زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير6%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53043 / تحميل: 4410
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٩-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

ملاحظة

هذا الكتاب

نشر الكترونياً وأخرج فنِيّاً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً

قسم اللجنة العلميّة في الشبكة

٢

٣
٤

(٥٩)

سورة الحشر

مدنيّة. وهي أربع وعشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ومن قرأ سورة الحشر لم يبق جنّة، ولا نار، ولا عرش، ولا كرسيّ، ولا حجاب، ولا السماوات السبع، ولا الأرضون السبع، والهوامّ، والرياح، والطير، والشجر، والدوابّ، والشمس، والقمر، والملائكة، إلّا صلّوا عليه، واستغفروا له، وإن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا».

وعن أبي سعيد المكاري، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ إذا أمسى الرحمن والحشر، وكّل الله بداره ملكا شاهرا سيفه حتّى يصبح».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي

٥

الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة المجادلة بذكر حزب الشيطان وحزب الله تعالى، افتتح هذه السورة بقهره حزب الشيطان، وهم بنو النضير من اليهود، وما نالهم من الخزي والهوان، ونصرة حزبه من أهل الإيمان.

وبيان ذلك: أنّ النبيّ لـمّا قدم المدينة صالح بني النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له. فلمّا ظهر يوم بدر قالوا: هو النبيّ المنعوت في التوراة، لا تردّ له راية.

فلمّا هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكّة، فأتوا قريشا وحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمّد. ثمّ دخل أبو سفيان في أربعين، وكعب في أربعين من اليهود المسجد الحرام، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة ثمّ رجع كعب بن الأشرف وأصحابه إلى المدينة.

ونزل جبرئيل فأخبر النبيّ بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان، وأمره بقتل كعب بن الأشرف، فقتله محمد بن مسلمة الأنصاري، وكان أخاه من الرضاعة. فخرج ومعه سلكان بن سلامة، وثلاثة من بني الحرث. وخرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أثرهم على حمار مخطوم(١) بليف، وجلس في موضع ينتظر رجوعهم. فذهب محمد بن مسلمة مع القوم إلى قرب قصره، وأجلس قومه عند جدار، وناداه: يا كعب. فانتبه وقال: من أنت؟

__________________

(١) أي: مشدود بليف. ومنه: الخطام، وهو حبل يجعل في عنق البعير.

٦

قال: أنا محمد بن مسلمة أخوك، جئتك أستقرض منك دراهم، فإنّ محمدا يسألنا الصدقة، وليس معنا الدراهم.

فقال كعب: لا أقرضك إلّا بالرهن.

قال: معي رهن، انزل فخذه.

وكانت له امرأة بنى بها تلك الليلة عروسا، فقالت: لا أدعك تنزل، لأنّي ارى حمرة الدم في ذلك الصوت. فلم يلتفت إليها، فخرج فعانقه محمّد بن مسلمة وهما يتحادثان، حتّى تباعدا من القصر إلى الصحراء. ثمّ أخذ رأسه ودعا بقومه. وصاح كعب، فسمعت امرأته وصاحت، وسمع بنو النضير صوتها، فخرجوا نحوه فوجدوه قتيلا. ورجع القوم سالمين إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلمّا أسفر الصبح أخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه بقتل كعب، ففرحوا. فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحربهم، والسير إليهم. فسار بالناس حتّى نزل بهم، فتحصّنوا منه في الحصن.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم: اخرجوا من أرض المدينة.

فقالوا: الموت أحبّ إلينا من ذاك.

فتنادوا بالحرب.

وقيل: استمهلوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشرة أيّام ليتجهّزوا للخروج. فدسّ عبد الله بن أبيّ المنافق أصحابه إليهم: لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم، ولئن خرجتم لنخرجنّ معكم. فدربوا(١) على الأزقّة وحصّنوها. فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة. فلمّا قذف الله الرعب في قلوبهم، وأيسوا من نصر المنافقين، طلبوا الصلح. فأبى عليهم إلّا الجلاء، على أن يحمل كلّ ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤا من متاعهم. فجلوا إلى الشام، إلى أريحا وأذرعات، إلّا أهل بيتين منهم: آل أبي الحقيق وآل حييّ بن أخطب، فإنّهم

__________________

(١) أي: ضيّقوا أفواهها بالخشب والحجارة.

٧

لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة. فنزلت فيهم :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) مرّ تفسيره.

( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) يعني: يهود بني النضير( مِنْ دِيارِهِمْ ) بأن سلّط الله المؤمنين عليهم، وأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإخراجهم من منازلهم وحصونهم( لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ) متعلّق بـ «أخرج». وهي اللام في قوله تعالى:( يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) (١) . وقولك: جئته لوقت كذا. والمعنى: أخرج الّذين كفروا في أوّل حشرهم من جزيرة العرب، إذ لم يصبهم هذا الذلّ قبل ذلك. أو في أوّل إجلائهم إلى الشام، وآخر حشرهم إجلاء عمر إيّاهم من خيبر إلى الشام. أو أوّل حشر الناس إلى الشام، وآخر حشرهم أنّهم يحشرون إليه عند قيام الساعة، فيدركهم هناك. أو أنّ نارا تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب، فهذا هو الحشر الثاني. وعن عكرمة: من شكّ أنّ المحشر هاهنا ـ يعني: الشام ـ فليقرأ هذه الآية.

وقيل: معناه: أخرجهم من ديارهم لأوّل ما حشر لقتالهم، لأنّه أوّل قتال قاتلهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . والحشر: إخراج جمع من مكان إلى آخر.

( ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ) لشدّة بأسهم ومنعتهم، ووثاقة حصونهم، وكثرة عددهم وعدّتهم( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ ) أي: أنّ حصونهم تمنعهم من بأس الله. وفي تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إيّاهم. وفي تصيير ضميرهم اسما لـ «أنّ»، وإسناد الجملة إليه، دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنّهم في عزّة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرّض لهم، أو يطمع في معازّتهم(٢) . وليس ذلك في قولك: وظنّوا أنّ حصونهم تمنعهم. ولذلك غيّر النظر؟

__________________

(١) الفجر: ٢٤.

(٢) عازّه معازّة: عارضه في العزّة.

