أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ

أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ22%

أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
ISBN: 964-8629-08-0
الصفحات: 165

أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 165 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75175 / تحميل: 5520
الحجم الحجم الحجم
أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ

أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٨٦٢٩-٠٨-٠
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

قيام مؤسسة الخلافة وتطورها السياسي

ليس من السهل أن نبحث في مسألة نشوء الخلافة وتطور أسسها والتحول في مفاهيمها السياسية والعقائدية. فذلك يحتاج أولاً التعرض الى المنطلقات السياسية مع أصول الادارة والسلطة عند العرب قبل قيام الاسلام، ثم تطور هذه الاصول والمنطلقات بعد انتصار الاسلام وتأسيس دولته.

ولا بد للباحث، عند الشروع بمثل هذا العمل، أن يجد نفسه ملزماً في التعرف الى أحوال مكة ومجتمعها بشكل أساسي، ثم أحوال بقية شبه الجزيرة حاضرها وباديها. لم تعرف مكة قبل قيام الاسلام الحكومة بأي شكل من اشكالها وحدود سلطاتها، بل أديرت شؤونها من قبل كبار التجار وممثلي كبار الاسرة القرشية. وكان للمدينة عدد من الشعب الوظائفية وزعت كل واحدة منها على أسرة من الأسر، دون أن يكون هنالك اية هيئة حاكمة تتمتع بصفة من صفات الشرعية. كذلك لم تعرف المدينة

٢١

أي نوع من أنواع القوة المسلحة، او يوجد فيها جماعات كهنة لهم نفوذ وسلطات، بل كان زعماؤها يجتمعون أحياناً للتداول في القضايا والمشاكل، وكان مكان اجتماعهم يدعى (دار الندوة). غير أن القرارات التي كانت تتخذ في هذه الاخيرة، لم يكن لها صفة الالزام، وانما كان الاخذ بها اختيارياً وفردياً... وكان اجماع زعماء المدينة على أمر من الامور متعذراً في كثير من الاحيان، وكثيراً ما كانت تنقسم المدينة في مواقفها من القضايا وتعقد التحالفات المتضادة داخلها، وفي النهاية يكون النصر غالباً للحلف الأقوى. وفي كتب الاخبار والسيرة أحاديث طويلة حول بعض القضايا التي واجهها مجتمع مكة وحول أحلاف هذا المجتمع، ويستفاد من بعض الاخبار انه وجد لدى المكيين مفهوم واحد للشرعية الواجب الالتزام بأوامرها مهما كانت، وهذا المفهوم ارتبط بالكعبة التي كانت موضع اجلالهم وقداستهم. فعندما كان يجمع غالبية الزعماء المكيون على أمر من الأمور كانوا يدونون ما أجمعوا عليه في صحيفة ويقومون بتعليقها في جوف الكعبة، وهنا يأخذ الامر صفة الشرعية. ولدينا مثال واضح حول هذا : ما عمله المكيون حين أعلنوا صحيفة مقاطعة بني هاشم التي اضطرت هؤلاء الالتزام بها، فتركوا مكة وأقاموا محصورين في شعب ابي طالب، وعاشوا في ظل المقاطعة حتى مزقت الصحيفة(١) .

_____________________

(١) سهيل زكار : التاريخ عند العرب، ٩٥ - ١١٥.

٢٢

هذا وقد استمرت عادة تعليق صحف المعاهدات والوصايا وغيرها في الكعبة. ومن أوضح الامثلة على ذلك ما فعله هارون الرشيد حين قام بتولية اولاده العهد من بعده.

ان أمر الالتزام بشرعية الاوامر المعلقة في جوف الكعبة مرتبط بقدسيتها، حيث اعتبرها القرشيون بيت الله. وهكذا فالامر المعلق في جوفها تصبح له صفات الهية، وهو أمر في غاية الاهمية، وقد تطور بعد ذلك تطوراً كبيراً.

وبعد قيام الاسلام، ومع بداية التبشير به لم يحدث تغيير جوهري فيما كان سائداً في مكة، ذلك أن النبي لم يمارس أية سلطات على الذين آمنوا برسالته، ولكنه مع ذلك فقد غدا مسموع الكلمة، محترماً ومتبع الرأي بين أتباعه.

وقد تبدل هذا الحال كلياً بانقضاء الفترة المكية وهجرة المسلمين الى المدينة، حين عمل النبي الذي أصبح بالاضافة الى صفة النبوة يتحلى بصفة زعيم أمة وحاكمها المطلق النابعة أحكامه من ارادة الله، عمل هذا النبي على انشاء أمة جديدة ذات تقاليد وقواعد جديدة. ولاول مرة في حياة مجتمع شمالي شبه الجزيرة العربية، لا بل في مجتمع الجزيرة كله، قامت تجربة جديدة للحكم، مركزية السلطة،

٢٣

حاكمها يملك الحق في التشريع وفي نفس الوقت يقع عليه واجب تنفيذ الاحكام. ولم يكن تطبيق هذا والقبول به من قبل العرب من الامور السهلة، لكن النبي نجح الى أبعد الحدود في ارساء قواعد لحكم الامة الجديدة التي أقامها وان كان لم يأت بنظرية للحكم ذات أسس ومنطلقات ثابتة.

هذا وقد تناول بعض الناس هذه القضية حيث يرون بأن النبي قد أتى بنظرية خاصة في الحكم والسياسة، هي نظرية الشورى، معتمدين على ما جاء في القرآن الكريم( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) أو «وشاورهم بالامر». ومع الاقرار بما ترمي اليه هذه الآيات، فان القرآن لم يبيّن قواعد الشورى هذه وحدودها وطرق تطبيقها، كما لم يبين الى أي حد كان على النبي الاخذ برأي أصحابه وأتباعه. وعندما يعود المرء الى كتب السيرة يجد أن مفهوم هذه القضية لم يكن واضحاً عند أحد من الصحابة، كما لم تتوضح معالمه في الممارسات زمن النبي.

لقد ملك النبي وحده جميع فروع السلطة من تشريع وقضاء وادارة وجباية وأعمال حربية، وذلك بالاضافة الى صفته الاساسية وهي النبوة. وهكذا امتزجت مفاهيم السلطات الزمنية بمفاهيم السلطات الدينية في الاسلام، وصار كل أمر في الدولة العربية الناشئة مزدوج الصفات

٢٤

زمنياً ودينياً. وكان النبي أحياناً ينتدب بعض أصحابه فيكلفهم ببعض الوظائف حين يبتعد عن المدينة، أو يرسلهم لتنفيذ بعض المهام مثل جباية الصدقات أو تفقية الناس بالاسلام وامامتهم بالصلوات او تنفيذ مهمات عسكرية. وكان الذي ينوُب عن النبي في امامة الصلوات يدعى خليفة النبي، وكان قائد الحملة العسكرية يسمى أمير. ولما كانت القوات التي يقودها هذا الاخير قواتاً مؤمنة تقوم بتنفيذ مهمة ضد جماعات غير مؤمنة، فقد كان بعض القادة العسكريين يُميزون عن قادة الاعداء بلفظة «أمير المؤمنين !»(١) .

وكان الخليفة على الصلوات يؤدي الصلاة كما يؤديها النبي دونما زيادة او نقصان، ذلك أن الخليفة هو النائب عن الأصيل الملتزم كلياً بما عهد اليه من أوامر وتعاليم. وكانت صلاحيات أمير الجيش أوسع من صلاحيات الخليفة، ذلك أن قيادة العساكر تستوجب الطاعة المبرمة، وتعطي القائد فرص التصرف وابداع الحلول واصدار ما يراه ضرورياً من أوامر وتعليمات. ففي حين حُرم الخليفة من السلطات التشريعية مُنح ذلك للامير وتمتع به.

ومع اتساع رقعة الدولة الجديدة، وتعاظم

_____________________

(١) التراتيب الادارية : ١/٢ - ٨.

٢٥

المسؤوليات فيها، تقدم النبي بالسن وأخذت آثار المرض وما عاناه تظهر عليه، وهنا - كما يُستخلص من الاخبار - أخذ بعض المسلمين يفكرون في مستقبل العقيدة وفي شؤون الحكم في الدولة ومع مرض النبي الاخير أصبحت هذه المسألة هاجساً جثم على صدور المسلمين، وأثيرت هذه القضية قبل موت النبي، ويبدو انه حاول وضع الحل لهذه المسألة ولكن مرضه وأموراً أخرى حالت بينه وبين ذلك(١) .

