الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء11%

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: 528

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء
  • البداية
  • السابق
  • 528 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 71417 / تحميل: 4885
الحجم الحجم الحجم
الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
ISBN: ٩٦٤-٤٦٥-١٦٩-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وخيّل لأبيه معاوية ، وهو صاحب العرش والتّاج أنّ بمقدوره الجمع بين الفجور والقداسة ، بين الشّجرة الملعونة في القرآن ، ومن أذهب الله عنهم الرّجس ، وطهّرهم تطهيرا ، ولكن الحسين ألقى عليه درسا من أهم الدّروس وأبلغها ، وأفهمه أنّه ، وإن امتّد سلطانه ، وكثر ماله فهو أذل من ذليل ، وأخس من خسيس ، وأحقر من أن يكون كفؤا للطّيبين الأبرار ، أفهمه أنّهم أهل بيت لا يتزوّجون ولا يزوّجون زوّاجا تجاريّا ، وإنّ الخصومة بين البيتين ليست على الجاه والسّلطان ، ولا على المال والحطام ، وإنّما هي خصومة في الله ، وبين من كذّب الله وصدّقه(١) .

وهذا هو السّبب الأوّل والأخير الّذي باعد بين العترة الطّاهرة واميّة الفاجرة ، وهذا هو التّفسير الصّحيح لمذبحة كربلاء. ومن الخطأ أن يعدّ من أسباب هذه الكارثة ردّ يزيد حين أراد الزّواج من بنت العقيلة ، ومنعه من الوصول إلى زينب زوّجة عبد الله بن سلّام ، كلّا ، لا سبب إلّا العداء في الله ، إنّ أهل البيت لا يحبّون ولا يبغضون إلّا في الله ، فإذا زوّجوا ، أو تزوّجوا ، أو رفضوا ، فعلى هذا الأساس وحده ، فهو مبدأهم ، وهدفهم ، وشعارهم.

لم يطلبوك بثأر أنت صاحبه

ثأر لعمرك لو لا الله لم يثر(٢)

__________________

(١) انظر ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٢٠٠. ورواه مختصرا صاحب الإصابة : ٨ / ٢٧٩ ، مقدّمة فتح الباري : ١ / ٢٤١ ، معجم ما استعجم : ٢ / ٦٥٩ ، مستدرك الوسائل : ١٥ / ٩٨ ح ٥.

(٢) انظر ، ديوان الأزري الكبير ، للشّيخ كاظم الأزري التّميمي : ٣٠٠.

١٠١
١٠٢

هذا كتاب الله

نكث طلحة والزّبير بيعة الإمام عليّعليه‌السلام ، وتحالفا مع عائشة على حربه ، وجمعوا عليه المجموع يوم الجمل ، ونكّلوا بعامله ابن حنيف ، وقتلوا كثيرا من الصّالحين الآمنين ، وحين قابلوه وجها لوجه ، وشرّعوا عليه السّيوف والرّماح دعا أمير المؤمنين بمصحف ، وقال: («من يأخذه ويدعوهم إلى ما فيه ، فيحيون ما أحياه ، ويميتون ما أمات». فقام فتى ، اسمه مسلم المجاشعي ، وقال : يا أمير المؤمنين أنا آخذه وأدعوهم إلى ما فيه.

فقال له الإمام : إنّك إن فعلت ذلك لمقتول. فقال الفتى : والله يا أمير المؤمنين ما من شيء أحبّ إليّ من الشّهادة بين يديك ، فأخذ المصحف وتوجّه إلى عسكرهم ، فنظر إليه أمير المؤمنين ، وقال : «إنّ الفتى ممّن حشا الله قلبه نورا وإيمانا ، وهو مقتول ، وقد اشفقت عليه من ذلك ، ولن يفلح القوم بعد قتلهم إيّاه» ، فمضى الفتى بالمصحف حتّى وقف بأزاء عسكر عائشة ، وكان له صوت ، فنادى : «معشر النّاس ، هذا كتاب وأنّ أمير المؤمنين عليّ بن طالب يدعوكم إلى الحكم بما أنزل الله فيه ، فأنيبوا إلى طاعة الله ، والعمل بكتابه ، وكانت عائشة وطلحة والزّبير يسمعون فأمسكوا عن الجواب ، وبادر أصحاب الجمل إلى الفتى ، والمصحف في يمينه فقطعوا يده اليمنى ، فتناول المصحف بيده اليسرى ،

١٠٣

وناداهم بأعلى صوته مثل ندائه الأوّل ، فقطعوا يده اليسرى ، فاحتضن المصحف ، ودماؤه تجري عليه ، وناداهم إلى العمل به ، فقتلوه ، قطّعوه إربا إربا ، فقال الإمام : «والله ما كنت في شك ولا لبس من ظلالة القوم وباطلهم ، ولكن أحببت أن يتبيّن لكم ذلك»)(١) .

أحبّ الإمام أن يبيّن للنّاس وللأجيال أنّه ومن اتّبعه على حقّ وهداية ، وأنّ من حاربه وعانده على باطل وضلالة ، أراد أن يقيم الدّليل المحسوس الملموس على أنّه إمام العدل والرّحمة ، وخصومه أئمّة الظّلم والجور :( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) .

وهكذا فعل ولده الحسين يوم الطّفّ ، فما أن كانت صبيحة اليوم العاشر من المحرّم حتّى لبس عمامة جدّه رسول الله ورداءه ، وتقلّد سيف جدّه ، وركب ناقة أو فرسه المعروفة ، ووضع المصحف أمامه ، واتّجه إلى الّذين تجمعوا على قتله ، وشرّعوا السّيوف والرّماح في وجهه ، ورفع يديه إلى السّماء ، وقال على مسمع من الجميع :

«أللهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ، وأنت رجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة ، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد ، وتقل فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصّديق ، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك ، وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمّن سواك ، ففرجته عنّي وكشفته وكفيته؟! فأنت ولي كلّ نعمة وصاحب كلّ حسنة

__________________

(١) انظر ، الفتوح لابن أعثم : ١ / ٤٦٥ ، ابن حزم في الجمهرة : ١٦٢ ، الأغاني : ١٠ / ٢٠٣ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٩ / ١١٢ تحقيق محمّد أبو الفضل ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٥١٧ و ، ٥ / ٢٠٦ و ٢١٦ ، و : ٣ / ٥٢٢ ، اسد الغابة : ٣ / ٣٠٨ ، نسب قريش : ١٩٣ ، مروج الذّهب : ٢ / ٩ و ١٣.

(٢) الأنفال : ٤٢.

١٠٤

ومنتهى كل رغبة»(١) .

وبعد أن ناجى ربّه بهذه الدّموع الحزينة ، والقلب النّقي التفت إلى جموع الضّلال ، وقال :

«أيّها النّاس اسمعوا قولي ، ولا تعجلوني حتّى أعظكم بما يجب لكم عليّ. وحتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري ، وصدّقتم قولي ، وأنصفتموني ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل ، وإن لم تقبلوا منّي العذر فاجمعوا أمركم وشركائكم ، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثمّ اقضوا إليّ ولا تنظرون وليي الله الّذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصّالحين».

«أمّا بعد. فانسبوني ، فانظروا من أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها ، وانظروا : هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابن وصيّه وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله ، والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيّد الشّهداء عمّ أبي ، أو ليس جعفر الشّهيد الطّيّار عمّي؟ أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي ولأخي : «هذان سيّدا شباب أهل الجنّة»(٢) ؟ فإن صدّقتموني بما أقول ـ وهو الحقّ ـ والله ما تعمدت

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٣١٨ ، ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر : ٣١٣ ، تأريخ دمشق : ١٤ / ٢١٧ ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ٥٦١ ، نظم درّر السّمطين : ٢١٦ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٨٣.

(٢) انظر ، كنز العمّال : ٦ / ٢٢٠ و ٢٢١ و ٢١٧ ، و : ٧ / ١٠٧ و ١١١ و ١٠٨ ، و : ١٢ / ٩٦ و : ١٢ / ٣٤٢٤٦ ، و : ١٣ / ٣٧٦٨٢ ، صحيح التّرمذي : ٢ / ٣٠٦ و ٣٠٧ ، مسند أحمد : ٣ / ٣ و ٦٢ و ٨٢ ، حلية الأولياء : ٥ / ٧١ و ١٣٩ ، و : ٤ / ١٣٩ و ١٩٠ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ١٨٢ ـ ١٨٤ و ١٨٧ ، تأريخ بغداد : ٩ / ٢٣١ و ٢٣٢ ، و : ١٠ / ٩٠ و ٢٣٠ ، و : ١ / ١٤٠ ، و : ٢ / ١٨٥ ، و : ١٢ / ٤ ، و : ٦ / ٣٧٢ ، الإصابة : ١ / ق ١ / ٢٦٦ ، و : ٦ / ق ٤ / ١٨٦ ، مناقب أمير المؤمنين محمّد بن سليمان الكوفي : ٣ / ـ

١٠٥

كذبا مذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ، ويضرّ به من اختلقه ، وإن كذبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم : سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهل بن سعد السّاعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ٩ لي ولأخي ، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟».

فقال له شمر بن ذي الجوشن :

هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.

فقال له حبيب بن مظاهر :

والله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفا وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك.

ثمّ قال لهم الحسين :

«فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكّون في أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم ، وأنا ابن بنت نبيّكم خاصّة. أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟ أو مال لكم استهلكته؟ أو

__________________

ـ ٢٥٩ ، الجامع الصّغير للسّيوطي : ١ / ١٩.

