زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
المشاهدات: 22426
تحميل: 3726


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22426 / تحميل: 3726
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-08-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( وَالْمُؤْتَفِكَةَ ) والقرى الّتي ائتفكت بأهلها، أي: انقلبت. وهي قرى قوم لوط. يقال: أفكه فأتفك.( أَهْوى ) بعد أن رفعها إلى السماء على جناح جبرئيل، ثمّ أهواها مقلّبة إلى الأرض، أي: أسقطها.

( فَغَشَّاها ما غَشَّى ) فيه تهويل وتعميم لـما أصابهم من العذاب الشديد، إذ أمطر عليها الصخر المنضود.

( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢) )

ولـمّا وعد الله سبحانه ما يدلّ على وحدانيّته وكمال قدرته الذاتيّة، قال:( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى ) تتشكّك. والخطاب للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لكلّ أحد.

والمعدودات وإن كانت نعما ونقما، لكن سمّاها كلّها آلاء من قبل ما في نقمه من العبر والمواعظ للمعتبرين، والانتقام للأنبياء والمؤمنين.

( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) اي: هذا القرآن إنذار من جنس الإنذارات المتقدّمة. أو هذا الرسول منذر من جنس المنذرين الأوّلين. وقال: الأولى، على تأويل الجماعة.

( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) قربت الساعة الموصوفة بالقرب في نحو قوله:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) (١) فإنّ كلّ ما هو آت لا محالة قريب.

__________________

(١) القمر: ١.

٥٢١

( لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ ) ليس لها نفس قادرة على كشفها، مبيّنة متى تقوم؟ أو ليس لها من دون الله كشف، على أنّها مصدر كالعافية.

( أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ ) يعني: القرآن. أو ما قدّم من الأخبار. وهو المرويّ عن الصادقعليه‌السلام .( تَعْجَبُونَ ) إنكارا( وَتَضْحَكُونَ ) استهزاء( وَلا تَبْكُونَ ) تحزّنا على ما فرّطتم.

( وَأَنْتُمْ سامِدُونَ ) لاهون لاعبون. أو مستكبرون، من: سمد البعير في سيره إذا رفع رأسه. أو مغنّون لتشغلوا الناس عن استماعه. من السمود، وهو الغناء.

( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) ولا تعبدوا الآلهة. وفي الآية دلالة على أنّ السجود هنا واجب على ما ذهب إليه أصحابنا، لأنّ الظاهر أنّ الأمر يقتضي الوجوب، وللروايات المتواترة عن الأئمّة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين.

٥٢٢

(٥٤)

سورة القمر

مكّيّة. وهي خمس وخمسون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة اقتربت الساعة في كلّ غبّ، بعث يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر، ومن قرأها كلّ ليلة كان أفضل، وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق».

وروى يزيد بن خليفة عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة اقتربت السّاعة، أخرجه الله من قبره على ناقة من نوق الجنّة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) )

٥٢٣

ولـمّا ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر أزوف الآزفة، افتتح هذه السورة بمثله، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) قربت الساعة الّتي يموت فيها جميع الخلائق، يعني: يوم القيامة، فاستعدّوا لها قبل وقوعها( وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) انشقاق القمر من آيات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعجزاته النيّرة، ومن علامات دنوّ القيامة.

روي عن ابن عبّاس: «اجتمع المشركون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فلقتين. فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن فعلت تؤمنون؟ قالوا: نعم. وكانت ليلة بدر، فسألعليه‌السلام ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشقّ القمر فلقتين ورسول الله ينادي: يا فلان يا فلان اشهدوا».

وقال ابن مسعود: انشقّ القمر على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلقتين، فلقة ذهبت، وفلقة بقيت، فقال لنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اشهدوا اشهدوا.

وروي أيضا عن ابن مسعود أنّه قال: والّذي نفسي بيده لقد رأيت حراء بين فلقتي القمر.

وعن جبير بن مطعم قال: انشقّ القمر على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى صار فلقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل، فقال الناس: سحر محمد. فقال رجل: إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلّهم.

