• البداية
  • السابق
  • 165 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12274 / تحميل: 4954
الحجم الحجم الحجم
على خطى الحسين (عليه السّلام)

على خطى الحسين (عليه السّلام)

مؤلف:
العربية

على خطى الحسين (عليه السّلام)

تأليف

أحمد راسم النفيس

١

تقديم

مثلّت كربلاء نهجاً في مقاومة الطغيان ، وشقّت درباً يسير على هديه الساعون إلى الحق ، ومثلّت الخطى التي سارها الإمام الحسين (عليه السّلام) هجرة ثانية تُعيد سيرة هجرة جده المصطفى (صلّى الله عليه وآله) من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة

ولم تنقطع محاولات الأدباء والباحثين عن استلهام هذا السعي منذ حدوثه في العام ٦١هـ وحتى أيامنا هذه

ويمثّل هذا الكتاب إحدى هذه المحاولات

يمهّد المؤلّف بالحديث عن رؤيا للنبي (صلّى الله عليه وآله) تكشف أنّ ملوك السوء سيرتقون منبره من بعده ، فيحذّر منهم ويدعو إلى نصرة سبطه الإمام الحسين (عليه السّلام) ، ويعيّن جماعة المنافقين

٢

ثمّ يبحث بشي‏ء من التفصيل في تحقّق هذه الرؤيا ، فيتحدّث في فصل أوّل عن أبناء الشجرة الملعونة ، وهم رواد الفتنة في الإسلام ، ويبيّن أُسس خطابهم ، بوصفهم الخارجين على قيادة الأُمّة الشرعية ، ويقارن هذا الخطاب بخطاب القيادة الشرعية ، ويحدّد مفهوم الفتنة وملابسات خديعة التحكيم ، وأسباب وقوع فئة من المسلمين فيها

وفي فصل ثانٍ عن قيام ملك (أرباب السوء) ، ويبيّن أُسس شريعته ، ويتتبّع المحاولات التي قاومت هذا النهج المزيّف ، وعملت على إحياء قيم الإسلام

وفي فصل ثالث عن الثورة الحسينية بوصفها نهوضاً بمهمّة حفظ الدين ، فيبيّن نهجها ، ويتتبّع مراحلها : التمهيد ، التصميم والتخطيط ، اكتمال عناصر التحرّك ، الهجرة الثانية ؛ من مكة إلى الكوفة ، في الطريق إلى كربلاء

ويناقش في هذا السياق آراء ابن كثير الذي حاول إخفاء الحقيقة وناقض نفسه

وفى فصل رابع (كربلاء : النهوض بالأُمّة المنكوبة) ، ويكشف أنّ الموقف الحسيني معيار وقدوة ، ويتجلّى هذا الموقف في مواجهة إمام الحق لإمام الباطل ، حيث تتبيّن الحقيقة وتُقام الحجّة ، وتستنهض الأُمّة

يمثّل هذا الكتاب سعياً لمعرفة الحلقة الجوهرية في مسلسل الصراع بين الحق والباطل ، وقد أُتيح لهذا السعي أن يوفّق في تحقيق هدفه ، فعسى أن يفيد من جهده الساعون إلى هذه المعرفة

٣

تمهيد

رؤيا النبي (صلّى الله عليه وآله) ملوك السوء يرتقون منبره

١ـ التحذير من أرباب السوء

أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال : رأى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك ، فما استجمع (صلّى الله عليه وآله)، ضاحكاً حتى مات قال : وأنزل اللّه (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) (سورة الإسراء / ٦٠ )(١)

وفي الدرّ المنثور(٢) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمران أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) ، قال : (( رأيت وِلْدَ الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنّهم القردة )) ، وأنزل اللّه في ذلك : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ ) ، يعنى الحكم ووِلْدِه

وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرّة قال : قال رسول اللّه : (( أريت بني أُميّة على منابر الأرض وسيتملّكونهم ، فيجدونهم أرباب سوء )) ، واهتم رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) لذلك ؛ فانزل اللّه : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ )(٣)

٤

وفيه أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر عن سعيد بن المسيّب قال : رأى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بني أُميّة على المنابر ، فساءه ذلك ؛ فأوحى اللّه : إنّما هي دنيا أُعطوها فقرّت عينه ، وهي قوله : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ )

والآية الكريمة كاملة هي : (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً ) (سورة الإسراء / ٦٠ )(٤)

٢ـ الدعوة إلى نصرة سبطه الحسين (عليه السّلام)

روى الحنفي القندوزي في ينابيع المودّة في المشكاة ، عن أُمّ الفضل بنت الحارث ، امرأة العباس (رضى اللّه عنهما) : إنّها دخلت على رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ، فقالت : يا رسول اللّه ، إنّي رأيت حلماً منكراً الليلة

قال : (( ما هو ؟ ))

قالت : رأيت كأنّ قطعة من جسدك المبارك قُطعت ووضعت في حجري

فقال (عليه السّلام) : (( رأيتِ خيراً ، تلد فاطمة إن شاء اللّه تعالى غلاماً يكون في حجرك ))

قالت : فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري فأرضعته بلبن قثم ، فدخلت يوماً على النبي (صلّى الله عليه وآله) فوضعته في حجره ، ثمّ حانت منّي التفاتة فإذا عينا رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) تهريقان الدموع ، فقلت : يا رسول اللّه ، بأبي وأُمّي ما لك ؟!

قال : (( أتاني جبرائيل فأخبرني أن أُمّتي ستقتل ابني هذا ))

فقلت : هذا ؟!

٥

قال : (( نعم ، وأتاني بتربة حمراء ))(٥) رواه البيهقي

وفي الإصابة (أنس بن الحارث) قال البخاري في تاريخه : سمعت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( إنّ ابني هذا ـ يعني الحسين ـ يُقتل بأرض يُقال لها كربلاء ، فمَنْ شهد ذلك منكم فلينصره ))

قال : فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء ، فقُتل بها مع الحسين (عليه السّلام)(٦)

وفي الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي ، أخرج ابن سعد والطبراني عن عائشة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : (( أخبرني جبرائيل أنّ ابني الحسين يُقتل بعدي بأرض الطفّ ، وجاءني بهذه التربة وأخبرني أنّ فيها مضجعه ))(٧)

أخرج البغوي في معجمه من حديث أنس أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : (( استأذن ملك القطر ربّه أن يزورني فأذن له وكان في يوم أُمّ سلمة )) ، فقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( يا أُمّ سلمة ، احفظ‏ي علينا الباب لا يدخل أحد )) فبينا على الباب إذ دخل الحسين فاقتحم فوثب على رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ، فجعل رسول اللّه يلثمه ويقبّله فقال له الملك : أتحبّه ؟ قال : (( نعم )) قال : إنّ أُمّتك ستقتله ، وإن شئت أُريك المكان الذي يُقتل به ، فأراه ، فجاء بسهلة أو تراب أحمر فأخذته أُمّ سلمة فجعلته في ثوبها

