زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
المشاهدات: 22441
تحميل: 3730


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22441 / تحميل: 3730
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-08-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

(٥٣)

سورة النجم

مكّيّة. وهي اثنتان وستّون آية.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ سورة النجم أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدّق بمحمّد ومن جحد به».

يزيد بن خليفة عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال: «من كان يدمن قراءة والنجم في كلّ يوم أو في كلّ ليلة، عاش محمودا بين الناس، وكان مغفورا له، وكان محبوبا بين الناس».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) )

ولـمّا اختتم سورة الطور بذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، افتتح هذه السورة بذكره أيضا،

٥٠١

حتّى اتّصلت بها اتّصال النظير بالنظير، وتوافقت الخاتمة بالفاتحة بذكر النجم، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ ) أقسم بجنس النجوم أو الثريّا، فإنّه غلب فيها. أو النجم الّذي يرجم به.( إِذا هَوى ) غرب. أو انتثر يوم القيامة. أو انقضّ. أو طلع، فإنّه يقال: هوى هويّا بالفتح إذا سقط وغرب، وهويّا بالضمّ إذا علا وصعد. أو المراد بالنجم نجوم القرآن، إذ نزل منجّما في ثلاثة وعشرين سنة. وسمّي القرآن نجما لتفريقه في النزول. والعرب تسمّي التفريق تنجيما، والمفرّق منجّما. أو النبات، إذا سقط على الأرض، أو إذا نما وارتفع.

وروت العامّة عن جعفر الصادقعليه‌السلام أنّه قال: محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل من السماء السابعة ليلة المعراج، ولـمّا نزلت السورة أخبر بذلك عتبة بن أبي لهب، وكانت تحته بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: لآتينّ محمّدا فلأوذينّه. فأتاه فقال: يا محمد ؛ هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالّذي دنا فتدلّى، ثمّ تفل في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وردّ عليه ابنته وطلّقها. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أللّهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك. وكان أبو طالب حاضرا، فوجم(١) لها، وقال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة.

فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثمّ خرج مع نفر من قريش إلى الشام فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إنّ هذه أرض مسبعة. فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة، فإنّي أخاف على ابني دعوة محمّد. فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا بعتبة. فجاء الأسد يتشمّم وجوههم حتّى ضرب عتبة فقتله. فقال حسّان شعرا:

من يرجع العام إلى أهله

فما أكيل السّبع بالراجع

وجواب هذا القسم قوله:( ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ ) ما عدل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن

__________________

(١) أي: اشتدّ حزنه.

٥٠٢

الطريق المستقيم، وما فارق الهدى إلى الضلال. والخطاب لقريش.( وَما غَوى ) وما اعتقد باطلا، فإنّ الضلال نقيض الهوى، والغيّ نقيض الرشد. والمراد: نفي ما ينسبون إليه من الضلال والغيّ.

( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) وما يصدر نطقه بالقرآن عن الهوى( إِنْ هُوَ ) ما القرآن، أو الّذي ينطق به( إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ) أي: يوحيه الله إليه. واحتجّ به من لم ير الاجتهاد للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وأجيب عنه بأنّه إذا أوحي إليه بأن يجتهد كان اجتهاده وما يسند إليه وحيا. قلنا: إنّ ذلك حينئذ يكون بالوحي لا الوحي.

( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ) ملك شديد قواه. والإضافة غير حقيقيّة، لأنّها إضافة الصفة المشبّهة إلى فاعلها، وهو جبرئيل، فإنّه الواسطة في إبداء الخوارق. ومن قوّته أنّه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود، وحملها على جناحه، ورفعها إلى السماء ثمّ قلبها، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين. وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أسرع من رجعة الطرف. ورأى إبليس يكلّم عيسىعليه‌السلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة، فنفخه بجناحه نفخة فألقاه في أقصى جبل بالهند.

( ذُو مِرَّةٍ ) حصافة في عقله ورأيه، ومتانة في دينه( فَاسْتَوى ) فاستقام على صورته الحقيقيّة الّتي خلقه الله عليها، دون الصورة الّتي كان يتمثّل بها كلّما هبط بالوحي. وكان ينزل في صورة دحية الكلبي. وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبّ أن يراه في صورته الّتي جبل عليها، فاستوى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأفق الأعلى، وهو أفق الشمس، فملأ الأفق.