٨

( فَأَتاهُمُ اللهُ ) أي: عذابه. وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء. وقيل: الضمير للمؤمنين، أي: فأتاهم نصر الله.( مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) لم يظنّوا ولم يخطر ببالهم، وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرّة(١) وغيلة على يد أخيه. وذلك ممّا أضعف قوّتهم، وفلّ من شوكتهم، وثبّط المنافقين الّذين كانوا يتولّونهم عن مظاهرتهم، وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة بما قذف فيها من الرعب، وألهمهم أن يوافقوا المؤمنين في تخريب بيوتهم، ويعينوا على أنفسهم، كما قال عزّ اسمه :

( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) وأثبت فيها الخوف الّذي يرعبها، أي: يملؤها( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ) ضنّا(٢) بها على المسلمين، واحتياجا لهم إلى الخشب والحجارة ليسدّوا بها أفواه الأزقّة، وإخراجا لـما استحسنوا من آلاتها( وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) فإنّهم أيضا كانوا يخربون ظواهرها نكاية وتوسيعا لمجال القتال، فلا يبقى لهم بالمدينة دار، ولا منهم ديار. وعطفها على «أيديهم» من حيث إنّ تخريب المؤمنين مسبّب عن نقضهم، فكأنّهم استعملوا المؤمنين في التخريب. والجملة حال، أو تفسير للرعب. وقرأ أبو عمرو: يخرّبون بالتشديد. وهو أبلغ، لـما فيه من التكثير. وقيل: الإخراب: التعطيل، أو ترك الشيء خرابا. والتخريب: الهدم.

( فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ) فاتّعظوا بما دبّر الله ويسّر من أمر إخراجهم، وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال، فلا تعتمدوا على غير الله.

وفيه دليل على أنّ القياس المنصوص العلّة حجّة لا مطلقا، من حيث إنّه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال، مثلها في اشتراك العلّة، فحملها عليها في الحكم لـما بينهما من العلّة المشتركة المقتضية له.

وقيل: وعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير

__________________

(١) أي: غفلة.

(٢) ضنّ بالشيء: بخل.

٩

قتال، ويريحوهم من جوارهم، فكان كما قال، فاستدلّوا بذلك على صدق الرسول.

( وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ ) الخروج من أوطانهم على ما اقتضته حكمته( لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا ) بالقتل والسبي، كما فعل بإخوانهم بني قريظة( وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ ) استئناف معناه: إنّهم إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة.

( ذلِكَ ) إشارة إلى ما ذكر من عذاب الدنيا، وما كانوا بصدده من الفساد، وما هو معدّ لهم في الآخرة. أو إلى الأخير.( بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ) خالفوهما( وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) فيعاقبهم على مشاقّتهم أشدّ العقاب.

( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) )

روي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين محاصرة حصونهم أمر بقطع نخيلهم وتحريقها، فنادوه: يا محمّد قد كنت تنهى عن الفحشاء، فما بالك تقطع النخل؟ ووقع في أنفس بعض المؤمنين شيء من ذلك. فأنزل الله سبحانه :

( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ) محلّ «ما» نصب بـ «قطعتم»، أي: أيّ شيء قطعتم من نخلة. فعلة، وياؤها عن واو، كالديمة. من اللون، ويجمع على ألوان. والمراد ضروب النخل وأنواعها. وقيل: من اللين. ومعناها: النخلة الكريمة، مثل العجوة والبرنية. وجمعها: لين وأليان. وعلى هذا تخصيصها بالقطع ليكون غيظ اليهود أشدّ.

( أَوْ تَرَكْتُمُوها ) الضمير لـ «ما». وتأنيثه لأنّه مفسّر باللينة.( قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ ) فبأمره( وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ ) علّة لمحذوف، أي: وفعلتم، أو وأذن لكم في القطع ليجزيهم على فسقهم بما غاظهم منه، وضاعف لهم حسرة. وفيه دليل على جواز هدم ديار الكفّار، وقطع أشجارهم، زيادة لغيظهم.

١٠

( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) )

روي: أنّ بعض المسلمين طلبوا القسمة في أموال بني النضير، فنزلت:( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ ) وما أعاده عليه، بمعنى: صيّره له أو ردّه عليه، فإنّه كان حقيقا

١١

بأن يكون له، لأنّه تعالى خلق الناس لعبادته، وخلق ما خلق لهم ليتوسّلوا به إلى طاعته، فهو جدير بأن يكون للمطيعين.( مِنْهُمْ ) من بني النضير، أو من جميع الكفرة( فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ) فما أجريتم على تحصيله. من الوجيف، وهو سرعة السير.( مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ) ما يركب من الإبل غلّب فيه كما غلّب الراكب على راكبه.

والمعنى: وما تعبتم عليه بركض الخيل والركاب وعدوهما، وإنّما مشيتم إليه على أرجلكم. وذلك لأنّ قرى بني النضير كانت على ميلين من المدينة، فمشوا إليها رجالا غير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه ركب حمارا، وقيل: جملا، ولم يجر قتال، ولذلك قسّم الفيء بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منه شيئا، إلّا ثلاثة كانت بهم حاجة.

( وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ) وعلى ما في أيديهم، بقذف الرعب في قلوبهم. فالأمر فيه مفوّض إليه، يضعه حيث يشاء. يعني: أنّه لا يقسّم قسمة الغنائم الّتي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهرا( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فيفعل ما يريد تارة بالوسائط الظاهرة، وتارة بغيرها.

ثمّ أمر رسوله أن يضع الفيء حيث يضع الخمس من الغنائم، مقسوما على الأقسام الستّة، فقال :

( ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) من أموال الكفّار. وهذا بيان للأوّل، ولذلك لم يعطف عليه.( فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) من أهل قرابته، وهم بنو هاشم( وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) منهم، لأنّ التقدير: ولذي قرباه، ويتامى أهل بيته، ومساكينهم، وابن السبيل منهم. ويؤيّده ما روى المنهال بن عمرو، عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: «قلت: قوله:( وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) قال: هم قربانا، ومساكيننا، وأبناء سبيلنا».

١٢

وقال فقهاء العامّة: هم يتامى الناس عامّة، وكذلك المساكين وأبناء السبيل.

وقد روى محمد بن مسلم، عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال: «كان أبي يقول: لنا سهم الرسول وسهم ذي القربى، ونحن شركاء الناس فيما بقي».

وروي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: «نحن قوم فرض الله طاعتنا، ولنا الأنفال، ولنا صفو المال».

يعني: ما كان يصطفى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فره الدوابّ، وحسان الجواري، والدرّة الثمينة، والشيء الّذي لا نظير له. والشروط المعتبرة في الخمس وكيفيّة تقسيمه قد مرّ في سورة الأنفال.

( كَيْ لا يَكُونَ ) أي: لئلّا يكون الفيء الّذي حقّه أن يعطى الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها. وقرأ هشام بالتاء.( دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ) ما يتداوله الأغنياء ويدور بينهم، يتكاثرون به، فلا يصيب الفقراء منه، كما كان في الجاهليّة، فإنّ الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة، لأنّهم أهل الرئاسة والدولة والغلبة، وكانوا يقولون: من عزّ(١) بزّ. وهذا الخطاب للمؤمنين، دون الرسول وأهل بيتهعليهم‌السلام .