٦

قال ثابت : كنّا نقول إنّها كربلاء

وفي رواية الملا ، وابن أحمد في زيادة المسند ، قالت : ثمّ ناولني كفّاً من تراب أحمر ، وقال : (( إنّ هذا من تربة الأرض التي يُقتل بها ، فمتى صار دماً فاعلمي أنّه قد قُتل ))

قالت أُمّ سلمة : فوضعته في قارورة عندي ، وكنت أقول : إنّ يوماً يتحوّل فيه دماً ليوم عظيم

وفي رواية عنها ، فأصبته يوم قتل الحسين وقد صار دماً(٨)

٣ـ محاولة اغتيال فاشلة

تعيين جماعة المنافقين

أورد ابن كثير في تفسيره نقلاً عن البيهقي في (دلائل النبوة) ، عن حذيفة بن اليمان قال : كنت آخذاً بخطام ناقة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أقود به ، وعمار يسوق الناقة ، أو أنا أسوقه وعمار يقوده حتى إذا كنّا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكباً قد اعترضوه فيها ، قال : فانبهت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بهم وصرخ بهم فولّوا مدبرين

فقال لنا رسول اللّه : (( هل عرفتم القوم ؟ ))

قلنا : لا يا رسول اللّه ، قد كانوا ملثّمين ، ولكنّا عرفنا الركاب

قال : (( هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة ، وهل تدرون ما أرادوا ؟ ))

قلنا : لا

قال : (( أرادوا أن يزاحموا رسول اللّه فيلقوه منها ))

قلنا : يا رسول اللّه ، أفلا نبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كلّ قوم برأس صاحبهم ؟

٧

قال : (( لا ، أكره أن تتحدّث العرب بينها أنّ محمداً قاتل بقوم حتى إذا أظهره اللّه بهم أقبل عليهم يقتلهم ))

ثمّ قال : (( اللّهمّ ارمهم بالدبيلة ))

قلنا يا رسول اللّه وما الدبيلة ؟

قال : (( شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك ))(٩)

وروى الإمام أحمد الرواية نفسها ، وهي واردة في تفسير قوله تعالى في الآية (٧٤) من سورة التوبة : (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا )(١٠)

كما روى ابن كثير أيضاً في الموضع نفسه ، نقلاً عن صحيح مسلم ، عن عمار بن ياسر ، عن حذيفة ، عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (( في أصحابي اثنا عشر منافقاً ، لا يدخلون الجنّة ، ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط ))

٨

ولهذا كان حذيفة يُقال له صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره ، أي تعيين جماعة المنافقين(١١)

حدثت هذه الحادثة الخطيرة في تاريخ الإسلام في أثناء غزوة تبوك في رجب من العام التاسع للهجرة ، ولم تذكر في كتب السيرة أو غيرها تحت عناوين رئيسية ، وإنّما تحت عناوين فرعية ، على الرغم من ثبوتها بنصّ القرآن ، ووقوعها ضمن أحداث غزوة تبوك حيث اشرأب النفاق وأطلع رأسه من منبته ، وورودها في سورة التوبة التي تسمّى أيضاّ (الفاضحة) ؛ لأنّها فضحت المنافقين وعرّتهم

أمّا خطورتها فتكمن في أنّ الذين رأوا في شخص الرسول الأكرم عائقاً أمام تحقيق أهدافهم لا بدّ أنّهم وضعوا هدفاً كبيراً تهون من أجل تحقيقه كلّ الجرائم ، حتى ولو كانت قتل الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ، أو الحسين بن علي (عليه السّلام) ، أو استباحة المدينة ، أو هدم الكعبة ، كما حدث بعد ذلك بالفعل

٩

الفصل الأوّل

أبناء الشجرة الملعونة روّاد الفتنة في الإسلام

شهدت (صفين) وهى مكان يقع بالقرب من شاط‏ى‏ء الفرات بين الشام والعراق

(واقعة صفين) التي دارت بين جيش الإمام علي الذي يمثّل القيادة الشرعية للأُمّة الإسلامية ، وبين جيش القاسطين الظالمين بقيادة معاوية بن آكلة الأكباد ووزيره الأوّل عمرو بن العاص

توشك النبوءة أن تتحقّق ، يوشك مَنْ حذّر رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) منهم أن يتسنّموا منبره

الصراع محتدم بين قيم الإسلام المحمدي الأصيل ، كما يمثّله إمام الحق علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، والفئة الباغية بقيادة ابن آكلة الأكباد ووزيره الأوّل ابن النابغة

وسنعرض نماذج متقابلة لخطاب كلّ فريق من الفريقين وسلوكه ، ثمّ نرى النهاية الفاجعة لهذا الصراع ، أو نهاية البداية لفجر الإسلام المضيء على يد هذه العصابة ، وهو عين ما حاولوه يوم عقبة تبوك فلم يحالفهم التوفيق :

١ـ خطاب رواد الفتنة الخارجين على القيادة الشرعية

رفع معاوية بن أبي سفيان شعار الثار لعثمان بن عفان ، فهل كان ابن آكلة الأكباد ووزيره الأوّل صادقين في دعواهما ؟ فلنقرأ سوياً في صفحات التاريخ

روى ابن جرير الطبرى في تاريخه : لمّا قُتل عثمان قدِم النعمان بن بشير على أهل الشام بقميص عثمان ، ووضع معاوية القميص على المنبر ، وكتب بالخبر إلى الأجناد ، وثاب إليه الناس ، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلّقة فيه (أصابع نائلة زوجة عثمان) ، وآلى الرجال من أهل الشام ألاّ يباتوا مع النساء ولا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان ، ومَنْ عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم

١٠

فمكثوا حول القميص سنة ، والقميص يوضع كلّ يوم على المنبر ، ويجلّله أحياناً فيلبسه ، وعلّق في أردانه أصابع نائلة ، ثمّ مضى معاوية ينشر في الناس أنّ علياً (عليه السّلام) قتل عثمان(١٢)

كان هذا هو الشعار المعلن ، فهل كان هذا الشعار يمثّل الحقيقة ؟ فلنقرأ أوّلاً في تاريخ عمرو بن العاص

أ ـ الشعار المعلن وحقيقته : الاستحواذ على السلطان

وروى الطبري أيضاً : لمّا بلغ عمراً قتل عثمان (رضي اللّه عنه) قال : أنا أبو عبد اللّه قتلته (يعنى عثمان‏) ، وأنا بوادي السباع ، مَنْ يلي هذا الأمر من بعده ؟ إن يله طلحة فهو فتى العرب سيباً ، وإن يله ابن أبي طالب فلا أراه إلاّ سيستنطق الحق وهو أكره مَنْ يليه إليّ

قال : فبلغه أنّ علياً قد بويع له ، فاشتدّ عليه وتربّص أياماً ينظر ما يصنع الناس ، فبلغه مسير طلحة والزبير وعائشة ، وقال : استاني وأنظر ما يصنعون

١١

فأتاه الخبر أنّ طلحة والزبير قد قُتلا ، فارتجّ عليه أمره ، فقال له قائل : إنّ معاوية بالشام لا يريد أن يبايع لعلي ، فلو قاربت معاوية ، فكان معاوية أحبّ إليه من علي بن أبي طالب