وقيل: ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقيّة غير محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّتين: مرّة في الأرض، ومرّة في السماء.

وأورد البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن مسعود: «أنّ رسول

٥٠٣

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى جبرئيل وله ستّمائة جناح»(١) .

وقيل: استوى بمعنى: استولى بقوّته على ما جعل له من الأمر.

( وَهُوَ ) جبرئيل( بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ) أفق السماء من جانب المشرق، فإنّه فوق جانب المغرب في صعيد الأرض.

( ثُمَّ دَنا ) من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَتَدَلَّى ) فتعلّق عليه في الهواء. وقيل: تدلّى من الأفق الأعلى، فدنا من الرسول من غير أن ينفصل من محلّه. وفيه تقرير لشدّة قواه، فإنّ التدلّي استرسال مع تعلّق، كتدلّي الثمرة. ويقال: دلى رجليه من السرير، وأدلى دلوه. والدوالي: الثمر المعلّق.

( فَكانَ ) جبرئيل( قابَ قَوْسَيْنِ ) مقدارهما، فإنّ القاب والقيب والقاد والقيد والقيس: المقدار. وقد جاء التقدير بالقوس، والرمح، والسوط، والذراع، والباع، والخطوة، والشبر، والفتر، والإصبع. وفي الحديث: «لقاب قوس أحدكم من الجنّة وموضع قدّه خير من الدنيا وما فيها».

والقدّ: السوط. وفي الكلام حذف، تقديره: فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات.( أَوْ أَدْنى ) على تقديركم، كقوله:( أَوْ يَزِيدُونَ ) (٢) . والمقصود تمثيل شدّة الاتّصال وتحقيق استماعه لـما أوحي إليه بنفي البعد الملبس.

( فَأَوْحى ) جبرئيل( إِلى عَبْدِهِ ) عبد الله. وإضماره قبل الذكر لكونه معلوما لا لبس فيه، كقوله:( عَلى ظَهْرِها ) (٣) .( ما أَوْحى ) جبرئيل. وفيه تفخيم للموحى به. وقيل: ضمير «ما أوحى» لله تعالى. والمعنى: فأوحى جبرئيل إلى عبد الله محمّد ما أوحى الله تعالى إليه.

__________________

(١) صحيح البخاري ٦: ١٧٦، صحيح مسلم ١: ١٥٨ ح ٢٨٠.

(٢) الصافّات: ١٤٧.

(٣) فاطر: ٤٥.

٥٠٤

وعن سعيد بن جبير: أوحى إليه:( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ) (١) إلى قوله:( وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) (٢) .

وقيل: أوحى إليه أنّ الجنّة محرّمة على الأنبياء حتّى تدخلها أنت، وعلى الأمم حتّى تدخلها أمّتك.

وقيل: الضمائر كلّها لله تعالى. وهو المعنيّ بـ «شديد القوى» كما في قوله:( هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (٣) . ودنوّه منه برفع مكانته، وتدلّيه جذبه بشراشره إلى جناب القدس.

وقيل: أوحى إليه سرّا بسرّ. وفي ذلك يقول القائل :

بين المحبّين سرّ ليس يفشيه

قول ولا قلم للخلق يحكيه

( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) )

ثمّ بيّن سبحانه ما رآه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الإسراء، وحقّق ما رأى فيها بقوله:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ) فؤاد محمّد( ما رَأى ) ما يبصره من صورة جبرئيل. والمعنى: ما قال فؤاده لـما رآه: لم أعرفك. ولو قال ذلك لكان كاذبا، لأنّه عرفه بقلبه كما رآه

__________________

(١) الضحى: ٦.

(٢) الانشراح: ٤.

(٣) الذاريات: ٥٨.

٥٠٥

ببصره، ولم يشكّ في أنّ ما رآه حقّ.

وقيل: ما كذب ما رآه بقلبه. والمعنى: أنّه لم يكن تخيّلا كاذبا. ويدلّ عليه: «أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل: هل رأيت ربّك؟ فقال: رأيته بفؤادي».

وعن ابن عبّاس أيضا: أنّ محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربّه بفؤاده. وروي ذلك عن محمد بن الحنفيّة، عن أبيه عليّعليه‌السلام .