وانظر ، ذخائر العقبى : ١٣٥ و ١٣٠ و ١٢٩ ، كنوز الحقائق : ١١٨ و ٨١ و ٣٦ ، خصائص النّسائي: ٣٤ و ٣٦ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٤٤ / ١١٨ ، باب فضائل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأورده الحاكم في المستدرك : ٣ / ١٦٧ و ٣٨١ ، تأريخ دمشق : ٧ / ١٠٣ ، اسد الغابة : ٥ / ٥٧٤ ، ابن حبّان في صحيحه : ٢١٨ ، تهذيب التّهذيب : ٣ / في ترجمة زياد بن جبير ، سنن التّرمذي : ٥ / ٣٢١ / ٣٨٥٦ و : ٣٢٦ / ٣٨٧٠ ، الفضائل لأحمد : ٢ / ٧٧٩ / ١٣٨٤ ، الصّواعق : ١٨٧ و ١٩١ ب ١١ فصل ٢ ، الجامع الصّغير : ١ / ٥٨٩ / ٣٨٢٠ و ٣٨٢١ و ٣٨٢٢ ، منهاج السّنّة : ٤ / ٢٠٩ ، فرائد السّمطين : ٢ / ٣٥ و ١٤٠ و ١٣٤ و ١٥٣ و ٢٥٩ ، الخرائج والجرائح : ٢٨٩ ، ينابيع المودّة : ٣٦٩ و ٣٧٢.

١٠٦

بقصاص من جراحة؟»؟(١) .

ولم يرد الحسين بهذه المظاهرة الّتي اهتزّت لها الأرض والسّماء ، وأغضبت الله في عرشه ، وأبكت محمّدا في قبره أن يستعطف ويسترحم ، كلّا ، أنّه أجل وأعظم من أن يطلب العطف من اللّئام والطّغام ، هذا ، إلى أنّه أعلم النّاس بما هم عليه من القساوة والفظاظة ؛ لقد أراد الحسين أن يثبت للعالم أن لا هدف لأعدائه وخصومه إلّا التّشفي والإنتقام من الإسلام ونبيّ الإسلام ، أراد كما أراد أبوه من قبل أن يبيّن للأجيال أنّ الولاء لأهل البيت ولاء لله وللرّسول ، وأنّ حربهم حرب لله وللرّسول.

وقد أدرك شيعة أهل البيت هذه الحقيقة ، فاتّخذوها شعارا لهم ولعقيدتهم. وأعلنوها في كلّ موطن وموقف تقربّا إلى الله ورسوله وعترته الأطهار.

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٣١٩ و : ٤ / ٢٨٠ ـ ٢٨١.

١٠٧
١٠٨

يوم الطّفّ يوم الفصل

أنّ يوم الطّفّ يشبه يوم القيامة من جهات :

١ ـ قال الله سبحانه :( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) (١) .

وعد الشّيطان أتباعه بالفوز والنّجاة ، وحذّرهم الله منه ، فعصوا الرّحمن ، واتّبعوا الشّيطان ، ولمّا جاء يوم الفصل أنكرهم ، وتبرأ منهم ، وقال :( إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ ) (٢) .

و (وعد عبيد الله بن زياد عمر بن سعد ولاية الرّي)(٣) إذا قاتل الحسين ، وكان يتطلّع إليها ، ويطمع فيها ، فقبل وقاد الجيوش ، وحذّره سيّد الشّهداء من العاقبة ،

__________________

(١) إبراهيم : ٢٢.

(٢) المائدة : ٢٨.

(٣) انظر ، الرّي : مدينة مشهورة من أمّهات البلاد وأعلام المدن كثيرة الفواكه والخيرات ، وهي محطّ الحاج ، وهي بين نيسابور ودارين ، وقال الإصطخري : هي مدينة ليس بعد بغداد في المشرق أعمر منها. وقال الأصمعي : هي عروس الدّنيا وإليها يتّجر النّاس : ٣٥٥ ـ ٣٥٨ ، معجم البلدان : ج ٤. انظر ، الطّبقات الكبرى : ٥ / ١٢٥ ، مروج الذّهب : ٤ / ٧٠ و : ٥ / ١٤٣ و ١٤٧ و ١٧٤ و ١٩٦ ، الكامل في التّأريخ : ٤ / ٢١ ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤٠٩ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٥٠.

١٠٩

وقال له : يا ابن سعد أتقاتلني؟! أما تتقي الله الّذي إليه معادك؟ أتقاتلني وأنا ابن من علمت؟ ألا تكون معي ، وتدع هؤلاء ؛ فإنّه أقرب إلى الله تعالى؟!

ولمّا آيس منه الحسين قال له : «مالك؟ ذبحك الله على فراشك عاجلا ، ولا غفر لك يوم الحشر ، فو الله إنّي لأرجو ألّا تأكل من برّ العراق إلّا يسيرا».

فقال ابن سعد مستهزءا

في الشّعير كفاية(١) .

واخلف ابن زياد بوعده لابن سعد ، كما أخلف الشّيطان مع أتباعه ، وصدق الحسين ، فلم تمض الأيّام حتّى قتل عمر وابنه حفص على يد المختار.

٢ ـ قال تعالى في صفة أهل النّار :( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا ) (٢) . وهذه بالذات صفات الّذين حاربوا الحسين في كربلاء ، فقد وعظهم وحذّرهم ، وذكّرهم بكتاب الله وآياته ، ولكنّهم صمّوا عن النّبأ العظيم كما عموا :

وذكرت ما فجّر الصّخور فلم يكن

إلّا قلوبهم هناك صخور

٣ ـ قال تعالى :( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) (٣) . ينادي المنادي يوم القيامة : أين أهل الحقّ الّذين اتّبعوا المصلحين؟ فتأتي بهم الملائكة يزفّون إلى الجنّة. ثمّ يقال : هاتوا متبعي رؤوس الضّلالة فتسوقهم الزّبانية إلى جهنّم(٤) .

__________________

(١) انظر ، الكامل في التّأريخ لابن الأثير : ٣ / ٢٨٣ و : ٤ / ٥٥٤ ، الفتوح لابن أعثم : ٥ / ١٠٣ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ٢٤٥ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٨٩.

(٢) الإسراء : ٩٧.

(٣) الإسراء : ٧١.

(٤) انظر ، تفسير القرطبي : ١٠ / ٢٩٧ ، احكام القرآن للجصّاص : ٣ / ٢٦٧.

١١٠

وقاد ابن سعد أهل الكوفة إلى غضب الله ونقمته ، وقاد الحسين أصحابه إلى رضوان الله ورحمته.

جاء الحديث عن النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه إذا كان يوم القيامة أقول لأمّتي : كيف خلّفتموني في الثّقلين؟ فيقولون : أمّا الأكبر فعصيناه ، وأمّا الأصغر فقتلناه. فأقول : اسلكوا طريق قادتكم ، فينصرفون ضمّا مسودّة وجوههم»(١) .

٤ ـ قال تعالى :( وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) (٢) . وانقسم النّاس في كربلاء فريقين : فريقا مع الحسين ، وفريقا مع ابن سعد ، وبرز كلّ إنسان على حقيقته ، وأخذ المكان الّذي يستحقه ، فلم يختلط الطّالح مع الصّالحين ، ولا الصّالح مع المجرمين ، تماما كما هو الشّأن في يوم القيامة ، حيث لا رياء ، ولا نفاق ، ومساومات.

وقد اختلط ، في بدء الأمر وقبل المعركة ، الطّيب بالخبيثين ، والخبيث بالطّيبين ، فكان مع ابن سعد الحرّ الرّياحي ، وأبو الشّعثاء الكندي ، وحين جدّ الجدّ ، وجاء دور الغربلة والتّصفية عدلا إلى الحسين ، واستشهدا بين يديه. وبايع الحسين قوم على الموت ، وكاتبوه ، ثمّ نكثوا ، وعادوا إلى طبيعتهم. وهكذا لم يبق مع ابن سعد إلّا من كان على شاكلته لؤما وخساسة يوردهم النّار ، وبئس الورد المورود ، ولم يبق مع الحسين إلّا صفوة الصّفوة يسير بهم إلى الجنّة حتّى إذا جاؤها قال لهم خزنتها سلام عليكم فنعم عقبى الدّار.

ومن تتبّع سيرة أصحاب الحسين لا يجد لإخلاصهم وعزمهم نظيرا بين

__________________

(١) انظر ، الخصال : ٤٥٩ ، المسترشد : ٦٧٩ ، مثير الأحزان : ١٠.

(٢) الشّورى : ٧.

١١١

الشّهداء ، واتّباع الأنبياء ، كما لا يجد شبها لتضحيات الحسين في التّأريخ كلّه. وقد اثنى عليهم الشّعراء بما هم أهل لأكثر منه. قال الشّيخ حسن البحراني يصف إيمانهم وورعهم:(١) .

إن ينطقوا ذكروا أو يسكتوا فكروا

أو يغضبوا غفروا أزو يقطعوا وز صلوا

أو يظلموا صفحوا أو يوزنوا رجحوا

أو يسألوا سمحوا أو يحكموا عدلوا

وقال السّيّد مهدي الحلّي في شجاعتهم :

من تحتهم لو تزول الأرض لا تنصبوا

على الهوى هضبا أرسى من الهضب

وتكفيهم شهادة الحسين عن كلّ مدح وثناء ، قال : «والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلّا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطّفل بمحالب أمّه»(٢) .

وقال فيهم أيضا : «... أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي جميعا»(٣) .

روي أنّ الحسين كان في يوم الطّفّ كلّما اشتّد الأمر أشرق وجهه ، وهدأت جوارحه ، وسكنت نفسه ، حتّى قال النّاس بعضهم لبعض : انظروا لا يبالي بالموت! وكيف يبالي بالموت ، وهو ابن القائل : «دخلت إلى الموت ، أو خرج

__________________

(١) انظر ، الشّيعة في الميزان : ٨٢٦ بتحقّيقنا ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٤٣٦ ، الصّراط المستقيم : ٢ / ٢١٤.

(٢) انظر ، مقتل الحسين للمقرّم : ٢٦٢.

