• البداية
  • السابق
  • 165 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 10801 / تحميل: 3850
الحجم الحجم الحجم
على خطى الحسين (عليه السّلام)

على خطى الحسين (عليه السّلام)

مؤلف:
العربية

على خطى الحسين (عليه السّلام)

تأليف

أحمد راسم النفيس

١

تقديم

مثلّت كربلاء نهجاً في مقاومة الطغيان ، وشقّت درباً يسير على هديه الساعون إلى الحق ، ومثلّت الخطى التي سارها الإمام الحسين (عليه السّلام) هجرة ثانية تُعيد سيرة هجرة جده المصطفى (صلّى الله عليه وآله) من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة

ولم تنقطع محاولات الأدباء والباحثين عن استلهام هذا السعي منذ حدوثه في العام ٦١هـ وحتى أيامنا هذه

ويمثّل هذا الكتاب إحدى هذه المحاولات

يمهّد المؤلّف بالحديث عن رؤيا للنبي (صلّى الله عليه وآله) تكشف أنّ ملوك السوء سيرتقون منبره من بعده ، فيحذّر منهم ويدعو إلى نصرة سبطه الإمام الحسين (عليه السّلام) ، ويعيّن جماعة المنافقين

٢

ثمّ يبحث بشي‏ء من التفصيل في تحقّق هذه الرؤيا ، فيتحدّث في فصل أوّل عن أبناء الشجرة الملعونة ، وهم رواد الفتنة في الإسلام ، ويبيّن أُسس خطابهم ، بوصفهم الخارجين على قيادة الأُمّة الشرعية ، ويقارن هذا الخطاب بخطاب القيادة الشرعية ، ويحدّد مفهوم الفتنة وملابسات خديعة التحكيم ، وأسباب وقوع فئة من المسلمين فيها

وفي فصل ثانٍ عن قيام ملك (أرباب السوء) ، ويبيّن أُسس شريعته ، ويتتبّع المحاولات التي قاومت هذا النهج المزيّف ، وعملت على إحياء قيم الإسلام

وفي فصل ثالث عن الثورة الحسينية بوصفها نهوضاً بمهمّة حفظ الدين ، فيبيّن نهجها ، ويتتبّع مراحلها : التمهيد ، التصميم والتخطيط ، اكتمال عناصر التحرّك ، الهجرة الثانية ؛ من مكة إلى الكوفة ، في الطريق إلى كربلاء

ويناقش في هذا السياق آراء ابن كثير الذي حاول إخفاء الحقيقة وناقض نفسه

وفى فصل رابع (كربلاء : النهوض بالأُمّة المنكوبة) ، ويكشف أنّ الموقف الحسيني معيار وقدوة ، ويتجلّى هذا الموقف في مواجهة إمام الحق لإمام الباطل ، حيث تتبيّن الحقيقة وتُقام الحجّة ، وتستنهض الأُمّة

يمثّل هذا الكتاب سعياً لمعرفة الحلقة الجوهرية في مسلسل الصراع بين الحق والباطل ، وقد أُتيح لهذا السعي أن يوفّق في تحقيق هدفه ، فعسى أن يفيد من جهده الساعون إلى هذه المعرفة

٣

تمهيد

رؤيا النبي (صلّى الله عليه وآله) ملوك السوء يرتقون منبره

١ـ التحذير من أرباب السوء

أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال : رأى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك ، فما استجمع (صلّى الله عليه وآله)، ضاحكاً حتى مات قال : وأنزل اللّه (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) (سورة الإسراء / ٦٠ )(١)

وفي الدرّ المنثور(٢) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمران أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) ، قال : (( رأيت وِلْدَ الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنّهم القردة )) ، وأنزل اللّه في ذلك : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ ) ، يعنى الحكم ووِلْدِه

وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرّة قال : قال رسول اللّه : (( أريت بني أُميّة على منابر الأرض وسيتملّكونهم ، فيجدونهم أرباب سوء )) ، واهتم رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) لذلك ؛ فانزل اللّه : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ )(٣)