وهذا يكون بمعنى العلم، أي: علّمه علما يقينا بما رآه من الآيات الباهرات، كقول إبراهيمعليه‌السلام :( وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (١) . وإن كان عالما قبل ذلك.

وقيل: إنّ الّذي رآه هو ما رأى من ملكوت الله تعالى وأجناس مقدوراته.

وعن أبي العالية قال: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هل رأيت ربّك ليلة المعراج؟

قال: رأيت نهرا، ورأيت وراء النهر حجابا، ورأيت وراء الحجاب نورا، لم أر غير ذلك».

وروي عن أبي ذرّ وأبي سعيد الخدري: «أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن قوله:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) قال: «رأيت نورا». وروي ذلك عن مجاهد.

وذكر الشعبي عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ محمّدا رأى ربّه.

قال الشعبي: وأخبرني مسروق قال: سألت عائشة عن ذلك. فقالت: إنّك لتقول قولا إنّه ليقف شعري منه.

قلت: رويدا يا أمّ المؤمنين، وقرأت عليها( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) حتّى انتهيت إلى قوله:( قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ) .

فقالت: رويدا أنّى يذهب بك، إنّما رأى جبرئيل في صورته. من حدّثك أنّ محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربّه فقد كذب، والله تعالى يقول:( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ

__________________

(١) البقرة: ٢٦٠.

٥٠٦

الْأَبْصارَ ) (١) . ومن حدّثك أن محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم الحسّ من الغيب فقد كذب، والله تعالى يقول:( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) (٢) . ومن حدّثك أن محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب، والله تعالى يقول:( بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (٣) . ولقد بيّن الله سبحانه ما رآه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيانا شافيا، فقال:( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) (٤) .

وقرأ هشام: ما كذّب، أي: صدّقه ولم يشكّ أنّه جبرئيل بصورته.

( أَفَتُمارُونَهُ ) أَفتجادلونه( عَلى ما يَرى ) من المراء، وهو المجادلة.

واشتقاقه من: مرى(٥) الناقة، فإنّ كلّا من المتجادلين يمري ما عند صاحبه.

وقرأ الكوفيّون غير عاصم ويعقوب: أَفتمارونه، أي: أَفتغلبونه في المراء.

من: ماريته فمريته. أو من: مراه حقّه إذا جحده. و «على» لتضمين الفعل معنى الغلبة، فإنّ المماري والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم.

( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) مرّة اخرى. فعلة من النزول، أقيمت مقام المرّة، ونصبت نصبها، إشعارا بأنّ الرؤية في هذه المرّة كانت أيضا بنزول ودنوّ. والكلام في المرئيّ والدنوّ ما سبق. والمعنى: نزل جبرئيل عليه نزلة اخرى في صورة نفسه، فرآه عليها ليلة المعراج. وقيل: تقديره: ولقد رآه نازلا نزلة اخرى. ونصبها على المصدر. والمراد به نفي الريبة عن المرّة الأخيرة.

( عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ) الّتي ينتهي إليها علم الخلائق وأعمالهم، ولا يعلم أحد من خلق الأوّلين والآخرين ما وراءها. أو ما ينزل من فوقها، ويصعد من

__________________

(١) الأنعام: ١٠٣.

(٢) لقمان: ٣٤.

(٣) المائدة: ٦٧.

(٤) النجم: ١٨.

(٥) مرى الناقة: مسح ضرعها لتدرّ.

٥٠٧

تحتها. أو الّتي منتهى الجنّة وآخرها، ولم يجاوزها أحد. ولعلّها شبّهت بالسدرة، وهي شجرة النبق، لأنّهم يجتمعون في ظلّها. وروي مرفوعا: أنّها شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة، انتهى إليها علم كلّ ملك. وقيل: هي شجرة طوبى.

( عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ) الجنّة الّتي يأوي إليها المتّقون، أو أرواح الشهداء( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ) تعظيم وتكثير لـما يغشاها، بحيث لا يكتنهها نعت، ولا يحصيها عدّ. وقيل: يغشاها الجمّ الغفير من الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجر. وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رأيت على كلّ ورقة من أوراقها ملكا قائما يسبّح الله».

وعنهعليه‌السلام : «يغشاها رفرف من طير خضر».

وعن ابن مسعود: يغشاها فراش من ذهب.