(٣) انظر ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٣٢١ ، المطبعة الحيدريّة سنة (١٩٦٢ م ـ ١٣٨١ ه‍). و : ٢ / ٩١ ، العوالم : ٢٤٣ ، إعلام الورى : ١ / ٤٥٥.

١١٢

الموت إليّ»(١) ، أو كما قال : «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدي أمّه»(٢) . وهكذا كان أصحاب الحسين لا يبالون بالموت ، بل يستبشرون به حيث يعلمون أنّهم على حقّ ، وغيرهم على باطل ، فهم على يقين أنّهم سيقفون بين يدي الله مرفوعي الرّؤوس ، موفوري الكرامة.

قال برير بن خضير الهمداني لعبد الرّحمن الأنصاري : ولكنّي لمستبشر بما نحن لاقون ، والله ما بيننا وبين الحور العين إلّا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم ، وودّدت أنّهم مالوا علينا السّاعة»(٣) .

هذه صورة صادقة ناطقة بحقيقة الأصحاب جميعا ، وأنّهم عند ثقة الإمام وقوله : «يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطّفل بمحالب أمّه». لقد رخصت عندهم الأرواح ، ولم يكترثوا بالمال ، والعيال ، ما داموا مع النّبيّ وآله.

وقال الحرّ الرّياحي : «إنّي أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار ، فو الله لا اختار على الجنّة شيئا ، ولو قطّعت وحرّقت»(٤) . أيقن الحرّ أنّ الجنّة مع الحسين ، وأنّ ثمنها القتل ، وأنّ الحياة «قليلا» مع ابن سعد ، ثمّ يعقبها العذاب الدّائم ، فاختار الموت مع الحقّ على الحياة مع الباطل ، وكان مثالا صادقا لقول الإمام : «أمّا بعد. فقد نزل من الأمر بنا ما ترون ، وإنّ الدّنيا قد تغيّرت وتنكّرت ، وادبر معروفها ، ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى

__________________

(١) انظر ، شرح الخطبة : (٥٥).

(٢) انظر ، شرح الخطبة : (٥).

(٣) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤٢١ و ٤٢٣ ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ١٠٦ ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٣٧ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١١٢.

(٤) انظر ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١٢١ ، إعلام الورى بأعلام الهدى : ٤٦٠.

١١٣

الحقّ لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله ، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة ، والحياة مع الظّالمين إلّا برما»(١) .

وتقدّم جون مولى أبي ذرّ(٢) يطلب من الإمام الإذن بالبراز فقال له الإمام : «إذهب لشأنك ، إنّما طلبتنا للعافية فلا تبتل بطريقتنا ، فصعق جون من هذا الجواب ، وقال : يا ابن رسول الله : أنا في الرّخاء ألحس قصاعكم ، وفي الشّدة أخذلكم! والله أنّ ريحي لمنتن ، وإنّ حسبي للئيم ، وإنّ لوني لأسود ، فتنفس عليّ بالجنّة ، فيطيب ريحي ، ويشرف حسبي ، ويبيّض وجهي ، لا والله لا أفارقكم حتّى يختلط هذا الدّم الأسود بدمائكم»(٣) .

أي والله إنّ الجنّة في أنفاس الحسين ، وفي التّراب الّذي اريق عليه دم الحسين ، وأنّ بياض الوجه عند الله في الإستشهاد بين يدي الحسين ، وأنّ الدّم

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٣٠٧ ، و : ٤ / ٣٠٥ طبعة آخر ، و : ٥ / ٤٢٥ ـ ٤٢٦ طبعة سنة ١٩٦٤ م ، ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ) : ٢١٤.

(٢) جون : عبد اشتراه الإمام عليّ بن أبي طالب ، ووهبه الصّخابي الجليل أبي ذرّ ، يعينه على متاعب الحياة ، وبعد وفاة أبي ذرّ انتقل جون إلى بيت الإمام عليّ ، وبعد وفاة الإمام عليّ انتقل إلى بيت الحسن ، وبعده إلى بيت الحسين ، وحين خرج إلى العراق صحبه معه. وهكذا نشأ جون في أطهر البيوت وأقدسها ، وكانت له هذه الخاتمة الطّيبة ، جون عبد رقّ يباع ويشترى كالسّلع والحيوانات ، ويزيد عربي قرشي يأمر وينهى ، وتخضع له رقاب المسلمين فيا للغبن وسخرية الأوضاع ورحم الله أبا العلاء ، القائل :

أليس قريشكم قتلت حسينا

وصار على خلافتكم يزيد

انظر ، الدّيوان : ١٦٥ ، مقتل الحسين : ١ / ٢٣٧ ، و : ٢ / ١٩ ، بحار الأنوار : ٤٥ / ٢٢ و ٧١ و : ٩٨ / ٢٧٣. رجال الشّيخ الطّوسي : ٧٢ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣١٨ و : ٥ / ٤٢٠ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ٢٥٣ و : ٤ / ١٠٣ ، شرح الأخبار : ٣ / ٢٤٦.

(٣) انظر ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٩٤ ـ ٩٦.

١١٤

الحسيب النّسيب هو الّذي يختلط بدماء الحسين.

لقد امتاز شهداء الطّفّ بأمور :

«منها» : أن ضمّتهم والحسين تربة واحدة ، ومقام واحد ، حتّى أصبحت قبورهم مزارا لجميع زوار الحسين.

و «منها» : أنّهم ذهبوا إلى الله والرّسول في وفد يرئسه الحسين.

و «منها» : اختلاط دمائهم بدماء الحسين ، وارتفاع رؤوسهم مع رأسه على الرّماح ، ووطء أجسامهم مع جسمه.

سلّ كربلاء كم حوت منهم بدور دجى

كأنّها فلك للأنجم الزّهر

ويذكّرنا موقف جون في كربلاء بموقف عمرو بن الجموح في أحد ، كان عمرو من أصحاب الرّسول ، وكان رجلا أعرج ، وله بنون أربعة يشهدون المشاهد مع النّبيّ ، ويوم أحد خرج أولاده مع الرّسول ، فأراد هو الخروج أيضا فحاول قومه أن يحبسوه ، وقالوا له : أنت رجل أعرج ، ولا حرج عليك ، وقد ذهب بنوك مع النّبيّ ، وماذا تبغي بعد هذا؟!.

فقال : يذهب أولادي إلى الجنّة ، وأجلس أنا عندكم ثمّ أخذ درقته ، وذهب وهو يقول : أللهمّ لا تردّني إلى أهلي ، فخرج ولحقه بعض قومه. يكلمونه في القعود ، فأبى وجاء إلى النّبيّ ، وقال له : يا رسول الله : أنّ قومي يريدون أن يحبسوني عن هذه المكرمة والخروج معك ، والله إنّي أرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنّة.

فقال له : أمّا أنت ، فقد عذرك الله ، ولا جهاد عليك ، فأبى ، فقال النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله

١١٥

لقومه وبنيه : لا عليكم أن تمنعوه ، لعلّ الله يرزقه الشّهادة ، فخلّوا سبيله فاستشهد رضوان الله عليه»(١) .

__________________

(١) انظر ، سنن البيهقي الكبرى : ٩ / ٢٤ ح ١٧٥٩٩ ، الجهاد لابن المبارك : ١ / ٥٩ ح ٧٨ ، صفوة الصّفوة : ١ / ٦٤٦ ، الإصابة : ٦ / ٤٥١ ، السّيرة النّبويّة : ٤ / ٣٩ ، تفسير القرطبي : ٨ / ٢٢٦.

١١٦

يوم الفتح

قال الإمام الصّادقعليه‌السلام : «أنّ الحسين لمّا فصل متوجها إلى العراق أمر بقرطاس ، وكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم من الحسين بن عليّ إلى بني هاشم ، أمّا بعد ؛ فإنّه من لحق بي استشهد ، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح ، والسّلام»(١) .

ولم يرد الإمام بالفتح فتح البلاد والممالك ، وإنّما أراد ظهور أمر الله ، وانتصار كلمة الإسلام ، وقد كان الإمام على يقين من هذا الإنتصار ، ولذا قال : ومن تخلّف لم يدرك الفتح ، أي لم ينل شرف الجهاد في سبيل الدّين(٢) . حاربت أميّة صاحب الدّعوة ، وهي على الشّرك ظاهرا وباطنا ، ولمّا جاء نصر الله والفتح استسلمت ، وأظهرت الإسلام ، وأبطنت الكفر ، ولمّا انتقل النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ربّه عادت إلى محاربة الإسلام ، ولكن عن طريق الكيد والتّآمر ، كما تدل حكاية أبي سفيان مع الإمام حين بويع أبو بكر بالخلافة ، حيث قال أبو سفيان لعليّ : «إن شئت ملأتها لك عليهم خيلا ورجالا»(٣) .

وقال للإمام : «والله إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلّا دمّ يا آل عبد مناف ، فيما

__________________

(١) انظر ، اللهوف في قتلى الطّفوف السّيّد ابن طاوس الحسني : ٤٠.

(٢) انظر ، كامل الزّيارات لابن قولوية : ٧٥.

(٣) انظر ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١ / ٧٤.

١١٧

أبو بكر من أموركم ، أين المستضعفان ، أين الأذلان عليّ والعبّاس»(١) .

فردّه الإمام وأفهمه أنّه منافق يغش الإسلام ، ويكيد للمسلمين.

ظنّ أبو سفيان أنّ الفرصة قد سنحت لبلوغ مآربه بموت الرّسول ، والنّزاع على الخلافة ، وما درى أنّ عليّا حامي حمى الإسلام له بالمرصاد ، كما كان له في بدر ، واحد ، والأحزاب ؛ وتمضي الأيّام ، ويصبح ابن أبي سفيان ملكا على المسلمين ، فحاول أن يؤسّس للفكر والإلحاد ، ويجعل الملك في نسل الشّرّاك إلى آخر يوم ، ولكن الحسين له بالمرصاد كما كان عليّ لأبيه من قبل.

