تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن7%

تنزيه القران عن المطاعن مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 501

تنزيه القران عن المطاعن
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83050 / تحميل: 4853
الحجم الحجم الحجم
تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن

مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

ملاحظة

هذا الكتاب

نشر الكترونياً وأخرج فنِيّاً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً

قسم اللجنة العلميّة في الشبكة

٢

٣
٤

حياة المؤلِّف

هو قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني.

وهو الذي تلقّبه المعتزلة قاضي القضاة ولا يطلقون هذا اللّقب على سواه ولا يعنون به عند الاطلاق غيره. قرأ على أبي إسحاق بن عياش مدة ثمّ رحل إلى بغداد وأقام عند الشيخ أبي عبد الله مدة مديدة حتّى فاق الأقران وصار فريد دهره.

قال الحاكم وليس تحضرني عبارة تحيط بقدر محله في العلم والفضل فانه الذي فتق علم الكلام ونشر بروده ووضع فيه الكتب الجليلة التي بلغت المشرق والمغرب وضمنها من دقيق الكلام وجليله ما لم يتفق لأحد قبله وطال عمره مواظبا على التدريس والاملاء حتّى طبق الأرض بكتبه وأصحابه وبعد صيته وعظم قدره وإليه انتهت الرئاسة في المعتزلة حتّى صار شيخها وعالمها غير مدافع وصار الاعتماد على كتبه:

وشهرة حاله تغني ( عن الاطناب في الوصف ).

إستدعاه الصاحب إلى الريّ بعد سنة ستين وثلاثمائة فبقي فيها مواظبا على التدريس إلى أن توفي; سنة خمس عشرة أو ست عشرة وأربعمائة وكان الصاحب يقول فيه هو أفضل أهل الأرض ومرة يقول هو أعلم أهل الأرض ويقال أنّ له أربعمائة ألف ورقة مما صنف في كل فنّ :

ومصنفاته أنواع منها في الكلام ككتاب الخلاف والوفاق وكتاب المبسوط وكتاب المحيط. ومنها نوع في الشروح كشرح الاصول وشرح المقالات. ومنها في أصول الفقه كالنهاية والعمدة وشرحه وله كتب في النقض على المخالفين كنقض اللمع ونقض الامامة. ومنها جوابات مسائل وردت عليه كالرازيات

٥

والنيسابوريات. ومنها في الخلاف ككتابه في الخلاف بين الشيخين. ومنها في المواعظ كنصيحة المتفقهة وله كتب في كل فنّ وعلى الجملة فحصر مصنفاته كالمعتذر وهو من أهل الطبقة الحادية عشرة من طبقات المعتزلة ذكر ذلك أحمد بن يحيى المرتضى في كتاب المنية والامل في شرح كتاب الملل والنحل.

الناشر

٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله على نعمه وإحسانه في الدين والدنيا وصلواته على محمّد وآله الطيبين ( أما بعد ) فإنّ أولى ما يتكلّفه المرء في أثارة العلوم ما يعظم النفع به في دينه ودنياه فيعرف كيف يعبد ربّه في الصّلاة والصيام وغيرهما ( وذلك ) بقراءة القرآن وبالانقطاع إلى الله، وكل ذلك لا يتم إلّا بمعرفة معاني ما يقرؤه وما يورده في ادعيته من الأسماء الحسنى إما مفصلا وإما على الجملة فانه تعالى قد أودع القرآن من المواعظ والزواجر وغيرهما ما إذا تأمله المرء وقعت به الكفاية : وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم انه قال لعليّ بن أبي طالب٧ وقد حذره عن اختلاف الأمة بعده : عليكم بكتاب الله فان فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم ما يدعه من جبار إلّا قصمه الله ومن يتبع الهدى في غيره اضله الله وهو حبل الله المتين وأمره الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لـما سمعه الجن لم يتناءوا أن قالوا( إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إلى الرُّشْدِ ) هو الذي لا تختلف به الألسنة ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه : ومعلوم انه لا ينتفع به إلّا بعد الوقوف على معاني ما فيه وبعد الفصل بين محكمه ومتشابهه فكثير من الناس قد ضل بأن تمسك بالمتشابه حتّى اعتقد ان قوله تعالى( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) حقيقة في الحجر والمدر والطير والنعم وربما رأوا في ذلك تسبيح كل شيء من ذلك ومن اعتقد ذلك لم ينتفع بما يقرؤه ولذلك قال تعالى( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) وكذلك وصفه تعالى بأنه( يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ ) وقد أملينا في ذلك كتابا يفصل بين المحكم والمتشابه عرضنا فيه سور القرآن على ترتيبها وبينا معاني ما تشابه من آياتها مع بيان وجه خطأ فريق من الناس في تأويلها ليكون النفع به أعظم ونسأل الله التوفيق للصواب ان شاء الله.

٧

( بسم الله الرّحمن الرّحيم ) معنى بسم الله الابتداء به تبركا والاستعانة في كل امر مهم : ومعنى الله ان العبادة به تليق دون غيره لأنه الخالق والمنعم بسائر النعم : ومعنى الرحمن المبالغة في الانعام العظيم الذي لا يقدر عليه إلّا الله تعالى : ومعنى الرحيم المبالغة في الاكثار من الرحمة والنعمة وقد يوصف بذلك غيره أيضا.

[ مسألة ] قالوا ما وجه الابتداء ببسم الله وهلا قيل بالله الرحمن الرحيم فالاستعانة بالله تقع لا باسمه. وجوابنا أنّ الأمر كما قالوا لكنه ذكر اسمه وأريد هو على وجه الاعظام وهذا كقوله تعالى( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ) فأمر بتنزيه اسمه وأراد تنزيهه عما لا يليق به لكنه ذكر الاسم تعظيما له وهذا كما يقال صلوات الله على ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم.

[ مسألة ] قالوا فما وجه ذكر هذه الاسماء الثلاثة دون غيرها. قيل له ذكر الله لأن المكلف قد اختص بأن لزمته عبادته وهو الذي يعرف أنواع نعمه وذكر الرحمن الرحيم لأنه لأجل ذلك استحق العبادة.

٨

سورة الحمد

معنى الحمد لله الشكر لله وكيف نشكره فعلمنا تعالى ذلك.

[ مسألة ] قالوا الحمد لله خبر فان كان حمد نفسه فلا فائدة لنا فيه وان أمرنا بذلك فكان يجب أن يقول قولوا الحمد لله. وجوابنا عن ذلك ان المراد به الامر بالشكر والتعليم لكي نشكره لكنه وان حذف الامر فقد دل عليه بقوله( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) لأنه لا يليق بالله تعالى وإنّما يليق بالعباد فاذا كان معناه قولوا( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) فكذلك قوله( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) وهذا كقوله( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) معناه ويقولون( سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) ومثله كثير في القرآن.

[ مسألة ] وربما قالوا لـما ذا أعاد( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) وقد تقدم من قبل.

وجوابنا ان ذلك ليس بتكرار لأن المراد بالأول توكيد الاستعانة والمراد بالثاني توكيد الشكر له فلذلك كرر.

[ مسألة ] قالوا ما معنى قوله( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ويوم الدين ليس بموجود حالا وكيف يملك المعدوم وما فائدة ذلك. وجوابنا أنّ المراد القادر على ( ذلك اليوم ) الذي فيه الجنة على عظم شأنها والنار على عظم امرها وفيه المحاسبة والمساءلة فنبه تعالى بذلك على انكم ان شكرتم وقمتم بالواجب فلكم من الفوز في الآخرة بالثواب نهاية ما تتمنون فصار ذلك ترغيبا في الشكر والعبادة وزجرا

٩

عن خلافه واذا قرئ « مالك » فالمراد به القدرة على يوم الدين واذا قرئ « ملك » فالمراد به القدرة على العباد الذين يتصرف تعالى فيهم بما يوجب الانقياد له.

[ مسألة ] قالوا ما معنى( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) وعندكم ان الله تعالى قد هدى الخلق بالادلة والبيان فما وجه هذا الطلب والدعاء. وجوابنا على ذلك انه تعالى وان مكن وأقدر المكلف ففي قدرته تعالى من زيادة البيان والادلة والالطاف والعصمة ما ينتفع به العبد إذا أمده بها والعبد يجوّز ذلك فيطلبه وهذا كما قال تعالى( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ) فأمر تعالى العبد أن ينقطع إلى الله تعالى فيقول( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) وان لا يكذب في ذلك فيكون مراده بالصلاة الرياء والسمعة وأن لا يستعين إلّا بالله تعالى وأن يستمد من جهته الالطاف والمعونة على الصراط المستقيم الذي هو دينه وطريقة من أنعم الله عليه لا طريقة الكفار الذين ضلوا فغضب الله عليهم.