٤

وفيه أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر عن سعيد بن المسيّب قال : رأى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بني أُميّة على المنابر ، فساءه ذلك ؛ فأوحى اللّه : إنّما هي دنيا أُعطوها فقرّت عينه ، وهي قوله : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ )

والآية الكريمة كاملة هي : (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً ) (سورة الإسراء / ٦٠ )(٤)

٢ـ الدعوة إلى نصرة سبطه الحسين (عليه السّلام)

روى الحنفي القندوزي في ينابيع المودّة في المشكاة ، عن أُمّ الفضل بنت الحارث ، امرأة العباس (رضى اللّه عنهما) : إنّها دخلت على رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ، فقالت : يا رسول اللّه ، إنّي رأيت حلماً منكراً الليلة

قال : (( ما هو ؟ ))

قالت : رأيت كأنّ قطعة من جسدك المبارك قُطعت ووضعت في حجري

فقال (عليه السّلام) : (( رأيتِ خيراً ، تلد فاطمة إن شاء اللّه تعالى غلاماً يكون في حجرك ))

قالت : فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري فأرضعته بلبن قثم ، فدخلت يوماً على النبي (صلّى الله عليه وآله) فوضعته في حجره ، ثمّ حانت منّي التفاتة فإذا عينا رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) تهريقان الدموع ، فقلت : يا رسول اللّه ، بأبي وأُمّي ما لك ؟!

قال : (( أتاني جبرائيل فأخبرني أن أُمّتي ستقتل ابني هذا ))

فقلت : هذا ؟!

٥

قال : (( نعم ، وأتاني بتربة حمراء ))(٥) رواه البيهقي

وفي الإصابة (أنس بن الحارث) قال البخاري في تاريخه : سمعت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( إنّ ابني هذا ـ يعني الحسين ـ يُقتل بأرض يُقال لها كربلاء ، فمَنْ شهد ذلك منكم فلينصره ))

قال : فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء ، فقُتل بها مع الحسين (عليه السّلام)(٦)

وفي الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي ، أخرج ابن سعد والطبراني عن عائشة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : (( أخبرني جبرائيل أنّ ابني الحسين يُقتل بعدي بأرض الطفّ ، وجاءني بهذه التربة وأخبرني أنّ فيها مضجعه ))(٧)

أخرج البغوي في معجمه من حديث أنس أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : (( استأذن ملك القطر ربّه أن يزورني فأذن له وكان في يوم أُمّ سلمة )) ، فقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( يا أُمّ سلمة ، احفظ‏ي علينا الباب لا يدخل أحد )) فبينا على الباب إذ دخل الحسين فاقتحم فوثب على رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ، فجعل رسول اللّه يلثمه ويقبّله فقال له الملك : أتحبّه ؟ قال : (( نعم )) قال : إنّ أُمّتك ستقتله ، وإن شئت أُريك المكان الذي يُقتل به ، فأراه ، فجاء بسهلة أو تراب أحمر فأخذته أُمّ سلمة فجعلته في ثوبها

٦

قال ثابت : كنّا نقول إنّها كربلاء

وفي رواية الملا ، وابن أحمد في زيادة المسند ، قالت : ثمّ ناولني كفّاً من تراب أحمر ، وقال : (( إنّ هذا من تربة الأرض التي يُقتل بها ، فمتى صار دماً فاعلمي أنّه قد قُتل ))

قالت أُمّ سلمة : فوضعته في قارورة عندي ، وكنت أقول : إنّ يوماً يتحوّل فيه دماً ليوم عظيم

وفي رواية عنها ، فأصبته يوم قتل الحسين وقد صار دماً(٨)

٣ـ محاولة اغتيال فاشلة

تعيين جماعة المنافقين

أورد ابن كثير في تفسيره نقلاً عن البيهقي في (دلائل النبوة) ، عن حذيفة بن اليمان قال : كنت آخذاً بخطام ناقة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أقود به ، وعمار يسوق الناقة ، أو أنا أسوقه وعمار يقوده حتى إذا كنّا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكباً قد اعترضوه فيها ، قال : فانبهت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بهم وصرخ بهم فولّوا مدبرين

