الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء7%

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: 528

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء
  • البداية
  • السابق
  • 528 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 71382 / تحميل: 4876
الحجم الحجم الحجم
الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
ISBN: ٩٦٤-٤٦٥-١٦٩-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

المصائب والأحزان

شاءت الأقدار أن تلقي بالسّيّدة الحوراء في أحضان المصائب والأحزان منذ الطّفّ ولة إلى آخر يوم في حياتها فمن يقف على سيرتها يجد سلسلة من حلقات متّصلة من الآلآم منذ البداية ، حتّى النّهاية.

وأي إنسان خلت أو تخلو حياته من الهموم والأكدار ، حتّى أصحاب السّلطان ، والجاه ، والثّراء لا منجاة لهم من ضربات الزّمان ، وطواريء الحدثان وقديما قيل على لسان الإمام عليّ : «الدّهر يومان : يوم لك ، ويوم عليك ؛ فإذا كان لك فلا تبطر ، وإذا كان عليك فاصبر!»(١) . ومن الّذي حقّق جميع رغباته ، ولم يفقد قريبا من أقربائه ، وعزيزا من أعزائه.

ولكن من غير المألوف والمعروف أن يعيش «إنسان» في خضّم من المحن والأرزاء ، كما عاشت السّيّدة زينب الّتي إنهالت عليها الشّدائد من كلّ جانب الواحدة تلو الأخرى ، حتّى سميّت أمّ المصائب ، وأصبحت هذه الكنية علما خاصّا بها.

فقد شاهدت وفاة جدّها رسول الله ، وتأثيرها على المسلمين بعامّة ، وعلى أمّها وأبيها ، وأهل بيتها بخاصّة ، قال أمير المؤمنين : «نزل بي من وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما

__________________

(١) انظر ، نهج البلاغة : الحكمة «٣٩٤».

٣٢١

لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به ورأيت النّاس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ، ولا يضبط نفسه ، ولا يقوى على حمل فادح نزل به ، قد أذهب الجزع صبره ، وأذهل عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام ، والقول ، والأسماع»(١) .

وطبيعي أن يصيب أهل البيت هذا ، وأكثر منه ، فأنّ تأثير المصاب بالفقيد ، أي فقيد يقاس بقدره وقيمته

وكفى الرّسول عظمة أن يقترن اسمه باسم الله ، ولا يقبل الإيمان والإعتراف بالله الواحد الأحد إلّا مع الإعتراف والإيمان برسول الله محمّد

هذا ، إلى أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد حدث أهل بيته بكلّ ما يجري عليهم من بعده ، وكرّره أكثر من مرّة على مسامعهم تصريحا وتلويحا ، حتّى ساعة الوفاة كان ينظر إلى وجوههم ويبكي ، ولمّا سئل قال : «أبكي لذّرّيتي ، وما تصنع بهم شرار أمّتي من بعدي»(٢) .

شاهدت زينب وفاة جدّها الرّسول ، وما تركه من آثار ، وشاهدت محنة أمّها الزّهراء ، وندبها لأبيها في بيت الأحزان ، ودخول من دخل إلى خدرها ، وانتهاك حرمتها ، واغتصاب حقّها ، ومنع إرثها ، وكسر جنبها ، وإسقاط جنينها ، وسمعتها ، وهي تنادي فلا تجاب ، وتستغيث فلا تغاث وكلّنا يعلم علاقة البنت بالأمّ ، وتطلعها إليها ، وتأثرها بها تلقائيّا وبدون شعور.

__________________

(١) انظر ، مناقب آل أبي طالب : ١ / ٢٣٣ ، الخصال للشّيخ الصّدوق : ٣٧١ ، شرح الأخبار : ١ / ٣٤٦ ، الإختصاص للشّيخ المفيد : ١٧٠.

(٢) انظر ، أمالي الشّيخ الطّوسي : ١٨٨ ح ١٨.

٣٢٢

وشاهدت قتل أبيها أمير المؤمنين ، وأثر الضّربة في رأسه ، وسريان السّم في جسده الشّريف ، ودموعه الطّاهرة الزّكية تفيض على خدّيه ، وهو يقلب طرفه بالنّظر إليها ، وإلى أخويها الحسنين.

وشاهدت أخاها الحسن أصفر اللّون يجود بنفسه ، ويلفظ كبده قطعا من أثر السّم(١) ، ورأت عائشة تمنع من دفنه مع جدّه ، وتركب بغلة ، وتصيح ، والله لا يدفن الحسن هنا أبدا(٢) .

__________________

(١) روي أنّه لمّا وضع الطّشت بين يدي الحسن ، وهو يقذف كبده سمع أنّ أخته زينب تريد الدّخول عليه أمر برفع الطّشت إشفاقا عليها. (منهقدس‌سره ). الرّواية على تقدير صحّتها نصّت على أنّ السّمّ أثر في كبده حتّى قاء بعضا منه ، وهذا ممّا يرفضه الطّبّ الحديث بل يقول : إنّ السّمّ يحدث إلتهابا في المعدة وبالتالي يؤدّي إلى هبوط في ضغط الدّم ويؤدّي إلى إلتهاب الكبد ، والكبد هو الجهاز الخاصّ في الجانب الأيمن الّذي يقوم بإفراز الصّفراء كما جاء في القاموس : ١ / ٣٣٢ ، تاج العروس : ٢ / ٤٨١ ، ويسمّى الجوف بكامله كبدا ، وهنا تكون الرّواية غير منافية للطّبّ حيث إنّه ألقى من جوفه قطعا من الدّم المتخثّر ، والّتي تشبه الكبد.

(٢) انظر ، الإصابة : ١ / ٣٣٠ ، تأريخ دمشق : ٨ / ٢٢٨ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٤٤ ، الإستيعاب : ١ / ٣٨٩ ، العقد الفريد : ٣ / ١٢٨ ، مروج الذّهب : ٢ / ٥١ ، رحلة ابن بطّوطزة : ٧٦ ، عيون الأخبار : ٢ / ٣١٤ ، الإمام الحسن بن عليّ للملطاوي : ٧٢ ، دلائل الإمامة : ٦١ ، المقاتل : ٧٤ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١٦ / ٤٩ ـ ٥١ ، كفاية الطّالب : ٢٦٨ ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ١٩٧.

الفتنة الكبرى :

اتّجهت مواكب التّشيّيع نحو المرقد النّبوي لتجدّد العهد بجدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لكن لمّا علم الأمويون ذلك تجمّعوا وانضمّ بعضهم إلى بعض بدافع الأنانيّة والحقد والعداء للهاشميّين إلى إحداث شغب ومعارضة لدفن الإمام بجوار جدّه لأنّهم رأوا أنّ عميدهم عثمان دفن في حش كوكب ـ مقبرة اليهود ـ فكيف يدفن الحسنعليه‌السلام مع جدّه فيكون ذلك عارا عليهم وخزيا فأخذوا يهتفون بلسان الجاهليّة الحمقاء : يا ربّ هيجاء ، هي خير من دعة ، أيدفن عثمان بأقصى المدينة ويدفن الحسن عند جدّه؟

وانعطف مروان بن الحكم وسعيد بن العاص نحو عائشة وهما يستفزّانها ويستنجدان بها لمناصرتهم ـ

٣٢٣

أمّا ما شاهدته في كربلاء ، وحين مسراها إلى الكوفة ، والشّام مع العليل ، والنّساء ، والأطفال فيفوق الوصف ، وقد وضعت فيه كتب مستقلّة.

هكذا كانت حياة السّيّدة ، وبيئتها من يومها الأوّل إلى آخر يوم ، حياة مشبّعة بالأحزان ، متخمة بالآلام لا تجد منها مفرّا ، ولا لها مخرجا.

وبعد هذه الإشارة نقف قليلا لنرى كيف قابلت السّيّدة هذه الصّدمة والأحداث الجسام : هل أصابها ما يصيب النّساء في مثل هذه الحال من الإضطراب

__________________

ـ بذلك وهما يعرفان دخيلة عائشة وما تنطوي عليها نفسها بما تكنّه من الغيرة والحسد لولد فاطمة عليها‌السلام قائلين لها : يا أمّ المؤمنين ، إنّ الحسين يريد أن يدفن أخاه الحسن مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والله لئن دفن الحسن بجوار جدّه ليذهبنّ فخر أبيك ، وصاحبه عمر إلى يوم القيامة. فألهبت هذه الكلمات نار الثّورة في نفسها فاندفعت بغير اختيار لمناصرتهما راكبة على بغل وهي تقول : مالي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتى من لا أحبّ؟! وكادت أن تقع الفتنة بين بني هاشم وبني أميّة ، فبادر ابن عبّاس إلى مروان فقال له : ارجع يا مروان من حيث جئت ، فإنّا ما نريد أن ندفن صاحبنا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بل نريد أن نجدّد العهد به ، ثمّ نردّه إلى جدّته فاطمة بنت أسد فندفنه عندها لوصيته بذلك ، ولو كان وصّى بدفنه مع النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلمت أنّك أقصر باعا من ردّنا عن ذلك ، لكنّهعليه‌السلام كان أعلم بالله ورسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدما كما طرق ذلك غيره ، ودخل بيته بغير إذنه. ثمّ أقبل على عائشة فقال لها : وا سوأتاه! يوما على بغل ويوما على جمل وفي رواية قال ابن عبّاس : يوما تجمّلت ويوما تبغّلت ، وإن عشت تفيّلت فأخذه ابن الحجّاج الشّاعر البغدادي فقال :

يا بنت أبي بكر

لا كان ولا كنت

لك التّسع من الثّمن

وبالكلّ تملّكت

تجمّلت تبغّلت

وإن عشت تفيّلت

هذا الخبر رواه الفريقان من أهل السّنّة والشّيعة بتغيّر ببعض عباراته كلّ بحسب مذهبه.

انظر ، مقاتل الطّالبيّين : ٨٢ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٤ / ١٨ ، و : ١٦ / ٤٩ ـ ٥١ ، تذكرة الخواصّ : ٢٢٣ ، تأريخ اليعقوبي : ١ / ٢٠٠ ، تأريخ أبي الفداء : ١ / ١٩٢ ، العقد الفريد : ٣ / ١٢٨ ، أنساب الأشراف : ١ / ٤٠٤ ، الطّبقات الكبرى : ٨ / ٥٠ ، كتاب عائشة والسّياسة : ٢١٨ ، الإستيعاب : ١ / ٣٧٤ ، كفاية الطّالب : ٢٦٨ ، الفتوح لابن أعثم : ٢ / ٣٢٣ هامش رقم «٣».

٣٢٤

واختلال الأعصاب؟ هل هيمنت عليها العاطفة العمياء الّتي لا يبقى معها أثر لعقل ولا دين؟ وبالتّالي ، هل خرجت عن حدود الإتزان والإحتشام؟ حاشا بنت النّبيّ ، وفاطمة ، وعليّ ، وأخت الحسنين ، وحفيدة أبي طالب أن تنهزم أمام النّكبات ، وتستسلم للضّربات حاشا النّفس الكبيرة أن تتمكن منها العواطف ، أو تزعزعها العواصف فلقد تحولت تلك المحن ، والمصائب بكاملها إلى عقل ، وصبر ، وثقة بالله ، وكشفت كلّ نازلة نزلت بها عن معنى من أسمى معاني الكمال ، والجلال ، وعن سرّ من أسرار الإيمان النّبويّ المحمّديّ ، أنّ اعتصامها بالله ، وإيمانها به تماما كإيمان جدّها رسول الله.