١٠

سورة البقرة

[ مسألة ] قالوا ما الفائدة في قوله تعالى( الم ) ولا يعقل من ذلك في اللغة فائدة وكيف يجوز ذلك والقرآن عربي والعرب لا تعرف ذلك. وجوابنا أنّ الله تعالى جعل ذلك اسما للسورة وعلى هذا الوجه يقال سورة ( ق ) ( وحم ) السجدة وسورة ( طه ) ولله تعالى ان يجعل لهذه السورة اسما وهذا مروي عن الحسن البصري وغيره ومتى قيل فقد حصل في ذلك اشتراك ولا بد من ضم زائدة اليه فلا فائدة إذا في ذلك. فجوابنا أنّ الألقاب كزيد وعمرو يقع فيها أيضا الاشتراك ثمّ تمييزها بزيادة وقيل أيضا في جوابه ان فائدة ذلك أن القرآن مؤلف من هذه الحروف التي تقدرون عليها « ومع » ذلك يتعذر عليكم هذا النظم بفضل رتبته فاعلموا انه معجز.

[ مسألة ] ومتى قيل ولما ذا قال تعالى( ذلِكَ الْكِتابُ ) ولم يقل هذا الكتاب. فجوابنا أنه جل وعز وعد رسوله إنزال كتاب عليه لا يمحوه الماء فلما أنزل ذلك قال( ذلِكَ الْكِتابُ ) والمراد ما وعدتك ولو قال هذا الكتاب لم يفد هذه الفائدة.

[ مسألة ] قالوا ما معنى( لا رَيْبَ فِيهِ ) وقد علمتم أن خلقا يشكون في ذلك فكيف يصح ذلك وان أراد لا ريب فيه عندي وعند من يعلم فلا فائدة في ذلك. فجوابنا أنّ المراد انه حق يجب أن لا يرتاب فيه وهذا كما يبين المرء الشيء لخصمه فيحسن منه بعد البيان أن يقول هذا كالشمس واضح وهذا لا

١١

يشك فيه أحد وهذا كما يقال عند اظهار الشهادتين ان ذلك حق وصدق وان كان في الناس من يكذب بذلك.

[ مسألة ] قالوا لـما ذا قال تعالى( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) والهدى عندكم الدلالة وهو دلالة لكل فلما ذا خص المتقين دون غيرهم هلا دل ذلك على ان الهدى هو نفس الايمان. فجوابنا أنه تعالى قد بين في غير موضع ان القرآن هدى للناس فعم الكل وإنّما خص المتقين هاهنا من حيث اختصوا بقبوله وهذا كقوله تعالى( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) فخصهم من حيث يخشون عند الانذار وان كان صلّى الله عليه وسلم كان منذرا للكل كما قال تعالى( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ) وقد ثبت ان ذكر الواحد لا يدل على ان غيره بخلافه.

[ مسألة ] يقال ما معنى قوله( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ما الغيب الذي مدحهم بالايمان به أولستم تقولون ( لا يعلم الغيب إلّا الله ). وجوابنا أنّ هذا الغيب يراد به الغائبات التي قام الدليل على صحتها كأمر الآخرة والجنة والنار والملائكة والحساب فمدح المتقين ووصفهم بأنهم يؤمنون بذلك( وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) أي يدومون عليها ويؤدونها بحقها( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) على وجه البر ولا ينفقون من الحرام الذي جعله الله رزقا لغيرهم فغصبوه ثمّ قال( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) حتّى يؤمنون بكل الرسل ولا يفرّقون بينهم( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) فلا يدخلهم شبهة في ذلك : ثمّ بين ان هؤلاء هم المفلحون الظافرون بثواب الله فدل بذلك على ان الثواب انما يكون بهذه الطريقة ورغب في التمسك بها وزجر عن خلافها وقد قيل ان في جوابه أن المراد أنهم يؤمنون بظهر الغيب باطنا كما يؤمنون ظاهرا وهذا أيضا حسن.

[ مسألة ] يقال ما معنى قوله( أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ) ومعلوم ان الهدى ان كان دلالة فكل المكلفين فيه سواء فهلا دل ذلك على انه

١٢

نفس الايمان. فجوابنا أنّ المراد انهم على بصيرة مما تعبدهم به وتقبل الهدى يسمى هدى كما ان الجزاء على الامتثال للدلالة يسمى هدى وهذا كقوله تعالى في أهل النار انهم قالوا( لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا ) وارادوا بذلك النعيم والثواب.

[ مسألة ] يقال ما معنى قوله( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ومعلوم ان في الكفار من قرأه وآمن. فجوابنا أنه أراد قوما من الكفار مخصوصين في أيامه صلّى الله عليه وسلم علم الله تعالى ان الصالح ان يخبر الرسول بأمرهم لكيلا يتشدد في استدعائهم ولا يغتم ببقائهم على الكفر وذلك كقوله تعالى( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ) وهذا من العموم الذي يراد به الخصوص. وربما سألوا فقالوا إذا كان قد أخبرنا بأنهم لا يؤمنون فكيف كلفهم وكيف يقدرون على الايمان الذي لو فعلوه لكان تكذيبا لخبر الله تعالى. فجوابنا أنّ ذلك انما يدل على انهم لا يؤمنون اختيارا وان قدروا عليه فلذلك ذمهم وقد يقدر القادر على ما لا يختاره كما أنه تعالى يقدر على افناء الدنيا في هذا الوقت وان كان لا يختاره ولو كان ايمانهم إذا قدروا عليه قدرة على تكذيب الله لكان الله تعالى إذا قدر على اقامة القيامة الآن وقد أخبر بأنه لا يقيمها إلّا بعد علامات أوجب أن يكون قادرا على تكذيب الله وكان يجب إذا قدر على الضدين وإنّما يفعل أحدهما أن يكون قادرا على تجهيل نفسه وهذا كلام من لا يعرف التكذيب والتجهيل وذلك ان التجهيل ما يصير به المرء جاهلا دون غيره والتكذيب ما يصير به كاذبا أو يتبين ذلك من حاله دون غيره.

[ مسألة ] في ذلك أيضا يقال إذا كان قد علم أنهم يكفرون فلما ذا حسن أن يكلفهم مع علمه بأنهم لا يختارون إلّا ما يؤدّيهم إلى النار. وجوابنا أنّه إنّما علم أنّهم لا يختارون الايمان مع تمكنهم من اختياره وتسهيله سبيلهم إلى اختياره بكل وجه فانهم انما يؤتون من قبل أنفسهم وأنهم لو اختاروا الوصول إلى ثواب عظيم لصح ذلك منهم ويفارق حالهم حال من منع من الايمان وإنّما يقبح ذلك

١٣

على مذهب من يقول انه تعالى يخلق فيهم هذه الأفعال من المجبرة.

[ مسألة ] قالوا فقد قال تعالى( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) وهذا يدل على أنه قد منعهم من الايمان ومذهبكم بخلافه وكيف تأويل الآية. وجوابنا أنّ للعلماء في ذلك جوابين، أحدهما أنه تعالى شبه حالهم بحال الممنوع الذي على بصره غشاوة من حيث أزاح كل عللهم فلم يقبلوا كما قد تعين للواحد الحق فتوضحه فاذا لم يقبل صح أن تقول انه حمار قد طبع الله على قلبه وربما تقول انه ميت وقد قال تعالى للرسول( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ) وكانوا أحياء فلما لم يقبلوا شبههم بالموتى وهو كقول الشاعر.

لقد اسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

ويبين ذلك انه تعالى ذمهم ولو كان هو المانع لهم لـما ذمهم وانه ذكر في جملة ذلك الغشاوة على سمعهم وبصرهم وذلك لو كان ثابتا لم يؤثر في كونهم عقلاء مكلفين. والجواب الثاني ان الختم علامة يفعلها تعالى في قلبهم لتعرف الملائكة كفرهم وانهم لا يؤمنون فتجتمع على ذمهم ويكون ذلك لطفا لهم ولطفا لمن يعرف ذلك من الكفار أو يظنه فيكون أقرب إلى أن يقلع عن الكفر وهذا جواب الحسن; ولذلك قال تعالى( وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

[ مسألة ] يقال كيف يجوز أن يقول( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) وذلك يدل على الماضي ثمّ ينفي بعد ذلك بقوله( وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) فجوابنا انه أراد تعالى المنافقين الذين يظهرون الايمان ويبطنون الكفر وقص تعالى خبرهم لعظم مضرتهم في ثلاث عشرة آية كما أنه ذكر صفة المؤمنين في أربع آيات وصفة الكفار في آيتين فقد كانت مضرتهم أعظم في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلم فكشف تعالى بذلك حالهم لئلا يغتر بهم ولكي يتحرز من مخالطتهم ودل ذلك على ان اظهار الايمان ليس بايمان وان المعتمد على ما في

١٤

القلب من المعرفة وعلى هذا الوجه قال صلّى الله عليه وسلم الايمان قول باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالجوارح.