وقيل له : إنّ معاوية يعظّم شان قتل عثمان بن عفان ، ويحرض على الطلب بدمه ، فقال عمرو : ادعوا لي محمداً وعبد اللّه فدعيا له

فقال : قد كان ما قد بلغكما من قتل عثمان (رضي اللّه عنه) وبيعه الناس لعلي وما يرصد معاوية من مخالفة علي ، وقال : ما تريان ؟ أمّا علي فلا خير عنده ، وهو رجل يدلِ بسابقته ، وهو غير مشركي في شي‏ء من أمره

فقال عبد اللّه بن عمرو : أرى أن تكفّ يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه

وقال محمد بن عمرو : أنت ناب من أنياب العرب ، فلا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت ولا ذكر

قال عمرو : أمّا أنت يا عبد اللّه ، فأمرتني بالذي هو خير لي في آخرتي وأسلم في ديني ، وأمّا أنت يا محمد ، فأمرتني بالذي هو أنبه لي في دنياي ، وشرّ لي في آخرتي

ثمّ خرج عمرو بن العاص ومعه ابناه حتى قدم على معاوية ، فوجد أهل الشام يحضّون معاوية على الطلب بدم عثمان

١٢

فقال عمرو بن العاص : أنتم على الحق ، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم ، ومعاوية لا يلتفت إلى قول عمرو

فقال ابنا عمرو لعمرو : ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إلى قولك ، انصرف إلى غيره

فدخل عمرو على معاوية فقال : واللّه لعجب لك ! إنّي أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عنّي ، أما واللّه إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة ، إنّ في النفس من ذلك ما فيها حيث نقاتل مَنْ تعلم سابقته وفضله وقرابته ، ولكنّا إنّما أردنا هذه الدنيا ، فصالحه معاوية وعطف عليه(١٣)

هذا هو حال الوزير الأوّل ، فهو نفسه ممّن ألّبوا على عثمان ؛ وهو القائل : (أنا أبو عبد اللّه ، قتلته وأنا بوادي السباع) ، وهو المقرّ بأنّ انضمامه لابن آكلة الأكباد إنّما هو من أجل الدنيا

أمّا معاوية صاحب القميص الذي صار مضرباً للمثل على الادعاءات الكاذبة ، فنورد فقرة من خطبته التي استهلّ بها عهده المشؤوم

روى أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين : لمّا انتهى الأمر لمعاوية ، وسار حتى نزل النخيلة ، وجمع الناس بها فخطبهم قبل أن يدخل الكوفة خطبة طويلة

وأورد بعض مقاطعها ، ومنها : ما اختلفت أُمّة بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها

١٣

فندم فقال : إلاّ هذه الأُمّة فإنّها وإنّها ألا إنّ كلّ شي‏ء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به

إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ، ولا لتصوموا ، ولا لتحجّوا ، ولا لتزكّوا ، إنّكم لتفعلون ذلك ، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم كارهون(١٤)

هل كان ابن آكلة الأكباد ووزيره الأوّل عمرو بن العاص يطالبان بدم عثمان ، أو أنّ السلطة كانت هدفاً لهما ؟ وهل يبقى شك بعد قراءتنا خطاب كلّ منهما في طبيعة الادعاءات المرفوعة من قبل الفئة الباغية ، والصورة الحقيقية لحركة الردّة التي ما كان لها أن تحقّق هدفها لولا تخاذل بعض المسلمين ووهن بعضهم الآخر

كانت هذه هي الأهداف الحقيقية : (الاستحواذ على السلطة) ، و (إذلال المؤمنين) ، وهي تختلف عن الأهداف الدعائية : (الثار من قتله عثمان)

ب ـ وسائل التآمر على الناس

أمّا عن الوسائل التي اتّبعها ابن آكلة الأكباد من أجل تحقيق غاياته الشيطانية (وهي إقامة حكومة مَنْ بدَوا في رؤيا رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) (قردة) ، في مواجهة حكومة العدل الإلهية) ، فهي في المستوى نفسه ، ومن نماذجها نذكر :

١٤

أوّلاً : الرشوة والإغراء بالمناصب

وإليك النموذج الآتي : حاول معاوية رشوة قيس بن سعد بن عبادة ، والي الإمام على على مصر ، فكتب له : فإن استطعت يا قيس أن تكون ممّن يطلب بدم عثمان فافعل

تابعنا على أمرنا ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت ، ولمَنْ أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطاني ، وسلني غير هذا ممّا تحبّ ؛ فإنّك لا تسألني شيئاً إلاّ أوتيته(١٥)

أمّا ردّ قيس بن سعد بن عبادة (رضوان اللّه عليه) على ابن آكلة الأكباد فكان ردّاً مُخرساً ؛ فقد كتب إليه : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان

أمّا بعد ، فإنّ العجب من اغترارك بي وطمعك فيّ ، واستسقاطك رأيي ! أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة ، وأقولهم للحق ، وأهداهم سبيلاً ، وأقربهم من رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ، وتأمرني بالدخول في طاعتك ، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر ، وأقولهم للزور ، وأضلّهم سبيلاً ، وأبعدهم من اللّه (عزّ وجلّ) ورسوله (صلّى الله عليه وآله) وسيلة ، ولد ضالين مضلّين ، طاغوت من طواغيت إبليس ؟!

وأمّا قولك إنّي مالي‏ء عليك مصر خيلاً ورجلاً ، فواللّه إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهمّ إليك ، إنّك لذو جدّ ، والسّلام(١٦)

١٥

ثانياً : الاغتيال السياسي

جاء في تاريخ الطبري : فبعث على الأشتر أميراً إلى مصر حتى إذا صار بالقلزم شرب شربة عسل كان فيها حتفه ، فبلغ حديثهم معاوية وعمراً ، فقال عمرو : إنّ للّه جنوداً من عسل(١٧)

ثالثاً : الاختلاق والخداع جاء في تاريخ الطبري : ولمّا أيس معاوية من قيس أن يتابعه على أمره شقّ عليه ذلك ؛ لِما يعرف من حزمه وبأسه ، وأظهر للناس قِبَله أنّ قيس بن سعد قد تابعهم فادعوا اللّه ، وقرأ عليهم كتابه الذي لان له فيه وقاربه

قال : واختلق معاوية كتاباً من قيس ، فقرأه على أهل الشام(١٨)

١٦

رابعاً : الإغارة على المدنيين وقتل النساء والأطفال

ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه :

١ـ وجّه معاوية في هذا العام ، سفيان بن عوف في ستة آلاف رجل وأمره أن يأتي (هيت) فيقطعها ، وأن يغير عليها ، ثمّ يمضى حتى يأتي الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها(١٩)

٢ ـ وجّه معاوية عبد اللّه بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمئة رجل إلى تيماء وأمره أن يصدق (يأخذ صدقة المال) مَنْ مرّ به من أهل البوادي ، وأن يقتل مَنْ امتنع من إعطائه صدقه ماله

ثمّ يأتي مكة والمدينة والحجاز ويفعل ذلك(٢٠)