وليس في قولي هذا أيّة شائبة من المغالاة ما دمت أقصد الإيمان الصّحيح الكامل الّذي لا ينحرف بصاحبه عن طاعة الله ومرضاته مهما تكن الدّوافع والملابسات وأي شيء أدل على هذه الحقيقة من قيامها بين يدي الله للصّلاة ليلة الحادي عشر من المحرّم ، ورجالها بلا رءوس على وجه الأرض تسفي عليهم الرّياح ، ومن حولها النّساء ، والأطفال في صياح وبكاء ، ودهشة وذهول ، وجيش العدو يحيط بها من كلّ جانب أنّ صلاتها في مثل هذه السّاعة تماما كصلاة جدّها رسول الله في المسجد الحرام ، والمشركون من حوله يرشقونه بالحجارة ، ويطرحون عليه رحم شاة ، وهو ساجد لله عزّ وعلا ، وكصلاة أبيها أمير المؤمنين في قلب المعركة بصفّين ، وصلاة أخيها سيّد الشّهداء يوم العاشر ، والسّهام تنهال عليه كالسّيل.

ولا تأخذك الدّهشة ـ أيّها القاريء ـ إذا قلت : أنّ صلاة السّيّدة زينب ليلة الحادي عشر من المحرّم كانت شكرا لله على ما أنعم ، ، وأنّها كانت تنظر إلى تلك

٣٢٥

الأحداث على أنّها نعمة خصّ الله بها أهل بيت النّبوّة من دون النّاس أجمعين ، وأنّه لولاها لما كانت لهم هذه المنازل والمراتب عند الله والنّاس ولا يشك مؤمن عارف بأنّ أهل البيت لو سألوا الله سبحانه دفع الظّلم عنهم ، وألحوا عليه في هلاك الظّالمين لأجابهم إلى ما سألوا ، كما لا يشك مسلم بأنّ رسول الله لو دعا على مشركي قريش لإستجاب دعاءه(١) ولكنّهم لو دعوا واستجاب لم تكن لهم هذه الكرامة الّتي نالوها بالرّضا والجهاد ، والقتل والإستشهاد ، وفي هذا نجد تفسير قول الحسين : «رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصّابرين ، لن تشذّ عن رسول الله لحمته بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه ، وينجز بهم وعده ، من كان باذلا فينا مهجته ، وموطّنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّني راحل ، مصبحا إنّ شاء الله تعالى»(٢) . وقول أبيه أمير المؤمنين ، وهو يجيب عن هذا السّؤال : فقال لي : «فكيف صبرك إذا»! فقلت : يا رسول الله ، ليس هذا من مواطن الصّبر ، ولكن من مواطن البشرى والشّكر.

__________________

(١) حين لقي المسلمون من المشركين شدّة شدّيدة قالوا لرسول الله : ألا تدعو الله : ألا تدعو الله لنا؟. قال : أنّ من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق بإثنين ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتمنّ الله هذا الأمر ، حتّى ليسير الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا الله». وهكذا تمّ أمر أهل البيت لا يخاف مواليهم إلّا الله ، والحمد الله. (منه قدس‌سره).

انظر ، صحيح البخاري : ٣ / ١٣٢٢ ح ٣٤١٦ و : ٦ / ٢٥٤٦ ح ٦٥٤٤ ، صحيح ابن حبّان : ٧ / ١٥٦ ح ٢٦٩٧ ، سنن البيهقي الكبرى : ٩ / ٥ ح ٢٧٤٩٨ ، السّنن الكبرى : ٣ / ٤٥٠ ح ٥٨٩٣ ، مسند البزّار : ٦ / ٦٧ ح ٢١٢٧ ، مسند أحمد : ٥ / ١٠٨ ح ٢١٠٩٥ و ٢١١٠٧ و ٢٧٢٦٠ ، مسند أبي يعلى : ١٣ / ١٧٤ ح ٧٢١٣ ، المعجم الكبير : ٤ / ٦٢ ح ٣٦٣٨.

(٢) تقدّمت تخريجاته.

٣٢٦

وقال : «يا عليّ ، إنّ القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنّون بدينهم على ربّهم ، ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشّبهات الكاذبة ، والأهواء السّاهية ، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ ، والسّحت بالهديّة ، والرّبا بالبيع».

قلت : يا رسول الله ، فبأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردّة ، أم بمنزلة فتنة؟ فقال : «بمنزلة فتنة»(١) .

وزينب هي بنت أمير المؤمنين لا تعدوه في إيمانها ، ولا في نظرها إلى طريق الخلود والكرامة ولذا لم تترك الصّلاة شكرا لله ، حتّى ليلة الحادي عشر من المحرّم ، وحين مسيرها مسبيّة إلى الكوفة والشّام ، وحمدت الله ، وهي أسيرة في مجلس يزيد على أن ختم الله للأوّل من أهل البيت بالسّعادة ، وللآخر بالشّهادة والرّحمة.

ومن الخير أن ننقل كلمة لأبيها أمير المؤمنين تتّصل بالموضوع وتلقي عليه ضوءا من أنوار الحكمة كالهداية ، قال :

«أنّ أشدّ النّاس بلاء النّبيّون ، ثمّ الوصيون ، ثمّ الأمثل فالأمثل ، وإنّما يبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة ، فمن صحّ دينه ، وحسن عمله اشتدّ بلاؤه ، ذلك أنّ الله لم يجعل الدّنيا ثوابا لمؤمن ، ولا عقوبة لكافر ، ومن سخف دينه ضعف عمله ، وقلّ بلاؤه ، وأنّ البلاء أسرع إلى المؤمن التّقي من المطر إلى قرار الأرض»(٢) .

__________________

(١) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة «١٥٦».

(٢) انظر ، الكافي : ٢ / ٢٥٩ ح ٢٩ ، علل الشّرائع : ١ / ٤٤ ح ١ ، السّرائر لابن إدريس : ٣ / ١٤٣ ، وسائل الشّيعة : ٣ / ٢٦٢ ح ٨.

٣٢٧

وبعد ، فإنّ الأحداث الّتي مرّت بالسّيّدة زينب لفتت إليها الأنظار ، فتحدّث عنها المؤرّخون وأصحاب السّير في موسوعاتهم ، ومنهم من وضع في سيرتها كتبا مستقلة ، وأشاد الخطباء بفضلها وعظمتها من على المنابر ، ونظم الشّعراء القصائد في أحزانها وأشجانها ، وصبرها وثباتها ، ونذكر هنا ـ على سبيل المثال ـ هذه القطعة الدّامية لهاشم الكعبي :

وثواكل في النّوح تسعد مثلها

أرأيت ذا ثكل يكون سعيدا

ناحت فلم تر مثلهنّ نوائحا

إذ ليس مثل فقيدهنّ فقيدا

لا العيس تحكيها إذا حنّت ولا

الورقاء تحسن عندها ترديدا

أن تنع أعطت كلّ قلب حسرة

أو تدع صدّعت الجبال الميدا

عبراتها تحيي الثّرى لو لم تكن

زفراتها تدع الرّياض همودا

وغدت أسيرة خدرها ابنة فاطم

لم تلق غير أسيرها مصفودا

تدعو بلهفة ثاكل لعب الأسى

بفؤاده حتّى إنطوى مفؤودا

تخفي الشّجا جلدا فإن غلب الأسى

ضعف فأبدت شجوها المكمودا

نادت فقطّعت القلوب بشجوها

لكنّما إنتظم البيان فريدا

ماذا نسمّي هذه النّغمات الحزينة؟ أنسميها شعرا ، والشّعر يحتاج إلى أعمال الفكر ، وتخير المعاني والألفاظ ، والكعبي لم يفعل شيئا من ذلك ، وإنّما انعكست في نفسه آلآم آل الرّسول ، ثمّ فاضت بها من حيث لا يشعر ، تماما كما فاضت عيون الثّاكلات بالعبرات وكل شيعي صادق الولاء لآل نبيّه يعبر عن ولائه بالبكاء ، وإقامة العزاء لمّا أصابهم وحلّ بهم ، أو بشد الرّجال لزيارة قبورهم ومشاهدهم المقدّسة ، أو بالإحتجاج لحقّهم ، ومنافحة خصومهم ، أو بثورة

٣٢٨

شعريّة ، كما فعل السّيّد حيدر الحلّي(١)

أمّا أن تكون نفس المحبّ بالذات هي الأداة المعبّرة عن حبّه وولائه ، فهذا ما لا نعرفه إلّا من أفراد قلائل جدّا ، منهم هاشم الكعبي ، والشّريف الرّضي أنّ هذه القطعة ليست وصفا لندب الثّواكل وحنينها إلى سيّدها وكفيلها ، ولا تصويرا لأحزانها واشجانها ، وكفى ، ولا أخبار بالّذي أصاب آل محمّد ، كما قال بعض الشّعراء :

سبيت نساء محمّد وبناته

من بعد ما قتلت هناك رجاله

وإنّما هي قلب مضطرم قد استحال إلى كلمات تلهب القلوب والمشاعر فلقد هيمن الولاء على الكعبي ، وانتقل به من عالمه ودنياه إلى عالم الثّواكل في كربلاء ، فشعر بشعورهنّ ، وأحس بإحساسهنّ ، حتّى أصبح مثلهنّ ثاكلا يندب وينوح بعبرات تحيي الثّرى ، وزفرات تدع الرّياض هودا.

__________________

(١) شاعر مكثر ومجيد في رثاء الحسين ، وشعره كلّه أو جلّه ثورة ، وحماسة ، واستنهاض. (منهقدس‌سره ).

٣٢٩
٣٣٠

نوايا يزيد

مات معاوية ، وتولى يزيد الأمر من بعده ، وأبى إلّا أن يأخذ لنفسه بيعة الحسين وقال الحسين كلمته الّتي لا يحول عنها ، ولا يزول ، مهما تكن العواقب : «ومثلي لا يبايع مثله»(١) وكانت المأساة الّتي لا يزال ولن يزال يجري دمها طريّا على وجه الأرض ، كما قال السّيّد العبيدي أنّ معاوية ليس بشيء من الإسلام ، ولا من الإنسانيّة في حساب الحسين ، فكيف بولده يزيد؟! وإقرأ معي هذا التّأنيب والتّوبيخ الّذي وجّهه الحسين لمعاوية بصوت عال جريء.

الحسين ومعاوية :

كتب مروان بن الحكم ، وهو عامله على المدينة :

أمّا بعد ، فإنّ عمرو بن عثمان ذكر أنّ رجالا من أهل العراق ، ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن عليّ ، وأنّه لا يؤمن وثوبه ، وقد بحثت عن ذلك ، فبلغني أنّه يريد الخلاف يومه هذا ، فاكتب إليّ برأيك.