[ مسألة ] يقال كيف قال تعالى( يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) ومعلوم ان الخداع منهم وان جاز على المؤمنين الذين لا يعرفون باطنهم فلا جائز على الله تعالى فكيف جاز أن يقول ذلك. وجوابنا أنّ فعلهم لـما كان فعل المخادع قال تعالى ذلك وان لم يكن خداعا لله في الحقيقة ولذلك قال تعالى بعده( وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ) لأن الذي فعلوه عاد بأعظم الضرر عليهم من حيث ينالهم ذلك بغتة وهم لا يشعرون.

[ مسألة ] ان قيل ما معنى قوله تعالى( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) والمراد في قلوبهم كفر ونفاق فزادهم الله ذلك أو ما يدل على ان الكفر من خلق الله ومن قبله. فجوابنا أنه تعالى ذكر المرض ولم يذكر الكفر فحمله على ان المراد به الكفر غلط والمراد بذلك أن في قلوبهم غما أو حسدا على ما يخص الله تعالى به الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فقد كانوا يغتاظون ويعظم غمهم ثمّ قال تعالى( فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) أي غما بما يفعله بالرسول ويجدده له من المنزلة حالا بعد حال فقول من قال بحمله على الكفر غلط عظيم ولذلك قال( وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) فان كان الله تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم فأيّ ذنب لهم حتّى يعذبهم وكيف يضيف اليهم فيقول( بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الارض وانهم السفهاء بعد ذلك وانهم( وَإِذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ) .

[ مسألة ] قالوا كيف وصف تعالى نفسه بالاستهزاء فقال( اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) . فجوابنا أنّ الاستهزاء لا يجوز على الله تعالى لأنه فعل مخصوص يفعله من لا يمكنه التوصل إلى مراده إلّا بهذا الجنس فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وإنّما أراد بذلك أنه يعاقبهم

١٥

ويجازيهم على استهزائهم كما قال تعالى( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ) وما يفعله الله تعالى لا يكون سيئة ولا اعتداء ويقول العرب الجزاء بالجزاء والاول ليس بالجزاء وقال صلّى الله عليه وسلم أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وإنّما أجرى اللفظ على جزاء الاستهزاء مجازا واتساعا. فان قيل ما معنى قوله تعالى( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) أفتجوزون على الله تعالى ان يمدهم في كفرهم وان يريد ذلك. وجوابنا أنّه تعالى أراد بمدهم في جزاء طغيانهم لا نفس طغيانهم ويحتمل أن يكون ذلك عاقبة أمرهم في ذلك لقلة قبولهم ويكون ذلك مآل أمرهم وعلى هذا الوجه ذمهم بقوله( أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى ) فالمراد بقوله( وَيَمُدُّهُمْ ) أنه يبقيهم وهذا حالهم ويبين تعالى ذلك بأن( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ ) فان ظلمة المكان وقد كان فيه الضياء ثمّ فقد أعظم من الظلمة الدائمة.

[ مسألة ] ان قيل كيف يصح أن يقول تعالى( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) ولم يكونوا كذلك في الحقيقة. فجوابنا انه تعالى شبه حالهم من حيث لم ينتفعوا بما يسمعون ويبصرون ويقولون بحال من هذا وصفه وذلك بين في اللغة فيمن لم يقبل ولا ينتفع والبيان انه يوصف بذلك على ما قدمنا من انه ربما يوصف بأنه ميت وبأنه بهيمة وبأنه حمار وقد تقدم ذكر ذلك وعلى هذا الوجه يقال حبك للشيء يعمي ويصم والمراد يصيره إلى رتبة الأعمى والأصم في انه لا ينتفع ويتعدى وجه الصواب.

[ مسألة ] فان قيل كيف يقول تعالى( أو كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ) ولفظة أو يستعملها من شك في الامور دون العالم ويتعالى الله عن هذا الوصف : ( فجوابنا ) انه تعالى كما يجوز أن يمثلهم بشيء يجوز أن يمثلهم بشيء آخر في باب الضلالة وليس المراد إلّا الجمع بين الامرين وقد يقال لفظة أو فيما طريقة الجمع في ذلك كقوله تعالى( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ

١٦

تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أو بُيُوتِ آبائِكُمْ ) أراد الجمع وكذلك قوله( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أو آبائِهِنَّ ) أراد الجمع وقد يقال جالس الحسن أو ابن سيرين والمراد الجمع واذا جاز في الواو أن يراد به معنى أو كقوله تعالى( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) فكذلك يجوز أن يذكر أو ويراد به الجمع.

[ فصل ] ثمّ انه تعالى بعد وصف المنافقين بعث المكلفين على عبادته فقال( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ولا يصح أن يقول ذلك إلّا مع الامر بمعرفة الله تعالى ليصح أن يعبد ومع اقامة الدلالة التي يصل بالنظر فيها إلى معرفة الله تعالى وذلك ما نبه عليه بقوله( الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) ونبّه بذلك على أنّ العبادة انما تليق به لانه خالقنا والمنعم علينا ونبه بذلك على بطلان التقليدي لأنه لا يصح أن يكون طريقا لمعرفته ونبه بذلك على انه ليس بجسم وأنه انما يعرف بفعله وخلقه.

[ مسألة ] ان قيل فما معنى قوله تعالى( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ولعل انما يستعمله المتكلم بمعنى الشك : فجوابنا أنّ المروى عن ابن عباس والحسن ان لعل وعسى من الله واجب فالمراد لكي تتقوا ولكي تشكروا وتفلحوا وذلك أحد ما يدلنا على انه تعالى لا يريد من المكلف إلّا الطاعة التي هي التقوى والشكر وما شاكل ذلك وعلى هذا الوجه قال الله تعالى لموسى وهارون صلّى الله عليهما وسلم( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخْشى ) لانه أراد بذلك تذكره وخشيته وهو الذي يفهم في اللغة واذا ذكر في غير ذلك فهو مجاز. وقد أجاب بعض العلماء بان المخاطب إذا كان لا يعلم هل يختار ذلك أو لا يختاره صح من المخاطب ان يخاطبه بذلك ليترجاه فمن حيث كان المخاطب مترجيا غير قاطع جاز ان يخاطب بذلك فامر تعالى بعبادته ثمّ قال في آخره( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ) وهذا هو معنى الاخلاص أي اعبدوه ووحدوه ثمّ نبه

تنزيه القرآن (٢)

١٧

على وجوب الاعتراف بنبوة النبي صلّى الله عليه وسلم فقال( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) فقد أوتيتم الفصاحة التامة فان كان غير صادق ولكم الحمية والآنفة وقد الزمكم طاعة الله والانقياد فما الذي يقعدكم عن ان تأتوا بمثله وهلا دل قعودكم عن ذلك على ان القرآن معجز يدل على صدقه في النبوة وبين انهم كما لم يأتون بمثله فكذلك حالهم أبدا بقوله( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ) .

[ مسألة ] يقال لم قال تعالى( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) وكيف تكون الحجارة وقودا وكيف يصح في الناس ان يكونوا وقودا لها وهم لا يحترقون. فجوابنا انه تعالى نبه على عظمها وانها لذلك تحترق بالحجارة وليس إذا كان الناس وقودها وجب ان يفنوا لانه تعالى يمنع وصول النار إلى المقاتل وإنّما تحترق ظواهرهم كما قال عز وجل( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ) أعاذنا الله منها بالتقوى.

[ مسألة ] قالوا فقد قال تعالى في هذه النار( أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ) فهلا دل على ان غير الكفار لا يدخلونها. فجوابنا أنّ للنيران دركات فهذا صفة واحدة منها وبعد فليس إذا ذكر الله تعالى انها معدة للكافرين دل على نفي غيرهم وعقب ذلك بقوله( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ ) وبين ان لهم فيها أزواجا مطهرة من الامور التي ربما تنفر في دار الدنيا من ضروب ما يتأذى به.