وقد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة، منهم: عبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وابن عبّاس، وجبير بن مطعم. وعليه جماعة المفسّرين، إلّا ما روي عن عثمان بن عطاء عن أبيه أنّه قال: معناه: وسينشقّ القمر. وروي ذلك عن الحسن. وأنكره أيضا البلخي. وهذا لا يصحّ، لأنّ المسلمين أجمعوا على ذلك، فلا يعتدّ بخلاف من خلاف فيه. ولأنّ اشتهاره بين الصحابة يمنع من القول بخلافه.

٥٢٤

وإنّما ذكر سبحانه اقتراب الساعة مع انشقاق القمر، لأنّ انشقاقه من علامة نبوّة نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونبوّته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة.

وعن حذيفة: أنّه خطب بالمدائن ثمّ قال: الا إنّ الساعة قد اقتربت، وإنّ القمر قد انشقّ على عهد نبيّكم.

وأيضا يؤيّد هذا القول قوله:( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً ) معجزة( يُعْرِضُوا ) عن الإيمان بها عنادا وحسدا( وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) دائم مطّرد. وكلّ شيء قد انقادت طريقته ودامت حاله قيل فيه: قد استمرّ. وهو يدلّ على أنّهم رأوا قبله آيات اخرى مترادفة ومعجزات متتابعة حتّى قالوا ذلك. أو محكم من المرّة. يقال: أمررته فاستمرّ، إذا أحكمته فاستحكم. أو مستبشع مرّ.

( وَكَذَّبُوا ) بالآية الّتي شاهدوها( وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) وهو ما زيّن لهم الشيطان من ردّ الحقّ بعد ظهوره. وذكر هما بلفظ الماضي للإشعار بأنّهما من عادتهم القديمة.( وَكُلُّ أَمْرٍ ) من أمرهم وأمر محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( مُسْتَقِرٌّ ) منته إلى غاية، من خذلان أو نصر في الدنيا، وشقاوة أو سعادة في الآخرة، فإنّ الشيء إذا انتهى إلى غايته ثبت واستقرّ.

( وَلَقَدْ جاءَهُمْ ) جاء هؤلاء الكفّار في القرآن( مِنَ الْأَنْباءِ ) أنباء القرون الخالية وإهلاكنا إيّاهم. أو أنباء الآخرة وما وصف من عذاب الكفّار.( ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) ازدجار، من تعذيب أو وعيد. أو موضع ازدجار. والمعنى: هو في نفسه موضع للازدجار ومظنّة له، كقوله:( لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (١) أي: هو أسوة. وتاء الافتعال تقلب دالا مع الدال والذال والزاء للتناسب.

( حِكْمَةٌ بالِغَةٌ ) غايتها، أي: بلغت الغاية والنهاية في الوضوح، لا خلل فيها أصلا. وهي بدل من «ما»، أو خبر لمحذوف.( فَما تُغْنِ النُّذُرُ ) نفي أو استفهام

__________________

(١) الأحزاب: ٢١.

٥٢٥

إنكار منصوب المحلّ، أي: فأيّ غناء تغني النذر؟ وهو جمع نذير، بمعنى المنذر أو المنذر منه. أو مصدر بمعنى الإنذار.

( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) أي: أعرض عنهم ولا تقابلهم على سفههم، لعلمك بأنّ الإنذار لا يغني فيهم. وهاهنا وقف تامّ.( يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ) إسرافيل أو جبرئيل، كقوله( يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ ) (١) . وإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة للتخفيف.

وانتصاب «يوم» بـ «يخرجون» أو بإضمار: اذكر.( إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ ) فظيع تنكره النفوس، لأنّها لم تعهد مثله، وهو هول يوم القيامة. وقرأ ابن كثير: نكر بالتخفيف.

( خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ ) من قبورهم خاشعا ذليلا أبصارهم من الهول. وخشوع الأبصار كناية عن الذلّة والانخزال(٢) ، لأنّ ذلّة الذليل وعزّة العزيز تظهران في عيونهما. وإفراده وتذكيره لأنّ فاعله ظاهر غير حقيقيّ التأنيث.

وقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع وعاصم: خشّعا. وإنّما حسن ذلك، ولا يحسن: مررت برجال قائمين غلمانهم، لأنّه ليس على صيغة تشبه الفعل.( كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ ) في الكثرة والتموّج والانتشار في الأمكنة. يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض: جاؤا كالجراد وكالدبى(٣) .

