تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن0%

تنزيه القران عن المطاعن مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 501

تنزيه القران عن المطاعن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عماد الدين أبي الحسن عبد الجبّار بن أحمد
الناشر: دار النهضة الحديثة
تصنيف: الصفحات: 501
المشاهدات: 75686
تحميل: 3753

توضيحات:

تنزيه القران عن المطاعن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75686 / تحميل: 3753
الحجم الحجم الحجم
تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن

مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

سورة النمل

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ ) كيف يصح انه تعالى يكون مزينا لأعمال الكفار؟ وجوابنا أنّ المراد زيّنا لهم ما ينبغي أن يعملوه وما يجب عليهم السعي فيه وقد يقال لم يوجد مع ذلك أن عملهم على هذا الوجه ولذلك قال بعده( فَهُمْ يَعْمَهُونَ ) وذكر تعالى ذلك بعد قوله في القرآن( هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) ثمّ قال عقيب ذلك إن من لم يؤمن قد زينا له ما يجب أن يأتيه لكنه يعمى عن ذلك وقد قيل زينا بمعنى موافقتها الشهوة والهوى للعلم بأنه تعالى يفعل الشهوة لكنه يصرف عنها والوجه الأوّل أولى.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها ) ما معنى هذه البركة وما المراد بمن حولها وهل يتصل ذلك بموسى صلّى الله عليه وسلم؟ وجوابنا أنّ البركة هي بمعنى الثبات والبقاء فبين تعالى ثبات تلك النار لموسى ومن حولها لأن موسى كان قد جاءها وصار هو وأصحابه حولها كما يتفق في العادة حال الناس مع النار وقيل أراد تعالى بقوله بورك من في النار موسى عليه الصلاة والسلام وأراد بمن حولها الملائكة عليهم

٣٠١

السلام لأنهم حضروها ويحتمل في هذه البركة أنها لمكان البقعة التي أصابتها النار ولذلك قال تعالى في سورة القصص( نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ ) وقد قيل في من حولها أنهم لم يكونوا مؤمنين فأثبت الله تعالى البركة في النار لـما جاءها موسى لـما له من الفائدة في حضورها.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ) كيف يصح هذا الاستثناء من المرسلين ولا يجوز أن يكون فيهم ظالم خائف؟ وجوابنا أنّه قد قيل الا من ظلم بالاقدام على صغيرة ثمّ تلافاه بالتوبة فانه غفور رحيم وقد قيل أنّ المراد لكن من ظلم فانه يخاف الا ان يتوب فيكون كلاما مستأنفا في غير الرسل لئلا يتوهم ان الخوف لا يزول الا عن الرسل وقوله تعالى من بعد( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) لا تناقض فيه لانّ الحجة بعد البيان واليقين.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها ) كيف يصح من سليمان ان يسمع قول النمل وكيف صح من النمل هذا القول؟ وجوابنا أنها لـما قربت من موضع مسيره صلّى الله عليه وسلم وأنطقها الله تعالى بذلك صح ان يعلم ومثل ذلك وان كان معجزا فانه يصح في ايام الانبياء صلوات الله عليهم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أو لَأَذْبَحَنَّهُ أو لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) كيف يصح هذا القول من سليمان صلّى الله عليه وسلم في طير ليس