رأينا الإستعمار إذا ثارت عليه الشّعوب المستضعفة ، وأرادت ، التّحرر من نيره واستغلاله يختار من أهل البلاد خائنا كيزيد ، وينصّبه حاكما على الشّعب ، ويمنحه اسم الإستقلال ، فيكّون للخائن الإسم ، وللإستعمار الحكم ، وتبقى الأوضاع كما كانت ، أو أسوأ حيث صبغت بالصّبغة الشّرعيّة ، كما فعلت فرنسا بسورية ولبنان ، والإنجليز في مصر أيّام فاروق ، وفي العراق أيّام نوري سعيد ، يقول الشّاعر العراقي مخاطبا حاكم العراق في عهد الإنجليز :

فأنت للحكم اسم

والإنجليز المسمّى

وهذا ما أراد معاوية تطبيقه بالذات من خلافة ولده يزيد ، واستمرار الملك في نسل أبي سفيان ، أراد أن يكون الإسم للإسلام في الظّاهر ، والحكم للشّرك والإلحاد في الواقع. وسلك كلّ سبيل لتحقّيق هذه الغاية ، فمن دس السّم بالعسل ، إلى القتل بالسّيف ، ومن دفن الأحياء ، إلى سبّ الأموات ، إلى ما لا نهاية لجرائمه وموبقاته.

__________________

(١) انظر ، المصدر السّابق : ٣ / ٢٠٢.

١١٨

وما كانت لتخفى هذه الحقيقة على الحسين ، وما كان ابن عليّ ليبخل بدمه على دين جدّه ، كيف وهو القائل : «فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة ، والحياة مع الظّالمين إلّا برما»(١) . رأى الحسين أنّ الأمويّين يخدعون النّاس باسم الإسلام ، كما يخدع عميل الإستعمار الشّعب باسم الإستقلال ، فأراد الإمام أن يفضحهم ، ويثبت للملأ أنّهم أعدى أعداء الإسلام ، فنهض باسم الدّين ، وحقوق المسلمين ، يمثّل شعور كلّ مسلم لا يستطيع الجهر بما ينوي ويضمر ، نهض وهو أعزل إلّا من الحقّ ، وجابه الباطل صاحب العدّة والعدد ، ودعا إلى كتاب الله ، وسنّة الرّسول ، فقتله الأمويون ، وذبحوا أطفال الرّسول وسبوا نساءه ، لا لشيء إلّا لأنّهم دعاة للدّين ، والحقّ ، فعرف النّاس بعد وقعة الطّفّ أنّ الأمويّين ما زالوا مشركين ، كما كانوا يوم بدر ، واحد ، والأحزاب ، وأنّهم لم يؤمنوا بالله ورسوله طرفة عين ، وأنّهم يضمرون للإسلام كلّ شرّ وعناد ، وقد صور الشّاعر هذه الحقيقة بقوله يصف يزيد بن معاوية(٢) :

لئن جرت لفظة التّوحيد في فمه

فسيفه بسوى التّوحيد ما فتكا

قد أصبح الدّين منه يشتكي سقما

وما إلى أحد غير الحسين شكا

فما رأى السّبط للدّين الحنيف شفا

إلّا إذا دمه في كربلاء سفكا

* * *

يا ويّح دهر جنى بالطّفّ بين بني

محمّد وبني سفيان معتركا

حاشا بني فاطم ما القوم كفؤهم

شجاعة لا ولا جودا ولا نسكا

ما ينقم النّاس منهم غير أنّهم

ينهون أن تعبد الأوثان والشّركا

__________________

(١) تقدّمت تخريجاته.

(٢) انظر ، ديوان سيّد جعفر الحلّي : ١٧٦.

١١٩

وكان لفاجعة كربلاء دوي هائل اهتّزت له الدّنيا بكاملها ، حتّى كأنّ النّبيّ نفسه هو المقتول. وقامت الثّورات في كلّ مكان يتلو بعضها بعضا ، حتّى زالت دولة الأمويّين من الوجود ، وتمّت كلمة الله بالقضاء على الشّرك المستتر باسم الإسلام ، وهذا ما عناه الحسين بقوله لبني هاشم : «ومن تخلّف لم يبلغ الفتح ، والسّلام»(١) .

وإذا أردت مثالا يوضّح هذه الحقيقة فانظر إلى المظاهرات الّتي تقوم بها الشّعوب ضدّ الحاكم الخائن ، فإنّ المتظاهرين يعلمون علم اليقين أنّه سيطلق عليهم النّار ، وأنّ القتلى ستقع منهم بالعشرات ، ومع ذلك يقدمون ولا يكترثون بالموت ، لأنّ غايتهم أن يفتضح هذا الخائن ، وأن يعرف العالم مقاصده ونواياه ، فينهار حكمه ، ويبيد سلطانه ، وتكون الدّماء البريئة ثمنا لتحرر البلاد من العبودية والإستغلال.

ومن هنا كان لأصحابها هذا التّقديس ، والتّعظيم ، تقام لهم التّماثيل في كلّ مكان ، وتسمّى باسمائهم فرق الجيش والشّوراع ، وتشاد الأندية والمعاهد ، ويرتفع شأن اسرهم إلى أعلى مكان ، ومن قبل لم يكونوا شيئا مذكورا.

ودماء كربلاء لم تكن ثمنا لحرّية فرد أو شعب أو جيل ، بل ثمنا للدّين الحنيف ، والإنسانيّة جمعاء ، ثمنا لكتاب الله وسنّة الرّسول ومن هنا كان لها ما للقرآن والإسلام من التّقديس والإجلال ، كما أنّ لدماء الأحرار ما لأوطانهم من التّكريم والتّعظيم ، وكان لبني هاشم اسرة الحسين ما كان لأسر الشّهداء الأحرار.

__________________

(١) انظر ، اللهوف في قتلى الطّفوف السّيّد ابن طاوس الحسني : ٤٠ ، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب : ٣ / ٢٣٠.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

صاحبُ الدَّيْن بكذا ، فصدّقه وقلنا : إذا صدّق مدّعي الوكالة فلا يلزمه الدفع إليه ، فالأقرب : إنّه يلزمه الدفع إليه ؛ لأنّه يقول : الحقّ لك وأنّه لا حقّ لغيرك علَيَّ ، فصار كالوارث ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والثاني : لا يلزمه الدفع إليه ؛ لأنّه دَفْعٌ غير مبرئ ، فلا يأمن أن يجحد المحيل الحوالةَ فيحلف ، ويستحقّ الرجوع عليه ، كما قلنا في الوكالة قد ينكر الموكّل الوكالةَ.

ويفارق الميراث ؛ لأنّه آمن من ذلك ، لأنّه إذا لم يكن وارث غيره فقد أمن الغرامة.

ويبنى على الوجهين أنّه لو كذّبه ولم تكن بيّنة هل له تحليفه؟ إن ألزمناه الدفع إليه فله تحليفه ، وإلّا فكما سبق(١) .

مسألة ٧٩٩ : لو قال : مات زيد وله عندي كذا وهذا وصيّه ، فهو كما لو قال : هذا وارثه‌. ولو قال : مات وقد أوصى به لهذا الرجل ، فهو كما لو أقرّ بالحوالة.

وإذا أوجبنا الدفع إلى الوارث والوصي أو لم نوجب فدفع ثمّ بانَ أنّ المالك حيّ وغرم الدافع ، فله الرجوع على المدفوع إليه ، بخلاف صورة الوكالة ؛ لأنّه صدّقه على الوكالة ، وإنكار صاحب الحقّ لا يرفع تصديقه ، فصدق الوكيل لاحتمال أنّه وكّل ثمّ جحد ، وهنا بخلافه ، والحوالة في ذلك كالوكالة.

مسألة ٨٠٠ : إذا ادّعى على إنسان أنّه دفع إليه متاعاً ليبيعه ويقبض ثمنه وطالَبه بردّه‌ ، أو قال : بعتَه وقبضتَ ثمنه فسلِّمه إلَيَّ ، فأنكر المدّعى عليه ، فأقام المدّعي بيّنةً على أنّه ما أدّاه ، فادّعى المدّعى عليه أنّه كان قد تلف أو ردّه ، فيُنظر في صيغة جحوده.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٣ ، بحر المذهب ٨ : ٢٠٦ ، البيان ٦ : ٤٠٦ - ٤٠٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٠ - ٢٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٧١.

٢٠١

فإن قال : « ما لك ع ندي شي‌ء » أو « لا يلزمني تسليم شي‌ء إليك » قُبِل قوله في الردّ والتلف ؛ لأنّه إذا كان قد تلف أو ردّه ، كان صادقاً في إنكاره ، ولم يكن بين كلاميه تناقضٌ. وإن أقام عليه بيّنةً سُمعت بيّنته.

وإن كانت صيغة جحوده : « أنّك ما وكّلتني » أو « ما دفعتَ إلَيَّ شيئاً » أو « ما قبضت الثمن » نُظر إن ادّعى التلفَ أو الردَّ قبل أن يجحد ، لم يُصدَّقْ ؛ لأنّه مناقض للقول الأوّل ، ولزمه الضمان.

وإن أقام بيّنةً على ما ادّعاه ، فوجهان للشافعيّة :

أوّلهما عندهم : إنّها تُسمع ؛ لأنّه لو صدّقه المدّعي لسقط الضمان عنه ، فكذلك إذا قامت الحجّة عليه. وأيضاً فلما يأتي في الوديعة.

والثاني - وهو الأظهر عند الجويني - : أنّها لا تُسمع ؛ لأنّه بجحوده الأوّل كذّب هذه البيّنةَ ، ولأنّه لا تُسمع دعواه ، وكلّ بيّنةٍ تقام فإنّ قيامها يستدعي دعوى مَنْ يقيمها ، فإذا فسدت الدعوى استقلّت البيّنة ، وهي غير مسموعةٍ من غير دعوى.

