الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء11%

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: 528

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء
  • البداية
  • السابق
  • 528 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 71385 / تحميل: 4876
الحجم الحجم الحجم
الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
ISBN: ٩٦٤-٤٦٥-١٦٩-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وهذا ما عناه الحسين قوله يوم الطّفّ مخاطبا أهله وأرحامه : «صبرا يا بني عمومتي ، صبرا يا أهل بيتي ، لا رأيتم هوانا بعد اليوم»(١) .

وسئل الإمام زين العابدينعليه‌السلام : «من كان الغالب يوم كربلاء؟ فقال : اسمع المؤذّن تعرف الجواب. أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، وأنّ عليّا أمير المؤمنين بالحقّ ولي الله»(٢) .

أوصى الحسين أهل بيته بالصّبر بعد ما استشهد جميع أصحابه ، ولم يبق معه إلّا ولده ، عليّ ، وولد جعفر ، وولد عقيل ، وولد الحسن ، وقد إجتمعوا يودّع بعضهم بعضا ، وهم كالزّهر في مقتبل العمر.

كرام بأرض الغارضية عرسوا

فطابت بهم أرجاء تلك المنازل

أقاموا بها كالمزن فاخضرّ عودها

وأعشب من أكنافها كلّ ماحل

زهت أرضها من بشر كلّ شمر دل

طويل تجاد السّيف حلو الشّمائل

كأنّ لعزرائيل قد قال سيفه

لك السّلم موفورا ويوم الكفاح لي

حموا بالظّبى دين النّبيّ وطاعنوا

ثباتا وخاضت جردهم بالجحافل

ولمّا دنت آجالهم رحبوا بها

كأنّ لهم بالموت بلغة آمل

عطاشى بجنب النّهر والماء حولهم

يباح إلى الورّاد عذب المناهل

عطاشى بجنب النّهر والماء حولهم

يباح إلى الوارد عذب المناهل

فلم تفجع الأيّام من قبل يومهم

بأكرم مقتول لا لأمّ قاتل

__________________

(١) انظر ، شرح الأخبار : ٣ / ٢٣٨ ، مقتل الحسين للمقرّم : ٣١٨ و ٣٢٢.

(٢) انظر ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٦٩ ـ ٧١.

١٢١
١٢٢

بدر والطّفّ

كان أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر ثلاثمئة وبضعة عشر رجلا(١) ، وكان المشركون ألف رجل(٢) .

وكان أصحاب الحسينعليه‌السلام في كربلاء ثلاثة وسبعين(٣) ، وجيش العدوّ ثلاثين ألفا أو يزيدون(٤) .

وقال النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لقريش يوم بدر : «خلّوني والعرب ، فإن أك صادقا كنتم أعلى

__________________

(١) أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد نصّ المؤرّخون أنّ عددهم كان (٣١٣) رجلا ولم يكن فيهم إلّا فارسين :المقداد بن عمرو الكندي ، والزّبير بن العوّام ، وكانت معهم (٧٠) بعيرا وكانوا يتعاقبون على البعير بين الرّجلين والثّلاثة والأربعة ، فمثلا كان بين النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ،وعليّ ، وزيد بن حارثة بعير. وكانت راية النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع عليّ عليه‌السلام كما جاء في الكامل لابن الأثير : ٢ / ١١٦ والسّيرة الحلبية بهامش السّيرة النّبويّة : ٢ / ١٤٣ ، تأريخ دمشق : ١ / ١٤٣ / ٣٠٢.

(٢) كان عدد المشركين يتراوح بين (٩٠٠ و ١٠٠٠) كما جاء في تأريخ الطّبريّ : ٤ / ٢٦٧ ، والسّيرة لابن هشام : ٢ / ٣٥٤ ، وفيهم العبّاس بن عبد المطّلب وأبو جهل ، وقتل من المشركين (٧٠) من رجالاتهم وساداتهم.

(٣) انظر ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٢٣٠ ، الإتحاف بحبّ الأشراف للشّبراوي : ١٥١. بتحقيقنا ، مقتل الحسين : ٢ / ٤. والخوارزمي يروي غالبا عن تأريخ ابن أعثم ، أبو محمّد أحمد ، توفّي سنة (٣١٤ ه‍) في الفتوح : ٣ / ٩٤ ، وهذه الرّواية عن هذا المؤرخ ، فتكون إذن ، رواية في مستوى رواية الطّبري.

(٤) تقدّم الكلام حول عدد الجيش الأموي في كربلاء.

١٢٣

بي عينا ، وإن أك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمري ، فارجعوا»(١) . فأبوا عليه إلّا القتال.

وقال الحسينعليه‌السلام لجيش ابن زياد : «كتبتم إليّ أن قد أينعت الثّمار واخضرّ الجناب ، وإنّما تقدم على جنود مجنّدة ، فاقبل. فإن كنتم كرهتموني فدعوني انصرف عنكم إلى مأمني من الأرض». فأبوا عليه ، كما أبى المشركون على جدّه من قبل(٢) .

وقال النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه يوم بدر : «قوموا إلى جنّة عرضها السّماوات والأرض»(٣) .

وقال الحسينعليه‌السلام لأصحابه : «قوموا إلى الموت الّذي لا بدّ منه ، فنهضوا جميعا والتقى العسكران الرّجّالة والفرسان. واشتّد الصّراع وخفى لإثارة العثير الشّعاع. والسّمهرية ترهف نجيعا والمشرفية يسمع لها في الهام رقيعا ولا يجد الحسينعليه‌السلام في مساقط الحرب لوعظه سميعا»(٤) .

__________________

(١) انظر ، تأريخ دمشق : ٣٨ / ٢٥٤ و : ٦٦ / ٣١٨ ، مغازي الواقدي : ١ / ٦١.

(٢) انظر ، المقتل لأبي مخنف : ١٦ ، الفتوح : ٣ / ٣٣ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٩٥ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ١٥ ، أنساب الأشراف : ٣ / ١٥٨ ، وقعة الطّفّ لأبي مخنف : ٩٢ ، تذكرة الخواصّ : ٢٢٠ ، الأخبار الطّوال : ٢٢٩ ، مختصر تأريخ دمشق : ٢٣ / ١٥١ ، جمهرة أنساب العرب : ٢٩٥ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٢٣ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٩٤ ، إعلام الورى بأعلام الهدى : ١ / ٤٥٩.

(٣) انظر ، مسند أحمد : ٣ / ١٣٦ ، صحيح مسلم : ٦ / ٤٤ ، المستدرك على الصّحيحين : ٣ / ٤٢٦ ، السّنن الكبرى : ٩ / ٤٣ و ٩٩ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٥٤٣ و : ٢ / ٣٣٧ ، الطّبقات الكبرى : ٣ / ٥٦٥ ، سير أعلام النّبلاء : ١ / ٢٥٣ ، الإصابة : ٤ / ٥٤٩ و : ٧ / ٢٤٠ ، البداية والنّهاية : ٣ / ٣٣٨ ، السّيرة النّبويّة : ٢ / ٤٢١.

(٤) انظر ، مثير الأحزان : ٤١.

١٢٤

وقال الإمام الصّادقعليه‌السلام : «لقد كشف الله الغطاء لأصحاب الحسين حتّى رأوا منازلهم في الجنّة»(١) .

وكان أصحاب الرّسول يوم بدر يتسابقون إلى الموت ليصلوا إلى أماكنهم في الجنّة ، حتّى أنّ عمر بن الحمام لمّا سمع النّبيّ يقول : «قوموا إلى الجنّة كان يأكل تمرات في يده فرماها ، وقال : «لئن حيّيت حتّى آكلهنّ ، أنّها لحياة طويلة ...»(٢) .

وهكذا كان الرّجل من أصحاب الحسين يستقبل الرّماح والسّيوف بصدره ووجهه ، ليصل إلى مكانه في الجنّة.

وقال المقداد بن الأسود للنّبيّ يوم بدر : «والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغض وشوك الهراس لخضناه معك(٣) ، والله لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسىعليه‌السلام :( قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) (٤) .

وقال الحسين لأصحابه : «... ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غدا ، وإنّي قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعا في حلّ ليس عليكم من ذمام ، هذا اللّيل قد

__________________

(١) انظر ، علل الشّرائع : ١ / ٢٢٩ ح ١.

(٢) انظر ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٣٧ ، صحيح البخاري : ٤ / ١٤٨٧ ح ٣٨٢٠ ، سنن النّسائي : ٦ / ٣٣ ح ٣١٥٤ ، موطّأ مالك : ٢ / ٤٦٦ ح ٩٩٧ ، مسند أبي يعلى : ٣ / ٤٦٥ ح ١٩٧٢ ، التّمهيد لابن عبد البر : ٢٤ / ٩٨ ح ٤٧٧ ، شرح الزّرقاني : ٣ / ٦٠ ، الإصابة : ٦ / ٦٥٢ رقم «٩٢٥١».

(٣) انظر ، مغازي الواقدي : ١ / ٤٨ ـ ٤٩ طبعة اكسفورد ، وإمتاع الأسماع للمقريزي : ٧٤ ـ ٧٥ ، تأريخ الخميس : ١ / ٣٧٣ ، التّعليق على هذا الحديث في كتابنا «البيعة وولاية العهد والشّورى وآثارها في تنصيب الخليفة» ، دراسة علمية تحليلية لردّ الشّبهات : ١٩٦ ، وما بعدها.

(٤) المائدة : ٢٤.

١٢٥

غشيكم فاتّخذوه جملا ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعا خيرا ، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم ، فإنّ القوم إنّما يطلبوني ، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري ...»(١) .

فقال : أنّكم تقتلون غدا كلّكم ، ولا يفلت منكم رجل.

قالوا : الحمد لله الّذي شرّفنا بالقتل معك(٢) .

وقال أبو جهل يوم بدر : «اللهمّ أنّ محمّدا أقطعنا للرّحم ، وأتانا بما لا نعرف ، فانصرنا عليه»(٣) .

وقال يزيد لعليّ بن الحسين : يا عليّ بن الحسين أنّ أباك الّذي قطع رحمي ، وجهل حقّي ، ونازعني سلطاني فنزل به ما رأيت ، فقال عليّ رضى الله عنه :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) (٤) .

فقال يزيد :( وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤١٩ ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٢٣١ ، مقتل الخوارزمي : ١ / ٢٤٧. (منه قدس‌سره). انظر ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٧٩ ـ ٨٠ مع اختلاف يسير ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٢ / ٧٦ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ٢٢٨ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٠١ ، الكامل في التّأريخ لابن الأثير : ٣ / ١٧ و ١٨ ، البداية والنّهاية لابن كثير : ٨ / ١٦٨ و ١٧١ ، الأخبار الطّوال : ٢٤٨.