وبعدما توفي النبي تمّ استلام أبي بكر لمقاليد الحكم في الدولة الجديدة في ظروف سبق شرحها، وأصبح منصب الخلافة منذ ذلك الحين رسمياً وأساسياً في الحياة السياسية للامة الاسلامية، بينما لم تكن له في البداية أية هوية واضحة المعالم والاسس.

وحاول ابو بكر تحديد معالم منصبه الجديد منطلقاً من مفهوم «الخلافة» اللغوي، أي أن الخليفة نائب ملتزم بأوامر المنيب وأفعاله. وقد ظهر ذلك في قوله «انما أنا متبع ولست بمبتدع»، وظل أبو بكر يعرف طيلة حكمه بخليفة رسول الله، ذلك انه لم يحتج الى تبديل لقبه، لان

_____________________

(١) انظر صحيح البخاري : ٥/١٣٧ - ١٤١.

٢٦

مدة حكمه كانت قصيرة، لم يحدث فيها مشاكل جديدة تحتاج الى تشريع. وهكذا ظل ابو بكر يعتبر نفسه نائباً عن النبي منفذاً لكل ما جاء به، ويرى نفسه انه لا يملك اية صلاحيات تشريعية، كما انه لا يملك اجبار المسلمين على ركوب خطة لم يحدد معالمها النبي والقرآن الكريم.

ومات ابو بكر والحالة من حيث الجوهر كما هي، سوى ان رقعة الدولة قد اتسعت فشملت أراضي خارج شبه الجزيرة، كما انه تجمع في الاقاليم المفتوحة قوات عربية مسلحة لا ريب انها أخذت تتطلع نحو اسماع صوتها ورأيها في السلطة. وقبيل وفاته قام ابو بكر بتعيين عمر بن الخطاب لتولي شؤون الحكم من بعده. وقبل الناس بهذا التعيين، الامر الذي يدل على حدوث تغييرات في مفاهيم الناس السياسية.

واستلم عمر السلطة والدولة الناشئة تجتاز مرحلة حاسمة وتواجه مشاكل خطيرة تحتاج الى حلول، ومثل هذه الحلول تطلبت ممارسة الخليفة صلاحيات تشريعية، ذلك أن الكثير من المشاكل كان جديداً ليس له نظير بين مشاكل العصر النبوي، ومن الامثلة على ذلك قضيتا السواد ونصارى تغلب، حيث قضت الاحكام الاسلامية بتقسيم الغنائم التي يحصل عليها المسلمون وفقاً لقواعد

٢٧

حددها القرآن، كما قضى الاسلام بأن يدفع أهل الذمة من نصارى وسواهم من غير المسلمين الجزية دونما استثناء.

فبعد الاستيلاء على سواد العراق وفتح الجزيرة اقتضت الاحكام تقسيم أرض السواد، ودفع قبيلة تغلب العربية للجزية اسوة ببقية سكان الجزيرة النصارى، لكن هؤلاء رفضوا دفع الجزية. ولقد أدرك عمر ما يمكن أن يلحقه تقسيم السواد من مضار، فما كان منه الا ان ترك قسمته، ولجأ الى مضاعفة الصدقة على نصارى تغلب، بدفع ضريبة من نفس النوع الذي يدفعه المسلم انما الكمية مضاعفة(١) .

ان في اقدام عمر على مثل هذا العمل، يعني انه قد منح نفسه صلاحيات تشريعية الامر الذي لم يفعله ابو بكر، فهو بذلك لم يعد خليفة بمعنى النائب بل تصرف كتصرف أمير الجيش. وهكذا تخلى عمر عن لقب خليفة ليكتسب لقب «أمير المؤمنين»(٢) ، وفي هذا التعبير مؤشرات تدل على تبدل جوهري في المفاهيم السياسية للدولة الاسلامية، خاصة وأن العرب المسلمين اختلطوا بشعوب كانت خاضعة لفارس وبيزنطه قبل خضوعها للعرب فتركت بعض التأثير.

_____________________

(١) أبو يوسف : الخراج، ٢٨ - ٤٧.

(٢) الطبري : ٥/٢٢.

٢٨

ومع امتداد الايام واتساع رقعة الدولة وبروز مشاكل جديدة أصبح الناس أكثر قبولاً لاعطاء الخليفة صلاحيات أوسع في التشريع، ويبدو أن عمر كان متنبهاً لذلك، فأخذ يبحث عن قاعدة يُرتكز اليها في المستقبل، غير أن اغتياله المفاجئ جاء ليمنعه من اتمام هذا الامر. وبينما هو على فراش الموت يعاني من آلام جراحه، لم يشغله ذلك عن هاجس الحكم ومستقبل زمام السلطة في الدولة الاسلامية الناشئة. نظر عمر حوله، فرأى ستة من اصحاب النبي كل واحد منهم يمثل فرعاً بارزاً من أسرة الزعامة القرشية. وكان أبرز هؤلاء الستة، علي بن ابي طالب ممثل بني هاشم، اسرة النبي، آل البيت في الاسلام، وأبرز أسر الزعامة قبل الاسلام منجهة، ومن جهة ثانية عثمان بن عفان ممثل أسرة بني أمية، أسرة المال والزعامة الاولى قبل الاسلام، والتي تسلم العديد من أفرادها أخطر مناصب الولايات بعد فتح مكة وأيام الفتوح زمن أبي بكر وعمر نفسه. ويبدو أن هذا الاخير رأى في تعيين علي مقدمة لقيام حكم الاسرة المقدسة، ورأى في تعيين عثمان تمهيداً لتمكين بني أمية من التسلط الكلي على الدولة وتسييرها بعقلية الارستقراطية التجارية المؤثرة.

لهذا آثر عمر عدم تحمل مثل هذه المسؤولية فتكون آخر أعماله وأخطرها، فكان أن ترك هذا الامر للستة الباقين من أصحاب النبي، ليقوموا باختيار أحدهم خليفة.

٢٩

وتوفي عمر، واجتمع هؤلاء فوضحت منذ البداية معالم الصراع، حيث أعلن أربعة من المرشحين عزفهم عن ترشيح أنفسهم مع احتفاظهم بحق التصويت. وبذلك انحصرت المعركة بين علي وعثمان، وأوكلت الامور الى عبد الرحمن بن عوف لاختيار واحد منهما. وقام هذا الاخير باستطلاع آراء الناس، فكان أن واجه تيارين : أحدهما ملّ قسوة نظام عمر ورقابته المركزية الشديدة وعدم تساهله، ورأى في استلام علي للحكم استمراراً، لا بل تطويراً لنظام الخليفة السابق، وتطبيقاً أشد لقوانين الاسلام. ذلك ان علياً كان ابن الاسلام وربيب البيت النبوي وعارفاً بأمور الدين وعلومه أكثر من سواه، فقد شرب من ينابيعه الاولى منذ البداية وحتى نهاية حياة النبي بلا انقطاع أو توقف، كما رأى اتباع هذا التيار ان في استلام علي للسلطة انتصاراً دائماً للتيار الهاشمي الذي انتصر بنجاح النبي وطعن يوم السقيفة. ولقد كان اتباع هذا التيار أقل قوة من التيار الآخر، غير انه كان أكثر مرونة وأوسع دهاء وأقل مثالية وأبرع في اعداد الانقلابات وخلق المواقف المحرجة(١) .

_____________________

(١) جاء في تاريخ الطبري ان عبد الرحمن بن عوف بعث في صبيحة اليوم الثالث لوفاة عمر «الى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار، والى اُمراء الاجناد فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله فقال : ايها الناس، ان الناس قد احبوا ان يلحق اهل الامصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم، فقال سعيد بن زيد : انا نراك لها أهلاً، فقال : أشيروا علي بغير هذا. فقال عمار : ان أردت الا يختلف المسلمون فبايع علياً، فقال المقداد بن الاسود : صدق عمار، ان بايعت علياً =

٣٠

لقد رفض علي القبول بشروط عبد الرحمن بن عوف

_____________________

= قلنا سمعنا واطعنا. قال ابن ابي سرح : ان أردت الا تختلف قريش فبايع عثمان : فقال عبيد الله بن ابي ربيعة : صدق أن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا. فشتم عمار ابن أبي سرح وقال : متى كنت تنصح المسلمين. فتكلم بنو هاشم وبنو امية فقال عمار : أيها الناس أن الله عز وجل أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الامر عن أهل بيت نبيكم ! فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يا ابن سمية، وما انت وتأمير قريش لانفسها. فقال سعد بن أبي وقاص : يا عبد الرحمن افرغ قبل ان يفتتن الناس، فقال عبد الرحمن : اني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على انفسكم سبيلاً. ودعا علياً فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ؟ قال : أرجو أن أفعل واعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال : نعم، فبايعه، فقال علي : حبوته حبو دهر ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان الا ليرد الامر اليك والله كل يوم هو في شأن. فقال عبد الرحمن : يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً فاني قد نظرت وشاورت الناس فاذا هم لا يعدلون بعثمان، فخرج علي وهو يقول : سيبلغ الكتاب أجله، فقال المقداد : يا عبد الرحمن أما واللّه لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون، فقال : يا مقداد والله لقد اجتهدت للمسلمين. فقال المقداد : ما رأيت مثل ما أوتي أهل هذا البيت بعد نبيهم، أني لاعجب من قريش انهم تركوا رجلاً ما أقول أن أحداً أعلم ولا أقضى منه بالعدل. فقال عبد الرحمن : يا مقداد اتق الله فأني خائف عليك الفتنة، فقال علي : أن الناس ينظرون الى قريش وقريش تنظر الى بيتها فتقول : أن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم» - الطبري : ٥/٣٧ - ٣٨.