لكن عدم سماع الدعوى ليس متّفقاً عليه ، ومَنْ يسمع البيّنة يسمع الدعوى لا محالة ، فإذَنْ الخلاف في سماع البيّنة يجري في سماع الدعوى ، بل يجوز أن تكون الدعوى مسموعةً جزماً ، مع الخلاف في سماع البيّنة ؛ إذ الدعوى قد تُسمع بمجرّد تحليف الخصم(١) .

وإن ادّعى الردَّ بعد الجحود ، لم يُصدَّقْ ؛ لصيرورته خائناً.

لكن لو أقام بيّنةً ، فالمشهور عند الشافعيّة في هذا الباب أنّها تُسمع ؛ لأنّ غايته أن يكون كالغاصب في ابتداء الأمر ، ومعلومٌ أنّه لو أقام بيّنةً على‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧١ - ٢٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٧٢.

٢٠٢

الردّ تُسمع (١) .

ور أى الجويني أن يكون سماع بيّنته على الوجهين السابقين ؛ لتناقض دعوى الردّ والجحود(٢) .

وإن ادّعى التلف بعد الجحود ، صُدّق بيمينه لتنقطع عنه المطالبة بردّ العين ، ولكن يلزمه الضمان ؛ لخيانته ، كما لو ادّعى الغاصب التلفَ.

مسألة ٨٠١ : قد بيّنّا أنّه يجب على الوكيل رعاية تنصيص الموكّل واتّباع أمره والعدول عن مخالفته‌ ، فإذا قال له : بِعْ هذا ثمّ هذا ، وجب عليه الامتثال في الترتيب.

ولو جَعَل للوكيل بالبيع جُعْلاً فباع ، استحقّه ؛ لأنّه فَعَل ما أمره به وإن تلف الثمن في يده ؛ لأنّ استحقاقه بالعمل وقد عمل.

فإذا ادّعى خيانةً عليه ، لم تُسمع حتى يبيّن القدر الذي خان به بأن يقول : بعتَ بعشرةٍ وما دفعتَ إلَيَّ إلّا خمسةً.

وإذا وكّل بقبض دَيْنٍ أو استرداد وديعةٍ ، فقال المديون والمودع : دفعتُ ، وصدّقه الموكّل وأنكر الوكيل ، غرم الدافع بترك الإشهاد - وهو أحد وجهي الشافعيّة(٣) - كما لو ترك الوكيل بقضاء الدَّيْن الإشهادَ.

وإذا قال شخص : أنا وكيل في بيعٍ أو نكاحٍ ، وصدّقه مَنْ يعامله ، صحّ العقد. فلو قال الوكيل بعد العقد : لم أكن مأذوناً فيه ، لم يلتفت إلى قوله ، ولم يُحكم ببطلان العقد ، وكذا لو صدّقه المشتري بحقّ مَنْ توكّل عنه ، إلّا أن يقيم المشتري بيّنةً على إقراره بأنّه لم يكن مأذوناً من جهته في ذلك التصرّف.

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٧٢.

٢٠٣

الفصل الخامس : في ا للواحق‌

مسألة ٨٠٢ : إذا ولّى الإمام رجلاً القضاء في ناحيةٍ ، فإن أذن له في الاستنابة ، جاز له ذلك.

وإن لم يأذن له ، نُظر فإن كان المتولّي يمكنه النظر بنفسه ، لم يجز له الاستنابة.

وإن كان العمل كثيراً لا يمكنه النظر فيه بنفسه ، جازت له الاستنابة ؛ عملاً بقرينة الحال وظاهر الأمر.

وإذا جازت له ، فهل تجوز في جميع العمل ، أو فيما يتعذّر عليه أن يتولّاه؟ الأقوى : الأوّل.

وللشافعيّة فيه وجهان(١) .

والحكم في ذلك كما تقدّم(٢) في الوكالة.

مسألة ٨٠٣ : إذا ادّعى الوكيل الردَّ إلى الموكّل ، فالأقوى أنّه يفتقر إلى البيّنة.

وقسّم الشافعيّة الأُمناءَ في ذلك على ثلاثة أضرُبٍ :

منهم مَنْ يُقبل قوله في الردّ مع يمينه ، وهُم المودعون والوكلاء بغير جُعْلٍ.

ومنهم مَنْ لا يُقبل قوله في الردّ إلّا ببيّنةٍ ، وهُم المرتهن والمستأجر.

____________________

(١) الحاوي الكبير ١٦ : ٣٣١ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٢٩٣ ، حلية العلماء ٨ : ١٢٠ ، التهذيب - للبغوي - ٨ : ١٩٥ ، البيان ١٣ : ٢١ ، العزيز شرح الوجيز ١٢ : ٤٣٣ ، روضة الطالبين ٨ : ١٠٢.

(٢) في ص ٢٥ وما بعدها.

٢٠٤

ومنهم : مَن اختُلف فيه على وجهين ، وهُم الوكلاء بجُعْلٍ والشريك والمضارب والأجير المشترك إذا قلنا : إنّه أمين.

أحدهما : إنّه لا يُقبل قولهم في الردّ ؛ لأنّهم قبضوا لمنفعة أنفسهم ، فصاروا كالمرتهن والمستأجر والمستعير.

والثاني : إنّه لا منفعة لهم في العين المقبوضة ؛ لأنّ الوكيل ينتفع بالجُعْل دون العين التي قبضها. وكذلك الشريك والمضارب [ والأجير ](١) ينتفعون بالربح وعوض عملهم ، بخلاف المرتهن ، فإنّه يتوثّق بالعين. وكذلك المستأجر ؛ فإنّه يستوفي منفعتها ، فافترقا(٢) .

مسألة ٨٠٤ : لو ادّعى الوكيل بيعَ العين التي أذن الموكّل له في بيعها ، فقال الموكّل : لم تبعها ، أو يدّعي قبض الثمن من المشتري ، فيصدّقه في الإذن وينكر قبضه إيّاه ، فللشافعي قولان :

أحدهما : يُقبل إقرار الوكيل في ذلك ، وبه قال أبو حنيفة.

إلّا أنّ أبا حنيفة ناقَضَ في مسألةٍ ، وهي : إذا قال لوكيله : زوّجني من امرأة ، فأقرّ الوكيل أنّه تزوّجها له وادّعت ذلك المرأةُ ، وأنكر الموكّل العقد ، لم يُقبل قول الوكيل. قال : لأنّه يمكنه إقامة البيّنة على النكاح ، لأنّه لا يعقد حتى تحضر البيّنة.

والثاني للشافعي : إنّه لا يُقبل إقراره على موكّله ؛ لأنّ الوكيل يُقرّ بحقٍّ لغيره على موكّله ، فلم ينتقل إليه(٣) ، كما لو أقرّ بدَيْنٍ عليه أو إبراءٍ من‌

____________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٢) راجع : المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٥.

(٣) كذا قوله : « فلم ينتقل إليه » في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وبدلها في المغني والشرح الكبير : « فلم يقبل ».

٢٠٥

حقٍّ (١) .

وهذا يلزم عليه إقرار أب البكر.

فأمّا أبو حنيفة فلا يصحّ ما فرّق به ؛ لأنّ النكاح عنده ينعقد بفاسقين ولا يثبت بهما(٢) ، وقد تموت الشهود وتتعذّر البيّنة.

مسألة ٨٠٥ : إذا وكّله في البيع وقبض الثمن فقبضه ، كان أمانةً في يده قبل أن يطالبه الموكّل ، فإذا لم يسلّمه إليه لم يضمنه بتأخيره عنده ، وإن طالَبه وجب عليه ردّه على حسب إمكانه.

فإن أخّر لعذرٍ - مثل أن يكون في الحمّام ، أو يأكل الطعام ، أو يصلّي ، أو ما أشبه ذلك - لم يصر مفرّطاً ؛ لأنّه لا يلزمه في ردّ الأمانة ما يضرّ به. فإن تلفت الوديعة قبل زوال عذره أو بعد زوال عذره حالَ اشتغاله بردّها ، فلا ضمان ؛ لما بيّنّاه.

وإن أخّر بغير عذرٍ ، ضمن سواء تلفت قبل مضيّ زمان إمكان الردّ ، أو لم يمض ؛ لأنّه خرج من الأمانة بمنعه الدفع من غير عذرٍ.

ولو طالَبه الموكّل بالدفع فوعده به ثمّ ادّعى أنّه كان قد تلف قبل مطالبته ، أو قال : كنتُ رددتُه قبل مطالبته ، لم يُقبل قوله ؛ لأنّه مكذّب لنفسه ، وضامن في الظاهر بدفعه.

فإن أقام البيّنةَ ، احتُمل سماعها ؛ لأنّ الموكّل لو صدّقه على ما ادّعاه ،

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٤ ، بحر المذهب ٨ : ١٦٩ ، حلية العلماء ٥ : ١٥٧ - ١٥٨ ، البيان ٦ : ٤١٥ ، المغني ٥ : ٢٢٢ و ٢٢٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٤٨ و ٢٥٦.

(٢) تحفة الفقهاء ٢ : ١٣٣ ، بدائع الصنائع ٢ : ٢٥٥ ، و ٦ : ٢٧٠ - ٢٧١ ، الهداية - للمرغيناني - ١ : ١٩٠ ، و ٣ : ١١٧ - ١١٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٢٤ - ٢٢٥ ، و ٣ : ١١٩ ، روضة القضاة ١ : ٢١٣ / ٩٤٠ ، بحر المذهب ٨ : ١٦٩ ، عيون المجالس ٣ : ١٠٤٩ / ٧٤٣.

٢٠٦

سقط عنه الضمان ، فإ ذا أقام البيّنةَ على ذلك قُبل. وعدمُه ؛ لأنّه يكذّب بيّنته ، فإنّه كان وَعَده بدفعه إليه ، وإذا كذّب بيّنته لم تُسمع له.