[ مسألة ] ان قيل فما معنى قوله تعالى( إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ) . فجوابنا أنه تعالى لـما ضرب مثل آلهتهم بالذباب( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً

١٨

وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ) وضرب أيضا مثلهم بالعنكبوت وضعف نساجته قال الكفار طعنا في ذلك كيف يضرب تعالى مثل آلهتنا بهذه المحقرات فأنزل الله تعالى هذه الآية وأراد أنه انما يضرب المثل بما هو أليق بالقصة وأصلح في التشبيه فاذا ضرب مثلهم في باب الضعف كان ذكر الحقير في المنظر من الحيوان أحسن موقعا ومعنى قوله( بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ) أي في الصغر والضعف وعجائب الحكمة في البعوضة وصغار الحيوان أزيد من عجائبهما في كبار الحيوان لمن تأمل.

[ مسألة ] قالوا فقد قال تعالى( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) وذلك يدل على أنه تعالى يضل ويهدي لا كما تقولون بأنه تعالى لا يجوز عليه ذلك « قلنا » انا انما ننكر أن يضل تعالى عن الدين بخلق الكفر والمعاصي وارادتها كما ننكر أن يأمر بها ويرغب فيها ولا ننكر أن يضل من استحق الضلال بكفره وفسقه وقد نص الله تعالى على ما نقوله في تفسير هذه الآية ودل عليه لانه قال( وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ ) فنبه بذلك على أن قوله « يضلّ به كثيرا » أريد به يضل بالكفر به كثيرا والا كان لا يكون لقوله( وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ ) معنى لان غير الفاسقين يضلهم على قول القوم ثمّ انه تعالى وصف من يضله فقال( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) فبين تعالى أنه يضلهم بهذه الخصال لا أنه يبدؤهم بالضلالة وعلى هذا الوجه قال( فَرِيقاً هَدى ) أي إلى الثواب( وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) بين كيف حق ذلك فقال( إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ ) وعلى هذا الوجه قال( وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ) فخصهم بذلك وقال( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) أي إلى الثواب وقال( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ

١٩

رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ ) وقال( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ) وقال( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً ) أي بالالطاف والتأييد وقال تعالى( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) أي بالادلة وقال( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي بالأدلة وقال( كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ) وقال تعالى( وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) أي بقبوله لذلك وقال( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا ) وذم تعالى الشيطان وفرعون والسامريّ بما كان منهم من الضلال فالاضلال من الله تعالى مخالف لإضلالهم لا كما يقوله المجبرة والقدرية الذين يضيفون تقدير الفواحش إلى ربهم فنقول إنه تعالى هدى الخلق بالأدلة والبيان ويهدي من آمن بالثواب خاصة ويهديهم أيضا بالالطاف ونقول انه يضل من استحق العقاب بالمعاقبة وبأن يعدلهم عن طريق الجنة وبأن لا يفعل بهم من الألطاف ما ينفعهم ولا نقول انه يضل عن الدين بأن يخلق الضلال فيهم ولا انه يريده ولا انه يدعوهم اليه لان ذلك هو الذي يليق بالشياطين والفراعنة وإنّما قال تعالى( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ) وأراد يعاقب بالكفر به( وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) أي يثيب بالايمان به كثيرا ويجوز إضافة هذا الضلال إلى نفسه وقد قيل أيضا انهم لـما ضلوا عنده جاز أن يضاف إلى نفسه كما قال تعالى( وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ) ثمّ قال من بعد( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ ) فأضاف ايمانهم وكفرهم إلى السورة لـما آمن بعضهم عند نزولها وكفر بعضهم فكذلك أضاف هذا الضلال إلى نفسه لـما كفروا بالمثل عند نزوله ثمّ بين تعالى بقوله( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ) على أن الكفر من قبلهم وانهم قد كفروا نعمة ربهم وعدد نعمه عليهم معظما لذنبهم وكفرهم لأن عظم النعمة تعظم معصية المنعم ونعم الله علينا لا يدانيها نعم فلذلك يكون اليسير من المعاصي عظيما كما يكون اليسير من عقوق الوالد البار

٢٠

عظيما ودلّ بذلك على بطلان قول من يقول خلق الله فريقا للكفر وفريقا للايمان لان ذلك لو صح لكان لا نعمة له على من خلقه للكفر والنار.

[ مسألة ] قالوا ما معنى قوله تعالى( ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ ) .

وجوابنا ان المراد ثمّ قصد خلق السماء لأنّ الاستواء عليه تعالى على الحد الذي يجوز على أشخاص لا يجوز ولذلك قال تعالى بعده( فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ) .

[ مسألة ] ان قيل أنتم تنزهون الملائكة عن المعاصي فكيف قال تعالى( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) أفليس هذا القول منهم كالاعتراض على ربهم.

وجوابنا انه تعالى أعلمهم طريقهم في العبادة وانه سيسكن الارض من يقع من بعضهم الفساد والقتل فلما قال تعالى وقد صور آدم وخلقه( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) قالوا على وجه المسألة والتعرف( أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ) وعلى هذا الوجه يحسن ذلك ولذلك جعل تعالى جوابهم( إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) فبين سبحانه وتعالى انه العالم بالمصالح المستقبلة فاذا كان في معلومها ما يظهر من الفضل والعلم من الانبياء والمؤمنين كان ذلك أصلح في الحكم.

[ مسألة ] قالوا أفما يدل قوله تعالى( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ ) على ان الامر بما لا يطاق يحسن لأن الملائكة لم تقدر على هذه الأسماء ولذلك قالت( سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا ) . وجوابنا أنّ ذلك جعله الله تعالى معجزة لآدم ودلالة على نبوته من حيث عرفه أسماء المسميات جميعا فعرفت الملائكة بذلك انه نبي وعظّمته وجعل الله تعالى ذلك مقدمة إلى ما أمرهم به

٢١

من تعظيمه بقوله( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) والمراد عظموه بتوجيه السجود اليه وان كنتم تعبدون الله تعالى بذلك ولذلك قال تعالى( فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) وانه تعالى قد عرف الملائكة بما كتب في أم الكتاب من الآجال والأرزاق وغيرهما إنه عالم بذاته بكل شيء فقال لهم( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ ) ألم أدلكم منبها على ان الذي خص به آدم من الاسماء لم يخصهم به ارادة لاظهار نبوته وتعظيمه وقوله( أَنْبِئُونِي ) هو على وجه التحدي وتقدير عجزهم ولذلك كان جوابهم( لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا ) ولذلك قال( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) ومن لا علم له لا سبيل له إلى العلم بانه صادق في الاخبار عما لا يعلم ومعلوم انهم لو أخبروا لجاز أن يكونوا كذبة ولا يجوز أن يأمر تعالى بما هذا حاله.

[ مسألة ] قالوا كيف استثنى تعالى ابليس من الملائكة وهو من الجن في قوله( فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ ) وجوابنا أنّه لـما دخل معهم في الأمر له بأن يسجد لآدم وأريد منه ذلك بهذا القول فصح الاستثناء لأن الاستثناء من جهة المعنى لا يكون إلّا كذلك وذم الله تعالى له بأنه لم يسجد وتكفيره اياه يدل على قدرته على السجود بخلاف قول القدرية انه تعالى يأمر بما لا يقدر العبد عليه وقوله تعالى في وصف ابليس ( أبى ) يدل أيضا على بطلان قولهم لانه لا يقال أبى إلّا إذا قدر على الشيء ثمّ امتنع منه اذ أبى فعل نفسه.

[ مسألة ] يقال كيف أسكن تعالى آدم وحواء الجنة وكيف أذلهما الشيطان عنها وكيف نفذ قول ابليس عليهما فخالفا أمر الله تعالى وكيف فعلا ما عوقبا عنده على الاخراج من الجنة. وجوابنا أنّه لا يمتنع في سكنى تلك الجنة أن يكون صلاحا إذا لم يفعلا أمرا من الأمور وغير صلاح إذا فعلا ذلك فلما