٣١

وأصر على أن يعمل بمبلغ علمه وطاقته، ذلك انه أتسم بالعلم والمعرفة الواسعة بالاسلام، والى هذه الناحية الاساسية أشار المقداد بن الاسود، واتسام علي بالعلم والمعرفة صار فيما بعد، أي بعد نشوء الحزب الشيعي وتطوره حجر أساس في العقيدة الشيعية.

وبعدما صار عثمان أميراً للمؤمنين تمهد السبيل امام بني أمية للسيطرة على مقاليد السلطة للأمة الجديدة والتحكم بها، على ان ذلك لم يحدث دون ردات فعل، ودونما ثمن باهظ كان على عثمان أن يدفعه بدمه. وجاءت خلافة علي،

٣٢

فكانت أشبه بفترة انتقال انتهت معها فترة الخلافة لتحل محلها على الصعيد الرسمي والعملي، حكم الاسرة الاموية الملكي، وعلى صعيد المعارضة الامامة.

ولن أحاول هنا التأريخ لما واجهه عثمان أيام حكمه او الاسهاب عن خلافة علي والمشاكل التي اعترضتها، فلذلك مكان آخر ومناسبة خاصة، وانما سأكتفي بالاشارة الى ان استلام علي للحكم واتخاذه من الكوفة عاصمة له، جعل حزبه الذي تكوّن مع الايام يمارس السلطة وينظم نفسه بعض الشيء. هذا وقد نظر هذا الحزب مع الذين آمنوا بأحقية علي بالخلافة الى هذا الاخير بعد استلامه الحكم، نفس نظرتهم السابقة : رجل له من المؤهلات ثم القرابة ما يجعله أجدر الناس وأحقهم بالقيادة، أي أن القرابة كانت مزية من المزايا، انما لم تكن بحال من الاحوال المنطلق والقاعدة الاساسية.

وبعد اغتيال علي، ووصول معاوية الى أن يكون «أمير المؤمنين» كما كان أبوه «سيد أهل الجاهلية» حرمت شيعة علي (حزبه) من الحكم، وغدا أفرادها رجال المعارضة الملاحقون من قبل السلطة. وقامت جماعة الشيعة بمبايعة الحسن بن علي خليفة بعده، لكن الحسن تنازل لمعاوية ثم ما لبث أن أغتيل، فتوجه الشيعة بأبصارهم نحو أخيه الحسين. وفي خلال هذا الوقت ثبت في أذهان الناس

٣٣

أن الخلافة حق لعلي وأولاده، فبعد فاجعة كربلاء لم ير بعض الشيعة غضاضة بالاعتراف بمحمد بن الحنفية كصاحب حق في الخلافة، وكان هذا شعار المختار وأتباعه. وبعد اخفاق ثورة هذا الاخير أجمع غالبية الشيعة على حصر الحق الخلافي في أولاد علي من زوجته فاطمة بنت النبي، ذلك أن تطوراً كبيراً قد ألم بالفكر الشيعي من كافة الجوانب، وغدت القرابة هي العمود الفقري لحق الحكم والقيادة، وهذا الحق ثابت بالنص والتعيين، ومحاط بخصائص ومزايا. فالنبي كان خاتم الانبياء وهو عند وفاته لم يورّث النبوة وانما ورّث قيادة الامة لعلي، وهذا ورّثها لأولاده من بعده. ومع وفاة النبي انقطع الوحي لكن النبي كان قد تدارك ذلك بأن أعطى علياً علماً خاصاً، وعلي - الذي وصف دائماً بالعلم - ورّث هذا العلم لابنه وهكذا.

وعلى هذا نجد انه بعد استيلاء معاوية على السلطة حدث تطور كبير في الخلافة وامرة المؤمنين، فقد أصبح رأس السلطة ملكاً أو أشبه بالملك، مع احتفاظه بلقب «أمير المؤمنين» دون سواه من أصحاب السلطة، وصار زعيم المعارضة اماماً. كذلك تطورت فكرة الامامة تطوراً كبيراً، فقد حدث انشقاق بين صفوف الحزب الشيعي، بحيث طورت كل جماعة فكرة الامامة تطويراً خاصاً وحددتها بما شاءت وبما اقتضت الاحوال.

٣٤

علي والخلافة

٣٥

بعد مصرع عثمان، الذي أخفق في تحمل مسؤوليات الحكم بعد خليفة قوي هو عمر بن الخطاب، شغر مركز الحكم مرة أخرى، وعادت الازمة من جديد تفجر صراعات وتثير تناقضات لا حد لها، وهي أزمة فاقت كثيراً في خطورتها وأبعادها الازمة الاولى التي انتهت في السقيفة. ذلك ان مقتل الخليفة في أعقاب ثورة دموية قام بها الجند العرب في الامصار، لم يكن حدثاً عادياً يمكن أن يمر دون أن يخلّف رواسب ستصبح متأصلة في جسم الدولة الناشئة، فتهدد وحدتها بين الحين والآخر، فهو حدث ترك تأثيره العميق على مجرى التاريخ الاسلامي كله، وجعل للسيف الكلمة الفاصلة في امور الحكم(١) . ولعل ما ينسب الى عثمان بعد اشتداد وطأة المحاصرين على داره يعبّر عن هذه الحقيقة حين قال : «فو الله لئن قتلوني لا

_____________________

(١) فلهوزن : تاريخ الدولة العربية، ٥٠.

٣٦

يتحابون بعدي أبداً ولا يصلون بعدي جميعاً، ولا يقاتلون بعدي عدواً»(١) .

واذا كان هدف الثوار الذين قادوا انقلابهم على عثمان تحرير الخلافة من طغيان العائلية والاحتكار لمغانم الحكم، فانهم قضوا بحركتهم دون قصد على آخر ما تبقى من نظام الشورى الذي تحول الى ملكية مطلقة في عهد معاوية(٢) .

ظلت عاصمة الخلافة تعيش في غليان لعدة أيام، بانتظار من يخلف عثمان في الخلافة.. ولم تكن المسألة بسيطة في ظروف حرجة كهذه لان مسؤوليات ضخمة ومهمات خطيرة كانت تنتظر الحاكم الجديد وكان لا بد ان يبت بها سريعاً قبل أن يحترق بنار الحكم. وعلى ذلك لم يكن مستغرباً أن يبتعد بعض كبار السياسيين عن المدينة بعدما أدركوا خطورة الوضع، تاركين معالجة الازمة لعلي المرشح الاوفر حظاً حينئذ للخلافة والذي كان قد بدأ يمارس بعض اعمالها قبل مقتل عثمان(٣) . وتردد عليّ نفسه في قبول هذا المنصب حين توجه اليه الثوار وعرضوه

_____________________

(١) ابن كثير : ٧/١٨٠.

(٢) بيضون - زكار : تاريخ العرب السياسي، ٧٦.

(٣) ابن كثير : ٧/١٧٧.

٣٧

عليه بعدما رأوا ميل الغالبية العظمى اليه. ولكن تردده زال أمام اصرار الثوار على بيعته وربما لشعوره بأن التهرب من الحكم في مثل هذه الظروف خيانة للامة، وللعقيدة، فقد كانت فترة حاسمة في تاريخ الاسلام، فترة في أشد الحاجة الى رجل قوي كعلي، ارتبط تاريخياً بالاسلام منذ ظهوره. وثمة شيء آخر هو ان علياً كان السياسي الذي يحظى بتأييد الغالبية في المدينة والزعيم الذي يمكن ان يتفق عليه بقية الزعماء.