__________________

(١) تقدّمت تخريجاته.

٣٣١

فكتب معاوية إلى الحسين :

أمّا بعد : فقد انتهت إليّ أمور عنك إن كانت حقّا فقد أظنّك تركتها رغبة فدعها ، ولعمر الله أنّ من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء ، فإن كان الّذي بلغني باطلا فإنّك أنت أعزل النّاس لذلك ، وعظ نفسك ، فاذكر ، وبعهد الله أوف فإنّك متى ما تنكرني أنكرك ، ومتى ما تكدني أكدك ، فاتّق شقّ عصا هذه الأمّة وإن يردهم الله على يديك في فتنة ، فقد عرفت النّاس وبلوتهم ، فانظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمّد ، ولا يستخفنك السّفهاء والّذين لا يعلمون.

يا لسخرية الأقدار الشّجرة الملعونة في القرآن تقول لمن طهّره الله تطهيرا انظر لدينك ولأمّة محمّد عدوّ الله والرّسول الّذي قال لأهل الكوفة : «يا أهل الكوفة! أترون أنّي قاتلتكم على الصّلاة ، والزّكاة ، والحجّ ، وقد علمت أنّكم تصلّون ، وتزكون ، وتحجون ، ولكنّي قاتلتكم لأئتمر عليكم ، وألي رقابكم ، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا إنّ كلّ دم أصيب في هذه مطلول ، وكلّ شرط شرطته فتحت قدمي هاتين»(١) . يقول لربيب الوحي : أنظر لدينك ولأمّة محمّد؟ ولكنّ الحسين قد أبطل كيده ، وهدم كهفه ، وأرغم أنفه ، حيث أجابه : أمّا بعد : فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي أمور أنت عنها راغب وأنا بغيرها عندك جدير ، فإنّ الحسنات لا يهدى لها ولا يسدّد إليها إلّا الله تعالى.

وأمّا ما ذكرت أنّه رقيّ إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاقون المشّاؤون

__________________

(١) انظر ، البداية والنّهاية : ٦ / ٢٤٦ ، تأريخ دمشق : ٥٢ / ٣٨٠ ، تأريخ ابن كثير : ٨ / ١٢١ ، الكامل في التّأريخ : ٦ / ٢٢٠ ، مقاتل الطّالبيين : ٧٠ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٤ / ١٦ و : ١٦ / ١٥ ، المعرفة والرّجال للبسوي : ٣ / ٣١٨ ، شرح الأخبار : ٢ / ١٥٧ ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ١٩٦ ، المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي : ٧ / ٣٥١ ح ٢٣ ، تأريخ دمشق : ٥٢ / ٣٨٠ و : ٥٩ / ١٥٠ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٤٠.

٣٣٢

بالنّميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون.

وما أردت إليك حربا ، ولا عليك خلافا ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الأعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظّلمة وأولياء الشّياطين.

ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الّذين كانوا ينكرون الظّلم ، ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظلما وعدوّانا ، من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكّدة ، لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ، جرأة منك على الله واستخفافا بعهده؟

أولست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله العبد الصّالح الّذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه ، واصفرّ لونه ، فقتلته بعد ما أمّنته ، وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال؟

أولست بمدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش ، وللعاهر الحجر»(١) ، فتركت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعمدا ، وتبعت هواك بغير هدى من الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ، ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسمّل أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النّخل ، كأنّك لست من هذه الأمّة وليسوا منك؟

أولست قاتل الحضرمي الّذي كتب فيه إليك زياد أنّه على دين عليّ كرّم الله

__________________

(١) انظر ، مسند الإمام الشّافعي : ١٨٨ ، مسند أحمد : ٢ / ٣٨٦ ، سنن الدّارمي : ٢ / ١٥٢ ، صحيح البخاريّ : ٣ / ٣٩ ، صحيح مسلم : ٤ / ١٧١ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٦٤٦ ، سنن التّرمذي : ٣ / ٢٩٣ ، مصباح الزّجاجة : ٢ / ١٢٢ ، مسند الشّهاب : ١ / ١٩٠ ، البيان والتّعريف : ٢ / ١٣٠ و ٢٦٧ ، الّتمهيد لابن عبد البر : ٨ / ١٩١ ، كشف الخفاء : ٢ / ٤٥١ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ١٠ / ٣٧.

٣٣٣

وجهه ، فكتب إليه أن أقتل كلّ من كان على دين عليّ ، فقتلهم ، ومثّل بهم بأمرك ، ودين عليّ هو دين ابن عمّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الّذي أجلسك مجلسك الّذي أنت فيه ، ولو لا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشم الرّحلتين رحلة الشّتاء والصّيف؟

وقلت فيما قلت : أنظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمّد ، واتّق شقّ عصا هذه الأمّة وأن تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمّة من ولايتك عليها ، ولا أزعلم نظرا لنفسي ولديني ولأمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله علينا أفضل من أن جاهدك ، فإن أفعل فإنّه قربة إلى الله ، وإن تركته فإنّي استغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري

وقلت فيما قلت : إنّي إن أنكرتك تنكرني وإن أكدك تكدني ، فكدني ما بدا لك ، فإنّي أرجو الله أن لا يضرني كيدك ، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ، لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرصّت على نقض عهدك. ولعمري ما وفيّت بشرط ، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النّفر الّذين قتلتهم بعد الصّلح والأيمان والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا. ولم تفعل ذلك بهم إلّا لذكرهم فضلنا ، وتعظيمهم حقّنا ، فقتلتهم مخافة أمر لعلّك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا. فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، وليس الله بناس لأخذك بالظّنة وقتلك أولياءه على التّهم ، ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة. وأخذك للنّاس بيعة ابنك ، غلام حدث ، يشرب الشّراب ، ويلعب بالكلاب ، وما أراك إلّا قد خسرت نفسك ، وبترت دينك ، وغششت رعيتك وأخربت

٣٣٤

أمانتك ، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل ، وأخفت الورع التّقي ، والسّلام(١) .

ولمّا قرأ معاوية الكتاب أطلع عليه ولده يزيد ، فقال له : أجبه جوابا يصغر إليه نفسه ، واذكر أباه عليّا بشر.

فقال معاوية : وما أقول في عليّ ، ومثلي لا يحسن أن يعيب بالباطل؟ ومتى ما عبت رجلا بما لا يعرفه النّاس كذّبوه ، وما عسيت أن أعيب حسينا؟ وو الله ما أرى للعيب فيه موضعا وقد رأيت أن أكتب إليه أتوعده أتهدده ، ثمّ رأيت أن لا أفعل ولا أمحكه(٢)

الحسين يبايع يزيد وهو يقف من أبيه معاوية هذا الموقف ، ويخاطبه بهذا الإحتقار والإزدراء : ركبت جهلك ، ونقضت عهدك ، وخسرت دينك ، وغششت الرّعية ، وقتلت أولياء الله ، وأخذت البيعة لغلام يشرب الشّراب ، ويلعب بالكلاب؟!.

قرأ يزيد هذا السّجل الخالد في مثالبه ، ومثالب من مهّد له ، وبايعه بالخلافة ، فحرّض أباه على أن ينال بالباطل من عليّ والحسين ، ولم يجد معاوية ما يقوله أللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا ، فاجتر يزيد ضغينته وأحقاده ، وانطوى على غيظه وغضبه ينتظر الفرصة المؤاتية.

فوران الحقد :

وبعد أن هلك معاوية ، وتولّى يزيد الأمر من بعده صمّم أن يقتل الحسين على

__________________

(١) انظر ، أعيان الشّيعة : ٤ / ١٤٢ طبعة سنة (١٩٤٨ م) نقلا عن كتاب «الإمامة والسّياسة» لابن قتيبة.وذكر هذا الكتاب أيضا صاحب البحار : ١٠ / ١٤٩. (منه قدس‌سره ).

(٢) انظر ، معدن الحكمة : ١ / ٥٨٢ ، الإحتجاج للطّوسي : ٢٧٩ ، معجم رجال الحديث : ١٩ / ٢١٥ ، العوالم : ١٧ / ٩٣ ح ٦ ، إختيار معرفة الرّجال : ١ / ٢٥٩.

٣٣٥

كلّ حال ، وبأيّ ثمن ، ومهما تكن النّتائج وسواء أصحّ أنّ معاوية أوصاه خيرا بالحسين ، أو لم يصحّ ، فإنّ فوران الحقد ، واللّؤم ، والبغض ، والغيظ من الحسين قد بلغ الغاية من نفسه ، وأدّى به إلى حمق لا تجدي معه النّصيحة ، وإلى داء لا يشفيه إلّا الإنتقام ، ولو كان به ذهابه وذهاب ملكه ، ومن قبل قال عبد الله بن الزّبير : «اقتلوني ومالكا»(١) .

صمّم الحسين أن لا يبايع يزيد ، قتل أو لم يقتل ، لسبب واحد وهو «مثله لا يبايع مثل يزيد»(٢) وصمّم يزيد على قتل الحسين بايع أو لم يبايع لأسباب : «منها» : العداء المبدئي الّذي أشار إليه الإمام الصّادق بقوله : «نحن وآل أبي سفيان تعادينا في الله ، قلنا : صدق الله. وقالوا كذب الله»(٣) .

و «منها» : العداء الشّخصي ، فقد كان يزيد يعلم علم اليقين بأنّ الحسين يزدريه ويحتقره وأباه معاوية ، وأيضا يعلم بأنّ الحسين ينظر إليه وإلى أبيه كما ينظر إلى المنافقين والمفترين ، ولا شيء أشدّ وطأة على النّفس من الإحتقار والإستخفاف.

و «منها» : الأخذ بثارت بدر ولذا هتف بأشياخه حين وضع رأس الحسين بين يديه ، وقال : «ليت أشياخي ببدر شهدوا».

__________________

(١) انظر ، الفتوح لابن أعثم : ١ / ٤٨٥ وما بعدها ، وقارن بين قوله وقول المؤرّخ في تأريخ الطّبري : ١ / ٣١٩٩ ـ ٣٢٠٠ ، و : ٥ / ٢٠٤ و ٢١٠ و ٢١١ ، والواقدي برواية شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١ / ٨٧ في شرح الخطبة «كنتم جند المرأة» ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ٩٩ ، العقد الفريد : ٤ / ٣٢٦ طبعة لجنة التّأليف ، الإمامة والسّياسة : ١ / ٩٦ ، الهامش رقم (١ و ٢) في نفس الصّفحة.

(٢) تقدّمت تخريجاته.

(٣) تقدّمت تخريجاته.

