الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء11%

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: 528

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء
  • البداية
  • السابق
  • 528 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 71470 / تحميل: 4900
الحجم الحجم الحجم
الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
ISBN: ٩٦٤-٤٦٥-١٦٩-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

بالرحمة هنا المطر »(١) .

الرابع: إنّ تأنيث النار ليس تأنيثاً حقيقياً، وتأنيث المؤنث غير الحقيقي ليس بلازم، كما نصّ عليه الرازي نفسه، إذ قال بتفسير قوله تعالى:( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) « المسألة الثانية: لقائل أن يقول: الجمع مؤنث، فكان ينبغي أن يقال: يحرّفون الكلم عن مواضعها. والجواب: قال الواحدي: هذا جمع حروفه أقل من حروف واحده، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره. ويمكن أن يقال: كون الجمع مؤنثاً ليس أمراً حقيقياً، بل هو أمر لفظي، فكان التذكير والتأنيث فيه جائزاً »(٢) .

وقال بتفسير( إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) « المسألة الرابعة: - لقائل أن يقول: مقتضى علم الإِعراب أن يقال: إن رحمة الله قريبة من المحسنين فما السبب في حذف علامة التأنيث؟ وذكروا في الجواب عنه وجوهاً « الأول »: إن الرحمة تأنيثها ليس بحقيقي، وما كان كذلك فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة. « الثاني » قال الزجاج: إنما قال قريب لأن الرحمة والغفران والعفو والانعام بمعنى واحد، فقوله: إن رحمة الله قريب بمعنى إنعام الله قريب وثواب الله قريب، فأجري حكم أحد اللفظين على الآخر. « الثالث » قال النضر بن شميل: الرحمة مصدر، ومن حق المصادر التذكير كقوله:( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ ) . وهذا راجع إلى قول الزجاج، لأن الموعظة أريد بها الوعظ فلذلك ذكره. قال الشاعر: « ان السماحة والمروة ضمنا » قيل: المراد بالسماحة السخاء، وبالمروة الكرم »(٣) .

وأمّا قول الرازي: « لأن اسم المكان إذا وقع خبرا لم يؤنث » فهو في نفسه

____________________

(١). الأشباه والنظائر ١ / ١٨٥.

(٢). تفسير الرازي ١٠ / ١١٧.

(٣). تفسير الرازي ١٤ / ١٣٦.

١٨١

كلام صحيح، لكنه يتنافى مع ما تقدم منه من الحكم بكون استواء التذكير والتأنيث من خصائص أفعل التفضيل، فما ذكره هنا اعتراف ببطلان دعواه الاختصاص المذكور.

وأما قوله: « وقال صاحب الكشاف على جهة التقريب » فإن أراد من قوله « على جهة التقريب » تقريب الزمخشري المعنى المقصود إلى الأفهام فلا عائبة فيه ولا يخالف المقصود ولا ينافيه، وإن أراد نفي أن يكون ذلك المعنى هو المراد حقيقة فيكذّبه قول صاحب الكشاف الذي نقله الرازي أيضا وهو: « حقيقته محراكم » فإنه يدل دلالة صريحة على أن ما ذكره على طريقة الحقيقة التي هي بالاذعان والتصديق حقيقة.

وما ذكره الزمخشري من احتمال كون معنى « المولى » هو « الناصر » لا يضعّف استدلالنا، لأنّا ندّعي جواز إرادة « الأولى » من « المولى » ومجيئه بهذا المعنى ولا ننفي أن يكون بمعنى آخر، وتجويز كون « المولى » هنا بمعنى « الناصر » لا ينفي جواز مجيئه بمعنى « الأولى » كما هو واضح.

وأما قول الرازي: « وعن الحسن البصري: « هي مولاكم » أي أنتم توليتموها في الدنيا » فلا يصادم مطلوبنا، بل إن مجيء « المولى » بمعنى « المتولي » أيضاً يفيد المطلوب.

كما أن ما ذكره بقوله: « وقيل أيضا: المولى يكون بمعنى العاقبة » لا ينافي المطلوب واستدلالنا بالآية الكريمة.

٤ - شبهة الرازي حول بيت لبيد

وقال الرازي: « وأما بيت لبيد، فقد حكي عن الأصمعي فيه قولان أحدهما: إن المولى فيه اسم لموضع الولي كما بيّنّا، أي كلا من الجانبين موضع المخافة، وإنما جاء مفتوح العين تغليباً لحكم اللام على الفاعل، على أن الفتح في المعتل الفاء قد جاء كثيراً، منه: موهب وموحد وموضع وموحل. والكسر في المعتل

١٨٢

اللّام لم يسمع إلّا في كلمة واحدة وهي مأوى.

الثاني: إنه أراد بالمخافة الكلاب، وبمولاها صاحبها ».

وجوه دفعها

وما ذكره حول بيت لبيد المستشهد به على مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » يندفع بوجوه:

الأول: إن حكاية القولين المذكورين عن الأصمعي في بيت لبيد لا ينافي الاستشهاد به على المطلوب المذكور، لأن أبا عبيدة قد استشهد به على ذلك، وهو أفضل من الأصمعي بلا كلام، وقد اعترف بذلك الأصمعي نفسه كما تقدّم.

الثاني: إنّه قد استشهد بهذا البيت - بالاضافة إلى أبي عبيدة - جماعة من كبار الأئمة، كالزجاج والأخفش والرماني كما ذكر الرازي نفسه ذلك، كما أن ثعلب فسر « المولى » فيه بـ « الأولى » كما صرح به الزوزني في شرح المعلّقات، ولا ريب في تقدم ما ذكره هؤلاء الأئمة على ما تفرّد به الأصمعي.

الثالث: لقد علمت سابقاً تفسير الجوهري والثعلبي وعمر القزويني والخفاجي وغيرهم « المولى » في هذا البيت بـ « الأولى »، وقد نص بعضهم على أن الوجوه الأخرى المذكورة له لا تخلو من الضعف.

الرابع: أن نقول: إما أن القولين المحكيين عن الأصمعي ينافيان تفسير أبي عبيدة وإمّا لا، فإنْ كانا ينافيان تفسيره كان بين قولي الأصمعي تناف أيضاً، بخلاف تفسير أبي عبيدة والزّجاج والأخفش والرماني وثعلب وغيرهم، إذْ لم يحك عنهم في البيت ما ينافي هذا التفسير، وإنْ لم يكن بين القولين والتفسير تناف وتعارض ولا فيما بين القولين أنفسهما، بل يمكن الجمع بين الجميع بنحو من الأنحاء كان ذكر القولين في مقابلة تفسير الأئمة عبثاً.

الخامس: لقد قدح الرازي في كتابه ( المحصول ) - كما نقل عنه السيوطي - في الأصمعي، وأسقطه عن الاعتبار في نقل اللغة في الكتاب المذكور، وهذا نص

١٨٣

كلامه: « وأيضاً فالأصمعي كان منسوباً إلى الخلاعة ومشهوراً بأنه كان يزيد في اللغة ما لم يكن منها ».

وأما قول الرازي: « والكسر في المعتل اللام لم يسمع إلّا في كلمة واحدة وهي مأوى » فكلام أجرأه الحق على لسانه، لأنه يبطل ما تقدّم منه من إنكاره مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » بسبب عدم مجيء « المفعل » في المواد الأخرى بمعنى « الأفعل ».