اجتازت الازمة بعض خطورتها بتولية علي مهام الخلافة، ولكن الامور في عهد الخليفة الجديد سارت في اتجاه أكثر تعقيداً وأخذت الاحداث تتلاحق بصورة عجيبة. فقد كان هناك أكثر من عائق يعترض هذا الخليفة ويمنعه من القيام بمهماته لا سيما في مجال التغييرات التي كان لا بد من اجرائها لازالة رواسب الحكم السابق. فقد كان عليه أن يوجد حلاً لجميع المشاكل التي أثيرت في عهد عثمان وأدت الى مقتله.. وهذا معناه الاصطدام بعدد من كبار الصحابة ورجالات الاسلام الذين اصابوا حداً بعيداً من الثراء زمن الخليفة السابق، ومن الطبيعي أن تتعارض مصالحهم مع الخليفة الجديد المعروف عنه المثالية وشدة التصلب في الرأي.

٣٨

والحقيقة ان مهمة الخليفة الجديد كانت على جانب كبير من الخطورة، ذلك أنه لم يكن يحظى بتأييد كل القوى السياسية في الدولة يضاف الى ذلك ان بعض الذين بايعوه أخذوا يرفضّون عنه ويتطلعون كل بدوره الى الافادة من الظروف والوصول الى مكاسب معينة. ومن المدهش حقاً أن نرى اثنين من الصحابة الكبار هما الزبير وطلحة اللذين ما انفكا يكيدان ضد الخليفة السابق، أول من ينقلب على علي، ويصل الامر بهما الى اتهامه بالوقوف وراء مقتل عثمان.

بدأ علي أولى مهماته الكبيرة، بعزل ولاة الاقاليم وكانوا موضع السخط والتذمر ووضع مكانهم مجموعة جديدة تتمتع بثقة وتنسجم مع سياسته(١) . وقد نفّذ الجميع أوامره الخليفة باستثناء والي الشام معاوية الذي اتخذ من قضية الخليفة المقتول عثمان ذريعة لعدم الاعتراف بعلي، فافتتح بذلك صفحة جديدة دامية في تاريخ الحرب الاهلية التي شهدها حينئذ العالم الاسلامي.

وكان علي بدوره يدرك جيداً أبعاد المشكلة ويعرف ان القضاء على خصمه القوي المتمرس في المنطقة الشامية

_____________________

(١) اليعقوبي : ٢/١٥٥.

٣٩

ليس بالامر السهل. ولكن الشام لم تكن كل هموم الخليفة الجديد، فقد كان هناك أكثر من منتحل لقضية عثمان، تصدى لعلي وراح يزرع في دربه المتاعب. ففي الحجاز ناوءه الزبير وطلحة وكانا أصلاً من أصحاب الطموح للخلافة، وقد أيدا علياً أول الامر ثم ثاراً عليه بعد تعيين ولاة الاقاليم الجدد دون أن يكون لاي منهما نصيب(١) . وانضمت عائشة التي كانت تحقد على علي منذ أيام النبي الى فريق الساخطين بزعامة طلحة والزبير(٢) وكانت غير بعيدة عن مجرى الاحداث التي أودت بالخليفة السابق، ثم انسحبت الى مكة، بعد شعورها بأن علياً سيكون الخليفة، تعمل على تجميع القوى ضده، وتستغل في نفس الوقت لعبة التشكيك بموقف الخليفة الجديد من قتلة عثمان. واجتمع الساخطون الثلاثة في مكة، ثم غادروها الى العراق بعد أن أدركوا صعوبة مناجزة الخليفة في الحجاز ونجحوا في اقناع البصرة بالانضمام الى حركتهم. ولكن هذه الحركة لم تكلف الخليفة كبير عناء، فسرعان ما خرجت قواته من المدينة (٣٦ هجري / ٦٥٦م) وتمكنت من إخضاع الثائرين دونما صعوبة في معركة الجمل التي سميت

_____________________

(١) ابن قتيبة : الامامة والسياسة ١/٤٩.

(٢) Perier Vie Dal - Hadjajadj ibn yousof, P١٠

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

في اليوم العاشر من شهر رجب المصادف ليوم الجمعة من سنة ١٩٥ للهجرة المباركة ، وعلىٰ هذا فقد ورد في زيارته في دعاء الناحية المقدسة :« الّٰلهُمَّ إنّي
أسالك بالمولودين في رجب محمّد بن علي الثاني ، وابنه علي بن محمّد
المنتجب »
(١) .

وكان محل ولادته في مدينة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

كراماتها :

أشارت الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام بفضلها ، موضحَةً عظمتها ، نذكر منها :

ما روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بحقّ ولدها الإمام الجوادعليه‌السلام ، وفيه إشارة صريحة إلىٰ عظمة أُمهعليهما‌السلام ، في حديث جاء فيه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« بأبي ابن خيرة الإماء
النوبية الطيّبة الفم المنتجبة الرحم »
(٢) .

وما ورد عن يزيد بن سليط الزيدي عندما التقى الإمام الكاظم في طريق
مكّة المكرّمة ، فقال له الإمام عليه‌السلام :« يا يزيد ، وإذا مررت بهذا الموضع
ولقيته وستلقاه ، فبشّره أنه سيولد له غلام أمين مأمون مبارك ، وسيعلمك
أنّك لقيتني ، فأخبره عند ذلك أن الجارية التي يكون منها هذا الغلام جارية
من أهل بيت مارية جارية رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله أم إبراهيم ، فإن قدرت أن تبلغها _____________

(١) مفاتيح الجنان : ١٣٥ من أدعية شهر رجب.

(٢) الكافي ١ : ٣٢٣ / ١٤ باب الإشارة والنصّ على أبي جعفر الثانيعليه‌السلام من كتاب
الحجّة.

١٤١

منّي السلام فافعل » (١) .

ولا شكّ في أن طلب الإمام الكاظمعليه‌السلام من يزيد بن سليط أن يبلّغ سلامه عليها ، يكشف عن محاولتهعليه‌السلام بتسليط الأضواء علىٰ عظمة وشخصية هذه السيدة الجليلة.

وقال الإمام الرضاعليه‌السلام :« قد ولد لي شبيه موسىٰ بن عمران فالق البحار ،
وشبيه عيسىٰ بن مريم قُدِّستْ أُمٌّ ولدته ، قد خلقت طاهرة مطهّرة »
(٢) .

وقال الإمام العسكريعليه‌السلام في حقّها :« خُلقت طاهرة مطهّرة » (٣) .

وفاتها :

للأسف الشديد إنّ أغلب أُمهات المعصومينعليهم‌السلام لم يصلنا الشيء الكثير عنهنّ ، لا سيّما ما يرتبط بتاريخ وفاتهن ، ومن بين تلك الأُمهات الطاهرات التي غفل التاريخ سنة وفاتها هي السيدة خيزران رضي الله عنها أُم الإمام الجوادعليه‌السلام .

فسلام عليك أيتها الطاهرة المطهّرة ، يوم اقترنت بالرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويوم وَلَدْتِ الجواد من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويوم التقيت عند ربّك بمحمّد وآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

سابعاً : أُم الإمام الهادي عليه‌السلام

اسمها : هي السيدة سمانة(٤) ، كانت من أفضل نساء عصرها حيث لا يوجد
_____________

(١) الكافي ١ : ٣١٥ / ١٤ باب الإشارة والنصّ علىٰ أبي الحسن الرضاعليه‌السلام من كتاب
الحجّة.

(٢) عوالم الإمام الجوادعليه‌السلام : ٢١ ، عيون المعجزات : ١٢١.

(٣) عوالم الإمام الجوادعليه‌السلام : ٢٠.

(٤) الكافي ١ : ٤٩٨ باب مولد أبي الحسن علي بن محمّدعليهما‌السلام ، من كتاب الحجّة ،
الإرشاد ٢ : ٣٠٧ ، إثبات الوصية : ٢٢٠.

١٤٢

لها مثيل في الزهد والتقوىٰ ، وكانت دائمة الصيام والقيام ، كيف وإن الله عزّوجلّ جعلها وعاءً لسرّه المكنون ، فهي زوجة الإمام الجواد وأُم الإمام الهادي ، وكانت تلك السيدة جارية مولدة نشأت في ديار العرب ، فتعلّمت الأدب والمعاشرة من ذلك المجتمع الذي نمت فيه القيم والمثل العليا ومكارم الأخلاق ببركة الإسلام الحنيف.

ومن أسمائها الأخرىٰ : سوسن ، وجمانة ، وغيرها(١) .

كنيتها : أُم الفضل(٢) .

لقبها : السيدة(٣) .