٣٠٢

بمكلف حتّى يعذبه وكيف يذكر ذلك في جملة الزجر وكيف يزيد ذلك بأن يأتيه بسلطان مبين وكيف يعرف الهدهد ذلك من مراده حتّى يأتيه بخبر سبأ؟ وجوابنا أنّ الله تعالى كان سخّر له الطير وفي جملتها ما يكون أقرب إلى الفهم ولو كان ممنوعا من النطق ويجوز في تلك الايام ان يكون تعالى قد زاد في علمها بالهام وأن يكون سليمان قد تقدم من قبل بأمور عرفها الطير أو الهدهد خاصة فلذلك قال( أو لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) فأما قوله تعالى عز وجل( لَأُعَذِّبَنَّهُ ) فالمراد به التأديب فكما يؤدب المرء من قارب البلوغ فكذلك قال للهدهد فأما الذبح فقد يجوز أن يكون جائزا في شريعته كما ثبت في شريعتنا مثله فيما يؤكل فلا مطعن على ذلك بما ذكروه وقوله من بعد في صفة المرأة وأنها تملكهم وانهم يسجدون للشمس من دون الله فقد يصحّ وقوع مثله ممن لم يبلغ حد التكليف فلا يصح أن يعترض به على ما ذكرنا وقوله تعالى من بعد( قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ ) يصح في الهدهد وإن كان لا يعرف التوحيد إذا أجرى الكلام على الحد الذي ذكرنا فان مثله يصح من المراهق لانه يعرف الفصل بين من يظهر التوحيد ويعبد ربه بأفعال وبين من يسجد لغير الله تعالى وان لم يكن مكلفا.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) كيف يصح نقل عرشها من ذلك الموضع البعيد في هذا القدر من الاوقات وان ذلك معلومة استحالته؟ وجوابنا أنّ سرعة الحركة والتحريك لا يعلم منتهى حده فلا سريع الا ويجوز أسرع منه فلا يمتنع صحة ذلك إذا كان الله تعالى مقويا له عليه ومعنى قبل ان يرتد اليك طرفك المبالغة في الاسراع لان ذلك قد يقال في الامر السريع الشديد السرعة ويحتمل أن طرفه لا يرتد الا بعد اوقات ويكون ذلك كالمعلوم من حاله لأن من نظر إلى جهة ربما أطال النظر اليها ثمّ يرتد طرفه ومعنى قوله من بعد في قصة لوط صلّى الله عليه وسلم( أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ

٣٠٣

وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) الفائدة فيه إعظام ما فعلوه لأنه إذا كان جهرة فهو أعظم من أن يكون خفية وربّ شيء يحسن خلوة ويقبح كونه بحيث يشاهد وما ذكره تعالى من بعد من قوله( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ ) فيه تنبيه على عظم نعمة الله جل وعز لتدبر فيقام بحق شكره فذكر ما يقارب عشرين خصلة من النعم التي لا يقدر عليها غيره منبها على توحيده ثمّ قال في آخره( قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) موبخا لهم على جحد ذلك ثمّ على قول الكفار( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا ) فانه يقبح منهم هذا القول مع تقدم تلك الدلائل ومع قوله بعد ذلك( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) وقوله( وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) يدل على أن الحوادث كلها مكتوبة في اللوح المحفوظ ليستدل بذلك الملائكة على قدرة الله وعلمه.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ) كيف يصح أن يحسبها من يشاهدها جامدة ساكنة مع شدة الحركة وسرعتها؟ وجوابنا أنّ الجمود في العادة الاتصال ولا يكون إلاّ مع السكون وعند سرعة الحركة لا يحتمل التفرق فقال تعالى( وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ) وهي على حالها التي يظن أنها لا تكون الا مع السكون وقد قيل أنها تبلغ في سرعة الحركة ما لا يكاد يظن أنها متحركة خصوصا إذا كان المرء يتحرك مع حركتها فيكون كراكب السفينة فانه يظن مع سائر الركاب أنهم ساكنون وإن كانوا يتحركون أسرع حركة وقوله تعالى( صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) أحد ما يدل على ان الكفر والفساد ليس من فعله والا لكان يصح وصفه بانه محكم متقن وقوله تعالى من

٣٠٤

بعد( وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) يدل على أن الاهتداء والضلال من فعل العبد وقوله تعالى من بعد( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) لكي يتصور المرء نفسه فيما يأتي ويذر أنه يبصر ويسمع.

تنزيه القرآن (٢٠)

٣٠٥
٣٠٦

سورة القصص

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ) أليس جعل الله تعالى لهم أئمة يدل على أنه خلقهم كذلك فاذا كانوا أئمة بأفعال فيجب ان تكون تلك الافعال خلقا لله؟ وجوابنا أنهم إنما يكونون أئمة بالعقل والخوف والتمكن وبالألطاف من قبل الله تعالى وكل ذلك من خلقه وهو الذي أراد تعالى وكل ذلك من خلقه وهو الذي أراد تعالى وقيل ان المراد حكمنا بذلك كقوله تعالى( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النَّارِ ) فالمراد عند الجميع قضينا وحكمنا وبيّن ذلك قوله تعالى( وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) فأراد بذلك نحو ما ذكرنا لأن التركة لا تكون باختيار الوارث وكذلك قال( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) واذا كان موسى صلّى الله عليه وسلم وقومه إنما تم لهم ما تم بما أنزل الله تعالى بفرعون وبما خصه به من المعجزات وكل ذلك من فعله صحّ أن يقول وجعلناهم أئمّة وليس المراد خلق فيهم صلاتهم وعبادتهم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَأَوْحَيْنا إلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) كيف يصح أن يوحى اليها وقد بيّن في غير آية أنه ما أرسل إلا رجالا وكيف يصح وهي لم تكن نبية فيوحى اليها بما لا يعلم إلا من قبله تعالى؟ وجوابنا أنه