( ما زاغَ الْبَصَرُ ) ما مال بصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا رآه، أو لم يمل يمينا ولا شمالا( وَما طَغى ) وما تجاوزه، بل أثبته إثباتا صحيحا مستيقنا، من غير أن يزيغ بصره أو يتجاوزه. أو ما عدل عن رؤية العجائب الّتي أمر برؤيتها وما جاوزها. أو ما جاوز الحدّ الّذي حدّ له. وهذا وصف أدبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك المقام، إذ لم يلتفت جانبا، ولم يمل بصره، ولم يمدّه أمامه إلى حيث ينتهي.

( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) أي: والله لقد رأى الكبرى من آياته وعجائبه الملكيّة والملكوتيّة ليلة المعراج. يعني: حين رقي به إلى السماء، فاري عجائب الملكوت، من صورة جبرئيل، ورؤيته وله ستّمائة جناح، قد سدّ الأفق بأجنحته. قيل: إنّه رأى رفرفا أخضر من رفارف الجنّة قد سدّ الأفق.

( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها

٥٠٨

أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) )

ولـمّا قصّ الله سبحانه هذه الأقاصيص، عقّبها بمخاطبة المشركين، فقال:( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) هي أصنام كانت لهم. وهي مؤنّثات.

فاللات كانت لثقيف بالطائف، أو لقريش بنخلة تعبدها. وهي فعلة من: لوى، لأنّهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة، أو يلتوون عليها، أي: يطوفون. وقرأ رويس عن يعقوب بتشديد التاء، على أنّها على صورة رجل كان يلتّ(١) السويق بالسمن ويطعمه الحاجّ. وعن مجاهد: كان رجل يلتّ السويق بالطائف، وكانوا يعكفون على قبره، فجعلوه وثنا.

والعزّى: سمرة(٢) لغطفان كانوا يعبدونها. وأصلها تأنيث الأعزّ.

فبعث إليها رسول الله خالد بن الوليد فقطعها، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها، داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتّى قتلها، وهو يقول :

يا عزّ كفرانك لا سبحانك

إنّي رأيت الله قد أهانك

ورجع فأخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال، تلك العزّى ولن تعبد أبدا.

ومناة صخرة كانت لهذيل وخزاعة. وعن ابن عبّاس: لثقيف. وهي فعلة من: مناه إذا قطعه، فإنّهم كانوا يذبحون عندها القرابين. وكأنّها سمّيت مناة لأنّ دماء النسائك كانت تمنى عندها، أي: تراق. ومنه: منى. وقرأ ابن كثير: مناءة بالمدّ والهمزة. وهي مفعلة من النوء، كأنّهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبرّكا بها.

__________________

(١) لتّ السويق: بلّه بشيء من الماء أو خلطه بالسمن.

(٢) السمرة: شجرة من العضاه، وليس في العضاه أجود خشبا منه.

٥٠٩

وقوله:( الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) صفتان للتأكيد، كقوله:( يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ) (١) . أو «الأخرى» من التأخّر في الرتبة، أي: الوضيعة المقدار، كقوله:( قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ ) (٢) أي: وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم. ويجوز أن تكون الأوّليّة والتقدّم عندهم للات والعزّى.

روي: أنّهم كانوا يقولون: إنّ الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدونهم، ويزعمون أنّهم شفعاؤهم عند الله، مع وأدهم البنات. فقال الله سبحانه إنكارا عليهم: إنّ اللات والعزّى ومناة إناث، وقد جعلتموهنّ لله شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث، وتستنكفوا من أن يولدن لكم وينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادا لله وتسمّونهنّ آلهة؟!( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ) أي: كيف يكون ذلك كذلك وأنتم لو خيّرتم لاخترتم الذكر على الأنثى؟! فكيف أضفتم إليه سبحانه ما لا ترضونه لأنفسكم؟!( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ) جائرة، حيث جعلتم له ما تستنكفون منه. وهي فعلى بالكسر، من: ضاز يضيز ضيزا، إذا ضامه(٣) وجاره. والأصل: ضوزى بالضمّ، ففعل بها ما فعل ببيض لتسلم الياء، فإنّ فعلى بالكسر لم تأت وصفا. وقرأ ابن كثير بالهمزة، من: ضأزه إذا ظلمه، على أنّه مصدر نعت به.