٣ ـ وجّه معاوية الضحّاك بن قيس وأمره أن يمرّ بأسفل واقصة ، وأن يغير على كلّ مَنْ مرّ به ممّنْ هو في طاعة على من الأعراب ، ووجّه معه ثلاثه آلاف رجل ، فسار فأخذ أموال الناس ، وقتل مَنْ لقي من الأعراب ، ومرّ بالثعلبية فأغار على مسالح علي وأخذ أمتعتهم ، ومضى حتى انتهى إلى القطقطانة فأتى عمرو بن عميس بن مسعود ، وكان في خيل لعلي وأمامه أهله وهو يريد الحجّ ، فأغار على مَنْ كان معه وحبسه عن المسير ، فلمّا بلغ ذلك علياً سرّح حجر بن عدي الكندي في أربعة آلاف وأعطاهم خمسين خمسين ، فلحق الضحّاك بتدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلاً وقُتل من أصحابه رجلان ، وحال بينهم الليل فهرب الضحّاك وأصحابه ورجع حجر ومَنْ معه(٢١)

١٧

٤ ـ في عام ٤٠ه أرسل معاوية بن أبي سفيان بسر بن أبي أرطأة في ثلاثه آلاف من المقاتلة إلى الحجاز حتى قدموا المدينة ، وعامل علي على المدينة يومئذٍ أبو أيوب الأنصارى ، ففرّ منهم أبو أيوب وأتى بسر المدينة فصعد المنبر وقال : يا أهل المدينة ، واللّه لولا ما عهد إليّ معاوية ما تركت بها محتلماً إلاّ قتلته

ثمّ مضى بسر إلى اليمن وكان عليها عبيد اللّه بن عباس عاملا لعلي ، فلمّا بلغه مسيره فرّ إلى الكوفة حتى أتى علياً ، واستخلف عبد اللّه بن عبد المدان الحارثي على اليمن ، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه ، ولقي بسر ثقل عبيد اللّه بن عباس وفيه ابنان له صغيران فذبحهما

وقد قال بعض الناس : إنّه وجد ابني عبيد اللّه بن عباس عند رجل من بني كنانة من أهل البادية ، فلمّا أراد قتلهما قال الكناني : علامَ تقتل هذين ولا ذنب لهما ؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني

قال : أفعل فبدأ بالكناني فقتله ، ثمّ قتلهما ، وقتل في مسيره ذلك جماعة كثيرة من شيعة علي باليمن

ولمّا أرسل علي جارية بن قداحة في طلبه هرب(٢٢)

تلك هي لمحات من أهداف الدولة الأموية ، وملامحها وأساليبها في الوصول إلى هذه الأهداف

١٨

لا فارق بين معاوية وصدام حسين وهتلر

الغاية عند كلّ هؤلاء تبرر الوسيلة ، بل ونزعم أنّ ابن آكلة الأكباد على قرب عهده بالنبوّة أشدّ وزراً من صدام حسين الذي قتل النساء والأطفال ، واستخدم السلاح الكيماوي في قتل الأبرياء ، فصدام حسين لم يرَ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ، ولا سمع منه ، ولا ادّعى له بعض المؤرّخين أنّه كان كاتبا للوحي ، إلى آخر هذه الادعاءات التي يمزج فيها الحق بالباطل

٢ ـ خطاب قيادة الأُمّة الشرعية : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ )

على الجانب الآخر كان معسكر الحق ، معسكر القيادة الشرعية للأمّة الإسلامية ، قيادة أهل البيت ، ورمزها يومئذٍ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، يجاهد للحفاظ على الإسلام نقيّاً صافياً

وكان هذا هو الهدف الحقيقي الذي تهون من أجله كلّ التضحيات

كان الإمام علي (عليه السّلام) ومَنْ حوله كوكبة المؤمنين الخلّص من أصحاب النبي محمد (صلّى الله عليه وآله)

روى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، نقلاً عن (كتاب صفين) لنصر بن مزاحم : خطب علي (عليه السّلام) في صفين ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وقال : (( أمّا بعد ، فإنّ الخيلاء من التجبّر ، وأنّ النخوة من التكبّر ، وأنّ الشيطان عدوّ حاضر ، يعدكم الباطل

ألا إنّ المسلم أخو المسلم ، فلا تنابذوا ولا تجادلوا ألا إنّ شرائع الدين واحدة ، وسبله قاصدة ، مَنْ أخذ بها لحق ، ومَنْ فارقها محق ، ومَنْ تركها مرق ليس المسلم بالخائن إذا ائتمن ، ولا بالمخلف إذا وعد ، ولا بالكذّاب إذا نطق

١٩

نحن أهل بيت الرحمة ، وقولنا الصدق ، وفعلنا الفضل ، ومنّا خاتم النبيين ، وفينا قادة الإسلام ، وفينا حملة الكتاب

ألا إنّا ندعوكم إلى اللّه ورسوله ، وإلى جهاد عدوّه ، والشدّة في أمره ، وابتغاء مرضاته ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحجّ البيت ، وصيام شهر رمضان ، وتوفير الفيء على أهله

ألا وإنّ من أعجب العجائب أنّ معاوية بن أبي سفيان الأموي وعمرو بن العاص السهمي يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما ، ولقد علمتم أنّي لم أُخالف رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) قط ، ولم أعصه في أمر ، أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص فيها الأبطال ، وترعد فيها الفرائص ، بنجدة أكرمني اللّه سبحانه بها ، وله الحمد

ولقد قُبض رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) وأنّ رأسه لفي حجري ، ولقد ولّيت غسله بيدي وحدي ، تقلّبه الملائكة المقرّبون معي

وأيم اللّه ، ما اختلفت أُمّة قط بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها إلاّ ما شاء اللّه ))(٢٣)

ولا بأس أيضاً أن ننتقل إلى معسكر الإفك والباطل ؛ لنسمع ذلك الحوار العجيب الذي رواه نصر بن مزاحم ، ونقله عنه ابن أبي الحديد قال : طلب معاوية إلى عمرو بن العاص أن يسوّي صفوف أهل الشام ، فقال له عمرو : على أنّ لي حكمي إن قتل اللّه ابن أبي طالب ، واستوثقت لك البلاد

٢٠

فقال : أليس حكمك في مصر ؟

قال : وهل مصر تكون عوضاً عن الجنّة ، وقتل ابن أبي طالب ثمناً لعذاب النار الذي ( لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) ؟(سورة الزخرف / ٧٥)

فقال معاوية : إنّ لك حكمك أبا عبد اللّه إن قُتل ابن أبي طالب ، رويداً لا يسمع أهل الشام كلامك

فقام عمرو ، فقال : معاشر أهل الشام سوّوا صفوفكم قصّ الشارب ، وأعيرونا جماجمكم ساعة ؛ فقد بلغ الحقّ مقطعه ، فلم يبقَ إلاّ ظالم أو مظلوم(٢٤)