٣٠٧

يجوز ان يعرفها ذلك على لسان نبي الزمان فلا يلزم ما قلتم ويحتمل انه ألهمها ذلك فقوى في ظنها كل ذلك إلى حصول العلم لها به وقد قيل أراها تعالى ذلك في المنام بعلامات مخصوصة فعلمت بها والأقرب ما قدمناه من أن رسولا كان في الزمان فعرّفها أو نزل جبريل فعرفها على أنّ ذلك من معجزات ذلك الرسول.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) وكيف يصح ذلك مع قول امرأة فرعون( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أو نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) ؟ وجوابنا أنّ المراد بقوله تعالى( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) العاقبة والمراد بقوله تعالى قرة عين ما دعاهم إلى التقاطه وذلك لا تنافي فيه وقد ثبت أنّ هذه اللفظة قد يراد بها المآل وما يقصد إليه كقول القائل في المرضعة والوالدة أنها تربّي ولدها لكي تنتفع به ويبقى لها وقد يقال مرضعة للموت إذا كان هذا هو العاقبة وعلى هذا الوجه قال الشاعر :

وأم سماك فلا تجزعي

فللموت ما علت الوالدة

فاما قوله تعالى من بعد( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها ) فالمراد فراغ قلبها من سائر أمور الدنيا سوى أمر ولدها فلذلك قال تعالى( لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي تصدق بما أوحينا اليها وقوله تعالى( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ) المراد به الصرف والمنع لا التحريم في الحقيقة وذلك كقوله تعالى في أهل النار( إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ ) فليس لأحد ان يطعن بذلك وكقوله( وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) وقوله تعالى( وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) يدل على أنّ ذلك الوحي كان مقطوعا به على ما ذكرناه.

[ مسألة ] ومتى قيل في قوله تعالى( هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ

٣٠٨

عَدُوِّهِ ) كيف يصح ذلك وإنّما يقال هذا من أعدائه فيستقيم الكلام؟ فجوابنا أنّ المراد ما ذكرته والعدو قد يقع على الجمع وعلى الواحد على طريقة العرب في المصادر.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) كيف يصح من النبي أن يقع منه قتل من لا يحل دمه؟ وجوابنا أنّ وكزه كان على وجه الدفع لـمّا أراد مخاصمته ولم يظن انه يؤدي إلى قتله وذلك كالمرء يؤدب ولده استصلاحا له فيؤديه إلى الموت وهذا من الصغائر التي نجوزها على الانبياء ولذلك قال( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) وذلك يدل على أن أفعال العباد ليست من خلق الله تعالى وإلا كان الأشبه به أن يقول هذا من عمل الرحمن ولذلك قال بعده( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) وقوله تعالى( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) أحد ما يدل ايضا على ما قلناه لأن فعل المجرمين إن خلق جرمهم فلا فائدة في أن يكون ظهيرا وإن لم يخلق هو أيضا فلا فائدة في ذلك وقوله تعالى( فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) يحتمل أنه ظهر منه ما يوجب أن لا يعينه ويحتمل أنه خاف إن أعانه على نفسه منهم فلا مطعن في ذلك وقوله من بعد( فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ) يدل على التأويل الثاني وانه خاف من ذلك فلهذا امتنع من نصرته وقوله تعالى( وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ) أحد ما يدل على وجوب العمل بالخبر فيما يجري مجرى الخوف ولذلك خرج خائفا إلى مدين وسأل الله تعالى أن ينجيه من القوم الظالمين ولو كان ظلمهم من خلق الله لكان ينجيه من نفسه تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وقوله تعالى من بعد( فَسَقى لَهُما ثُمَ