(٢) انظر ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٩١.

(٣) انظر ، تفسير الطّبري : ٢ / ٣٤ و : ٩ / ٢٠٨ و ٢٠٩ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٩٧ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ / ٣٥٥ ح ٣٦٦٧٤ ، السّيرة النّبويّة : ٣ / ١٧٦ و : ٣ / ٢٢٢ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٤ / ١٣٢ ، تفسير القرطبي : ٧ / ٣٨٦.

(٤) الحديد : ٢٣.

١٢٦

كَثِيرٍ ) (١) فقال عليّ رضي الله عنه : هذا في حقّ من ظلم لا في من ظلم(٢) .

وقال يزيد فيما قاله للإمام زين العابدينعليه‌السلام : «الحمد لله الّذي قتل أباك.

فقال له الإمام : لعنة الله على من قتل أبي»(٣) .

وانتشر الإسلام بعد غزوة بدر ، وتحرّر الضّعفاء من سيطرة الأقوياء.

وولد بكربلاء مبدأ جديد ، هو الإيمان بأنّ الموت في سبيل الحقّ خير من الحياة مع المبطلين ، وقضى هذا المبدأ على الأمويّين وسلطانهم الجائر ، ولقد أثبتت التّجارب بأنّ إيمان الإنسان بحقّه ، وحرصه على حرّيته ، وحفاظه على رزقه أقوى من كلّ سلاح وعتاد ، فلقد تغلبت إفريقيا الجائعة العزلاء ، وغيرها من الشّعوب المستضعفة على المستبدين الأقوياء ، تغلبت بقوّة الإيمان بأنّ الإنسان يجب أن يعيش حرّا كريما ، وهذا هو مبدأ الحسين الّذي ضحّى من أجله بنفسه وأهله.

ولا شيء أدل على قوّة الصّلة والشّبه بين بدر وكربلاء من إنشاد يزيد ، وهو ينكث ثنايا الحسين بقضيبه(٤) :

__________________

(١) الشّورى : ٣٠.

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري : ٦ / ٢٦٥ ، الفتوح : ٣ / ١٥٢ ، تأريخ ابن عساكر : ٤ / ٣٤١ ، سير أعلام النّبلاء : ٣ / ٣٠٣ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٢١١ ، ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام لابن عساكر : ٣٣٨.

(٣) انظر ، الإحتجاج : ٢ / ٣٩ و ١٣٢.

(٤) انظر ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ١٠٢ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٦٦ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٢ / ٣٨٣ الطّبعة الأولى مصر ، الأمالي لأبي عليّ القالي : ١ / ١٤٢ ، والبكري فري شرحه : ١ / ٣٨٧ ، الأثار الباقية : ٣٣١ طبعة الاوفسيت ، الأخبار الطّوال : ٢٦١ ، سمط النّجوم العوالي : ٣ / ٧٣ ، فحول الشّعراء : ١٩٩ ـ ٢٠٠ ، سيرة ابن هشام : ٣ / ١٤٤ ، الحيوان للجاحظ : ٥ / ٥٦٤ ، مقاتل الطّالبيّين : ١١٩ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٢١٣ و ٢٢٠.

١٢٧

لعبت هاشم بالملك فما

ملك جاء ولا وحي نزل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

لمّا بدت تلك الحمول وأشرقت

تلك الرّؤوس على شفا جيرون

نعت الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرّسول ديوني

يا غراب البين ما شئت فقل

إنّما تندب أمرا قد حصل

إنّ أشياخي ببدر لو رأوا

مصرع الخزرج من وقع الأثل

لأهلوّا واستهلوا فرحا

ثمّ قالوا يا يزيد لا تسل

كلّا ، لم ينتقم يزيد من بني أحمد ، وإنّما انتقم الله منه ومن بني أميّة بني أحمد وللإنسانية جمعاء ، أنّه لم يقتل مبدأ الحسين ، وإنّما قتل نفسه ، وقضى على سلطانه ، كما قالت السّيّدة زينب فيما قالت ليزيد بعد ما سمعته يهتف بأشياخه : تهتف بأشياخك! زعمت أنّك تناديهم ، فلتردن وشيكا موردهم ، ولتردن أنّك شللّت وبكمت ، ولم تكن قلت ما قلت ، وفعلت ما فعلت ، أللهمّ خذّ لنا بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا ، وقتل حماتنا ، فو الله ما فريت إلّا جلدك ، ولا حززت إلّا لحمك»(١) .

__________________

ـ وأصل هذه الأبيات لابن الزّبعرى كما جاء في الصّواعق : ١١٦ ، وزاد فيها بيتا مشتملا على الكفر. انظر ، صورة الأرض لابن حوقل : ١٦١ ، اليافعي في مرآة الجنان : ١ / ١٣٥ ، والكامل لابن الأثير : ٤ / ٣٥ ، ومروج الذّهب للمسعودي : ٢ / ٩١ ، والعقد الفريد : ٢ / ٣١٣ ، أعلام النّساء : ١ / ٥٠٤ ، ومجمع الزّوائد : ٩ / ١٩٨ ، الشّعر والشّعراء : ١٥١ ، الأشباه والنّظائر : ٤ ، الأغاني : ١٢ / ١٢٠ ، الفتوح لابن أعثم : ٥ / ٢٤١ ، تذكرة الخواصّ : ١٤٨ ، شرح مقامات الحريري : ١ / ١٩٣ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٢٤٦ ، والطّبري في تأريخه : ٦ / ٢٦٧ ، و : ٤ / ٣٥٢ ، الآثار الباقية للبيروني : ٣٣١ طبعة اوفسيت ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٥ / ١٧٨ ، وقال :

(١) انظر ، بلاغات النّساء لابن طيفور : ٢٢ ، الإحتجاج : ٢ / ٣٦ ، مثير الأحزان لابن نما : ٨١ ، مقتل الحسين لأبي مخنف الأزدي : ٢٢٧.

١٢٨

إنّه ابن عليّ

لو حدّثك محدّث أنّ رجلا بذلت له الملايين على أن ينطق بكلمة باطل لا يسأله عنها سائل ، ولا يؤاخذ في هذه الحياة ، فأبى وامتنع لا لشيء إلّا لأنّ شفتيه تتنزّه عن التّفوه بالباطل ، أو قال لك أنّ الملك قد أتاه لقمة سائغة بلا معارض ولا منازع على أن يقطع على نفسه وعدا بأن يسير على طريق من مضى من الملوك والحكّام ، فأبى وامتنع لا لشيء إلّا لأنّه لا يريد أن يكون مقلّدا لغيره ، ولا أن يعد ويخلف ؛ فذهب الملك إلى غيره ، فلم يهتّم ولم يكترث ، حتّى كأنّه نواة يلفظها من فمه ، أو حصاة تسقط من يده ، أو أخبرك مخبر أنّ عدوّا قصد هذا الرّجل للقضاء على حياته ، ولمّا برز له وجها لوجه وتمكّن من عدوّه ، وأصبح في قبضة يده ، ورأى هذا العدوّ الموت نصب عينيه ، طلب منه العفو والصّفح ، فعفا وصفح لا لشيء إلّا رغبة في العفو والصّزفح ، وهو يعلم علم اليقين أنّه لو قتله لباء المقتول بالإثم ، وكان للقاتل الفضل والعذر عند الله ، والنّاس.

لو حدّثك بهذا أو بعضا منه إنسان ، أي إنسان ، لقلت : أنّ محدّثك لا يدري ما يقول ، وأنّه يتوهم ويتكلّم ، ذلك لأنّا قد اعتدنا أن نرى النّاس يكذبون ويرائون ، ويمرغون الجباة بتراب الأقدام من أجل الدّرهم والدّينار ، وألفنا أن نقرأ ونسمع العقود والمواثيق في بيانات الحكّام ، وكلّها عكس ما يؤمنون به ويدينون ، وضدّ

١٢٩

ما ينوون ويعملون ، ورأينا كيف ينتقم الظّافرون من خصومهم؟ وكيف يخيّرونهم بين الموت والعبودية؟ حتّى ولو كانت الخصومة في الرّأي والإجتهاد. لذلك وغير ذلك تستبعد هذا النّوع من الحديث ، لأنّك تأخذ بمبدأ قياس بعض النّاس على بعض.

ولكن هذا ما حصل بالفعل ، وشهد به القريب والبعيد ، إقرأ تأريخ الإمام عليّ ابن أبي طالب ، لتلمس هذه الحقيقة ، وتؤمن بها إيمانك بوجودك ، فقد بايعه عبد الرّحمن بن عوف على أن يعمل بكتاب الله ، وسنّة الرّسول ، وسيرة الخليفتين أبي بكر وعمر ، فقال له عليّ : أعمل بكتاب الله وسنّة الرّسول ، وأرجو أن أفعل على مبلغ علمي وطاقتي ، فبايع عبد الرّحمن عثمان ، ولو قال الإمام نعم لتمّت له الخلافة بدون معارض ، ولكنّه أبى أن يكون مقلّدا ، أو أن يعد ويخلف(١) .

__________________

(١) ألا يظهر من هذا كلّه أنّ الرّجل ـ أي عمر بن الخطّاب ـ قد جعل أمر التّرشيح بيد رجل واحد وهو عبد الرّحمان بن عوف ، وعبد الرّحمان هذا يعرف بأنّ الإمام عليّعليه‌السلام يرفض الإلتزام بسيرة الشّيخين ، ولذا اشترط الإلتزام حتّى يبعد عنها عليّا وذلك لما بينهما من الإختلاف من حيث السّيرة حتّى في الإستخلاف ، ولما بين سيرتهما وبين سيرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، طلب عبد الرّحمان في حقيقته تعجيزي لا يمكن أن يقبل به إلّا اللّعوب الّذي لا يرعى عهدا ولا يلتزم بتعهد ، وذلك مستحيل على مثل عليّعليه‌السلام ، لذا قبلها عثمان ولم يلتزم بها أبدا وهو يعلم أنّه لن يلتزم ، وكيف يلتزم بثلاثة أنماط من السّيرة متباينة ، مختلفة ، وليس فيها جامع.

ما هي الميزة ، والخصّيصة ، والمنقبة الّتي تميز بها عبد الرّحمان بن عوف حتّى يجعل هو الحكم بين طرفي الإختلاف إذا وقع حتّى وإن صفق بإحدى يديه على الأخرى كما ذكرنا سابقا من المصادر التّأريخية.