( إِنْ هِيَ ) ما الأصنام باعتبار الألوهيّة( إِلَّا أَسْماءٌ ) تطلقونها عليها، لأنّكم تقولون إنّها آلهة، وليس فيها شيء من معنى الألوهيّة. ويجوز أن يكون الضمير للصفة، أي: ما الصفة إلّا الأسماء خالية عن معنى الصفة المذكورة. أو للأسماء، وهي قولهم: اللات والعزّى ومناة، فإنّهم يقصدون بها أنّه الإله. والحاصل: أنّهم كانوا

__________________

(١) الأنعام: ٣٨.

(٢) الأعراف: ٣٨.

(٣) ضامه: ظلمه. من: ضام يضيم ضيما.

٥١٠

يطلقون اللات عليها باعتبار استحقاقها للعكوف على عبادتها، والعزّى لعزّتها، ومناة لاعتقادهم أنّها تستحقّ أن يتقرّب إليها بالقرابين.

فقال سبحانه: ما هذه الأسماء إلّا أسماء( سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ) بهواكم وشهواتكم خالية عن معنى الألوهيّة( ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) برهان، أي: ليس لكم من الله على صحّة تسميتها دليل باهر تتعلّقون به. ومعنى «سمّيتموها»: سمّيتم بها. يقال: سمّيته زيدا، وسمّيته بزيد.

ثمّ رجع إلى الإخبار عنهم بعد المخاطبة، فقال:( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ ) إلّا توهّم أنّ ما هم عليه حقّ تقليدا وتوهّما باطلا( وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ) وما تشتهيه أنفسهم( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى ) أي: الرشاد والبيان، من الرسول والكتاب فتركوه.

( أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) )

ثمّ أنكر عليهم تمنّيهم شفاعة الأوثان، فقال لهم:( أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى ) «أم» منقطعة. ومعنى الهمزة فيها الإنكار. والمعنى: ليس له كلّ ما يتمنّاه. والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة. وقيل: قولهم:( وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ

٥١١

لَلْحُسْنى ) (١) . وقيل: هو تمنّي بعضهم أن يكون هو النبيّ. وقيل: هو قوله:( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (٢) . وغيرهما. وقيل: هو قول الوليد بن المغيرة:( لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ) (٣) .

( فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى ) أي: هو مالكهما، يعطي منهما ما يشاء لمن يشاء على وفق الحكمة وطبق المصلحة، وليس لأحد أن يتحكّم عليه في شيء منهما.

( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ) وكثير من الملائكة( فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ ) لا تنفع. يعني: أنّ أمر الشفاعة ضيّق، وذلك أنّ الملائكة مع قربهم وزلفاهم وكثرتهم واغتصاص السماوات بجموعهم، لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئا قطّ، ولم تنفع.( شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ ) إلّا إذا شفعوا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة( لِمَنْ يَشاءُ ) من الملائكة أن يشفع، أو من الناس أن يشفع له( وَيَرْضى ) ويرضاه، ويراه أهلا لذلك. فكيف تشفع الأصنام لعبدتهم؟

( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ ) أي: كلّ واحد منهم( تَسْمِيَةَ الْأُنْثى ) بأن سمّوه بنتا.

( وَما لَهُمْ بِهِ ) أي: بما يقولون( مِنْ عِلْمٍ ) أي: ما يستيقنون أنّهم إناث، وليسوا عالمين بذلك( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) أي: الحقّ الّذي هو حقيقة الشيء لا يدرك إلّا بالعلم والتيقّن، والظنّ لا اعتبار له في المعارف الحقيقيّة، وإنّما العبرة به في العمليّات وما يكون وصلة إليها.

__________________

(١) فصّلت: ٥٠.

(٢) الزخرف: ٣١.

(٣) مريم: ٧٧.

٥١٢

( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) )

ثمّ خاطب نبيّه، فقال:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا ) عن دعوة من رأيته معرضا عن ذكرنا، ولم يقرّ بتوحيدنا( وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ) ولم يتأمّل في الآخرة أصلا، لانهماكه في متاع الدنيا وزينتها، فإنّ من غفل عن الله، وأعرض عن ذكره، وانهمك في الدنيا، بحيث كانت منتهى همّته ومبلغ علمه، لا تزيده الدعوة إلّا عنادا وإصرارا على الباطل.