٣٣٦

وقد تجاهل هذه الحقيقة الّذين اضمروا العداء لعليّ وبنيه ، وقالوا : أنّ الحسين ألقى بيده إلى التّهلكة ، وكان عليه أن يسلّم ليزيد ، ما دام عاجزا عن مقاومته قالوا هذا ، وهم يعلمون أنّ الحسن صالح معاوية ، وسلّم له الأمر ، ثمّ غدر به ، وأنّ معاوية أعطى العهود والمواثيق لأولياء الله كحجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق وغيره ، ثمّ نقضها ، وقتلهم دون أن يقاتلوه ، وأنّ مسلم بن عقيل ألقى السّلاح بعد أن أخذ العهد والأمان من أذناب الأمويّين ، ثمّ قتلوه ومثّلوا به.

وجاء في البحار :

«أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد إلى مكّة ، وولّاه الموسم وأمره بقتل الحسين على أي حال اتّفق ، وأنّه دسّ مع الحاج ثلاثين رجلا ، ليغتالوا الحسين ، ولمّا علم الحسين بذلك خرج من مكّة ، وقبل خروجه قال لأخيه محمّد بن الحنفيّة : والله يا أخي لو كنت في حجر هامّة من هوام الأرض لإستخرجوني منه ، حتّى يقتلوني(١) وفي هذا دلالة ظاهرة أنّه مقتول ، حتّى ولو سالم وبايع ، وكانوا يعرضون عليه البيعة صورة ، لعلمهم بأنه لا يبايع ، ألا ترى كيف أشار مروان بن الحكم بقتل الحسين على والي المدينة؟ وكيف كتب ابن زياد لابن سعد :

__________________

(١) انظر ، بحار الأنوار : ١٠ / ١١٦. وما رأيت أجهل ممّن قال : كيف اطمأنّ الحسين لأهل الكوفة ، وقد غدروا بأخيه ر ، وأبيه من قبل؟ فهل كان الحسين يجهل ذلك؟. ألم يصرح أكثر من مرّة بأنّ الله شاء أن يراني قتيلا ، ويرى نسوتي سبايا؟ (منهقدس‌سره ).

انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٢٩٥ ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ٥٤٦ ، تهذيب تأريخ دمشق لابن عساكر: (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ) : ٢١٢ ح ٦٦٤ ، وقعة الطّفّ : ١٥٢ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ٢١٨ مقتل الحسين لأبي مخنف : ٦٧ ، مقاييس اللّغة لابن فارس : ٤ / ٤٩٦ ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ٧٤ البداية والنّهاية : ٦ / ١٦٣ ح ١٦٦٠٨ ، ينابيع المودّة : ٣ / ٦٠ ، الطّبقات لابن سعد : ح ٢٧٨.

٣٣٧

أعرض على الحسين : أن ينزل على حكم بني عمّك ـ يقول : «لا والله ، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذّليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد. عباد الله : إنّي عذت بربّي وربكم أن ترجمون. أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب ، ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين : بين السّلة والذّلّة ، وهيهات منّا الذّلّة ، يأبى الله لنا ذلك ، ورسوله ، والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف حميّة ، ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام»(١) .

ومن عرف حقيقة يزيد ، وعوامله النّفسيّة ، وتربيته لا يشك في شيء من ذلك ...أنّ يزيد ينزع للإنتقام بطبيعته وفطرته ، وبنسبه وتربيته ، ولا يشبع نزعته هذه ، البيعة وغير البيعة ، لا يشبعها إلّا الدّم ، حتّى الدّم لم يشف غليل جدّته هند فلاكت كبد الحمزة ، واتّخذت من أطرافه قلادة تتزين بها لجدّه أبي سفيان(٢)

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤٢٥ ـ ٤٢٦ طبعة سنة ١٩٦٤ م ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٢) قتل حمزة والّتمثيل به :

حمزة بن عبد المطّلب يكنى أبا عمارة ، وأبا يعلى ، وهو أسد الله وأسد رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله عمّ النّبيّ قتله غلام يقال له وحشي مولى مطعم بن جبير ، وقد بعثه مولاه مع قريش وقال له : إن قتلت حمزة بعمّي طعيمة بن عديّ فأنت عتيق ، وجعلت هند بنت عتبة لوحشي جعلا على أن يقتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أو عليّا أو حمزة. فقال : أمّا محمّد فلا حيلة فيه ، لأنّ أصحابه يطوفون به. وأمّا عليّ فإنّه إذا قاتل كان أحذر من الذّئب. وأمّا حمزة فأطمع فيه ، لأنّه إذا غضب لا يبصر ما بين يديه ، فقتله وحشي ، وجاءت هند فأمرت بشقّ بطنه وقطع كبده والتّمثيل به ، فجدعوا أنفه واذنيه. وهي الّتي اتخذت من آذان الرّجال وآنافهم وأصابع أيديهم وأرجلهم ومذاكيرهم قلائد ومعاضد ، واعطت وحشي معاضدها وقلائدها جزاء قتله حمزة فلاكة كبده فلم تسفه فلفظته. (انظر ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ١١١ ، الدّرجات الرّفيعة : ٦٦ ـ ٦٩ ، السّيرة النّبويّة لابن هشام : ٣ / ٩٦ ، السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٤٦ ، كشف اليقين لابن ـ

٣٣٨

__________________

ـ المطهّر الحلّي : ١٢٨).

وذكر أهل السّير والأخبار كابن جرير ، وابن الأثير ، وابن كثير ، وصاحب العقد الفريد وغيرهم ما قد أخرجه أحمد بن حنبل : ٢ / ٤٠ عن ابن عمر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لما رجع من أحد جعلت نساء قريش يبكين على من قتل من أزواجهن. قال : فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ولكن حمزة لا بواكي له ، قال : ثمّ نام فانتبه وهنّ يبكين ، قال فهنّ اليوم إذا يبكين يندبن حمزة.

وفي ترجمة حمزة من الإستيعاب نقلا عن الواقدي بهامش الإصابة : ١ / ٢٧٥ قال : لم تبك امرأة من الأنصار على ميّت ـ بعد قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لكن حمزة لا بواكي له ـ إلى اليوم إلّا بدأنّ بالبكاء على حمزة. (انظر للمزيد اسد الغابة ، والطّبقات الكبرى : ٢ / ٤٤ ، و : ٣ / ١١ و ١٧ ـ ١٩ ، ذخائر العقبى : ١٨٣ ، والسّيرة النّبويّة لابن هشام : ٣ / ١٠٤ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١٥ / ٤٢ ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ١١٣ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ١٢٠.

كان حمزة ، يحمل على القوم ، فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له أحد ، لكن غدر وحشي وحقد هند هما اللّذان مكنّا حربة وحشي فأصابته في أربيته ، وانشغال المسلمون بهزيمتهم هي الّتي مكّنت هند من شقّ بطنه وقطع كبده والتّمثيل به ، ولذا قال الشّاعر كما في كشف الغمّة : ١ / ٢٥٨.

ولا عار للأشراف إن ظفرت بها

كلاب الأعادي من فصيح وأعجم

فحربة وحشي سقت حمزة الرّدى

وحتف عليّ من حسام ابن ملجم

وحين رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لو لا أن تحزن صفيّة أو تكون سنّة بعدي تركته حتّى يكون في أجواف السّباع وحواصل الطّير ، ولئن أظهرني الله على قريش لأمثّلنّ بثلاثين رجلا منهم. كما ذكر ابن الأثير في الكامل : ٢ / ١٦١. وقال المسلمون : لنمثّلنّ بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب ، فأنزل الله في ذلك :( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) النّحل : ١٢٦.

ولذا ورد في السّيرة الحلبية عن ابن مسعود : ٢ / ٢٤٦ قال : ما رأينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باكيا أشدّ من بكائه على حمزة عليه‌السلام ووضعه في القبلة ، ثمّ وقف على جنازته وانتحب حتّى نشق ـ أي شهق ـ حتّى بلغ به الغش ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمّ رسول الله ، وأسد الله ، وأسد رسول الله ، يا حمزة فاعل الخيرات ، يا حمزة يا كاشف الكربات ، يا حمزة يا ذابّ عن وجه رسول الله. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : جاءني جبريل عليه‌السلام وأخبرني بأنّ حمزة مكتوب في أهل السّماوات السّبع : حمزة بن عبد المطّلب أسد الله وأسد رسوله. وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الزّبير أن يرجع أمّه صفيّة اخت حمزة ؛ عن رؤيته ، فقال لها : يا امّه ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ

٣٣٩

__________________

ـ يأمرك أن ترجعي ، فدفعت في صدره وقالت : لم وقد بلغني أنّه مثّل بأخي ، وذلك في الله قليل فما أرضاني بما كان في الله من ذلك ، لأحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء الله تعالى ، فجاء الزّبير فأخبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : خلّ سبيلها ، فجاءت واسترجعت واستغفرت له.

وفي رواية : كفّن حمزة بنمرة كانوا إذا مدّوها على رأسه انكشفت رجلاه ، وإن مدّوها على رجليه انكشف رأسه ، فمدّوها على رأسه وجعلوا على رجليه الأذخر ، وأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله به فدفن. ذكر ذلك صاحب السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٤٧ ، وابن الأثير في الكامل : ٢ / ١٦٢.

وذكر الواقدي أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يومئذ إذا بكت صفيّة يبكي وإذا نشجت ينشج. قال : وجعلت فاطمة تبكي فلمّا بكت بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وروى ابن مسعود قال : ما رأينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باكيا قطّ أشدّ من بكائه على حمزة بن أبي طالب لما قتل ـ إلى أن قال : ـ ووضعه في القبر ثمّ وقفصلى‌الله‌عليه‌وآله على جنازته وانتحب حتّى نشغ من البكاء. ذكر ذلك صاحب الاستيعاب بهامش الإصابة : ١ / ٢٧٥ الطّبعة الأولى ، والإمتاع للمقريزي : ١٥٤ ، والكامل في التّأريخ : ٢ / ١٧٠ ، ومجمع الزّوائد : ٦ / ١٢٠ ، والصّحيح من سيرة النّبيّ الأعظم : ٤ / ٣٠٧ و ٣١٠ ، وذخائر العقبى : ١٨٠ ، وسيرة ابن هشام : ٣ / ١٠٥ ، والسّيرة الحلبية : ٢ / ٢٤٦ ، وشرح النّهج : ١٥ / ٣٨٧ و ١٧.

ولسنا بصدد بيان جواز أو حرمة البكاء على الميت ولكن نترك للقارئ الكريم مجال التّفكير عند مراجعة المصادر التّالية على سبيل المثال لا الحصر منذ بكاء آدمعليه‌السلام على ابنه هابيل إلى اليوم لأنّ البكاء سنّة طبيعية.

انظر ، العرائس للثّعالبي : ٦٤ طبعة بمبي و ١٣٠ و ١٥٥ ، الطّبقات الكبرى لابن سعد : ١ / ١٢٣ ، و : ٢ / ٦٠ الطّبعة الثّانية طبعة بيروت ، فرائد السّمطين : ١ / ١٥٢ ح ١١٤ ، و : ٢ / ٣٤ ح ٢٧١ ، والمصنّف لابن أبي شيبة : ٦ و ١٢ ، كنز العمّال : ١٣ / ١١٢ الطّبعة الثّانية ، و : ١٥ / ١٤٦ ، و : ٦ / ٢٢٣ الطّبعة الأولى ، تأريخ دمشق : ٢ / ٢٢٩ ح ٣٦٧ و ٣٢٧ ح ٨٣١ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ١١٨ و ١٧٩ و ١٨٩ الفضائل لأحمد بن حنبل : ح ٢٣١ ، المستدرك للحاكم : ٣ / ١٣٩ ، و : ٤ / ٤٦٤ ، تأريخ بغداد : ١٢ / ٣٩٨ ، و : ٧ / ٢٧٩ ، المناقب للخوارزمي : ٢٦ ، ينابيع المودّة : ٥٣ و ١٣٥.