ألكون عبد الرّحمان بن عوف زوّج أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وأمّها أروى بنت كريز ، وأروى أمّ عثمان فلذلك هو صهره كما يقولون؟ ـ

١٣٠

وفي يوم أحد برز إلى طلحة بن أبي طلحة ، وكان كبش الكتيبة فصرعه الإمام بضربة ، ولمّا أراد أن يجهز عليه بالثّانية ، قال له طلحة : أنشدك الله يابن عمّ والرّحم ، فانصرف عنه ، فقال له المسلمون : ألّا أجهزت عليه؟ فقال : ناشدني الله

__________________

ـ انظر ، أنساب الأشراف : ٥ / ١٩.

أم لكونه من أنصار ، وحزب أبي بكر في يوم السّقيفة مع عمر ، وأبي عبيدة ، والمغيرة بن شعبة ، وسالم مولى حذيفة؟.

انظر ، الاستيعاب : ٢ / ٣٨٥ ، الإصابة : ٢ / ٤٠٨ ، اسد الغابة : ٣ / ٣١٣.

أم لكونه قال يوم السّقيفة : «يا معشر الأنصار إنّكم وإن كنتم على فضل فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر ..».

انظر ، تأريخ اليعقوبيّ : ٢ / ١٠٣.

أم لكونه من الرّجال الّذين دخلوا بيت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع عمر بن الخطّاب ، وخالد ، وثابت بن قيس ، وزياد بن لبيد ، ومحمّد بن مسلمة ، وزيد بن ثابت ، وسلمة بن سالم ، وسلمة بن أسلم ، وأسيد بن حضير؟

انظر ، تأريخ الطّبريّ : ٢ / ٤٤٣ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٢ / ١٣٠ ، الإستيعاب : ٢ / ٨٣ ، الإصابة : ٢ / ٦١ ، هذه المصادر على سبيل المثال لا الحصر.

أم أنّ عمر علم بأنّ عبد الرّحمان لا يختلف مع ختنه عثمان ، وابن عمّه سعد كما صرّح به أمير المؤمنين عليّ وقال له : حبوته حبو دهر ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون ...؟

أم لكونه صاحب ثروة قدّروها بألف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، ومئة فرس كما ترك ذهبا قطّع بالفؤوس حتّى مجلت أيدي الرّجال منه؟.

انظر ، الطّبقات الكبرى : ٣ / ١٣٦.

ثمّ لماذا أدخل ـ جعل الحكم ـ عبد الله بن عمر أيضا كما في بعض الأخبار وهو القائل كما روي في تأريخ المدينة عن إبراهيم قال : قال عمر بن الخطّاب «يأمروني أن أبايع لرجل لم يحسن أن يطلق امرأته»؟

انظر ، تأريخ المدينة : ٣ / ٩٢٣ و ٣٤٣ ، تأريخ السّيوطيّ : ١٣٥.

١٣١

والرّحم»(١) ، وترك ابن العاصّ بعد أن أصبحت حياته في يده ، ولو قتله لدبّ الذّعر في جيش معاوية ، وتمزّق شرّ ممزّق ، وعفا يوم الجمل عن مروان بن الحكم ، وهو ألد الخصوم وأخطرهم ، وسقى أهل الشّام الماء بعد أن منعوه منه(٢) .

وقال قائل جاهل : أنّ الإمام لا يعرف السّياسة ، لأنّه لو منع الماء عن أهل الشّام ، أو قتل مروان ، وابن العاصّ لضمن النّصر بأيسر الأسباب؟ ، ويصحّ هذا القول في حقّ الّذين تسيّرهم منافعهم الشّخصيّة ، ويستبيحون كل شيء في سبيلها ، أمّا في حقّ الإمام الّذي يرى الدّنيا بكاملها أحقر من ورقة في فم جرادة تقضمها ، وأهون عليه من رماد أذرته الرّياح في يوم عاصف»(٣) ، أمّا في حقّ الإمام الّذي يرى الموت أيسر عليه من شرب الماء على الظّمأ ، أمّا الّذي يرى

__________________

(١) انظر ، الطّبري في تأريخه : ٢ / ١٣١ ، السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٢٤ ، والمعارف لابن قتيبة : ١٦١ ، تنوير المقباس من تفسير ابن عبّاس : ١٤٧.

(٢) فكّرت مليّا في صفح الإمام ، وبقيت اللّيالي والأيّام أبحث عن تفسير تركن إليه نفسي ، فلم أجد وجها إلّا أنّه مخلوق مستقل قائم بنفسه ، لا يشبه أحدا ، ولا يشبهه أحد من النّاس لا في الماضي ولا في الحاضر والمستقبل ، فهو بطبعه ومزاجه يصفح عن قاتله ، وقاتل أولاده دون أي تكلّف ، كما يصفح عمّن يسيء إليه بكلمة صغيرة نابية سواء بسواء ، ولا أدل على ذلك من وصيته بقاتله ابن ملجم ، وقوله : وإن تعفوا : أقرب إلى التّقوى. (منهقدس‌سره ).

انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٥٦٩ ، وقعة صفّين : ١٦١ ، الأخبار الطّوال : ١٦٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ٣١٨ و : ٤ / ١٣.

مال جيش الإمام على أعدائهم ، واضطروهم إلى ترك الشّريعة ، فسيطر عليها الإمام ، وألحّ عليه جماعة من أصحابه أن يمنع معاوية من الماء كما منعه ، فأبى ، وقال : «لا أفعل ما فعله الجاهلون!! سنعرض عليهم كتاب الله ، وندعوهم إلى الهدى ، فإن أبوا أعطيتهم حدّ السّيف». انظر ، منهاج البراعة : ٤ / ٣١٠ ، شرح المختار : ٤٦ ، وقعة صفّين : ٥٣٩ ، الفصول المهمة لابن الصّباغ المالكي ، بتحقيقنا : ١ / ٤٤٧ و ٤٩٧ ، و «الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة» : ٤ / ٩٧٣.

(٣) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة (٢٢٤).

١٣٢

الحذاء البالية خيرا ألف مرّة من الملك ، والسّلطان إلّا أن يقيم حقّا ، أو يدفع باطلا»(١) ، أمّا هذا الملاك الّذي لا يشبه أحدا ، ولا يشبهه أحد من النّاس ، فلا يصحّ في حقّه شيء من مقاييس النّاس الّتي تقوم على الأطماع ، والتهالك على الحطام.

وخير كلمة قرأتها في الإعتذار عن صفح الإمام عن أعدائه ، واستخفافه بالملك ما قاله الأستاذ جرداق : «أنّ الّذين يعترضون على الإمام يريدونه أن يكون معاوية بن سفيان ، ويأبى هو إلّا أن يكون عليّ بن أبي طالب»(٢) .

وهكذا أراد أتباع يزيد ومن على شاكلته أرادوا أن يكون الحسين كابن سعد وابن زياد حين طلبوا منه أن يبايع يزيد ، ويأبى هو إلّا أن يكون الحسين بن عليّ ، وإلّا أن يحمل روح أبيه بين جنبيه ، وإلّا أن يرى الموت سعادة ، والحياة مع الظّالمين ندما.

قال له قيس بن الأشعث يوم الطّفّ : انزل على حكم بني عمّك ، فإنّهم لم يروك إلّا ما تحبّ. فقال له الحسين : «لا والله ، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذّليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد. عباد الله :( إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ) (٣) .( إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ ) (٤) ، ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين : بين السّلة والذّلّة ، وهيهات منّا الذّلّة ، يأبى الله لنا ذلك ، ورسوله ، والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف حميّة ، ونفوس أبيّة لا تؤثر

__________________

(١) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة «٣٣»

(٢) انظر ، عليّ صوت العدالة الإنسانية : ٤ / ٧٧٥.

(٣) الدّخان : ٢٠.

(٤) غافر : ٢٧.

١٣٣

طاعة اللّئام على مصارع الكرام»(١) .

وحين هلك معاوية كتب يزيد إلى ابن عمّه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وكان واليا على المدينة : «أمّا بعد فخذ حسينا بالبيعة أخذا ليس فيه رخصة ، حتّى يبايع. والسّلام»(٢) . ولمّا وصل الكتاب إلى الوليد أرسل في طلب الحسين ، فدعا الإمام جماعة من مواليه ، وأمرهم بحمل السّلاح ، وقال لهم : «إنّ الوليد قد استدعاني ، ولست آمن أن يكلفني أمرا لا أجيبه إليه ، فإن سمعتم صوتي قد علا ، فادخلوا عليه ، لتمنعوه منّي ، وصار الحسين إلى الوليد ، فوجد عنده مروان بن الحكم ، فقرأ الوليد كتاب يزيد على الحسين ، فطلب الحسين منه الإمهال ، فقال له الوليد : انصرف إذا شئت على اسم الله ، فقال له مروان : «لئن فارقك السّاعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، ولكن احبسه فإن بايع وإلّا ضربت عنقه».

وفي رواية أنّ الحسين قال للوليد : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوّة ، ومعدن الرّسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله ، وبنا ختم ، ويزيد فاسق ، فاجر ، شارب الخمر ، قاتل النّفس المحترمة ، معلن بالفسق والفجور ، ومثلي لا يبايع مثله»(٣) .

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤٢٥ ـ ٤٢٦ طبعة سنة ١٩٦٤ م ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٢) انظر ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ٥٢٩ و : ٣ / ٢٦٣ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٢٥٠ ، و : ٥ / ٣٣٨ ، الأخبار الطّوال : ٢٢٧ ، الفتوح لابن أعثم : ٢ / ٣٥٥ و : ٣ / ٩ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٨٠ مثله. وهذا يبطل كلّ كلام يدافع به عن يزيد وعن تبرير المنافقين والمستشرقين الّذين يدّعون بأنّ يزيد لم يكن راغبا في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام .

(٣) انظر ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٨٤ وزاد فيه : والله لو رام ذلك أحد لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك ، فإن شئت ذلك فرم أنت ضرب عنقي إن كنت صادقا ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٢٥١ ، تذكرة ـ

١٣٤

ولمّا جنّ اللّيل أقبل الحسين إلى قبر جدّه ، وقال : السّلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك ، وسبطك الّذي خلفته في أمّتك ، فاشهد عليهم يا نبي الله أنّهم قد خذلوني وضيعوني ، ولم يحفظوني ، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك ، ثمّ قام فصفّ قدميه للصّلاة. فلمّا كانت اللّيلة الثّانية خرج إلى القبر أيضا ، وصلّى ركعات ، فلمّا فرغ من صلاته ، جعل يقول :

«أللهمّ هذا قبر نبيّك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا ابن بنت نبّيك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت ، أللهمّ إنّي أحبّ المعروف ، وأنكر المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام ، بحقّ القبر ومن فيه إلّا اخترت لي ما هو لك رضى ، ولرسولك رضى ، ثمّ بكى حتّى إذا كان قريبا من الصّبح ، وضع رأسه على القبر فاغفى ، فإذا هو برسول الله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه ، فضمّ الحسين إلى صدره ، وقبّل بين عينيه ، وقال : حبيبي يا حسين كأنّي أراك عن قريب مرملا بدمائك ، مذبوحا بأرض كرب وبلاء ، من عصابة من أمّتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى ، وظمآن لا تروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ، لا

__________________

ـ الخواصّ لسبط ابن الجوزي : ٢٢٩ طبعة إيران ، الآداب السّلطانية للفخري : ٨٨ ، الكامل في التّأريخ لابن الأثير : ٤ / ٧٥ ، تأريخ ابن عساكر : ٧ / ٤٠٧ ، أنساب الأشراف : ٥ / ١٢٩ ، الفتوح : ٣ / ١٤ ، وكان يقال له ـ أي مروان ـ ولولده : بنو الزّرقاء ، يقول ذلك من يريد ذمّهم وعيبهم ، وهي الزّرقاء بنت موهب جدّة مروان بن الحكم لأبيه ، وكانت من ذوات الرّايات الّتي يستدلّ بها على بيوت البغاء ، فلهذا كانوا يذمّون بها. وقال البلاذري في أنساب الأشراف : ٥ / ١٢٦ اسمها مارية ابنة موهب وكان قينا. انظر ، تذكرة الخواصّ : ٢٢٩ ، تأريخ ابن عساكر : ٧ / ٤٠٧ ، تأريخ الطّبري : ٨ / ١٦ ، تفسير من آية ١٣ سورة القلم في قوله( عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) وانظر ، كنز العمّال للمتقي الهندي : ١ / ١٥٦ ، روح المعاني للآلوسي : ٢٩ / ٢٨ ، الإمامة والسّياسة : ١ / ٢٢٧ ، الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة لابن الصّباغ المالكي : ٢ / ١٠٦ ، بتحقيقنا.

١٣٥

أنيلهم الله شفاعتي يوم القيامة ، حبيبي يا حسين إنّ أباك وأمّك وأخاك قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك ، وإنّ لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلّا بالشّهادة. فجعل الحسينعليه‌السلام ينظر إلى جدّه ويقول : يا جدّاه لا حاجة لي في الرّجوع إلى الدّنيا فخذّني إليك وأدخلني معك في قبرك»(١) .

يا غيرة الله اغضبي لنّبيه

وتزحزحي بالبيض عن أغمادها

من عصبة ضاعت دماء محمّد

وبنيه بين يزيدها وزيادها

ضربوا بسيف محمّد أبناءه

ضرب الغرائب عدن بعد ذيادها

يا يوم عاشوراء كم لك لوعة

تترقص الأحشاء من إيقادها

ما عدت إلّا عاد قلبي غلة

حرّى ولو بالغت في إبرادها(٢)

__________________

(١) انظر ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٧ ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ١٩ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٢٥٣ ، و : ٦ / ١٩٠ مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٨٦ ، الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة لابن الصّباغ المالكي : ٢ / ١٠٧ ، بتحقيقنا ، نزهة الأبصار بطرائف الأخبار والأشعار : ١ / ٣٦٣ ، الكامل في التّأريخ : ٤ / ٨ ، تهذيب تأريخ دمشق لابن عساكر : ٤ / ٣٢٩ ، مروج الذّهب : ٢ / ٨٦.

(٢) انظر ، شرح الأخبار : ٢ / ١٧٣ ، الغدير : ٤ / ٢١٧ و : ٦ / ٣٦٢ ، رياض المدح والثّناء : ٣٢.

١٣٦

لا عذّب الله أمّي

لا عذّب الله أمّي أنّها شربت

حبّ الوصي وغذتنيه باللّبن

وكان لي والد يهوى(١) أبا حسن

فصرت من ذا وذي أهوى أبا حسن(٢)

طلب هذا الشّاعر من الله سبحانه الرّحمة والرّضوان لأمّه وأن يبعد عنها العذاب ، والهوان ، لأنّها غذّته حبّ الوصي منذ طفولته ونعومة أظفاره ، وكانت السّبب الأوّل لإيمانه ، وحبّه لمن أحبّ الله ورسوله ، فكان أنّى اتّجه وتحرك يرن في اذنيه هذا الاسم الحبيب الّذي يجد له أطيب الوقع على قلبه وسمعه ، فهو يحمد الله على هذه السّعادة ، ويشكر لوالدته فضلها وحسن تربيتها. ورضوان الله ورحمته عليها وعليه.

خلق الله محمّدا وأهل بيته معالم للدّين ، وسبلا إلى الحقّ ، فمن ضلّ عنهم فلن يهتدي إلى الله في طاعة ، ولا يقبل منه عملا ، فلقد قرن الله سبحانه طاعته بطاعة الرّسول ، فقال :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) (٣) ، وقال :

__________________

(١) في الأصل ، «يدعى».

(٢) تنسب هذه الأبيات إلى الشّاعر الكبير المتنبيّ ، وكذلك إلى الإمام الشّافعي. انظر ، تأريخ بغداد : ٤ / ٦٠٢ ، ريحانة الأدب : ٣ / ٤٤٠ ، شذرات الذّهب : ٣ / ١٣ ، الوفيّات : ١ / ١٠٢.

(٣) الأحزاب : ٧١.

١٣٧

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ ) (١) ، وقال :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) (٢) ، وقال :( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات لم تفرّق بين الله ومحمّد في الطّاعة والمعصية.

وكذلك الرّسول الأعظم لم يفرّق بين التّمسك به والتّمسك بأهل بيته ، فقد جاء في كتاب ذخائر العقبى : «أنّ النّبيّ قال : «أنا وأهل بيتي شجرة في الجنّة وأغصانها في الدّنيا فمن تمسك بنا اتّخذ إلى ربّه سبيلا»(٤) . وجاء في الصّفحة نفسها حديث الثّقلين ، وإذا عطفنا هذا الحديث على قوله تعالى :( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) (٥) ، كانت النّتيجة أنّ أهل البيت هم الطّاعات والحسنات ، وإنّ أعداءهم هم المعاصي والسّيئات ، ومن أجل هذا قال الفرزدق(٦) :

__________________

(١) محمّد : ٣٣.

(٢) الفتح : ١٧.

(٣) النّساء : ٨٠.

(٤) انظر ، ذخائر العقبى للحافظ الطّبري : ١٦ طبعة (١٣٥٦ ه‍» ، شواهد التّنزيل : ١ / ٣٨٠ ، الصّواعق المحرقة : ٩٠ ، ينابيع المودّة : ٢ / ٣٦٦ ح ٤٧ وص : ٣٦٦ ح ٢٠٨ ، مناقب أهل البيت : ١٧٣ ، الرّياض النّضرة : ٢ / ٣٦٨ ، طبعة (١٩٥٣ م).

(٥) النّساء : ٨٠.

(٦) انظر ، أنوار الرّبيع : ٤ / ٣٥ ، تأريخ الأدب العربي : ٢٦٨ طبعة بغداد عام ١٣٤٧ ه‍ ، كفاية الطّالب : ٣٠٣ ، حياة الحيوان : ١ / ١١ ، شذرات الذّهب : ١ / ١٤٢ ، البداية والنّهاية : ٩ / ١٠٩ ، شرح لاميّة العجم للصّفدي : ٢ / ١٦٢ ، مروج الذّهب : ٢ / ١٩٥ ، الصّواعق المحرقة : ١١٩ ، نهاية الإرب : ٢١ / ٣٢٧ ، و : ٣ / ١٠٧ ، طبعة اسوة ، سرح العيون لابن نباتة : ٣٩٠ ، تأريخ دمشق : ٣٦ / ١٦١.

قال : فلمّا سمع هشام هذه القصيدة غضب ، ثمّ إنّه أخذ الفرزدق وحبسه ما بين مكّة والمدينة ، وبلغ ـ

١٣٨

من معشر حبّهم دين وبغضهم

كفر وقربهم منجى ومعتصم

يدلنا هذا البيت دلالة صريحة واضحة على أنّ الموالين للعترة الطّاهرة إنّما يوالونهم ولاء عقيدة وإيمان ، لا ولاء سياسيّا ، ويبغضون أعداءهم بغضا دينيّا لا حزبيّا ؛ وقد صرّحت الآيات القرآنيّة ، والأحاديث النّبويّة بأنّ أعظم الفروض ، بعد التّوحيد ونبوّة محمّد ، المودّة في القربى. ولهذا وحده نجد تأريخ الإماميّة في

__________________

ـ عليّ بن الحسين امتداحه ، فبعث ـ بأربعة الآف درهم فردّها ، وكتب إليه : إنّما مدحتك بما أنت أهله ، فردّها عليه عليّعليه‌السلام ، وكتب إليه : أن خذّها وتعاون بها على دهرك ، فإنا أهل بيت إذا وهبنا شيئا لا نستعيده ، فقبلها منه.

وفي رواية فبعث بإثني عشر ألف درهم ، وفي رواية بعشرة الآف درهم ، وقال : اعذرنا يا أبا فراس ، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به ، وجعل الفرزدق يهجو هشاما وهو في السّجن ، فبعث إليه ، وأخرجه.

أتحبسني بين المدينة والّتي

إليها قلوب النّاس تهوي منيبها

يقلّب رأسا لم يكن رأس سيّد

وعينا له حولاء باد عيوبها

ذكر الجاحظ في رسائله (٨٩) أنّ هشام بن عبد الملك كان يقال له : الأحول السّراق ، وقد أنشده أبو النّجم العجلي ارجوزته الّتي يقول فيها : الحمد لله الوهوب المجزل.

فأخذ يصفق بيديه استحسانا لها حتّى صار إلى ذكر الشّمس قال : والشّمس في الأرض كعين الأحول ، فأمر بوج عنقه وإخراجه ، وعلّق الجاحظ على ذلك بقوله : وهذا ضعف شديد ، وجهل عظيم.

وقال الشّيخ عبد الجواد الشّربيني في كتاب درّر الأصداف في مناقب الأشراف كان عليّ بن الحسين عاملا على كتمان أسرار الله تعالى في العالم كما أشار إلى ذلك في قوله رضى الله عنه :

يا ربّ جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي أنت ممّن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال صالحون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا

انظر ، درّر الأصداف في فضل السّادة الأشراف ، لعبد الجواد بن خضر الشّربيني ، وتفسير الآلوسي : ٦ / ١٩٠ ، ديوان الفرزدق : ١ / ٥١ ، تهذيب الكمال : ٤١ / ٤٠٣ ، تهذيب الكمال : ٢٠ / ٤٠٢ ، تأريخ الخطيب البغدادي : ١٢ / ١٨١.