٥ - شبهات حول الشواهد الأخرى

لم يكن الشاهد على مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » منحصراً بتفسير أبي عبيدة وغيره للآية الكريمة، وببيت لبيد العامري، بل هناك شواهد أخرى على مجيء « المولى » من الكتاب والسنة وأشعار العرب، وقد ذكرها الرازي مع شبهات له حولها وتأويلات ومحامل لها، حتى تكون أجنبية عن مورد الاستدلال والاستشهاد، ونحن ننقل نصّ كلامه ثم نتبعه بدفع شبهاته:

قال الرازي: « وأما قوله تعالى:( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) معناه: ورّاثاً يلون ما تركه الوالدان. وقال السدي في قوله:( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) أي العصبة، وقيل: بني العم، لأنهم الذي يلونه في النسب وعليه قول الحارث:

زعموا أن من ضرب العسير

موال لنا وإنا الولاء

وقال أبو عمرو: الموالي في هذا الموضع بنو العم.

وأما قول الأخطل:

فأصبحت مولاها من الناس بعده.

وقوله:

لم تأشروا فيه إذ كنتم مواليه.

١٨٤

وقوله:

موالي حق يطلبون به.

فالمراد بها الأولياء.

ومثله قولهعليه‌السلام : مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي لله ورسوله.

وقولهعليه‌السلام : أيما امرأة تزوجت بغير إذن مولاها. فالرواية المشهورة مفسرة له.

وقوله:( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ) أي: وليهم وناصرهم( وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ) أي: لا ناصر لهم. هكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعامة المفسرين.

فقد تلخص مما قلنا: إن لفظة المولى غير محتملة للأولى ».

بيان اندفاع هذه الشبهات

وهذه الشبهات لا تبطل استدلال الشيعة واستشهادهم بهذه الشواهد، وقد ذكر الرازي في كلامه أيضاً ما لم يستشهد به الشيعة أصلاً، ونحن نبيّن كل ذلك فنقول:

أمّا تفسير « المولى » في قوله تعالى:( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) بـ « الوارث » فقد علمت آنفاً - من نقل الرازي نفسه - أن أبا علي الجبائي قد فسر « المولى » في الآية بوارث هو أولى به اي بالمتروك، وهذه عبارته: « والمعنى: إن ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به. وسمى الله تعالى الوارث المولى » وقد قال الرازي بعد هذا الوجه والوجوه الأخرى المذكورة في الآية المباركة: « وكلّ هذه الوجوه حسنة محتملة »، وقول الرازي هنا: « ورّاثا يلون ما تركه الوالدان » لا ينافي ذلك الوجه، لأن الوارث هم أولى بما تركه مورثوهم.

وأمّا ذكره قوله تعالى:( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) فلا وجه له، لعدم استشهاد الإِمامية بهذه الآية على مجيء « المولى » بمعنى « الأولى ».

ومثله قول الحارث نعم ذكر السيد المرتضى في كتاب ( الشافي في

١٨٥

الامامة ) عن غلام ثعلب في شرح هذا البيت: أن من معاني « المولى » هو « السيد » وإنْ لم يكن مالكاً، وإنه قد فسر « المولى » بـ « الولي ». فالسيد المرتضى طاب ثراه بصدد إثبات أن « السيد » « والولي » من معاني « المولى » ولم يحتج بهذا البيت أصلاً حتى يذكره الرازي في جملة شواهد الامامية على ما يذهبون إليه.

وأمّا حمله « المولى » في قول الأخطل: فأصبحت مولاها

وقوله: لم تأشروا فيه إذ كنتم مواليه.

وقول الشاعر: موالي حق يطلبون به.

على « الأولياء » فلا يضرّ ما نحن بصدده، لأن « الولي » أيضاً بمعنى « الأولى » كما صرح به المبرد. ولفظتا « أصبحت » و « بعده » قرينتان تدلان على أن المراد هو « الأولى بالتصرف».

كما أن الشطر الثاني من البيت - وهو كما في ( الشافي ):

( وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا ) قرينة أخرى على أن المراد من « المولى » هو « الأولى بالتصرف ».

وأمّا قول الشاعر: ( موالي حق يطلبون به ) فشطره الثاني هو: ( فأدركوه وما ملّوا وما تعبوا ) وفيه قرائن على أن المراد من « موالي حق » هم الذين يكونون أولى بحقوقهم.

وأمّا حديث: ( مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي الله ورسوله ) فليس مما يستشهد به الامامية، فذكره هنا عبث.

وأمّا حمل « المولى » في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أيما امرأة تزوجت بغير إذن مولاها ) على « الولي » للرواية المشهورة المفسرة له فلا يضر بالاستشهاد به، لأن المراد من « الولي » فيه هو « ولي الأمر » كما قال ابن الأثير: « ومنه الحديث: أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل. وفي رواية وليها. أي متولي أمرها ».

وأمّا ذكره الآية المباركة:( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ) فلا وجه له، لعدم استشهاد الامامية بها.

١٨٦

فظهر بما ذكرنا بطلان قوله: « فقد تلخص بما قلنا: إن لفظة المولى غير محتملة للأولى ». والحمد لله رب العالمين.

عود إلى كلام الدهلوي

قوله: « يعني النار مقركم ومصيركم والموضع اللائق بكم، لا أن لفظة المولى بمعنى الأولى ».

أقول: عجباً!! إن أبا عبيدة ينص على أن المراد من « المولى » في الآية الكريمة هو « الأولى »، ثم يستشهد لذلك ببيت لبيد، ويصرّح بأن « المولى » فيه هو « الأولى » كذلك، فكيف يقبل من ( الدهلوي ) هذا التحكم والتزوير؟!

ما الدليل على كون الصلة « بالتصرف »؟

قوله: « الثاني: إنْ كان « المولى » بمعنى « الأولى » فجعل صلته « بالتصرف » في أي لغة؟».

أقول: إنْ أراد ( الدهلوي ) عدم جواز جعل « بالتصرف » صلة لـ « الأولى » فهذا توهم فضيح، لأن ثبوت مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » كاف للمطلوب، وجعل « بالتصرف » صلة له هو بحسب القرائن المقامية كما سيجيء إنْ شاء الله تعالى.

على أن صريح كلام التفتازاني والقوشجي - الذي أورده صاحب بحر المذاهب أيضاً - هو شيوع مجيء « المولى » بمعنى « الأولى بالتصرف » في كلام العرب، وأن ذلك منقول عن أئمة اللغة.

بل إن مجيء « المولى » بمعنى « المتصرف في الأمر » و « متولي الأمر » و « ولي الأمر » و « المليك » - كما ظهر لك كلّ ذلك سابقاً - يكفينا لاثبات المرام.