سنن البيهقيّ : ٤ / ٧٠ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ٥١٨ ، ذخائر العقبى : ١١٩ و ١٤٧ و ١٤٨ ، دلائل النّبوّة للبيهقي في ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام من تأريخ دمشق : ح ٦٢٢ و ٦١٢ ـ ٦١٤ و ٦٢٦ ـ ٦٣٠ ، المعجم ـ

٣٤٠

__________________

ـ الكبير للطّبراني حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : ١٢٢ ح ٤٥ و ٤٨ و ٩٥ ، كفاية الطّالب : ٢٧٩ ، أعلام النّبوّة للماوردي : ٨٣ باب ١٢ ، نظم درر السّمطين : ٢١٥ ، البداية والنّهاية لابن كثير : ٦ / ٢٣٠ ، و : ٨ / ١٩٩ ، الرّوض النّضير : ١ / ٨٩ و ٩٢ و ٩٣ ، و : ٣ / ٢٤ ، مروج الذّهب : ٢ / ٢٩٨ ، اسد الغابة : ١ / ٢٠٨ ، حلية الأولياء : ٣ / ١٣٥ ، الرّياض النّضرة : ٢ / ٥٤ الطّبعة الأولى.

واستشهد من المهاجرين يوم أحد مع حمزة أسد الله وأسد رسوله : عبد الله بن جحش ، ومصعب بن عمير ، وشماس بن عثمان بن الشّريد ، واستشهد من الأنصار واحد وستون رجلا. (انظر ، المعارف لابن قتيبة : ١٦٠).

وروى ابن مسعود : أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى على حمزة وبكى وقال كما أسلفنا سابقا : يا حمزة يا عمّي ، يا حمزة يا أسد الله وأسد رسوطه ، يا حمزة يا فاعل الخيرات ، يا حمزة يا كاشف الكربات ، يا حمزة يا ذابّ عن وجه رسول الله قال : وطال بكاؤه ، قال : ودعا برجل رجل حتّى صلّى على سبعين رجلا سبعين صلاة وحمزة موضوع بين يديه. ذكر ذلك صاحب ذخائر العقبى : ١٨١.

أمّا الرّواية الّتي نقلها صاحب الينابيع عن عبد الله بن مسعود فقد جاء فيها : لمّا قتل حمزة وقتل إلى جنبه رجل من الأنصار يقال له سهيل ، قال : فجيء بحمزة وقد مثّل به. فجاءت صفيّة بنت عبد المطّلب بثوبين لكفنه ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : دونك المرأة فردّها ، فأتاها الزّبير بن العوّام ـ كما ذكرنا سابقا ـ فدفعت الثّوبين وانصرفت. فأقرع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بينه ـ حمزة ـ وبين سهيل فأصاب سهيلا أكبر الثّوبين ـ إلى أن قال : ـ فدعا برجل رجل حتّى صلّى عليه سبعين صلاة وحمزة على حالته. فقد أخرجها أحمد ، والبغوي ، وصاحب الصّفوة ، والمحاملي ، وابن شاذان.

أمّا مقتل مصعب بن عمير : فإنّه لمّا علمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ لواء المشركين مع طلحة من بني عبد الدّار أخذ اللّواء من عليّعليه‌السلام ودفعه إلى مصعب بن عمير لأنّه أيضا من بني عبد الدّار وقال : نحن أحقّ بالوفاء منهم.

ورد ذلك في الكامل في التّأريخ : ٢ / ١٥٠. وقال الطّبريّ : ٢ / ٢١٩٩ ، وابن الأثير أيضا : ٢ / ١٥٥ ، قاتل مصعب بن عمير دون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه لواؤه حتّى قتل ، وكان الّذي أصابه وقتله ابن قميئة اللّيثي وهو يظنّ أنّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فرجع إلى قريش فقال : قتلت محمّدا ، فجعل النّاس يقولون قتل محمّد ، قتل محمّد ، فلمّا قتل مصعب بن عمير أعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اللّواء عليّ بن أبي طالب.

وتفرّق أكثر أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقصده المشركون وجعلوا يحملون عليه يريدون قتله ، وثبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرمي عن قوسه حتّى تكسّرت وقاتل قتالا شديدا ورمى بالنّبل حتّى فني نبله ـ

٣٤١

__________________

ـ وانكسرت سية قوسه وانقطع وتره. (انظر الكامل في التّأريخ لابن الأثير : ٢ / ١٥٤).

وهنا انخلعت القلوب وأوغلوا في الهروب كما قال تعالى :( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ ) آل عمران : ١٥٣ والرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوهم فيقول : إليّ عباد الله ، إليّ عباد الله ، أنا رسول الله من كرّ فله الجنّة. ولذا قال ابن جرير : ٢ / ٢٠٣ وابن الأثير في الكامل : ٢ / ١١٠ : وانتهت الهزيمة بجماعة المسلمين وفيهم عثمان بن عفّان وغيره إلى الأعوص فأقاموا بها ثلاثا ، ثمّ أتو النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لهم حين رآهم : لقد ذهبتم فيها عريضة. ذكر هذا الحديث تأريخ الطّبريّ : ٢ / ٢٠٣ ، الكامل لابن الأثير : ٢ / ١١٠ ، السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٢٧ ، البداية والنّهاية : ٤ / ٢٨ ، السّيرة النّبويّة لابن كثير : ٣ / ٥٥ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١٥ / ٢١ ، الدّر المنثور : ٢ / ٨٩ ، تفسير الفخر الرّازي : ٩ / ٥٠ للآية المذكورة.

ولسنا بصدد بيان من فرّ ورجع ، وماذا قال وقيل له ، كأنس بن النّضر عمّ أنس بن مالك حين قال لبعض المهاجرين حين ألقوا ما بأيديهم : ما يحبسكم قالوا : قتل النّبيّ ، قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟ موتوا على ما مات عليه النّبيّ. ثمّ استقبل القوم فقاتل حتّى قتل رضى الله عنه فوجد به سبعون ضربة وطعنه وما عرفته إلّا أخته من حسن بنانه : وقيل : لقد سمع أنس بن النّضر جماعة يقولون لمّا سمعوا أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قتل : ليت لنا من يأتي عبد الله بن أبي بن سلول ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان قبل أن يقتلونا ، فقال لهم أنس : يا قوم إن كان محمّد قد قتل فإنّ ربّ محمّد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمّد ، أللهمّ إنّي أعتذر إليك ممّا يقول هؤلآء وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلآء. ثمّ قاتل حتّى استشهد رضى الله عنه. علما بأنّ ابن جرير الطّبريّ ، وابن الأثير الجزري ، وابن هشام في السّيرة الحلبية وغيرهم قد ذكروا أسماء الّذين فرّوا يوم أحد ، ونحن نحيل القارئ الكريم على المصادر التّالية المتيسره لدينا على سبيل المثال لا الحصر : الكامل في التّأريخ لابن الأثير : ٢ / ١٠٨ و ١٤٨ ، السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٢٧ ، تأريخ الطّبريّ : ٢ / ٢٠٣ ، الدّر المنثور : ٢ / ٨٠ و ٨٨ و ٨٩ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١٥ / ٢٠ و ٢٢ و ٢٤ و ٢٥ ، و : ١٣ / ٢٩٣ ، و : ١٤ / ٢٧٦ ، البداية والنّهاية لابن كثير : ٤ / ٢٨ و ٢٩ ، السّيرة النّبويّة لابن كثير : ٣ / ٥٥ و ٥٨ ، السّيرة النّبويّة لابن هشام : ٤ / ٨٥ ، لباب الآداب : ١٧٩ ، حياة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لهيكل : ٢٦٥. انظر ، تفسير الرّازي : ٩ / ٥٠ و ٦٧ ، كنز العمّال : ٢ / ٢٤٢ ، و : ١٠ / ٢٦٨ و ٢٦٩ ، حياة الصّحابة : ١ / ٢٧٢ ، و : ٣ / ٤٩٧ ، المغازي للواقدي : ٢ / ٦٠٩ و ٩٩٠ ، منحة المعبود في تهذيب مسند الطّيّالسي : ٢ / ٩٩ ، طبقات ابن سعد : ٣ / ١٥٥ ، و : ٢ / ٤٦ و ٤٧ الطّبعة الأولى ، تأريخ الخميس : ١ / ٤١٣.

٣٤٢

الخروج بالنّساء :

قد يقول قائل : ما دام الحسين يعلم بأنّه مقتول لا محالة ، كما صرّح بذلك لأخيه محمّد بن الحنفيّة وحين علم بمقتل ابن عمّه مسلم ، وفي مناسبات شتى ، فلماذا صحب معه النّساء والأطفال ، حتّى جرى عليها ما جرى؟

الجواب :

أجل : أنّ الحسين والأصحاب والتّابعين كانوا يعلمون بمقتل الحسين قبل وقوعه ، فقد اشتهر وتواتر من طريق السّنّة والشّيعة أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر بذلك أكثر من مرّة قال صاحب «العقد الفريد» :

«قالت أمّ سلمة : «كان جبرائيلعليه‌السلام عند النّبيّ والحسين معي فغفلت عنه فذهب إلى النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعله على فخذه

فقال له جبرائيل أتحبّه يا محمّد؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم

فقال : إنّ أمّتك ستقتله ، وإن شئت أريتك تربة الأرض الّتي يقتل بها ، ثمّ فبسط جناحه إلى الأرض وأراه أرضا يقال لها كربلاء. تربة حمراء بطفّ العراق ، فبكى النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله »(١) .

__________________

(١) انظر ، العقد الفريد : ٥ / ١٢٤ طبعة (١٩٥٣ م). (منهقدس‌سره ).

انظر ، مسند أحمد : ٣ / ٢٤٢ ، و : ٦ / ٢٩٤ ، ذخائر العقبى : ١٤٦ ، كنز العمّال : ٧ / ١٠٦ و ١٠٥ و ١١٠ ، و : ٦ / ٢٢٢ و ٢٢٣ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ١٨٧ ـ ١٨٩ ، الصّواعق المحرقة : ١١٥ و ١٩٢ ح ٢٨. المستدرك على الصّحيحين : ٣ / ١٧٦ و ٢١٧٩ ، الطّبقات الكبرى : ٨ / ٢٠٤ ، الإصابة : ١ / ٦٨ و : ٨ / ٢٦٧ ، و : ٥ / ٢٣١ ، اسد الغابة : ٣ / ٣٤٢ ، و : ٢ / ١٠ ، مسند أحمد : ٦ / ٣٩٩ ، صحيح ابن ماجه ـ

٣٤٣

وقال صاحب ذخائر العقبى :

«قال رسول الله : «أنّ ابني هذا يعني الحسين يقتل بأرض من العراق فمن أدركه منكم فلينصره»(١) .