٣٠٩

تَوَلَّى إلى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) مع شدة حاجته عجيب في اقتصاره على هذا القدر حتّى دعاه شعيب وأمّنه وكفاه وأنكحه ابنته وقضى له موسى بعد ذلك أحسن الأجلين. فالمروي عن المفسرين أنه قضى الاجل الأكمل وقوله بعد( نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) أحد ما يدل على حدوث كلام الله تعالى وإلا كان يجب أن يكون أبدا قائلا لموسى هذا القول.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إلى إِلهِ مُوسى ) كيف يصح على فرعون أن يظن هذا الظن مع كمال عقله ومعرفته بأن القصور وإن بنيت أطول منها فلا يصح فيها ذلك وكيف يصح ان يقول هذا القول مع قوله تعالى في سورة بني اسرائيل( لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فان كان عالما بذلك فكيف يصح ان يظن الاطلاع إلى إله موسى؟ وجوابنا أنّ فرعون لـما ادعى الالهية وصدقه قومه لجهلهم كان يظهر القدرة ويدعيها وإن كان في الباطن يعلم خلاف ذلك وعلى هذا الوجه قال ما علمت لكم من إله غيري مع علمه باحتياجه إلى الاكل والشرب ودفع المضار وعلى هذا الوجه أيضا قال لهامان وذلك لا يمنع من ان يكون في الحقيقة عالما بالله تعالى على ما يدل عليه قوله( لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ ) فليس بين الآيتين اختلاف.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ ) أليس يدل على شك منه في النبوة؟ وجوابنا أنّه تعالى قال ذلك على وجه الحجاج ولذلك قال بعده( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

٣١٠

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ) فأما قوله تعالى بعد ذلك( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) فالمراد لا تثيبه وليس المراد لا تدله ولا تبين وكيف يصح ذلك وقد قال جل وعز( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أو يقال أنه ظهر منه صلّى الله عليه وسلم شدة المحبة لإيمان ابي طالب عمه وأن يكون من أهل الجنة فأنزل الله تعالى ذلك منبها به على أن الجنة لا تنال إلا بالعمل الصالح ولذلك قال( وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) كيف يصح أن يصف نفسه بأنه يختار ما اختاروه أو يختار ما لم يختاروه وأي فائدة في ذلك؟ وجوابنا أنّ المراد ما كان لهم الخيرة في ترك عبادة الله واتخاذ الاصنام آلهة ولذلك قال بعده( سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) فبين أنه الخالق لـما يشاء وأنه يختار لهم التوبة لان هذه الآية عقيب قوله( فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ) فبين أنه تعالى يختار للمكلفين ما هو أصلح وأنه ليس لهم الخيرة فيما يختارونه بارادتهم وشهوتهم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) كيف يصح أن يبلغ في الغنى هذا الحد ومثل ذلك متعذر في العادة؟ وجوابنا أنّ العصبة قد يقل عددها ويكثر فلا يمتنع أن يكون الله تعالى قد آتاه من الاموال ما فرقه في الظروف الكثيرة وبلغت مفاتيح غلقها ما ذكره الله تعالى ولسنا نعلم أن الغلق في ذلك الزمان كيف كان فانه قد يعظم فتعظم لذلك مفاتيحه وقد يصغر ومعلوم أن كثيرا من الملوك يجتمع في خزانته مثل ذلك وأكثر فلا حاجة لاستبعاد ذلك وقوله تعالى( إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ ) لا بد من حذف في الكلام وهو لا تفرح بما حصل فرح من يظن أنه يدوم ويبقى وقوله( وَابْتَغِ فِيما آتاكَ