١٣٩

عقيدتهم ، وفقههم ، وأحاديثهم ، وشعرهم ، ونثرهم تأريخ ولاء وأتباع لأهل البيت ، ونجد مؤلفاتهم ، وكتبهم في شتى أنواعها تزخر بأقوال الرّسول ، وآثار أبنائه ، بل نجد العلماء ، والشّعراء وغيرهم من الإماميّة يستعذبون الموت والإضطهاد في حبّ آل محمّد ، والذّب عنهم وعن تعاليمهم ومبادئهم ؛ فلقد حبس الفرزدق لأنّه ثار من أجل الإمام زين العابدين ، وخاطب هشام بقصدته الذّائعة الّتي قال له فيها :

هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلّ والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلّهم

هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهر العلم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجدّه أنبياء الله قد ختموا

من معشر حبّهم دين وبغضهم

كفر وقربهم منجى ومعتصم

إن عدّ أهل التّقى كانوا أئمّتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم

في كلّ بدو ومختوم به الكلم

* * *

فليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

والكميت القائل(١) :

__________________

(١) هو الكميت بن زيد بن خنس الأسدي ، أبو المستهل ، شاعر الهاشميين ، من أهل الكوفة ، اشتهر بالعصر الأموي ، شعره يقارب أكثر من خمسة آلاف بيت. انظر ، ترجمته في الشّعر والشّعراء : ٥٦٢ ، خزانة الأدب للبغدادي : ١ ـ ٦٩ ، جمهرة أنساب العرب : ١٨٧.

انظر ، مروج الذّهب : ٣ / ٢٤٢ طبعة ١٩٤٨ م ، الأغاني : ١٥ / ١٢٤ و : ١٧ / ٢٨ ، شرح هاشميات الكميت لأبي رياش القيسي : ٦٦ ، الهاشميات والعلويات ، قصائد الكميت ، وابن أبي الحديد : ٢٦ ، ـ

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

حدّ السّيوف ، وأشدّ من طعن الرّماح واقسم أنّي قد نسيت ذلك المشهد الرّهيب ، ووقوف النّساء والأطفال أسارى بين يدي يزيد نسيت كلّ هذه المحن ، وأنا أستمع إلى الحوارء ، وهي تصفع الطّاغية بكلماتها الملتهبة ، وتلعنه وتخزيه ، وتشفي منه صدور قوم مؤمنين ؛ أجل ، نسيت كلّ شيء إلّا قولها :

«يا بن الطّلقاء؟! ومن لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه من دماء الشّهداء ...».

وقولها : «فو الله ما فريت إلّا جلدك ، وما حززت إلّا لحمك ....».

وقولها : «إنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، .....».

وقولها : «هل رأيك إلّا فند ، وأيّامك إلّا عدد ، وجمعك إلّا بدد يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظّالمين». أي عليه وعلى آبائه ، وعلى من مهّد له ولهم سبيل الحكم والتّحكم ...»(١) .

وبعد ، فليست هذه الكلمات نفثة مصدور ، ولا هذه الرّوح الّتي خاطبت يزيد في هذا الجور تشبه أرواحنا نحن أبناء الأرض في شيء. أنّها روح إلهية لا ترى غير جبّار السّماء ولو كانت زينب من هذه النّسوة لما استطاعت غير البكاء والرّجاء ولكنّها من بيت ، أساسه محمّد ، وبناؤه عليّ ، وفاطمة ، والحسن والحسين ، وبانيه الله الواحد الأحد.

أنّ كلّ موقف من مواقف أهل البيت ، وكلّ كلمة من كلماته ، شاهد صدق وعدل على أنّهم إن نطقوا نطقوا بلسان الوحي ، وإن فعلوا فعلوا بتسديد الله وعنايته.

__________________

(١) انظر ، بلاغات النّساء لابن طيفور : ٢٢ ، الإحتجاج : ٢ / ٣٦ ، مثير الأحزان لابن نما : ٨١ ، مقتل الحسين لأبي مخنف الأزدي : ٢٢٧.

٣٦١

وقد يسأل سائل : لماذا صبر يزيد على هذا التّقريع والتّوبيخ ، والتّهديد والوعيد ، وعلى لعنه ولعن آبائه؟!

ولماذا لم يسكّت السّيّدة ، أو يأمر بقتلها ، أو إخراجها ، وهو الحاكم المسيطر؟!

الجواب :

أنّ يزيد لم يسكت عن السّيّدة ، لأنّها امرأة ، والمرأة لا تعامل إلّا بالرّفق واللّطف كلّا إنّ يزيد لا يردعه شيء كيف؟ وقد تجرأ على قتل ريحانة الرّسول ، وذبح أطفاله ، وسبى نسائه وإنّما سكت مذهولا من هول الصّفعة ، وممّا رأى من اضطراب المجلس بأهله ، وسمع من الصّرخات بسبّه ولعنه ، حتّى من أهله ونسائه فلقد أو قعته السّيّدة زينب بنبراتها وكلماتها في مأزق خطير لا يملك معه إلّا الإعتراف بعظمة الجريمة ، وإلّا البراءة منها ، وإلقاءها على ابن زياد.

وبالتالي ، فإنّ كلمات الزّهراء بعد يوم السّقيفة ، وكلمات ابنتها زينب في يوم كربلاء ، وبعده ، وكلمات الإمام زين العابدين ، وأمّ كلثوم ، وفاطمة بنت الحسين ، جميعها ترمي إلى غرض واحد ، وهو إقامة الحججّ والبراهين على أنّ أهل البيت هم أصحاب الحقّ في خلافة الرّسول ، وأولى بالطّاعة ، وأنّ من عارض وعاند فقد ردّ على الله ورسوله.

فأهل البيت أوّل من وضع أسّس الحجاج لحقهم بالدّليل والمنطق ، وأوّل من تكلّم في فضائلهم ومحاسنهم ، ومثالب أعدائهم ومساوئهم ، وأوّل من أقام البراهين على وجوب التّمسك بحبلهم ، والبراءة ، ومن أعدائهم ، ثمّ سار على هذا النّهج كلّ موال ومحبّ لله ورسوله وأهل بيته.

٣٦٢

الدّعوة لأهل البيت

لم يتوان أهل البيت لحظة في إعلان حقّهم بخلافة جدّهم الرّسول. وبكلّ ما فرض الله له على النّاس من سلطان ، وطاعة ، وولاء فلقد أعلنوا هذا الحقّ ، على أنّ الله سبحانه قد خصّهم به ، شاء النّاس أو أبوا ، تماما كما خصّ محمّدا بالنّبوّة ؛ أعلنوا هذا الحقّ ، ودعوا إلى الإيمان به بشتى الأساليب والوسائل ، واحتّجوا له بمنطق العقل ، ونصّ الكتاب والسّنّة.

فما أن توفّي النّبيّ ، وتولى الخلافة أبو بكر ، حتّى ذهبت الزّهراء بنفسها إلى المسجد الجامع ، وأعلنت هذا الحقّ ، واحتجّت له في ملأ من النّاس ، ومحضر الخليفة والأصحاب ، فأبكت النّساء والرّجال ، وبلبلت الأفكار ، واعتذر إليها الأنصار ، وحامت حول خلافة الأوّل ألف شبهة وشبهة

ولا أدري على أي شيء إعتمد من قال : أنّ عليّا لم يحتجّ لحقه بالخلافة على أبي بكر ، وجهل أو تجاهل أنّ إحتجاج الزّهراء هو إحتجاج عليّ بالذات ، وأنّها لم تنطق إلّا بلسانه ، ولم تحتج إلّا بدليله وبرهانه.

هذا ، إلى أنّ الإمام لم يدع مناسبة إلّا أقام فيها الحجّة البالغة على من جحد وعاند نذكر من ذلك على سبيل المثال قوله من على المنبر : «أما والله لقد تقمّصها فلان ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا. ينحدر عنّي

٣٦٣

السّيل ، ولا يرقى إليّ الطّير ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصّغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه»(١) .

وقوله من كتاب له إلى معاوية :

«فدع عنك من مالت به الرّميّة فإنّا صنائع ربّنا ، ـ أي نحن أسراء فضل الله وإحسانه ـ والنّاس بعد صنائع لنا. لم يمنعنا قديم عزّنا ولا عاديّ طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا ، فنكحنا وأنكحنا ، فعل الأكفاء ، ولستم هناك! وأنّى يكون ذلك ومنّا النّبيّ ومنكم المكذّب ، ومنّا أسد الله ، ومنكم أسد الأحلاف ، ومنّا سيّدا شباب أهل الجنّة ، ومنكم صبية النّار ، ومنّا خير نساء العالمين ، ومنكم حمّالة الحطب ، في كثير ممّا لنا وعليكم!

فإسلامنا قد سمع ، وجاهليّتنا لا تدفع ، وكتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا ، وهو قوله سبحانه وتعالى :( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٢) وقوله تعالى :( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (٣) ، فنحن مرّة أولى بالقرابة ، وتارة أولى بالطّاعة. ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السّقيفة برسول الله ـصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فلجوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم ، وإن يكن

__________________

(١) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة «٣». وتعرف بالشّقشقيّة لقول الإمامعليه‌السلام بعدها : «تلك شقشقة هدرت ، ثمّ قرّت».

(٢) الأنفال : ٧٥.

(٣) آل عمران : ٦٨.

٣٦٤

بغيره فالأنصار على دعواهم(١) .

وزعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت ، وعلى كلّهم بغيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك ، فيكون العذر إليك»(٢) .

* وتلك شكاة ظاهر عنك عارها*(٣)

واحتجّ الحسن على معاوية ، والحسين على أهل الكوفة بالحديث المشهور «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة»(٤) وهما إمامان قاما أو قعدا»(٥) .

__________________

(١) قال المفيد في كتاب «العيون والمحاسن» : زعم الجاحظ أنّ الكميت علّم الشّيعة الحجاج لتقديم آل محمّد. وهذه حماقة وسخف من الحافظ ، فإنّ أمير المؤمنين وأبناءهم هم الّذين احتجّوا لحقهم ، وعلّموا النّاس الحجاج له ، وإنّما نظم الكميت ما قالوه وأعلنوه ، بل أنّ متكلّمي الشّيعة قد احتجّوا واستدلوا قبل الكميت ، وكذلك أصحاب أمير المؤمنين. (منهقدس‌سره ).

(٢) انظر ، نهج البلاغة : الرّسالة (٢٨).

(٣) ينسب هذا الشّعر إلى أبي ذؤيب الهذلي من قصيدة طويلة يرثي بنيه الخمسة في عام واحد أصابهم الطّاعون ، وتارة ينسب إلى ابن الزّبير ، وهذا هو عجز البيت.