٢٢

وقع منهما أكل الشجرة التي هي من جنس ما نهى الله تعالى عنه ويقال انها العنب ويقال التين ويقال الحنطة والأول أقرب أخرجهما تعالى من تلك الجنة ولم يخرجهما عقوبة لان معاصي الانبياء لا تكون إلّا صغائر ولو فعلوا كبائر لحسن ذمهم ولعنهم والنبوة تمنع من ذلك فلما عصيا كان الصلاح اخراجهما إلى الارض لـما في المعلوم من العواقب الحميدة وكان ابليس يظهر لهما فوسوس اليهما وكان عندهما أن الله تعالى انما نهى عن شجرة بعينها وأراد الله تعالى ذلك الجنس كله فذهلا عن هذا التأويل ولذلك قال تعالى( فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) ولو علما ان النهي عام في ذلك الجنس لم يقدما على اكل ذلك ثمّ من بعد تاب الله عليهما فزال تأثير تلك المعصية فلذلك قال تعالى( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ ) وكان الله تعالى يعظم محل الانبياء لعلمهم كيف يتوبون وما الذي يؤدون من الكلمات ثمّ انه تعالى ذكر من يعد نعمه على بني اسرائيل وذكر أولادهم نعمة على الآباء لأن النعمة على الآباء بحيث تخلصوا من قتل الأعداء اياهم نعمة على الاولاد الذين لو لا ذلك الخلاص لم يوجدوا فعلى هذا الوجه خاطبهم بهذه النعم وأمرهم بالوفاء بعهده لقوله تعالى( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) وهو المجازاة( وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) أي يجب أن تخافوا معصيتي فان ذلك يوقعكم في العقاب وآمنوا بما أنزلت على محمّد صلّى الله عليه وسلم ولا تكونوا أوّل كافر به من أهل الكتاب( وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) فقد كانوا يطمعون في الضعفاء فيضلونهم ويصرفونهم عن اتباع محمّد صلّى الله عليه وسلم فلذلك قال( وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) ثمّ قال( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ ) فدل بذلك على وجوب اظهار الحق بالدعاء اليه ودل به على ان من لبس الحق بالتشبيه فقد أقدم على عظيم وبين ان المرء كما يجب أن يدعو إلى الخير يجب أن يتمسك به ومن لم يتمسك به لم يؤثر دعاؤه للغير فقال( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُوا

٢٣

بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) فجمع بذكر الصبر جميع ما منع تعالى منه وبذكر الصلاة جميع ما أمر به وبين ان الصلاة كبيرة( إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ) أي ثواب ربهم فيعلمون المجازاة فيعظم خوفهم ويعلمون انهم اليه راجعون. وبين لبني اسرائيل ولنا بقوله( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ ) ان من حكم ذلك اليوم ان المرء ينتفع بعمله دون هذه الامور وان أهل العقاب لا يتخلصون إلّا بما يكون منهم في الدنيا من التوبة وتلافي المعصية ثمّ قال عز وجل( وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) فمنّ عليهم بما كان منه تعالى من نجاة آبائهم على ما ذكرنا وذكر نعمه حالا بعد حال إلى قوله( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ) وقوله في خلال هذه الآيات( وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) يدل على أن الرؤية على الله تعالى لا تجوز وقوله( وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ ) يدل على قدرة الله تعالى على الأمور العجيبة وان عصا موسى كانت من الآيات العظام فمرة كانت تصير بيده ثعبانا فيتلقف إفك السحرة ومرة كان يضرب بها على الحجر فينفجر منه من الماء ما يحتاجون اليه ومرة كان يضرب بها على البحر فينفلق ويصير لهم طريقا يبسا ولما ذكر قوله( وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) ظن بعضهم ان بني اسرائيل أفضل من سائر الانبياء وليس الامر كذلك وإنّما أراد به فضلهم على عالمي زمانهم وكذلك كانوا في أيام موسى صلّى الله عليه وسلم دينا ودنيا.

[ مسألة ] وربما قالوا في قوله تعالى( فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) كيف يدخل قتل النفس في التوبة. وجوابنا أنّه تعالى أوجب أن يقتل بعضهم بعضا لعلمه بأن ذلك صلاحهم لا ان ذلك من شروط التوبة لان التوبة مقبولة إذا صحت بدون غيرها.

٢٤

[ مسألة ] وسألوا عن معنى قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ) فقالوا كأنه قال ان الذين آمنوا من آمن منهم وهذا كالمتناقض. وجوابنا أنّ المراد في الذين آمنوا الاستمرار على ايمانهم وفي الذين هادوا الانتقال إلى الايمان وذلك صحيح وقد قيل أنّ المراد بأن الذين آمنوا من أظهر الاسلام والمراد بمن آمن منهم كمال الايمان وذلك مستقيم.

[ مسألة ] وقد قيل كيف قال( فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ونحن نعلم ان المؤمنين قد يخافون ويحزنون. وجوابنا أنّه تعالى أراد ذلك في الآخرة كما قال تعالى( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) وقال( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ) وكل ذلك ترغيب في التمسك بالايمان والطاعة.

[ مسألة ] قالوا في قوله تعالى( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) كيف يأمر بذبح بقرة لها صفة ثمّ باخرى لها صفة أو ليس ذلك يدل على البداء « وجوابنا » أنه أمر أولا بذبح بقرة على أيّ صفة كانت فلما عصوا كان الصلاح التشديد عليهم ثمّ كذلك حالا بعد حال إلى أن أمرهم آخرا بذبح بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها فيقال طلبوها فاشتروها بمال عظيم لأنه لم يوجد بتلك الصفة سواها وكان السبب في ذلك ما بينه بقوله( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى ) وكان هناك قتيل وكتموا القاتل فأخفوه فأراد الله تعالى اظهاره باحياء القتيل عند ضربه ببعض البقرة ليذكر ذلك المقتول قاتله فيقام عليه حد الله تعالى والله تعالى وان كان قادرا على احياء ذلك

٢٥

القتيل من دون أن يضرب ببعض البقرة فقد كان لطفا لهم لان عادتهم كانت التقرب بذبح البقرة كما تعبدنا الله تعالى بذبحها في الاضحية وكان ذلك من معجزات موسى7 .

[ مسألة ] يقال وقد قال تعالى( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أو أَشَدُّ قَسْوَةً ) كيف يجوز أن يفضل قلبهم في القسوة على الحجارة والحجارة لا قسوة فيها أصلا وكيف قال( وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) وذلك لا يصح على الحجارة. وجوابنا أنّ ذلك على وجه المثل ضربه الله تعالى لقلبهم في القسوة لان الظاهر ان القسوة تكون لصلابة القلب فكذلك القول في الخشية أورده على وجه المثل وقد قيل أنّ المراد ولو جعل الحجز حيا لكان يحصل فيه من الخشية ما ليس في قلبهم والاول أقوى لأنّ الحجارة إذا جعلت حية لا تكون حجارة.

[ مسألة ] قالوا كيف يقول تعالى( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ) يعني اليهود ثمّ يقولون من بعد( وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ) فنفى في الأوّل وأثبت في الثاني وذلك تناقض. وجوابنا أنّ المراد( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا ) ايمانا ظاهرا وباطنا والذي عناه في قوله( وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ) ما أوردوه ظاهرا على وجه النفاق فالكلام مستقيم ولذلك قال( وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ ) فذمهم بذلك على هذه الطريقة التي هي النفاق وبين انهم يحرفون التوراة ويشترون بها ثمنا قليلا وانهم كانوا يفعلون ذلك ليستأكلوا ضعفائهم فقال تعالى( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ) ودل بذلك على ان كتمان الحق في الدين يوجب الويل وقوله تعالى( بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) زجر عظيم لمن يعصى ربه كما ان قوله تعالى( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) ترغيب عظيم في التمسك بطاعته. ثمّ ذكر انه أخذ ميثاق بني اسرائيل في أن لا يعبدوا إلّا الله وفي أنْ

٢٦

يتمسكوا بسائر ما ذكر بعد ذلك وانهم خالفوا وتولوا إلّا قليلا وانهم سفكوا الدماء. وبين تعالى أنَّ جزاء ذلك الخزي في الحياة الدنيا وان يردوا إلى أشد العذاب وزجر بذلك عن مثل فعلهم وذمهم على التكذيب بالقرآن بقوله( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ ) كل ذلك رجز عن فعل مثلهم.

[ مسألة ] وقالوا قال تعالى( قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ ) فقالوا كيف يجوز تعليله لإنزاله القرآن بأنهم أعداؤه. وجوابنا أنّه أراد توكيد ذمهم بانه بالمحل الذي ينزل به الوحي والقرآن لاجله على الرسل وزجرهم بذلك عن عداوتهم ثمّ بين ان من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فالله عدوه بقوله( فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ) .