مجمل واقعة الغدير

وإنْ أراد ( الدهلوي ) أنه إنْ كان « المولى » بمعنى « الأولى » فما الدليل على

١٨٧

كون المراد منه في حديث الغدير هو « الأولوية في التصرف »؟

فيظهر جوابه من النظر فيما وقع يوم غدير خم، ومجمله - كما تفيد روايات القوم - أن الله تعالى أوحى إلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنْ يبلّغ الناس بأن علياًعليه‌السلام مولاهم، فخشيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تقع الفتنة بين الناس إنْ بلغهم ذلك، فشكى إلى ربه عزّ وجلّ وحدته وقلة أصحابه المخلصين وأن القوم سيكذبونه، فأوحى الله تعالى إليه:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فنزلصلى‌الله‌عليه‌وآله بغدير خم وليس بالموضع اللائق للنزول، وكان يوماً هاجراً جدّاً يستظل الناس فيه بأرديتهم ودوابّهم، ثم أمرصلى‌الله‌عليه‌وآله فقمّ ما كان هنالك من شوك وصنع له منبر من أقتاب الابل، وكان عدد الحاضرين في ذلك اليوم مائة وعشرين ألف نسمة، وقد علم الجميع بأن هذا آخر اجتماع لهم من هذا القبيل، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوشك أن يدعى إلى ربه، فأمر رسول الله أن يرد من تقدم منهم، ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان، فلما اجتمعوا صعد المنبر وأخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون فقال:

يا أيّها الناس! قد نبأني اللطيف الخبير أنه لن يعمّر نبي إلّا مثل عمر الذي قبله(١) ، وإني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسئول وأنتم مسئولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وجهدت ونصحت فجزاك الله خيرا. قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق، وأن الموت حق، وأن البعث بعد الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: اللهم اشهد. فقال:

أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى. قال: إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه. ثم

____________________

(١). هذه الجملة وردت في بعض ألفاظ الحديث عند القوم، وفيها كلام كما لا يخفى.

١٨٨

قال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار.

ثم أمرصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتمسك بالثقلين الكتاب والعترة، وذكر أنهما لن يفترقا حتى يردا الحوض.

فلمـّا انتهىصلى‌الله‌عليه‌وآله من خطبته نزلت الآية:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي.

ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وممن هنّأه في مقدّم الصحابة أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والشيخان أبو بكر وعمر، وقال حسان بن ثابت أبياته المعروفة كما ستعرف ذلك كلّه بالتفصيل.

وبعد، فلا أظن أن عاقلاً يحمل هذه الخطبة المقترنة بهذه الأمور، على أمر سوى الامامة العظمى والخلافة الكبرى بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبهذه البحوث التي تراها يتضح لك مدى تعصّب القوم للهوى ومخالفتهم للحق، حتى أنهم قد يلتجأون إلى الكذب والافتراء، ويتذرّعون بالشبهات الواهية ويتفوّهون بما لا طائل تحته، فكأنهم آلوا على أنفسهم جحد الحق وتقوية الباطل مهما كلّف الأمر وستتضح لك تلك الحقيقة أكثر فأكثر من خلال البحوث الآتية إنْ شاء الله تعالى، والله المستعان.

* * *

١٨٩

١٩٠

من وجوه

دلالة حديث الغدير

١٩١

١٩٢

(١)

نزول قوله تعالى

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ

١٩٣

١٩٤

من وجوه دلالة حديث الغدير على إمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام نزول قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) في واقعة يوم غدير خم.

ذكر بعض من روى ذلك

وقد روى ذلك جماعة من كبار أئمة أهل السنة، ومشاهير أعيان علمائهم ومنهم:

١ - إبن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي.

٢ - أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي.

٣ - أحمد بن موسى بن مردويه.

٤ - أحمد بن محمد الثعلبي.

٥ - أبو نعيم أحمد بن عبد الله الاصفهاني.

٦ - أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي.

٧ - مسعود بن ناصر السجستاني.

٨ - عبد الله بن عبيد الله الحسكاني.

١٩٥

٩ - ابن عساكر علي بن الحسن الدمشقي.

١٠ - فخر الدين محمد بن عمر الرازي.

١١ - محمد بن طلحة النصيبي الشافعي.

١٢ - عبد الرزاق بن رزق الله الرسعني.

١٣ - حسن بن محمد النيسابوري.

١٤ - علي بن شهاب الدين الهمداني.

١٥ - علي بن محمد المعروف بابن الصبّاغ المالكي.

١٦ - محمود بن أحمد العيني.

١٧ - عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي.

١٨ - محمد محبوب عالم.

١٩ - الحاج عبد الوهاب بن محمد.

٢٠ - جمال الدين عطاء الله بن فضل الله الشيرازي.

٢١ - شهاب الدين أحمد.

٢٢ - الميرزا محمد بن معتمد خان البدخشي.

(١)

رواية ابن أبي حاتم

قال جلال الدين السيوطي: « أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب »(١) .

____________________

(١). الدر المنثور ٢ / ٢٩٨.

١٩٦

ترجمة ابن أبي حاتم

١ - الذهبي: « عبد الرحمن العلامة الحافظ يكنى أبا محمد، ولد سنة أربعين ومائتين أو إحدى وأربعين. قال أبو الحسن علي بن إبراهيم الرازي الخطيب في ترجمة عملها لابن أبي حاتم: كانرحمه‌الله قد كساه الله نوراً وبهاء يسر من نظر إليه وكان بحراً لا تكدره الدلاء. روى عنه: ابن عدي، وحسين ابن علي التميمي، والقاضي يوسف الميانجي، وأبو الشيخ ابن حيان، وأبو أحمد الحاكم، وعلي بن عبد العزيز بن مدرك وخلق سواهم.

قال أبو يعلى الخليلي: أخذ أبو محمد علم أبيه وأبي زرعة، وكان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال، صنّف في الفقه وفي اختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار. قال: وكان زاهدا يعدّ من الأبدال.

وقال الرازي المذكور في ترجمة عبد الرحمن: سمعت علي بن محمد المصري - ونحن في جنازة ابن أبي حاتم - يقول: قلنسوة عبد الرحمن من السماء، وما هو بعجب رجل منذ ثمانين سنة على وتيرة واحدة لم ينحرف عن الطريق.

وسمعت علي بن أحمد الفرضي يقول: ما رأيت أحدا ممّن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط.

وسمعت عباس بن أحمد يقول: بلغني أن أبا حاتم قال: ومن يقوى على عبادة عبد الرحمن؟ لا أعرف لعبد الرحمن ذنبا.

وسمعت عبد الرحمن يقول: لم يدعني أبي أشتغل في الحديث حتى قرأت القرآن على الفضل بن شاذان الرازي ثم كتبت الحديث.

قال الخليلي: يقال إن السنّة بالري ختمت بابن أبي حاتم.

قال الامام أبو الوليد الباجي: عبد الرحمن بن أبي حاتم ثقة حافظ »(١) .

____________________

(١). سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٦٣.

١٩٧

٢ - الذهبي أيضاً: « ابن أبي حاتم الامام الحافظ الناقد، شيخ الاسلام أبو محمد عبد الرحمن ابن الحافظ الكبير أبي حاتم محمد بن إدريس ولد سنة أربعين، وارتحل به أبوه، وأدرك الأسانيد العالية قال أبو يعلى الخليلي: أخذ علم أبيه وأبي زرعة

قلت: كتابه في الجرح والتعديل يقضي له بالرتبة المتقنة في الحفظ، وكتابه في التفسير عدة مجلّدات، وله مصنف كبير في الرد على الجهمية يدل على إمامته »(١) .

٣ - جمال الدين الأسنوي: « كان إماماً في التفسير والحديث والحفظ، زاهداً، أخذ عن أبيه وجماعة، وروى الكثير، وصنّف الكتب النفيسة، منها كتاب في مناقب الشافعي. ذكره ابن الصلاح في طبقاته ولم يؤرخ وفاته. توفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. ذكره الذهبي في العبر »(٢) .