زواجها من الإمام الجواد عليهما‌السلام :

قال محمّد بن الفرج بن إبراهيم بن عبد الله بن جعفر : دعاني الإمام أبو جعفر (الجواد) محمّد بن علي بن موسىعليهم‌السلام ، فأعلمني أن قافلة قدمت فيها نخَّاس ومعه جواري ، ودفع لي سبعين ديناراً ، وأمرني بابتياع جارية وصفها لي ، فمضيت وعملت بما أمرني ، وكانت تلك الجارية أم أبي الحسن الهاديعليه‌السلام ، وروي أنّ اسمها سمانة(٤) .

_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة ١ : ٣٠٧ باب ٢٧ ، خبر اللوح ، فرق الشيعة /
النوبختي : ١٠٢ ، عوالم الإمام الجواد عليه‌السلام : ٥٣٩ ، بحار الأنوار ٥٠ : ١١٥ / ٣ باب
تاريخ الإمام أبي الحسن الهادي عليه‌السلام ، باب (٢٩).

(٢) بحار الأنوار ٥٠ : ١١٤ / ٢ ، منتهىٰ الآمال ٢ : ٥١٩.

(٣) دلائل الإمامة : ٤١١.

(٤) دلائل الإمامة : ٤١٠ / ٣٦٨.

١٤٣

وعندما وصلت تلك السيدة الجليلة تزوّجها الإمام الجوادعليه‌السلام ، وعاشت في كنفه ، وهي تغترف من نمير الإمامة ومنهلها العذب رشفات الرحيق المختوم.

ولادتها الإمام الهادي عليه‌السلام :

اقترنت السيدة سمانة المغربية بالإمام الجوادعليه‌السلام ، ومضىٰ علىٰ زواجها المبارك مدّة من الزمن ، فحملت بولدها الهاديعليه‌السلام .

وفي يوم من الأيام المباركة أطلّ علىٰ بيت الإمامة كوكب درّي ، أنار البيت العلوي ، فزاده بهجة وضياءً ، وقد أُضيفت بولادته إلىٰ بيت الرسالة والإمامة ومقرّ الوصية والخلافة شعبة من دوحة النبوة منتضاة مرتضاة ، وثمرة من شجرة الرسالة مجتناة مجتباة.

أما ولادته فقد اختلفت الروايات ، فقد ذكر ابن عياش : أنها كانت في الثاني أو الخامس من شهر رجب الأصب ، فيما ذكرت رواية أخرىٰ : أن ولادته كانت في النصف من شهر ذي الحجّة الحرام من سنة (٢١٢) للهجرة المباركة قرب المدينة المنورة في موضع يقال له : (صريا) أو (صربا)(١) .

كراماتها :

يكفي في جلالة هذه السيدة وعلوّ شأنها وسموّ مقامها ما تحدّثت عنه الرواية
الواردة عن ولدها الإمام الهادي عليه‌السلام والمرويّة عن محمّد بن الفرج وعلي بن
مهزيار : حيث قال عليه‌السلام :« اُمّي عارفة بحقّي ، وهي من أهل الجنّة ، لا يقربها
شيطان مارد ، ولا ينالها كيد جبّار عنيد ، وهي مكلوءة بعين الله التي لا تنام ،
_____________

(١) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ٢٦٥.

١٤٤

ولا تتخلف عن أُمّهات الصدّيقين والصالحين » (١) .

وفاتها عليها‌السلام :

مرّة أُخرىٰ نلتقي مع التاريخ الذي هضم حقّ الآل وبخسهم حقوقهم في كل شيء حتىٰ قام حماته من الأوغاد علىٰ حرق تراث الشيعة فلم يصلنا منه إلّا النزر القليل ، وهكذا ضاع علينا تاريخ وفاة هذه المرأة الجليلة كما ضاعت تواريخ معظم أُمهات المعصومينعليهم‌السلام .

فسلام عليكِ يا زوجة الجواد ، ويا أُم الهادي ، ويا جدّة العسكريعليهم‌السلام يوم دخلت بيوت آل الله ويوم كنت في لقاء الله وشفاعة آل الله.

ثامناً : أُم الإمام العسكري عليه‌السلام

اسمها : هي السيدة سوسن(٢) ، كانت في نهاية العفّة والصلاح والورع والتقوىٰ ، وفي مقدمة العابدات العارفات في زمانها ، وكانت في بلدها من الأشراف ، وفي مصاف الملوك ، ويكفي في فضلها أنّها كانت مفزعاً وملجأً لشيعة أهل البيتعليهم‌السلام في زمن محنة الشيعة أثناء الغيبة الصغرىٰ للإمام المهدي عجل الله تعالىٰ فرجه الشريف.

ومن أسمائها الأخرىٰ :

_____________

(١) دلائل الإمامة / الطبري الإمامي : ٤١٠ / ٣٦٩ / ٢ طبعة مؤسسة البعثة ـ قم.

(٢) الكافي ١ : ٥٠٣ باب مولد أبي محمّد الحسن بن عليعليهما‌السلام ، كتاب الحجّة ، دلائل
الإمامة : ٢٢٠ ، كشف الغمّة ٢ : ٤١٥ ، بحارالأنوار ٥٠ : ٢٣٦.

١٤٥

حديث ، وحديثة ، وعسفان ، وسليل ، وسمانة(١) ، ولها أسماء أخرىٰ(٢) . إلّا أن أشهر أسمائها : سوسن ، وحديث.

كنيتها : أُم الحسن ، وتعرف أيضاً بأُم أبي محمّد ، كما سيأتي في كراماتها.

لقبها : الجدّة ، ويقصد بهذا اللقب جَدَّة الإمام المهدي أرواحنا فداه ، كما سيأتي ذلك في كراماتها أيضاً.

زواجها من الإمام الهادي عليهما‌السلام :

في مدينة طيبة حيث أعزّ بيوت المجد والشرف ، ذلك بيت النبوّة ، شاءت الإرادة الإلهية أن يجتمع النور بالنور حيث يقدّر الله عزّوجلّ بأن يؤتىٰ بتلك السيدة الجليلة والمخدّرة المنيفة من المنائي البعيدة لتكون زوجة لهعليه‌السلام وأمّا لولده العسكريعليه‌السلام فيما بعد ، فهم أصلاب شامخة وأرحام مطهّرة.

ولادتها الإمام العسكري عليه‌السلام :

بعد أن تزوّج الإمام الهاديعليه‌السلام من السيدة سوسن ، عاشت تنعم في كنفه وهي تحظىٰ ببركات الإمامة ، ومضت الأيام والشهور وقد حملت بوليدها ، وفي ربوع المدينة المنورة حيث مهبط الوحي وموطن الملائكة الهداة ومدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ، وُلد الإمام العسكريعليه‌السلام في اليوم العاشر من شهر ربيع الثاني ، وقيل في الثامن منه ، وقيل الرابع في سنة ٢٣٢ للهجرة المباركة.

_____________

(١) الكافي ١ : ٥٠٣ من الباب المتقدّم ، التهذيب ٦ : ٩٢ ، فرق الشيعة : ١٠٥ ، إثبات
الوصية : ٢٤٦ ، إكمال الدين وإتمام النعمة ١ : ٣٠٧ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٣٥ / ٢.

(٢) وردت لها رضي الله عنها أسماء أخرىٰ ، وقد جرت العادة علىٰ تغيير إسم
الجواري عند شرائها ، راجع : دلائل الإمامة : ٢٢٠.

١٤٦

خروجها من سامراء إلىٰ المدينة المنورة وعودتها إلىٰ سامراء :

عندما اقتربت وفاة الإمام العسكريعليه‌السلام ، ولعلمه بما سيحدث علىٰ أهل بيته من ظلم واضطهاد ، فلذا طلب من أُمّه وأهله مغادرة (سُرَّ من رأىٰ) لأداء مراسم الحج ، والعيش بعيداً عن أنظار السلطة الجائرة ، ولكي يتفرّغ لترتيب وضع القواعد الشعبية بعد غيبة الإمام المنتظر عجل الله تعالىٰ فرجه الشريف.

روى المسعودي عن أحمد بن إسحاق قال : دخلت علىٰ الإمام العسكريعليه‌السلام فقال :« يا أحمد كيف حالكم فيما كان الناس من الشكّ
والارتياب ؟ »
.

قلت : يا سيدي ، لمّا ورد كتابكم يخبرنا بمولد سيدنا محمّد المهدي عجل الله تعالىٰ فرجه الشريف ، لم يبقَ منا رجلٌ ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلّا قال بالحقّ ، فقال الإمام :« أما علمتم أن الأرض لا تخلو من حجّة ! »

ثم طلب الإمام العسكريعليه‌السلام من والدته (السيدة سوسن) أن تحجّ البيت سنة تسع وخمسين ومائتين ، وعرّفها ما يناله في سنة ستين ، وأحضر ولده الإمام المهدي ، فأوصىٰ إليه وسلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الإمامة والسلاح ، ثم خرجت والدته (السيدة سوسن) مع حفيدها الإمام المهدي وأُمه (علىٰ رواية) جميعاً إلىٰ مكّة المكرّمة(١) .