( ذلِكَ ) أي: أمر الدنيا، أو كونها شهيّة( مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) لا يتجاوزه علمهم. وهذا مبلغ خسيس لا يرضى به لنفسه عاقل، لأنّه من طباع البهائم أن يأكل في الحال ولا ينتظر العواقب. وفي الدعاء: أللّهمّ لا تجعل الدنيا أكبر همّنا، ولا مبلغ علمنا.

والجملة اعتراض مقرّر لقصور هممهم بالدنيا. وقوله:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى ) تعليل للأمر بالإعراض، أي: إنّما يعلم الله من يجيب ممّن لا يجيب، وأنت لا تعلم، فلا تتعب نفسك في دعوتهم، إذ ما عليك إلّا البلاغ وقد بلّغت، وهو أعلم بالضالّ والمهتدي، وهو مجازيهما ما يستحقّان من الجزاء.

( وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ

٥١٣

الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) )

ثمّ قال:( وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) خلقا وملكا( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ) بعقاب ما عملوا من السوء، أو بمثله، أو بسبب ما عملوا من السوء. وهو علّة لـما دلّ عليه ما قبله، أي: خلق العالم وسوّاه ليجزي الّذين أساؤا السّوأى، وهي النار.( وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) بالمثوبة الحسنى، وهي الجنّة. أو بأحسن من أعمالهم، أو بسبب الأعمال الحسنى.

ثمّ وصف الّذين أحسنوا بقوله:( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ ) محلّه إمّا النصب على الصفة أو المدح، أو الرفع على أنّه خبر محذوف. وكبائر الإثم ما يكبر عقابه من الذنوب. وهو ما رتّب عليه الوعيد، ولا يسقط عقابه إلّا بالتوبة. وقرأ حمزة والكسائي: كبير الإثم، على إرادة الجنس أو الشرك.( وَالْفَواحِشَ ) ما فحش من الكبائر خصوصا، كأنّه قال: خصوصا والفواحش منها( إِلَّا اللَّمَمَ ) إلّا ما قلّ وصغر، فإنّه مغفور من مجتنبي الكبائر.

قال الحسن والسدّي: اللمم هو أن يلمّ بالذنب مرّة ثمّ يتوب منه ولا يعود.

وهو اختيار الزجّاج، لأنّه قال: اللمم: هو أن يكون الإنسان قد ألمّ بالمعصية ولم يقم على ذلك. ومنه: ألمّ بالمكان إذا قلّ فيه لبثه، وألمّ بالطعام قلّ منه أكله.

وعن أبي سعيد الخدري: اللمم هي: النظرة، والغمزة، والقبلة. وعن الكلبي: كلّ ذنب لم يذكر الله عليه حدّا ولا عذابا. والاستثناء منقطع، أو صفة كقوله:( لَوْ

٥١٤

كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ ) (١) . كأنّه قال: كبائر الإثم غير اللمم.

( إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) حيث يكفّر الصغائر باجتناب الكبائر، والكبائر بالتوبة. أوله أن يغفر ما شاء من الذنوب صغيرها وكبيرها. ولعلّه عقّب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين، لئلّا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته، ولا يتوهّم وجوب العقاب على الله.

( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ) أعلم بأحوالكم منكم( إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ) خلقكم منها عند تناول الأغذية المخصوصة الّتي خلقها من الأرض، فكأنّه سبحانه أنشأهم منها( وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ) أي: علم أحوالكم ومصارف أموركم حين ابتدأ خلقكم من التراب بخلق آدم، وحينما صوّركم في الأرحام.

( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) فلا تنسبوها إلى زكاء العمل وزيادة الخير والطاعات، أو إلى الزكاء والطهارة من المعاصي والرذائل، ولا تثنوا عليها بزكاها( هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ) فإنّه يعلم التقيّ وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب آدم، وقبل أن تخرجوا من بطون أمّهاتكم.

قيل: كان الناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجّنا، فنزلت هذه الآية. وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء. وأمّا من اعتقد أنّ ما عمله من العمل الصالح بتوفيق الله وتأييده، ولم يقصد به التمدّح، لم يكن من المزكّين أنفسهم، لأنّ المسرّة بالطاعة طاعة وذكرها شكر.

( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ

__________________

(١) الأنبياء: ٢٢.

