فلسفتنا

فلسفتنا13%

فلسفتنا مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: كتب
الصفحات: 438

  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36892 / تحميل: 12496
الحجم الحجم الحجم
فلسفتنا

فلسفتنا

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

ويقول الحق : قد أزلت المطل واللّي ، وفصل هذا الأمر إليّ ، وانتصار(١) المظلوم من ظالمه عليّ ، لا تختصموا لديّ وقد قدمت لديكم بالوعيد ، أما أنذرتكم فيما مضى من الأيّام ؟ أما حذّرتكم بعواقب المعاصي والآثام ؟! أما وعدتكم بهذا اليوم من سائر الأيام ؟!( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ ) .

فالعياذ بالله من هذا الأمر المهول الذي يحار فيه الغافل الجهول ، وتذهل منه ذوي الألباب والعقول ، قد أعد للكافر اللعين ابن ملجم وللكافر يزيد ،( يوم نقول لجهنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ) .

فيا حسرة على العاصين حسرة لا يملك(٢) تلافيها ، ويا نصرة للمخلصين قد تكامل صافيها ، ادخلوا الجنّة( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ) ، انظروا عباد الله فرق ما بين الفريقين بحضور القلب ، واغتنموا الصحّة قبل أن ينخلع القلب ، فاللذات تفنى ويبقى العار والثلب ،( إنّ في ذلك لذكرى لمَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما أصاب أحد همٌّ أو غمٌّ فقال : ( اللّهمّ إنّي عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، نفسي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضائك ، أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك ، أو أنزلته في كتبك ، أو علّمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تصلّي على محمد وآل محمد ، وأن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور بصري ، وشفاء صدري ، وذهاب غمّي ، وجلاء حزني يا أرحم الراحمين ) إلاّ أذهب الله همّه وغمّه ، ونفّس كربه وقضى حوائجه .

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو فيقول :( اللّهمّ اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما يبلغنا به جنّتك ، ومن اليقين ما يهوّن علينا

____________

(١) في ( ب ) : انتصاف .

(٢) في ( ب ) : يمكن .

١٦١

مصائب الدنيا ، ومتّعنا بأسماعنا ، وانصرنا على مَن عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ، ولا تسلّط علينا مَن لا يرحمنا ، اللّهمّ لك الحمد وإليك المشتكى ، وأنت المستعان وفيما عندك الرغبة ولديك غاية الطلبة .

اللّهمّ آمن روعتي ، واستر عورتي ، اللّهمّ أصلح ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح آخرتنا التي إليها منقلبنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، والوفاة راحة لنا من كل سوء .

اللّهمّ إنّا نسألك موجبات رحمتك ، وعزائم مغفرتك ، والغنيمة من كل برٍّ ، والسلامة من كل إثم ، يا موضع كل شكوى ، وشاهد كل نجوى ، وكاشف كل بلوى ، [فإنّك](١) تَرى ولا تُرى ، وأنت بالمنظر الأعلى ، أسألك الجنّة وما يقرّب إليها من قول أو فعل ، وأعوذ بك من النار وما يقرّب إليها من فعل أو قول .

اللّهمّ إنّي أسألك خير الخير رضوانك والجنّة ، وأعوذ بك من شر الشر سخطك والنار ، اللّهمّ إنّي أسألك خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، إنّك أنت علاّم الغيوب ) .

وروي عن ذي النون المصري أنّه قال : وجدت على صخرة في بيت المقدس مكتوب : ( كل خائف هارب ، وكل راج طالب ، وكل عاص مستوحش ، وكل طائع مستأنس ، وكل قانع عزيز ، وكل طالب ذليل ) ، فنظرت فإذا هذا الكلام أصل لكل شيء ، وكان يقول : يقدّر المقدّرون والقضاء يضحك منهم .

____________

(١) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

١٦٢

الباب الثاني والعشرون : في الذكر والمحافظة عليه

قال الله تعالى :( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ) (١) .

وقال سبحانه في بعض كتبه :أهل ذكري في ضيافتي ، وأهل طاعتي في نعمتي ، وأهل شكري في زيادتي ، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن مرضوا فأنا طبيبهم ، أداويهم بالمحن والمصائب لأطهّرهم من الذنوب والمعايب (٢) .

وقال علي بن الحسينعليهما‌السلام :إنّ بين الليل والنهار روضة يرتقي (٣) في نورها الأبرار ، ويتنعّم في حدائقها المتقون ، فذابوا سهراً من الليل وصياماً من النهار ، فعليكم بتلاوة القرآن في صدره ، والتضرّع والاستغفار في آخره وإذا ورد النهار فأحسنوا مصاحبته بفعل الخيرات وترك المنكرات ، وترك ما يرديكم (٤) من

____________

(١) البقرة : ١٥٢ .

(٢) راجع عدة الداعي : ٢٥٢ ، عنه البحار ٧٧ : ٤٢ ح١٠ ، وأورده في أعلام الدين : ٢٧٩ .

(٣) في ( ج ) : يرتع .

(٤) في ( الف ) : يؤذيكم .

١٦٣

محقّرات الذنوب ، فإنّها مشرفة بكم إلى قبائح العيوب ، وكأنّ الموت قد دهمكم ، والساعة قد غشيتكم ، فإنّ الحادي قد حدا بكم مجدّاً لا يلوي دون غايتكم ، فاحذروا ندامة التفريط حيث لا تنفع الندامة إذا زلّت الأقدام .

وقالعليه‌السلام :[قال الله سبحانه :] (١) إذا عصاني مَن يعرفني سلّطت عليه مَن لا يعرفني (٢) .

وقالعليه‌السلام :المؤمن نطقه ذكر ، وصمته فكر ، ونظره اعتبار .

وقالعليه‌السلام :إنّ عدوّي يأتيني في الحاجة فأُبادر إلى قضائها خوفاً أن يسبقني أحد إليها وأن يستغني عنّي فتفوتني فضيلتها .

وسُئل عن الزاهد فقال :هو المبتلغ (٣) بدون قوته ، المستعد ليوم موته .

وقال :الدنيا سبات ، والآخرة يقظة ، ونحن بينهما أضغاث أحلام .

وقال :أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب ، ومن طاعة الشيطان إذا حرد (٤) .

وخطب عمر بن عبد العزيز فقال : أيّها الناس إنّكم لم تخلقوا عبثاً ، ولم تتركوا سدى ، وأنّ لكم معاداً يجمعكم الله فيه ليوم الفصل والحكم بينكم ، وقد خاب وخسر مَن أخرجه الله من رحمته التي وسعت كل شيء وجنّته التي عرضها السماوات والأرض بسوء عمله ، وإنّ الأمان غداً لمَن باع قليلاً بكثير ، وفانياً بباق ، وشقاوة بسعادة .

ألا ترون أنّكم أخلاف الماضين ويستخلفكم الله قوماً آخرون ، يأخذون تراثكم ، ويبوّء بكم أجداثكم ، وفي كل يوم تجهزون غادياً ورائحاً قد قضى نحبه

____________

(١) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٢) الكافي ٢ : ٢٧٦ ح٣٠ ، عنه البحار ٧٣ : ٣٤٣ ح٢٧ .

(٣) في ( ج ) : المتبلّغ .

(٤) حرد : غضب (القاموس) .

١٦٤

ولقى ربه ، فتجعلونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد ، قد خلع الأسلاب(١) ، وسكن التراب ، وفارق الأحباب ، وواجه الحساب ، أصبح فقيراً إلى ما قدم ، غنيّاً عمّا خلّف ، ولا يزيد من حسنة ولا ينقص من سيّئة .

واعلموا أنّ لكل سفر زاداً لابد منه ، فتزوّدوا لسفركم التقوى ، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه لترغبوا وترهبوا ، ولا يغرّنّكم الأمل ، ولا يطولنّ عليكم الأمد ، فإنّه والله ما بسط أمل مَن لا يدري إذا أصبح أنّه يمسي ، وإذا أمسى أنّه يصبح ، وبين ذلك خطفات المنايا ، وخطرات الأمل من الشيطان الغرور .

يزيّن لكم المعصية لتركبوها ، ويمنّيكم التوبة لتسوّفوها(٢) حتّى تأتي المنيّة أغفل ما يكون عنها ، فلا تركنوا إلى غروره فيصيدكم بشركه ، واعلموا إنّما يغتبط ويطمئنّ مَن وثق بالنجاة من عذاب الله وأهوال يوم القيامة ، فأمّا مَن لا يدري ربّه ساخط عليه أم راض عنه كيف يطمئن ، أعوذ بالله من أن آمركم أو أنهاكم بما أخالفكم فيه فتخسر صفقتي ، وتعظم عولتي(٣) يوم لا ينجي منه إلاّ الحق والصدق ، ولا يفوز إلاّ مَن أتى الله بقلب سليم .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أيّها الناس استقيموا إلى ربّكم كما قال تعالى : ( فاستقيموا إليه واستغفروه ) (٤) وقال سبحانه :( إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا ) (٥) .

أيّها الناس لا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم ، واعلموا أنّ من لم يكن مستقيماً في صفته لم يرتق من مقام إلى

____________

(١) في ( ج ) : الأسباب .

(٢) في ( ج ) : لتنسوها .

(٣) في ( ب ) و )ج ) : لوعتي .

(٤) فصلت : ٦ .

(٥) فصلت : ٣٠ .

١٦٥

غيره ، ولم يتبيّن سلوكه على صحّة ، ولا تخرجوا عن عز التقوى إلى ذل المعصية ، ولا من أُنس الطاعة إلى وحشة الخطيئة ، ولا تسرّوا لإخوانكم غشاً فانّه مَن أسرّ لأخيه غشاً أظهره الله تعالى على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه ، فأورثه به الذلّ في الدنيا والخزي والعذاب والندامة في الآخرة فأصبح من الخاسرين أعمالاً .