وفيه دلالة على أنّ البعث إنّما يكون لهذه البنية، لأنّها الكائنة في الأجداث، خلافا لمن زعم أنّ البعث يكون للأرواح.

( مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ) مسرعين مادّي أعناقهم إليه. أو ناظرين قبل الداعي. وهو حال من قوله:( يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ ) صعب شديد.

__________________

(١) ق: ٤١.

(٢) أي: الانقطاع والانكسار.

(٣) الدبى: أصغر الجراد. والواحدة: دباة.

٥٢٦

( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) )

ثمّ هدّد المعاندين المكذّبين بذكر قصص الأنبياءعليهم‌السلام واستئصالهم، لفرط عنادهم وتكذيبهم، فقال :

( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ) قبل قومك( قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا ) نوحا. وهو تفصيل بعد إجمال. وقيل: معناه: كذّبوه تكذيبا على عقب تكذيب، كلّما مضى منهم قرن مكذّب تبعه قرن مكذّب. أو كذّبوه بعد ما كذّبوا الرسل.( وَقالُوا مَجْنُونٌ ) هو مجنون( وَازْدُجِرَ ) زجر عن التبليغ بأنواع الأذيّة. وقيل: إنّه من جملة قيلهم، أي: هو مجنون وقد ازدجرته الجنّ، أي: ذهبت بلبّه وتخبّطته وطارت بقلبه.

( فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ ) غلبني قومي، فلم يسمعوا منّي، واستحكم اليأس من إجابتهم لي( فَانْتَصِرْ ) فانتقم لي منهم بعذاب تبعثه عليهم. وذلك بعد يأسه منهم. وقد روي: أنّ الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتّى يخرّ مغشيّا عليه، فيفيق وهو يقول: أللّهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون.

ثمّ بيّن سبحانه إجابته لدعاء نوحعليه‌السلام ، فقال:( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ ) هاهنا

٥٢٧

حذف معناه: فاستجبنا لنوح دعاءه، ففتحنا أبواب السماء( بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ) أي: أجرينا من السماء ماء منصبّا في فرط كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوما، كجريانه بدفع شديد إذا فتح عنه باب كان مانعا له. وقرأ ابن عامر ويعقوب: ففتّحنا بالتشديد، لكثرة الأبواب.

( وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ) وجعلنا الأرض كلّها كأنّها عيون متفجّرة. وأصله: وفجّرنا عيون الأرض، فغيّر للمبالغة.( فَالْتَقَى الْماءُ ) ماء السماء وماء الأرض( عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) على حال قدّرها الله في الأزل من غير تفاوت. أو على حال قدّرت وسوّيت، وهو أن قدّر ما أنزل من السماء على قدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء. أو على أمر قد قدّر في اللوح أنّه يكون، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان.

( وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ ) ذات أخشاب عريضة( وَدُسُرٍ ) ومسامير.

جمع دسار، وهو فعال من: دسره إذا دفعه، فإنّه يدسر به منفذه. ومصدره الدسر، وهو الدفع الشديد. وهي صفة للسفينة أقيمت مقامها، من حيث إنّها كالشرح لها تؤدّي مؤدّاها.

( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) بمرأى منّا، أي: محفوظة بحفظنا. ومنه قولهم: عين الله عليك. وقيل: معناه: بأعين أوليائنا ومن وكّلناهم بها من الملائكة. وقيل: معناه: تجري بأعين الماء الّتي انبعناها.( جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ) أي: فعلنا ذلك جزاء لنوح.

وجعله مكفورا لأنّه نعمة كفروها، فإنّ كلّ نبيّ نعمة من الله ورحمة على أمّته. ويجوز أن يكون على حذف الجارّ وإيصال الفعل إلى الضمير، تقديره: لمن كان كفر به.

( وَلَقَدْ تَرَكْناها ) أي: السفينة، أو الفعلة( آيَةً ) يعتبر بها، إذ شاع خبرها واشتهر. وعن قتادة: أبقاها الله بأرض الجزيرة ـ وقيل: على الجوديّ ـ دهرا طويلا حتّى نظر إليها أوائل هذه الأمّة.( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) معتبر.