٤ - الأسنوي أيضاً: « كان بحراً في العلوم ومعرفة الرجال زاهداً يعدّ من الأبدال. أخذ عن جماعة من أصحاب الشافعي، وصنّف في الفقه وغيره كالجرح والتعديل وكتاب العلل ومناقب الشافعي »(٣) .

٥ - ابن قاضي شهبة: « أحد الأئمة في الحديث والتفسير والعبادة والزهد والصلاح، حافظ ابن حافظ، أخذ عن أبيه وأبي زرعة، وصنف الكتب المهمة كالتفسير الجليل المقدار، عامته في أربع مجلّدات عامته آثار مسندة قال يحيى ابن مندة: صنف المصنف في ألف جزء. وتوفي سنة سبع - بتقديم السين - وعشرين وثلاثمائة. قارب التسعين »(٤) .

٦ - جلال الدين السيوطي: « ابن أبي حاتم الامام الحافظ الناقد شيخ

____________________

(١). تذكرة الحفاظ ٣ / ٤٦.

(٢). طبقات الشافعية ١ / ٤١٦.

(٣). نفس المصدر.

(٤). طبقات الشافعية ١ / ١١٢.

١٩٨

الاسلام أبو محمد قال الخليلي: أخذ علم أبيه وأبي زرعة قال ابن السبكي في الطبقات: حكي أنه لمـّا هدم بعض سور طوس احتيج في بنائه إلى ألف دينار، فقال ابن أبي حاتم لأهل مجلسه الذين كان يلقي إليهم التفسير: من رجل يبني ما هدم من هذا السور وأنا ضامن له عند الله قصراً؟ فقام إليه رجل من العجم فقال: هذه ألف دينار واكتب لي خطّك بالضمان. فكتب له رقعة بذلك وبني ذلك السور.

وقدر موت ذلك الأعجمي، فلمـّا دفن دفنت معه تلك الرقعة، فجاءت ريح فحملتها ووضعتها في حجر ابن أبي حاتم وقد كتب في ظهرها: قد وفينا بما وعدت، ولا تعد إلى ذلك.

مات في محرم سنة ٣٢٧ »(١) .

٧ - البدخشاني: « هو من كبار الحفاظ »(٢) .

التزامه في التفسير بأصح ما ورد

ثم إنّه قد ثبت أن ابن أبي حاتم قد التزم في تفسيره بإخراج أصحّ ما ورد في تفسير كلّ آية، وقد نصّ على ذلك السيوطي في ( اللآلي المصنوعة ) حيث قال بعد حديث: « وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، وقد التزم أن يخرج فيه أصحّ ما ورد، ولم يخرج فيه حديثاً موضوعاً ألبتة ».

وقال في ( الاتقان ) بعد أن ذكر تفسير السدي: « ولم يورد منه ابن أبي حاتم شيئاً لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد »(٣) .

____________________

(١). طبقات الحفاظ: ٣٤٥.

(٢). تراجم الحفاظ - مخطوط.

(٣). الأتقان في علوم القرآن ٢ / ١٨٨.

١٩٩

تنبيه

ذكر سيف الله الملتاني في كتابه الذي سماه ( تنبيه السفيه ) في جواب روايةٍ للكشي من أصحابنا طاب ثراه حول زرارة بن أعين: « وأيضاً، في هذه الرواية أن أبا جعفر خاطب زرارة بقوله: فإنّك والله أحبّ الناس إلي ومن أصحاب أبيعليه‌السلام إليّ حيّاً وميتاً، فإنّك أفضل سفن ذلك البحر القمقام إلى آخره. والحال أنه قد روى ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه ما رأى زرارة أبا جعفر ».

أقول: فكيف تكون رواية ابن أبي حاتم هذه حجة - مع أنها عن سفيان الثوري المعلوم حاله - ولا تكون روايته في تفسير تلك الآية الكريمة حجة؟ أفيجوز أن يقال بأن رواية ابن أبي حاتم حجة على الإِمامية في تكذيب رواية لأحد علمائهم، أما روايته في فضل أمير المؤمنينعليه‌السلام فليست بحجة على أهل السنة؟!

(٢)

رواية أبي بكر الشيرازي

روى نزول الآية المذكورة في غدير خم في كتابه ( ما نزل من القرآن في علي ) كما ذكر ابن شهر آشوب طاب ثراه(١) حيث قال في كتاب ( المناقب ) وعنه في ( بحار الأنوار ):

____________________

(١). توجد ترجمته في:

الوافي بالوفيات ٤ / ١٦٤ مع التصريح بكونه صدوق اللهجة.

البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة: ٢٤٠.

بغية الوعاة في تراجم اللغويين والنحاة ١ / ١٨١.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

لحظات في نور أمّ هاشم(١)

هي ابنة الإمام عليّ كرّم الله وجهه ، ابنة السّيّدة فاطمة بنت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشقيقة السّبطين النّيرين الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة ، رضي الله عنهم أجمعين(٢) .

كانت رضي الله عنها من خيرة نساء بيت النّبوّة ، اتّخذت طوال حياتها تقوى الله بضاعة لها ، ولسانها لا يفتر عن ذكر الله ، عرفت بكريمة الدّارسين ، وحسبت عند أهل العزم بأمّ العزائم ، وعند أهل الجود والكرم بأمّ هاشم ، وهي صاحبة الشّورى طوال حياتها.

ولدت رضي الله عنها سنة خمس من الهجرة النّبوّيّة ، فسرّ لمولدها أهل بيت النّبوّة ، ونشأت نشأة حسنة كاملة فاضلة ، تربّت على مائدة الطّهر والشّرف والإباء وعزّة النّفس ، محوطة بكتاب الله الكريم وسنّة جدّها العظيم ، وكانت رضوان الله عليها على جانب عظيم من الجود والكرم ، تزوّجت رضي الله عنها بابن عمّها الإمام عبد الله بن جعفر الطّيّار ، وأعقبت منه محمّدا ، وعليّا ، وعبّاسا

__________________

(١) انظر ، جريدة الجمهورية المصرية (٣ / ١ / ١٩٧٣ م). (منهقدس‌سره ).

(٢) تقدّمت تخريجاته.

٣٨١

تستكثر شيئا في سبيل الله وطاعته ، حتّى قتل أخيها ، وذبح أبنائها ، والسّير بها مسبيّة من بلد إلى بلد لقد قدم إبراهيم على ذبح ولده إسماعيل طاعة لله ، واستسلم الولد مختارا للذّبح امتثالا لأمر الله وهكذا سيّدة الطّفّ استسلمت لقضاء الله ، ورضيت به ، ولم تستكثر وتستعظم ما حلّ بها ، تماما كما استسلم إبراهيم وإسماعيل لأمر الله وإرادته.