ويفارق ما إذا صدّقه ، فإنّه إذا صدّقه فقد أقرّ ببراءته ، فلم يستحقّ مطالبته.

وإن ادّعى أنّه تلف بعد ما دفعه عن تسليمه ، أو أنّه ردّه إليه لم يُقبل قوله ؛ لأنّه صار بالدفع ضامناً ، ولا يُقبل قوله في الردّ ؛ لأنّه خرج من الأمانة ، فيحتاج إلى بيّنةٍ بذلك.

وللشافعيّة وجهان(١) كالاحتمالين.

فإن كان قد تلف قبل أن مَنَعَه ولم يعلم ، فلا ضمان عليه.

وللشافعيّة وجهٌ آخَر : إنّه يضمن ؛ لأنّه لـمّا منعه تبيّنّا أنّه كان ممسكاً على نفسه(٢) .

وليس بشي‌ء.

مسألة ٨٠٦ : لو دفع إلى وكيله عيناً وأمره بإيداعها عند زيدٍ ، فأودعها ، وأنكر زيد ، فالقول قوله مع اليمين ، فإذا حلف برئ.

وأمّا الوكيل فإن كان قد سلّمها بحضرة الموكّل لم يضمن ، وإن كان بغيبته ففي الضمان إشكال.

وللشافعيّة وجهان :

أحدهما : يضمن كما في الدَّيْن ؛ لأنّ الوديعة لا تثبت إلّا بالبيّنة.

والثاني : لا يضمن ؛ لأنّ الودعي إذا ثبتت عليه البيّنة بالإيداع ، كان القولُ قولَه في التلف والردّ ، فلم تُفد البيّنة شيئاً ، بخلاف الدَّيْن ؛ لأنّ‌

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ١٦٢.

(٢) حلية العلماء ٥ : ١٦٤.

٢٠٧

القضاء لا يثبت إلّا بها(١) .

وإن صدّقه الـمُودَع وادّعى التلف وحلف ، لم يضمنها.

وأمّا الوكيل فإن سلّم بحضرة الموكّل ، لم يضمن. وإن سلّم في غيبته ، فالوجهان.

فأمّا إذا قال الوكيل : دُفع(٢) بحضرتك ، وقال الموكّل : لم تدفع بحضرتي ، أو قال : لم تدفعها إلى المودَع ، وقال : دفعتُها على الوجه الذي تقول ، لا يضمن إذا دفع بغير إشهادٍ.

قال بعض الشافعيّة : القول قول الوكيل مع اليمين ، كما إذا ادّعى الردَّ إليه وأنكره ، ولا يشبه هذا [ ما ](٣) إذا أقرّ بأنّه باع أو قبض وأنكر الموكّل ، فإنّه لا يُقبل قوله في أحد القولين ؛ لأنّه يُثبت حقّاً على موكّله لغيره ، وهنا يُسقط عن نفسه الضمانَ بما ذكره ، فكان القولُ قولَه مع يمينه فيه(٤) .

مسألة ٨٠٧ : إذا دفع إلى وكيله دراهم ليشتري له بها شيئاً ، فاستقرضها الوكيل وأخرجها ، بطلت الوكالة ؛ لأنّه إن كان أمره بأن يشتري له بعين تلك الدراهم ، فقد تعذّر بتلفها ، كما لو مات العبد الموكَّل ببيعه. وإن كان قد وكّله في الشراء مطلقاً ونقد الدراهم في الثمن ، بطلت أيضاً ؛ لأنّه إنّما أمره بالشراء على أن ينقد ذلك الثمن ، فإذا تعذّر نقد ذلك لم يكن له أن يشتري.

وقال أبو حنيفة : لا تفسد الوكالة ، ولا يتعيّن الشراء بتلك الدراهم ،

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٣١١ ، المغني ٥ : ٢٣٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٤٥ - ٢٤٦.

(٢) كذا قوله : « دُفع ». والظاهر : « دفعتُ ».

(٣) ما بين المعقوفين أثبتناه لأجل السياق.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٥٢٨ ، الوجيز ١ : ١٩٣ ، الوسيط ٣ : ٢١٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦٨.

٢٠٨

ويجوز أن يشتري من م ال نفسه ، ويأخذ الدراهم(١) .

وهو غير صحيح ؛ لأنّه وكّله في الشراء بتلك الدراهم ، فإذا تلفت سقط الإذن ، كما قلناه في العبد.

فإن اشترى للموكّل بمثل تلك الدراهم من مال نفسه ، فإذا(٢) أضاف العقد إليه لم يصح ، وإلّا وقع الشراء له لا للموكّل ؛ لأنّه اشترى لغيره شيئاً بعين مال نفسه ؛ لأنّه لا يصحّ أن يقبض للموكّل من نفسه بدل المال الذي أتلفه.

والثاني(٣) : إنّه اشترى له بغير المال الذي عيّنه.

وإن اشترى له في الذمّة ، وقع أيضاً للوكيل ؛ لأنّه على غير الصفة التي أذن له فيها.

ويجب على الوكيل ردّ مثل الدراهم التي قبضها من الموكّل.

تذنيب : إذا دفع إليه دراهم ليشتري بها سلعة ولم ينص على الشراء بالعين ، بل ينقدها عن الثمن الذي يشتري به ، فاشترى في الذمّة على أنّه ينقد تلك الدراهم كما أمره الموكّل ، صحّ الشراء. فإن استقرض بعد ذلك الدراهمَ وأخرجها ، وجب عليه دفع عوضها في الثمن ، ولم يخرج المبيع عن ملك الموكّل بالتفريط اللاحق.

مسألة ٨٠٨ : إذا وكّله في شراء عبدٍ بدراهم في الذمّة ثمّ دفع إليه دراهم لينقدها في الثمن ، ففرّط فيها بأن ترك حفظها ، ضمنها ، فإذا اشترى العبدَ صحّ الشراء قولاً واحداً ؛ لأنّه لم يتعدّ فيما تناوله العقد ، فإذا نقد تلك‌

____________________

(١) فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ١٧ ، الحاوي الكبير ٦ : ٥٣٣ ، حلية العلماء ٥ : ١٣٨.

(٢) في « ج » : « فإن » بدل « فإذا ».

(٣) كذا قوله : « والثاني ». ولم يسبق ذِكْر الأوّل.

٢٠٩

الدراهم بعينها برئ من ضمانها.

ولا فرق في ذلك بين مَنْ قال : إنّ الوكيل بالتعدّي يخرج من الأمانة - وفي صحّة بيعه وجهان عنده - وبين مَنْ قال : إنّه يصحّ بيعه مع التعدّي.

لا يقال : لِمَ لا يبطل بيعه عند القائل بعدم صحّة بيع الوكيل إذا تعدّى؟

لأنّا نقول : إنّما يخرج من الأمانة فيما تعدّى فيه ، فإنّه لو استودع شيئين ففرّط في أحدهما ، لم يضمن الآخَر ، ولم يخرج من حكم الأمانة جملةً ، كذا هنا.

مسألة ٨٠٩ : لو وكّله في تزويج امرأةٍ فزوّجه غيرها ، بطل العقد عند العامة(١) ، أو كان فضوليّاً عندنا ؛ لأنّ من شرط صحّة النكاح ذكر الزوج ، فإذا كان بغير أمره لم يقع له ولا للوكيل ؛ لأنّ المقصود من النكاح أعيان الزوجين ، بخلاف البيع ، ولهذا يجوز أن يشتري من غير تسمية المشتري ، فافترقا.

وإذا عيّن الموكّل للوكيل الزوجةَ ، صحّ إجماعاً.

ولو وكّله في أن يزوّجه بمن شاء ، فالأقرب : الجواز ، وهو قول بعض الشافعيّة(٢) .

وقال بعضهم : لا يجوز ؛ لأنّ الأغراض تختلف ، فلا يجوز حتى يصف(٣) . واختار الزهري(٤) (٥) هذا الوجه.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٥٤٧ ، المغني ٥ : ٢٥٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥٩.

(٢) حلية العلماء ٥ : ١١٨ ، البيان ٦ : ٣٦٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٨.

(٣) حلية العلماء ٥ : ١١٨ ، البيان ٦ : ٣٦٥.

(٤) كذا قوله : « الزهري » في جميع النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وبدلها في المصدر : « الزبيري ».

(٥) حلية العلماء ٥ : ١١٨.

٢١٠

والمعتمد : الأوّل.

فعلى هذا هل له أن يزوّجه ابنته؟ الأقرب : الجواز ، وبه قال أبو يوسف ومحمّد(١) .

وقال بعض العامّة : لا يجوز له ذلك(٢) .

ولو أذنت المرأة له في تزويجها ، لم يكن له أن يزوّجها من نفسه ؛ لأنّ القرينة اقتضت التزويج بالغير.

وقد روى الحلبي عن الصادقعليه‌السلام قال في المرأة ولّت أمرها رجلاً ، فقالت : زوّجني فلاناً ، فقال : لا زوّجتكِ حتى تُشهدي أنّ أمركِ بيدي ، فأشهدت له ، فقال عند التزويج للّذي يخطبها : يا فلان عليك كذا وكذا ، فقال : نعم ، فقال هو للقوم : أشهدوا أنّ ذلك لها عندي وقد زوّجتها من نفسي ، فقالت المرأة : ما كنت أتزوّجك ولا كرامة وما أمري إلاّ بيدي وما ولّيتك أمري إلّا حياءً ، قال : « تنزع منه ، ويوجع رأسه »(٣) .

ويحتمل مع إطلاق الإذن صحّة أن يزوّجها من نفسه.

وكذا له أن يزوّجها من ولده ووالده.

ولبعض العامّة وجهان(٤) .

