مسند الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مسند الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين بن علي عليهما السلام10%

مسند الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين بن علي عليهما السلام مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 571

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 571 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76978 / تحميل: 4437
الحجم الحجم الحجم
مسند الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين بن علي عليهما السلام

مسند الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

مسند الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين بن علي عليهما السلام

الجزء الثاني

المؤلف: الشيخ عزيز الله العطاردي

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٤١ ـ باب ما جرى فى ليلة عاشوراء

١ ـ قال الصدوق : فقام الحسينعليه‌السلام فى أصحابه خطيبا فقال اللهمّ انّى لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتى ، ولا أصحابا هم خير من أصحابى ، وقد نزل بى ما قد ترون ، وأنتم فى حلّ من بيعتى ليست لى فى أعناقكم بيعة ، ولا لى عليكم ذمّة ، وهذا اللّيل قد غشيكم ، فاتّخذوه جملا وتفرقوا فى سواده فان القوم إنمّا يطلبونى ولو ظفروا بى لذهلوا عن طلب غيرى.

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبى طالب ، فقال يا ابن رسول الله ما ذا يقول لنا الناس ان نحن خذلنا شيخنا وكبيرنا وسيّدنا وابن سيّد الاعمام وابن نبيّنا سيد الأنبياء ، لم نضرب معه بسيف ولم نقاتل معه برمح لا والله أو نرد موردك ونجعل أنفسنا دون نفسك ودماءنا دون دمائك فاذا نحن فعلنا ذلك فقد قضينا ما علينا وخرجنا ممّا لزمنا.

وقام إليه رجل يقال له زهير بن القين البجلى ، فقال يا ابن رسول الله وددت أنى قتلت ثمّ نشرت ، ثمّ قتلت ثمّ نشرت ثمّ قتلت ثم نشرت ، فيك وفى الدين معك

٣

مائة قتله وأن الله دفع بى عنكم أهل البيت ، فقال له ولاصحابه جزيتم خيرا(١) .

٢ ـ قال المفيد : فجمع الحسينعليه‌السلام أصحابه عند قرب المساء ، قال علىّ بن الحسين زين العابدينعليهما‌السلام فدنوت منه لا سمع ما يقول لهم ، وأنا اذ ذاك مريض ، فسمعت أبى يقول لأصحابه : أثنى على الله أحسن الثناء وأحمده على السراء والضرّاء ، اللهمّ إنّى أحمدك على أن كرّمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا فى الدّين وجعلت لنا أسماء وأبصارا وأفئدة فاجعلنا من الشاكرين.

أمّا بعد فانّى لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابى ، ولا أهل بيت أبّر ولا أوصل من أهل بيتى ، فجزاكم الله عنّى خيرا ألا وانّى لا أظنّ يوما لنا من هؤلاء إلّا وانّى قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعا فى حلّ ليس عليكم منّى ذمام ، هذا اللّيل قد غشيكم ، فاتّخذوه جملا ، فقال له اخوته وابناؤه وبنوا أخيه وابنا عبد الله ابن جعفر لم نفعل ذلك لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك أبدا ، بدأهم بهذا القول العبّاس ابن علىعليهما‌السلام واتّبعه الجماعة عليه فتكلّموا بمثله ونحوه.

فقال الحسينعليه‌السلام يا بنى عقيل حسبكم من القتل بمسلم فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم ، قالوا سبحان الله فما يقول الناس يقولون : إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبنى عمومتنا خير الأعمام ، ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندرى ما صنعوا لا والله ما نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتّى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك وقام إليه مسلم بن عوسجة.

فقال أنحن نخلّى عنك وبما نعتذر إلى الله فى أداء حقّك ، أما والله حتّى أطعن

__________________

(١) أمالى الصدوق ٩٥.

٤

فى صدورهم برمحى وأضربهم بسيفى ما ثبت قائمه فى يدى ولو لم يكن معى سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله انّا قد حفظنا غيبة رسوله فيك ، أما والله لو قد علمت أنّى اقتل نمّ أحيى ثمّ أحرق ثمّ أحيى ثمّ اذرى يفعل ذلك بى سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامى دونك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنمّا هى فتلة واحدة ثمّ هى الكرامة الّتي لا انقضاء لها أبدا ، وقام زهير ابن القين رحمة الله عليه.