[ مسألة ] وسألوا عن قوله( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ) وقالوا الآية تدل على ان السحر من عند الله وان الملائكة أنزلت به وعلى انه إذا أدى إلى مضرة فبإذن الله. وجوابنا أنّه تعالى حكى عن اليهود انهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وانهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين والمراد بذلك ما تخبر به الشياطين على ملك سليمان ويكذبون عليه فانهم يتبرءون من نبوّته أعني اليهود وينسبوه إلى السحر كما حكت الشياطين فقال تعالى( وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ) نزهه عن السحر الذي نسبوه اليه ثمّ قال( وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ) بان نسبوا السحر إلى سليمان على وجه الكذب وجحدوا نبوّته ثمّ قال تعالى في وصفه الشياطين( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) على وجه الاضرار ثمّ قال تعالى( وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ) فبين انه تعالى أنزل ببابل السحر عليهما ليعرفا الناس فيتحرزوا من ضرره لان تعريف الشر حسن ومعه يصح الاحتراز

٢٧

ولذلك قال تعالى( وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ ) يعني الملكين( حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) فبين ان مرادهم بتعليم السحر لا أن يعمل به ثمّ قوله تعالى( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) وهو ذم لمن يتعلم من الملكين فلا يتحرز بل يعمل به فهو بمنزلة أن يعرف من الرسول الزنا وغيره من الفواحش فبعضهم يعمل بذلك فلا يخرج بيان النبي صلّى الله عليه وسلم لذلك من أن يكون حسنا فكأنه قال( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ) واتبعوا( ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) فيما يعملون على وجه الذم لهم. وقد روي عن الحسن انه كان يقرأ( وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ) ويقول كانا علجين أقلفين يأمران بالسحر ويتمسكان به والقراءة المشهورة خلاف ذلك وقد قيل في تأويله ان المراد واتبعوا ما تتلوا الشياطين أي تحكي وتخبر على ملك سليمان وما أنزل على الملكين ببابل فكأنهم كما كذبوا على ملك سليمان كذبوا أيضا على ما أنزل على الملكين لا أنهما أنزلا ليعلما السحر ويكون قوله( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ) أي من السحر والكفر والوجه الأوّل أقوى.

فان قيل وما السحر الذي هو كفر أتقولون ان جميعه كفر أو بعضه وما حقيقته. قيل له ان السحر في الأصل هو ما لطف مأخذه مما يقصد به الاضرار والاحتيال لكن في الناس من يوهم انه يفعل ما لا حقيقة له كما يدعي بعضهم أنه يطير بلا جناح ويركب المكانس وغيرها فيبعد بالوقت اليسير وانه يخيط الناس ويصور المرء بخلاف صورته إلى ما شاكل ذلك وهو قال صلّى الله عليه وسلم ( من أتى كاهنا أو عرافا فصدقهما فيما يقولان فقد كفر بما أنزل على محمد ) لانهم يوهمون انهم يعلمون الغيب وذلك كذب منهم ربما صدق في هذا الزمان بعض المنجمين في مثل ذلك وهو عظيم يوجب الطعن في نبوّة الانبياء صلوات الله عليهم الذين انما عرفت نبوّتهم بان أظهروا علم الغيب نحو قوله عز وجل في وصف عيسى7 ( وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ ) فمن أوهم ذلك فهو كافر في

٢٨

في الحقيقة فاما السحر الذي يصح وقوعه فهو ما لم يلطف من هذه الافعال التي تجري مجرى الحيل فالأول هو الكفر والثاني يحتمل أن يكون كفرا ويحتمل خلاف ذلك فان أوهم انه يفرق بين المرء وزوجه بان يفعل في قلب الزوج أو قلبها ما لا يمكن ويكون معجزا فهو كالأول وان أوهم انه يزيل العقل ويحدث العيوب في أحدهما فهو كالاول وان ذكر انه يحتال بما يمكن للمرء أن يفعله حتّى يفرق بينهما أو يقتل أو يفعل ما يؤدي إلى المرض فذلك فسق ليس بكفر وقد ذكر بعض مشايخ المتكلمين ممن عمل كتاب المتشابه ان رجلا تزوج امرأة على أخرى فعظم ذلك على الأولى وانها استعانت بغيرها فتوصل إلى أن قال للثانية ان أردت أن تنغرس محبتك في قلب الزوج ليختارك على الاولى فخذي موسى فاقطعي ثلاث شعرات من لحيته وهي ما يقارب الحلق وألقى إلى الزوج بأن هذه المرأة ستحتال عليه بالقتل فلما قرّبت الموسى منه في المحل الذي حرره لم يشك الزوج بان الامر على ما قال الرجل من انها قصدت قتله فقام اليها وقتلها وكان ذلك تفرقة وقيل توصل اليها بهذه الحيلة فما يجري هذا المجرى يكون فسقا ولا يكون كفرا وكل ذلك مما يصح تعرفه من الانبياء لكنهم يعلمون ذلك لكي يتحرز منه فيحسن ذلك والشياطين يعلمون ليعمل به فيقبح ذلك فهذا تأويل الآية وقوله تعالى( وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) يحتمل أن يكون المراد بهذا الاذن العلم دون الأمر ويحتمل أن يكون المراد فعلهم نفسه فيما عنده بفعل الله تعالى ما يضر من يضر غيره فيكون ذلك منسوبا إلى الله تعالى وما يفعله من حيث يقع بارادته يجوز أن يقال انه باذنه وبين ان من يفعل ذلك ماله عند الله من خلاق وزجر بذلك عن التمسك بالسحر والحيل ثمّ قال( وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ) لأن من باع نفسه بما يأتيه من السحر فهو خاسر الصفقة في هذه التجارة.

[ مسألة ] قالوا ما معنى قوله تعالى( وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ ) وكيف تكون المثوبة خيرا من السحر

٢٩

والسحر لا خير فيه. وجوابنا أنّ قوله( وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ) يدل على ان الايمان باختيارهم يقع وانهم إذا لم يؤمنوا فهم مقصرون بخلاف من يقول انه تعالى يخلق ذلك فيهم ورغب بذلك في الايمان والتقوى ومعنى قوله في المثوبة انها خير أي أن ما يؤدي اليها اولى أن يتمسك به وهذا كقوله تعالى( قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) وإنّما أراد ان جنة الخلد هو الخير دون النار.

[ مسألة ] يقال ما معنى قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا ) ومعنا هما واحد فكيف يصح الامر بكلمة والنهي عن الاخرى والفائدة لا تختلف. وجوابنا أنّ المنقول في الخبر ان اليهود كانت تقول للنبي صلّى الله عليه وسلم( راعِنا ) بكسر العين وتقصد الهزء وقوله تعالى( وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ ) يدل على ذلك فأمر الله تعالى بالعدول عنه إلى نظيره وهو قوله ( انظرنا ) وفي ذلك دلالة على وجوب تجنب الكلمة إذا أوهمت الخطأ وقوله تعالى في آخر الآية( وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ) يدل على ما قلناه من انهم قصدوا أمرا مذموما في راعنا فلذلك نقل الله تعالى المؤمنين عنها إلى قوله ( انظرنا ).

[ مسألة ] وقالوا كيف يجوز أن ينسخ تعالى شيئا بشيء كما قال( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أو نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أو مِثْلِها ) وهل يدل ذلك على ان لآية لا تنسخ إلّا بآية. وجوابنا أنّه يتعبد المكلف في كل وقت بما هو مصلحة له واذا كان في زمن الوحي ربما يكون الصلاح انتظار نقل المكلف من عبادة إلى عبادة فعلى هذا الوجه ينسخ تعالى العبادة بغيرها كما يفعل تعالى البرد بعد الحر والليل بعد النهار وقوله( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها ) أي بما هو أصلح من الاولى ولا فرق بين أن يعلمنا ذلك بقرآن أو بوحي إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم

٣٠

ثمّ بين انه تعالى على هذه المصالح قدير بان يبينها كما شاء فلا يدل ذلك على ان كل شيء داخل في قدرته كنحو أفعال العباد من كفر وايمان وقد يقال هو قدير على كل شيء لانه الذي يقدر غيره كما يقال للملك انه مالك للبلاد وما فيها لـما كان مقتدرا على ان يملك الغير ويسلبه ملكه ولذلك قال( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) وزجر المرء عن أن يتكل إلّا على عبادته.

[ مسألة ] قالوا كيف قال تعالى( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ ) وكيف منع من مسألة الرسول وقد نصبه الله تعالى معلما ومبينا. وجوابنا أنّ المراد المنع من مسألته على الرد والتعنت لا على وجه التفهم ولذلك قال( وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ) .

[ مسألة ] وربما قالوا كيف يبدأ تعالى بقوله( أَمْ تُرِيدُونَ ) وعند العرب لا يبتدأ بذلك الاستفهام بل يبنى على كلام متقدم. وجوابنا أنّه قد يحذف المتقدم إذا دل الكلام عليه وذلك كقوله( الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ ) ثمّ قال( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ) وقد قيل ان معناه بل تريدون أن تسألوا رسولكم يقول ذلك لليهود وقد تقدم ذكرهم.

[ مسألة ] وسألوا فقالوا كيف قال( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أهل الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) أفتقولون كانوا يعرفون الاسلام والنبوّة مع اظهارهم اليهودية. وجوابنا أنّ ظاهر الآية يدل على ذلك لأن كثيرا منهم كان يعرف ذلك ويبقي على اليهودية لاعراض الدنيا وقوله تعالى( حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ) يدل على ان حسدهم للرسول وللمؤمنين لم يكن من خلق الله تعالى والا لم يضفه إلى أنفسهم ورغب تعالى بقوله

٣١

( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) وبقوله( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ ) على هذه الأعمال.