فقال لنا رسول اللّه : (( هل عرفتم القوم ؟ ))

قلنا : لا يا رسول اللّه ، قد كانوا ملثّمين ، ولكنّا عرفنا الركاب

قال : (( هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة ، وهل تدرون ما أرادوا ؟ ))

قلنا : لا

قال : (( أرادوا أن يزاحموا رسول اللّه فيلقوه منها ))

قلنا : يا رسول اللّه ، أفلا نبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كلّ قوم برأس صاحبهم ؟

٧

قال : (( لا ، أكره أن تتحدّث العرب بينها أنّ محمداً قاتل بقوم حتى إذا أظهره اللّه بهم أقبل عليهم يقتلهم ))

ثمّ قال : (( اللّهمّ ارمهم بالدبيلة ))

قلنا يا رسول اللّه وما الدبيلة ؟

قال : (( شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك ))(٩)

وروى الإمام أحمد الرواية نفسها ، وهي واردة في تفسير قوله تعالى في الآية (٧٤) من سورة التوبة : (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا )(١٠)

كما روى ابن كثير أيضاً في الموضع نفسه ، نقلاً عن صحيح مسلم ، عن عمار بن ياسر ، عن حذيفة ، عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (( في أصحابي اثنا عشر منافقاً ، لا يدخلون الجنّة ، ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط ))

٨

ولهذا كان حذيفة يُقال له صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره ، أي تعيين جماعة المنافقين(١١)

حدثت هذه الحادثة الخطيرة في تاريخ الإسلام في أثناء غزوة تبوك في رجب من العام التاسع للهجرة ، ولم تذكر في كتب السيرة أو غيرها تحت عناوين رئيسية ، وإنّما تحت عناوين فرعية ، على الرغم من ثبوتها بنصّ القرآن ، ووقوعها ضمن أحداث غزوة تبوك حيث اشرأب النفاق وأطلع رأسه من منبته ، وورودها في سورة التوبة التي تسمّى أيضاّ (الفاضحة) ؛ لأنّها فضحت المنافقين وعرّتهم

أمّا خطورتها فتكمن في أنّ الذين رأوا في شخص الرسول الأكرم عائقاً أمام تحقيق أهدافهم لا بدّ أنّهم وضعوا هدفاً كبيراً تهون من أجل تحقيقه كلّ الجرائم ، حتى ولو كانت قتل الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ، أو الحسين بن علي (عليه السّلام) ، أو استباحة المدينة ، أو هدم الكعبة ، كما حدث بعد ذلك بالفعل

٩

الفصل الأوّل

أبناء الشجرة الملعونة روّاد الفتنة في الإسلام

شهدت (صفين) وهى مكان يقع بالقرب من شاط‏ى‏ء الفرات بين الشام والعراق

(واقعة صفين) التي دارت بين جيش الإمام علي الذي يمثّل القيادة الشرعية للأُمّة الإسلامية ، وبين جيش القاسطين الظالمين بقيادة معاوية بن آكلة الأكباد ووزيره الأوّل عمرو بن العاص

توشك النبوءة أن تتحقّق ، يوشك مَنْ حذّر رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) منهم أن يتسنّموا منبره

الصراع محتدم بين قيم الإسلام المحمدي الأصيل ، كما يمثّله إمام الحق علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، والفئة الباغية بقيادة ابن آكلة الأكباد ووزيره الأوّل ابن النابغة

وسنعرض نماذج متقابلة لخطاب كلّ فريق من الفريقين وسلوكه ، ثمّ نرى النهاية الفاجعة لهذا الصراع ، أو نهاية البداية لفجر الإسلام المضيء على يد هذه العصابة ، وهو عين ما حاولوه يوم عقبة تبوك فلم يحالفهم التوفيق :