قال الكلبي: نزلت في رؤساء المسلمين قالوا له: يا رسول الله خذ صفيّك والربع، ودعنا والباقي، فهكذا كنّا نفعل في الجاهليّة. فلمّا نزلت هذه الآية قالت الصحابة: سمعا وطاعة لأمر الله وأمر رسوله.

وقرأ هشام: دولة بالرفع، على «كان» التامّة، أي: كيلا يقع دولة جاهليّة.

( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ ) وما أعطاكم من الفيء، أو من الأمر( فَخُذُوهُ ) لأنّه حلال لكم. أو فتمسّكوا به، لأنّه واجب الطاعة.( وَما نَهاكُمْ عَنْهُ ) عن أخذه، أو عن إتيانه( فَانْتَهُوا ) عنه( وَاتَّقُوا اللهَ ) في مخالفة رسوله( إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) لمن خالفه. والأجود أن يكون الحكم عامّا في كلّ ما أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونهى عنه، وأمر الفيء داخل في عمومه وإن نزل في آية الفيء.

__________________

(١) أي: من غلب سلب.

١٣

وروى زيد الشحّام، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «ما أعطى الله نبيّا من الأنبياء شيئا إلّا وقد أعطى محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال لسليمان:( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (١) .

وقال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ».

وفي هذه الآية دلالة على أنّ تدبير الأمّة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى الأئمّة القائمين مقامه. ولهذا قسّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أموال خيبر، ومنّ عليهم في رقابهم، وكذا منّ على أهل مكّة، وأجلى بني النضير وبني قينقاع، وأعطاهم شيئا من المال، وقتل رجال بني قريظة، وسبى ذراريهم ونساءهم، وقسّم أموالهم على المهاجرين، كما قال اللهعزوجل :

( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ ) بدل من( لِذِي الْقُرْبى ) وما عطف عليه، فإنّ الرسول لا يسمّى فقيرا، لترفّعه عن هذه التسمية، ولقوله: «وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ »( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ ) فإنّ كفّار مكّة أخرجوهم وأخذوا أموالهم( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ) حال مقيّدة لإخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم( وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) بأنفسهم وأموالهم( أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) الّذين ظهر صدقهم في إيمانهم.

قال الزجّاج: بيّن سبحانه من المساكين الّذين لهم الحقّ بقوله:( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ ) . ثمّ ثنّى سبحانه بوصف الأنصار ومدحهم، حتّى طابت أنفسهم عن الفيء، فقال :

( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ ) عطف على «المهاجرين». والمراد بهم الأنصار الّذين لزموا المدينة والإيمان، وتمكّنوا فيهما. وقيل: المعنى: تبوّؤا دار الهجرة ودار الإيمان. فحذف المضاف من الثاني، والمضاف إليه من الأوّل، وعوّض عنه اللام. أو تبوّؤا الدار وأخلصوا الإيمان، كقوله: علفتها تبنا وماء باردا. وقيل :

__________________

(١) ص: ٣٩.

١٤

سمّى المدينة بالدار والإيمان، لأنّها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان.( مِنْ قَبْلِهِمْ ) من قبل هجرة المهاجرين. وقيل: قبل إيمان المهاجرين. والمراد به أصحاب ليلة العقبة، وهم سبعون رجلا بايعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حرب الأحمر والأبيض.

( يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ) ولا يثقل عليهم، لأنّهم أحسنوا إليهم، وأسكنوهم دورهم، وأشركوهم في أموالهم( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ ) في أنفسهم( حاجَةً ) ما يحملهم الاحتياج عليه، كالطلب والحزازة والحسد والغيظ( مِمَّا أُوتُوا ) ممّا أعطي المهاجرون من الفيء وغيره. يعني: نفوسهم لم تتبع ما أعطي المهاجرون، ولم تطمح إلى شيء منه يحتاج إليه.

( وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ) ويقدّمون المهاجرين على أنفسهم، حتّى إنّ من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة وزوّجها من أحدهم( وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ) خلّة. من خصاص البيت، وهي فرجه. والجملة في موضع الحال، أي: مفروضة خصاصتهم.

روي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم أموال بني النضير على المهاجرين، ولم يعط الأنصار إلّا ثلاثة محتاجين: سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم: إن شئتم قسّمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم يقسّم لكم شيء من الغنيمة. فقالت الأنصار: بل نقسّم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها. فنزلت هذه الآية.

( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ) ومن غلب ما أمرته به نفسه ـ من حبّ المال، وبغض الإنفاق ـ بتوفيق الله سبحانه ولطفه، وخالف هواها بمعونته( فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الفائزون بالثناء العاجل، والثواب الآجل.

وقيل: من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه، ولم يمنع شيئا أمره الله بأدائه، فقد وقي

١٥

شحّ نفسه.

وعن سعيد بن جبير: شحّ النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة.

( وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) عطف أيضا على المهاجرين، أي: هم الّذين هاجروا بعدهم حين قوي الإسلام. أو التابعون بإحسان. وهم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة. ولذلك قيل: الآية قد استوعبت جميع المؤمنين.

( يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ) أي: لإخواننا السابقين في الدين( وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا ) حقدا لهم( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) لطفا منك( رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) فحقيق بأن تجيب دعاءنا.

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ

١٦

قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) )

ولـمّا وصف سبحانه المهاجرين الّذين هاجروا الديار والأوطان، ثمّ مدح الأنصار الّذين تبوّؤا الدار والإيمان، ثمّ ذكر التابعين بإحسان، وما يستحقّونه من النعيم في الجنان، عقّب ذلك بذكر المنافقين وما أسرّوه من الكفر والعصيان، فقال :

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) يريد الّذين بينهم وبينهم أخوّة الكفر أو الصداقة والموالاة( لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ ) من دياركم( لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ) في قتالكم أو خذلانكم مساعدين لكم( وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ ) في قتالكم( أَحَداً أَبَداً ) أي: من رسول الله والمسلمين إن حملنا عليه. أو في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة.( وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ) لنعاوننّكم( وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) في مواعيدهم لليهود. يعني: لا يفعلون ذلك، كما قال :

( لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ) وكان كذلك، فإنّ ابن أبيّ وأصحابه راسلوا بني النضير بذلك ثمّ أخلفوهم. وفيه دليل على صحّة النبوّة وإعجاز القرآن.( وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ ) أي: على التقدير والفرض، كقوله:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (١) . فلا ينافي قوله:( لا يَنْصُرُونَهُمْ ) .( لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ) أي: ليهز منّ الله اليهود( ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) لا ينفعهم نصرة المنافقين. أو ليهزمنّ المنافقون ثمّ لا ينصرون بعد ذلك، أي: يهلكهم الله ولا ينفعهم نفاقهم، لظهور كفرهم. إذ ضمير

__________________

(١) الزمر: ٦٥.