ونعود إلى معسكر الحقّ ؛ لنسمع الكلمات المضيئة لأبي الهيثم بن التيهان وكان من أصحاب رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ، بدريّاً نقيباً عقبيّاً يسوّي صفوف أهل العراق ، ويقول : يا معشر أهل العراق ، إنّه ليس بينكم وبين الفتح في العاجل ، والجنّة في الآجل إلاّ ساعة من النهار ، فارسوا أقدامكم وسوّوا صفوفكم ، وأعيروا ربّكم جماجمكم ، واستعينوا باللّه إلهكم ، وجاهدوا عدوّ اللّه وعدوّكم ، واقتلوهم قتلهم اللّه وأبادهم ، ( وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )(٢٥)

أمّا عن مواقف عمّار بن ياسر (رضوان اللّه عليه) في صف الإمام فهي في المكانة العليا ، ويمكن أن نتبيّنها من خلال هذه الرواية :

٢١

عن أسماء بن حكيم الفزاري ، قال : كنّا بصفين مع علي تحت راية عمّار بن ياسر ، ارتفاع الضحى وقد استظللنا برداء أحمر ، إذ أقبل رجل يستقري الصف حتى انتهى إلينا ، فقال : أيّكم عمّار بن ياسر ؟

فقال عمّار : أنا عمّار

قال : أبو اليقظان ؟

قال : نعم

قال : إنّ لي إليك حاجة ، أفأنطق بها سرّاً أو علانية ؟

قال : اختر لنفسك أيّهما شئت ؟

قال : لا ، بل علانية

قال : فانطق

قال : إنّي خرجت من أهلي مستبصراً في الحق الذي نحن عليه ، لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم وإنّهم على الباطل ، فلم أزل على ذلك مستبصراً حتى ليلتي هذه ، فإنّي رأيت في منامي مناديا تقدم فأذّن وشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ، ونادى بالصلاة ، ونادى مناديهم مثل ذلك ، ثمّ أُقيمت الصلاة فصلّينا صلاة واحدة ، وتلونا كتاباً واحداً ، ودعونا دعوة واحدة ، فأدركني الشك في ليلتي هذه ، فبتّ بليلة لا يعلمها إلاّ اللّه حتى أصبحت ، فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له ، فقال : (( هل لقيت عمّار بن ياسر ؟ ))

٢٢

قلت : لا

قال : (( فالقه ، فانظر ما يقول لك عمّار فاتبعه ))

فجئتك لذلك

فقال عمّار : تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي ، فإنّها راية عمرو بن العاص ، قاتلتها مع رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ثلاث مرّات ، وهذه الرابعة فما هي بخيرهنّ ولا أبرهنّ ، بل هي شرّهنّ وأفجرهنّ أشهدت بدراً وأُحداً ويوم حنين ، أو شهدها أب لك فيخبرك عنها ؟

قال : لا

قال : فإنّ مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ، يوم بدر ويوم أُحد ويوم حنين ، وإنّ مراكز رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب ، فهل ترى هذا العسكر ‏ومَنْ فيه ؟ واللّه لوددت أنّ جميع مَنْ فيه ممّنْ أقبل مع معاوية يريد قتالنا ، مفارقاً للذي نحن عليه كانوا خلقاً واحداً ، فقطعته وذبحته ، واللّه لدماؤهم جميعاً أحلّ من دم عصفور ، أفترى دم عصفور حراماً ؟

قال : لا ، بل حلال

قال : فإنّهم حلال كذلك أتراني بيّنت لك ؟

قال : قد بيّنت لي

قال : فاختر أيّ ذلك أحببت

٢٣

فانصرف الرجل ، فدعاه عمّار ثمّ قال : أما إنّهم سيضربونكم بأسيافكم حتى يرتاب المبطلون منكم ، فيقولوا : لو لم يكونوا على حقّ ما ظهروا علينا ، واللّه ما هم من الحقّ ما يقذى عين ذباب ، واللّه لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنّا على حقّ وأنّهم على باطل(٢٦)

وعمّار إذ يقف هذا الموقف ، إنّما يصغي إلى صوت اللّه تعالى يدعوه : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ )( سورة البقرة / ١٩٣)

٣ ـ مفهوم الفتنة ، والعجز عن الوقوف مع الحقّ

قال تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا )(سورة التوبة / ٤٩)

جرت على السُنّة بعض الباحثين ؛ قديماً وحديثاً ، مقولة أنّ هذه الأحداث كانت فتنة لا يدري المرء فيها وجه الخطأ من الصواب ، أو الحقّ من الباطل ، وكلمه (الفتنة) هنا بمعنى انعدام القدرة على التمييز

٢٤

وهذه الحالة ، أي انعدام القدرة على التمييز ، قد تكون نابعة من قدرة الشخص نفسه وضميره ومعارفه ، أو من الظروف الملتبّسة بالأحداث ، كأن تكون أحداثاً ومعارك لا تُعرف الهوية الحقيقية لأبطالها ، ولا تاريخهم الشخصي أو تاريخهم العام ، ولا يمكن معرفة تسلسل الوقائع التي قادت إلى هذه اللحظة

وأعتقد أنّ هذا الكلام لا ينطبق بحال على هذه الكارثة الفاجعة ، أو على مجموعة الكوارث التي حلّت بأُمّة محمد (صلّى الله عليه وآله) ، فلا يبقى إلاّ أن نقول : إنّ عدم وضوح الرؤية إنّما هو نابع من الحالة الشخصية والنفسية لبعض الأشخاص الذين عجزت نفوسهم وهممهم عن ملاحقة تيار الحقّ الصامد بقيادة أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) ، فاختاروا موقفاً يكون شعاره (ولا تفتنّي) ، وحقيقته كما قال سبحانه وتعالى : ( أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا )

لم تكن الكارثة الفاجعة التي لحقت بالأُمّة الإسلامية في هذه المرحلة من بدايات تاريخها هيّنة ولا سهلة ؛ فقد كانت كارثة انشقاق أوّلاً ، ثمّ كارثة ضلال وإضلال ثانياً

٢٥

وقد مارسها أئمّة الفتنة والضلال من بني أُميّة ، إضافة إلى أنّ حادثة الانقسام لم تحدث في فراغ ، وإنّما شقّت معها جسد الأُمّة الوليد الذي لم يكن قد بلغ بعد مرحلة النضج ، ولا هي جرت في هدوء وصمت ، وإنّما صاحبها ضجيج وصخب أدى إلى التشويش على إمام الحقّ علي (عليه السّلام) ؛ ممّا أدّى إلى حالة من الارتياب أصابت الجميع ، وليس أدلّ على هذا من ذلك الرجل التائه الذي رأى الفريقين يصلّون ويقرؤون قرآناً واحداً ، فأصابته هزّة شديدة فذهب يسأل الإمام (عليه السّلام) ، فأحاله على عمّار (رضوان اللّه عليه) الذي أجابه إجابة العارف الخبير الذي لا يُخدع

ولكن من أين للأُمّة بمثل عمّار ، أو مالك الأشتر ، أو أبو الهيثمي التيهان ؟ هؤلاء الخلّص من أصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله) ، الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه ، وعملوا بوصيته الخالدة : (( مَنْ كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَنْ والاه ، وعادِ مَنْ عاداه ))