١ـ خطاب رواد الفتنة الخارجين على القيادة الشرعية

رفع معاوية بن أبي سفيان شعار الثار لعثمان بن عفان ، فهل كان ابن آكلة الأكباد ووزيره الأوّل صادقين في دعواهما ؟ فلنقرأ سوياً في صفحات التاريخ

روى ابن جرير الطبرى في تاريخه : لمّا قُتل عثمان قدِم النعمان بن بشير على أهل الشام بقميص عثمان ، ووضع معاوية القميص على المنبر ، وكتب بالخبر إلى الأجناد ، وثاب إليه الناس ، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلّقة فيه (أصابع نائلة زوجة عثمان) ، وآلى الرجال من أهل الشام ألاّ يباتوا مع النساء ولا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان ، ومَنْ عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم

١٠

فمكثوا حول القميص سنة ، والقميص يوضع كلّ يوم على المنبر ، ويجلّله أحياناً فيلبسه ، وعلّق في أردانه أصابع نائلة ، ثمّ مضى معاوية ينشر في الناس أنّ علياً (عليه السّلام) قتل عثمان(١٢)

كان هذا هو الشعار المعلن ، فهل كان هذا الشعار يمثّل الحقيقة ؟ فلنقرأ أوّلاً في تاريخ عمرو بن العاص

أ ـ الشعار المعلن وحقيقته : الاستحواذ على السلطان

وروى الطبري أيضاً : لمّا بلغ عمراً قتل عثمان (رضي اللّه عنه) قال : أنا أبو عبد اللّه قتلته (يعنى عثمان‏) ، وأنا بوادي السباع ، مَنْ يلي هذا الأمر من بعده ؟ إن يله طلحة فهو فتى العرب سيباً ، وإن يله ابن أبي طالب فلا أراه إلاّ سيستنطق الحق وهو أكره مَنْ يليه إليّ

قال : فبلغه أنّ علياً قد بويع له ، فاشتدّ عليه وتربّص أياماً ينظر ما يصنع الناس ، فبلغه مسير طلحة والزبير وعائشة ، وقال : استاني وأنظر ما يصنعون

١١

فأتاه الخبر أنّ طلحة والزبير قد قُتلا ، فارتجّ عليه أمره ، فقال له قائل : إنّ معاوية بالشام لا يريد أن يبايع لعلي ، فلو قاربت معاوية ، فكان معاوية أحبّ إليه من علي بن أبي طالب

وقيل له : إنّ معاوية يعظّم شان قتل عثمان بن عفان ، ويحرض على الطلب بدمه ، فقال عمرو : ادعوا لي محمداً وعبد اللّه فدعيا له

فقال : قد كان ما قد بلغكما من قتل عثمان (رضي اللّه عنه) وبيعه الناس لعلي وما يرصد معاوية من مخالفة علي ، وقال : ما تريان ؟ أمّا علي فلا خير عنده ، وهو رجل يدلِ بسابقته ، وهو غير مشركي في شي‏ء من أمره

فقال عبد اللّه بن عمرو : أرى أن تكفّ يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه

وقال محمد بن عمرو : أنت ناب من أنياب العرب ، فلا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت ولا ذكر

قال عمرو : أمّا أنت يا عبد اللّه ، فأمرتني بالذي هو خير لي في آخرتي وأسلم في ديني ، وأمّا أنت يا محمد ، فأمرتني بالذي هو أنبه لي في دنياي ، وشرّ لي في آخرتي

ثمّ خرج عمرو بن العاص ومعه ابناه حتى قدم على معاوية ، فوجد أهل الشام يحضّون معاوية على الطلب بدم عثمان

١٢

فقال عمرو بن العاص : أنتم على الحق ، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم ، ومعاوية لا يلتفت إلى قول عمرو

فقال ابنا عمرو لعمرو : ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إلى قولك ، انصرف إلى غيره