١٧

الفعلين يحتمل أن يكون لليهود أو للمنافقين.

ثمّ خاطب المؤمنين بقوله:( لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً ) مصدر للفعل المبنيّ للمفعول، أي: أشدّ مرهوبيّة في صدورهم. وهذا دلالة على نفاقهم، يعني: أنّهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله وأنتم أهيب( فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ) فإنّ استبطان رهبتكم سبب لإظهار رهبة الله( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) لا يعلمون عظمة الله حتّى يخشوه حقّ خشيته، ويعلموا أنّه الحقيق بأن يخشى.

( لا يُقاتِلُونَكُمْ ) اليهود والمنافقون، أي: لا يقدرون على مقاتلتكم( جَمِيعاً ) مجتمعين متساندين( إِلَّا ) كائنين( فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ ) بالدروب والخنادق( أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ ) يرمونكم دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم، لفرط رهبتهم. وقرأ ابن كثير وابو عمرو: جدار. وأمال أبو عمرو فتحة الدال.

( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) أي: ليست رهبتهم منكم لضعفهم وجبنهم، فإنّه يشتدّ بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا، بل لقذف الله الرعب في قلوبهم، وتأييد الله ونصرته معكم. ولأنّ الشجاع يجبن، والعزيز يذلّ، إذا حارب الله ورسوله.

( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً ) مجتمعين متّفقين في الظاهر( وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) متفرّقة، لافتراق دواعيهم وأهوائهم، واختلاف آرائهم ومقاصدهم، لأنّ بينهم إحنا وعداوات، خذلانا وتخلية من الله، فلا يتعاضدون حقّ التعاضد، ولا يرمون عن قوس واحدة.

( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) ما فيه صلاحهم، وأنّ تشتّت القلوب يوهن قواهم. وفيه تجسير للمؤمنين، وتشجيع لقلوبهم على قتالهم.

( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي: مثل اليهود كمثل أهل بدر أو بني قينقاع إن صحّ أنّهم أخرجوا قبل النضير. أو المهلكين من الأمم الماضية.( قَرِيباً ) في زمان قريب. وانتصابه بـ «مثل»، على تقدير: كوجود مثل.( ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ ) سوء

١٨

عاقبة كفرهم في الدنيا، كالقتل والسبي والإجلاء( وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) في الآخرة.

( كَمَثَلِ الشَّيْطانِ ) أي: مثل المنافقين في إغوائهم اليهود على القتال، ووعدهم إيّاهم النصر، ثمّ متاركتهم وإخلافهم، كمثل الشيطان( إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ ) أغراه على الكفر بكيده إغراء الآمر المأمور.

وعن ابن عبّاس: هو عابد في بني إسرائيل اسمه برصيصا، عبد الله زمانا من الدهر حتّى كان يؤتى بالمجانين يداويهم، ويعوّذهم فيبرءون على يده. وأنّه أتي بامرأة في شرف قد جنّت، وكان لها إخوة فأتوه بها، فكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتّى وقع عليها فحملت، فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها.

فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتّى لقي أحد إخوتها، فأخبره بالّذي فعل الراهب، وأنّه دفنها في مكان كذا، ثمّ أتى بقيّة إخوتها رجلا رجلا، فذكر ذلك له.

فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول: والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئا يكبر عليّ ذكره.

فذكر بعضهم لبعض حتّى بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك والناس فاستنزلوه، فأقرّ لهم بالّذي فعل، فأمر به فصلب.

فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشيطان، فقال: أنا الّذي ألقيتك في هذا، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك، أخلّصك ممّا أنت فيه؟

قال: نعم.

قال: اسجد لي سجدة واحدة.

فقال: كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة؟

فقال: أكتفي منك بالإيماء.

فأومى له بالسجود، فكفر بالله، وقتل الرجل. فهو قوله:( كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ ) .

( فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ) أي: تبرّأ منه مخافة أن يشاركه في

١٩

العذاب، كما قال:( إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ ) ولم ينفعه ذلك.

( فَكانَ عاقِبَتَهُما ) عاقبة الفريقين الداعي والمدعوّ، من الشيطان ومن أغواه من المنافقين واليهود( أَنَّهُما فِي النَّارِ ) أنّهما معذّبان في النار( خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ ) فضرب الله تعالى هذه القصّة لبني النضير حين اغترّوا بالمنافقين، ثمّ تبرّؤا منهم عند الشدّة وأسلموهم. وقيل: المراد بالإنسان أبو جهل، قال له إبليس يوم بدر:( لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ ) إلى قوله:( إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ) (١) . قيل: أراد بالشيطان والإنسان اسم الجنس لا المعهود، فإنّ الشيطان أبدا يدعو الإنسان إلى الكفر، ثمّ يتبرّأ منه وقت الحاجة.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) )

ثمّ رجع إلى موعظة المؤمنين، فقال:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ ) من عمل صالح ينجيه، أو طالح يوبقه ويرديه( لِغَدٍ ) ليوم القيامة.

سمّاه غدا لدنوّه، كاليوم الّذي يلي يومك. أو لأنّ الدنيا كيوم، والآخرة كغده.

وتنكيره للتعظيم، ولإبهام أمره، كأنّه قيل: لغد لا يعرف كنهه لعظمته. وأمّا تنكير النفس فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدّمن للآخرة، كأنّه قال: فلتنظر نفس واحدة في ذلك.

( وَاتَّقُوا اللهَ ) تكرير للتأكيد، أو الأوّل في أداء الواجبات، لأنّه مقرون

__________________

(١) الأنفال: ٤٨.

٢٠

بالعمل، والثاني في ترك المحارم، لاقترانه بما يجري مجرى الوعيد، وهو قوله:( إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ ) تركوا أداء حقّ الله( فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) فجعلهم ناسين لها بالخذلان حتّى لم يسمعوا ما ينفعها، ولم يفعلوا ما يخلّصها. أو فأراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم. أو حرّمهم حظوظهم من الخير والثواب.( أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) الكاملون في الفسوق. وهم الكفّار المصرّون على كفرهم.

( لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤) )

ثمّ بيّن سبحانه ضعة الكافرين ورفعة المؤمنين، فقال:( لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ ) أي: الّذين استمهنوا نفوسهم فاستحقّوا النار( وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ) والّذين استكملوا نفوسهم فاستأهلوا الجنّة. واحتجّ به أصحابنا والشافعيّة على أنّ المسلم

٢١

لا يقتل بالكافر.( أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ ) بالنعيم المقيم.

ثمّ عظّم سبحانه حال القرآن وجلالة قدره، فقال:( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ ) تمثيل وتخييل، كما مرّ في قوله:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ) (١) . ولذلك عقّبه بقوله:( لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً ) متشقّقا( مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ ) إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله الأخر، فإنّها في مواضع من التنزيل( نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .

والمعنى: لو كان الجبل ممّا ينزل عليه القرآن ويشعر به، مع غلظه وجفاء طبعه، وكبر جسمه، لخشع لمنزله، فانصدع من خشيته تعظيما لشأنه، فالإنسان أحقّ بهذا لو عقل الأحكام الّتي فيه. والمراد توبيخ الإنسان على عدم تخشّعه عند تلاوة القرآن، لقساوة قلبه، وقلّة تدبّره.

ثمّ أخبر سبحانه بربوبيّته وعظمته، فقال:( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) أي: هو المستحقّ للعبادة الّذي لا تحقّ العبادة إلّا له( عالِمُ الْغَيْبِ ) ما غاب عن الحسّ، من الجواهر القدسيّة وأحوالها( وَالشَّهادَةِ ) وما حضر له وشاهد من الأجرام وأعراضها( هُوَ الرَّحْمنُ ) المنعم على جميع خلقه فعلا وقوّة( الرَّحِيمُ ) بالمؤمنين.

( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) كرّره للتأكيد والمبالغة( الْمَلِكُ ) السيّد المالك لجميع الأشياء الّذي له التصرّف فيها على وجه ليس لأحد منعه منه. وقيل: هو الواسع القدرة.( الْقُدُّوسُ ) البليغ في النزاهة عمّا يوجب نقصانا. ونظيره: السبّوح بناء ومعنى.( السَّلامُ ) ذو السلامة من كلّ نقص وآفة. أو الّذي سلم العباد من ظلمه. أو من عنده ترجى السلامة. ومنه: دار السلام. مصدر وصف به للمبالغة في وصف كونه سليما من النقائص، أو في إعطائه السلامة.

( الْمُؤْمِنُ ) واهب الأمن. أو الّذي أمن أولياؤه عذابه( الْمُهَيْمِنُ ) الرقيب

__________________

(١) الأحزاب: ٧٢.

٢٢

على كلّ شيء، الحافظ له. وعن ابن عبّاس والضحّاك والجبائي: الأمين الّذي لا يضيع لأحد عنده حقّ. مفيعل من الأمن، قلبت همزته هاء.( الْعَزِيزُ ) المنيع الّذي لا يرام، ولا يمتنع عليه مرام( الْجَبَّارُ ) القاهر الّذي جبر خلقه على ما أراد. أي: أجبره. أو الّذي جبر حال خلقه، بمعنى: أصلحه.( الْمُتَكَبِّرُ ) الّذي تكبّر عن كلّ ما يوجب حاجة أو نقصانا. وقيل: المتكبّر عن ظلم عباده.( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يشركون به من الأصنام، إذ لا يشاركه في شيء من ذلك.

( هُوَ اللهُ الْخالِقُ ) المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته( الْبارِئُ ) الموجد لها بريئا من التفاوت. أو المميّز بعضها من بعض بالأشكال المختلفة.( الْمُصَوِّرُ ) الموجد لصورها وكيفيّاتها كما أراد( لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) نحو: الله، الرحمن، الرحيم، القادر، العالم، الحيّ، القيّوم، وغيرها، فإنّها دالّة على محاسن المعاني( يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) أي: ينزّهه جميع الأشياء عن النقائص كلّها.

فالحيّ يصفه بالتنزيه، والجماد يدلّ على تنزيهه.( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) الجامع للكمالات بأسرها، فإنّها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم.

عن أبي هريرة: سألت حبيبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اسم الله الأعظم، فقال: «عليك بآخر الحشر، فأكثر قراءته».

فأعدت عليه فأعاد عليّ، فأعدت عليه فأعاد عليّ.

وروى أيضا سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اسم الله الأعظم في ستّ آيات في آخر سورة الحشر».

٢٣
٢٤

(٦٠)

سورة الممتحنة

مدنيّة. وهي ثلاث عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ سورة الممتحنة، كان المؤمنون والمؤمنات له شفعاء يوم القيامة».

أبو حمزة الثمالي، عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة الممتحنة في فرائضه ونوافله، امتحن الله قلبه للإيمان، ونوّر له بصره، ولا يصيبه فقر أبدا، ولا جنون في بدنه ولا في ولده».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ

٢٥

بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) )

ولـمّا ذكر سبحانه في سورة الحشر الكفّار والمنافقين، افتتح هذه السورة بذكر تحريم موالاتهم، وإيجاب معاداتهم، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) توصلون إليهم المودّة بالمكاتبة. والباء مزيدة مؤكّدة للتعدّي، مثلها في( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (١) . أو ثابتة على أنّ مفعول «تلقون» محذوف، معناه: تلقون إليهم أخبار رسول الله بسبب المودّة الّتي بينكم وبينهم.

والجملة حال من فاعل «لا تتّخذوا». أو صفة لـ «أولياء» جرت على غير من هي له.

ولا حاجة فيها إلى إبراز الضمير، لأنّه مشروط في الاسم دون الفعل.

روي: أنّ مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة، أتت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة وهو يتجهّز لفتح مكّة، فقال لها: أمسلمة جئت؟

قالت: لا.

قال: أفمهاجرة جئت؟

قالت: لا.

قال: فما جاء بك؟

قالت: كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي ـ يعني: قتلوا يوم بدر ـ فاحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني.

قال: فأين أنت من شبّان مكّة؟ وكانت مغنّية نائحة.

__________________

(١) البقرة: ١٩٥.

٢٦

قالت: ما طلب منّي بعد وقعة بدر.

فحثّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها بني عبد المطّلب، فكسوها وحمّلوها وزوّدوها.

فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، وأعطاها عشرة دنانير، وكساها بردا، واستحملها كتابا إلى أهل مكّة، نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكّة: اعلموا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريدكم، فخذوا حذركم.

فخرجت سارة. ونزل جبرئيل بالخبر، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاعليه‌السلام وعمّارا والمقداد وأبا مرثد وعمر وطلحة والزبير، وكانوا فرسانا، وقال: انطلقوا حتّى تأتوا روضة(١) خاخ، فإنّ بها ظعينة(٢) معها كتاب من حاطب إلى أهل مكّة، فخذوه منها وخلّوها، فإن أبت فاضربوا عنقها. فأدركوها فجحدت وحلفت. فهمّوا بالرجوع، فقال عليّعليه‌السلام : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله. وسلّ سيفه وقال: أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك. فأخرجته من عقاص(٣) شعرها.

وروي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّن جميع الناس يوم الفتح إلّا أربعة، هي أحدهم.