مسألة ٨١٠ : إذا وكّله في شراء عبدٍ فاشتراه ، ثمّ اختلف الوكيل والموكّل ، فقال الوكيل : اشتريته بألف ، وقال الموكّل : بخمسمائة ، فالقول فيه كما قلنا فيما إذا اختلف الوكيل والموكّل في تصرّفه ؛ لأنّ ذلك إثباتٌ‌

____________________

(١) المبسوط - للسرخسي - ١٩ : ١١٨ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٤٧ ، المغني ٥ : ٢٣٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٣.

(٢) المغني ٥ : ٢٣٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٣.

(٣) الفقيه ٣ : ٥٠ / ١٧١ ، التهذيب ٦ : ٢١٦ / ٥٠٨.

(٤) المغني ٥ : ٢٣٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٣.

٢١١

لحقّ البائع على الموكّل .

وقال أبو حنيفة : إن كان الشراء في الذمّة ، فالقول قول الموكّل ، فإن كان اشترى ذلك بمال الموكّل ، فالقول قول الوكيل.

وفرّق بينهما بأنّ الشراء إذا كان في الذمّة ، فالموكّل هو الغارم ؛ لأنّه يطالبه بالثمن. وإذا اشتراه بما في يده للموكّل ، فإنّ الغارم الوكيل ؛ لأنّه يطالبه بردّ ما زاد على خمسمائة ، فالقول في الأُصول قول الغارم(١) .

وقد بيّنّا أنّ إقرار الوكيل لا يصحّ على موكّله.

وما ذكره من الفرق ليس بصحيحٍ ؛ لأنّ في الموضعين يثبت بذلك الغرم على الموكّل ؛ لأنّه إمّا أن يطالبه به ، أو يؤدّي من ماله الذي في يد الوكيل ، والحقّ يثبت بقول الوكيل عليه في الموضعين.

مسألة ٨١١ : إذا دفع إلى الوكيل ألفاً ليشتري بها سلعة ، فاشترى بالعين ، ثمّ ظهر فيها عيب ، فردّها البائع على الوكيل ، كانت أمانةً في يده لموكّله.

وإن كان [ اشتراها ](٢) بألفٍ في الذمّة ، فإن بانَ العيب في الألف التي دفعها وقبضها الوكيل ، فهي أيضاً على الأمانة ، ويبدلها من الموكّل إن امتنع البائع من قبضها.

وإن بانَ العيب بعد أن قبضها البائع فردّها على الوكيل فتلفت عنده ، لم يضمنها عندنا.

____________________

(١) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ١٥١ ، المغني ٥ : ٢٢٢ - ٢٢٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٤٩.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « اشتراه ». وما أثبتناه يقتضيه السياق.

٢١٢

وللشافعيّة قولان مب نيّان على ما ذكروه في الثمن.

إن قلنا : إنّ الثمن يثبت في ذمّة الموكّل ، كان الوكيل وسيطاً في الدفع ، وكان ذلك في يده أمانةً.

وإن قلنا : يثبت في ذمّة الوكيل دون الموكّل ، وعلى الموكّل أن يسقط ذلك عن ذمّته ، فإذا دفع إليه ألفاً ليقضيها عن نفسه ، كانت أمانةً ما لم يدفعها إلى البائع ، فإذا دفعها وقضى بها دَيْنه ، وجب مثلها عليه للموكّل ، وله الرجوع على الموكّل بألفٍ تقاصّاً ، وصارت مضمونةً عليه ، فإذا عادت إليه بردّ البائع ، كانت مضمونةً عليه للموكّل ألف معيبة ، وعليه للبائع ألف سليمة ، فإذا قضاها رجع على الموكّل بألف سليمة(١) .

مسألة ٨١٢ : إذا دفع إليه ألفاً ليُسلمها في كُرّ طعامٍ ، تناول المتعارف عند الموكّل.

ويحتمل عند الوكيل.

وقال بعض الشافعيّة : ينصرف إلى الحنطة خاصّةً ؛ لانطلاقه إليه عرفاً(٢) .

وهو غير سديدٍ ؛ لاختلاف العرف فيه.

ولو كان لرجلٍ في ذمّة آخَر ألف ، فقال : أسلفها في طعامٍ ، فأسلفها فيه ، صحّ ، وإذا أسلمها برئ من الدَّيْن. وإذا قبض الطعام كان أمانةً في يد الوكيل إن تلف فلا ضمان عليه.

قال أبو العباس من الشافعيّة : وإن لم يكن عليه شي‌ء ، فقال له : أسلف من مالك ألفاً في كُرٍّ من طعامٍ ويكون لك ألف قرضاً علَيَّ ، ففَعَل ،

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ٢١١ ، البيان ٦ : ٣٨٤ - ٣٨٥.

(٢) بحر المذهب ٨ : ١٩٣ ، البيان ٦ : ٣٩٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦٤.

٢١٣

صحّ (١) .

وقال بعضهم : هاتان المسألتان سهو من أبي العباس ؛ لأنّه لا يجوز أن يُسلم ماله في طعامٍ لغيره ، ومذهب الشافعي أنّه لا يجوز أن يكون العوض لواحدٍ ويقع المعوَّض لغيره(٢) .

وتأوّلوا المسألتين بأن يقول : إن أسلمت ألفاً في كُرٍّ من طعامٍ ، ولا يعيّنه بالدَّيْن ، ثمّ يأذن له أن يُسلم الدَّيْن عنه ، ويبرأ. هذا في المسألة الأُولى ، وفي الثانية : أسلم ألفاً في ذمّتي في كُرٍّ من طعامٍ ، فإذا فَعَل هذا ، قال : اقض عنّي الألف لأدفع إليك عوضها(٣) .

قال بعض الشافعيّة : إنّ الذي أراد أبو العباس أن يسلم هكذا ، ولا يحتاج إلى ما شرطه من تأخّر الإذن(٤) .

ويجوز أن يأذن له قبل أن يعقد بدفع الثمن من عنده أو بدفع الدَّيْن الذي عليه ؛ لأنّ التصرّف من الوكيل يجوز تعليقه بالشرط.

وكذا لو قال له : اشتر به عبداً ، سواء عيّنه أو لم يعيّنه ، وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمّد(٥) .

وقال أبو حنيفة : إن عيّن العبد ، جاز. وإن لم يعيّنه ، لم يجز ؛ لأنّه إذا [ لم ](٦) يعيّن ، فقد وكّل في قبض الدَّيْن من ذمّة البائع ، وهو مجهول(٧) .

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ١٩٩ ، البيان ٦ : ٣٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦٣.

(٢) بحر المذهب ٨ : ١٩٩ ، البيان ٦ : ٣٩٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦٣ - ٥٦٤.

(٣ و ٤) البيان ٦ : ٣٩٥.

(٥) البيان ٦ : ٣٩٥ ، حلية العلماء ٥ : ١٤٧.

(٦) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٧) البيان ٦ : ٣٩٥ ، حلية العلماء ٥ : ١٤٧.

٢١٤

ولنا : إنّه دفع بإذ نه ، فأشبه ما إذا عيّن. وقول أبي حنيفة باطل ؛ لأنّ المدفوع له ليس بوكيلٍ له ، ولا يتعيّن بالشراء منه ، ويبطل عليه به إذا قال : أطعم عنّي عشرة مساكين ، فإنّهم غير معيّنين ، ويصحّ عنه.

مسألة ٨١٣ : إذا دفع إليه ألفاً ليشتري بها سلعةً أو يسلف بها في طعام ، فاشترى السلعة واستسلف ولم يُسمّ الموكّلَ في العقد ، ثمّ اختلفا ، فقال الوكيل : إنّما اشتريت لنفسي ، وقال الموكّل : بل لي ، فالقول قول الوكيل مع يمينه ، فإذا حلف حُكم له بذلك في الظاهر ، وكان للموكّل الرجوع عليه بالألف.

وقال أصحاب أبي حنيفة : يكون السَّلَم للموكّل؟ لأنّه دفع دراهمه(١) . واختلفوا إذا [ تصادقا ](٢) أنّه لم يَنْو لا لَه ولا للموكّل.

فقال أبو يوسف : يكون بحكم الدراهم(٣) .

وقال محمّد : يكون للوكيل(٤) .

أمّا الأوّل : فلأنّهما إذا اختلفا ، رجّح قول الموكّل ؛ لأنّه دفع دراهمه ، فكان الظاهر معه.

وإذا أطلق قال أيضاً : يرجّح بالدراهم(٥) .

ودليلنا : إذا نوى ذلك عن نفسه وصدّقه عليه ، وقع لنفسه ، فإذا أطلق‌ واختلفا كان القولُ قولَه ، كما لو لم ينقد دراهم.

وما ذكروه فليس بصحيحٍ ؛ لأنّ إذن الدراهم بعد حصول العقد ،

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ١٤٨.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « تصادقوا ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣ - ٥) بحر المذهب ٨ : ٢٠٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٤٨.

٢١٥

فلا يؤثّر فيه.

مسألة ٨١٤ : إذا كان وليّاً عن امرأةٍ في التزويج بأن يكون أباً أو جدّاً له‌ ، كان له أن يوكّل ؛ لأنّه وليٌّ بالأصالة ولايةَ الإجبار.

أمّا غيرهما - كالوكيل - هل له أن يوكّل؟ الوجه عندنا : لا ، إلّا مع الإذن - ولأصحاب [ الشافعي ](١) فيه وجهان(٢) ، وعن أحمد روايتان(٣) - لأنّه لا يملك التزويج إلّا بإذنها ، فلا يملك التوكيل فيه إلّا بإذنها.

احتجّ أحمد بأنّ ولايته من غير جهتها ، فلم يعتبر إذنها في توكيله ، كالأب ٤.

وأمّا الحاكم فيملك تفويض عقود الأنكحة إلى غيره بغير إذن المولّى عليه.