وعيرها الواشون أنّي أحبّها

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

انظر ، ديوان الهذليّين : ١ / ٢١ ، شرح أشعار الهذليّين : ١ / ٧٠ ، خزانة الأدب : ٩ / ٥٠٥ ، تنوير الحوالك : ٢٠ ، المحلّى : ٦ / ٤٣ ، مقدّمة فتح الباري : ١٣٧ ، تفسير القرطبي : ١٠ / ٣٨٤ ، معجم الأدباء : ١١ / ٨٩ ، صحيح البخاريّ : ٩ / ٥٣ ، تفسير الثّعالبي : ٣ / ٥١٨ ، العلل لأحمد بن حنبل : ١ / ٩٤ ، الفائق في غريب الحديث : ٣ / ٣٠٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١ / ٨٠ و : ١٥ / ١٨٣ و : ١٨ / ١٢٣ و : ٢٠ / ١٠٨ ، تأريخ دمشق : ٦٩ / ١١ ، تهذيب الكمال : ٣٥ / ١٢٤ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٣٧٩ ، شرح نهج البلاغة لمحمّد عبده : ٣ / ٣٣ ، النّهاية في غريب الحديث : ٢ / ٤٩٧. (٤) انظر ، كنز العمّال : ٦ / ٢٢٠ و ٢٢١ و ٢١٧ ، و : ٧ / ١٠٧ و ١١١ و ١٠٨ ، و : ١٢ / ٩٦ و : ١٢ / ٣٤٢٤٦ ، و : ١٣ / ٣٧٦٨٢ ، صحيح التّرمذي : ٢ / ٣٠٦ و ٣٠٧ ، مسند أحمد : ٣ / ٣ و ٦٢ و ٨٢ ، حلية الأولياء : ٥ / ٧١ و ١٣٩ ، و : ٤ / ١٣٩ و ١٩٠ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ١٨٢ ـ ١٨٤ و ١٨٧ ، تأريخ بغداد : ٩ / ٢٣١ و ٢٣٢ ، و : ١٠ / ٩٠ و ٢٣٠ ، و : ١ / ١٤٠ ، و : ٢ / ١٨٥ ، و : ١٢ / ٤ ، و : ٦ / ٣٧٢ ـ

٣٦٥

وقالت السّيّدة زينب ليزيد فيما قالت : «ما قتل الحسين غيرك. ولولاك لكان ابن مرجانة أقل وأذل ، أما خشيت من الله بقتله؟! وقد قال رسول الله فيه وفي أخيه : الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة فإن قلت : لا ، فقد كذبت ، وإن قلت : نعم ، فقد خصمت نفسك فقال يزيد : ذرّيّة بعضها من بعض.

وقال الإمام زين العابدين له ، قال المؤذّن : أشهد أنّ محمّدا رسول الله : هذا جدّي أو جدّك يا يزيد(١) !

وللإمام السّجّاد أسلوب خاصّ وجديد في بثّ الدّعوة لأهل البيت ، ذلك أنّه لا يبرز هذه الدّعوة بصورتها بل يضفي عليها ثوب المناجاة والخضوع والتّضرع إلى الله سبحانه ، لتمر في عصر الأمويّين بسلام دون أن تثير أي إهتمام ، ويبدو ذلك جليا لمن تتبع وتأمّل مناجاته في الصّحيفة السّجّاديّة فما مجّد الله وشكره ، أو سأله العفو والرّحمة أو أي شيء بجملة إلّا وقرنها بالصّلاة على محمّد

__________________

ـ الإصابة : ١ / ق ١ / ٢٦٦ ، و : ٦ / ق ٤ / ١٨٦ ، مناقب أمير المؤمنين محمّد بن سليمان الكوفي : ٣ / ٢٥٩ ، الجامع الصّغير للسّيوطي : ١ / ١٩. وانظر ، ذخائر العقبى : ١٣٥ و ١٣٠ و ١٢٩ ، كنوز الحقائق : ١١٨ و ٨١ و ٣٦ ، خصائص النّسائي : ٣٤ و ٣٦ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٤٤ / ١١٨ ، باب فضائل أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الحاكم في المستدرك : ٣ / ١٦٧ و ٣٨١ ، تأريخ دمشق : ٧ / ١٠٣ ، اسد الغابة : ٥ / ٥٧٤ ، صحيح ابن حبّان : ٢١٨ ، تهذيب التّهذيب : ٣ / في ترجمة زياد بن جبير ، سنن التّرمذي : ٥ / ٣٢١ / ٣٨٥٦ و : ٣٢٦ / ٣٨٧٠ ، الفضائل لأحمد : ٢ / ٧٧٩ / ١٣٨٤ ، الصّواعق : ١٨٧ و ١٩١ ب ١١ فصل ٢ ، الجامع الصّغير : ١ / ٥٨٩ / ٣٨٢٠ و ٣٨٢١ و ٣٨٢٢ ، منهاج السّنّة : ٤ / ٢٠٩ ، فرائد السّمطين : ٢ / ٣٥ و ١٤٠ و ١٣٤ و ١٥٣ و ٢٥٩ ، ينابيع المودّة : ٣٦٩ و ٣٧٢.

(٥) انظر ، سنن التّرمذي : ٣٢٣ ، الإستيعاب : ١ / ٢٨٧ ، التّنبيه والأشراف : ٢٦٠ ، تهذيب التّهذيب : ٢ / ٢٩٩ ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ١٤١ ، كشف الغمّة : ١ / ٥٣٣ ، مجمع البيان : ٨ / ٣٦١.

(١) انظر ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٦٩ ـ ٧١.

٣٦٦

وآل محمّد ، بحيث يتّجه القاريء تلقائيّا إلى تعظيم أهل البيت وتقدّيسهم ، واقتران اسمهم باسم الله ، واسم جدّهم رسول الله ، وهذا الأسلوب يحدث أثرا معينّا في النّفس من حيث تريد ، أو لا تريد وقد بلغت هذه الصّلوات القمّة في دعائه الّذي كان يدعو به يوم عرفة.

قال : «ربّ صلّ على محمّد وآله صلاة تجاوز رضوانك ، ويتّصل اتّصالها ببقائك ، ولا ينفد كما لا تنفد كلماتك. ربّ صلّ على محمّد وآله ، صلاة تنتظم صلوات ملائكتك وأنبيائك ورسلك وأهل طاعتك ، وتشتمل على صلوات عبادك من جنّك وإنسك وأهل إجابتك ، وتجتمع على صلاة كلّ من ذرأت وبرأت من أصناف خلقك ربّ صلّ عليه وآله ، صلاة تحيط بكلّ صلاة سالفة ومستأنفة ، وصلّ عليه وعلى آله ، صلاة مرضيّة لك ولمن دونك ، وتنشئ مع ذلك صلوات تضاعف معها تلك الصّلوات عندها ، وتزيدها على كرور الأيّام زيادة في تضاعيف لا يعدّها غيرك»(١) .

طلب الإمام من الله أن يصلّي على الرّسول وآله عدد الصّلوات الّتي صلّاها وتصلّيها الملائكة ، والأنبياء ، والجنّ ، والإنس ، وعدد التّسبيحات الّتي تسبحها بحدّه جميع مخلوقاته من حيوان ، ونبات ، وجماد(٢) ، وأن تبقى صلواته عليهم ببقائه ، وتدوم بدوامه ، على أن تتضاعف في كلّ لحظة أضعافا لا يحصيها إلّا

__________________

(١) انظر ، في ظلال الصّحيفة السجاديّة شرح العلّامة الشّيخ محمّد جواد مغنيّة : الدّعاء السّابع والأربعون ، دعاؤه في يوم عرفة : ٥٦٥ ، بتحقّيقنا.

(٢) جاء في الآية (٤٤) سورة الإسراء :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ) . (منهقدس‌سره ).

٣٦٧

هو وبديهة أنّ هذه الصّلوات الّتي لا يعرف مداها إلّا الله ، إن هي إلّا صدى لعظمة الرّسول وآله ، ومكانهم عند الله وملائكته ورسله.

وهذه صورة أخرى أصرح وأوضح في بثّ الدّعوة لأهل البيت ، قال :

«ربّ صلّ على أطائب أهل بيته الّذين اخترتهم لأمرك ، وجعلتهم خزنة علمك ، وحفظة دينك ، وخلفآءك في أرضك ، وحججك على عبادك ، وطهّرتهم من الرّجس ، والدّنس تطهيرا بإرادتك ، وجعلتهم الوسيلة إليك ، والمسلك إلى جنّتك»(١) .

وأطائب أهل البيت هم الّذين نزلت بهم آية التّطهير ، وآية المباهلة ، وآية المودّة ، وحديث الثّقلين ، وحديث الموالاة ، وحديث المنزلة على أنّهم خزنة علمه ، وحفظة دينه ، وخلفاؤه في أرضه ، وهم محمّد ، وعليّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين.

وقال طالبا من الله الصّلوات والرّحمة لشيعة أهل البيت :

«اللهمّ وصلّ على أوليائهم المعترفين بمقامهم ، المتّبعين منهجهم ، المقتفين آثارهم ، المستمسكين بعروتهم ، المتمسّكين بولايتهم ، المؤتمّين بإمامتهم ، المسلّمين لأمرهم ، المجتهدين في طاعتهم ، المنتظرين أيّامهم ، المادّين إليهم أعينهم ، الصّلوات المباركات الزّاكيات النّاميات الغاديات الرّائحات وسلّم عليهم وعلى أرواحهم ، واجمع على التّقوى أمرهم ، وأصلح لهم شئونهم ، وتب عليهم ، إنّك أنت التّوّاب الرّحيم ، وخير الغافرين ، واجعلنا معهم في دار السّلام برحمتك ،

__________________

(١) انظر ، في ظلال الصّحيفة السجّاديّة شرح العلّامة الشّيخ محمّد جواد مغنيّة : الدّعاء السّابع والأربعون ، دعاؤه في يوم عرفة : ٥٧٠ ، بتحقّيقنا.

٣٦٨

يا أرحم الرّاحمين»(١) .

وليس من شكّ أنّ الدّعاء للشّيعة بإصلاح شئونهم ، والتّوبة عليهم ، والمغفرة لهم ، دعاية صريحة لأهل البيت ، والتّمسك بولائهم ، ونشر مبادئهم ؛ وليست مبادئهم إلّا مبادىء ، الإسلام وتعاليم القرآن.