فاستحضر رسول الله حاطبا وقال: ما حملك عليه؟

فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن كنت امرءا ملصقا في قريش، وروي: غريرا فيهم ـ أي: غريبا ـ ولم أكن من أنفسها، وكلّ من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكّة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي، فأردت أن اتّخذ عندهم يدا، وقد علمت أنّ الله تعالى ينزل عليهم بأسه، وأنّ كتابي لا يغني عنهم شيئا. فصدّقه

__________________

(١) خاخ: موضع بين الحرمين بقرب حمراء الأسد من المدينة. معجم البلدان ٢: ٣٣٥.

(٢) الظعينة: الزوجة أو المرأة ما دامت في الهودج أو عموما.

(٣) عقاص جمع عقيصة، وهي ضفيرة الشعر، أي: ما شدّته من شعرها في قفاها.

٢٧

وقبل عذره.

فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق.

فقال: وما يدريك يا عمر، لعلّ الله قد اطّلع على أهل بدر فغفر لهم، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

فقال عمر: الله ورسوله أعلم.

فنهى الله سبحانه المؤمنين عن موالاتهم الكافرين، وأوجب معاداتهم إيّاهم، بقوله:( لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) .

( وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ ) وهو حال من فاعل أحد الفعلين. والحقّ الإسلام.

( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ) أي: من مكّة. وهو حال من «كفروا».

أو استئناف لبيان كفرهم وعتوّهم.( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ ) تعليل لـ «يخرجون» أي: يخرجونكم لإيمانكم بالله. وفيه تغليب المخاطب، والالتفات من التكلّم إلى الغيبة، للدلالة على ما يوجب الإيمان.

( إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ ) متعلّق بـ «لا تتّخذوا» يعني: تتولّوا أعدائي إن كنتم خرجتم عن أوطانكم( جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي ) علّة للخروج، وعمدة للتعليق. وجواب الشرط محذوف دلّ عليه «لا تتّخذوا». والمعنى: إن كان غرضكم في خروجكم وهجرتكم الجهاد وطلب رضائي، فأوفوا خروجكم حقّه من معاداتهم، ولا تلقوا إليهم بالمودّة، ولا تتّخذوهم أولياء.

( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) بدل من «تلقون» أو استئناف. ومعناه: أيّ طائل لكم في إسرار المودّة، أو الإخبار بسبب المودّة.( وَأَنَا أَعْلَمُ ) منكم( بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ ) أي: وقد علمتم أنّ الإخفاء والإعلان سيّان في علمي لا تفاوت بينهما، وأنا مطلع رسولي على ما تسرّون. وقيل: «أعلم» مضارع، والباء مزيدة، و «ما» مصدريّة.

٢٨

( وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ ) أي: يفعل الاتّخاذ والإسرار( فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ) أخطأ طريق الحقّ والصواب.

( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ ) يظفروا بكم( يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ) خالصي العداوة، ولا يكونوا لكم أولياء كما أنتم، ولا ينفعكم إلقاء المودّة إليهم( وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ) بما يسوؤكم، كالقتل والشتم( وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ) وتمنّوا ارتدادكم. فإذن مودّة أمثالهم ومناصحتهم خطأ عظيم منكم، ومغالطة لأنفسكم.

ومجيئه بلفظ الماضي للإشعار بأنّهم ودّوا أن يلحقوا بكم مضارّ الدنيا والدين جميعا، من قتل الأنفس، وتمزيق الأعراض، وردّكم كفّارا.

( لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ ) قراباتكم( وَلا أَوْلادُكُمْ ) الّذين توالون المشركين لأجلهم، وتتقرّبون إليهم محاماة عليهم( يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ) يفرّق بينكم وبين أقاربكم وأولادكم( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ) (١) الآية. فما لكم ترفضون حقّ الله اليوم لمن يفرّ منكم غدا.( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

وقرأ حمزة والكسائي بالتشديد وكسر الصاد وفتح الفاء. وابن عامر: يفصّل على البناء للمفعول مع التشديد، وهو «بينكم». وعاصم: يفصل.

__________________

(١) عبس: ٣٤.

٢٩

( قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) )

ثمّ ضرب سبحانه لهم إبراهيمعليه‌السلام مثلا في ترك موالاة الكفّار، فقال:( قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ ) قدوة( حَسَنَةٌ ) وهو اسم لـما يؤتسى به، أي: ما تأتسون به وتتّخذونه سنّة تستنّون بها. والمعنى: قد كان فيهم مذهب حسن وطريق مرضيّ بأن يؤتسى به ويتبع أثره.( فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) صفة ثانية. أو خبر «كان» و «لكم» لغو. أو حال من المستكن في «حسنة». أو صلة لها، لا لـ «أسوة» لأنّها وصفت.

( إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ ) ظرف لخبر «كان»( إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ ) فلا نواليكم. جمع بريء، كظريف وظرفاء.( وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ ) أي: بدينكم أو بمعبودكم، أو بكم وبه، فلا نعتدّ بشأنكم وآلهتكم( وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ) أي: سبب العداوة والبغضاء بيننا وبينكم ليس إلّا كفركم بالله، فما دام هذا السبب قائما كانت العداوة قائمة، حتّى إن أزالوه بالإيمان بالله وحده انقلبت العداوة والبغضاء ألفة ومحبّة.

( إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ) لعمّه الّذي بمنزلة أبيه في التربية( لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ) استثناء من قوله: «أسوة حسنة» فإنّ استغفاره لأبيه ـ أي: عمّه ـ الكافر ليس ممّا ينبغي أن يأتسوا به، فإنّه كان لموعدة وعدها إيّاه، فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله تبرّأ منه( وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ) إذا أراد عقابك، ولا يمكنني دفع ذلك عنك. وهذا من تمام الاستثناء، ولا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أجزائه.

( رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا ) فوّضنا أمرنا إليك( وَإِلَيْكَ أَنَبْنا ) وإلى طاعتك مرجعنا

٣٠

( وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) وإلى حكمك المرجع. وهذا المنادي متّصل بما قبل الاستثناء، أو أمر من الله للمؤمنين بأن يقولوه تتميما لـما وصّاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفّار.

( رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) بأن تسلّطهم علينا تخلية، فيفتنونا بعذاب لا نتحمّله( وَاغْفِرْ لَنا ) ما فرط منّا( رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ ) الّذي لا يغالب( الْحَكِيمُ ) الّذي لا يفعل إلّا الحكمة والصواب. ومن كان كذلك كان حقيقا بأن يجير المتوكّل، ويجيب الداعي ولا يخيبه.

( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) كرّره للمبالغة، ولمزيد الحثّ على التأسّي بإبراهيم وأتباعه. وأبدل قوله:( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) إبدالا من «لكم»، فإنّه يدلّ على أنّه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسّي بهم، وأنّ تركه مؤذن بسوء العقيدة. ولذلك عقّبه بقوله:( وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) فإنّه جدير بأن يوعد به الكفرة، فإنّ معناه: ومن يعرض عن هذا الاقتداء بإبراهيم والأنبياء والمؤمنين، فإنّ الله هو الغنيّ عن ذلك، المحمود في جميع أفعاله، فلا يضرّه تولّيه، ولكنّه ضرّ نفسه.

( عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) )

٣١

ولـمّا نزل «لا تتّخذوا» تشدّد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين ومقاطعتهم، فلمّا راى الله منهم الجدّ والصبر على الوجه الشديد، وطول التمنّي للسبب الّذي يبيح لهم الموالاة والمواصلة، رحمهم فوعدهم تيسير ما تمنّوه، فقال :

( عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ) بتوفيق الإسلام.

وذلك حين يسّر فتح مكّة أظفرهم الله بأمنيّتهم، فأسلم قومهم، وتمّ بينهم التحابب والتصافي. و «عسى» وعد من الله على عادات الملوك، حيث يقولون في بعض الحوائج: عسى أو لعلّ، فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك. أو قصد به إطماع المؤمنين.

وروي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوّج أمّ حبيبة، فعند ذلك لانت عريكة أبي سفيان، واسترخت شكيمته في العداوة. وكانت أمّ حبيبة قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبد الله بن أبي جحش إلى الحبشة، فتنصّر وأرادها على النصرانيّة، فأبت وصبرت على دينها. ومات زوجها، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى النجاشي، فخطبهاعليه‌السلام ، وساق عنه إليها المهر أربعمائة دينار. وبلغ ذلك أباها فقال: ذلك الفحل لا يقدع(١) أنفه.

( وَاللهُ قَدِيرٌ ) على تقليب القلوب من العداوة إلى المحبّة، وتسهيل أسباب المودّة( وَاللهُ غَفُورٌ ) لذنوب عباده( رَحِيمٌ ) بهم إذا تابوا وأسلموا. أو غفور رحيم لـما فرط منكم من موالاتهم من قبل، ولما بقي في قلوبكم من ميل الرحم.

( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ) أي: لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء، لأنّ قوله:( أَنْ تَبَرُّوهُمْ ) بدل من «الّذين».

( وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ) وتفضوا إليهم بالقسط، أي: العدل. والمعنى: لا ينهاكم الله

__________________

(١) أي: لا يضرب أنفه ولا يكفّ.

٣٢

عن مبرّة هؤلاء، وإنّما ينهاكم عن تولّي هؤلاء.( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) العادلين.

وهذا أيضا رحمة لهم، لتشدّدهم وجدّهم في العداوة متقدّمة لرحمته، بتيسير إسلام قومهم، حيث رخّص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين وإخراجهم من ديارهم.

وقيل: أراد بهم خزاعة، وكانوا صالحوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن لا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه.

وعن مجاهد: هم النساء والصبيان.

وقيل: قدمت على أسماء بنت أبي بكر أمّها قتيلة بنت عبد العزّى وهي مشركة بهدايا، فلم تقبلها، ولم تأذن لها بالدخول، فنزلت. فأمرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تدخلها، وتقبل منها، وتكرمها، وتحسن إليها.

وقيل: إنّ المسلمين استأمروا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يبرّوا أقرباءهم من المشركين، وذلك قبل أن يؤمروا بقتال جميع المشركين، فنزلت هذه الآية.

وعن مجاهد: هي منسوخة بآية(١) القتال.

والّذي عليه الإجماع أنّ برّ الرجل من يشاء من أهل الحرب ـ قرابة كان أو غير قرابة ـ ليس بمحرّم. وإنّما الخلاف في إعطائهم مال الزكاة والفطرة والكفّارات، فلم يجوّزه أصحابنا، والعامّة اختلفوا فيه. وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به، ويتحاموا ظلمهم، مترجمة عن حال مسلم يجترئ على ظلم أخيه المسلم.

( إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ ) كمشركي مكّة، فإنّ رؤساءهم سعوا في إخراج المؤمنين، وأتباعهم عاونوا رؤساءهم على الإخراج( أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ) بدل من «الّذين» بدل الاشتمال ،

__________________

(١) التوبة: ٥.

٣٣

أي: ينهاكم الله عن أن تولّوهم وتوادّوهم بالمكاتبة وغيرها من أسباب التوادّ.

( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ ) وينصرهم( فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) لوضعهم الولاية في غير موضعها.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) )

عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا صالح بالحديبية مشركي مكّة، على أنّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم، ومن أتى أهل مكّة من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو لهم ولم يردّوه عليه، وكتبوا بذلك كتابا وختموا عليه. فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلميّة مسلمة بعد الفراغ من الكتاب والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحديبية. فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم ـ وقال مقاتل: هو صيفي بن الراهب ـ في طلبها، وكان كافرا، فقال: يا محمّد اردد عليّ امرأتي، فإنّك قد شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا، وهذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد. فنزلت الآية بيانا لأنّ الشرط إنّما كان

٣٤

في الرجال دون النساء.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ ) فاختبروهنّ بما يغلب على ظنّكم موافقة قلوبهنّ لسانهنّ في الإيمان( اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ ) فإنّه المطّلع على ما في قلوبهنّ، فلا سبيل لكم إلى ما تطمئنّ به النفس ويثلج به الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهنّ، فإنّ ذلك ممّا استأثر به علّام الغيوب، وأنّ ما يؤدّي إليه الامتحان من العلم كاف لكم في ذلك، وأنّ تكليفكم لا يعدوه.

( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ ) العلم الّذي يمكنكم تحصيله، وهو الظنّ الغالب بالحلف وظهور الأمارات. وإنّما سمّاه علما إيذانا بأنّه كالعلم في وجوب العمل به.

( فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ) أي: إلى أزواجهنّ الكفرة، لقوله:( لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ ) والتكرار للمبالغة. أو الأولى لحصول الفرقة، والثانية للمنع عن استئناف العقد. وفيه دلالة على وقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة، وإن لم يطلّق المشرك.

( وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ) ما دفعوا إليهنّ من المهور. وذلك لأنّ صلح الحديبية جرى على أنّ من جاءنا منكم رددناه، فلمّا تعذّر عليه ردّهنّ لورود النهي عنه لزمه ردّ المهر. فاستحلفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق، وتزوّجها عمر.

( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ) أيّها المسلمون( أَنْ تَنْكِحُوهُنَ ) فإنّ الإسلام حال بينهنّ وبين أزواجهنّ الكفّار( إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) شرط إيتاء المهر في نكاحهنّ إيذانا بأنّ ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر، وإشعارا بأنّ المهر أجر البضع، ووجب على الامام أو نائبه أن يدفع إلى أزواجهنّ من بيت المال ما سلّموهنّ من المهور.