وقال الصادقعليه‌السلام : ثلاثة لا يضرّ معهم شيء :الدعاء عند الكربات ، والاستغفار عند الذنب ، والشكر عند النعمة (١) .

وقالعليه‌السلام : في حكمة آل داود :يا ابن آدم كيف تتكلّم بالهدى وأنت لا تفيق عن الردى ، يا ابن آدم أصبح قلبك قاسياً ، ولعظمة الله ناسياً ، ولو كنت بالله عالماً وبعظمته عارفاً لم تزل منه خائفاً ، ولموعده راجياً ، فيا ويحك كيف لا تذكر لحدك ، وانفرادك فيه وحدك (٢) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل العبد السيّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : لا تعجل وانظره سبع ساعات [لعلّه يستغفر] ، فإذا مضى سبع ساعات ولم يستغفر قال : اكتب فما أقلّ حياء هذا العبد (٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام :إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى على سعد بن معاذ وقال : لقد وافى من الملائكة للصلاة عليه تسعون ألف ملك وفيهم جبرئيل يصلّون عليه ، فقلت : يا جبرئيل بما استحق صلاتكم عليه ؟ قال : بقراءته ( قل هو الله أحد ) قائماً وقاعداً وراكباً وماشياً وذاهباً وجائيا ً(٤) .

____________

(١) مشكاة الأنوار : ٣٠ ، عنه البحار ٧١ : ٥٥ ح٨٦ .

(٢) أمالي الطوسي : ٢٠٣ ح٣٤٦ ، عنه البحار ١٤ : ٣٦ ح١٠ .

(٣) أمالي الطوسي : ٢٠٧ ح٣٥٥ ، عنه البحار ٧١ : ٢٤٧ ح٥ .

(٤) أمالي الطوسي : ٤٣٧ ح٩٧٥ ، عنه البحار ٢٢ : ١٠٨ ح٧٢ ، وأمالي الصدوق : ٣٢٣ ح٥ مجلس : ٦٢ ، وفي مجموعة ورام ٢ : ١٦٩ .

١٦٦

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لمّا أُسري بي إلى السماء دخلت الجنّة ، فرأيت فيها قصراً من ياقوت أحمر ، يرى باطنه من ظاهره لضيائه ونوره وفيه قبّتان من درٍّ وزبرجد ، فقلت : يا جبرئيل لمَن هذا القصر ؟ قال : هو لمَن أطاب الكلام ، وأدام الصيام ، وأطعم الطعام ، وتهجّد بالليل والناس نيام .

قال عليعليه‌السلام : وفي أمّتك مَن يطيق ذلك يا رسول الله ؟ قال : أتدري ما إطابة الكلام ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : مَن قال : ( سبحان الله والحمد لله ولا اله إلاّ الله والله أكبر ) ، أتدري ما إدامة الصيام ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : مَن صام شهر الصبر شهر رمضان ولم يفطر يوماً .

أتدري ما إطعام الطعام ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : مَن طلب لعياله ما يكف به وجوههم عن الناس ، أتدري ما التهجّد بالليل والناس نيام ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : مَن لم ينم حتّى يصلّي العشاء الآخرة ، والناس من اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين نيام بينهما(١) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لمّا أُسري بي إلى السماء دخلت الجنّة ، فرأيت فيها قيعاناً بقعاً (٢) من مسك ، ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب ولبنة من فضّة وربما أمسكوا ، فقلت لهم : ما بالكم ربّما بنيتم وربّما أمسكتم ؟ فقالوا : حتّى تجيئنا النفقة ، قلت : وما نفقتكم ؟ قالوا : قول المؤمن ( سبحان الله والحمد لله ولا اله إلاّ الله والله أكبر ) فإذا قالهنّ بنينا ، وإذا سكت وأمسك أمسكنا (٣) .

____________

(١) أمالي الطوسي : ٤٥٨ ح١٠٢٤ ، عنه البحار ٦٩ : ٣٨٨ ح٥٨ ، معالم الزلفى : ٢٨١ .

(٢) في أمالي الطوسي : يققاً ، أي بيضاً .

(٣) أمالي الطوسي : ٤٧٤ ح١٠٣٥ ، عنه البحار ٩٣ : ١٦٩ ح٧ ، معالم الزلفى : ٢٨١ .

١٦٧

الباب الثالث والعشرون : في فضل صلاة الليل

قال الله تعالى :( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون ) (١) .

وقال :( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً وممّا رزقناهم ينفقون ) (٢) .

وقال سبحانه :( أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه ) (٣) .

وقال :( والذين يبيتون لربّهم سجّداً وقياماً ) (٤) .

وقال :( ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربّك مقاماً

____________

(١) الذاريات : ١٧ و١٨ .

(٢) السجدة : ١٦ .

(٣) الزمر : ٩ .

(٤) الفرقان : ٦٤ .

١٦٨

محموداً ) (١) .

وقال سبحانه :( يا أيّها المزمّل * قم الليل إلاّ قليلاً * نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلاً ) (٢) .

وما كان الله ليدعو نبيّه إلاّ لأمر جليل وفضل جزيل ، فقد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :شرف المؤمن صلاته بالليل ، وعزّه استغناؤه عن الناس (٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا جمع الله الأولين والآخرين نادى مناد : ليقم الذين كانوا تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً ، فيقومون وهم قليل ، فيحاسب الله الناس من بعدهم .

[(٤) وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إنّ في جنّة عدن شجرة تخرج منها خيل بلق مسرّجة بالياقوت والزبرجد ، ذوات أجنحة لا تروث ولا تبول ، يركبها أولياء الله ، فتطير بهم في الجنّة حيث شاؤوا .

قال : فيناديهم أهل الجنّة : يا إخواننا ما أنصفتمونا ، ثم يقولون : ربّنا بماذا أنال عبادك منك هذه الكرامة الجليلة دوننا ؟ فيناديهم ملك من بطان العرش : إنّهم كانوا يقومون الليل وكنتم تنامون ، وكانوا يصومون وكنتم تأكلون ، وكانوا يتصدّقون بمالهم لوجه الله تعالى وأنتم تبخلون(٥) ، وكانوا يذكّرون الله كثيراً لا يفترون ، وكانوا يبكون من خشية ربّهم وهم مشفقون(٦) .

____________

(١) الإسراء : ٧٩ .

(٢) المزمل : ١ـ٤ .

(٣) الكافي ٢ : ١٤٨ ح١ ، عنه البحار ٧٥ : ١٠٩ ح١٤ .

(٤) من هنا إلى ص ١٨١ لم يكن في ( ألف ) و ( ب ) ، وأثبتناه من ( ج ) و ( د ) .

(٥) في ( د ) : تمسكون .

(٦) أمالي الصدوق : ٢٣٩ ح١٤ مجلس ٤٨ ، عنه البحار ٨٧ : ١٣٩ ح٧ .

١٦٩

وكان ممّا ناجى به الباري تعالى داود عليه‌السلام : يا داود عليك بالاستغفار في دلج الليل والأسحار ، يا داود إذا جنّ عليك الليل فانظر إلى ارتفاع النجوم في السماء وسبّحني ، وأكثر من ذكري حتّى أذكرك .

يا داود إنّ المتقين لا ينامون ليلهم إلاّ بصلاتهم إليّ ، ولا يقطعون نهارهم إلاّ بذكري ، يا داود إنّ العارفين بي كحلوا أعينهم بمرود السهر ، وقاموا ليلهم يسهرون ، يطلبون بذلك مرضاتي(١) ، يا داود إنّه مَن يصلّي بالليل والناس نيام يريد بذلك وجهي ، فإنّي آمر ملائكتي أن يستغفروا له وتشتاق إليه جنّتي ، ويدعو له كل رطب ويابس .

يا داود اسمع ما أقول والحق أقول : إنّي أرحم بعبدي المذنب من نفسه لنفسه ، وأنا أحب عبدي ما لا يحبني ، واستحي منه ما لا يستحي منّي .

وصيّة : واعلم يا أخي أنّ الليل والنهار لا يفتران من سيرهما ، وإنّما يسيران بنقص عمر ابن آدم وهما ساعات ولحظات ، فإذا لهوت مع سرعة سيرهما لحظة ، واشتغلت عن الصلاة والذكر لحظة أُخرى ، ذهبت ساعات النهار كلها في غفلة ، ثم جاء الليل فإن نمته كلّه كنت ممّن لا خير فيه ليلاً ولا نهاراً ، ومَن كان هذا حاله فموته خير له من حياته ؛ لأنّه قد مات قلبه ولا خير في حياة جسد(٢) قد مات قلبه .

ولله درّ القائل :

أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم

وكيف يلذّ النوم حيران هائم

فلو كنت يقظان الغداة لحرقك (٣)

مدامع عينيك الدموع السواجم

نهارك يا مغرور لهو وغفلة

وليلك نوم والردى لك لازم

____________

(١) في ( د ) : قاموا بأرجلهم يطلبون . .

(٢) في ( د ) : حيّ .

(٣) في ( د ) : لحرقت .

١٧٠

وسعيك ممّا سوف تكره عنده

وعيشك في الدنيا كعيش البهائم

تسر بما يفنى وتفرح بالمنى

كما سرّ باللذات في النوم حالم

فلا أنت في اليقظان يقظان ذاكر

ولا أنت في النوم ناجٍ وسالم

ثم قال : يا جيفة بالليل بطالة بالنهار ، تعمل عمل الفجّار وأنت تطلب منازل الأبرار ، هيهات هيهات كم تضرب في حديد بارد .