٣١١

اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) يدل على ما قلناه فكأنهم أشاروا عليه بأن ينفقه في سبيل الله وينصرف عن الجمع الكثير وقوله( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ) المراد به التمتع بالقدر الذي يخرج في العرف وقد قيل أنّ المراد أن يأتي في الدنيا ما يفوز لأجله بالآخرة إذ الدنيا إنما تراد لمثل ذلك إذا وسّع الله على المرء ولذلك قال تعالى آخرا( وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) حاكيا عن أولي العلم منهم ونبه تعالى بقوله( فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ ) على أن الاعتداء بالدنيا وان كثرت من أعظم الخطأ وأن الواجب تفريق ذلك في مصالح الدين والدنيا وقال تعالى( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) فان من يكون بغيته جمع الاموال وعمارة الدنيا ويلهو عن الآخرة فمراده العلو في الارض والفساد فان أضاف إلى ذلك التسلط على الناس لـما فضله الله به فهو أعظم ولمن يعنى بذلك ارادة العلو في باب الدين فان بلغ الانبياء هذه الرتبة العالية فيجوز أن يريدوا انقياد الناس لهم ودخولهم تحت طوعهم وقوله عز وجل( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) أحد ما يدل على أنه لا يزيد في العقاب البتة وان كان يزيد على الثواب التفضل الكثير وقوله تعالى من بعد( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) فالمراد به أنه يفني جميع الاشياء ثمّ يعيد ما يجب إعادته وقوله إلا وجهه المراد به إلا هو فليس للمشبهة تعلق بذلك ويلزمهم أن أثبتوا لله وجها ويدا أن يقولوا إن سائره يفنى ويبقى وجهه وليس ذلك مما يعتقده مسلم وعلى هذا السبيل يقال هذا وجه الامر وهذا وجه الصواب فقد يذكر الوجه ويراد نفس الشيء فعلى هذا الوجه نتأول الآية.

٣١٢

سورة العنكبوت

[ مسألة ] قد بيّن تعالى في هذه السورة ما إذا وطّن المكلف نفسه عليه كان باعثا له على العبادة وصارفا له عن المعاصي فقال تعالى( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) فبيّن أن المؤمن لا يخلو من فتن ومحن وشدائد وأن الواجب أن يعتبر بذلك ويصبر وصبره على ذلك يدعوه إلى الصبر على العبادة وعن المعاصي ثمّ بيّن أن هذه عادة الله تعالى فيمن تقدم أيضا فقال جل وعز( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ) وذكر العلم وأراد المعلوم لأنه تعالى عالم لم يزل ولا يزال ولا يعلم الشيء عند كونه فقط ومثل ذلك يجري مجرى الوعيد كقول القائل لغيره أنا عالم بتقصيرك إذا قصرت وبوفائك إذا وفيت ثمّ بيّن من بعد بقوله( وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) أن من تمسك بعبادته فإلى نفسه أحسن وأنه تعالى ما أراد بتكليفه إلاّ أن يعرضه للمنزلة العالية( إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) وبيّن أنه وصّى المرء ببرّ الوالدين إيجابا لحقهما وأنه يجب أن لا يمتنع من برهما وإن دعواه إلى الشرك لكنه لا يطيعهما في باب الدين ويصاحبهما بالمعروف.

[ مسألة ] ومتى قيل ما معنى قوله( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) وأيّ فائدة في هذا الادخال

٣١٣

وقد آمنوا وعملوا الصالحات ولم صاروا هم بأن يدخلوا في الصالحين أولى من أن يدخل الصالحين في جملتهم؟ وجوابنا أنّه تعالى قد بين ما للصالحين من المنزلة في الآخرة وما يفعله بهم من معونة ونصرة في الدنيا ثمّ بين أن كل من آمن وعمل صالحا فهو داخل في هذا الوعيد باعثا لهم على التمسك بالايمان وبيّن من بعد أن المعتبر بالاخلاص لا بالقول فقال تعالى( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ) وبين أن النفاق يمنع من دخول المنافق وإن أظهر الايمان فيما وعد به الصالحين فقال تعالى( وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) .

[ مسألة ] ومتى قيل ما معنى قوله تعالى( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) . فجوابنا أنّ الله تعالى أنكر ذلك عليهم بقوله( وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ ) وإنّما قالوا ذلك إيهاما للمؤمنين بأنهم ينصرونهم في الدنيا وينفعونهم لا بأنهم يحملون خطاياهم في الحقيقة ثمّ بيّن تعالى أن الامر بالضد من ذلك وأن هؤلاء الكفار يحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم لأنهم إذا دعوا غيرهم إلى الكفر والمعاصي كانت هذه منزلتهم.