٥١٥

الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) )

روي عن ابن عبّاس والسدّي والكلبي وجماعة من المفسّرين: أنّ عثمان بن عفّان كان يتصدّق وينفق ماله، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح: ما هذا الّذي تصنع؟ يوشك أن لا يبقى لك شيء. فقال له عثمان: إنّ لي ذنوبا، وإنّي أطلب بما أصنع رضا الله، وأرجو عفوه. فقال له عبد الله: أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمّل عنك ذنوبك كلّها. فأعطاه، وأشهد عليه، وأمسك عن الصدقة. فنزلت :

( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ) عن اتّباع الحقّ والثبات عليه( وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى ) وقطع العطاء وأمسك. من قولهم: أكدى الحافر إذا بلغ الكدية، وهي الصخرة

٥١٦

الصلبة، فترك الحفر.

( أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ ) علم ما غاب عنه من أمر العذاب( فَهُوَ يَرى ) يعلم أنّ صاحبه يتحمّل عنه العذاب. أو يعلم أنّ ما قال له أخوه من احتمال أوزاره حقّ.

وعن مجاهد: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتّبع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دينه، فعيّره بعض المشركين، وقال له: تركت دين الأشياخ وضألتهم، وزعمت أنّهم في النار. قال: إنّي خشيت عذاب الله. فضمن له الّذي عاتبه إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمّل عنه عذاب الله. فارتدّ وأعطى بعض المشروط، ثمّ بخل بالباقي.

( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى ) ألم يخبر بما في أسفار التوراة( وَإِبْراهِيمَ ) وفي صحف إبراهيم( الَّذِي وَفَّى ) وفّر وأتمّ ما التزم به أو أمر به. أو بالغ في الوفاء بما عاهد الله. وإطلاقه ليتناول كلّ وفاء وتوفية. وتخصيصه بذلك لاحتماله ما لم يحتمله غيره. ومن ذلك: تبليغه الرسالة، واستقلاله بأعباء النبوّة، والصبر على ذبح ولده، وعلى نار نمرود، وقيامه بأضيافه، وخدمته إيّاهم بنفسه، وأنّه كان يخرج كلّ يوم فيمشي فرسخا يرتاد ضيفا، فإن وافقه أكرمه، وإلّا نوى الصوم.

وعن الحسن: ما أمره الله بشيء إلّا وفى به.

وعن الهذيل بن شرحبيل: كان بين نوح وبين إبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة غيره، ويقتل بأبيه وابنه وعمّه وخاله، والزوج بامرأته، والعبد بسيّده، فأوّل من خالفهم إبراهيم.

وعن عطاء بن السائب: عهد إبراهيم أن لا يسأل مخلوقا، فلمّا قذف في النار قال له جبرئيل وميكائيل: أَلك حاجة؟ فقال: أمّا إليكما فلا.

وروي عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا أخبركم لم سمّى الله خليله( الَّذِي وَفَّى ) ؟

٥١٧

كان يقول إذا أصبح وأمسى: «فسبحان الله حين تمسون وحين تظهرون».

وقيل: وفّى سهام الإسلام. وهي ثلاثون: عشرة في التوبة:( التَّائِبُونَ ) (١) .

وعشرة في الأحزاب:( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ) (٢) . وعشرة في المؤمنين:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) (٣) .

وقدّم موسى لأنّ صحفه ـ وهي: التوراة ـ كانت أشهر وأكبر عندهم.

( أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) «أن» هي المخفّفة من الثقيلة. والضمير للشأن. وهي بما بعدها في محلّ الجرّ بدلا من( بِما فِي صُحُفِ مُوسى ) . والتقدير: أم لم ينبّأ بأنّه لا تزر، أي: لا تحمل نفس حاملة حمل اخرى. أو الرفع على: هو أن لا تزر.

كأنّه قيل: ما في صحفهما؟ فأجاب: أن لا تزر. والمعنى: أنّه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. ولا يخالف ذلك قوله تعالى:( كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) (٤) . وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سنّ سنّة سيّئة، فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة». فإنّ ذلك للدلالة والتسبّب الّذي هو وزره.

( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) إلّا سعيه، أي: كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير لا يثاب بفعله. والوجه فيما صحّ من الأخبار من أنّ الصدقة عن الميّت والحجّ عنه ينفعان الميّت: أنّ سعي غيره لا ينفعه إذا عمل لنفسه، ولكن إذا نواه فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه. وأنّ سعي غيره لـمّا لم ينفعه إلّا مبنيّا على سعي نفسه ـ وهو أن يكون مؤمنا صالحا ـ كان سعي غيره كأنّه سعي نفسه، لكونه

__________________

(١) التوبة: ١١٢.