وقد ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ليس (١) من بني آدم إلاّ وفي غفلة ونقص ، ألا ترى إذا نمى له مال بالزيادة فيسر بذلك ، وهذا الليل والنهار يجريان بطيّ عمره فلا يهمّه ذلك ولا يحزنه ، وما يغني عنه مال يزيد وعمر ينقص ، [ودين يذهب] (٢) .

وقد قيل لرجل : إنّ فلاناً استفاد مالاً ، فقال له : فهل استفاد أيّاماً يتفقّه(٣) فيها ؟ .

وقيل : إنّ لله ملكاً ينادي : يا أبناء الخمسين زرع قد دنا حصاده ، ويا أبناء الستين ماذا قدمتم لأنفسكم من العمل الصالح ، وماذا أخّرتم من أموالكم لمَن لا يترحّم عليكم ، ويا أبناء السبعين عدوا أنفسكم من الموتى .

ليت الخلائق لم يخلقوا ، وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا ، فاعرف يا أخي ذلك وبادر لعمل الخير ، ثم بادر قبل أن ينزل بك ما تحاذر ، ولا يلهيك أحد من الناس عن صلاتك ودعائك وذكرك ربّك ، فيرفعان الملكان رقيب وعتيد دون ما كان يرفعان من عملك من قبل ، والله لا يرضى منك بذلك بل يريد من عبده أن يزيد كل يوم في طاعته أكثر ممّا كانت .

____________

(١) في ( ج ) : قليل .

(٢) أثبتناه من ( د ) .

(٣) في ( د ) : ينفعه .

١٧١

وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :مَن استوى يوماه فهو مغبون ، ومَن كان غده شراً فهو ملعون ، ومَن لم يتفقّد النقصان في عمله (١) كان النقصان في عقله ، ومَن كان نقصان في عمله (٢) وعقله فالموت خير له من حياته (٣) .

واعلم يا أخي أنّ العقلاء العارفين بالله المجتهدين في تحصيل رضى الله ، تراهم عامة ليلهم بذكر ربهم يتلذّذون ، وفي عبادته يتقلّبون ما بين صلاة نافلة ، وقرآءة سورة ، وتسبيح واستغفار ، ودعاء وتضرّع ، وابتهال وبكاء من خشيته ، لا ينامون من ليلهم إلاّ ما غلبوا عليه وما أراحوا به أبدانهم ، فهم الرجال الأخيار ، ووصفك وصف اغترار(٤) ، جيفة بالليل بطّال بالنهار ، تعتذر في ترك القيام بالليل بأعذار كاذبة .

تقول : أنا ضعيف القوى ، أنا تاعب بكدر الدنيا ، بي مرض وصداع ، وتجمع بالبرد في الشتاء والحر في الصيف وهذه أعذار كاذبة ، ولو أنّ سلطاناً أعطاك ديناراً أو كسوة وأمرك أن تقف ببابه تحرسه بالليل لبادرت إلى ذلك ، لا بل لو قال لك : خذ سلاحك واخرج قدّامي تحارب عدوي ، لبذلت روحك العزيزة دونه وإن قتلت .

وكم من إنسان يأخذ درهماً أجرة له على حراسة زرع غيره ، أو ثمرة غيره ، ويسهر الليل كله في برد شديد وحرّ عظيم ، ولو أنّك أردت سفراً أو عملاً من أعمال الدنيا لسهرت عامة الليل في تعبية أشغالك(٥) ، وتحفظ تجارتك ، ولم تعتذر بتلك الأعذار عن خدمة ربّك .

وهذا يدل على كذبك ، وضعف يقينك بما وعد الله العاملين(٦) بالثواب والجنّة على الطاعة ، فإنّك قد أطعت في ذلك نفسك الأمّارة بالسوء ، وأطعت إبليس وقد

____________

(١) في ( د ) : في جسده .

(٢) في ( د ) : في جسده .

(٣) البحار ٧١ : ١٧٣ ح٥ ، عن أمالي الصدوق نحوه .

(٤) في ( د ) : يوصفك بوصف الاختيار .

(٥) في ( د ) : بقية أسفارك .

(٦) في ( د ) : العالمين .

١٧٢

حذّرك الله من طاعته ، فقال تعالى :( إنّ الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنّما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) (١) .

وقال تعالى :( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ) (٢) ، فاحذر(٣) نفسك يا أخي من طول الرقاد ، واعبد ربّك حتّى تبلغ منه المراد .

ولله درّ بعض الزهّاد حيث قال :

حبيبي تجاف من المهاد

خوف من الموت والمعاد

مَن خاف من سكرة المنايا

لم يدر ما لذّة الرقاد

قد بلغ الزرع منتهاه

لابدّ للزرع من حصاد

فاستيقظ يا أخي من رقدتك ، فقد مضى من عمرك أكثره في غفلة ونوم ، ولا تنس نصيبك من قيام الليل فيما بقي من عمرك لتكون خاتمتك خاتمة خير ، فاغتنمها تغنم ، ولا تغفل عنها فتندم ، فقد سمّى الله تعالى يوم القيامة يوم الحسرة والندامة ، وسمّاها في موضع آخر يوم التغابن .

وروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : ما من مخلوق يوم القيامة إلاّ ويندم ولكن لا تنفعه الندامة ، فأمّا السعيد إذا رأى الجنّة وما أعد الله فيها لأوليائه المتقين يندم حيث لا عمل له مثل عملهم ، ويريد من العبادة أكثر منهم لينال درجتهم العليا في الفردوس الأعلى ، وإن كان من الأشقياء إذا رأى النار وزفيرها وما أعدّ الله فيها من العذاب الأليم ، صرخ وندم حيث لم يكن أقلع من ذنوبه ومعاصيه ليسلم ممّا هو فيه .

____________

(١) الفاطر : ٦ .

(٢) البقرة : ٢٦٨ .

(٣) في ( د ) : فازجر .

١٧٣

فهذه هي الطامة الكبرى ، فاستدرك يا أخي ما فرّطت من أمرك ، واسكب الدمع بكاءً على نفسك حيث لم تكن صالحاً للقيام بباب ربّك فأنامك ، ولو علم انّك صالح للقيام لأقامك بالبدار قبل نفاد(١) الأعمار ، فإنّ الدنيا مزرعة الآخرة وعلى قدر ما تزرعه في الدنيا تحصده في الآخرة ، وقد أمر الباري عزّ وجل عباده بالمسارعة إلى الطاعات والاستباق إليها ، فقال تعالى :( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ) (٢) .

ومَن نام عن العبادات سائر ليله لم يمتثل ما أمره الله به من المسارعة إلى المغفرة ، ودخول الجنّة العريضة التي أعدها للعاملين(٣) ، واعلم أنّ مَن نام عامة ليله كان ذلك دليل على أنّه عمل في نهاره ذنباً عظيماً فعاقبه الله ، فطرده عن بابه ومرافقة العابدين الذين هم أحباؤه ، ولو علم النائم عن صلاة الليل ما فاته من الثواب العظيم والأجر المقيم لطال بكائه عليه .

وعن ابن مسعود قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :حسب الرجل من الخيبة أن يبيت ليله لا يصلّي فيها ركعتين ، ولا يذكر الله فيها حتّى يصبح .

وقيل : يا رسول الله إنّ فلاناً نام البارحة عن ورده حتّى أصبح ، قال :ذلك الرجل بال الشيطان في أذنه فلم يستيقظ .

وكان بعض العباد يصلّي عامة الليل فإذا كان السحر أنشد يقول :

ألا يا عين ويحك أسعديني

بطول الدمع في ظلم الليالي

لعلّك في القيامة أن تفوزي

بحور العين في قصر اللئالي

وقال بعض العابدين : رأيت في منامي كأنّي على شاطئ نهر يجري بالمسك الأذفر ، وعلى حافته شجر من اللؤلؤ وقصب الذهب ، وإذا بجوار مزينات لابسات

____________

(١) في ( د ) : انقضاء .

(٢) الحديد : ٢١ .

(٣) في ( د ) : أعدها الله للعابدين .

١٧٤

ثياب السندس ، كأنّ وجوههنّ الأقمار ، وهنّ يقلن : سبحان المسبّح بكل لسان سبحانه ، سبحان الموجود في كل مكان سبحانه ، سبحان الدائم في كل الأزمان سبحانه ، فقلت لهنّ : مَن أنتنّ ؟ فقلن :

ذرأنا إله النّاس ربّ محمّد

لقوم على الأطراف بالليل قوّم (١)

يناجون ربّ العالمين إلههم

وتسري حمول القوم والناس نوّم

فقلت : بخ بخ لهؤلاء القوم ، مَن هم ؟ فقلن : هؤلاء المتهجّدون بالليل بتلاوة القرآن ، الذاكرون الله كثيراً في السر والإعلان ، المنفقين والمستغفرين بالأسحار .

فعاتب يا أخي نفسك ، ولا تقبل منها اعتذارها في ترك القيام ، فتلك معاذير كاذبة ، فقوّام الليل تحمّلوا السهر والقيام والقعود ، وصبروا صبراً جميلاً ، أعقبهم ذلك راحة طويلة في نعمة لا انقطاع لها .

وأنت يا مسكين لو صبرت صبرهم وعملت مثل عملهم فزت بما فازوا ، ولكنّك آثرت لذّات الرقاد على تحصيل الزاد ، ولم تجد الزاد ولم تَجُد بمالك على المساكين من العباد ، فآثر الله عليك العباد الزهاد ، فقرّبهم وأبعدك ، وأدناهم من بابه وطردك .