٤ ـ التحكيم : خديعة الذين جعلوا القرآن عضين

وتلبّس إبليس (الذين جعلوا القرآن عضين) قال تعالى : ( كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ )( سورة الحجر / ٩٠ - ٩١)

٢٦

الفتنة تبلغ مداها ، والهزيمة على وشك أن تحلّ بجيش الردّة الأموي ، يتفتّق ذهن الوزير الأوّل عن مكيدة يكيد بها الأُمّة ، ويشقّ صفّها ، ويذهب ريحها ، وبهذا يتحقّق له من داخل الصف المسلم ما فشل في تحقيقه طوال قرابة عشرين عاماً من المواجهة المسلّحة مع الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قُبيل ادّعائه الإسلام

ولنرجع إلى تاريخ الطبري :

لمّا رأى عمرو بن العاص أنّ أمر أهل العراق قد اشتدّ وخاف الهلاك ، قال لمعاوية : هل لك في أمر أعرضه عليك ، لا يزيدنا إلاّ اجتماعاً ، ولا يزيدهم إلاّ فرقة ؟

قال : نعم

قال : نرفع المصاحف ، ثمّ نقول : ما فيها حكم بيننا وبينكم ، فإن أبى بعضهم وجدت فيهم مَنْ يقول : بلى ، ينبغي أن نقبل ، فتكون فرقة تقع بينهم ، وإن قالوا : بلى ، نقبل ما فيها ، رفعنا هذا القتال عنّا ، وهذه الحرب إلى أجل وحين

فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا : هذا كتاب اللّه (عزّ وجلّ) بيننا وبينكم ، مَنْ لثغور أهل الشام بعد أهل الشام ؟ ومَنْ لثغور أهل العراق بعد أهل العراق ؟

٢٧

فلمّا رأى الناس المصاحف قد رُفعت ، قالوا : نُجيب إلى كتاب اللّه (عزّ وجلّ) وننيب إليه(٢٧)

وهنا لا بدّ لنا من وقفة مع قضية التحكيم رغم كونها ليست قضية أساسية في هذا البحث ، وإنّما نعرض لها في إطار بحث رؤية الأمويين للإسلام وحقيقة موقفهم من كتاب اللّه (عزّ وجلّ) وما ورد فيه من أحكام ، ومن ثمّ طبيعة دولتهم التي قامت بعد هذا من خلال هذه الرؤية

ثمّ نعرض موقف أئمّة الحق من آل محمد (عليهم السّلام) من هذه الدولة من خلال ثورة الإمام الشهيد الحسين (عليه السّلام)

فها هو عمرو بن العاص يعلن الغرض الحقيقي لطلاّب التحكيم ، فيقول : إنّ عرض التحاكم لكتاب اللّه (عزّ وجلّ) أمر يُراد به تفريق الصف المسلم ، أو الكيان الشرعي للأُمّة المتجمع خلف إمام الأُمّة علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، وزيادة توحّد الفئة الباغية أو حزب الشيطان ، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال ؟

ترى كيف كان موقف أبي جهل أو أبي سفيان من أئمّة الكفر والضلال من وحدة الصف المسلم ومن القيادة الشرعية للأُمّة ؟ هل كان أيّ من هؤلاء يحلم بأن يحقّق ما حقّقه معاوية وعمرو ؟ ولكن هذه المرّة يحاربون الإسلام بالسلاح نفسه الذي انتصر به على معسكر الشرك في الجولة الأولى ، ولكن هذه المرّة بعد أن جعله ابن أبي سفيان وابن العاص (عضين) ، أي مزقاً وهزوا

٢٨

ثمّ نرى ونسمع بعد ذلك مَنْ يحاول ويزعم ويدّعي أنّ الدولة الأُمويّة كانت تمثّل امتداداً للشرعية التي جاء بها رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله)

أو يقول قائل : إنّ الحسين (عليه السّلام) قُتل بسيف جدّه رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ، هل كان الرسول على الباطل ؟! وهل جاء الرسول بقرآن يتّخذه معبراً ليجلس على أجساد المسلمين وينعم بأموالهم ؟! أم إنّه (صلّى الله عليه وآله) كان كما قال عنه ربّنا (عزّ وجلّ) : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )(سورة التوبة / ١٢٨) ، وقوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )(سورة الجمعة / ٢)

ونعود إلى تاريخ الطبري لنسمع ردّ الإمام علي(عليه السّلام) على هذا العرض المخادع ، فلو كان القوم أصحاب ديانة حقّاً فلماذا لم يدخلوا في طاعة إمام الحقّ ؟! ولماذا استباحوا قتال مَنْ لا يحلّ قتاله من النساء والأطفال ولو كانوا مشركين ؟! فأيّ مصداقية لطلبهم التحاكم إلى كتاب اللّه ؟

٢٩

فكان ردّه (عليه السّلام) : (( عباد اللّه ، امضوا على حقّكم وصدقكم وقتال عدوّكم ؛ فإنّ معاوية وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمو ، وابن أبي سرح والضحّاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، أنا اعرف بهم منكم ، قد صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال

ويحكم ! إنّهم ما رفعوها ثمّ لا يرفعونها ولا يعلمون بما فيها ، وما رفعوها لكم إلاّ خديعة ودهناً ومكيدة ))

فقالوا له : ما يسعنا أن نُدعى إلى كتاب اللّه (عزّ وجلّ) فنأبى أن نقبله

فقال لهم : (( فإنّي إنّما قاتلتهم ليدينوا بحكم هذا الكتاب ؛ فإنّهم قد عصوا اللّه (عزّ وجلّ) ونسوا عهده ونبذوا كتابه ))(٢٨)

وهكذا وقعت الكارثة والفتنة ؛ حيث امتنعت الرؤية الصائبة على أكثر المسلمين وصار الناس في حيرة ، وصدق اللّه (عزّ وجلّ) [ حيث يقول ] : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ )(سورة البقرة / ١٧) ، وأي ظلمة أشدّ من العجز عن إدراك الطريق ، صراط اللّه المستقيم ، ونهج الرسول وأئمّة الحقّ

أسباب قبول التحكيم

٣٠

لا بدّ لنا من تأمّل هذه المرحلة المفصلية في تاريخ الأُمّة ، فنسأل : لماذا قبل الإمام علي (عليه السّلام) التحكيم في نهاية المطاف ؟ ولماذا لم يصرّ على مواصلة القتال حتى القضاء على رأس الأفعى الأُمويّة ؟ فإذا قيل : إنّ الناس خذلوه ، قالوا : أليس هؤلاء هم الشيعة الذين خذلوا الحسين (عليه السّلام) بعد ذلك ؟!