[ مسألة ] وقالوا ان قوله تعالى( وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أو نَصارى ) لا يصح لان الذين كان يحكى عنهم ان كانوا من اليهود لا يقولون ذلك في النصارى وان كانوا من النصارى لا يقولون ذلك في اليهود فكيف تصح هذه الحكاية. وجوابنا أنّ الفائدة معقولة والمراد ان اليهود قالت( لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً ) والنصارى قالت لن يدخل الجنة إلّا من كان نصارى لان ذكر أهل الكتاب قد تقدم وحالهم في طعن كل واحد منهم في الآخر معلومة فلا بد من أن يكون المراد ما ذكرنا ثمّ بيّن تعالى ان تلك أمانيهم لا برهان عليه ثمّ قال( بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) يعني بالتعبد( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) وأراد بذلك مجانبة المعاصي( فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) فجمع بين الأمرين في حصول الثواب لئلا يغتر المكلف فيقصر في أحدهما.

[ مسألة ] وربما قيل ما فائدة قوله( وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ ) وذلك معلوم من حالهم فأيّ فائدة في وصفهم بذلك. وجوابنا أنّ الفائدة بذلك قوله( وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ ) فبين انهم ذهلوا عما تدل عليه كتبهم من تصديق البعض للبعض فيما أودعه الله تعالى في الكتب وقد يقال ان فلانا ليس على شيء وان كان في جملة ما يقوله ما هو حق إذا لم يتكامل تمسكه بالحق كما يقول فيمن يخالف في التوحيد والعدل ليس هو على شيء وان كان يقول بالحق في بعض الاشياء ولذلك قال تعالى بعده( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .

٣٢

[ مسألة ] وقالوا قد قال تعالى( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) كيف يصح ذلك ومعلوم انهم قد يدخلون المساجد وليسوا مخالفين وما معنى سعيهم في خرابها ولم يتفق ذلك. وجوابنا أنّه قد روى ان أبا بكر الصديق كان بنى مسجدا بمكة يدعو الناس إلى الله تعالى فسعى الكفار في تخريبه فانزل الله تعالى ذلك وقد قيل أنّ المراد منعهم الرسول صلّى الله عليه وسلم والصحابة حتّى اضطروا إلى الهجرة فبين الله تعالى انهم كما أخافوهم حتّى فارقوا مسجد مكة فسيرفعه بحيث لا يدخلونه إلّا خائفين ومعنى قوله وسعى في خرابها في المنع عن عمارتها بالصلاة وسائر ما يبنى له المسجد كقوله( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ ) فكما جعل ذلك عمارة له جعل المنع من ذلك سعيا في خرابه فان حمل الكلام على المسجد الحرام لم يكن لهؤلاء الكفار ان يدخلوها إلّا على وجه الخوف والا فان حمل على سائر المساجد كما قاله قوم فالمراد انهم إذا دخلوا يكونون خائفين من المسلمين فلا يدخلونها إلّا لمحاكمة أو غيرها فيكونون خائفين ثمّ قال تعالى( لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

[ مسألة ] وربما قيل أما يدل قوله( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) على المكان قلنا المراد ان هناك يوجد رضا الله كقول القائل لغيره من شغلك ان تصلي لوجه الله أي طلبا لمرضاته لا على وجه الرياء والسمعة ولو كان المراد بذلك المكان لوجب ان يكون تعالى في وقت واحد في أماكن بحسب صلاة المصلين وقد يذكر الوجه ويراد به ذات الله وقد يقول القائل لغيره وقد سأله حاجة أحب أن تفعل ذلك لوجه الله تعالى اي تقربا إلى الله فاما معنى قوله( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ان ذلك لكم بحسب

تنزيه القرآن (٣)

٣٣

الاجتهاد اذ يراد به في الظلمة إذا عميت القبلة أو في النافلة في السفر أو في المسايفة وذلك مذكور في الكتب.

[ مسألة ] وسألوا عن قوله تعالى( وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ) فقالوا كيف يكون ما ذكره آخرا مبطلا لـما قالوا. فجوابنا انه بين ان من يخلق هذه الامور ويعمل عليها لا يكون إلّا قديما مخالفا لمن تصح عليه الولادة ولذلك اتبعه بقوله( بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) فبين تعالى بكل ذلك انه مخالف للاجسام التي تصح عليها الولادة وقالوا ان قوله إذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون يدل على ان كل ما يفعله يفعله بهذا القول وان ذلك يوجب ان قوله وكلامه ليس بمحدث لانه لو كان محدثا لكان يحدثه بقول آخر ويؤدي إلى ما لا نهاية له فجوابنا أنّ ما قالوه متناقض لان الظاهر يقتضي أنه يقول له كن وهذه اللفظة مشتملة على حرفين أحدهما يتقدمه الآخر والآخر يتأخر عنه على اتصال بينهما وما هذا حاله لا يكون إلّا محدثا فلا يصح إذا ما قالوا ولان قوله( فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يقتضى انه يقول ذلك مستقبلا وذلك علامة الحدوث ولانه عطف المكوّن على القول بحرف الفاء ومن حقه ان يكون عقيبا له وما كان المحدث عقيبه لا يكون إلّا محدثا وعندنا أنَّ المراد بذلك أنّه إذا قضى أمرا يكوّنه ويفعله من غير منع وذكر هذا القول على وجه التوسع ومثل ذلك في اللغة كما قال الشاعر : امتلأ الحوض وقال قطنى. والحوض لا يقول ولكن المراد انه إذا امتلأ فحسبه من الماء وأراد تعالى بذلك ان الاشياء لا تتعذر عليه كما تتعذر على سائر القادرين وقوله تعالى عقيب ذلك( وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أو تَأْتِينا آيَةٌ ) ومعناه هلا يكلمنا الله يدل على انه تعالى يفعل الكلام في المستقبل فكيف يجوز ان يكون قديما وقوله تعالى( إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ) والمراد بشيرا لمن اطاع ونذيرا لمن عصى وهو ترغيب في الطاعة

٣٤

وزجر عن المعاصي وقوله من بعد لرسوله صلّى الله عليه وسلم( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) دلالة على ان النبوّة لا تعصمه من الوعيد إذا عصى فكيف يكون حال غيره.

[ مسألة ] وما معنى قوله تعالى( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) كيف يجوز في كلمات الله ان يتمها ابراهيم. وجوابنا أنّ المراد فيه انه ابتلاه بما يدل عليه الكلمات من العبادات وانه بامتثال ذلك أتم ما يلزمه وقد قيل انه علمه من أسمائه الحسنى ما يصير بذلك من أهل النبوّة ولذلك قال تعالى بعده( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) فبين ان هذه الكلمات هي كالمقدمة لذلك وبين تعالى انه قد يكون في ذريته من يكون ظالما فلا يستحق النبوّة والامامة فقال( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) وبين تعالى انه جعل بيته الذي هو الكعبة( مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً ) يثوبون اليه حالا بعد حال للعبادة فقد كان في شريعة ابراهيم صلّى الله عليه وسلم الحج على قريب مما هو في شريعتنا وجعل الله تعالى الحرم آمنا في أشياء كثيرة ثمّ أمر أن يسأل ربه أن يجعل الحرم آمنا وأن يؤتيهم من الطيبات وقد فعل تعالى لكنه سأل ذلك للمؤمنين فاجابه الله تعالى للكل فقال( وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذابِ النَّارِ ) وذلك لان عادة الله تعالى في الدنيا أن يعم خلقه بالارزاق بحسب المصالح فلا يحرم العاصي بمعصيته ولا يفضل المؤمن لإيمانه لكنه يدبرهم بحسب الصلاح ودل قوله تعالى( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ) على انهما تعبدا ببناء البيت فلذلك قالا( رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا ) إلى سائر ما دعوا الله تعالى.

[ مسألة ] قالوا ما معنى( رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ) ان كان الاسلام من فعل العبد. وجوابنا ان

٣٥

المراد مسألة الالطاف والتسهيل في أن يصيرا مسلمين لان المرء وان كان يفعل الاسلام فلا يستغني عن زيادات الهدى والالطاف ولو لا ذلك لـما صح الأمر والنهي بالاسلام والكفر ولما جاز المدح عليه ولم يكن لقوله تعالى( وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا ) معنى والوالد إذا توصل إلى تأديب ولده بأمور جاز أن يقال جعله أديبا عالما لفعله الأسباب التي عندها تعلم وقيل ان المراد بذلك الانقياد لا الاسلام الذي هو تمسك بالعبادات ودلوا على ذلك بالاضافة في قوله( مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) ودلو عليه بما بعده من قوله( إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) ومن يفعل الاسلام التي هي العبادات لا يوصف بانه اسلم لله ويوصف إذا أريد به الاسلام والانقياد وقوله من بعد( إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ ) والمراد اختاره لكم يدل على ان الاسلام فعلهم.