شأن أهل البيت

ارتحل ابن سعد بجيشه من كربلاء في زوال اليوم الحادي عشر من المحرّم ، ومعه نساء الحسين وصبيته وجواريه ، وبعض نساء أصحابه الّذين استشهدوا معه ، وكانت النّساء عشرين امرأة ، والإمام زين العابدين ، وولده الإمام الباقر ، وكان له من العمر سنتان وشهور ، وثلاثة من أبناء الإمام الحسن ، وهم الحسن المعروف بالمثنى ، وزيد ، وعمر ، وطلبت النّسوة من جيش الطّغاة أن يمروا بهنّ على القتلى وحين نظرنّ إلى جسد الحسين صحنّ وبكينّ ، لطمنّ الخدود ، فاشتدّت الحال على الإمام السّجّاد ، وجاد بنفسه ، وقد انهكه المرض ، فقالت له سيّدة الطّفّ :

«مالي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي واخوتي؟ فو الله أنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك أنّ قبر أبيك سيكون علما لا يدرس أثره ، ولا يمحى رسمه على كرور اللّيالي والأيّام ، وليجتهد أئمّة الكفر ، وأشياع الضّلال في محوه وتطميسه ، فلا يزداد أثره إلّا علّوا»(١) .

__________________

(١) انظر ، كامل الزّيارات لابن قولوية : ٤٤٥ ، العوالم : ٣٦٢ ، البحار : ٢٨ / ٥٧ و : ٤٥ / ١٧٩.

٣٨٢

وإذا أخذت الإمام الرّقة والرّحمة على أبيه ، وهو على حاله تلك ، فقد حزن وبكى النّبيّ على ولده إبراهيم ، حتّى قال له بعض أصحابه :

ما هذا يا رسول الله؟.

فقال : أنّها الرّحمة الّتي جعلها في بني آدم ، وإنّما يرحم الله من عباده الرّحماء ثمّ قال: تدمع العين ، ويحزن القلب فلا نقول ما يسخط الرّب ؛ ولو لا أنّه قول صادق ، ووعد جامع ، وسبيل نأتيه ، وأنّ آخرنا سيتبع أوّلنا ؛ لوجدنا عليك أشدّ من وجدنا بك ، وإنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون»(١) .

وآل الرّسول هم أهل بيت النّبوّة والرّحمة ، يحزنون رحمة ، ويبكون رقّة ، ولا يقولون ما يسخط الرّب ، بل يرضون بقضائه ، ويستسلمون لمشيئته ؛ وقد جاء في مناجاة الإمام السّجّاد : «أللهمّ سهّل علينا ما نستصعب من حكمك وألهمنا الإنقياد لما أوردت علينا من مشيّتك حتّى لا نحبّ تأخير ما عجّلت ، ولا تعجيل ما أخّرت ، ولا نكره ما أحببت ، ولا نتخيّر ما كرهت واختم لنا بالّتي هي أحمد عاقبة ، وأكرم مصيرا ، إنّك تفيد الكريمة ، وتعطي الجسميّة ، وتفعل ما تريد ، وأنت على كلّ شيء قدير»(٢) . وبهذا ، بحسن العاقبة والمصير ، بشّرت السّيّدة ابن أخيها الإمام ، رغم ما هما عليه من الأسر والسّبي.

لقد تألّبت قريش على رسول الله ، واتّفقت على تكذيبه وإيذائه ، والقضاء

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٨٤ و ٨٥ ، كنز العمّال : ح ٤٠٤٧٩ ، السّنن الكبرى للبيهقي : ٤ / ٦٩ ، دعائم الإسلام : ١ / ٢٢٤ ، بدائع الصّنائع : ١ / ٣١٠ ، المغني : ٢ / ٤١١ ، المحلّى : ٥ / ١٤٦ ، مسند أحمد : ٣ / ١٩٤ ، صحيح مسلم : ٧ / ٧٦ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٥٠٧ ، سنن أبي داود : ٢ / ٦٤ ، مسند أبي يعلى : ٦ / ٤٣ ، المصنّف : ٣ / ٢٦٧ ، الإحكام للإمام يحيى الهادي : ١٥٠ ، ذخائر العقبى : ١ / ٢٢٤.

(٢) انظر ، الصّحيفة السّجاديّة : ٤٢٢ ، الدّعاء الثّالث والثّلاثون ، دعاؤه في الإستخارة. بتحقّيقنا.

٣٨٣

على دعوته بكلّ وسيلة فأغرت به سفهاءها ، يرشقونه بالأحجار ، ويضعون في طريقه ر الأشواك ، ويلقون عليه الأوساخ ، وهو في الصّلاة ، وعذّبت أتباعه ، حتّى الموت ، وكان لا يملك دفاعا عنهم ولا عن نفسه ، ومع ذلك كلّه يقول لأنصار دين الله : «سترثون أرض الملوك والجبابرة وتأخذون أموالهم ، وتفترشون نساءهم»(١) .

وقالت سيّدة الطّفّ ، وهي أسيرة مسبيّة ، ورجالها جثث بلا رؤوس ، قالت : (المستقبل لذكرنا ، والعظمة لرجالنا ، والحياة لآثارنا ، والعلو لأعتابنا ، والولاء لنا وحدنا ، وجابهت يزيد بهذه الحقيقة ، وهو في عرشه ، وهي أسيرة في مجلسه ، وصرخت فيه قائلة : فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ، ولا تمّيت وحينا ، ولا يدحض عنك عارها ، وهل رأيك إلّا فند ، وأيّامك إلّا عدد ، وجمعك إلّا بدد)(٢) .

وصدقت نبوءة السّيّدة ، فولاؤهم تدين به الملايّين ، وتعاليمهم تدرّس في الجامعات ، والمدارس من مئات السّنين ، ومناقبهم تعلن على المنابر ليل نهار ، وقبورهم ، كالأعلام على رؤوس الجبال ، يحجّ إليها النّاس من كلّ فجّ عميق.

أنّ الأمويّين والعبّاسيّين ، ومعهم الإنس ، والجنّ لا يستطيعون أن يمحوا ذكر أهل البيت إلّا إذا استطاعوا أن يطفئوا نور الله ، واسم محمّد ابن عبد الله ، ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره بمحمّد وأهل بيت محمّد ، ولو كره المشركون.

__________________

(١) انظر ، قريب من هذا في الكامل لابن الأثير : ٢ / ٥٧ ، ذخائر العقبى : ١٤٧ ، الإستيعاب : ٣ / ١٠٩٥ ـ ١٠٩٦ ، ميزان الإعتدال : ١ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ١٠٣.

(٢) تقدّمت تخريجاته.

٣٨٤

تكريت

عن كتاب «المنتخب» أنّ عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن ، وشبث ابن ربعي ، وعمرو بن الحجّاج ، وضم إليهم ألف فارس ، وأمرهم بإيصال السّبايا والرّؤوس إلى الشّام(١) .

وقال أبو مخنف ، مرّ هؤلاء في طريقهم بمدينة تكريت ، وكان فيها عدد من النّصارى ، فلمّا حاولوا أن يدخلوها إجتمع القسيسون والرّهبان في الكنائس ، وضربوا النّواقيس حزنا على الحسين ، وقالوا : إنّا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت نبيّهم ، فلم يجرؤوا على دخول المدينة ، وباتوا ليلتهم في البريّة.

وهكذا كانوا يقابلون بالجفاء والإعراض كلّما مرّوا بدير من الأديرة ، أو بلد من بلدان النّصارى(٢) .

لينا

وحين دخلوا مدينة «لينا» ، وكانت عامرة بالنّاس ، تظاهر أهلها رجالا ونساء ، وشيبا وشبانا ، وهتفوا بالصّلاة على الحسين وجدّه وأبيه ، ولعن الأمويّين وأشياعهم وأتباعهم ، وصرخوا في وجوه الطّغاة : يا قتلة أولاد الأنبياء اخرجوا من بلدنا.