مسألة ٨١٥ : لو أنكر الموكّل الوكالةَ بعد عقد النكاح على المرأة ، فالقول قول الموكّل مع يمينه‌ ، فإذا حلف برئ من الصداق ، وبطلت الزوجيّة بينهما ، وكان على الوكيل أن يدفع إليها نصف المهر ؛ لأنّه أتلف عليها البُضْع.

ثمّ إن كان الوكيل صادقاً ، وجب على الموكّل طلاقها ؛ لئلّا يحصل الزنا بنكاحها مع الغير.

ولما رواه عمر بن حنظلة عن الصادقعليه‌السلام في رجلٍ قال لآخَر :

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الشافعيّة ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) البيان ٦ : ٣٦٠ ، الوسيط ٥ : ٧٩ ، الوجيز ٢ : ٧ ، حلية العلماء ٦ : ٣٤٤ - ٣٤٥ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ٢٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٥٦٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٤١٨ - ٤١٩ ، المغني ٥ : ٢١٧ ، و ٧ : ٣٥٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٢١١ ، و ٧ : ٤٣٩.

(٣ و ٤) المغني ٥ : ٢١٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٢١١.

٢١٦

اخطب لي فلانة فما ف علتَ من شي‌ء ممّا قاولتَ من صداقٍ أو ضمنتَ من شي‌ء أو شرطتَ فذلك رضاً لي وهو لازم لي ، ولم يُشهدْ على ذلك ، فذهب فخطب وبذل عنه الصداق وغير ذلك ممّا طالبوه وسألوه ، فلمّا رجع إليه أنكر ذلك كلّه ، قال : « يغرم لها نصف الصداق عنه ، وذلك أنّه هو الذي ضيّع حقّها ، فلمّا أن لم يُشهدْ لها عليه بذلك الذي قال ، حلّ لها أن تتزوّج ، ولا تحلّ للأوّل فيما بينه وبين الله ، إلّا أن يطلّقها ، لأنّ الله تعالى يقول :( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) (١) فإن لم يفعل فإنّه مأثوم فيما بينه وبين الله تعالى ، وكان الحكم الظاهر حُكْمَ الإسلام قد أباح [ الله تعالى ](٢) لها أن تتزوّج »(٣) .

مسألة ٨١٦ : للأب أن يقبض صداق ابنته الصغيرة تحت حجره‌ ؛ لأنّه الوليّ عليها ، فكان له طلب حقّها أين كان.

ولو كانت كبيرةً فوكّلته بالقبض ، كان له ذلك أيضاً.

وإن لم توكّله ، لم تكن له المطالبة ؛ لزوال ولايته عنها بالبلوغ والرشد.

فإن أقبضه الزوج ، كان لها مطالبة الزوج بحقّها ، ويرجع الزوج على الأب بما قبضه منه ؛ لأنّ ذمّته لم تبرأ بدفع حقّها إلى غيرها وغير وكيلها ، ولم يقع القبض موقعه ، فكان للزوج الرجوعُ به.

ولو مات الأب ، كان له الرجوعُ به في تركته إن خلّف مالاً. ولو مات معسراً ، ضاع ماله ؛ لما رواه ابن أبي عمير عن غير واحدٍ من أصحابنا عن‌

____________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٣) الفقيه ٣ : ٤٩ / ١٦٩ ، التهذيب ٦ : ٢١٣ - ٢١٤ / ٥٠٤ بتفاوت يسير.

٢١٧

الصادق عليه‌السلام في رجلٍ قبض صداق ابنته من زوجها ثمّ مات هل لها أن تطالب زوجها بصداقها ، أو قبضُ أبيها قبضُها؟ فقالعليه‌السلام : « إن كانت وكّلته بقبض صداقها من زوجها فليس لها أن تطالبه ، وإن لم تكن وكّلته فلها ذلك ، ويرجع الزوج على ورثة أبيها بذلك ، إلّا أن تكون حينئذٍ صبيّةً في حجره ، فيجوز لأبيها أن يقبض عنها ، ومتى طلّقها قبل الدخول بها فلأبيها أن يعفو عن بعض الصداق ويأخذ بعضاً ، وليس له أن يدع كلّه ، وذلك قول الله عزّ وجلّ :( إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (١) يعني الأب والذي توكّله المرأة وتولّيه أمرها من أخ أو قرابة أو غيرهما »(٢) .

مسألة ٨١٧ : لو زوّجها الوليّ أو الوكيل وكانت قد دلّست نفسها وأخفت عيبها الذي يجب ردّ النكاح به ، فإذا ردّها الزوج ، كان له الرجوعُ عليها بالمهر ، ولا يغرم الوكيل شيئاً إذا لم يعلم حالها ؛ لعدم التفريط منه ، واستناد الغشّ إليها خاصّةً.

ولما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال في رجل ولّته امرأة أمرها إمّا ذات قرابة أو جارة له لا يعلم دخيلة أمرها ، فوجدها قد دلّست عيباً هو بها ، قال : « يؤخذ المهر منها ، ولا يكون على الذي زوّجها شي‌ء »(٣) .

مسألة ٨١٨ : لو قال رجل لآخَر : وكّلتَني أن أتزوّج لك فلانة بصداق كذا ، ففَعَلتُ ، وادّعت المرأة ذلك ، فأنكر الموكّل ، فالقول قوله.

فإن أقام الوكيل أو المرأة البيّنةَ ، وإلّا حلف المدّعى عليه عقد النكاح.

____________________

(١) البقرة : ٢٣٧.

(٢) الفقيه ٣ : ٥٠ - ٥١ / ١٧٢ ، التهذيب ٦ : ٢١٥ - ٢١٦ / ٥٠٧.

(٣) الكافي ٥ : ٤٠٧ / ١٠ ، الفقيه ٣ : ٥٠ / ١٧١ ، التهذيب ٦ : ٢١٦ / ٥٠٨.

٢١٨

وقال أحمد بن حنبل : لا يستحلف ؛ لأنّ الوكيل يدّعي حقّاً لغيره(١) .

هذا إن ادّعى الوكيل ، وإن ادّعته المرأة ، استحلف ؛ لأنّها تدّعي الصداق في ذمّته.

ونحن لـمّا أوجبنا نص ف المهر على الوكيل ، كان له إحلاف الموكّل.

وقال أحمد : لا يلزم الوكيل شي‌ء ؛ لأنّ دعوى المرأة على الموكّل ، وحقوق العقد لا تتعلّق بالوكيل(٢) .

وعنه رواية أُخرى : إنّه يلزمه نصف الصداق - كما قلناه - لأنّ الوكيل في الشراء ضامن [ للثمن و ](٣) للبائع مطالبته به ، كذا هنا(٤) .

أمّا لو ضمن الوكيل المهر ، فلها الرجوع عليه بنصفه ؛ لأنّه ضمنه للموكّل ، وهو مُقرٌّ بأنّه في ذمّته.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي : لا يلزم الوكيل شي‌ء(٥) .

وقال محمّد بن الحسن : يلزم الوكيل جميع الصداق ؛ لأنّ الفرقة لم تقع بإنكاره ، فيكون ثابتاً في الباطن ، فيجب جميع الصداق(٦) .

واحتجّ أحمد بأنّه يملك الطلاق ، فإذا أنكر فقد أقرّ بتحريمها عليه ، فصار بمنزلة إيقاعه لما تحرم به(٧) .

إذا ثبت هذا ، فإنّ المرأة تتزوّج وإن لم يطلّق الموكّل ؛ لأنّه لم يثبت عقده.

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٢٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥٤ - ٢٥٥.

(٢ و ٤) المغني ٥ : ٢٢٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥٥.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٥ و ٦) المغني ٥ : ٢٢٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥٥.

(٧) المغني ٥ : ٢٢٤ - ٢٢٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥٥.

٢١٩

وقال أحمد : لا تتزوّج حتى يطلّق ، لعلّه يكون كاذباً في إنكاره(١) .

قال أصحابه : ظاهر هذا تحريم نكاحها قبل طلاقها ؛ لأنّها معترفة بأنّها زوجة له ، فيؤخذ بإقرارها ، وإنكاره ليس بطلاقٍ(٢) .

وهل يلزم الموكّل طلاقها؟ الأقوى : الإلزام ؛ لإزالة الاحتمال ، وإزالة الضرر عنها بما لا ضرر عليه فيه ، فأشبه النكاح الفاسد.

ويحتمل عدم اللزوم ؛ لأنّه لم يثبت في حقّه نكاح ، ولو ثبت لم يكلَّف الطلاق.

مسألة ٨١٩ : لو ادّعى أنّ فلاناً الغائب وكّله في تزويج امرأةٍ فزوّجها منه ثمّ مات الغائب ، فإن صدّقه الورثة على التوكيل أو قامت له البيّنة به ، ورثت المرأة نصيبها من تركته. وإن لم تصدّقه الورثة ولا قامت البيّنة ، لم يكن لها ميراث ، ولها إحلاف الوارث إن ادّعت علمه بالتوكيل ، فإن حلف فلا ميراث ، وإلّا حلفت وأخذت.

ولو أقرّ الموكّل بالتوكيل في التزويج وأنكر أن يكون تزوّج له ، فهنا الاختلاف في تصرّف الوكيل ، وقد سبق(٣) .

فقيل : القول قول الموكّل مع اليمين ، وبه قال أبو حنيفة(٤) ، وهو المعتمد ؛ لأنّه مدّعٍ لما لا تتعذّر إقامة البيّنة عليه خصوصاً عند العامّة ؛ حيث إنّ البيّنة شرط في العقد عندهم(٥) ، فأشبه ما لو أنكر الموكّل الوكالة من‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٢٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥٥.

(٢) المغني ٥ : ٢٢٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥٥ - ٢٥٦.

(٣) في ص ١٨٤ ، المسألة ٧٨٣.

(٤) المغني ٥ : ٢٢٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥٦.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٢٩ ، و ٥ : ٢٥٧ ، المغني ٥ : ٢٢٥ و ٧ : ٣٣٩ ، الشرح =

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528