لا سبيل أمامنا سوى مواصلة قراءة النصّ التاريخي حتى تتّضح الحقيقة لكلّ ذي عينين

ينقل لنا ابن أبي الحديد عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم ، قال : إنّه لمّا كان يوم الثلاثاء ، عاشر شهر ربيع الأوّل ، سنة سبع وثلاثين ، زحف أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) بجيشه ، وخرج رجل من أهل الشام فنادى بين الصفين : يا أبا الحسن ابرز إليّ ، فخرج إليه علي (عليه السّلام) فقال : إنّ لك يا علي لقدماً في الإسلام والهجرة ، فهل لك في أمر أعرضه عليك ، يكون فيه حقن هذه الدماء ؟

قال : (( وما هو ؟ ))

قال : ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك وبين العراق ، ونرجع نحن إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين الشام

٣١

فقال علي (عليه السّلام) : (( قد عرفت ما عرضت ، إنّ هذه لنصيحة وشفقة ، ولقد أهمّني هذا الأمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينه فلم أجد إلاّ القتال أو الكفر بما أنزل اللّه على محمد ؛ إنّ اللّه تعالى ذكره ، لم يرضَ من أوليائه أن يُعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بمعروف ، ولا ينهون عن منكر ، فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة في الأغلال في جهنم ))

قال : فرجع الرجل وهو يسترجع(٢٩)

إمام الأُمّة يتلقّى عرضاً من مندوب بني أُميّة بتقسيم الأُمّة إلى قسمين (عراق وشام) هكذا ببساطة شديدة ، فيكون يومها إسلام عراقي وإسلام شامي ، واليوم إسلام أمريكي ، فهل كان بإمكانه القبول بهذا العرض المرادف للكفر ؟

التهب القتال ، ودارت آلة الحرب في ما عُرف بليلة الهرير ، وتشاور ابن آكلة الأكباد وابن النابغة حول الورقة الأخيرة للخروج من الهزيمة المروعة ، فلم يجد الشيطان أجدى ولا أنجح من الاستهزاء بكتاب اللّه وادّعاء التحاكم إليه ، كما صرّح هو بذلك

ولمّا أصبح الصبح ، نظر عسكر العراق إلى عسكر الشام ليجدوا المصاحف قد رُبطت في أطراف الرماح

٣٢

قال أبو جعفر وأبو الطفيل : استقبلوا عليّاً بمئة مصحف ، ووضعوا في كلّ مجبنة مئتي مصحف ، فكان جميعها خمسمئة مصحف(٣٠)

كان هذا هو الحال على المستوى السياسي ، وسنقرأ بعد هذا بعض ردود أفعال مَنْ كانوا في صف الإمام علي (عليه السّلام) ؛ لنعرف حقيقة هؤلاء (الشيعة المزعومين)

أمّا على المستوى العسكري ، فيروي نصر بن مزاحم : وكان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ، عندما جاءه رسول الإمام علي (عليه السّلام) أن ائتني

فقال : ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي ، إنّي قد رجوت الفتح فلا تعجلني

فرجع يزيد بن هانئ إلى علي (عليه السّلام) فأخبره ، فما هو إلاّ أن انتهى إلينا حتى ارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر ، وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق ، ودلائل الخذلان والإدبار على أهل الشام ، فقال القوم لعلي : واللّه ما نراك أمرته إلاّ بالقتال !

قال : (( أرأيتموني ساررت رسولي إليه ؟ أليس إنّما كلمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون ؟! ))

٣٣

قالوا : فابعث إليه أن يأتيك ، وإلاّ فواللّه اعتزلناك !

فقال : (( ويحك يا يزيد ! قل له : أقبل فإنّ الفتنة قد وقعت ))

فأتاه فأخبره ، فقال الأشتر : أبرفع هذه المصاحف ؟!

قال : نعم

قال : واللّه ألا ترى إلى الفتح ! ألا ترى إلى ما يلقون ! ألا ترى إلى الذي يصنع اللّه لنا ؟ أينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه ؟!

قال له يزيد : أتحبّ أنّك ظفرت هاهنا وأنّ أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يسلّم إلى عدوّه ؟!

قال : لا واللّه لا أحبّ ذلك

قال : فافهم قد قالوا له ، وحلفوا عليه لتُرسلنّ إلى الأشتر فليأتينّك أو لنقتلنّك بأسيافنا كما قتلنا عثمان ، أو لنسلمنّك إلى عدوّك

فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم وقال : يا أمير المؤمنين ، احمل الصف على الصف تصرع القوم

٣٤

فتصايحوا : إنّ أمير المؤمنين قد قبل الحكومة ، ورضي بحكم القرآن

فقال الأشتر : إن كان أمير المؤمنين (عليه السّلام) قد قبل ورضي فقد رضيت

فأقبل الناس يقولون : قد رضي أمير المؤمنين ، قد قبل أمير المؤمنين ، وهو ساكت لا ينطق بكلمة مطرق إلى الأرض

ثمّ قام فسكت الناس كلّهم ، فقال : (( إنّ امرئ لم يزل معكم على ما أحبّ إلى أن أُخذت منكم الحرب ، وقد واللّه أُخذت منكم وتُركت ، وأُخذت من عدوّكم ولم تُترك ، وإنّها فيكم أنكى وأنهك ، ألا إنّي كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأموراً ، وكنت ناهياً فأصبحت منهيّاً ، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون ))

ثمّ قعد(٣١)

٣٥

هل بعد هذا يُقال أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) كان راضياً ؟ وهل كان بإمكانه (سلام اللّه عليه) إجبارهم على النهوض لقتال الظالمين ؟ ولو كان إجبار الناس على الاستجابة للأمر الإلهي من مهّام الرسل والأنبياء والأئمّة ، فلماذا عاتب القرآن القاعدين عن الجهاد بقوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ )(سورة التوبة / ٣٨) ، ولمّا فرّ مَنْ فرّ من المسلمين من أصحاب محمد (صلّى اللّه عليه وآله) : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ )(سورة التوبة / ٢٥) ، ولمّا فرّوا يوم أُحد : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا )(سورة آل عمران / ١٥٥) ؟

وإن لم نكن في صدد تحقيق تاريخ بعض رؤساء العشائر الذين كانوا مع الإمام علي تفصيلاً ، فإنّنا نكتفي بأن نورد ما قاله الدكتور طه حسين في كتابه (علي وبنوه) : وأكبر الظنّ أنّ بعض الرؤساء من أصحاب علي لم يكونوا يخلصون له نفوسهم ولا قلوبهم ، ولم يكونوا ينصحون له ؛ لأنّهم كانوا أصحاب دنيا لا أصحاب دين ، وكانوا يندمون في دخائل أنفسهم على تلك الأيام الهينة اللينة التي قضوها أيام عثمان ينعمون بالصلات والجوائز والأقطاع

ويجب أن نذكر أيضاً أنّ علياً لم ينهض إلى الشام بأهل الكوفة وبمَنْ تابعه من أهل الحجاز وحدهم ، وإنّما نهض كذلك بألوف من أهل البصرة ، كان منهم مَنْ وفى له يوم الجمل ، وكان منهم مَنْ اعتزل الناس في ذلك اليوم أيضاً ، وكان منهم مع ذلك كثير من الذين انهزموا بعد مقتل طلحة والزبير(٣٢)