٥٢٨

( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) استفهام تعظيم ووعيد. والنذر يحتمل المصدر، وجمع نذير، وهو الإنذار.

( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) )

( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ) سهّلناه للادّكار والاتّعاظ، بأن صرفنا فيه أنواع المواعظ والعبر، بأن وشحناه بالمواعظ الشافية والإنذارات الوافية. أو للحفظ.

وقيل: معناه: ولقد هيّأناه للذكر. من: يسّر ناقته للسفر إذا رحّلها، ويسّر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه.( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) متّعظ.

( كَذَّبَتْ عادٌ ) بالرسول الّذي بعث إليهم، وهو هود، فاستحقّوا الهلاك.

( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) أي: إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، أو لمن بعدهم في تعذيبه.

ثمّ بيّن كيفيّة إهلاكهم، فقال:( إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً ) باردا. من الصرّ، وهو البرد. أو شديد الصوت، من الصرّ.( فِي يَوْمِ نَحْسٍ ) شؤم( مُسْتَمِرٍّ ) استمرّ شؤمه. أو استمرّ عليهم بنحو سته سبع ليال وثمانية أيّام حتّى أهلكهم. أو على جميعهم، كبيرهم وصغيرهم، فلم يبق منهم أحدا. أو اشتدّ مرارته. وكان يوم الأربعاء في آخر الشهر.

( تَنْزِعُ النَّاسَ ) تقلعهم عن أماكنهم. روي: أنّهم دخلوا في الشعاب والحفر، وأخذ بعضهم بأيدي بعض ملاصقين، فنزعتهم الريح منها، وأكبّتهم ودقّت رقابهم

٥٢٩

وصرعتهم، فصاروا أمواتا على الأرض جثثا طوالا عظاما.( كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) أصول نخل بلا فروع، منقلع عن مغارسه، ساقط على الأرض. وقيل: شبّهوا بالأعجاز، لأنّ الريح طيّرت رؤوسهم وطرحت أجسادهم بلا رؤوس.

وتذكير منقعر للحمل على اللفظ. والتأنيث في قوله:( أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ) (١) للمعنى.

( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) كرّره للتهويل. وقيل: الأوّل لـما حاق بهم في الدنيا، والثاني لـما يحيق بهم في الآخرة، كما قال أيضا في قصّتهم:( لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى ) (٢) .

( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) )

__________________

(١) الحاقّة: ٧.

(٢) فصّلت: ١٦.

٥٣٠

( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ) بالإنذارات والمواعظ الّتي جاءهم بها صالح. أو بالرسل المنذرين بسبب تكذيبهم صالحا، لأنّ تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الجميع، لأنّهم متّفقون في الدعاء إلى التوحيد وإن اختلفوا في الشرائع.

( فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا ) من جنسنا، أو من جملتنا، لا فضل له علينا. وانتصابه بفعل يفسّره ما بعده.( واحِداً ) منفردا لا تبع له. أو من آحادهم دون أشرافهم.

( نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) جمع سعير. كأنّهم عكسوا عليه، فرتّبوا على اتّباعهم إيّاه ما رتّبه على ترك اتّباعهم له. وقيل: السعر الجنون. ومنه: ناقة مسعورة.

( أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ ) الكتاب، أو الوحي( عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا ) هذا استفهام إنكار وجحود، أي: كيف ألقي الوحي عليه وخصّ بالنبوّة وفينا من هو أحقّ منه بالاختيار للنبوّة؟!( بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ) بطر متكبّر، حمله بطره على الترفّع والتعظّم علينا بادّعاء ذلك.

ثمّ قال سبحانه وعيدا لهم:( سَيَعْلَمُونَ غَداً ) أي: عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة. وإنّما قال: «غدا» على وجه التقريب، على عادة الناس في ذكرهم الغد وإرادتهم العاقبة، فقالوا: إنّ مع اليوم غدا.( مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ) الّذي حمله أشره على الاستكبار عن الحقّ وطلب الباطل، أصالحعليه‌السلام أم من كذّبه؟! وقرأ ابن عامر وحمزة ورويس: ستعلمون، على الالتفات، أو حكاية ما أجابهم به صالح.

( إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ ) مخرجوها وباعثوها معجزة لصالح. وهاهنا حذف، وهو أنّهم تعنّتوا على صالحعليه‌السلام ، فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء(١) ، تضع ثم ترد ماءهم فتشربه ثمّ تعود عليهم بمثله لبنا. فقال سبحانه: إنّا

__________________

(١) العشراء: الناقة الّتي مضى لحملها عشرة أشهر، وهي كالنفساء من النساء.

٥٣١

مرسلوا الناقة كما سألوها( فِتْنَةً لَهُمْ ) امتحانا لهم( فَارْتَقِبْهُمْ ) فانتظر أمر الله فيهم، وتبصّر ما هم صانعون( وَاصْطَبِرْ ) على أذاهم حتّى يأتيك أمري.

( وَنَبِّئْهُمْ ) وأخبرهم( أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ) مقسوم لها شرب يوم، ولهم شرب يوم. وإنّما قال: «بينهم» لتغليب العقلاء.( كُلُّ شِرْبٍ ) نصيب من الماء( مُحْتَضَرٌ ) محضور لهم، أو للناقة. ففي يوم الناقة تحضره الناقة، وفي يومهم يحضرونه. وقيل: يحضرون الماء في نوبتهم، واللبن في نوبتها.

( فَنادَوْا صاحِبَهُمْ ) أي: دبّروا في أمر الناقة بالقتل، فدعوا واحدا من أشرارهم، وهو: قدار بن سالف أحيمر ثمود( فَتَعاطى ) فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له( فَعَقَرَ ) فأحدث العقر بالناقة فقتلها. وقيل: فتعاطى السيف فقتلها. والتعاطي تناول الشيء بتكلّف.

( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) أي: فانظر كيف كان عذابي لهم وإنذاري إيّاهم.

( إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً ) يعني: صيحة جبرئيل( فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ) كالحشيش أو الشجر اليابس المتهشّم المتكسّر، الّذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. والحظيرة: هي الّتي يتّخذها المحتظر ـ أي: صاحبها ـ لغنمه تمنعها من برد الريح. والمعنى: أنّهم بادوا وهلكوا، فصاروا كيبيس الشجر المتفتّت إذا تحطّم.

( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا

٥٣٢

عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) )

( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ) بالإنذار، أو بالرسل( إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً ) ريحا تحصبهم بالحجارة، أي: ترميهم( إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ ) في سحر، وهو آخر الليل. أو مسحرين.( نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا ) إنعاما منّا. وهو علّة لـ «نجّينا».( كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ) نعمتنا بالإيمان والطاعة.

( وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ ) لوط( بَطْشَتَنا ) أخذتنا بالعذاب( فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ ) فكذّبوا بالنذر متشاكّين. من المرية. أو فتدافعوا بالإنذار على وجه الجدال بالباطل.

( وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ ) طلبوا منه أن يسلّم إليهم أضيافه ليقصدوا الفجور بهم( فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ) فمسحناها وسوّيناها بسائر الوجه، لا يرى لها أثر عين.

روي: أنّهم لـمّا عالجوا باب لوط ليدخلوا قالت الملائكة: خلّهم يدخلوا إنّا رسل ربّك، لن يصلوا إليك. فصفقهم فأعماهم، فتركهم يتردّدون لا يهتدون إلى الباب حتّى أخرجهم لوط.( فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ ) فقلنا لهم: ذوقوا، على ألسنة الملائكة.

( وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ ) أتاهم في الصباح( بُكْرَةً ) أوّل النهار وباكره، كقوله: مشرقين ومصبحين( عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ ) ثابت قد استقرّ عليهم إلى أن يفضي بهم إلى عذاب الآخرة.

( فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) كرّر ذلك في كلّ قصّة إشعارا بأن تكذيب كلّ رسول مقتض لنزول العذاب، واستماع كلّ قصّة مستدع للادّكار والاتّعاظ. واستئنافا للتنبيه والاتّعاظ، لئلّا يغلبهم السهو، ولا تستولي عليهم الغفلة، لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب في كلّ زمان، مصوّرة

٥٣٣

للأذهان، مذكورة من غير نسيان في كلّ أوان. وهكذا تكرير قوله:( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) عند كلّ نعمة عدّها في سورة الرحمن. و( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) عند كلّ آية أوردها في سورة المرسلات، ونحو ذلك.

( وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) )

( وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ) الإنذارات، أو المنذرون. وهم: موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء، لأنّهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون. واكتفى بذكر آل فرعون عن ذكره، للعلم بأنّه أولى بذلك منهم.

( كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها ) يعني: الآيات التسع( فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ ) لا يغالب( مُقْتَدِرٍ ) لا يعجزه شيء.

( أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) )

ثمّ خوّف سبحانه كفّار مكّة، فقال:( أَكُفَّارُكُمْ ) يا معشر العرب( خَيْرٌ ) أشدّ وأقوى في أسباب الدنيا( مِنْ أُولئِكُمْ ) الكفّار، المعدودين من قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون، أي: أهم خير قوّة وعدّة، أو مكانة في الدنيا، أو أقلّ كفرا وعنادا؟ والاستفهام للإنكار. والمعنى: لستم مثل أولئك، لا في القوّة، ولا في الثروة، ولا في كثرة العدد والعدّة. فإذا هلك أولئك الكفّار فما الّذي يؤمنكم أن ينزل

٥٣٤

بكم ما نزل بهم؟( أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ ) أم أنزلت عليكم يا أهل مكّة براءة في الكتب السماويّة، أنّ من كفر منكم وكذّب الرسل فهو في أمان من العذاب، فأمنتم بتلك البراءة؟

( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ ) جماعة، أمرنا مجتمع( مُنْتَصِرٌ ) ممتنع، لا نرام ولا نضام. أو منتصر من الأعداء لا نغلب. أو متناصر ينصر بعضنا بعضا. والتوحيد على لفظ الجميع. وروي: أنّ أبا جهل ضرب فرسه يوم بدر، فتقدّم في الصفّ وقال: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه.

( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ) أي: جميع كفّار مكّة( وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) أي: الأدبار.

وإفراده لإرادة الجنس، أو لأنّ كلّ واحد يولّي دبره. وقد وقع ذلك يوم بدر، وهو من دلائل النبوّة.

وعن عكرمة: لـمّا نزلت هذه الآية قال عمر: لم أعلم ما هو، فلمّا كان يوم بدر رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلبس الدرع ويقول: «سيهزم الجمع» فعلمته.

( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ) موعد عذابهم الأصليّ، وما يحيق بهم في الدنيا فمن طلائعه( وَالسَّاعَةُ أَدْهى ) أشدّ وأفظع. والداهية أمر فظيع لا يهتدى لدوائه.

( وَأَمَرُّ ) مذاقا من الهزيمة والقتل والأسر، وغير ذلك من عذاب الدنيا.

( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ

٥٣٥

(٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥) )

ثمّ بيّن سبحانه حال القيامة، فقال:( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ ) عن الحقّ في الدنيا( وَسُعُرٍ ) ونيران في الآخرة.

( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ) يجرّون عليها، يقال لهم:( ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) حرّ النار وألمها، فإنّ مسّها سبب التألّم بها، كقولك: وجد مسّ الحمى، وذاق طعم الضرب، إذا تأذّى وتألّم منهما. وسقر: علم لجهنّم. وعدم صرفها للعلميّة والتأنيث. وأصل السقر: التلويح، من: سقرته النار وصقرته إذا لوّحته.

( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) خلقنا كلّ شيء مقدّرا بمقدار على مقتضى الحكمة. أو مقدّرا مكتوبا في اللوح قبل وقوعه.

وعن الحسن: على قدر معلوم. فخلقنا اللسان للكلام، واليد للبطش، والرجل للمشي، والعين للنظر، والأذن للسماع، والمعدة للطعام. ولو زاد أو نقص عمّا قدّرناه لـما تمّ الغرض.

وقيل: معناه: جعلنا لكلّ شيء شكلا يوافقه ويصلح له، كالمرأة للرجل، والأتان للحمار، وثياب الرجال للرجال، وثياب النساء للنساء.