واعلم أنّك إذا لم تنشط(٢) لأفعال الخير وعبادة الله ، فاعلم أنّك مكبّل مقيّد قد قيّدتك ذنوبك وخطاياك ، فسابق يا أخي العابدين بسهر الليل لتسبقهم إلى جنّات العلى ، فالليل أسبق جواد ركبه الصالحون إلى رفيع الدرجات من الجنّات ، فتكون ممّن مدحهم الله في كتابه العزيز ، فقال تعالى :( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً وممّا رزقناهم ينفقون ) (٣) .

____________

(١) في ( د ) : ساجد .

(٢) في ( د ) : تمشي .

(٣) السجدة : ١٦ .

١٧٥

فانظروا إلى ما مدحه الله به المصلّين بالليل ، المنفقين ممّا رزقهم الله على المستحقين ، وإن خفت ألاّ تستيقظ للصلاة بعد النوم فخذ حظّك من الصلاة قبل النوم ، وإيّاك أن تغفل عن الاستغفار في وقت الأسحار ، فذلك وقت لا تنام فيه الأطيار بل ترفع أصواتها بالتسبيح والأذكار ، وعليك بتلاوة الأدعية والمناجاة فإنّ الدعاء مخ العبادة .

وإن كنت ولابد من النوم(١) فاستيقظ منه ساعة للتوبة والبكاء والدعاء ، فإن غفلت ونمت الليل كله حتّى ساعة الدعاء فقد مات قلبك ، ومَن مات قلبه أبعده الله عن قربه .

قلت : وأقلّ حالات المؤمن أن يصلّي في ليله أربع ركعات من صلاة الليل ، وأدنى من ذلك أن يقرأ مائة آية من كتاب الله العزيز ، ثم يسبّح الله تعالى ويدعو لنفسه ولوالديه وللمؤمنين ، ثم يستغفر الله تعالى حتّى لا يكتب في ديوان الغافلين .

اعلم أنّ الصلاة بين المغرب والعشاء لها فضل عظيم ، وهي صلاة الأوّابين ، وروي أنّها تسمّى ساعة الغفلة ، وهي ركعتين بين المغرب والعشاء ، يُقرأ في الأُولى ( الحمد ) و( ذا النون إذ ذهب مغاضب ) ، وفي الثانية ( الحمد ) و( وعنده مفاتح الغيب ) وهي أفضل عند الله من صوم النهار .

واعلم يا أخي إنّك إذا عملت الطاعات وواظبت على العبادات ، من صيام أو صدقة أو بر أو صلة رحم ، فاقصد به وجه الله تعالى خالصاً مخلصاً من الرياء المحبط للأفعال ، واتبع فيه قول الله تعالى :( ولدار الآخرة خير ) (٢) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ الله تعالى يقول : لا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل مخلصاً لي حتّى أُحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي

____________

(١) في ( د ) : فإن كنت غافلاً بعض الليل للنوم .

(٢) يوسف : ١٠٩ .

١٧٦

يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، إن سألني أعطيته وإن استعاذني أعذته (١) (٢) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا قام العبد من مضجعه والنعاس في عينيه ليرضي ربّه بصلاة الليل ، باهى الله به ملائكته فيقول : أما ترون عبدي هذا قام من مضجعه ، وترك لذيذ منامه إلى ما لم أفرضه عليه ، اشهدوا أنّي قد غفرت له (٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :استعينوا بطعام السحر على صيام النهار ، وبالقيلولة على قيام الليل ، وما نام الليل كله أحد إلاّ بال الشيطان في أُذنه (٤) ، وجاء يوم القيامة مفلساً ، وما من أحد إلاّ وله ملك يوقظه من نومه كل ليلة مرّتين ، يقول : يا عبد الله اقعد لتذكر ربّك ، ففي الثالثة إن لم ينتبه يبول الشيطان في أُذنه .

روت عائشة قالت : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم من فراشه ويصلّي ويقرأ القرآن ويبكي ، ثم يجلس يقرأ ويدعو ويبكي حتّى إذا فرغ اضطجع وهو يقرأ ويبكي حتّى بلّت الدموع خدّيه ولحيته ، قلت : يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ؟ قال :بلى ، أفلا أكون عبداً شكوراً .

وقال :الشتاء ربيع المؤمن ، قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه (٥) .

وقال :مَن خاف أن ينام عن صلاة الليل فليقرأ عند منامه : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (٦) .

ويقول : اللّهمّ أنبهني لأحبّ الساعات إليك ، فأدعوك فتجيبني ، وأسألك

____________

(١) البحار ٨٧ : ٣١ ح١٥ ، عن المحاسن .

(٢) إلى هنا تمّ ما نقلناه من نسخة ( ج ) و ( د ) .

(٣) روضة الواعظين : ٣٢٠ ، عنه البحار ٨٧ : ١٥٦ ح٤٠ ، معالم الزلفى : ٤٥ .

(٤) في ( ج ) : أُذنيه .

(٥) معاني الأخبار : ٢٢٨ ، عنه البحار ٨٣ : ١٣٣ ح١٠٢ .

(٦) الكهف : ١١٠ .

١٧٧

فتعطيني ، واستغفرك فتغفر لي ويقول : اللّهمّ ابعثني من مضجعي لذكرك (١) وشكرك وصلاتك واستغفارك ، وتلاوة كتابك ، وحسن عبادتك يا أرحم الراحمين (٢) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ البيوت التي يُصلّى فيها بالليل ويُتلى فيها القرآن تضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدرّي لأهل الأرض (٣) .

واعلموا علماً يقيناً أنّه ما تقرّب المؤمن بقربان أعظم عند الله سبحانه وأفضل من صلاة الليل ، والتسبيح والتهليل بعدها ومناجات ربّه العزيز الحميد ، والاستغفار من ذنوبه ، وأدعية صلاة الليل ببكاء وخشوع ، ثم قرآءة القرآن إلى طلوع الفجر وإيصال صلاة الليل بصلاة النهار ، فإنّي أُبشّره بالرزق الواسع بالدنيا من غير كدٍّ ولا تعب ولا نصب ، وبعافية شاملة في جسده ، وأُبشّره إذا مات بالنعيم في قبره من الجنّة ، وضياء قبره بنور صلاته تلك إلى يوم محشره .

وأُبشّره بأنّ الله تعالى لا يحاسبه ، وأن يأمر الملائكة تدخله الجنّة في أعلى عليين في جوار محمد وأهل بيته الطاهرين ، فيا لها من فرصة ما أحسن عاقبتها إذا سلمت من الرياء والعجب .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيّته لأمير المؤمنينعليه‌السلام :وعليك بصلاة الليل ـ وكرّر ذلك ثلاثاً(٤) .

وقال :ألا ترون إلى المصلّين بالليل وهم أحسن الناس وجوهاً ؛ لأنّهم خلوا بالليل لله سبحانه فكساهم من نوره (٥) .

وسُئل الباقرعليه‌السلام عن وقت صلاة الليل فقال :هو الوقت الذي جاء

____________

(١) في ( ب ) : أيقظني لذكرك .

(٢) عنه البحار ٨٧ : ١٧٣ ح٢ .

(٣) روضة الواعظين : ٣٢١ .

(٤) البحار ٨٧ : ١٥٧ ح٤٢ ، عن روضة الواعظين .

(٥) علل الشرائع : ٣٦٥ ح١ باب٨٧ ، عنه البحار ٨٧ : ١٥٩ ح ٤٨ .

١٧٨

عن جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إنّ لله تعالى منادياً ينادي في السحر : هل من داع فأُجيبه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من طالب فأعطيه ؟ .

ثم قال :هو الوقت الذي وَعَدَ فيه يعقوب بنيه أن يستغفر لهم ، وهو الذي مدح فيه المستغفرين فقال : ( والمستغفرين بالأسحار ) (١) إنّ صلاة الليل في آخره أفضل من أوّله ، وهو وقت الإجابة ، والصلاة فيه هدية المؤمن إلى ربّه ، فأحسنوا هداياكم إلى ربّكم يحسن الله جوائزكم ، فإنّه لا يواظب عليها إلاّ مؤمن صدّيق (٢) .

واعلم أيّدك الله أنّ صلاة الليل من أوّل نصفه الأخير لمَن يطول في قراءته ودعائه أفضل ، وهي في آخره لمن يقتصر أفضل .

وقال الصادقعليه‌السلام :لا تعطوا العين حظّها من النوم فإنّها أقلّ شيء شكراً (٣) .

وروي أنّ الرجل يكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل ، فإذا حرم صلاة الليل حرم بذلك الرزق(٤) .

وقالعليه‌السلام :كذب مَن زعم أنّه يصلّي صلاة الليل ويجوع بالنهار (٥) .

وفيما أوحى الله إلى موسى بن عمران :لو رأيت الذين يصلّون لي في [ظلم] (٦) الدياجي وقد مثّلت نفسي بين أعينهم (٧) وهم يخاطبوني وقد جليت عن المشاهدة ، ويكلّموني وقد تعزّزت عن الحضور ، يا ابن عمران ! هب لي من عينيك الدموع ، ومن قلبك الخشوع ، ومن بدنك الخضوع ، ثم ادعني في ظلم الليالي تجدني قريباً

____________

(١) آل عمران : ١٧ .

(٢) عنه البحار ٨٧ : ٢٢٢ ح٣٢ .

(٣) البحار ٨٧ : ١٥٦ ح٣٩ ، عن عدّة الداعي .

(٤) عنه معالم الزلفى : ٤٥ .

(٥) روضة الواعظين : ٣٢١ ، عنه البحار ٨٧ : ١٥٧ ح٤٢ ، والمحاسن ١ : ١٢٥ ح١٤١ .

(٦) أثبتناه من ( ب ) .

(٧) في ( ب ) : أيديهم .

١٧٩

مجيباً ، يا ابن عمران ! كذب مَن يقول (١) إنّه يحبّني وإذا جنّه الليل نام عنّي (٢) .