فدخل عمرو على معاوية فقال : واللّه لعجب لك ! إنّي أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عنّي ، أما واللّه إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة ، إنّ في النفس من ذلك ما فيها حيث نقاتل مَنْ تعلم سابقته وفضله وقرابته ، ولكنّا إنّما أردنا هذه الدنيا ، فصالحه معاوية وعطف عليه(١٣)

هذا هو حال الوزير الأوّل ، فهو نفسه ممّن ألّبوا على عثمان ؛ وهو القائل : (أنا أبو عبد اللّه ، قتلته وأنا بوادي السباع) ، وهو المقرّ بأنّ انضمامه لابن آكلة الأكباد إنّما هو من أجل الدنيا

أمّا معاوية صاحب القميص الذي صار مضرباً للمثل على الادعاءات الكاذبة ، فنورد فقرة من خطبته التي استهلّ بها عهده المشؤوم

روى أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين : لمّا انتهى الأمر لمعاوية ، وسار حتى نزل النخيلة ، وجمع الناس بها فخطبهم قبل أن يدخل الكوفة خطبة طويلة

وأورد بعض مقاطعها ، ومنها : ما اختلفت أُمّة بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها

١٣

فندم فقال : إلاّ هذه الأُمّة فإنّها وإنّها ألا إنّ كلّ شي‏ء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به

إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ، ولا لتصوموا ، ولا لتحجّوا ، ولا لتزكّوا ، إنّكم لتفعلون ذلك ، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم كارهون(١٤)

هل كان ابن آكلة الأكباد ووزيره الأوّل عمرو بن العاص يطالبان بدم عثمان ، أو أنّ السلطة كانت هدفاً لهما ؟ وهل يبقى شك بعد قراءتنا خطاب كلّ منهما في طبيعة الادعاءات المرفوعة من قبل الفئة الباغية ، والصورة الحقيقية لحركة الردّة التي ما كان لها أن تحقّق هدفها لولا تخاذل بعض المسلمين ووهن بعضهم الآخر

كانت هذه هي الأهداف الحقيقية : (الاستحواذ على السلطة) ، و (إذلال المؤمنين) ، وهي تختلف عن الأهداف الدعائية : (الثار من قتله عثمان)

ب ـ وسائل التآمر على الناس

أمّا عن الوسائل التي اتّبعها ابن آكلة الأكباد من أجل تحقيق غاياته الشيطانية (وهي إقامة حكومة مَنْ بدَوا في رؤيا رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) (قردة) ، في مواجهة حكومة العدل الإلهية) ، فهي في المستوى نفسه ، ومن نماذجها نذكر :

١٤

أوّلاً : الرشوة والإغراء بالمناصب

وإليك النموذج الآتي : حاول معاوية رشوة قيس بن سعد بن عبادة ، والي الإمام على على مصر ، فكتب له : فإن استطعت يا قيس أن تكون ممّن يطلب بدم عثمان فافعل

تابعنا على أمرنا ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت ، ولمَنْ أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطاني ، وسلني غير هذا ممّا تحبّ ؛ فإنّك لا تسألني شيئاً إلاّ أوتيته(١٥)

أمّا ردّ قيس بن سعد بن عبادة (رضوان اللّه عليه) على ابن آكلة الأكباد فكان ردّاً مُخرساً ؛ فقد كتب إليه : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان

أمّا بعد ، فإنّ العجب من اغترارك بي وطمعك فيّ ، واستسقاطك رأيي ! أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة ، وأقولهم للحق ، وأهداهم سبيلاً ، وأقربهم من رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ، وتأمرني بالدخول في طاعتك ، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر ، وأقولهم للزور ، وأضلّهم سبيلاً ، وأبعدهم من اللّه (عزّ وجلّ) ورسوله (صلّى الله عليه وآله) وسيلة ، ولد ضالين مضلّين ، طاغوت من طواغيت إبليس ؟!