جهينة

وأرادوا الدّخول إلى «جهينة» فبلغهم أنّ أهلها تجمعوا وتحالفوا على قتالهم

__________________

(١) انظر ، المنتخب للطّريحي : ٣١١ ، و : ٣٠٥ طبعة آخر. (منهقدس‌سره ).

(٢) انظر ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١١٣. (منهقدس‌سره ).

٣٨٥

إذا وطئوا أرض بلدهم ، فعدلوا عنها ، ولم يدخلوها.

معرة النّعمان

ودخلوا معرّة النّعمان فاستقبلهم أهلها بالتّرحاب ، وقدّموا لهم الطّعام والشّراب ، والمعرّة هذه هي بلدة الشّاعر الشّهير أبي العلاء الّذي قال :

أليس قريشكم قتلت حسينا

وصار على خلافتكم يزيد

وقال(١) :

وعلى الأفق من دماء الشّهيدي

ن عليّ ونجله شاهدان

كفر طاب

وأتوا حصن «كفر طاب» ، فأغلق أهلها الأبواب في وجوهم ، فطلبوا منهم الماء. فقال أهل الحصن : والله لا نسقيكم قطرة ، وأنتم منعتم الحسين وأصحابه من الماء.

حمص

ولمّا دخلوا حمص تظاهر أهلها ، وهتفوا : أكفرا بعد إيمان ، وضلالا بعد هدى؟ وقتلوا منهم رشقا بالحجارة (٢٦) فارسا.

بطبك

قال صاحب كتاب «الدّمعة السّاكبة» : حين دخل جيش الشّرك إلى بعلبك ،

__________________

(١) انظر ، ديوان المعرّي : ١٢٦ ، سقط الزّند : ١ / ٤٤١ ، دررّ السّمط في خبر السّبط : ٩٣.

٣٨٦

ومعهم السّبايا والأطفال ، زيّنت المدينة ، ونشرت الأعلام ، ودقّت الدّفوف ، وضربت البوقات ، وقدّموا للطّغاة الطّعام ، والشّراب ، والحلوى(١) .

__________________

(١) انظر ، الدّمعة السّاكبة في المصيبة الرّاتبة ، والمناقب الثّاقبة ، والمثالب العائبة ، محمّد باقر بن عبد الكريم الدّمشقي : ٤ / ٢٢١.

٣٨٧
٣٨٨

أدب الشّيعة

الشّيخ عبد الحسيب طه حميدة عالم مصري من علماء الأزهر ومدرّس في كلّية اللّغة العربيّة. ألّف كتابا اسماه «أدب الشّيعة إلى نهاية القرن الثّاني الهجري». أثبت فيه بالأرقام أنّ أدب الشّيعة صميم في عروبته ، عنيف في ثورته ، وأنّه قد تظاهرت على إبرازه العاطفة ، والإحساس ، والعقيدة ، وأنّه لذلك كان جديرا بالحياة ، وأنّ الشّيعة قد تعرضوا للأذى في سبيل عقيدتهم وحرّيّتهم ، فلم يزدادوا إلّا تمسكا بالحرّيّة والعقيدة.

وكشف المؤلّف عن أسرار وجهات في أدب الشّيعة لم يسبقه أحد إلى شرحها وتبسيطها ـ فيما أعلم ـ وجرى قلمه بالعلم والحقّ في كلّ ما سطّره عن حقيقة هذا الأدب وأغراضه وصلته بالحياة ، كمحاربته للظّلم والطّغيان ، ولكنّه ـ يا للأسف ـ قد انحرف به القلم عن غير قصد إلى الأخطاء والأغلاط ، وهو يتحدث عن عقيدة الشّيعة ، وخلط بين الفرق المحقّة النّاجية ، وبين الفرق المغالية البائدة ، فكان في حديثه هذا كغيره من الّذين نسبوا إلى الشّيعة أشياء لا يعلمونها ، والّذي أوقع الشّيخ في الخلط والإشتباه اعتماده على «ولهوسن» و «دوزي» ، و «فان فلوتن» وغيرهم من المستشرقين والمفترين(١) ، وكان عليه أن يعتمد على كتب

__________________

(١) انظر ، الفصل الثّالث من كتاب «أدب الشّيعة» بخاصّة : ٧٥ الطّبعة الأولى. (منهقدس‌سره ).

٣٨٩

العقائد عند الشّيعة أنفسهم ، ككتاب شرح التّجريد للعلّامة الحلّيّ ، وأوائل المقالات للمفيد ، والعقائد للصّدوق ، ومع الشّيعة الإماميّة للمؤلّف ، وغيره كثير.

ومهما يكن ، فنحن نحيي المؤلّف ، ونمنح ثقتنا الكاملة ، وتقديرنا البالغ لكلّ ما جاء في الكتاب ، ما عدا الفصل الثّالث ، وما يتّصل به من نسبة الغلو ، والرّجعة ، والتّناسخ ، والسّبئيّة(١) وما إلى ذاك ، إلى عقيدة الشّيعة بوجه عامّ ، نقول هذا مع الإعتراف بأنّ المؤلّف لم يتعمّد الإساءة إلى الشّيعة ، كيف؟ وقد اعترف لهم بالفضل في أشياء كثيرة وإنّما نلاحظ عليه اعتماده في حديثه عن عقيدة التّشيّع على غبي جاهل ، أو دسّاس خائن ، وإهماله المصادر الشّيعيّة الصّحيحة.

ومهما يكن ، فإنّ الغرض من هذا الفصل أن نذكر فيه مقتطفات من أقوال المؤلّف ، تصور أدب الشّيعة ، والأهداف الّتي يرمي إليها ، بخاصّة فيما يتعلق بحادثة كربلاء ، قال :

«أنّ أدب الشّيعة أخذ من لغة الآباء لغته وألفاظه ، ومن القرآن والحديث أسلوبه وحججه ، ومن عقليات العراق وحضارته معانيه وأخيلته ، ثمّ استخدم ذلك في أغراضه الشّيعيّة : حبّ آل الرّسول ، والإخلاص لقرابته ، والإحتجاج لحقّهم في الخلافة ، ومنافحة خصومهم من أمويّين وزبيريّين ، وخوارج وعبّاسيّين ، ورثاء قتلاهم ، ومدح عقيدتهم.

وكانت حادثة كربلاء الملطّخة بدماء الحسين وآل بيت الرّسول حدّا فاصلا بين طورين من أطوار هذا الأدب الخصب ، كان حبّا صادقا ، ومدحا خالصا ،

__________________

(١) ألّف السّيّد مرتضى العسكري كتابا أسماه «عبد الله بن سبأ» عرض فيه الأدلّة القاطعة على أنّ ابن سبأ اسطورة لا وجود له أبدا. (منهقدس‌سره ).

٣٩٠

وموازنة جريئة ، وحجاجا عربيّا صريحا ، مؤسّسا على نظرة العربي الّذي هذّبه الإسلام للرّياسة ، وبيت الرّياسة ، فأسبق النّاس إلى الإسلام ، وأمسهم رحما بالرّسول ، وأشدّهم جهادا للعدوّ وبلاء في نصرة الدّين ، أحقّ النّاس بخلافة المسلمين وزعامتهم ، وذلك كلّه قد إجتمع لعليّ ابن أبي طالب ، لفضله ، وسبقه ر ، وقرابته ، وجهاده.