وروي عن المفضل بن صالح قال : قال لي مولاي الصادقعليه‌السلام :يا مفضل إنّ لله تعالى عباداً عاملوه بخالص من سرّهم فقابلهم (٣) بخالص من برّه ، فهم الذين تمرّ صحفهم يوم القيامة فرغاً ، فإذا وقفوا بين يديه ملأها لهم من سرّ ما أسرّوا إليه ، فقلت : وكيف ذلك يا مولاي ؟ فقال :أجلّهم أن تطّلع الحفظة على ما بينه وبينهم (٤) .

وفي هذا دلالة على أنّ الإخفاء بها أفضل من الإجهار بها ، وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( خير العبادة أخفاها ، وخير الذكر الخفي ) وقولهعليه‌السلام :( صلاة السر تزيد على الجهر بسبعين ضعف ) ، ومدح الله تعالى زكريا إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً ، وقال سبحانه :( واذكر ربّك تضرّعاً وخيفة ودون الجهر من القول ) (٥) وهذا صريح في فضل إخفائها .

وسمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوماً يرفعون أصواتهم بالدعاء ، فقال :على رسلكم إنّما تدعون سميعاً بصيراً حاضراً معكم (٦) .

وما ورد من استحباب الجهر في صلاة الليل فإنّه يختصّ بالقراءة دون الدعاء ، واعلم أنّ كيفيّة رفع اليدين في الصلاة أن تكونا مبسوطتين تحاذي صدر الإنسان .

[وعن سعد بن يسار قال :](٧) قال الصادقعليه‌السلام :هكذا الرغبة ـ وأبرز

____________

(١) في ( ج ) : زعم .

(٢) البحار ١٣ : ٣٦١ ح٧٨ ، عن عدّة الداعي .

(٣) في ( ج ) : فعاملهم .

(٤) عنه البحار ٧٠ : ٢٥٢ ح٧ ، ومعالم الزلفى : ٢٤٧ .

(٥) الأعراف : ٢٠٥ .

(٦) البحار ٩٣ : ٣٤٣ ح١٢ نحوه .

(٧) أثبتناه من ( ب ) .

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

التعديلات العلمية والحقائق المطلقة :

وقد كتب (أنجلز) ينقد مبدأ الحقيقة المطلقة القائل بسلبية إمكان اجتماعها مع الخطأ ، عن طريق التعديل الذي يطرأ على النظريات والقوانين العلمية ، فقال :

(ولنستشهد على ذلك بقانون (بويل) الشهير ، الذي ينصّ على أنّ حجوم الغازات تتناسب عكسياً مع الضغط الواقع عليها إذا بقيت درجة حرارتها ثابتة وجد (رنيو) بأنّ هذا القانون لا يصحّ في حالات معيّنة ، ولو كان (رنيو) أحد فلاسفة الواقعية لانتهى من ذلك إلى الاستخلاص التالي : بما أنّ قانون (بويل) قابل للتغيّر فهو ليس بحقيقة محضة ، أي : أنّه ليس بحقيقة البتة ، فهو ـ إذن ـ قانون باطل

____________________

(*)

(ج) أنّ جمع غازين درجة حرارة كلّ منهما درجتان مئويتان ، ينتج حرارة الخليط بنفس تلك الدرجة أيضاً من دون مضاعفة

وهذا لون آخر من التمويه ؛ لأنّ العمليّة إنّما جمعت بين غازين وخلطت بينهما ، لا أنّها جمعت بين درجتي الحرارة وإنّما يجمع بين الدرجتين لو ضوعفت الدرجة في موضوعها ، فنحن لم نضف حرارة على حرارة لنترقّب حدوث درجة أضخم للحرارة ، وإنّما أضفنا حارّاً إلى حارّ وخلطنا بينهما

وهكذا يتّضح : أنّ كلّ تشكيك أو نقض يدور حول البدهيات العقلية الضرورية ، مردّه في الحقيقة إلى لون من المغالطة أو عدم إجادة فهم تلك البدهيات وسوف يبدو هذا بكلّ وضوح عند عرضنا لنقوض الماركسية التي حاولت أن تردّ على مبدأ عدم التناقض (المؤلّف قدس‌سره )

٢٢١

ولو نهج (رنيو) هذا النهج لارتكب خطأً أفظع ممّا تضمنه قانون (بويل) ، ولتاهت ذرّة الحقيقة المنطوي عليها نقده لهذا القانون ، واندفنت بين رمال صحراء الباطل ، ولأفضى به الأمر أخيراً إلى تشويه النتيجة الصائبة التي أدركها ، وإلى إحالتها إلى نتيجة واضحة الأخطاء إذا ما قورنت مع النتيجة التي أدركها قانون (بويل) ، الذي يبدو صحيحاً رغم ما هو عالق به من أخطاء جزئية)(١) ويتلخّص هذا النقد في أنّ الفكر الميتافيزيقي لو كان على صواب فيما يؤمن به للحقائق من إطلاق وتعارض مطلق مع الخطأ ، لوجب رفض كلّ قانون علمي لمجرّد وضوح عدم صحّته جزئياً ، وفي حالات معيّنة فقانون (بويل) بحكم الطريقة الميتافيزيقية في التفكير إمّا أن يكون حقيقة مطلقة ، وإمّا أن يكون خطأً محضاً ، فإذا تبيّن في الميدان التجريبي عدم صحّته أحياناً ، فيجب أن يكون لأجل ذلك خطأً مطلقاً ، وأن لا يكون فيه شيء من الحقيقة ؛ لأنّ الحقيقة لا تجتمع مع الخطأ ، ويخسر العلم بذلك جانب الحقيقة من ذلك القانون

وأمّا في الطريقة الديالكتيكية ، فلا يعتبر ذلك الخطأ النسبي دليلاً على سقوط القانون سقوطاً مطلقاً ، بل هو حقيقة نسبية في نفس الوقت ؛ فإنّ الحقيقة تجتمع مع الخطأ

ولو كان (أنجلز) قد عرف النظرية الميتافيزيقية في المعرفة معرفة دقيقة ، وفهم ما تعني من الحقيقة المطلقة ، لما حاول أن يوجّه مثل هذا النقد إليها إنّ الصحّة والخطأ لم يجتمعا في حقيقة واحدة ، لا في قانون (بويل) ولا في

____________________

(١) ضد دوهرنك : ١٥٣

٢٢٢

غيره من القوانين العلمية فالحقيقة من ذلك القانون هي حقيقة مطلقة لا خطأ فيها ، وما هو خطأ منه فهو خطأ محض ، والتجارب العلمية التي قام بها (رنيو) ، والتي أوضحت له مثلاً : أنّ قانون (بويل) لا يصحّ فيما إذا بلغ الضغط الحدّ الذي تتحوّل فيه الغازات إلى سوائل ، لم تقلب الحقيقة إلى الخطأ ، وإنّما شطرت القانون إلى شطرين ، وأوضحت أنّ أحد هذين الشطرين خطأ محض ، فاجتماع الخطأ والحقيقة اجتماع اسمي وليس اجتماعاً بمعناه الصحيح

وفي تعبير واضح : أنّ كلّ قانون علمي صحيح فهو يحتوي على حقائق بعدد الحالات التي يتناولها وينطبق عليها ، فإذا أظهرت التجربة خطأه في بعض تلك الحالات ، وصوابه في البعض الآخر ، فليس معنى ذلك : أنّ الحقيقة نسبية ، وأنّها اجتمعت مع الخطأ ، بل معنى ذلك : أنّ محتوى القانون يطابق الواقع في بعض الحالات دون بعض فالخطأ له موضع وهو في ذلك الموضع خطأ محض ، والحقيقة لها موضع آخر وهي في ذلك الموضع حقيقة مطلقة

والفكر الميتافيزيقي لا يحتّم على العالِم الطبيعي أن يرفض القانون نهائياً إذا ما تبيّن عدم نجاحه في بعض الحالات ؛ لأنّه يعتبر كلّ حالة تمثّل قضية خاصّة بها ، ولا يجب أن تكون القضية الخاصّة بحالة ما خطأ إذا ما كانت القضية الخاصّة بالحالة الأخرى كذلك

وكان يجب على (أنجلز) ـ عوضاً عن تلك المحاولات الصبيانية لتبرير الحقيقة النسبية واجتماعها مع الخطأ ـ أن يتعلّم الفرق بين القضايا البسيطة والقضايا المركّبة ، ويعرف أنّ القضية البسيطة هي التي لا يمكن أن تنقسم إلى قضيّتين ، كما في قولنا : مات أفلاطون قبل أرسطو وأنّ القضية المركّبة هي القضية التي تتألّف من قضايا متعدّدة ، نظير قولنا : الفلزات تتمدّد بالحرارة ؛ فإنّ هذا القول مجموعة من قضايا ، ويمكننا أن نعبّر عنه في قضايا متعدّدة فنقول : الحديد يتمدّد

٢٢٣

بالحرارة ، والذهب يتمدّد بالحرارة ، والرصاص يتمدّد بالحرارة

والقضية البسيطة- باعتبارها قضية مفردة- لا يمكن أن تكون حقيقة من ناحية وخطأ من ناحية أخرى ، فموت أفلاطون قبل أرسطو إمّا أن يكون حقيقة وإمّا أن يكون خطأ