وبعد شهادة الإمام العسكريعليه‌السلام عادت مرّة أُخرىٰ إلىٰ (سُرَّ من رأىٰ) فما
كان من بني العباس إلّا وقد فتّشوا منزل الإمام وعرّضوا عيال الإمام وأهل بيته
إلىٰ أشدّ المضايقات والتنكيل ، وظلّت السيدة (سوسن) صابرة محتسبة
_____________

(١) إثبات الوصية : ٢١٧.

١٤٧

مضطلعة بدورها القيادي والسياسي ، وقد أكّد ذلك الدور المشرق الرواية الواردة عن السيدة حكيمةعليها‌السلام بنت الإمام الجوادعليه‌السلام عندما سألها أحمد بن أبراهيم قائلاً : فإلىٰ من تفزع الشيعة ؟ قالت السيدة حكيمة : إلىٰ الجدّة أُم أبي محمّدعليه‌السلام (١) .

كراماتها :

وردت عدّة روايات تشير إلىٰ تألّق نجم هذه السيدة وعلوّ شأنها.

ومنها : لمّا أُدخلت السيدة أُم العسكري علىٰ الإمام الهادي قال في حقّها :« سليل ، مسلولة من الآفات والعاهات والأرجاس والأنجاس » . ثمّ بشّرها بولادة حفيدها الحجّة المنتظر عجل الله تعالىٰ فرجه الشريف قائلاً لها :« سيهب
الله حجّته علىٰ خلقه يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً »
(٢) .

وفي الخبر الوارد عن أحمد بن إبراهيم حينما سأل السيدة حكيمة خاتون بنت الإمام الجوادعليه‌السلام قال : قلت لها : أين الولد ؟ فقالت : مستور. قلت : إلىٰ من تفزع الشيعة ؟ قالت : إلىٰ الجَدَّة أُم أبي محمّد(٣) .

وجاء في رواية أحمد بن عبيدالله بن يحيىٰ بن خاقان ، وهو من رجال البلاط : أنّ أمّ العسكريعليه‌السلام ادّعت وصيته ، فقسم ميراثه بينها وبين أخيه جعفر ، وثبت ذلك عند القاضي(٤) .

_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة ٢ : ٥٠١ / ٢٧.

(٢) إثبات الوصية / المسعودي : ٢٠٧ ، تراجم أعلام النساء / الأعلمي ٢ : ٢١٤.

(٣) تواريخ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والآل / محمد تقي التستري : ٩٤.

(٤) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ١ : ٤٣ المقدّمة.

١٤٨

وأخبر الإمام العسكريعليه‌السلام والدته بوقت وفاته ، وقد أوصاها بوصايا عدّة ، وقد بقيت هذه المرأة حيّة بعد وفاتهعليه‌السلام تدير شؤون شيعة أهل البيتعليهم‌السلام ثمّ ماتت بعده ودفنت بجنب ولدها العسكريعليه‌السلام (١) .

عن محمّد بن صالح قال : لمّا ماتت الجدَّة ـ أم الحسن العسكري ـ أمرت أن تُدفن في الدار ؟ فنازعهم جعفر وقال : لي الدار لا تُدفن فيها ! فخرج الحجّة المنتظرعليه‌السلام فقال :« يا جعفر أدارك هي ؟ » (٢) ثمّ غاب عنه ولم يره بعد ذلك.

تلك إذن كرامات تدلُّ علىٰ عظمة تلك السيدة الجليلة بما تمتاز به من غاية الشرف ومنتهىٰ الفضل ، وهي إحدى الأبواب الواسطة بين الإمام الحجّة المنتظرعليه‌السلام وقواعده الشعبية.

وفاتها عليها‌السلام :

بعد عودتها من المدينة المنورة إلىٰ سامراء وحضورها شهادة ولدها الإمام العسكريعليه‌السلام ، ساءت صحّتها رضي الله عنها ، كما تظهر وصيتها بأن تُدفن بالدار ، أي دار زوجها وابنها العسكريينعليهما‌السلام !(٣)

وأما تحديد تاريخ وفاتها بالضبط فلا سبيل إليه ، ولكن من الثابت أنه كان
في أوائل الغيبة الصغرى لإمام العصر والزمان أرواحنا فداه ، أي بعد وفاة ولدها
الإمام العسكري عليه‌السلام بقليل ، كما يفهم من الرواية المتقدّمة بخصوص معارضة
جعفر في دفنها رضي الله عنها في دار الإمامين الهادي والعسكري عليهما‌السلام طمعاً منه
_____________

(١) إثبات الوصية : ٢١٧ بتصرّف.

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ٢ : ٤٤٢ / ١٥.

(٣) إكمال الدين وإتمام النعمة ٢ : ٤٤٢ / ١٥.

١٤٩

بها.

ومهما يكن فإن لأُم أبي محمّدعليه‌السلام دوراً عظيماً قبل وفاتها رضي الله عنها ، إذ كانت الواسطة بين حفيدها العظيم المنقذ وشيعته بعد وفاة زوجها الإمام العسكريعليه‌السلام .

فسلام عليكِ يا زوجة الهادي ، ويا أُم العسكري ، ويا جدّة من سيملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً ، وطبتم وطابت الأرض التي فيها دُفنتم ورزقنا الله شفاعتكم يوم الورود.

تاسعاً : أُم الإمام المهدي عليه‌السلام

اسمها : السيدة المعظّمة نرجسعليها‌السلام (١) بنت ملك الروم.

ومن أسمائها الأخرىٰ : صقيل ، ومليكة ، وريحانة ، وسوسن ، وحكيمة(٢) .

زواجها من الإمام العسكري عليه‌السلام :

إنّ كيفية وصول أُم الإمام المهديعليه‌السلام (السيدة نرجس) إلىٰ الإمام العسكريعليه‌السلام
كانت عن طريق ابتياعها من قبل بشر بن سليمان النخّاس ، الذي ينتهي نسبه
إلى الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري ، وبأمر من الإمام الهادي عليه‌السلام بعد أن
فقهه في أمر الرقيق ، فكان لا يبتاع ولا يبيع إلّا بإذنه عليه‌السلام ، وهكذا وصلت إلىٰ
بيت الإمام الهادي عليه‌السلام ، وأعطاها إلىٰ أُخته السيدة حكيمة بنت الإمام
_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة ١ : ٣٠٧.

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة ٢ : ٤١٧ / ١ ، و ٤٣٢ / ١٢ ، الغيبة / الطوسي : ٢١٠
/ ١٧٨ ، رياحين الشريعة : ٣ ، إحقاق الحقّ / القاضي نور الله التستري ١٣ : ٨٩.

١٥٠

الجوادعليه‌السلام ، قائلاً لها :« يا بنت رسول الله ، خذيها إلىٰ منزلك وعلّميها
الفرائض والسنن ، فإنّها زوجة أبي محمّد واُم القائم »
(١) .

وأما عن اقترانها بالإمام العسكريعليه‌السلام ، فقد ذكرت ذلك روايات عدّة ، ومنها ما اختاره الفيض الكاشاني من رواية ثقة الإسلام ، والشيخ الصدوق ، وشيخ الطائفة وغيرهم من المحدّثين وبأسانيد معتبرة عن السيدة حكيمة بنت الإمام الجوادعليه‌السلام أنها قالت : كانت لي جارية يقال لها نرجس ، فزارني ابن أخي ـ الإمام العسكري ـ فأقبل يحدّق النظر إليها. فقلت له : يا سيدي لعلّك هويتها ، فأرسلها إليك ؟ فقال :« لا يا عمّة ، لكني أتعجّب منها ، إنا معاشر الأوصياء
لسنا ننظر نظر ريبة ولكنا ننظر تعجّباً ! »
(٢) .

فقلت : وما أعجبك ؟ فقالعليه‌السلام :« سيخرج منها ولد كريم علىٰ الله عزّوجلّ
الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً »
.

