علاماتها، كمبعث خاتم الأنبياء، وانشقاق القمر. وهو متّصل بإتيان الساعة اتّصال العلّة بالمعلول.( فَأَنَّى لَهُمْ ) هذا جواب الشرط، وهو قوله:( إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ) . والمعنى: فكيف لهم ذكراهم ـ أي: تذكّرهم ـ إذا جاءتهم الساعة، وحينئذ لا تنفعهم الذكرى؟

( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ) أي: إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانيّة( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) لترك ندبك، بالإقدام على ما هو أولى فعله، والثبات على الّذي هو موجب لكمال النفس، وعلى إصلاح أحوالها، وهضمها وتواضعها وانقطاعها إلى الله، فإنّ تكميل النفس لا يكون إلّا بذلك. ولا يجوز إطلاق الكلام على ظاهره، لأنّ استغفار الأنبياء لا يجوز أن يكون للذنوب، لأنّهم معصومون عنها صغيرها وكبيرها.

( وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ) واستغفر لذنوبهم بالدعاء لهم، والتحريض على ما يستدعي غفرانهم. وفي إعادة الجارّ، وحذف المضاف، إشعار بالفرق بين استغفاره له واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات.

( وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ ) في الدنيا، فإنّ للعبد مراتب ومراحل، ينقلب فيها من أوّل خلقه إلى آخر عمره( وَمَثْواكُمْ ) في العقبى، فإنّها دار إقامتكم.

__________________

(١) الفتح: ٢٥.

٣٥٧

( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) )

روي: أنّ ضعفاء المؤمنين أو المنافقين كانوا يدّعون الحرص على الجهاد، ويتمنّونه بألسنتهم، فلمّا نزلت سورة في الأمر بالجهاد شقّ عليهم وكرهوا منه، فنزلت :

( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا ) هلّا( نُزِّلَتْ سُورَةٌ ) في أمر الجهاد( فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ ) مبيّنة لا تشابه فيها( وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ ) أي: الأمر به. وعن قتادة: كلّ سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة غير منسوخة، وهي أشدّ القرآن على المنافقين.

( رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) ضعف في الدين، غير ثابتي الأقدام. وقيل: نفاق. ووضع الظاهر في موضع الضمير لبيان علّة التقاعد عن الحرب والكراهة منه.

ويجوز أن يريد بالّذين آمنوا المؤمنين الخلّص الثابتين، وأنّهم يتشوّقون إلى الوحي إذا أبطأ عليهم، فإذا أنزلت سورة في معنى الجهاد تضجّر المنافقون منها.( يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) أي: تشخص أبصارهم جبنا ومخالفة، كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت.

( فَأَوْلى لَهُمْ ) فويل لهم. أفعل من الولي، وهو القرب. ومعناه: الدعاء عليهم، أي: أقرب لهم المكروه. أو فعلى، من: آل، أي: يؤول المكروه إليهم.

٣٥٨

( طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) استئناف، أي: أمرهم طاعة وقول معروف، أو طاعة وقول معروف خير لهم. أو حكاية قولهم، أي: قالوا: أمرنا طاعة وقول معروف.

وقيل: «أولى» مبتدأ، وهذا خبره، أي: أولى وأحرى لهم طاعة لله ورسوله وقول معروف بالإجابة، أي: لو أطاعوا وأجابوا كانت الطاعة والإجابة أولى لهم. وهذا قول ابن عبّاس في رواية عطاء، واختيار الكسائي.

( فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ ) أي: جدّ ولزم أمر القتال. والعزم والجدّ حقيقة لأصحاب الأمر، وإسناده إليه مجاز. ومنه قوله:( إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) (١) . وقولهم: إنّ الأمر معزوم لا عازم. وعامل الظرف محذوف، وهو: اذكر. وجواب «إذا» محذوف تقديره: فإذا عزم الأمر نكلوا وكذبوا فيما وعدوا من أنفسهم. ويدلّ على حذفه قوله:( فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ ) فيما زعموا من الحرص على الجهاد أو الايمان. أو فلو صدقوا في إيمانهم وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم( لَكانَ ) الصدق( خَيْراً لَهُمْ ) في دينهم ودنياهم من نفاقهم.

( فَهَلْ عَسَيْتُمْ ) فهل يتوقّع منكم؟ وقرأ نافع بكسر السين. وهو غريب.( إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) أمور الناس وتأمّرتم عليهم، أو أعرضتم وتولّيتم عن الإسلام( أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) تناحرا على الولاية وتجاذبا لها، أو رجوعا إلى ما كنتم عليه في الجاهليّة من التغاور ومقاتلة الأقارب.

والمعنى: أنّهم لضعفهم في الدين وحرصهم على الدنيا، أحقّاء بأن يتوقّع ذلك منهم من عرف حالهم في ضعف الإيمان ومرض النفاق، ويقول لهم: هل عسيتم. فنقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات، ليكون أبلغ في التوبيخ.

وإلحاق الضمير بـ «عسى» على لغة الحجاز. وأمّا بنو تميم فلا يلحقون

__________________

(١) الشورى: ٤٣.

٣٥٩

الضمائر، ويقولون: عسى أن تفعل، وعسى أن تفعلوا. وخبره «أن تفسدوا»، و «إن تولّيتم» اعتراض. وعن يعقوب: تولّيتم، وتقطعوا من القطع، أي: إن تولّاكم ظلمة خرجتم معهم وساعدتموهم في الإفساد وقطيعة الرحم.

( أُولئِكَ ) إشارة إلى المذكورين( الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ ) لإفسادهم، وقطعهم الأرحام( فَأَصَمَّهُمْ ) عن استماع الحقّ( وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ ) أي: فمنعهم ألطافه، وخذلهم حتّى صمّوا عن استماع الموعظة، وعموا عن إبصار طريق الهدى، فلا يهتدون سبيله.

( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) يتصفّحونه وما فيه من المواعظ والزواجر، حتّى لا يجسروا على المعاصي. وعن قتادة: والله يجدون في القرآن زاجرا عن معصية الله لو تدبّروه، ولكنّهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا.( أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) لا يصل إليها ذكر، ولا ينكشف لها أمر. وقيل: «أم» منقطعة. ومعنى الهمزة فيها التقرير. وتنكير القلوب لأنّ المراد قلوب بعض منهم. أو للإشعار بأنّها لإبهام أمرها في القساوة، أو لفرط جهالتها ونكرها، كأنّها مبهمة منكورة. وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أقفال مناسبة لها مختصّة بها، لا تجانس الأقفال المعهودة. وهي أقفال الكفر الّتي استغلقت، فلا تنفتح.

( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ

٣٦٠