وأمّا القضية المركّبة ، فلمّا كانت في الحقيقة ملتقى قضايا متعدّدة ، فمن الجائز أن توجد الحقيقة في جانب منها والخطأ في جانب آخر ، كما إذا افترضنا أنّ الحديد يتمدّد بالحرارة دون الذهب ، فإنّ القانون الطبيعي العام وهو : الفلزات تتمدّد بالحرارة ، يعتبر صحيحاً على ناحية وخطأ من ناحية أخرى ، ولكن ليس معنى ذلك : أنّ الحقيقة والخطأ اجتمعا فكانت القضية الواحدة خطأ وحقيقة ، بل الخطأ إنّما يوجد في قضية : الذهب يتمدّد بالحرارة مثلاً ، والحقيقة إنّما توجد في قضية : الحديد يتمدّد بالحرارة مثلاً ، فلم يكن الخطأ حقيقة ولا الحقيقة خطأ

وفي عودتنا على الحركة التطوّرية في الحقيقة والمعرفة بصفتها جزءاً من الديالكتيك- الذي خصّصنا لدراسته الجزء الثاني من المسألة الآتية (المفهوم الفلسفي للعالم )- سنستعرض مدارك الماركسية وألوان استدلالها على تطوّر الحقيقة والمعرفة ، ومدى ضعفها ومغالطاتها ، وعلى الأخصّ ما حاولته الماركسية من اعتبار العلوم الطبيعية ، في تطوّرها الرائع على مرّ الزمن ونشاطها المتضاعف وقفزاتها الجبّارة ، مصداقاً للحركة التطوّرية في الحقائق والمعارف ، مع أنّ تطوّر العلوم في تاريخها الطويل لا صلة له بتطوّر الحقيقة والمعرفة بمعناها الفلسفي الذي تحاوله الماركسية فالعلوم تتطوّر لا بمعنى أنّ حقائقها تنمو وتتكامل ، بل بمعنى : أنّ حقائقها تزداد وتتكاثر ، وأخطاءها تقلّ وتتقلّص ، ونوكل إيضاح ذلك إلى البحث المقبل في المسألة الثانية .

ويخلص معنا من هذه الدراسة :

٢٢٤

أوّلاً : أنّ الحقيقة مطلقة وغير متطوّرة ، وإن كان الواقع الموضوعي للطبيعة متطوّراً ومتحرّكاً على الدوام

ثانياً : أنّ الحقيقة تتعارض تعارضاً مطلقاً مع الخطأ ، فالقضية البسيطة الواحدة لا يمكن أن تكون حقيقة وخطأ

ثالثاً : أنّ إجراء الديالكتيك على الحقيقة والمعرفة يحتّم علينا الشكّ المطلق في كلّ حقيقة ما دامت في تغيّر وتحرّك مستمرّ ، بل يحكم على نفسه بالإعدام والتغيّر أيضاً ؛ لأنّه بذاته من تلك الحقائق التي يجب أن تتغيّر بحكم منطقه التطوّري الخاصّ

انتكاس الماركسية في الذاتية :

وفي النهاية يجب أن نشير إلى أنّ الماركسية بالرغم من إصرارها على رفض النسبية الذاتية بترفّع ، وتأكيدها على الطابع الموضوعي لنسبيّتها ، وأنّها نسبية تواكب الواقع المتطوّر وتعكس نسبيّته ، بالرغم من ذلك كلّه ارتدّت الماركسية مرّة أخرى ، فانتكست في أحضان النسبية الذاتية حين ربطت المعرفة بالعامل الطبقي ، وقرّرت : أنّ من المستحيل للفلسفة ـ مثلاً ـ أن تتخلّص من الطابع الطبقي والحزبي حتّى قال موريس كونفورت : (كانت الفلسفة دوماً تعبّر ولا تستطيع إلاّ أن تعبّر عن وجهة نظر طبقية)(١)

وقال تشاغين : (لقد ناضل لينين بثبات وإصرار ضدّ النزعة الموضوعية في النظرية)(٢)

____________________

(١) المادّية الديالكتيكية والمادّية التاريخيّة : ٣٢

(٢) الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم : ٧٠

٢٢٥

وواضح : أنّ هذا الاتّجاه الماركسي يطبع كلّ معرفة بالعنصر الذاتي ، ولكنّها ذاتية طبقية لا ذاتية فردية كما كان يقرّر النسبيون الذاتيون ، وبالتالي تصبح (الحقيقة) هي : مطابقة الفكرة للمصالح الطبقية للمفكّر ؛ لأنّ كلّ مفكّر لا يستطيع أن يدرك الواقع إلاّ في حدود هذه المصالح ، ولا يمكن لأحد في هذا الضوء أن يضمن وجود الحقيقة في أيّ فكرة فلسفية أو علمية بمعنى مطابقتها للواقع الموضوعي ، وحتّى الماركسية نفسها لا تستطيع ـ ما دامت تؤمن بحتمية الطابع الطبقي ـ أن تقدّم لنا مفهومها عن الكون والمجتمع بوصفه تعبيراً مطابقاً للواقع ، وإنّما كلّ ما تستطيع أن تقرّره هو : أنّه يعكس ما يتّفق مع مصالح الطبقة العاملة من جوانب الواقع(١)

____________________

(١) لأجل التوضيح راجع كتاب (اقتصادنا) للمؤلف ، مبحث : نظرية المادية التاريخية ، تحت عنوان : (ب ـ الفلسفة)

٢٢٦

-٢-

المفهوم الفلسفي للعالم

١- تمهيد

٢- الديالكتيك أو الجدل

٣- مبدأ العلّيّة

٤- المادّة أو الله

٥- الإدراك

٢٢٧

٢٢٨

المفهوم الفلسفي للعالم / ١

تمهيد

مفاهيم ثلاثة للعالم

تصحيح أخطاء

إيضاح عدّة نقاط عن المفهومين

الاتّجاه الديالكتيكي للمفهوم المادّي

٢٢٩

٢٣٠

[ مفاهيم ثلاثة للعالم : ]

إنّ لمسألة تكوين مفهوم فلسفي عام عن العالم ، مركزاً رئيسياً في العقل البشري ، منذ حاولت الإنسانية تحديد علاقاتها بالعالم الموضوعي وارتباطها به ولسنا نحاول في دراستنا هذه أن نؤرّخ للمسألة في سيرها الفلسفي والديني والعلمي ، وتطوّرها على مرّ الزمن منذ آمادها البعيدة ، وإنّما نستهدف أن نعرض المفاهيم الأساسية في الحقل الفلسفي الحديث ؛ لنحدّد موقفنا منها ، وما هو المفهوم الذي يجب أن تتبلور نظرتنا العامّة على ضوئه ويرتكز مبدأنا في الحياة على أساسه

ومردّ مسألتنا هذه إلى مسألتين :

إحداهما : مسألة المثالية والواقعية

والأخرى : مسألة المادّية والإلهية

ففي المسألة الأولى يُعرَض السؤال على الوجه التالي : أنّ هذه الكائنات التي يتشكّل منها العالم ، هل هي حقائق موجودة بصورة مستقلّة عن الشعور والإدراك ؟ أو أنّها ليست إلاّ ألواناً من تفكيرنا وتصوّرنا ؟ بمعنى : أنّ الفكر أو الإدراك هو الحقيقة ، وكلّ شيء يرجع في نهاية المطاف إلى التصوّرات الذهنية ، فإذا أسقطنا الشعور أو الـ‍ (أنا) فإنّ الواقع كلّه يزول فهذان تقديران للمسألة

٢٣١

والإجابة بالتقدير الأوّل تلخّص الفلسفة الواقعية أو المفهوم الواقعي للعالم ، والإجابة بالتقدير الثاني هي التي تقدّم المفهوم المثالي للعالم

وفي المسألة الثانية يوضع السؤال على ضوء الفلسفة الواقعية هكذا : إذا كنّا نؤمن بواقع موضوعي للعالم ، فهل نقف في الواقعية على حدود المادّة المحسوسة ، فتكون هي السبب العامّ لجميع ظواهر الوجود والكون بما فيها من ظواهر الشعور والإدراك ؟ أو نتخطّاها إلى سبب أعمق ، إلى سبب أبدي ولانهائي بصفة المبدأ الأساسي لما ندركه من العالم بكلا مجاليه : الروحي والمادّي معاً ؟

وبذلك يوجد في الحقل الفلسفي للواقعية مفهومان : يعتبر أحدهما أنّ المادّة هي القاعدة الأساسية للوجود ، وهو : المفهوم الواقعي المادّي ويتخطّى الآخر المادّة إلى سبب فوق الروح والطبيعة معاً ، وهو : المفهوم الواقعي الإلهي

فبين يدينا- إذن- مفاهيم ثلاثة للعالم : المفهوم المثالي ، والمفهوم الواقعي المادّي ، والمفهوم الواقعي الإلهي وقد يعبّر عن المثالية بالروحية نظراً إلى اعتبار الروح ، أو الأنا ، أو الشعور ، الأساس الأوّل للوجود

تصحيح أخطاء :

وعلى هذا الضوء يجب أن نصحّح عدّة أخطاء وقع فيها بعض الكتّاب المحدَثين :

الأوّل : محاولة اعتبار الصراع بين الإلهية والمادّية مظهراً من مظاهر التعارض بين المثالية والواقعية ، فلم يفصلوا بين المسألتين اللتين قدّمناهما ، وزعموا أنّ المفهوم الفلسفي للعالم أحد أمرين : إمّا المفهوم المثالي ، وإمّا المفهوم المادّي فتفسير العالم لا يمكن أن يقبل سوى وجهين اثنين ، فإذا فسّرت العالم تفسيراً تصوّرياً خالصاً ، وآمنت بأنّ التصوّر أو الأنا هو الينبوع الأساسي ، فأنت

٢٣٢

مثالي ، وإذا أردت أن ترفض المثالية والذاتية ، وتؤمن بواقع موضوعي مستقلّ عن الـ‍ (أنا) ، فليس عليك إلاّ أن تأخذ بالمفهوم المادّي للعالم ، وتعتقد أنّ المادّة هي المبدأ الأوّل ، وأنّ الفكر والشعور ليس إلاّ انعكاساً لها ودرجة خاصّة من تطوّرها