فقلت : فأرسلها إليك يا سيدي ؟ فقالعليه‌السلام :« استأذني في ذلك أبي عليه‌السلام » قالت : فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسنعليه‌السلام فسلّمت وجلست ، فبدأنيعليه‌السلام وقال :« يا حكيمة ابعثي نرجس إلىٰ ابني أبي محمّد » قالت ، قلت : يا سيدي ، علىٰ هذا قصدتك علىٰ أن أستأذنك في ذلك ، فقال لي :« يا مباركة ، إنّ الله تعالىٰ
أحبّ أن يشركك في الأجر ، ويجعل لك في الخير نصيباً »
.

قالت حكيمة : فلم ألبث أن رجعت إلىٰ منزلي ، وزيّنتها ووهبتها لأبي محمّدعليه‌السلام ،
_____________

(١) كتاب الغيبة / الطوسي : ٢١٤ / ١٧٨.

(٢) دلائل الإمامة : ٤٩٩ / ٤٩٠ ، باب معرفة ولاده الإمام الحجّةعليه‌السلام في أية ليلة
وأي شهر وأين ولد ؟

١٥١

وجمعت بينه وبينها في منزلي ، فأقام عندي أياماً ثمّ مضىٰ إلىٰ والدهعليهما‌السلام ، ووجّهت بها معه(١) .

ولادتها الإمام المهدي المنتظر عليه‌السلام :

تزوّج الإمام العسكريعليه‌السلام بالسيدة نرجسعليها‌السلام ، ومضت بهما الأيّام وغمرتهما السعادة الإلهيّة ، وفي أثنائها رحلَ الإمام الهاديعليه‌السلام ، شهيداً مظلوماً إلىٰ بارئه ، فتبوّأَ الإمام العسكريعليه‌السلام منصب الإمامة.

ومضت الأيام والسيدة نرجس في كنف الإمام العسكريعليه‌السلام ، حيث البركات النازلة عليهما صباح مساء ، وما أن حملت بمولودها المبارك حتىٰ غمرتها هالة من النور والجمال ، ولذا سُمّيت صقيل ، وفي أحد الأيام بعث الإمام العسكريعليه‌السلام إلىٰ عمّته حكيمة بنت محمّد بن عليعليه‌السلام . فقال : يا عمّة ، اجعلي إفطارك الليلة عندنا ، فإنّها ليلة النصف من شعبان ، وإنّ الله تبارك وتعالىٰ سيظهر في هذه الليلة الحجّة ، وهو حجّته في أرضه.

قالت : فقلت : ومن أُمّه؟ قال لي :« نرجس » . قلت : جعلت فداك ما بها أثر ؟ فقال :« هو ما أقول لك » .

قالت : فجئت فلما سلّمت وجلست جاءت تنزع خفّي وقالت لي : يا سيدتي كيف أمسيت ؟ فقلت : بل أنت سيدتي وسيدة أهلي ! قالتْ : فأنكرتْ قولي وقالتْ ما هذا يا عمّة ؟ قالتْ : فقلتُ لها : يا بنية إنّ الله سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة ، قالت : فخجلتْ واستحيتْ !

_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ٢ : ٤٢٦ / ٢ ، نوادر الأخبار / الفيض
الكاشاني : ٢١٥.

١٥٢

فلمّا أن فرغت من صلاة العشاء الآخرة أفطرت وأخذت مضجعي فرقدت ، فلمّا أن كان في جوف الليل قمت إلىٰ الصلاة ففرغت من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادث ، ثمّ جلست معقّبة ، ثمّ اضطجعت ثمّ انتبهت فزعة وهي راقدة ، ثمّ قامت فصلّت ونامت.

قالت حكيمة : وخرجت أتفقّد الفجر ، فإذا أنا بالفجر الأوّل كذنب السرحان وهي نائمة ، فدخلني الشكوك ، فصاح بي أبو محمّدعليه‌السلام من المجلس ، فقال : لا تعجلي يا عمّة ، فهاك الأمر قد قرب. قالت : فجلست وقرأت ألم السجدة ويس ، فبينما أنا كذلك إذ انتبهتْ فزعة فوثبتُ إليها. فقلتُ : اسمُ الله عليك ، ثمّ قلتُ لها : أتحسّين شيئاً ؟ قالت : نعم يا عمّة. فقلت لها : اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلتُ لك.

قالت : فأخذتْني فترة وأخذتْها فترة ، فانتبهتُ بحسّ سيدي ، فكشفتُ الثوب عنه ، فإذا بهعليه‌السلام ساجداً يتلقّى الأرض بمساجده ، فضممتُه إليّ ، فإذا أنا به نظيف متنظّف ، فصاح بي أبو محمّدعليه‌السلام :« هلمّي إليّ ابني يا عمّة » .

فجئت به إليه ، فوضع يديه تحت إليتيه وظهره ، ووضع قدميه علىٰ صدره ، ثمّ أدلىٰ لسانه في فيه ، ومرَّ يده علىٰ عينيه ومفاصله ثمّ قالعليه‌السلام :« تكلّم
يا بني »
، فقال :« أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّداً
رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله » . ثمّ صلّىٰ علىٰ أمير المؤمين وعلىٰ الأئمةعليهم‌السلام إلىٰ أن وقف علىٰ أبيه ثمّ أحجم.

ثمّ قال أبو محمّد العسكريعليه‌السلام :« يا عمّة اذهبي به إلىٰ أُمّه ، ليسلّم عليها ،
وائتني به »
. فذهبت به فسلّم عليها ورددته ، فوضعته في المجلس ، ثمّ قال :« يا عمّة إذا كان يوم السابع فأتينا » .

١٥٣

قالت حكيمة : فلما أصبحت جئت لأسلم علىٰ أبي محمّدعليه‌السلام وكشفت الستر لأتفقّد سيديعليه‌السلام فلم أره ، فقلت : جعلت فداك ، ما فعل سيدي ؟ فقال :« يا عمّة استودعناه الذي استودعته أُم موسى عليه‌السلام » .

قالت حكيمة : فلما كان في اليوم السابع ، جئت فسلّمت وجلست فقال :« هلمّي إلي ابني » فجئت سيديعليه‌السلام وهو في الخرقة ، ففعل به كفعلته الاُولىٰ ، ثمّ أدخل لسانه في فيه كأنه يغذيه لبناً أو عسلاً ، ثمّ قال :« تكلّم يا بني » ، فقال :« أشهد أن لا إله إلّا الله » وثنىٰ بالصلاة علىٰ محمّد وعلىٰ أمير المؤمنين وعلىٰ الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين حتىٰ وقف علىٰ أبيهعليه‌السلام ثمّ تلا هذه الآية :بِسْمِ الله الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ
* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ
فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ
) (١) (٢) .

أمّا وقت ولادته فالمشهور أنها كانت في ليلة الجمعة الخامس عشر من شعبان المعظم من سنة ٢٥٥ للهجرة المباركة(٣) ، وأمّا محل ولادته فمدينة سامراء المقدسة.

وقد استبشر الإمام العسكريعليه‌السلام بمولوده المبارك ، حيث روى الشيخ
الصدوق بالإسناد عن أبي جعفر العمري ، قال : لما ولد السيد عليه‌السلام قال أبو
محمّد عليه‌السلام :« ابعثوا إلىٰ أبي عمرو » ـ يعني عثمان بن سعيد ـ فبعث إليه ، فصار
_____________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٥ ـ ٦.

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ٢ : ٤٢٣ / ١.

(٣) المصدر السابق : ٤٣٠.

١٥٤

إليه ، فقال له :« اشتر عشرة آلاف رطل خبز وعشرة آلاف رطل لحم وفرّقه » ـ أحسبه قال : علىٰ بني هاشم ـ ،« وعقّ عنه بكذا وكذا شاة » (١) .

كراماتها عليها‌السلام :

لأُم الإمام المهديعليه‌السلام كرامات كثيرة وفضائل شتّىٰ ، حيث كانت من أفضل النساء في عقلها ودينها ، وكانت من الورعات التقيّات والصالحات العابدات القانتات ، وكانت في غاية العلم والفقاهة والتبحّر في أحكام الدين ، وللإحاطة في عظمة وكنه هذه المخدّرة الجليلة ينبغي الرجوع إلىٰ بعض الفقرات الواردة في زيارتها حتّىٰ تتجلّىٰ مواصفاتها الرائعة والعالية ، وكيف استودعها ربّ العزّة والجلال لتكون مأوىً للإمام المهديعليه‌السلام :

« السلام علىٰ والدة الإمام ، والمودعة أسرار الملك العلّام ، والحاملة
لأشرف الأنام ، السلام عليكِ أيتها الصدّيقة المرضيّة ، السلام عليكِ يا شبيهة
أُم موسىٰ ، وابنة حواريّ عيسىٰ ، السلام عليكِ أيتها المنعوتة في الإنجيل ،
المخطوبة من روح الله الأمين ، ومن رغب في وصلتها محمّد
صلى‌الله‌عليه‌وآله سيد
المرسلين ، والمستودعة أسرار ربّ العالمين ، السلام عليكِ وعلىٰ آبائكِ
الحواريين ، السلام عليكِ وعلى بعلك وولدكِ ، السلام عليكِ وعلىٰ روحكِ
وبدنكِ الطاهر »
(٢) .