ثمّ قال صاحب الذّخائر : وهذا الحديث خرّجه البغوي في معجمه ، وأبو حاتم في صحيحه ، وأحمد في مسنده(٢) .

وبهذا يتبيّن معنى أنّ الّذين نهوا الحسين عن الخروج من الأصحاب والتّابعين ، وأعلموه بأنّه مقتول قد اعتمدوا على أحاديث النّبيّ ، وتجاهلوا قوله «فمن أدركه منكم فلينصره» إيثارا للعاجلة على الآجلة حين سمع ابن عمر بخروج الحسين أسرع خلفه حتّى أدركه في بعض المنازل ، فقال له : «إلى أين يا رسول الله؟.

__________________

ـ ٢٨٩ ، تأريخ دمشق : ١٣ / ٦٢ ح ٦٣١ ، مجمع الزّوائد للهيثمي : ٩ / ١٧٩ و ١٨٧ ، الصّواعق المحرقة : ١٩٢ ح ٢٨ و ٢٩ ، المناقب لأحمد : ٢ / ٧٧٠ ح ١٣٥٧ ، ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي : ٣ / ٧ و ٨ طبعة اسوة ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٥٩ ، تذكرة خواصّ الأمّة : ١٣٣ ، تأريخ ابن كثير : ٦ / ٢٣٠ ، ٨ / ١٩٩ ، أمالي الشّجري : ١٨٨ ، الرّوض النّضير : ١ / ٨٩ ، كنز العمّال : ٦ / ٢٢٣ ، الخصائص الكبرى : ٢ / ١٢٥.

(١) انظر ، ذخائر العقبى : ١٤٦ طبعة (١٣٥٦ ه‍). (منهقدس‌سره ). اسد الغابة : ١ / ١٤٦ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٩٩ ، وأنس ـ راوي الحديث ـ هو أنس بن الحارث.

(٢) انظر ، المستدرك على الصّحيحين : ٤ / ٤٤٠ ح ٨٢٠٢ ، مسند أحمد : ٦ / ٢٩٤ ، الإصابة : ١ / ١٢١ رقم «٢٦٦» ، الآحاد والمثاني : ١ / ٣١٠ ح ٤٢٩ ، المعجم الكبير : ٣ / ١٠٩ ح ٢٨٢١ و : ٢٣ / ٣٠٨ ح ٦٩٧ ، سير أعلام النّبلاء : ٣ / ٢٨٩ ، الثّقات لابن حبّان : ٤ / ٤٩ ، تأريخ دمشق : ١٤ / ٢٢٤ ، معرفة الثّقات للعجلي : ١ / ١٧ ، الرّوض النّضير : ١ / ٩٣ ، تهذيب الكمال : ٦ / ٤١٠ ، تأريخ ابن الوردي : ١ / ١٧٣ ، سبل الهدى والرّشاد : ١١ / ٧٥ ، ينابيع المودّة : ٣ / ٨ ، تهذيب ابن عساكر : ٤ / ٣٣٨ ، أسد الغابة : ١ / ١٣٢ ، الجرح والتّعديل للرّازي : ١ / ٢٨٧ ، تأريخ البخاري الكبير : ١ / ٣٠ رقم «١٥٨٣».

٣٤٤

قال : إلى العراق.

قال : اكشف لي عن الموضوع الّذي كان رسول الله يقبّله منك. فكشف له عن سرّته ، فقبّلها ابن عمر ثلاثا ، وبكى ، وقال : استودعك الله يا ابن رسول الله ، فإنّك مقتول في وجهك هذا(١) .

وإذا كان الحسين مقتولا لا محالة فليكن ثمن قتله واستشهاده ذهاب دولة الباطل من الوجود ، وخلاص المسلمين منها ومن الجور والبغي ولا طريق للخلاص إلّا بإنفجار الثّورة على الأمويّين وسلطانهم وكان ذبح الأطفال وسبي النّساء ، والتّطواف بهنّ من بلد إلى بلد من أجدى الوسائل لإنفجار الثّورة الّتي هزّت دولة البغي من الأركان.

لقد صحب الحسين النّساء معه عن قصد وتصميم ليطوف بهنّ الأمويون في البلدان ، ويراهن كلّ إنسان ، ويقلن بلسان الحال والمقال : «أيّها المسلمون ، انظروا ما فعلت اميّة الّتي تدّعي الإسلام بآل نبيّكم وكان النّاس يستقبلون جيش يزيد الّذي يطوف بالسّبايا ، يستقبلونه بالمظاهرات ، والرّشق بالأحجار ، والهتافات المعادية للأمويّين وحزبهم ، ويصرخون : في وجوههم يا فجرة يا قتلة أولاد الأنبياء

لقد رأى المسلمون في السّبايا من الفجيعة أكثر ممّا رأوا من قتل الحسين ، ولولاهنّ لم يتحقّق الهدف من قتل الحسين ، وهو إنهيار دولة الظّلم والطّغيان ولنفترض أنّ السّيّدة زينب بقيت في المدينة ، وقتل أخوها الحسين في كربلاء ، فماذا تصنع؟ وأي شيء تستطيع القيام به غير البكاء وإقامة العزاء؟

__________________

(١) انظر ، أمالي الشّيخ الصّدوق : ٢١٧ ، العوالم : ١٧ / ١٦٣ ، لواعج الأشجان : ٧٤.

٣٤٥

وممّا قلته في كتاب المجالس الحسينيّة :

«هل ترضى لنفسها ، أو يرضى لها مسلم أن تركب جملا مكشوفة الوجه تنتقل من بلد إلى بلد تؤلّب النّاس على يزيد ، وابن زياد؟! وهل كان يتسنى لها الدّخول على ابن زياد في قصر الإمارة ، وتقول له في حشد من النّاس : «الحمد لله الّذي أكرمنا بنّبيه محمّد ، وطهرنا من الرّجس تطهيرا ، إنّما يفتضح الفاسق ، ويكذّب الفاجر ، وهو غيرنا والحمد لله»(١) ؟! وهل كان بإمكانها أن تدخل على يزيد في مجلسه وسلطانه ، وتلقي تلك الخطب الّتي أعلنت بها فسقه ، وفجوره ، ولعن آبائه ، وأجداده على رؤوس الأشهاد؟!.

أنّ السّيّدة زينب لا تخرج من بيتها مختارة ، ولا يرضى المسلمون لها بالخروج مهما كان السّبب ، حتّى ولو قطّع النّاس يزيد بأسنانهم ، ولكن الأمويّين هم الّذين أخرجوها ، وهم الّذين ساروا بها ، وهم الّذين أدخلوها في مجالسهم ، ومهدوا لها طريق سبّهم ولعنهم ، والدّعاية ضدّهم وضدّ سلطانهم.

ومرّة ثانية نقول : هذه هي المصلحة في خروج الحسين بنسائه وأطفاله إلى كربلاء ، وما كان لأحد أن يدركها في بدء الأمر إلّا الحسين وأخته زينب ، عهد إلى الحسين من أبيه عليّ عن جدّه محمّد عن جبريل عن ربّ العالمين. سرّ لا يعلمه إلّا الله ، ومن ارتضاه لعلمه ورسالته.

وكلّ ما فعله الأمويون في كربلاء عاد عليهم بالوبال والخسران قال الألماني ماريين: «بعد وقعة كربلاء انكشفت سرائر الأمويّين ، وظهرت قبائح أعمالهم ، وانتشر الخلاف على يزيد وبني أميّة. وما كان يجرؤ إنسان قبل كربلاء

__________________

(١) انظر ، الإرشاد : ٢ / ١١٥ ، إعلام الورى بأعلام الهدى : ١ / ٤٧١ ، ينابيع المودّة لذوي القربى : ٣ / ٨٧.

٣٤٦

أن يجهر بتقدّيس عليّ والحسين ، وبعدها لم يكن للنّاس من حديث إلّا في فضل العلويّين ومحنهم ، حتّى في مجلس يزيد كان يذكر الحسين وأباه بالتّقدير والتّعظيم»(١) .

__________________

(١) انظر ، تأريخ الدّولة العربيّة وسقوطها لهاوزن : ١٢٩ طبعة ١٩٥٨ م. (منهقدس‌سره ).

٣٤٧
٣٤٨

في الكوفة والشّام

قيل للحسين : كيف أصبحت يا ابن رسول الله؟.

قال : «أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون ، يذبّحون أبنآءنا ويستحيون نسآءنا ، وأصبح خير البرية بعد محمّد يلعن على المنابر ، وأصبح عدوّنا يعطي المال والشّرف ، وأصبح من يحبّنا محتقرا منتقصا حقّه وكذلك لم يزل المؤمنون ، وأصبحت العجم تعرف للعرب حقّها ، لأنّ محمّدا منها ، وأصبحت العرب تعرف لقريش حقّها ، لأنّ محمّدا منها وأصبحنا أهل البيت لا يعرف لنا حقّ ، فهكذا أصبحنا»(١) .

وإذا كان غير العرب لم ينافسوا العرب في الحكم والسّلطان ، لأنّهم أقرب إلى محمّد ، والعرب لم ينافسوا قريشا للسّبب ذاته ، فالنّتيجة الحتميّة لهذا المنطق أن تنافس قريش أهل البيت في حقّهم بالخلافة ، وأن تسمع لهم ، وتطيع وهذي هي عقيدة التّشيّع لأهل البيت ، ولا شيء سواها ، وهي ـ كما ترى ـ نتيجة طبيعيّة لمنطق الّذي أنكروا هذا الحقّ ، ومدلول قهري لدليلهم الّذي اعتمدوا عليه بالذات ، ومن هنا فرض نفسه على جاحدية ، وظهر على فلتات ألسنتهم من

__________________

(١) انظر ، تأريخ دمشق : ٤١ / ٣٦٩ ، الطّبقات الكبرى : ٥ / ٢٢٠ ، تهذيب الكمال : ٢٠ / ٤٠٠ ، المنتخب من ذيل المذيل للطّبري : ١٢٠. ونسب بعضهم هذا القول إلى الإمام السّجّادعليه‌السلام .

٣٤٩

حيث لا يشعرون.

قال الرّاغب الإصفهاني :

«كان عمر يسير مع ابن عبّاس ، فقرأ آية فيها ذكر عليّ بن أبي طالب

فقال : أما والله يا بني عبد المطّلب لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر منّي ، ومن أبي بكر

فقال ابن عبّاس : أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين ، وأنت وصاحبك وثبتما ، وافترعتما الأمر منّا دون النّاس؟!

فقال عمر : إنّا والله ما فعلنا الّذي فعلنا عن عداوة ، ولكن استصغرناه ، وخشينا أن لا تجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها

قال ابن عبّاس : فأردت أن أقول : كان رسول الله يبعثه ، فينطح كبشها ، فلم يستصغره ، افتستصغره أنت وصاحبك؟

فقال عمر : لا جرم : فكيف ترى؟ والله ما نقطع أمرا دونه ، ولا نعمل شيئا ، حتّى نستأذنه»(١) .