فقال والله لوددت انّى قتلت ثمّ نشرت ثمّ قتلت حتّى اقتل هكذا ألف مرّة ، وانّ اللهعزوجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء ، الفتيان من أهل بيتك ، وتكلّم جماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا فى وجه واحد فجزاهم الحسينعليه‌السلام خيرا وانصرف الى مضربه.

قال علىّ بن الحسينعليهما‌السلام : انّى جالس فى تلك العشية التي قتل أبى فى صبيحتها وعندى عمّتى زينب تمرّضنى إذ اعتزل أبى فى خباء له وعنده جون مولى أبى ذر الغفّارى وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبى يقول :

يا دهر افّ لك من خليل

كم لك بالاشراق والأصيل

من صاحب أو طالب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وإنمّا الأمر إلى الجليل

وكلّ حىّ سالك سبيل

فاعادها مرّتين أو ثلثا حتّى فهمتها وعرفت ما أراد ، فخنقتنى العبرة ، فرددتها ولزمت السكوت وعلمت أنّ البلاء قد نزل ، وأمّا عمّتى ، فانّها سمعت ما سمعت وهى امرأة ومن شان النساء الرقّة والجزع ، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها وإنّها لحاسرة حتّى انتهت إليه فقالت وا ثكلاه ليت الموت أعد منى الحياة ، اليوم ماتت امّى فاطمة وأبى علىّ وأخى الحسنعليهم‌السلام يا خليفة الماضين وثمال

٥

الباقين.

فنظر إليها الحسينعليه‌السلام فقال لها يا أخية لا يذهبنّ حلمك الشيطان ، وترقرقت عيناه بالدّموع ، وقال لو ترك القطا لنام ، فقالت يا ويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصابا ، فذاك أقرح لقلبى وأشدّ على نفسى ، ثمّ لطمت وجهها ، وهوت الى جيبها فشقّته وخرّت مغشيا عليها ، فقام إليها الحسينعليه‌السلام فصبّ على وجهها الماء وقال لها أيها.

يا أختاه اتّقى الله وتعزّى بعزاء الله واعلمى أنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون ، وأنّ كلّ شيء هالك إلّا وجه الله الّذي خلق الخلق بقدرته ، ويبعث الخلق ويعيدهم ، وهو فرد وحده ، جدّى خير منّى وأبى خير منّى وامّى خير منّى ، وأخى خير منّى ، ولى ولكلّ مسلم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أسوة فعزّاها بهذا ونحوه وقال لها يا أخيّة انّى اقسمت عليك فأبرّى قسمى لا تشقّى علىّ جيبا ولا تخمشى علىّ وجها ولا تدعى علىّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت.

ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندى ، ثمّ خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرب بعضهم بيوتهم من بعض وأن يدخلوا الأطناب بعضها فى بعض وأن يكونوا بين البيوت فيستقبلون القوم من وجه واحد ، والبيوت من ورائهم ، وعن ايمانهم ، وعن شمالهم ، قد حفّت بهم إلّا الوجه الّذي يأتيهم منه عدوّهم ، ورجععليه‌السلام إلى مكانه فقام الليل كلّه يصلّى ويستغفر ويدعو ويتضرّع وقام أصحابه كذلك يصلّون ويدعون ويستغفرون.

قال الضحّاك بن عبد الله ومرّ بنا خيل لابن سعد تحرسنا وانّ حسيناعليه‌السلام ليقرأ «ولا تحسبنّ( الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ

٦

الطَّيِّبِ ) فسمعها من تلك الخيل رجل يقال له عبد الله بن سمير وكان مضحاكا ، شجاعا بطلا فارسا فاتكا فقال نحن وربّ الكعبة الطيّبون ، ميّزنا منكم فقال له : برير بن خضير : يا فاسق أنت يجعلك الله من الطّيبين ، فقال له من أنت ، ويلك فقال له أنا برير بن خضير فتسابّا(١) .

٣ ـ قال ابن شهرآشوب : فجمع الحسينعليه‌السلام أصحابه ، وحمد الله واثنى عليه ثمّ قال بعد دعاء وكلام كثير ، وإنّى قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا فى حلّ ، ليس عليكم منّى ذمام ، هذا اللّيل قد غشيكم فاتّخذوه جملا ، وليأخذ كلّ رجل بيد رجل من أهل بيتى ، وتفرّقوا فى سوادكم ومدائنكم ، فانّ القوم إنّما يطلبوننى ولو قد أصابونى لهوا عن طلب غيرى ، فأبوا ذلك كلّهم.