على أن في زيارتها تلك مقاطع رائعة تكشف عن عظمة هذه المرأة وسمّوها ،
_____________

(١) إكمال الدين وإكمال النعمة ٢ : ٤٣١ / ٦ ، بحار الأنوار ٥١ : ٥ / ٩.

(٢) مفاتيح الجنان / عباس القمي : ٥١٨ ، زيارة أُم القائمعليه‌السلام الواردة عن السيد ابن
طاووس رحمه‌الله .

١٥٥

وها نحن نذكر بعضاً من تلك المقاطع :

« أشهد أنك أحسنت الكفالة ، وأدّيت الأمانة ، واجتهدت في مرضاة الله ،
وصبرت في مرضاة الله ، وحفظت سرّ الله ، وحملت ولي الله ، وبالغت في
حفظ حجّة الله ، ورغبت في وصلة أبناء رسول الله ؛ عارفة بحقّهم مؤمنة
بصدقهم ، معترفة بمنزلتهم ، مستبصرةً بأمرهم ، مشفقة عليهم ، مؤثرة هواهم ،
وأشهد أنكِ مضيت علىٰ بصيرة من أمركِ ، مقتدية بالصالحين ، راضية
مرضية ، نقية زكية ، فرضي الله عنك وأرضاكِ ، وجعل الجنّة منزلكِ ومأواكِ ،
فلقد أولاك من الخيرات ما أولاك ، وأعطاك من الشرف ما به أغناك ، فهنّاك
الله بما منحك من الكرامة وأمراك »
(١) .

لقد أحاطتها رعاية الله عزّوجلّ من قبل وصولها إلىٰ أهل البيتعليهم‌السلام ، ورافقتها العناية الإلهية بحملها الإمام المهديعليه‌السلام في روايات كثيرة لا حاجة إلىٰ تتبّعها ، ولو لم يكن من فضلها إلّا أنها أُم خاتم الأئمّةعليهم‌السلام ومهدي هذه الأُمة لكفىٰ.

لقد شاءت الإرادة الإلهية لهذه السيدة الجليلة أن تكون أُمّاً لخاتم الأوصياء (عجّل الله تعالىٰ فرجه الشريف) وفقاً لعدّة مقوّمات ، تستفاد من الروايات الواردة في طريقة وصولها إلىٰ بيت الإمامعليه‌السلام منها :

أوّلاً : تمكّنها من اللغة العربية بطلاقة (كما هو معلوم من الخبر).

ثانياً : امتناعها من السفور وتحاشي يد اللامس !

ثالثاً : رفضها أي مشترٍ يتقدّم لشرائها ، وإصرارها علىٰ بائعها في تعيين مشتريها وأن يتمّ بموافقتها ، معلّلةً ذلك بأنها تريد الذي يسكن إليه قلبها.

_____________

(١) مفاتيح الجنان / عباس القمي : ٥١٨ ، زيارة أُم القائمعليه‌السلام .

١٥٦

رابعاً : إنهاعليها‌السلام رغبت رغبة شديدة بالإمام العسكريعليه‌السلام ، وبكت بكاءً شديداً عليه ، بل وهدّدت بالانتحار إذا لم يبعها منه !

وفاتها :

إن الصحيح الثابت أنها توفّيت في زمان الغيبة الصغرىٰ لإمام العصر والزمانعليه‌السلام بعد وفاة زوجها الإمام العسكريعليه‌السلام بقليل.

ويدلُّ عليه أنها كانت مع أُم الإمام العسكريعليه‌السلام في المدينة المنورة وعادتا إلىٰ سامراء في الوقت الذي استُشهد فيه الإمام العسكريعليه‌السلام ، وحضرتا جنازته الشريفة ، مع عقيد الخادم(١) .

هذا زيادة على الروايات الكثيرة المصرّحة بالموقف الخسيس الذي وقفه المعتمد العباسي بعد شهادة الإمام العسكريعليه‌السلام ، حيث قبضوا علىٰ السيدة أُم الإمام المهديعليه‌السلام مُطالبيها تسليم ولدها (المهدي) ، فأنكرته وادّعت أنها حامل لتغطّي (حال ولدها الإمامعليه‌السلام ) وظلّت حبيسة السجن (وهم ملازمون لها) مدّة سنتين أو أكثر حتىٰ تبيّن لهم بطلان حملها ، فقُسّم ميراث الإمام العسكري بعد ثبوته عند قاضي قضاة بني العباس بين أُمه وأخيه جعفر ، وادّعت أمّه وصيّته(٢) .

وظلّت السيدة علىٰ تلك الحال المزرية حتىٰ فوجئ بنو العباس بموت عبيدالله بن يحيىٰ بن خاقان ، وخروج صاحب الزنج في البصرة علىٰ حكمهم ، فشُغلوا عن السيدة ، فخرجت من أيديهم(٣) .

_____________

(١) بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣١ / ٣.

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة ١ : ٤٣ ، بتصرّف.

(٣) إكمال الدين وإتمام النعمة ٢ : ٤٧٦ / ٢٥ ، بتصرف.

١٥٧

وأما ما ورد مخالفاً لذلك من أنها تُوفّيت في حياة الإمام العسكري ، وبعد ما ولدت الإمام المهديعليه‌السلام بقليل ، فهو خبر ضعيف منقول عن جارية أبي علي الخيزراني(١) ، ولا يعوّل عليه.

وأما تحديد تاريخ وفاتها بالضبط ، فلا يمكن الوصول إليه ، ويمكن تقديره بما بعد سنة ٢٦٠ ه ، أي في أوج اضطهاد العباسيين لأسرة الإمام العسكريعليه‌السلام ، وأما مكان دفنهاعليها‌السلام ، ففي سامراء إلىٰ جنب زوجها الإمام العسكريعليه‌السلام .

فسلام عليكِ يوم وُلدتِ ويوم اقترنت بالإمام العظيم أبي محمّد الزكيّ الطاهر ، ويوم أنجبتِ المهدي الموعود المنتظر ، ويوم عُذّبت في سبيل الله ، ويوم رحلتِ إلىٰ جوار الله راضية مرضية ورحمة الله تعالىٰ وبركاته.

_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة ٢ : ٤٣١ / ٧.

١٥٨

المحتويات

مقدمة المركز ٥

مقدمة المؤلّف ٧

* توطئة في بيان دور المرأة وجهادها في الإسلام ١١

القسم الأول :

أُمهات أصحاب الكساء عليهم‌السلام ١٨

ـ أولاً : أُم خاتم الأنبياء والمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ١٨

اسمها ١٨

ولادتها ١٨

أسرتها ١٨

أبوها ١٩

جدّها لأبيها ٢٠

جدّتها لأبيها ٢٠

أُمّها ٢٠

جدّتها لأمّها ٢٠

والدة جدّتها لأمّها ٢٠

كراماتها ٢٠

خطوبتها عليها‌السلام ٢٢

عشية زواجها من عبدالله عليهما‌السلام ٢٥

شمائلها وصفاتها عليها‌السلام ٢٦

١٥٩

حملها بسيد الكائنات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ٢٧

وفاة زوجها عليه‌السلام ٢٩

ولادتها سيد الكائنات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ٣٠

تاريخ الولادة الميمونة ٣١

كيفية الولادة المباركة وما رافقها من أحداث ٣١

آمنة تبشّر عبد المطلب بحفيده الجديد ٣٢

بعدما جفّ لبن اليتيم حزناً علىٰ عبدالله ٣٣

رحلتها إلىٰ يثرب ووفاتها عليها‌السلام ٣٤

ـ ثانياً : اُم سيد الأوصياء أمير المؤمنين عليه‌السلام ٣٨

اسمها ٣٨

أبوها ٣٨

أُمّها ٣٨

كراماتها ٣٨

زواجها من أبي طالب عليهما‌السلام ٤١

أولادها ٤٣

ولادتها أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ٤٣

وفاتها وما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في تجهيزها ودفنها عليها‌السلام ٤٥

ـ ثالثاً : أُم سيدة نساء العالمين عليهما‌السلام ٤٨

اسمها ٤٨

أبوها ٤٨

جدّها ٤٨

أُمّها ٤٩

جدّتها ٤٩

١٦٠

161

162

163

164

165