وأمّا قولك إنّي مالي‏ء عليك مصر خيلاً ورجلاً ، فواللّه إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهمّ إليك ، إنّك لذو جدّ ، والسّلام(١٦)

١٥

ثانياً : الاغتيال السياسي

جاء في تاريخ الطبري : فبعث على الأشتر أميراً إلى مصر حتى إذا صار بالقلزم شرب شربة عسل كان فيها حتفه ، فبلغ حديثهم معاوية وعمراً ، فقال عمرو : إنّ للّه جنوداً من عسل(١٧)

ثالثاً : الاختلاق والخداع جاء في تاريخ الطبري : ولمّا أيس معاوية من قيس أن يتابعه على أمره شقّ عليه ذلك ؛ لِما يعرف من حزمه وبأسه ، وأظهر للناس قِبَله أنّ قيس بن سعد قد تابعهم فادعوا اللّه ، وقرأ عليهم كتابه الذي لان له فيه وقاربه

قال : واختلق معاوية كتاباً من قيس ، فقرأه على أهل الشام(١٨)

١٦

رابعاً : الإغارة على المدنيين وقتل النساء والأطفال

ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه :

١ـ وجّه معاوية في هذا العام ، سفيان بن عوف في ستة آلاف رجل وأمره أن يأتي (هيت) فيقطعها ، وأن يغير عليها ، ثمّ يمضى حتى يأتي الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها(١٩)

٢ ـ وجّه معاوية عبد اللّه بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمئة رجل إلى تيماء وأمره أن يصدق (يأخذ صدقة المال) مَنْ مرّ به من أهل البوادي ، وأن يقتل مَنْ امتنع من إعطائه صدقه ماله

ثمّ يأتي مكة والمدينة والحجاز ويفعل ذلك(٢٠)

٣ ـ وجّه معاوية الضحّاك بن قيس وأمره أن يمرّ بأسفل واقصة ، وأن يغير على كلّ مَنْ مرّ به ممّنْ هو في طاعة على من الأعراب ، ووجّه معه ثلاثه آلاف رجل ، فسار فأخذ أموال الناس ، وقتل مَنْ لقي من الأعراب ، ومرّ بالثعلبية فأغار على مسالح علي وأخذ أمتعتهم ، ومضى حتى انتهى إلى القطقطانة فأتى عمرو بن عميس بن مسعود ، وكان في خيل لعلي وأمامه أهله وهو يريد الحجّ ، فأغار على مَنْ كان معه وحبسه عن المسير ، فلمّا بلغ ذلك علياً سرّح حجر بن عدي الكندي في أربعة آلاف وأعطاهم خمسين خمسين ، فلحق الضحّاك بتدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلاً وقُتل من أصحابه رجلان ، وحال بينهم الليل فهرب الضحّاك وأصحابه ورجع حجر ومَنْ معه(٢١)

١٧

٤ ـ في عام ٤٠ه أرسل معاوية بن أبي سفيان بسر بن أبي أرطأة في ثلاثه آلاف من المقاتلة إلى الحجاز حتى قدموا المدينة ، وعامل علي على المدينة يومئذٍ أبو أيوب الأنصارى ، ففرّ منهم أبو أيوب وأتى بسر المدينة فصعد المنبر وقال : يا أهل المدينة ، واللّه لولا ما عهد إليّ معاوية ما تركت بها محتلماً إلاّ قتلته

ثمّ مضى بسر إلى اليمن وكان عليها عبيد اللّه بن عباس عاملا لعلي ، فلمّا بلغه مسيره فرّ إلى الكوفة حتى أتى علياً ، واستخلف عبد اللّه بن عبد المدان الحارثي على اليمن ، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه ، ولقي بسر ثقل عبيد اللّه بن عباس وفيه ابنان له صغيران فذبحهما

وقد قال بعض الناس : إنّه وجد ابني عبيد اللّه بن عباس عند رجل من بني كنانة من أهل البادية ، فلمّا أراد قتلهما قال الكناني : علامَ تقتل هذين ولا ذنب لهما ؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني

قال : أفعل فبدأ بالكناني فقتله ، ثمّ قتلهما ، وقتل في مسيره ذلك جماعة كثيرة من شيعة علي باليمن

ولمّا أرسل علي جارية بن قداحة في طلبه هرب(٢٢)

تلك هي لمحات من أهداف الدولة الأموية ، وملامحها وأساليبها في الوصول إلى هذه الأهداف

١٨

لا فارق بين معاوية وصدام حسين وهتلر

الغاية عند كلّ هؤلاء تبرر الوسيلة ، بل ونزعم أنّ ابن آكلة الأكباد على قرب عهده بالنبوّة أشدّ وزراً من صدام حسين الذي قتل النساء والأطفال ، واستخدم السلاح الكيماوي في قتل الأبرياء ، فصدام حسين لم يرَ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ، ولا سمع منه ، ولا ادّعى له بعض المؤرّخين أنّه كان كاتبا للوحي ، إلى آخر هذه الادعاءات التي يمزج فيها الحق بالباطل

٢ ـ خطاب قيادة الأُمّة الشرعية : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ )

على الجانب الآخر كان معسكر الحق ، معسكر القيادة الشرعية للأمّة الإسلامية ، قيادة أهل البيت ، ورمزها يومئذٍ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، يجاهد للحفاظ على الإسلام نقيّاً صافياً

وكان هذا هو الهدف الحقيقي الذي تهون من أجله كلّ التضحيات

كان الإمام علي (عليه السّلام) ومَنْ حوله كوكبة المؤمنين الخلّص من أصحاب النبي محمد (صلّى الله عليه وآله)

روى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، نقلاً عن (كتاب صفين) لنصر بن مزاحم : خطب علي (عليه السّلام) في صفين ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وقال : (( أمّا بعد ، فإنّ الخيلاء من التجبّر ، وأنّ النخوة من التكبّر ، وأنّ الشيطان عدوّ حاضر ، يعدكم الباطل

ألا إنّ المسلم أخو المسلم ، فلا تنابذوا ولا تجادلوا ألا إنّ شرائع الدين واحدة ، وسبله قاصدة ، مَنْ أخذ بها لحق ، ومَنْ فارقها محق ، ومَنْ تركها مرق ليس المسلم بالخائن إذا ائتمن ، ولا بالمخلف إذا وعد ، ولا بالكذّاب إذا نطق

١٩

نحن أهل بيت الرحمة ، وقولنا الصدق ، وفعلنا الفضل ، ومنّا خاتم النبيين ، وفينا قادة الإسلام ، وفينا حملة الكتاب

ألا إنّا ندعوكم إلى اللّه ورسوله ، وإلى جهاد عدوّه ، والشدّة في أمره ، وابتغاء مرضاته ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحجّ البيت ، وصيام شهر رمضان ، وتوفير الفيء على أهله

ألا وإنّ من أعجب العجائب أنّ معاوية بن أبي سفيان الأموي وعمرو بن العاص السهمي يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما ، ولقد علمتم أنّي لم أُخالف رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) قط ، ولم أعصه في أمر ، أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص فيها الأبطال ، وترعد فيها الفرائص ، بنجدة أكرمني اللّه سبحانه بها ، وله الحمد

ولقد قُبض رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) وأنّ رأسه لفي حجري ، ولقد ولّيت غسله بيدي وحدي ، تقلّبه الملائكة المقرّبون معي

وأيم اللّه ، ما اختلفت أُمّة قط بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها إلاّ ما شاء اللّه ))(٢٣)

ولا بأس أيضاً أن ننتقل إلى معسكر الإفك والباطل ؛ لنسمع ذلك الحوار العجيب الذي رواه نصر بن مزاحم ، ونقله عنه ابن أبي الحديد قال : طلب معاوية إلى عمرو بن العاص أن يسوّي صفوف أهل الشام ، فقال له عمرو : على أنّ لي حكمي إن قتل اللّه ابن أبي طالب ، واستوثقت لك البلاد

٢٠