٣٦

لم يكن هؤلاء إذاً من الشيعة ، ولا من العارفين بفضل آل بيت محمد عامّة والإمام علي خاصة ، وإلا لما هدّدوا بقتله ، أو تسليمه إلى ابن آكلة الأكباد كما أسلفنا

ولسنا نجد ما يصف هؤلاء أبلغ من كلمات الإمام (عليه السّلام) مخاطباً إيّاهم : (( أما والذي نفسي بيده ، ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم ، ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم ، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم ، وإبطائكم عن حقّي ، ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحتُ أخاف ظلم رعيتي

استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا ، وأسمعتكم فلم تسمعوا ، ودعوتكم سرّاً وجهراً فلم تستجيبوا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا أشهود كغياب ، وعبيد كأرباب ؟! أتلوا عليكم الحكم فتنفرون منها ، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها ، وأحثّكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرّقين أيادي سَبَا ترجعون إلى مجالسكم ، وتتخادعون عن مواعظكم

أقوّمكم غدوة وترجعون إليّ عشيّة ، كظهر الحنيّة عجز المقوِّم وأعضل المقوَّم

أيّها القوم الشاهدة أبدانهم ، الغائبة عنهم عقولهم ، المختلفة أهواؤهم ، المبتلى بهم أمراؤهم ، صاحبكم يطيع اللّه وأنتم تعصونه ، وصاحب أهل الشام يعصى اللّه وهم يطيعونه ! لوددت واللّه أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ، فأخذ منّي عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم ))(٣٣)

٣٧

وهكذا سارت أمور هذه الأُمّة المنكوبة ، أمر الباطل يعلو وأمر الحق يهبط ، اجتماع على الباطل والدنيا في معسكر الشام ، وتفرّق عن الحقّ في المعسكر المقابل حتى بلغ الكتاب أجله ، ففاض الكيل وطفّ الصاع ، حتى قُتل الإمام (عليه السّلام) على يد أشقاها ابن ملجم المرادي

وهكذا غاب عن الحضور ولا نقول عن الوجود شمس هذه الأُمّة بعد رسولها الإمام علي (عليه السّلام) ، أوّل مَنْ أسلم وأوّل مَنْ صلّى خلف رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ، وباب مدينة علم رسول اللّه ، وهكذا صار المشروع الأموي قاب قوسين أو أدنى من التحقّق

هدنة في صراع يمتدّ قروناً

بويع للإمام الحسن (عليه السّلام) بالخلافة بعد استشهاد أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) عام (٤٠ هـ ، ٦٦١ م) ، وقد زاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ، ولم يعد للقوم صبر ولا رغبة في قتال القاسطين

أحبّ القوم الحياة ورغبوا فيها ، يستوي لديهم أن يكون قائدهم علياً أو معاوية ، بل لعلّ معاوية أصلح لدنيا بعض الذين لم يعد لهم إلاّ الحياة الدنيا

أمر القائد الجديد جيشه وأتباعه بأن يستعدّوا للقتال ، فخطبهم قائلاً : (( أمّا بعد ، فإنّ اللّه كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرهاً ، ثمّ قال لأهل الجهاد من المؤمنين : ( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ، فلستم أيّها الناس نائلين ما تحبّون إلاّ بالصبر على ما تكرهون اخرجوا رحمكم اللّه إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا ونرى وتروا ))

٣٨

قال : وإنّه في كلامه ليتخوّف خذلان الناس له

قال : فسكتوا ، فما تكلّم منهم أحد ، ولا أجابه بحرف

فلمّا رأى ذلك عدي بن حاتم ، قام فقال : أنا ابن حاتم ! سبحان اللّه ! ما أقبح هذا المقام ! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم ؟! أين خطباء مضر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ؟! فإذا جدّ الجدّ فرواغون كالثعالب ، أما تخافون مقت اللّه ولا عيبها وعارها ؟!(٣٤)

يتّضح من طبيعة خطاب الإمام الحسن (عليه السّلام) للقوم ، واستخدامه لهذه العبارات : ( إنّ اللّه فرض القتال وسمّاه كرهاً ) ، و( لستم نائلون ما تحبّون إلاّ بالصبر على ما تكرهون ) ، ثمّ حالة الصمت التي انتابت الناس ، إنّ الهزيمة النفسية قد أصابتهم ولم تعد بهم رغبة في جهاد ولا بذل ولا تضحية ؛ فقد جرّبوا الدنيا وحلاوتها وباتوا يريدونها ، وهم لن يجدوا ما يطمعون فيه ، وخاصة رؤسائهم في ظلّ العدل ، وإنّما اشرأبّت نفوسهم إلى بني أُميّة قادة المرحلة القادمة ، ومنظّرو الإسلام الأُموي الذي كان المقدّمة الطبيعية لكلّ الانحرافات وأصناف الشذوذ التي عانت منها الأُمّة المسلمة وصولاً للإسلام الأمريكي

نعود إلى النصّ التاريخي فنقرأ : قال عدي بن حاتم ما قال ، ثمّ أعلن توجّهه إلى معسكر القتال

وقام قيس بن سعد بن عبادة ومعقل بن قيس الرياحي فقالوا مثل ما قال عدي بن حاتم وتحرّكوا إلى معسكرهم ، ومضى الناس خلفهم متثاقلين

٣٩

وعبّأ الإمام الحسن (عليه السّلام) جيشه ، ثمّ خطبهم فقال : (( الحمد للّه كلّما حمده حامد ، وأشهد ألاّ إله إلاّ اللّه كلّما شهد له شاهد ، وأشهد أنّ محمداً رسول اللّه ، أرسله بالحق ، وائتمنه على الوحي (صلّى اللّه عليه وآله)

أمّا بعد ، فواللّه إنّي لأرجو أن أكون بحمد اللّه ومنّه ، وأنا أنصح خلقه لخلقه ، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ، ولا مريداً له بسوء ولا غائلة

ألا وإنّ ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبّون في الفرقة ، ألا وإنّي ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم ، فلا تخالفوا أمري ولا تردّوا عليّ رأيي

غفر اللّه لي ولكم ، وأرشدني وإيّاكم لما فيه محبّته ورضاه إن شاء اللّه ))

ثمّ نزل

قال : فنظر الناس بعضهم إلى بعض ، وقالوا : ما ترونه يريد بما قال ؟

قالوا : نظنّه يريد أن يصالح معاوية ، ويكل الأمر إليه كفر واللّه الرجل !

ثمّ شدّوا على فسطاطه فانتهبوه حتى أخذوا مصلاّه من تحته ، ثمّ شدّ عليه عبد الرحمن بن عبد اللّه بن جعال الأزدي فنزع مطرفة عن عاتقه ، فبقي جالساً متقلّداً سيفاً بغير رداء ، فدعا بفرسه فركبه فلمّا مرّ في مظلم ساباط ‏قام إليه رجل من بني أسد فأخذ بلجام فرسه ، وقال : اللّه أكبر يا حسن ، أشرك أبوك ، ثمّ أشركت أنت ؟!

وطعنه بالمعول ، فوقعت في فخذه ، فشقّه حتى بلغت أربيته ، وحُمِلَ الحسن (عليه السّلام) على سرير إلى المدائن ...(٣٥)

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165