[ مسألة ] ان قيل لم قال( فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) وما فائدة تعليق الاسلام بالموت وهو واجب في كل حال. وجوابنا أنّه لـما كان المرء يخاف الموت في كل وقت صار ذكر الموت دلالة على وجوب التمسك بالاسلام والخوف من تركه في كل وقت ويكون ذلك في التحذير أقوى.

[ مسألة ] وسألوا فقالوا كيف قال( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) مع قوله في غير موضع انهم غيروا الكتاب وحرفوه. فجوابنا انه تعالى أراد القرآن وأراد من أهل الكتاب من آمن ولذلك قال( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) والكتب المتقدمة لا يجب فيها هذه التلاوة وقد قيل أنّ المراد يتلون التوراة على حقها من غير تحريف لان من آمن بالرسول كان هذا حالهم فهذا أيضا يحتمله الكلام.

[ مسألة ] وسألوا فقالوا كيف يقول تعالى( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) فكيف يصح ان ينفى ان يكون

٣٦

عليهم حجّة ثمّ يقول إلّا الذين ظلموا فيكون لهم الحجة. وجوابنا لكن للذين ظلموا الحجة فانهم يحتجون عليكم بالباطل وذلك استثناء منقطع.

[ مسألة ] وقالوا كيف قال تعالى( وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) فخصهم بهذا الهدى. وجوابنا أنّ هذا الهدى من جنس اللطف الذي يتأتى في المؤمنين كقوله( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ) وقد بينا ان الهدى العام هو الدلالة ومتى أريد به الاثابة أو الالطاف فذلك خاص.

[ مسألة ] وسألوا عن قوله( وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) وقالوا كيف يصح ذلك في الايمان وقد تقضى. وجوابنا أنّ المراد ابطال ثوابه وقد قيل انه نزل في صلاتهم إلى بيت المقدس فبين انه وان نسخها فثوابها محفوظ لمن لم يفسد ذلك بكفر أو كبيرة.

[ مسألة ] وسألوا عن قوله( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) قالوا لو عرف أهل الكتاب نبوّته لـما صح مع كثرتهم أن ينكروا ذلك ويجحدوه فكيف يصح ما اخبر به تعالى عنهم. وجوابنا أنّ المراد من كان يعرف ذلك منهم وهم طبقه من علمائهم دون العامة منهم ولذلك قال( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ولا يجوز ذلك على جميعهم لعلمنا باعتقاداتهم وتجويزه على من ذكرناهم يصح.

[ مسألة ] قالوا ان قوله( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) يدل على انه تعالى انما يعلم من يتبع الرسول ومن لا يتبعه عند جعل القبلة كذلك وهذا يوجب ان علمه تعالى محدث. وجوابنا أنّ المراد إلّا ليفعلوا اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلم فذكر العلم وأراد المعلوم لأنَّ

٣٧

المعلوم لا يكون إلّا بحسب العلم فذكر العلم يدل على حال المعلوم وذلك كقوله تعالى( حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ ) والمراد حتّى يجاهدوا ونحن بذلك عالمون وقد قيل انه تعالى ذكر نفسه وأراد رسوله كقوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ ) والمراد يؤذون أنبياءه وكأنه قال إلّا ليعلم الرسول من يتبعه.

[ مسألة ] وسألوا عن قوله( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ ) فقالوا كأنه قال أفيضوا أيها الناس من حيث أفاض الناس وذلك لا يفيد. وجوابنا انهم قبل الاسلام كانوا يقفون بمزدلفة وبعضهم كان يقف بعرفة فأمروا في الاسلام أن يقفوا بعرفة ثمّ يفيضوا منها إلى المزدلفة وجعل ذلك شرعا وقال بعضهم أراد بقوله من حيث أفاض الناس أي ابراهيم ومن يتبعه لانه صلّى الله عليه وسلم في الحج أمر في أكثره باتباع طريقة ابراهيم صلّى الله عليه وسلم.

[ مسألة ] قالوا وقال تعالى( فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أو أَشَدَّ ذِكْراً ) ثمّ قال( فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا ) وليس لذلك تعلق بالأول فما الفائدة في ذلك. وجوابنا أنّ المراد فاذكروا الله كذكركم آباءكم بأن تسألوه مصالحكم في الدين والدنيا ولذلك قال( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ) فكأنه قال اذكروا الله في امر دينكم ودنياكم كما ان هؤلاء الناس يقولون ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وضرب الله تعالى المثل بالآباء لان المعتاد ان المرء ينشأ على محبتهم وذكرهم والا فنعم الله تعالى أعظم من ذلك فذكرهم الله يجب أن يكون اكثر من ذكرهم لآبائهم.

[ مسألة ] قالوا في قوله( الَّذِينَ إذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) كيف يصح الرجوع إلى الله وليس هو في

٣٨

مكان، وجوابنا أنّ المراد به الرجوع إلى الله حيث لا حكم ينفذ إلّا لله تعالى كما يقال في الخصمين رجع أمرهما إلى الحاكم أو إلى الأمير والمراد انه هو صار المتولي لذلك وقد جرت العادة في الدنيا ان غير الله يملك الأمور بان ملكه الله وفي الآخرة خلاف ذلك وهذه الآية تدل على ان غير الانبياء يجوز أن يقال فيهم صلّى الله عليه وسلم لان الله تعالى ذكر في الصابرين على المصائب( أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) وان كانت العادة في تعظيم الانبياء قد جرت بان يخصوا بذلك وزجر تعالى عن كتمان الحق زجرا عظيما بقوله( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) وقد قيل أنّ المراد باللاعنين الملائكة وذلك نهاية الزجر في كتمان الحق. ثمّ بين أن هذا اللعن يزول بالتوبة فقال( إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ) ما كتموه ونبه تعالى بقوله( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ ) على ان من تاب من الكفار خارج عن هذا الحكم وبين تعالى بقوله( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ) ان الواجب في العبادة أن توجه اليه وحده وبين الأدلة عليه وعلى وحدانيته بقوله( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) فذكر هذه الآيات الدالة على الله تعالى وعلى أنّ المنفرد بالألوهية وبين في آخره بقوله( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) انّ الواجب على العقلاء أن يتدبروا هذه الامور في سائر حالاتهم كما قال تعالى( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ) فالمعلوم ان العبادة بالصلاة والصيام وغيرهما تلزمهم في حال دون حال والعبادة بذكر الله ومعرفته والتفكر في نعمائه والقيام بشكر إفضاله تلزم في كل حال وعلى هذا الوجه قال( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ

٣٩

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ) فذم من لم ينظر في هذين أحدهما التفكر في سائر ما خلق ليقرر به توحيده والآخر التفكر في قرب الاجل وللحذر من ترك التوبة والاستعداد فنبه تعالى على وجوب هذين في كل حال يذكرهما المرء. وبعد ذلك قال تعالى( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ ) وبين ان الذين آمنوا أشد حبا لله أي لعبادته وتعظيمه وبين أن هؤلاء إذا رأوا العذاب علموا أن القوة لله جميعا دون الانداد وتتبرأ من اتبع ممن اتبعهم عند رؤية العذاب والذين يتبعون يتمنون الرجوع مرة أخرى حتّى يتبرءوا ممن تبرأ منهم ثمّ بين انه يريهم أعمالهم حسرات عليهم ومن تفكر في هذه الآيات يستغني بتأملها عن كل تذكر. ثمّ قال( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ) فشرط فيه كلا الشرطين( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ) الذي يزين لكم اللهو والهوى فانه عدو مبين. فخالفوه إلى ما هو حلال وان شق عليكم ثمّ قال( إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) فحذر من الشيطان بهذا النوع من التحذير وقبح قول من حكى عنهم إذا قيل لهم( اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ) فاختار تقليد الآباء واتبع طريقهم على ما بينه الله تعالى من الحق ومثلهم بقوله( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً ) فوصف المنعوق بأنه وان سمع فهو بمنزلة الصم البكم لـما لم يؤثر قول من دعاه إلى عبادة الله فيه وبين بعد ذلك ما أحل وما حرم فقال( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أهل بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) وبين ان ذلك وما أشبهه هو الحرام إلّا للمضطر وأعاد زجر من يكتم الحق ويشتري به ثمنا قليلا وبين انهم يأكلون في بطونهم نارا تحقيقا لـما يستحقونه من العذاب وانهم اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501