وطبيعي أن يعتذر عمر بجميع الأعذار ، وأن يتشبث ولو بالطّحلب بعد أن اعترف صراحة أنّ عليّا أولى منه ومن صاحبه بالخلافة ولو وقف الأمر عند خلافة الشّيخين لهان الخطب ولكن هذه الخلافة جرّت الويلات على الإسلام والمسلمين إلى يوم يبعثون ، بخاصّة ما حدث على أهل البيت ، فلولاها لم يكونوا في قومهم كبني إسرائيل في آل فرعون ، ولا كان يوم عثمان ، ولا الجمل ، وصفّين ، والنّهروان ، ووقعة الحرّه ، وما إليها

__________________

(١) انظر ، محاضرات الأدباء : ٤ / ٤٧٨ طبعة سنة (١٩٦١ م). (منهقدس‌سره ). و : ٧ / ٢٦٣.

٣٥٠

وقد لا تكون هذه الأحداث في حسبان الشّيخين ، ولا من مقاصدهما حين دبّر الأمر ضدّ عليّ ، ونحّيّاه عن الخلافة ، ولكنّها جاءت نتيجة طبيعيّة لخلافتهما وقد برّرا هذا التّدبير بخوف الفتنة ، وعدم إجتماع كلمة العرب وقريش على عليّ ، «لما قد وترها» ـ كما قال عمر ـ وقد أبطلت سيّدة النّساء هذا الزّعم بخطبتها الشّهيرة الّتي ألقتها على الخليفة الأوّل والأصحاب في مسجد أبيها ، حيث قالت : زعمتم خوف الفتنة :( أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) (١) .

فأفهمتهم أنّ الفتنة والشّقاق فيما دبّروا وتآمروا ، كما ذكّرتهم :

كيف كانوا في جاهليتهم؟ وكيف صاروا بفضل أبيها ، وجهاد ابن عمّها ، ثمّ وازنت بينهم وبين بعلها أمير المؤمنين ، بقولها :

«كان عليّعليه‌السلام مكدودا في ذات الله ، مجتهدا في أمر الله ، قريبا من رسول الله سيّدا من أولياء الله ، مشمّرا ناصحا ، مجدّا كادحا ، وأنتم في بلهنيّة من العيش ، وادعون فاكهون آمنون ، تتربصون بنا الدّوائر ، وتتوكفون الأخبار ، وتنكصون عند النّزال ، وتفرّون عند القتال ، فلمّا اختار الله لنبّيه دار أنبيائه ، ومأوى أصفيائه ظهرت فيكم حسيكة النّفاق وأطلع الشّيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم ، فالفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرّة فيه ملاحظين ، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافا»(٢) .

__________________

(١) التّوبة : ٤٩.

(٢) انظر ، بلاغات النّساء لابن طيفور : ١٤ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ٢٥١ ، جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب لابن الدّمشقي : ١ / ١٦٠ ، شرح الأخبار : ٣ / ٣٦ ، السّقيفة وفدك للجوهري : ١٤٣ ، كشف الغمّة : ٢ / ١١١.

٣٥١

وبهذا يتبيّن أنّ الزّهراء أوّل من وضع أسّس الموازنة ، والمفاضلة بين أهل البيت وغيرهم ، وأوّل من دعا دعوة صريحة واضحة لولائهم ووجوب طاعتهم ومتابعتهم ، وأوّل من أعلن نفاق من صدّوا عليّا عن الخلافة بعد أبيها(١) خطبت الزّهراء بعد حادثة السّقيفة خطبتين :

الأولى : في المسجد الجامع بحضور المهاجرين والأنصار ، وفيهم أبو بكر وعمر.

والثّانية : في بيتها حين إجتمعت نّساء الأصحاب ، ليعدنها في المرض الّذي ماتت فيه ، وترتكز أقوالها في كلتا الخطبتين على أنّ ابن عمّها عليّا هو صاحب الحقّ في الخلافة بعد رسول الله ، وأنّ الّذين حالوا بينه وبينها قد خانوا العهد

__________________

(١) أوّل من أثبت الولاية لعليّ الله ورسوله ، فلقد فسّر المفسرون قوله تعالى :( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) المائدة : ٥٦ فسّروها بعليّ وهي :( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) . (منهقدس‌سره ).

انظر ، الكشف والبيان في تفسير القرآن : ٤ / ٢٣٤ ، جواهر العقدين في فضل الشّرفين : ٣ / ٥٣٤ ، الصّواعق المحرقة : ٢٩ ، صحيح البخاريّ : ٢ / ٣٢٤ ، صحيح مسلم في فضائل عليّ : ٣٢٤ ، المستدرك للحاكم : ٣ / ١٠٩ ، مسند ابن ماجه : ١ / ٢٨ ، مسند أحمد : ١ / ١٧٥ و ١٧٧ و ١٧٩ و ١٨٢ و ٣٣١ و ٣٦٩ ، كنز العمّال : ٦ / ١٥٢ ح ٢٥٠٤ ، خصائص النّسائي : ١٧ ، الإصابة : ٤ / ٥٦٨ ، ذخائر العقبى : ٨٨ ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ١٨ / ٢٨٧ ، شواهد التّنزيل : ١ / ١٦٢ ، الإعتقاد للبيهقي : ٢٠٤ ، اسد الغابة : ٢ / ١٢ ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٠٢ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ١٦٤ ، تأريخ دمشق : ٢ / ٤٥ ح ٥٤٥ ، المسامرة في شرح المسايرة : ٢٨٢ ، الإبانة عن أصول الدّيانة : ١٨٧ الطّبعة الأولى دمشق ١٩٨١.

أمّا أحاديث الولاية من السّنّة فلا يبلغها الإحصاء ، منها الحديث المتواتر عند جميع المسلمين ، وهو «من كنت مولاه فعليّ مولاة». تقدّمت تخريجاته.

٣٥٢

والميثاق ؛( وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) (١) .

أمّا مطالبتها بفدك فقد كانت وسيلة لهذه الغاية ، وإلّا فما لفاطمة بنت محمّد وفدك ، وغير فدك إنّ الدّنيا بكاملها ليست من آل محمّد في شيء ، ولا هم منها في شيء هذا ، إلى أنّها كانت على علم من موقف الخليفة قبل أن تخاصمه ، وتحتجّ عليه ، فقد أخبرها أبوها بكلّ ما يجري عليها وعلى بعلها ، وأولادها من بعده ، وصرّحت هي بمعرفتها هذه في آخر الخطبة بقولها : «وقد قلت ما قلت على معرفة منّي بالخذلة الّتي خامرتكم والغدرة الّتي استشعرتها قلوبكم»(٢) .

أنّها لا تريد فدكا وإنّما تريد أن ترسي أساس حقّ عليّ في الخلافة ، وتعلن للأجيال أنّ هذا الحقّ ركن من أركان الإسلام ، ودعامة من دعائمه ، ولا يهمها بعد هذا أن يصل بعلها إلى الخلافة أو لا يصل ، وإنّما المهم أن يعرف هذا الحقّ ، ويؤمن به كلّ من آمن بالله ونبّوّة محمّد وقد طعن معاوية على الإمام بأنّه أجبر على مبايعة من سبقه ، فأجابه : «ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه»(٣) .

أنّ الّذي لا يكترث بالأقاليم السّبعة ، تحت أفلاكها ، ويستهين بالحياة ، ويرى الشّهادة الفوز الأكبر ، لا يهتم بهذه الخلافة ، ومن تقمصّها وطبيعي أن لا يهتم

__________________

(١) البقرة : ٢٧ ، الرّعد : ٢٥.

(٢) انظر ، بلاغات النّساء لابن طيفور : ١٢ ـ ١٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ٢١٣ ، جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب لابن الدّمشقي : ١ / ١٦٠ ، شرح الأخبار : ٣ / ٣٦ ، السّقيفة وفدك للجوهري : ١٠٢ ، كشف الغمّة : ٢ / ١١٤ ، أعلام النّساء : ٣ / ١٢٠٨ ، مناقب آل أبي طالب : ٢ / ٥٠.

(٣) انظر ، نهج البلاغة : الرّسالة (٢٨).

٣٥٣

عليّ بالخلافة الّتي يتنافس عليها ابناء الدّنيا ما دام الحقّ يدور معه كيفما دار أنّ عليّا خليفة على كلّ حال ، لأنّ خلافته إلهية ، تماما كنبوّة محمّد لا يمكن أن يتولاها غيره ، أو ينتزعها أحد منه. وإذا جهل ، أو تجاهل هذه الحقيقة ، الّذي انقلب على عقبيه بعد نبيّه ، فقد وعدها وآمن بها الّذين ثبّتهم الله على الإيمان بإتّباع الرّسول وأهل بيته.

خطبت الزّهراء خطبتين : الأولى في المسجد الجامع ـ كما قدّمنا ـ والثّانية في نساء الأصحاب ، وقد جاء في هذه الخطبة :

«أصبحت والله عائفة لدنيا كنّ ، قالية لرجالكنّ( لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ ) (١) فجدعا ، وعقرا ، وبعدا للقوم الظّالمين وما الّذي نقموا من أبي الحسن؟. نقموا والله نكير سيفه ، وقلة مبالاته بحتفه ، وشدّة وطأته ، وتنمره في ذات اللهعزوجل ، وتالله لو مالوا عن المحجّة اللأئحة ، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة لردّهم إليها»(٢) .

وتكلّمت ابنتها زينب بعد يوم كربلاء في ثلاثة مواقف :

الأوّل : حين دخلت السّبايا الكوفة ، واستقبلها الكوفيون والكوفيّات بالبكاء والعويل ، فارتجلت خطبة ، جاء فيها :

__________________

(١) المائدة : ٨٠.

(٢) انظر ، بلاغات النّساء لابن طيفور : ٢٠ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ٢٣٣ ، جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب لابن الدّمشقي : ١ / ١٦٦ ، شرح الأخبار : ٣ / ٣٦ ، السّقيفة وفدك للجوهري : ١٢٠ ، كشف الغمّة : ٢ / ١١٥ ، أعلام النّساء : ٣ / ١٢٠٨ ، مناقب آل أبي طالب : ٢ / ٥٠ ، معاني الأخبار : ٣٥٥ ، أمالي الطّوسي : ٣٧٥ ، الإحتجاج للطّبرسي : ١ / ١٤٧ ، النّزاغ والتّخاصم : ١٠٠.

٣٥٤

«أمّا بعد : يا أهل الكوفة ، أتبكون؟ فلا سكنت العبرة ، ولا هدأت الرّنّة ، إنّما مثلكم مثل الّتي نقضت غزلها من بعد قوّة انكاثا ، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ، ألا ساء ما تزرون.

«أي والله ، فابكوا كثيرا ، واضحكوا قليلا ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، فلن ترحضوها بغسل أبدا وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النّبوّة ، ومعدن الرّسالة ومدار حجتكم ، ومنار محجتكم ، وهو سيّد شباب أهل الجنّة ....؟.