[ مسألة ] ومتى قيل في قوله تعالى( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً ) كيف يصح ان يعيش المرء هذا القدر وهذا بخلاف العادة؟ فجوابنا أنّ من ينكر ذلك فمراده دعاء إلى التعطيل والإلحاد والله تعالى قادر على ذلك وعلى هذا الوجه بيّن أمر الجنة وأنه يبقيهم ومن تأول ذلك على أن المراد أن دعوته إلى الشريعة بقيت هذه المدة فقد أخطأ وكان صلّى الله عليه وسلم يدعو حالا بعد حال ويصبر عليهم كما ذكره الله تعالى في نبوّة نوح ثمّ دعا عليهم آخرا بقوله( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) لـما علم بأنهم لا يؤمنون وأنزل الله تعالى بهم من بعد العذاب وقوله عز وجل( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ

٣١٤

ظالِمُونَ فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ ) يدل على أنه بقي هذه المدة وانه بقي بعدها أيضا ولذلك قال( وَجَعَلْناها ) يعني السفينة( آيَةً لِلْعالَمِينَ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ما فائدة قوله تعالى( إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ؟ والمعلوم أن ذلك خير لهم على كل حال. وجوابنا أنّ ذلك يقال على وجه التهديد لا لأن علمهم يدخل ذلك في أن يكون خيرا ثمّ بين لهم ان الذين يعبدونهم لا يملكون لهم رزقا ولا نفعا وأن الواجب عبادة من يبتغى من جهته الرزق ومن اليه المرجع في الاثابة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) كيف يصح وقوع الكفر في الآخرة؟ وجوابنا أنّ المراد بهذا الكفر الجحد والانكار فان المودة بين المبطلين تكون في الدنيا دون الآخرة كما قال تعالى( الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أهل هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها ) كيف خفي على ابراهيم انهم لم يريدوا بالاهلاك لوطا ومن آمن معه حتّى قال ما قال فأجابوه بما أجابوا؟ وجوابنا أنّه يجوز في الدنيا أن يلحق العذاب بالعصاة ويكون فيهم غيرهم فيكون ذلك محنة فلما كان ذلك مجوزا جاز أن يقول إبراهيم صلّى الله عليه وسلم ما قال ولا يمنع أن يكون في ظنه ان القوم لا يعرفون أن لوطا فيها فعرّفهم ذلك وقوله تعالى من بعد( فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ) لذكر ما أنزله بأمم الانبياء من العذاب وقوله بعد ذلك( وَما كانَ اللهُ

٣١٥

لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) يدل على ان هذه الافعال أفعال العباد ليصح أن يؤاخذوا بها وان ينسب الظلم إلى أنفسهم كما نقوله في هذا الباب وقوله من بعد( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) أيدل على ما نقوله من أنه لا يفعل إلا الحكمة والصواب وفي قوله بعد( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) ربما يقال إنا نرى من يصلي ولا ينتهي عن ذلك فكيف يصح هذا الظاهر؟ وجوابنا عنه ان الذي تنهى الصلاة عنه هو الذي لا يقع والمصلي وان فعل منهما الكثير فمعلوم من حاله انه غير فاعل لشيء من ذلك في بعض الاوقات فبيّن الله تعالى أنه أوجبها لأن عندها ما هو ازيد منه ومعلوم أيضا أنه غير فاعل المصلى لا يختار الفحشاء والمنكر وإلا فالصلاة محال أن تنهى فالمراد ما ذكرناه وهذا أحد ما يعتمد عليه في أنه تعالى لا يعبد بهذه الشرائع إلا لهذا الوجه وقوله من بعد( وَلا تُجادِلُوا أهل الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) ربما قيل فيه ان ظاهره يقتضي فيمن ظلم منهم أنه يجادل بما ليس أحسن وذلك لا يصح؟ وجوابنا أنّ من ظلم منهم نفسه وتمرد لا يكون ما يلزمنا أن نرد به عليه مثل الذي نخاطب به غيره وإن كان الجميع حسنا أنّا نفعل مع بعضهم ما غيره أحسن منه وان كان كل ذلك من باب الحسن وقوله تعالى( وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذا لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ) يدل على ما نقوله من أنه تعالى ينزه الانبياء عن كل أمر ينفر عنهم وقوله تعالى من بعد( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) ربما يتعلق به الخوارج في أن كل فسق كفر وربما يتعلق به من يقول إنه مع الايمان لا يضر شيء. وجوابنا أنّ ذلك لا يمنع من أن يحيط بغيرهم فلا يدل على ما قالوه وفي قوله تعالى( وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) دلالة على انهم يعاقبون ويعرفون أن ذلك العقاب عدل من حيث عملوا وأذنبوا ولو كان ذلك من خلق الله تعالى فيهم لـما صح ذلك وقوله تعالى من بعد( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ )

٣١٦

ربما يقال ما الفائدة في ذلك وهو معلوم للمخاطب؟ وجوابنا أنّ المراد فاياي فاعبدون ولا يصدنكم عن العبادة عدم الاستقرار في مكان واحد بل يجب أن المرء يكون الوفاء بعبادة الله تعالى ولو مع التحول ان تحول فأرض الله واسعة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ) كيف يصح ذلك في وصف الدار التي هي جماد؟ وجوابنا أنّه تعالى بيّن بهذا المجاز ما لا يفهم بالحقيقة إذ المراد أن هذه الدار من حق الحياة فيها أن تدوم ولا تنقطع ومن حقها أن يدوم نعيمها بلا بؤس وأن يتصل ولا مشقة.