(٢) الأحزاب: ٣٥.

(٣) المؤمنون: ١ ـ ١٠.

(٤) المائدة: ٣٢.

٥١٨

تابعا له وقائما مقامه.

( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى ) أي: يجزى العبد سعيه بالجزاء الأوفى، فنصب بنزع الخافض. يقال: جزاه الله عمله، وجزاه على عمله، بحذف الجارّ وإيصال الفعل. ويجوز أن يكون مصدرا، أو تكون الهاء للجزاء المدلول عليه بـ «يجزى»، و «الجزاء» بدله، كقوله:( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (١) .

( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) مصدر بمعنى الانتهاء، أي: انتهاء الخلائق ورجوعهم إلى ثواب ربّك وعقابه، كقوله:( وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) (٢) .

( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ) خلق قوّتي الضحك والبكاء. أو فعل سبب الضحك والبكاء، من السرور والحزن، كما يقال: أضحكني فلان وأبكاني.

( وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا ) لا يقدر على الإماتة والإحياء غيره، فإنّ القاتل ينقض البنية، والموت يحصل عنده بفعل الله على سبيل العادة.

( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) من كلّ حيوان( مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى ) تدفّق في الرحم. يقال: منى وأمنى. وعن الأخفش: تخلّق من منيّ الماني، أي: قدر المقدّر.

( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ) الإحياء بعد الموت وفاء بوعده، ولأنّها واجبة عليه في الحكمة، ليجازي على الإحسان والإساءة. ولفظة «على» دالّة عليه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: النشاءة بالمدّ. وهو أيضا مصدر: نشأ.

( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى ) وأعطى القنية. وهي المال الّذي تأثّلته(٣) وعزمت

__________________

(١) الأنبياء: ٣.

(٢) آل عمران: ٢٨.

(٣) تأثّل المال: اكتسبه وثمّره، وزكّاه، وأنماه.

٥١٩

أن لا تخرجه من يدك، بل تدّخره بعد الكفاية. وإفرادها لأنّها أشفّ(١) الأموال. أو أرضى. وتحقيقه: جعل الرضا له قنية.

( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) خالقها ومخترعها. وهي العبور، كوكب أشدّ ضياء من الغميصاء، تطلع وراء الجوزاء، وتسمّى كلب الجبار، لأنّه يتبع الجوزاء كما يتبع الكلب الصائد والصيد. والجبار اسم الجوزاء. وكانت خزاعة تعبدها، سنّ لهم أبو كبشة رجل من أشرافهم. وقيل: إنّه أحد أجداد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل أمّه. وكانت قريش تقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبو كبشة، تشبيها له به، لمخالفته إيّاهم في دينهم. ولعلّ تخصيصها للإشعار بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن وافق أبا كبشة في مخالفتهم، خالفه أيضا في عبادتها. فيريد الله أنّه ربّ معبودهم هذا، فلا تتّخذوا المربوب المملوك إلها.

( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ) القدماء، لأنّهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوحعليه‌السلام .

وقيل: عاد الأولى قوم هود، وعاد الأخرى إرم. وقرأ نافع وأبو عمرو: عادا لولى، بإدغام التنوين في اللام، وطرح همزة «أولى»، ونقل ضمّتها إلى لام التعريف. وقالون بعد ضمّة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو.

وثمودا عطف على «عادا» لأنّ ما بعده لا يعمل فيه، لأنّه منفيّ بـ «ما». فلا يقال: زيدا ما ضربت، لأنّ لها صدر الكلام. وقرأ عاصم وحمزة بغير تنوين، ويقفان بغير الألف. والباقون بالتنوين، ويقفون بالألف.( فَما أَبْقى ) الفريقين.

( وَقَوْمَ نُوحٍ ) أيضا معطوف عليه( مِنْ قَبْلُ ) عاد وثمود( إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ) من الفريقين، لأنّهم كانوا يؤذونه وينفّرون عنه، حتّى كانوا يحذّرون صبيانهم أن يسمعوا منه، ويضربونه حتّى لا يكون به حراك، وما أثّر فيهم دعاؤه قريبا من ألف سنة.

__________________

(١) أي: أفضلها وأربحها.

٥٢٠