كانت حادثة كربلاء ، تلك الحادثة المروّعة المشئومة ، فاتحة طور جديد من أطوار هذا الأدب الشّيعي كما كانت ذات أثر عميق في النّفوس الإسلاميّة ، والعقائد الشّيعيّة ، والحياة السّياسيّة ؛ والواقع أنّ قتل الحسين على هذه الصّورة الغادرة ، والحسين هو من هو دينا ومكانة بين المسلمين لا بدّ أن يلهب المشاعر ، ويرهف الأحاسيس ، ويطلق الألسن ، ويترك في النّفس الإسلاميّة أثرا حزينا داميا ، ويجمع القلوب حول هذا البيت المنكوب.

نعم. ولا بدّ أن ينكر النّاس هذا التّنكيل الجائر ، والتّمثيل الشّائن بعترة الرّسول ، وسلالته ، وفلذّات كبده ، وقرّة عينه ، ويروا فيه إذاية له ، وكفرانا بحقّه ، وتعرضا لغضبه(١) :

ماذا تقولون إن قال النّبيّ لكم

ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي

منهم اسارى وقتلى ضرّجوا بدم

__________________

(١) اختلف في نسبت هذه الأبيات ، انظر ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ١٥٣ ، مروج الذّهب : ٢ / ٩٤ ، ذخائر العقبى : ١٥٠ ، اللهوف لابن طاووس : ٩٦ ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٣٦ ، الآثار الباقية للبيروني : ٣٢٩ ، تأريخ الطّبري : ٦ / ٢٦٨ ، و : ٤ / ٣٥٧ طبعة آخر ، عيون الأخبار لابن قتيبة : ١ / ٢١٢ ، مجمع الزّوائد للهيثمي : ٩ / ٢٠٠ ، كفاية الطّالب في مناقب عليّ بن أبي طالب للحافظ محمّد بن يوسف الكنجي الشّافعي : ٤٤١ ، تأريخ ابن عساكر : ٤ / ٣٤٢ ، ذخائر العقبى لأحمد بن عبد الله الطّبري : ١٥٠.

٣٩١

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

فبهذا وأمثاله قامت النّائحات في العواصم الإسلاميّة يندبنّ الحسين ، ويبكينّ مصرعه ، وبهذا وأمثاله انطلقت الألسن الشّاعرة ترثي ابن بنت الرّسول ، وتصور أسف النّبيّ في قبره ، وحزنه على سبطه ، واحتجاجه على أمّته ، وتلقي على بني حرب سوء فعلهم ، وقبح ضلالتهم ، وجور سلطانهم ، وتسجل ، في صراحة وعنف ، مروقهم عن الدّين وإنتهاكهم لحرم الله.

وهال النّاس هذا الحادث الجلل ، حتّى الأمويّين أنفسهم ، فأقضّ المضاجع ، وأذهل العقول ، وارتسم في الأذهان ، وصار شغل الجماهير ، وحديث النّوادي.

ومكث النّاس شهرين أو ثلاثة كأنّما تلطّخ الحوائط بالدّماء ساعة تطلع الشّمس ، حتّى ترتفع ، ورأى من حمل رأس الحسين نورا يسطع مثل العمود إلى الرّأس وطيرا بيضاء ترفرف حوله ، ورأى ابن عبّاس النّبيّ في اللّيلة الّتي قتل فيها الحسين ، وبيده قارورة ، وهو يجمع فيها دماء. فسأله : ما هذا يا رسول الله؟

قال : دماء الحسين وأصحابه أرفعها إلى الله تعالى.

وأمثال هذا كثير ، نراه في الطّبري ، وابن الأثير ، والأغاني ، والعقد الفريد ، وصبح الأعشى(١) .

ومهما يكن من شيء ، فقد صبغت حادثة الحسين ، ولا تزال تصبغ أدب الشّيعة بالحزن العميق ، والرّثاء النّائح ، والمدح المبتهل ، والعصبية الحاقدة ، وأمدته بمدد زاخر من المعاني والأخيلة والعواطف ، فعززت مادته ، واتّسع

__________________

(١) وابن حجر ، والثّعلبي ، وأبو نعيم ، وسبط ابن الجوزي ، والبيهقي ، وابن سيرين ، وابن القفطي ، والتّرمذي ، وغيرهم. (منهقدس‌سره ).

٣٩٢

مجال القول فيه ، وغدونا أمام أدب تبعثه عاطفتان بارزتان : عاطفة الحزن ، وعاطفة الغضب ، تصدره الأولى حزينا باكيا ، وتبعثه الثّانية قويّا ثائرا.

والعاطفة أقوى دعائم الأدب ، فإذا أثيرت وهاجت ، وكان بجانبها لسان طلق ، وبيان ناصع ، ونفس شاعرة متوثبة ، فهناك الأدب الحي ، والقول السّاحر ، وكذلك كان الشّيعة. تجمعت لهم كلّ عناصر الأدب : لسان وعاطفة ، وفواجع من شأنها أن تستنزف الدّم ، وتذيب القلب ، وتنطق الأخرس ، فقالوا ، وبكوا : قالوا في الحقّ وطلبه ، والإرث وغصبه.

وبكوا على حقّ ضاع ، ودام أريق ، وحرمات انتهكت ، وبيوت دمّرت ، وجثث كريمة على الله والنّاس مثّل بها أبشع تمثيل ، وافتتان أموي أثيم في الفتك بالطّالبيّين وشيعتهم ، فقتل ، وصلب ، وإحراق ، وتذرية ، وهم يقابلون ذلك بالشّجاعة ، والصّبر ، والإحتساب.

وكانت القصائد الباكية ، والخطب الرّائعة ، والأقوال الدّامية(١) صدى لهذه الدّماء المسفوحة ، والجثث المطروحة ، تبعث ذكرها في كلّ قلب حزنا ، فيبعث الحزن أدبا ، يصور الآلآم ، ويعلن الفضائل ، ويستميل القلوب ، ويسجل العقائد ، ويشرح القضية الشّيعيّة ، ويحتج لها في صراحة وعنف ، فيتناولها من أطرافها ، متفننا في كلّ ذلك ، فمفاضلة جريئة ، ومعارضة شديدة ، ومناقشة فقهية ، ودعاية حزبيّة».

نقلنا هذه المقتطفات ، وهي قليل من كثير :

أوّلا : لأنّها تتّصل اتّصالا وثيقا بموضوع الكتاب.

__________________

(١) والمؤلّفات الّتي ملأت المكاتب في الفضائل والمناقب.

٣٩٣

ثانيا : لأنّها من شيخ أزهري.

ثالثا : لننبّه إلى هذا الكتاب القيم الّذي لم يؤلّف مثله في موضوعه ، والّذي يجب أن يقرأه كلّ عالم ، وكاتب ، وطالب والغريب أن يكون مجهولا لدى كثير من الشّيعة ، وهو فيهم ولهم ، وقد مضى على تأليفه أكثر من ست سنوات.