ونقف قليلا عند قوله : «واجعلنا معهم في دار السّلام» ، لنتساءل : كيف طلب الإمام من الله سبحانه أن يجعله مع شيعة أهل البيت ، وهم الّذين يرجون النّجاة بشفاعته ، وشفاعة آبائه ، ويسألون الله أن يحشرهم في زمرته ، ويتّخذونه الوسيلة إلى رضوان الخالق ورحمته؟

الجواب :

أنّ قوله هذا تواضع لله لا لسواه فإنّ المعروف من طريقة آل الرّسول إذا ناجوا ربّهم خضعوا وتذلّلوا ، واتهموا أنفسهم ، ولم يقيموا لها أي وزن والشّواهد على ذلك لا يبلغها الإحصاء ، نذكر منها هذا المثال من أقوال الإمام زين العابدين : «إنّك إن تفعل ذلك يا إلهي تفعله بمن لا يجحد استحقاق عقوبتك ، ولا يبرّئ نفسه من استيجاب نقمتك ؛ تفعل ذلك يا إلهي بمن خوفه منك أكثر من طمعه فيك ، وبمن يأسه من النّجاة أوكد من رجآئه للخلاص ؛ لا أن يكون يأسه قنوطا ، أو أن يكون طمعه اغترارا ؛ بل لقلّة حسناته بين سيّئاته ، وضعف حججه في جميع تبعاته»(٢) .

__________________

(١) انظر ، في ظلال الصّحيفة السجاديّة شرح العلّامة الشّيخ محمّد جواد مغنيّة : الدّعاء السّابع والأربعون ، دعاؤه في يوم عرفة : ٥٧٥ ، بتحقّيقنا.

(٢) انظر ، في ظلال الصّحيفة السجّاديّة شرح العلّامة الشّيخ محمّد جواد مغنيّة : الدّعاء السّابع والثّلاثون ، دعاؤه في طلب العفو : ٤٥٦ ، بتحقّيقنا.

٣٦٩

هذا ، إلى أنّ الإمام أراد أن يعرف الشّيعة المجتمعين على الخير والتّقوى أنّ لهم عند الله الحسنى ، والدّرجات العليا.

وبالتالي ، فإنّ أهل البيت قد أدركوا ـ منذ السّاعة الّتي صرف فيها الأمر إلى غيرهم ـ أنّ دين جدّهم معرّض للضّياع والأخطار ، لأنّ من قام ويقوم بالأمر لا يؤتمن على شيء لقد أحسوا وعلموا مقدّما بهذا الخطر ، فحاولوا بكلّ سبيل أن يرشدوا النّاس إلى الحقّ وأهله ، ويفهموا الأجيال أنّ الّذين تولوا الحكم والسّلطان باسم الدّين ليسوا شهداء لله في أرضه ، ولا خلفاء للرّسول في أمره ونهيه ، وإنّما الشّهداء والخلفاء حقّا هم الّذين أمر الله والرّسول بولائهم والتّمسك بحبلهم ، هم الّذين لا يفارقون الحقّ ، ولا يفارقهم في قول أو فعل ، ويدور معهم كيفما داروا ، وأنّى اتّجهوا ، تماما كالقرآن سواء بسواء وبديهة أنّ هذا الوصف لا ينطبق إلّا على أهل البيت بشهادة حديث الثّقلين.

لقد أراد أهل البيت أن تؤمن وتدين بهذا المبدأ النّاس. ولو طائفة من النّاس ، ولا يهمهم بعد ذلك أن يتولى الأمر من يتولّاه ؛ ومن أجل الإيمان بهذا المبدأ كانت حادثة كربلاء وغيرها من الحوادث والمجازر وقد تمّ لهم ما أرادوا فهؤلاء شيعتهم في شرق الأرض وغربها يحيون آثارهم ، ويقيمون شعائرهم ، وينشرون مناقبهم ومآثرهم.

٣٧٠

صور من كربلاء

بكاء ابن سعد

حين وقف الحسين وحيدا في وسط المعركة ، وفي ساعته الأخيرة. والألوف تحيط به من كلّ جانب صاح بأعلى صوته :

هل من ذابّ يذبّ عن حريم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ؟.

هل من موحّد يخاف الله؟.

هل من مغيث يرجو الله(٢) ؟.

فأغاثوه برمي السّهام ، وطعن الرّماح ، وضرب السّيوف ، فثبت وصبر ، حتّى قال من رآه : «ما رأيت مكثورا قطّ ، قتل ولده وأهل بيته ، وأصحابه أربط جأشا من الحسين ، وإن كانت الرّجال لتشدّ عليه ، فيشدّ عليها بسيفه ، فتنكشف عنه

__________________

(١) ذكرنا ، فيما تقدّم ، السّر الّذي من أجله خرج الحسين بحرم جدّه رسول الله ، واستغاثته هذه تعزّز ما قلناه. (منهقدس‌سره ).

(٢) انظر ، الحدائق الوردية (مخطوط) ، نسب قريش لمصعب الزّبيري : ٥٨ ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٢١٧ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٢٩ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٥٧ ، الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة لابن الصّباغ المالكي : ٢ / ١٤٨ ، بتحقيقنا ، نور الأبصار للشّبلنجي : ٢ / ٣١ ، بتحقّيقنا ، الإتحاف بحبّ الأشراف الشّيخ عبد الله بن محمّد بن عامر الشّبراوي : ١٤٨ ، بتحقّيقنا.

٣٧١

إنكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذّئب»(١) . وكان يردّد في موقفه هذا كلمات ، منها :

«لا حوّل ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم».

«اللهمّ أنّك ترى ما أنا فيه».

«إلهي إن كنت حبست عنّا النّصر ، فاجعله لما هو خير منه».

«اللهمّ اجعل ما حلّ بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل».

«لا والله ، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذّليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد».

«إنّي لأرجو أن يكرمني الله بالشّهادة».

«صبرا على قضائك يا ربّ ، لا إله سواك ، يا غياث المستغيثين»(٢) .

ولمّا نزف الدّم من جسده الشّريف ، ضعف وهوى على الأرض ، فدنا عمر بن سعد في جماعة من أصحابه ، فرآه يجود بنفسه ، فبكى وسالت دموعه على لحيته ، ثمّ صاح ، وهو يبكي : انزلوا إليه وأريحوه!

بكى ابن سعد على الحسين ، وفي نفس الوقت أمر بذبحه(٣)

وتدّلنا هذه الظّاهرة على أنّ الإنسان قد يتأثر وينفعل في موقف من المواقف من غير قصد وشعور ، تماما كما يتنفس ، وبهذا نستطيع أن نفسّر بكاء المجرمين

__________________

(١) تقدّمت تخريجاته.

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٤٢ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٢٠٣ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١٧٢ ، ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر : ٣٣٢ ، جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب لابن الدّمشقي : ٢ / ٢٨٨ ، الإرشاد : ٢ / ١٠٨ ، مثير الأحزان : ٥٢ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ١٦٦ ، معالي السّبطين : ١ / ٤٢٣ ، ينابيع المودّة : ٣ / ٧٧.

(٣) انظر ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٣٣ ، البيان والتّبيين للجاحظ : ٣ / ١٧١ الطّبعة الثّانية ، المعارف لابن قتيبة : ٢١٣ ، النّهاية : ٤ / ٣٤٣ ، تذكرة الخواصّ : ٢٥٣.

٣٧٢

القساة ، وهم يستمعون إلى حديث كربلاء وفاجعتها.

وعن السّيّدة زينب أنّها قالت : حين استشهد أخي الحسين هجم العدوّ على خيامنا للسّلب والنّهب ، ودخل إلى خيمتي رجل أزرق العينين ، فأخذ ما في الخيمة ، ونظر إلى زين العابدين ، وهو على نطع ، وكان مريضا ، فجذبه من تحته ورماه إلى الأرض ، والتفت إليّ ، وأخذ القناع من رأسي ، وقرطين كانا في أذنيّ ، وجعل يعالجهما ، ويبكي ، حتّى انتزعهما فقلت له : تسلبني ، وأنت تبكي؟! فقال : أبكي لمصابكم أهل البيت

وما يدرينا أنّ بعض من يبكي لمصاب أهل البيت يحمل روح هذا المجرم؟ وإنّه لو تسنى له أن يسلب الحوراء خمارها لفعل وأيّ فرق بين أزرق العينين هذا ، وبين من لا يفعل ولا يترك إلّا على أساس منفعته ومصلحته الخاصّة ، غير مكترث بدين ولا بضمير؟

وإنّي أقدّم هذه الصّورة ، صورة بكاء أزرق العينين ، وسيّده ابن سعد للّذين يحسبون أنّ مجرد البكاء «التّباكي» يدخلهم الجنّة ، ولو راءوا ونافقوا ، ودسّوا وتآمروا ، وتجسموا وقبضوا

وأقدّمها للّذين يصعدون على منبر سيّد الشّهداء ، يشيدون ببطولته ، وإبائه ، وعظمته ، ومبادئه واعظين ومرشدين إلى سبيله وهدايته ، حتّى إذا نزلوا عنه طأطأوا رؤوسهم للوجهاء ، ومدوا أيديهم للأغنياء وإنّي رأيت أكثر من مرّة على منبر الحسين من يسبّح بحمد الظّالمين ، ويكيل لهم المديح والثّناء ناسيا أنّ هذا المنبر قد نصب لمحاربة الظّلم ومكافحة الإجرام

وأيضا أقدّمها للّذين يقضون حياتهم في معاقرة الخمرة ، واللّعب في القمار ،

٣٧٣

وفي حوانيت الدّعارة ، ولا ينطقون إلّا بالكفر والفسق ، وسبّ الأديان والمذاهب ، ولا يتعرفون على صوم ولا صلاة ، حتّى إذا جاء يوم العاشر من المحرّم لبسوا الأكفان ، وضربوا الجباه بالسّيوف ، والأكتاف بالسّلاسل ، وأظهروا الشّيعة والتّشيّع بأبشع الصّور والمظاهر ، ووسموا الذّكرى المقدّسة بأقبح السّمات ، وأفسحوا المجال للمفترين والمتقوّلين بأنّنا لا نصلح للحياة ، وأنّ عقيدتنا بدعة وضلالة ، وسلّحوا العدوّ بأقوى سلاح وأمضاه ، وقبعوا في بيوتهم لا يفكرون إلّا في أنفسهم ، وتركوا غيرهم في وسط المعركة يكافح ، ويناضل ، بكلّ سلاح.

أنّ ذكرى الحسين ما زالت ولن تزال حيّة في القلوب ، فعلينا أن نستغلها لمرضاة الله ورسوله ، لصالح الإسلام والمسلمين ، وبثّ العلم والوعي ، وجمع الكلمة ، لا لإشاعة الجهل والتّفريق ، والإتّجار بالدين والعواطف.

ابتسام الحسين

روي أنّ شمرا ، حيت ارتقى الصّدر الشّريف ، وهمّ بذبح الإمام ، ابتسم عليه أفضل الصّلاة والسّلام ، وقال لشمر :

أتعرفني من أنا؟.

قال اللّعين : أجل ، حقّ المعرفة جدّك محمّد المصطفى ، وأبوك عليّ المرتضى ، وأمّك فاطمة الزّهراء ، وخصمي العليّ الأعلى(١) .