لقد أتيتم بها خرقاء شوهاء. أتعجبون لو أمطرت دما.؟.

ألا ساء ما سوّلت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم ، وفي العذاب أنتم خالدون.

أتدرون أي كبد فريتم؟ وأي دم سفكتم؟ وأي كريمة أبرزتم؟ لقد جئتم شيئا إدّا ، تكاد السّموات يتفطرن منه وتنشق الأرض ، وتخر الجبال هدّا»(١) .

ومن تأمّل خطبتها هذه ، وخطبة أمّها تلك يبدو له لأوّل نظرة وجه الشّبه بين الخطبتين ، وأنّهما تصدران من معدن واحد ، وترميان إلى هدف واحد ، وهو بثّ الدّعوة لأهل البيت ، ونشر فضائلهم ومحاسنهم ، ومثالب غيرهم ومساوئهم وإفهام النّاس جميعا أنّ الإسلام في حقيقته لا يقوم على التّلفظ بالشّهادة ، وتأدية الفرائض المكتوبة ، وكفى ، بل لا بدّ ـ أوّلا وقبل كلّ شيء ـ من التّصديق بكلّ ما جاء به محمّد ، وممّا جاء به وجوب التّمسك بالكتاب والعترة «بنصّ حديث الثّقلين الّذي رواه مسلم وأحمد»(٢) ، ولكن المسلمين بعد نبيّهم نبذوا الكتاب ،

__________________

(١) انظر ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٨٧ ، مثير الأحزان : ٦٧ ، الإحتجاج : ٢ / ٩٦.

(٢) انظر ، صحيح مسلم : ٤ / فضائل عليّ ح ٣٦ و ٣٧ و : ٧ / ١٢٠ ، مسند أحمد : ١ / ١٧٠ و ١٧٣ ـ

٣٥٥

وأضاعوا العترة ويقول الشّيخ المظفر : «ولا أدري متى تمسكت الأمّة بالعترة؟ أفي زمن أمير المؤمنين ، أو في زمن أبنائه الطّاهرين؟ بل جعلوا عداوتهم وسبّهم دينا ، وحاربوهم بالبصرة ، والشّام ، والكوفة ، وسبوا نساءهم سبي التّرك والدّيلم»(١) .

ولا احسبني بحاجة إلى التّنبيه أنّ زينب حين تخاطب أهل الكوفة ، وتقول : «أتدرون أي كبد فريتم؟ وأي دم سفكتم؟ وأي كريمة أبرزتم؟ إنّما تعني من ظلم أهل البيت ، ورضي بظلمهم ، وشايع وتابع عليه.

الموقف الثّاني للسّيّدة زينب : حين دخلت مجلس ابن زياد ، وقال لها :

الحمد لله الّذي فضحكم

فقال : «الحمد لله الّذي أكرمنا بنّبيه محمّد ، وطهرنا من الرّجس تطهيرا ، إنّما يفتضح الفاسق ، ويكذّب الفاجر ، وهو غيرنا والحمد لله»(٢) ؟!.

أجل ، يا ابنة أمير المؤمنين ، وسيّد الوصيّين أنّكم النّور الّذي انبثق من ذات. الله ، ومستودع سرّه وإمانته ، والطّهر الّذي انبعث من رسول الله ، ووارثو علمه وخلقه ، ومجده وشرفه ، وحكمه وسلطانه.

ثمّ قال ابن زياد : كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟.

قالت : ما رأيت إلّا جميلا ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتحاج وتخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ ،

__________________

ـ و ١٧٥ و ١٧٧ و ١٧٩ و ١٨٢ و ١٨٤ و ١٨٥ و ٣٣٠ ، و : ٣ / ٣٢ و ٣٣٨ ، و : ٦ / ٣٦٩ و ٤٣٨.

(١) انظر ، دلائل الصّدق ، الشّيخ المظفر : ج ٣. (منهقدس‌سره ).

(٢) انظر ، الإرشاد : ٢ / ١١٥ ، إعلام الورى بأعلام الهدى : ١ / ٤٧١ ، ينابيع المودّة لذوي القربى : ٣ / ٨٧.

٣٥٦

ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة»(١) .

أسيرة تحتقر الحاكم الآسر وتزدريه ، ولا ترهب سلطانه وبطشه! أجل ، أنّها بنت عليّ لا تخشى الموت ، ومن لا يخشى الموت لا يخضع لشيء ، ولا يرهبه شيء.

وما أشبه قولها لابن زياد : «فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة». يقول أمّها للخليفة الأوّل : «أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ، لقد جئت شيئا فريّا!!؟؟ ثمّ انصرفت عنه(٢)

أجل ، أنّ كلّا منهما ـ المعني بخطاب الزّهراء ، والمعني بخطاب زينب ـ قد ترك الكتاب ، ونبذه وراء ظهره عن عمد ، ولم يختلفا في شيء إلّا في الأسلوب والمظهر

الموقف الثّالث : حين دخلت مجلس يزيد ، وسمعته يتمثل بأبيات من قال :

ليت أشياخي ببدر لو رأوا

مصرع الخزرج من وقع الأثل

لأهلوّا واستهلوا فرحا

ثمّ قالوا يا يزيد لا تسل

فقالت السّيّدة :

(الحمد لله رب العالمين ، والصّلاة على جدّي سيّد المرسلين ، صدق الله سبحانه كذلك يقول :( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) (٣) ، أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض ،

__________________

(١) انظر ، مثير الأحزان : ٧١ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٩٤.

(٢) تقدّمت تخريجاته.

(٣) الرّوم : ١٠.

٣٥٧

وضيّقت علينا آفاق السّماء ، فأصبحنا لك في آسار ، نساق إليك سوقا في أقطار ، وأنت علينا ذو اقتدار إنّ بنا من الله هوانا وعليك منه كرامة ، وامتنانا ، وإنّ ذلك لعظم خطرك ، وجلالة قدرك ، فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، تضرب اصدريك فرحا ، وتنقض مذرويك مرحا ، حين رأيت الدّنيا لك مستوسقة ، والأمور لديك متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا ، وخلص لك سلطاننا ، فمهلا مهلا لا تطش جهلا أنسيت قول اللهعزوجل :( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) (١) . أمن العدل يابن الطّلقاء؟! تخديرك حرائرك وآمائك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوههنّ ، تحدوا بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ، وتستشرفهنّ المناقل ، ويتبرزنّ لأهل المناهل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والغائب والشّهيد ، والشّريف والوضيع ، والدّني والرّفيع ليس معهنّ من رجالهنّ ولي ، ولا من حماتهنّ حمي ، عتوا منك على الله ، وجحودا لرسول الله ، ودفعا لما جاء به من عند الله ، ولا غرو منك ، ولا عجب من نظر في عطفه فعلك ، وأنّى يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الشّهداء ، ونبت لحمه بدماء السّعداء ، ونصب الحرب لسّيّد الأنبياء ، وجمع الأحزاب ، وشهر الحراب ، وهزّ السّيوف في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أشد العرب جحودا ، وأنكرهم له رسولا ، وأظهرهم له عدوانا ، وأعتاهم على الرّب كفرا وطغيانا اللهمّ خذّ بحقنا ، وانتقم من ظالمنا ، واحلل غضبك على من سفك دمائنا ، ونقض ذمارنا ، وقتل حماتنا( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ

__________________

(١) آل عمران : ١٧٨.

٣٥٨

خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) (١) ، وحسبك بالله وليّا وحاكما ، وبرسول الله خصما ، وبجبرئيل ظهيرا ، وسيعلم من بوّأك ومكّنك من رقاب المسلمين فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ، ولا تمّيت وحينا ، ولا يدحض عنك عارها ، وهل رأيك إلّا فند ، وأيّامك إلّا عدد ، وجمعك إلّا بدد)(٢) .

ثمّ تقول غير متألّم ولا مستعظم :

لأهلوّا واستهلوا فرحا

ثمّ قالوا يا يزيد لا تسل

منحنيا على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة ، تنكثها بمخصرتك؟ وكيف لا تقول ذلك؟ وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشّأفة بإراقتك دماء ذرّيّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب ، وتهتف بأشياخك

زعمت أنّك تناديهم ، فلتردن وشيكا موردهم ، ولتردن أنّك شللّت وبكمت ، ولم تكن قلت ما قلت ، وفعلت ما فعلت ، أللهمّ خذّ لنا بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا ، وقتل حماتنا ، فو الله ما فريت إلّا جلدك ، ولا حززت إلّا لحمك». ويأخذ بحبّهم :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (٣) .

وحسبك بالله حاكما ، وبمحمّد خصيما ، وبجبريل ظهيرا ، وسيعلم من سوّل

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٢) انظر ، أخبار الزّينبيّات : ٨٦ ، بلاغات النّساء : ٢١ ، الحدائق الوردية : ١ / ١٢٩ ، الإحتجاج : ٢ / ٣٧ ، أعلام النّساء : ٢ / ٥٠٤ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٦٤ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٧٩ ، العوالم : ٢٠٥ ، بحار الأنوار : ٤٥ / ١٦٠.

(٣) آل عمران : ١٦٩.

٣٥٩

لك ، ومكّنك من رقاب المسلمين بئس للظّالمين بدلا وأيّكم شرّ مكانا ، وأضعف جندا.

ولئن جرّت عليّ الدّواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، ولكن العيون عبرى ، والصّدور حرّى ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النّجباء بحزب الشّيطان الطّلقاء! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تنحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطّواهر الزّواكي تنتابها العواسل ، وتعفّرها أمّهات الفراعل.

ولئن اتّخذتنا مغنما لتجدنا وشيكا مغرما حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلّام للعبيد ، وإلى الله المشتكى ، وعليه المعوّل.

فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميّت وحينا ، ولا يدحض عنك عارها ، وهل رأيك إلّا فند ، وأيّامك إلّا عدد ، وجمعك إلّا بدد. يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظّالمين.

والحمد لله ربّ العالمين الّذي ختم لأولنا بالسّعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشّهادة والرّحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثّواب ، ويوجب لهم المزيد. ويحسن علينا الخلافة. أنّه رحيم ودود. وحسبنا الله ونعم الوكيل»(١) .

وادع تحليل هذه الكلمات ، وبيان ما فيها من كنوز وأسرار ، لأنّي أخشى أن لا اعطيها قيمتها الحقيقة ، ومعناها الصّحيح ، واحاول أن أرسم ما استشعرته ، وأنا أتأمل ، وانعم الفكر في مدلول هذه الكلمات والنّبرات الّتي هي أمضى من

__________________

(١) انظر ، أخبار الزّينبيّات : ٨٦ ، بلاغات النّساء : ٢١ ، الحدائق الوردية : ١ / ١٢٩ ، الإحتجاج : ٢ / ٣٧ ، أعلام النّساء : ٢ / ٥٠٤ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٦٤ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٧٩ ، العوالم : ٢٠٥ ، بحار الأنوار : ٤٥ / ١٦٠.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528