و «كلّ شيء» منصوب بفعل يفسّره ما بعده. واختيار النصب هاهنا مع الإضمار، لـما فيه من النصوصيّة على المقصود.

( وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ ) إلّا كلمة واحدة سريعة التكوين. وهو قوله: «كن» عند إرادة إيجاد شيء بلا تأخير.( كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) في اليسر والسرعة. والمعنى: إذا أراد تكوين شيء لم يلبث كونه إلّا فعلة واحدة. وهو الإيجاد بلا معالجة

٥٣٦

ومعاناة. وقيل: معناه معنى قوله:( وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) (١) .

( وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ ) أشباهكم في الكفر ممّن قبلكم. وسمّاهم أشياعهم لـما وافقوهم في الكفر وتكذيب الأنبياء.( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) متّعظ.

( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ) مكتوب في كتب الحفظة ودواوينهم.

( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ) من الأعمال والأرزاق والآجال والموت والحياة وغيرها ممّا هو كائن( مُسْتَطَرٌ ) مسطور في اللوح.

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ) أنهار الجنّة، من الماء والخمر واللبن والعسل. واكتفى باسم الجنس. وقيل: هو السعة والضياء، من النهار.

( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ ) في مكان مرضيّ. وسمّي صدقا، لأنّ الله صدق وعد أوليائه فيه.( عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) مقرّبين عند من تعالى أمره في الملك والاقتدار، فلا شيء إلّا وهو تحت ملكه وقدرته. فأيّ منزلة أكرم من تلك المنزلة، وأجمع للغبطة كلّها والسعادة بأسرها؟ وليس المراد قرب المكان، لتعاليه سبحانه عن ذلك، بل المراد أنّهم في كنفه وجوار رحمته وكفايته، حيث تنالهم غواشي رحمته وفضله.

__________________

(١) النحل: ٧٧.

٥٣٧
٥٣٨

(٥٥)

سورة الرّحمن

مكّيّة. وهي ثمان وسبعون آية.

أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ سورة الرحمن رحم الله ضعفه، وأدّى شكر ما أنعم الله عليه».

وروي عن موسى بن جعفر، عن آبائهعليهم‌السلام ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «لكلّ شيء عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره».

أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «لا تدعوا قراءة الرحمن والقيام بها، فإنّها لا تقرّ في قلوب المنافقين. وتأتي ربّها يوم القيامة في صورة آدميّ في أحسن صورة وأطيب ريح، حتّى تقف من الله موقفا لا يكون أحد أقرب إلى الله منها.

فيقول لها: من الّذي كان يقوم بك في الحياة الدنيا ويدمن قراءتك؟ فتقول: يا ربّ فلان وفلان. فتبيضّ وجوههم. فيقول لهم: اشفعوا فيمن أحببتم. فيشفعون حتّى لا يبقى لهم غاية ولا أحد يشفعون له. فيقول لهم: ادخلوا الجنّة واسكنوا فيها حيث شئتم».

حمّاد بن عثمان قال: «قال الصادقعليه‌السلام : يجب أن يقرأ الرجل سورة الرحمن يوم الجمعة، فكلّما قرأ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) قال: لا بشيء من آلائك يا ربّ أكذّب».

وعنهعليه‌السلام قال: «ومن قرأ سورة الرحمن ليلا، يقول عند كلّ «فَبِأَيِّ آلاءِ

٥٣٩

رَبِّكُما تُكَذِّبانِ »: لا بشيء من آلائك يا ربّ أكذّب، وكلّ الله به ملكا إن قرأها في أوّل الليل يحفظه حتّى يصبح، وإن قرأها حين يصبح وكّل الله به ملكا يحفظه حتّى يمسي».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة القمر باسمه، افتتح هذه السورة أيضا باسمه، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) لـمّا كانت هذه السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيويّة والأخرويّة، صدّرها بالرحمن. ثمّ أراد أن يقدّم أوّل شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وأصناف نعمائه، وهي نعمة الدين، فقدّم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها وأقصى رواتبها، وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، لأنّه أعظم وحي الله رتبة، وأعلاه منزلة، وأحسنه في أبواب الدين

٥٤٠