وهذا لا يتّفق مع الواقع مطلقاً كما عرفنا ؛ فإنّ الواقعية ليست وقفاً على المفهوم المادّي ، كما أنّ المثالية أو الذاتية ليست هي الشيء الوحيد الذي يعارض المفهوم المادّي ، ويقف أمامه على الصعيد الفلسفي ، بل يوجد مفهوم آخر للواقعية ، هو: المفهوم الواقعي الإلهي الذي يعتقد بواقع خارجي للعالم والطبيعة ، ويرجع الروح والمادّة معاً إلى سبب أعمق فوقهما جميعاً

الثاني : ما اتّهم به بعض الكتّاب المفهوم الإلهي : من أنّه يجمّد مبدأ العلِّية في دنيا الطبيعة ، ويلغي قوانينها ونواميسها التي يكتشفها العلم وتزداد وضوحاً يوماً بعد يوم ، فهو في زعمهم يربط كلّ ظاهرة وكلّ وجود بالمبدأ الإلهي

ولقد لعب هذا الاتّهام دوراً فعّالاً في الفلسفة المادّية ، حيث اعتبرت فكرة الله هي فكرة وضع سبب المعقول لما يشاهده من ظواهر الطبيعة وحوادثها ، ومحاولة لتبرير وجودها ، فتزول الحاجة إليها تماماً حين نستطيع أن نستكشف بالعلم والتجارب العلمية حقيقة الأسباب والقوانين الكونية التي تتحكّم في العالم ، وتتولّد باعتبارها الظواهر والحوادث وساعد على تركيز هذا الاتّهام ما كانت تلعبه الكنيسة في بداية النهضة العلمية في أوروبا ، من أدوار خبيثة في محاربة التطوّر العلمي ، ومعارضة ما يكشفه العلم من أسرار الطبيعة ونواميسها

والحقيقة : أنّ المفهوم الإلهي للعالم لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعية ، أو التمرّد على شيء من حقائق العلم الصحيح ، وإنّما هو المفهوم الذي يعتبر الله سبباً أعمق ، ويحتّم على تسلسل العلل والأسباب أن يتصاعد إلى قوّة فوق الطبيعة والمادّة وبهذا يزول التعارض بينه وبين كلّ حقيقة علمية تماماً ؛ لأنّه

٢٣٣

يطلق للعلم أوسع مجال لاستكشاف أسرار الطبيعة ونظامها ، ويحتفظ لنفسه بالتفسير الإلهي في نهاية المطاف ، وهو وضع السبب الأعمق في مبدأ أعلى من الطبيعة والمادّة

فليست المسألة الإلهية ـ كما يشاء أن يصوّرها خصومها ـ مسألة أصابع تمتدّ من وراء الغيب ، فتقطر الماء في الفضاء تقطيراً ، أو تحجب الشمس عنّا ، أو تحول بيننا وبين القمر ، فيوجد بذلك المطر والكسوف والخسوف ، فإذا كشف العلم عن أسباب المطر وعوامل التبخير فيه ، وإذا كشف عن سبب الكسوف وعرفنا أنّ الأجرام السماوية ليست متساوية الأبعاد عن الأرض ، وأنّ القمر أقرب إليها من الشمس ، فيتّفق أن يمرّ القمر بين الأرض والشمس فيحجب نورها عنّا ، وإذا كشف العلم عن سبب الخسوف ، وهو وقوع القمر في ظلّ الأرض ، الذي يمتدّ وراءها إلى مسافة (٩٠٠) ألف ميل تقريباً ، أقول : إذا كملت هذه المعلومات لدى الإنسان ، يخيّل لأولئك المادّيين أنّ المسألة الإلهية لم يبقَ لها موضوع ، وأنّ الأصابع الغيبية التي تحجب الشمس أو القمر عنّا ، عوَّض عنها العلم بالتعليلات الطبيعية ، وليس هذا إلاّ لسوء فهم للمسألة الإلهية ، وعدم تمييز لموضع السبب الإلهي من سلسلة الأسباب

الثالث : أنّ الطابع الروحي غلب على المثالية والإلهية معاً ، حتّى أخذ يبدو أنّ الروحية في المفهوم الإلهي هي بمعناها في المفهوم المثالي ، ونشأت عن ذلك عدّة اشتباهات ؛ ذلك أنّ الروحية قد تعتبر وصفاً لكلّ من المفهومين ولكنّنا لا نجيز مطلقاً أن يهمل التمييز بين الروحيتين ، بل يجب أن نعرف أنّ الروحية في العرف المثالي يقصد بها: المجال المقابل للمجال المادّي المحسوس ، أي : مجال الشعور والإدراك والأنا فالمفهوم المثالي روحي على أساس أنّه يفسّر كلّ كائن وكلّ موجود في نطاق هذا المجال ، ويرجع كلّ حقيقة وكلّ واقع إليه فالمجال

٢٣٤

المادّي مردّه في الزعم المثالي إلى مجال روحي

وأمّا الروحية في المفهوم الإلهي أو العقيدة الإلهية ، فهي طريقة للنظر إلى الواقع بصورة عامّة ، لا مجالاً خاصّاً مقابلاً للمجال المادّي فالإلهية التي تؤمن بالسبب المجرّد الأعمق ، تعتقد بصلة كلّ ما هو موجود في المجال العامّ ـ سواءٌ أكان روحياً أم مادّياً ـ بذلك السبب الأعمق ، وترى أنّ هذه الصلة هي التي يجب أن يحدّد على ضوئها الموقف العملي والاجتماعي للإنسان تجاه الأشياء جميعاً فالروحية في العرف الإلهي أسلوب في فهم الواقع ، ينطبق على المجال المادّي والمجال الروحي ـ بمعناه المثالي ـ على السواء

ويتلخّص من العرض السابق : أنّ المفاهيم الفلسفية عن العالم ثلاثة وقد درسنا في نظرية المعرفة المفهوم المثالي باعتباره مرتبطاً بها كلّ الارتباط ، واستعرضنا أخطاءه ، فلنتناول في هذه المسألة دراسة المفهومين الآخرين : المادّي والإلهي

وفي المفهوم المادّي اتّجاهان : الاتّجاه الآلي أو الميكانيكي ، والاتّجاه الديالكتيكي والتناقض ، أو المادّية الديناميكية

إيضاح عدّة نقاط عن المفهومين :

وقبل أن نعرض للمفهوم المادّي بكلا اتّجاهيه يجب أن نستوضح عدّة نقاط حول المفهوم الإلهي والمادّي ، وذلك في الأسئلة الآتية :

السؤال الأوّل : ما هي الميزة الأساسية لكلّ من الاتّجاه المادّي (المدرسة المادّية للفلسفة) والاتّجاه الإلهي (المدرسة الإلهية) على الآخر ؟ وما هو الفارق الرئيسي الذي جعل منهما اتّجاهين متعارضين ، ومدرستين متقابلتين ؟

ونظرة واحدة نلقيها على المدرستين تحدّد لنا جواباً واضحاً على هذا

٢٣٥

السؤال ، وهو : أنّ المائز الأساسي للمدرسة المادّية في الفلسفة هو : النفي أو الناحية السلبية ، لما يتراءى أنّه فوق طاقة العلوم التجريبية فلا يوجد في الحقل العلمي إذن- أي : في النواحي الإيجابية للعلم التي تبرهن عليها التجربة ـ إلهي ومادّي فالفيلسوف سواءٌ أكان إلهياً أم مادّياً ، يؤمن بالجانب الإيجابي من العلم ، فهما من الناحية العلمية يسلّمان ـ مثلاً ـ بأنّ (الراديوم) يولِّد طاقة من الإشعاع نتيجة لانقسام داخلي ، وبأنّ الماء يأتلف من أوكسجين وهيدروجين ، وبأنّ عنصر الهيدروجين هو أخفّ العناصر في وزنه الذرّي ويؤمنان معاً بسائر الحقائق الإيجابية التي تظهر على الصعيد العلمي فليس في المسألة العلمية فيلسوف إلهي وآخر مادّي ، وإنّما توجد هاتان الفلسفتان وتتعارض المادّية مع الإلهية حينما تعرض مسألة الوجود فيما وراء الطبيعة فالإلهي يعتقد بلون من الوجود مجرّد عن المادّة ، أي : موجود خارج الحقل التجريبي ، وظواهره وقواه والمادّي ينكر ذلك ويقصر الوجود على ذلك الحقل الخاصّ ، ويعتبر الأسباب الطبيعية التي كشفت عنها التجربة وامتدّت إليها يد العلم ، هي الأسباب الأوّلية للوجود ، وأنّ الطبيعة هي المظهر الوحيد له

فبينما يقرّر الاتّجاه الإلهي : أنّ الروح الإنسانية أو الـ‍ (أنا) ، ذات مجرّدة عن المادّة ، وأنّ الإدراك والفكر ظواهر مستقلّة عن الطبيعة والمادّة ، ينكر المادّي ذلك زاعماً أنّه حلّل جسم الإنسان ، وراقب عمليات الجهاز العصبي ، فلم يجد شيئاً خارج الحدود الطبيعية والمادّية ، كما يدّعي الإلهيون

وكذلك يؤمن الاتّجاه الإلهي بأنّ التطوّرات والحركات التي يكشف عنها العلم ـ سواءٌ كانت حركات ميكانيكية تخضع لسبب مادّي خارجي ، أم حركات طبيعية غير ناشئة من مؤثّرات مادّية معيّنة بالتجربة ـ ترجع في النهاية إلى سبب خارجي وراء سياج الطبيعة والمادّة ويعارض في ذلك المادّي زاعماً أنّ الحركة