٣١٧
٣١٨

سورة الروم

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ ) كيف يصح أن يفرحوا بغلبة بعض الكفار لبعض؟ وجوابنا أنّه تعالى لـما بشر المؤمنين بأنهم سيغلبونهم ذكر ذلك فلو لم يكن إلا ما يظهر من صدق هذا الوعد لكفى فكيف وقد ينصر المؤمن مما يجري من الذل على الكفار من قبل الكفار أيضا ولذلك قال تعالى بعده( وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ) وبيّن ان الاكثر من الناس لا يعلم الا ظاهر الحياة الدنيا دون ما يتعلق بالدين بقوله تعالى( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ) ومتى قيل في قوله تعالى( وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ ) لـما ذا كرر وما الفائدة فيه وهل يحمل على التأكيد أو فيه مزيد فائدة. فجوابنا*

__________________

(*) جواب هذا السؤال لم نجده في شيء من نسخ الكتاب وإنّما وجدنا مكان الجواب بياضا هكذا وقد ذكر الزجاج في تفسيره فقال هم الأوّل مرفوعة بالابتداء وهم الثانية ابتداء ثاني وغافلون خبرهم الثانية والجملة الثانية خبر الأوّل والفائدة في الكلام ان ذكرهم الثانية وان كانت ابتداء يجري مجرى التوكيد كما تقول زيد هو عالم وهو اوكد من قولك زيد عالم ويصلح ان تكون الثانية بدلا من هم الاولى مؤكدة أيضا كما تقول رأيته اياه ورأيت زيدا نفسه ولعل قاضي القضاة لم ير منه جوابا شافيا وأراد اشفاء منه فتوقف فيه ولا يمتنع أن يكون قد أجاب عنه في نسخة أصله وان لا يكون قد وقع البيان.

٣١٩

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ) كيف يصح أن يسمى ما يفعله بهم تعالى سوءا وذلك لا يكون إلا قبيحا؟ وجوابنا أنّه أجرى هذا اللفظ على ما هو جزاء عليه كقوله( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) وذكره كثير في اللغة والا فما يفعله تعالى لا يكون الا عدلا وحكمة وذلك لا يوصف بهذا الوصف ولذلك لا يحسن وصف الله تعالى بأنه مسيء.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ) ثمّ قال( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ) فبين أنهم عند قيام الساعة يتفرقون إلى هذين القسمين كافر ومؤمن فقولك أن الفاسق له منزلة بينهما يبطل. وجوابنا أنّه تعالى قال يتفرقون ثمّ ابتدأ بقوله تعالى فأما الذين آمنوا وأما الذين كفروا فذكرهما ولم ينف ثالثا لهما وقد ثبت حكم ذلك الثالث بسائر الآيات.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ ) أليس يدل ذلك على ان كلامهم من خلق الله تعالى؟ وجوابنا أنّ اختلاف خلقة الالسنة من قبله تعالى ولأجل هذا الاختلاف يدرك كلامهم مختلفا فمن كان في لسانه رقة لا يكون كلامه بمنزلة كلام من في لسانه غلظ وكذلك اختلاف منافذ الرياح والنفس فبيّن تعالى ان في ذلك آية وعبرة وهذا الجواب اولى من قول من يقول ان المراد به اختلاف اللغات وانها من باب التوقيف وتضاف إلى الله تعالى لأن الوجه الذي به يقع الاعتبار في اختلاف الألسنة هو في كيفية ادراكنا لان الكلام في اللغات هل هي توقيف أو اصطلاح فيه الخلاف الكثير ومعنى قوله تعالى من بعد( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ) أنهما تقومان بفعله وارادته وذكر الامر على وجه التفخيم لشأنه كأن هناك أمرا هو قول وهذا

٣٢٠