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٤٦ ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ١٣٧ ، الكامل في التّأريخ : ٤ / ٤٠ ، مروج ـ

٣٧٤

لم يتعجب الحسين لهذه المفاجأة الّتي يحسب كلّ إنسان أنّها محال ، حتّى في التّصور والخيال ، وإنّما ابتسم مستبشرا بالشّهادة ، ولقاء جدّه وأبيه ، أمّه وأخيه ، وبالرّحمة من دار البلاء والفناء إلى دار النّعيم والبقاء ، تماما كما استبشر أبوه من قبل بضربة ابن ملجم ، وقال : «فزت وربّ الكعبة»(١) وروي أنّ الحسين كان في يوم الطّفّ ، كلّما اشتدّ الأمر ، أشرق وجهه ، وهدأت جوارحه ، وسكنت نفسه ، حتّى قال النّاس بعضهم لبعض : أنظروا لا يبالي بالموت(٢)

ولم يقل الحسين لشمر : هل تعرفني؟ ليقيم عليه الحجّة ، لأنّها قائمة عليه ، ولا رجاء أن يتّعظ ويرتدع ، لأنّ الإتعاظ في حقّه أكثر من محال ، وإنّما سأله هذا

__________________

ـ الذّهب : ٢ / ٩١ ، الأخبار الطّوال : ٢٥٨ ، تهذيب تأريخ دمشق لابن عساكر : ٣ / ٣٤٢ ، سمط النّجوم العوالي : ٣ / ٧٦ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٢٠٠ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٣٦ و ٣٧ ، المعارف : ٢١٣ ، ينابيع المودّة : ٣ / ٨٢ ـ ٨٣ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٥١ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ٢١٥ و ٢٣٣ ، و : ٤ / ٥٨ ، النّهاية : ٤ / ٣٤٣ ، تذكرة الخواصّ : ٢٥٣ ،

(١) ذكرت قصّة ضرب ابن ملجم مقطّعة في بعض الكتب التّأريخية ، وأهل السّير ، ولكن نحن بصدد تحقّيق هذا الكتاب ، ولسنا بصدد بيان وجمع المقاطع على الرّغم من أنّ بعض الكتب قد نقلتها تفصيلا مع إختلاف يسير في الألفاظ ، وكذلك من التّقديم ، والتّأخير.

انظر ، تأريخ الطّبريّ : ٥ / ١٤٣ ، مقاتل الطّالبيّين : ٢٩ و ٤٧ ، طبقات ابن سعد : ٣ / ٣٥ ، أنساب الأشراف : ٢ / ٤٨٩ و ٤٩٩ و ٥٢٤ ، مروج الذّهب : ٢ / ٤١١ ، الإمامة والسّيّاسة : ١ / ١٥٩ ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ٣٨٩ ، مناقب الخوارزمي : ٣٨٠ ـ ٤١٠ ، مناقب ابن شهر آشوب : ٣ / ٣١١ ، تأريخ ابن عساكر : ٣ / ٣٦٧ ح ١٤٢٤ ، تأريخ دمشق : ٣٨ / ٩٧ ، و : ٣ / ٣٠٣ ح ١٤٠٢ وما بعدها ، كنز العمّال : ١٣ / ٦٩٧ ، الفتح الرّبّاني : ٢٣ / ١٦٣ ، والحاكم في المستدرك : ٣ / ١٤٤ ، ذخائر العقبى : ١١٠ فضائل عليّ عليه‌السلام ، الصّواعق المحرقة : ١٣٣ باب ٩ فصل ٥ مع تقديم وتأخير بما يناسب السّياق ، ويحفظ استرسال المعنى واللّفظ. الفتوح لابن أعثم : ٢ / ٢٧٦ ، الاسيعاب : ٣ / ٥٩ بإضافة «... لا يفوتنكم الكلب» ، اسد الغابة : ٤ / ٣٨ ، ينابيع المودّة : ١٦٤ ، أرجح المطالب : ٦٥١.

(٢) انظر ، معاني الأخبار للشّيخ الصّدوق : ٢٨٨ ، الإعتقادات للشّيخ المفيد : ٥٢.

٣٧٥

السّؤال ليعلمه إلى أي حدّ بلغ منع اللّؤم ، والضّعة ، والجرأة على الله والرّسول وأجاب شمر بما أجاب مستخفّا بالله ونبّيه وبجميع الأخلاق والقيم.

وقد يسأل سائل : كيف تجرأ الشّمر وأقدم على ما أقدم عليه؟!. كيف بلغت القسوة منه هذا المبلغ؟!. هل هو من البشر ، أو من طبيعة أخرى؟!.

الجواب :

إنّ الشّمر فرد من النّاس لا يختلف عنهم في لحمه ودمه ، ولا في طبيعته وفطرته الّتي خلق عليها أوّل ما خلق ـ ولا في شيء إلّا إنّه مارس الذّنوب ، واعتادها ، وتمادى فيها ، واستهان بمعصية الله ، حتّى أصبحت عنده كشرب الماء ، ومن كانت هذه حاله قسا قلبه ، وعميت بصيرته ، ولم يعد يبالي بشيء مهما كان ويكون قال أمير المؤمنين : «ما قست القلوب إلّا لكثرة الذّنوب»(١) . وقال تعالى :( بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (٢) .

وهكذا كلّ من تمادى في غيّه ، واستخفّ بدينه ، ولم يخش حسابا ولا عقابا ، يجوز عليه أن يقدم على ما أقدم الشّمر ، قال الإمام الصّادق : «إذا أذنب الرّجل خرج من قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب زالت ، وإن زاد ازدادت ، حتّى تغلب على قلبه ، فلا يصلح بعدها أبدا»(٣) .

المرتزقة :

خطب الحسين في جيش ابن سعد مرّتين ، وممّا قاله في الخطبة الأولى :

__________________

(١) انظر ، علل الشّرائع : ٨١ ، وسائل الشّعة : ١٦ / ٤٥ ح ٥ ، روضة الواعظين : ٤٢٠.

(٢) المطفّفين : ١٤.

(٣) انظر ، الكافي : ٢ / ٢٧١ ح ١٣ ، وسائل الشّيعة : ١٥ / ٣٠٢ ح ١٢ ، رسائل الشّهيد الثّاني : ١٠٥.

٣٧٦

«أيّها النّاس اسمعوا قولي ، ولا تعجلوني حتّى أعظكم بما يجب لكم عليّ. وحتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري ، وصدّقتم قولي ، وأنصفتموني ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل ، وإن لم تقبلوا منّي العذر فاجمعوا أمركم وشركائكم ، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثمّ اقضوا إليّ ولا تنظرون وليي الله الّذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصّالحين».

«أمّا بعد. فانسبوني ، فانظروا من أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها ، وانظروا : هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابن وصيّه وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله ، والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيّد الشّهداء عمّ أبي ، أو ليس جعفر الشّهيد الطّيار عمّي؟ أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي ولأخي : «هذان سيّدا شباب أهل الجنّة»(١) ؟ فإن صدّقتموني بما أقول ـ وهو الحقّ ـ والله ما تعمدت كذبا مذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ، ويضرّ به من اختلقه ، وإن كذبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم : سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهل بن سعد السّاعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ٩ لي ولأخي ، أفما في هذا حاجز لكم ع ن سفك دمي؟».

فقال له شمر بن ذي الجوشن :

هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.

فقال له حبيب بن مظاهر :

__________________

(١) تقدّمت تخريجاته.

٣٧٧

والله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفا وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك.

ثمّ قال لهم الحسين :

«فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكّون في أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم ، وأنا ابن بنت نبيّكم خاصّة. أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟ أو مال لكم استهلكته؟ أو بقصاص من جراحة؟».

فأخذوا لا يكلمونه. فنادى : يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن ابجر ، ويا قيس بن الأشعت ، ويا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ : إن قد اينعت الثّمار ، واخضّر الجناب ، وطمت الجمام ، وإنّما تقدم على جند لك مجند ، فاقبل. قالوا له : لم نفعل. فقال : سبحان الله! ، بلى والله ، لقد فعلتم ، ثمّ قال : أيّها النّاس : إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض. فقال له قيس بن الأشعث أولا تنزل على حكم بني عمّك ، فإنّهم لن يروك إلّا ما تحبّ ، ولن يصل إليك منهم مكروه ، فقال له الحسين : أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟(١) .

«لا والله ، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذّليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد. عباد الله : إنّي عذت بربّي وربكم أن ترجمون. أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب»(٢) .

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٢٨٠ ـ ٢٨١.

(٢) تقدّمت تخريجاته.

٣٧٨

هذي هي لغة المرتزقين المأجورين الّذين يطلبون ويزمرون في كلّ عرس يدفع الأجر ، أمّا المباديء والأخلاق ، أمّا الدّين والعلم فكلام فارغ سألهم الحسين عن مكانته فيهم؟. وهل أساء إليهم ، وإلى أحد منهم؟ فاقرّوا واعترفوا بأنّه قدس الأقداس ، وأنّه خير النّاس أبا وأمّا ، ولكنّ الأمير هكذا أراد وهو طوع لمّا يريد

وقال لهم : كيف تناصرون أعداد الله على أولياء الله «من غير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم؟ ..»(١) فوضعوا أصابعهم في آذانهم ، وأبو إلّا طاعة اللّئام ، لا بغضا للنّبيّ وأهل بيته ـ كما يظن ـ ولا حبّا بأبي سفيان وآل أبي سفيان ، كلّا وألف كلّا بل لأنّهم مرتزقة ، وكفى ولو كانت الدّنيا مع الحسين لكانوا معه على الأمويّين ، ولفعلوا بهم أكثر ممّا فعلوا به وبأهله ، لو أراد.

هذا هو مبدأ المرتزقة في كل عصر ومصر يصنعون كلّ شيء يجر إليهم النّفع فيطيعون الأمير والزّعيم ، ولو كان يزيد وابن زياد ، ويقتلون الصّادق الأمين ، ولو كان محمّدا أو حسينا

وبعد ، فإذا رأيت من يسير في ركاب زعماء هذا العصر وحكّامه فاحكم بأنّه محترف ، حتّى ولو توجّع وتفجّع لمصاب أهل البيت ولا تشك بأنّ الحسين لو كان حيّا ، وأمره الزّعيم بقتاله لأقدم ، وأوجد لنفسه ألف مبرّر ومبرّر.

__________________

(١) انظر ، مناقب آل أبي طالب : ٢ / ٢٥٧ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١٩٤ ، كشف الغمّة : ٢ / ٢٢٨ ، الإحتجاج : ٢ / ٢٤.

٣٧٩
٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528