٢٣٦

الميكانيكية والحركة الطبيعية لا تتّصلان بسبب مجرّد ، وأنّ الحركة الطبيعية ديناميكية ، فهي تكتفي بنفسها ؛ لأنّ الحقل التجريبي لم يبدُ فيه ما اعتقده الإلهيون من سبب مجرّد

وهكذا يتّضح بكلّ جلاء أنّ التعارض بين الإلهية والمادّية ليس في الحقائق العلمية ؛ فإنّ الإلهي كالمادّي يعترف بجميع الحقائق العلمية التي توضّحها التجارب الصحيحة عن جسم الإنسان وفزلجة أعضائه ، وعن التطوّر والحركة في الطبيعة ، وإنّما يزيد بوضع حقائق أخرى والاعتراف بها فهو يبرهن على وجود جانب روحي مجرّد للإنسان غير ما ظهر منه في الميدان التجريبي ، وعلى سبب مجرّد أعلى للحركات الطبيعية والميكانيكية فوق المجال المحسوس

وما دمنا قد عرفنا أنّ الميدان العلمي ليس فيه إلهي ومادّي ، نعرف أنّ الكيان الفلسفي للمادّية- باعتبارها مدرسة مقابلة للإلهية- إنّما يرتكز على نفي الحقائق المجرّدة ، وإنكار الوجود خارج حدود الطبيعة والمادّة ، لا على حقائق علمية إيجابية

السؤال الثاني : إذا كان التعارض بين الإلهية والمادّية هو تعارض الإثبات والنفي ، فأيّ المدرستين يقع على مسؤوليتها الاستدلال والبرهنة على اتّجاهها الخاصّ الإيجابي أو السلبي ؟

وقد يحلو لبعض المادّيين في هذا المجال أن يتخلّص من مسؤولية الاستدلال ، ويعتبر الإلهي هو المسؤول عن التدليل على مدّعاه ؛ لأنّ الإلهي هو صاحب الموقف الإيجابي ، أي : مدّعي الثبوت ، فيجب عليه أن يبرّر موقفه ويبرهن على وجود ما يدّعيه

ولكنّ الواقع : أنّ كلاً منهما مكلّف بتقديم الأدلّة والمدارك لاتّجاهه الخاصّ ، فكما أنّ الإلهي يجب عليه أن يبرهن على الإثبات ، كذلك المادّي هو

٢٣٧

مسؤول- أيضاً- عن الدليل على النفي ؛ لأنّه لم يجعل القضية الميتافيزيقية موضع الشكّ ، وإنّما نفاها نفياً قاطعاً ، والنفي القاطع كالإثبات القاطع يفتقر إلى الدليل فالمادّي حين زعم أنّ السبب المجرّد لا وجود له ، ادّعى في هذا الزعم ضمناً أنّه أحاط بالوجود كلّه ، ولم يجد فيه موضعاً للسبب المجرّد ، فلابدّ أن يقدّم دليلاً على هذه الإحاطة العامّة ، وتبريراً للنفي المطلق

ونتساءل هنا من جديد : ما هي طبيعة الدليل الذي يمكن للإلهي أو للمادّي أن يقدّمه في هذا المجال ؟

ونجيب أنّ دليل الإثبات أو النفي يجب أن يكون هو العقل ، لا التجربة المباشرة ، خلافاً للمادّية التي درجت على اعتبار التجربة دليلاً على مفهومها الخاصّ ، زاعمة أنّ المفهوم الإلهي أو القضايا الميتافيزيقية بصورة عامّة لا يمكن إثباتها بالتجربة ، وأنّ التجربة هي التي تردّ على تلك المزاعم ؛ لأنّها تحلّل الإنسان والطبيعة ، وتدلّل على عدم وجود أشياء مجرّدة فيهما ؛ ذلك أنّ التجارب والحقائق العلمية إذا صحّ للمادّية ما تزعمه : من أنّها لا تقوم دليلاً على الاتّجاه الإلهي ، فهي- أيضاً- لا تصلح دليلاً للنفي المطلق الذي يحدّد الاتّجاه المادّي ، فقد عرفنا أنّ الحقائق العلمية على اختلاف ألوانها ليست موضعاً للنقاش بين الإلهية والمادّية ، وإنّما النقاش في التفسير الفلسفي لتلك الحقائق ، أي : في وجود سبب أعلى وراء حدود التجربة

ومن الواضح : أنّ التجربة لا يمكن أن تعتبر برهاناً على نفي حقيقة خارج حدودها فالعالِم الطبيعي إذا لم يجد السبب المجرّد في مختبره ، لم يكن هذا دليلاً إلاّ على عدم وجوده في ميدان التجربة ، وأمّا نفي وجوده في مجال فوق مجالات التجربة ، فلا يمكن أن يستنتج من التجربة ذاتها.

ونؤكّد بهذا البيان على أمرين :

٢٣٨

أحدهما : أنّ المادّية بحاجة إلى دليل على الجانب السلبي الذي يميّزها عن الإلهية ، كحاجة الميتافيزيقا إلى برهان على الإيجاب والإثبات

والآخر : أنّ المادّية اتّجاهٌ فلسفي كالإلهية ، ولا توجد لدينا مادّية علمية ، أي : تجريبية ؛ لأنّ العلم ـ كما عرفنا ـ لا يُثبت المفهوم المادّي للعالم لتكون المادّية علمية ، بل كلّ ما يكشف عنه العلم من حقائق وأسرار في عالم الطبيعة ، يترك مجالاً لافتراض سبب أعلى فوق المادّة فالتجربة العلمية- مثلاً- لا يمكن أن تدلّ على أنّ المادّة ليست مخلوقة لسبب مجرّد ، أو على أنّ أشكال الحركة وألوان التطوّر التي استكشفها العلم في شتّى جوانب الطبيعة ، هي حركات وتطوّرات مكتفية ذاتياً ، وليست منبثقة عن سبب فوق حدود التجربة ومجالاتها وهكذا كلّ حقيقة علمية فالدليل على المادّية ـ إذن ـ لا يمكن أن يرتكز على الحقائق العلمية ، أو التجارب بصورة مباشرة ، وإنّما يصاغ في تفسير فلسفي لتلك الحقائق والتجارب ، كالدليل على الإلهية تماماً

ولنأخذ التطوّر لذلك مثلاً ، فالعلم يُثبت وجود التطوّر الطبيعي في عدّة من المجالات ، ويمكن أن يوضَع لهذا التطوّر تفسيران فلسفيان :

أحدهما : أنّه منبثق عن صميم الشيء ، وناتج عن صراع يفترض فيه بين المتناقضات ، وهذا هو تفسير المادّية الديالكتيكية

والآخر : أنّه ناتج عن سبب أعلى مجرّد ، فالطبيعة المتطوّرة لا تحوي في ذاتها المتناقضات ، وإنّما تنطوي على إمكان التطوّر ، وذلك السبب هو الذي يحقّق للإمكان الوجود الفعلي ، وهذا هو تفسير الفلسفة الإلهية فنحن نلاحظ بوضوح : أنّ المفهوم العلمي إنّما هو وجود التطوّر الطبيعي ، وأمّا هذان المفهومان عن الحركة فهما مفهومان فلسفيان ، ولا يمكن أن يتأكّد من صحّة أحدهما ، وخطأ الآخر بالتجربة المباشرة

٢٣٩

السؤال الثالث : إذا لم تكفِ التجربة العلمية بذاتها للبرهنة على المفهوم الإلهي والمادّي على السواء ، فهل يمكن للفكر البشري أن يستدلّ على أحد المفهومين ما داما معاً خارجين عن النطاق التجريبي ؟ أو إنّه يصبح مضطراً إلى الاستسلام للشكّ ، وتجميد مسألة الإلهية والمادّية ، والانصراف إلى المجال العلمي المثمر ؟

والجواب : أنّ القدرة الفكرية للبشر كافية لدرس هذه المسألة ، والانطلاق فيها من التجربة ذاتها ، ولكن لا على أن تكون التجربة هي الدليل المباشر على المفهوم الذي نكوّنه عن العالم ، بل تكون التجربة نقطة الابتداء ، ويوضع المفهوم الفلسفي الصحيح للعالم ـ وهو المفهوم الإلهي ـ على ضوء تفسير التجربة والظواهر التجريبية ، بالمعلومات العقلية المستقلّة

ولا بدّ أنّ القارئ يتذكّر دراستنا- في نظرية المعرفة (المسألة الأولى)- للمذهب العقلي ، وكيف أوضحنا بالبرهان وجود معارف عقلية مستقلّة ، على شكل تبيّن أنّ إضافة معارف عقلية إلى التجربة أمر ضروري لا في مسألتنا الفلسفية فحسب ، بل في جميع المسائل العلمية فما من نظرية علمية ترتكز على أساس تجريبي بحت ، وإنّما تقوم على أساس التجربة ، وعلى ضوء المعلومات العقلية المستقلة فلا تختلف قضيّتنا الفلسفية التي تتناول البحث عمّا وراء عالم الطبيعة ، عن كلّ قضية علمية تبحث عن أحد قوانين الطبيعة ، أو تكشف شيئاً من قواها وأسرارها فالتجربة في جميع ذلك نقطة الانطلاق ، وهي مع ذلك بحاجة إلى تفسير عقلي لتستنتج منها الحقيقة الفلسفية أو العلمية(١)

____________________

(١) وقد أشرنا في بحث (نظريّة المعرفة) إلى أنّ السيّد المؤلّفقدس‌سره توصّل بعد تأليفه لهذا الكتاب إلى مذهب جديد للمعرفة في مقابل المذهب العقلي والتجريبي ، وهو المذهب

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438