وإذا دلّ جهلنا بهذا الكتاب وما إليه على كلّ شيء فإنّما يدل على أننا بعيدون عن الحياة كلّ البعد ، بعيدون ، حتّى عن تأريخنا ، وأنفسنا وواقعنا لقد أدرنا ظهورنا إلى المطابع ، وما تخرجه من كتب وصحف ، تصور حياة النّاس ، كلّ النّاس ، واستقبلنا بوجوهنا المادّة ، فلا نفكّر إلّا بها ، ولا نفتح أعيننا إلّا عليها ، ولا نمد أيدينا إلّا إليها ، ولا نستطعم شيئا سواها ، ومن أجلها نبغض ونحب ، ونقف على الأبواب نطبّل ونزمّر للزّعماء وأبناء الدّنيا. ومع ذلك أعلم النّاس ، وأحسن النّاس ، وأشرف من في الكون

٣٩٤

قبر السّيّدة

انتقلت السّيّدة إلى جوار ربّها ورحمته في (١٥ رجب سنة ٦٥ ه‍». فعاشت بعد أخيها الحسين (٤ سنوات و ٦ أشهر ، و ٥ أيّام). وقيل : أنّها أوّل من لحق به من أهل بيته(١) .

واختلفوا في قبرها على ثلاثة أقوال(٢) :

القول الأوّل : أنّها دفنت في مدينة جدّها رسول الله ، ومال إلى ذلك المرحوم السّيّد محسن الأمين ، مستدلا بأنّه قد ثبت دخولها إلى المدينة ، ولم يثبت خروجها ، فنبقي ما كان على ما كان وكأنّه عليه الرّحمة يتمسك بالإستصحاب لإثبات دفنها بالمدينة وبديهة أنّ الأخذ بالإستصحاب هنا لا

__________________

(١) انظر ، السّيرة لابن إسحاق : ٢٢٦ ، صحيح البخاريّ : ٣ / ١٣٦٠ ح ٣٥٠٦ و : ٤ / ١٥٥٥ ح ٤٠١٦ و : ٥ / ٢٤ ، تهذيب الكمال : ١٤ / ٣٦٩ ، الاستيعاب : ١ / ٢٤٢ ، الطّبقات الكبرى : ٤ / ٣٩ ، الإصابة : ١ / ٤٨٧ ، تهذيب الأسماء : ١ / ١٥٥ ، التّرغيب والتّرهيب : ٢ / ٢٠٦ ح ٢١١٧ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ٢٧٣ ، المعجم الكبير : ٢ / ١٠٧ ح ١٤٦٧ و : ١١ / ٣٦٢ ح ١٢٠٢٠ ، أنساب الأشراف : ٢ / ١٨٩ ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٢١٣ ، تأريخ الطّبري : ٥ / ١٥٣.

(٢) انظر ، أنساب الأشراف : ٢ / ١٨٩ ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٢١٣ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ٣٥٨ ، تأريخ الطّبري : ٥ / ١٥٣ ، و : ٤ / ١١٨ طبعة أخرى ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ٣٩٧ ، و : ٤ / ٢٧٢ ، الإصابة : ٣ / ٤٧١ ، لسان الميزان : ١ / ٢٦٨ ، ميزان الإعتدال : ١ / ١٣٩ ، مقاتل الطّالبيّين : ٢٥ و ٨٦.

٣٩٥

يعتمد على أساس(١) .

لأنّ موضوع الإستصحاب أن نعلم بوجود الشّيء ، ثمّ نشك في ارتفاعه ، بحيث يكون المعلوم هو المشكوك بالذات. كما لو فرض أن علمنا بدفن الجثمان الشّريف في المدينة قطعا ، ثمّ شكّكنا : هل نقل إلى بلد آخر ، أو بقي حيث كان. فنستحصب. ونبقي ما كان على ما كان. لإتحاد الموضوع. أمّا إذا علمنا بدخولها إلى المدينة. ثمّ شكّكنا في محل قبرها فلا يمكن الإستصحاب بحال. لأنّ الدّخول إلى المدينة شزيء ، والقبر شيء آخر وإثبات اللّازم بإستصحاب الملزوم باطل. كما تقرّر في علم الأصول.

ثمّ لو كان قبرها في المدينة لعرف واشتهر. وكان مزارا للمؤمنين كغيره من قبور الصّالحات والصّالحين.

القول الثّاني : أنّها دفنت في قرية بضواحي دمشق. أي في المقام المعروف بقبر السّت ولم ينقل هذا القول عن أحد من ثقاب المنقدمين.

القول الثّالث : أنّها دفنت في مصر. ونقل هذا عن جماعة منهم العبيدلي ، وابن عساكر الدّمشقي ، وابن طولون ، وغيرهم(٢) .

__________________

(١) انظر ، أعيان الشّيعة : ٣٣ / ٢٧٠. (منهقدس‌سره ). انظر ، تأريخ المدارس : ٢ / ٣٤١ ، محاسن الشّام : ٢٢١ ، رحلة الشّام : ١٣ ، الرّوض الغنّاء في دمشق الفيحاء : ١٣١ ، منتخبات لتواريخ دمشق : ٣ / ٤٢٦.

(٢) انظر ، مشارق الأنوار في آل البيت الأخيار ، لعبد الرّحمن بن حسن بن عمر الأجهوري : ٢٦٠ ، الإشراف على فضل الأشراف ، إبراهيم الحسنيّ الشّافعيّ السّمهوديّ المدنيّ : ١٨٦ ، بتحقّيقنا ، أنساب الأشراف : ٢ / ١٨٩ ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٢١٣ ، تأريخ الطّبري : ٥ / ١٥٣ ، و : ٤ / ١١٨ طبعة أخرى ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ٣٩٧ ، و : ٤ / ٢٧٢ ، الإصابة : ٣ / ٤٧١ ، لسان الميزان : ١ / ٢٦٨ ، ميزان الإعتدال : ١ / ١٣٩ ، مقاتل الطّالبيّين : ٢٥ و ٨٦.

٣٩٦

ويلاحظ أنّ علماءنا الّذين عليهم الإعتماد ، كالكليني ، والصّدوق ، والمفيد ، والطّوسي ، والحلّي لم يتعرضوا لمكان قبرها ، حتّى نرجّح بقولهم كلّا أو بعضا أحد الأقوال الثّلاثة ، فلم يبق إلّا الشّهرة بين النّاس. ولكن الشّهرة عند أهل الشّام تعارضها الشّهرة عند أهل مصر.

وهكذا لا يمكن الجزم بشيء وليس من شكّ أنّ زيارة المشهد المشهور بالشّام ، والجامع المعروف بمصر بقصد التّقرب إلى الله سبحانه تعظيما لأهل البيت الّذين قرّبهم الله ، ورفع درجاتهم ومنازلهم ، حسنة وراجحة ، لأنّ الغرض إعلان الفضائل ، وتعظيم الشّعائر ، والمكان وسيلة لا غاية ، وقد جاء في الحديث : «نيّة المرء خير من عمله»(١) .

__________________

(١) انظر ، تأويل مختلف الحديث : ١ / ١٤٨ و ١٤٩ ، اصول الكافي : ٢ / ٦٩ ح ٢ ، المحاسن : ١ / ٢٦٠ ح ٣١٥ ، أمالي الطّوسي : ٢ / ٦٩ ، فيض القدير شرح الجامع الصّغير : ٦ / ٣٧٩ ، هدية العارفين : ١ / ١٥٦.

٣٩٧
٣٩٨

مقالات في أهل البيت

٣٩٩
٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528