ثمّ نهى المؤمنين عن نكاح الكافرات بقوله:( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ )

٣٥

بما يعتصم به الكافرات من عقد وسبب. جمع عصمة. والمعنى: لا تكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجيّة. وفيه دلالة على عدم جواز العقد على الكافرة، سواء كانت حربيّة أو ذمّيّة، لعموم لفظ الكوافر.( وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ ) من مهور نسائكم اللاحقات بالكفّار( وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ) من مهور أزواجهم المهاجرات.

( ذلِكُمْ ) إشارة إلى جميع ما ذكر في الآية( حُكْمُ اللهِ ) وأمره( يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ) استئناف، أو حال من الحكم على حذف الضمير، أي: يحكمه الله. أو جعل الحكم حاكما على المبالغة.( وَاللهُ عَلِيمٌ ) بجميع الأشياء( حَكِيمٌ ) فيما يفعل، ومن ذلك شرع ما تقتضيه حكمته.

قال الحسن: كان في صدر الإسلام تكون المسلمة تحت الكافر، والكافرة تحت المسلم، فنسخته هذه الآية.

وروي: أنّه لـمّا نزلت الآية أدّى المؤمنون ما أمروا به من أداء مهور المهاجرات إلى أزواجهنّ المشركين، وأبى المشركون أن يؤدّوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهنّ المسلمين، فنزلت :

( وَإِنْ فاتَكُمْ ) وإن سبقكم وانفلت منكم( شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ ) أحد من أزواجكم. وإيقاع «شيء» موقعه للتحقير والمبالغة في التعميم. أو شيء من مهورهنّ.( إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ ) فجاءت عقبتكم: أي: نوبتكم من أداء المهر. شبّه الحكم بأداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء اخرى، بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره.( فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ ) فآتوا أيّها الحكّام من فاتته امرأته من بيت المال أو الغنيمة( مِثْلَ ما أَنْفَقُوا ) مثل مهر المهاجرة، ولا تؤتوه زوجها الكافر.

وقيل: معناه: إن غزوتم فأصبتم من الكفّار عقبى ـ هي الغنيمة ـ فأتوا الزوج الّذي فاتته امرأته إلى الكفّار من رأس الغنيمة ما أنفقه من مهرها.

٣٦

( وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) فإنّ الإيمان به يقتضي التقوى منه.

قيل: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعات عن الإسلام ستّ نسوة: أمّ الحكم بنت أبي سفيان، كانت تحت عياض بن شدّاد الفهري. وفاطمة بنت أبي أميّة، كانت تحت عمر بن الخطّاب، وهي أخت أمّ سلمة.

وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان. وعبدة بنت عبد العزّى بن نضلة، وزوجها عمرو بن عبد ودّ. وهند بنت أبي جهل، كانت تحت هشام بن العاص.

وكلثوم بنت جرول، كانت تحت عمر. فأعطاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهور نسائهم من الغنيمة.

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) )

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة بيعة النساء، بعد أخذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيعة من الرجال، فقال :

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً ) من الأصنام وغيرها( وَلا يَسْرِقْنَ ) مال الأزواج وغيرهم( وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ ) يريد وأد البنات والإسقاط( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ ) .

قيل: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك. فكنّى

٣٧

بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الّذي تلصقه بزوجها كذبا، لأنّ بطنها الّذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الّذي تلده به بين الرجلين.

( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) في حسنة تأمرهنّ بها. والتقييد بالمعروف ـ مع أنّ الرسول لا يأمر إلّا به ـ تنبيه على أنّ طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقّي والاجتناب.

قيل: هذا نهي عن النوح، وتمزيق الثياب، وجزّ الشعر، وشقّ الجيب، وخمش الوجه، والدعاء بالويل. والأصل أنّ المعروف كلّ ما دلّ العقل والسمع على وجوبه أو ندبه. وسمّي معروفا، لأنّ العقل يعترف به من جهة عظم حسنه.

( فَبايِعْهُنَ ) إذا بايعنك بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء.( وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ ) صفوح عنهنّ( رَحِيمٌ ) منعم عليهنّ.

روي: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا فرغ يوم فتح مكّة من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا، وكان عمر أسفل منه، وهند بنت عتبة متنقّبة متنكّرة مع النساء خوفا أن يعرفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئا.

فقالت هند: إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال. وذلك أنّه بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولا تسرقن.

فقالت هند: إنّ أبا سفيان رجل ممسك، وإنّي أصبت من ماله هنات، فلا أدري أيحلّ لي أم لا؟

فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال.

فضحك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرفها، فقال لها: فإنّك لهند بنت عتبة؟

قالت: نعم، فاعف عمّا سلف يا نبيّ الله، عفا الله عنك.

٣٨

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولا تزنين.

فقالت: أو تزني الحرّة؟

فتبسّم عمر بن الخطّاب لـما جرى بينه وبينها في الجاهليّة.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولا تقتلنّ أولادكنّ.

فقالت: ربّيناهم صغارا، وقتلتموهم كبارا، فأنتم وهم أعلم. وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يوم بدر.

فضحك عمر حتّى استلقى. وتبسّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولـمّا قال: ولا تأتين ببهتان.

قالت هند: والله إنّ البهتان قبيح، وما تأمرنا إلّا بالرشد ومكارم الأخلاق.

ولـمّا قال: ولا يعصينك في معروف.

قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.

وروى الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: أن لا يشركن بالله شيئا، وما مسّت يد رسول الله يد امرأة قطّ إلّا يد امرأة يملكها. رواه البخاري في الصحيح(١) .

وروي: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده، ثمّ غمسن أيديهنّ فيه.

وقيل: إنّه كان يبايعهنّ من وراء الثوب. عن الشعبي.

والوجه في بيعة النساء مع أنّهنّ لسن من أهل النصرة بالمحاربة: هو أخذ العهد عليهنّ بما يصلح من شأنهنّ في الدين والأنفس والأزواج، وكان ذلك في صدر الإسلام، ولئلّا ينفتق بهنّ فتق لـما وضع من الأحكام، فبايعهنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسما لذلك.

__________________

(١) صحيح البخاري ٩: ٩٩.

٣٩

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣) )

روي: أنّ بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنزلت :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) يعني: اليهود. وقيل: عامّة الكفّار.

( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ ) قد يئسوا من أن يكون لهم حظّ في الآخرة، لكفرهم بها، أو لعلمهم بأنّه لا حظّ لهم فيها، لعنادهم الرسول المنعوت في التوراة، المؤيّد بالآيات( كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ ) من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء، أو يثابوا، أو ينالهم خير منهم. وعلى الثاني وضع الظاهر فيه موضع الضمير، للدلالة على أنّ الكفر آيسهم.

وقيل:( مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ ) بيان للكفّار، أي: كما يئس الكفّار الّذين قبروا من خير الآخرة، لأنّهم تبيّنوا قبح حالهم وسوء منقلبهم.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579