فقال مسلم بن عوسجة الأسدي : والله لو علمت انّى اقتل ثمّ أحيى ثمّ أحرق ، ثمّ اذرى يفعل بى ذلك سبعين مرّة ، ما تركتك ، فكيف وإنمّا هى قتلة واحدة ثمّ الكرامة إلى الأبد ، وتكلّم سعد بن عبد الله الحنفى وزهير بن القين وجماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا.

فاوصى الحسينعليه‌السلام أن لا يشقّوا عليه جيبا ولا يخمشوا وجها ولا يدعى بالويل والثبور ، وباتوا قارءين راكعين ساجدين ، قال علىّ بن الحسينعليهما‌السلام انّى لجالس فى تلك اللّيلة الّتي قتل فى صبيحتها وكان يقول :

يا دهر افّ لك من خليل

كم لك بالاشراق والأصيل

من صاحب وطالب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وإنمّا الأمر إلى الجليل

وكلّ حىّ فالى سبيل

__________________

(١) الارشاد : ٢١٤.

٧

ما اقرب الوعد من الرحيل

قالت زينب كأنّك تخبر أنّك تغصب نفسك اغتصابا ، فقال لو ترك القطا ليلا لنام ، فلمّا اصبحوا عبّى الحسينعليه‌السلام أصحابه وأمر بأطناب البيوت فقربت حتّى دخل بعضها فى بعض ، وجعلوها وراء ظهورهم ، ليكون الحرب من وجه واحد ، وأمر بحطب وقصب كانوا أجمعوه وراء البيوت فطرح ذلك فى خندق جعلوه وألقوا فيه النار وقال لا تؤتى من ورائنا(١) .

٤ ـ قال ابن طاوس : قال الراوى وجلس الحسينعليه‌السلام فرقد ثمّ استيقظ ، فقال : يا اختاه إنّى رأيت الساعة جدّى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبى عليّا وأمّى فاطمة وأخى الحسن وهم يقولون يا حسين انك رائح إلينا عن قريب وفى بعض الروايات غدا ، قال الراوى فلطمت زينب وجهها وصاحت وبكت ، فقال لها الحسين مهلا لا تشمتى القوم بنا ثمّ جاء اللّيل فجمع الحسينعليه‌السلام أصحابه فحمد الله واثنى عليه ثمّ أقبل عليهم فقال :

أمّا بعد فانّى لا أعلم أصحابا أصلح منكم ، ولا أهل بيت أبّر ولا أفضل من أهل بيتى ، فجزاكم الله جميعا عنّى خيرا وهذا اللّيل قد غشيكم ، فاتّخذوه جملا ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتى وتفرّقوا فى سواد هذا اللّيل وذرونى وهؤلاء القوم ، فانّهم لا يريدون غيرى ، فقال له إخوته وأبناؤه وابناء عبد الله بن جعفر ، ولم نفعل ذلك لنبقى بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبدا ، بدأهم بذلك القول العبّاس ابن علىّعليه‌السلام ثمّ تابعوه.

قال الراوى ثمّ نظر إلى بنى عقيل فقال : حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم

__________________

(١) المناقب : ٢ / ٢١٦

٨

اذهبوا فقد أذنت لكم(١) .

٥ ـ عنه روى من طريق آخر ، قال فعندها تكلّم إخوته وجميع أهل بيته وقالوا : يا ابن رسول الله فما يقول الناس لنا وما ذا نقول لهم إنّا تركنا شيخنا وكبيرنا وابن بنت نبيّنا لم نرم معه بسهم ، ولم نطعن معه برمح ، ولم نضرب بسيف ، لا والله يا ابن رسول الله لا نفارقك أبدا ولكنّا نقيك بأنفسنا حتّى نقتل بين يديك ، ونردّ موردك ، فقبح الله العيش بعدك.

ثمّ قام مسلم بن عوسجة وقال : نحن نخليك هكذا وننصرف عنك ، وقد أحاط بك هذا العدوّ لا والله لا يرانى الله أبدا وأنا أفعل ذلك حتّى اكسر فى صدورهم رمحى وأضاربهم بسيفى ، ما ثبت قائمه بيدى ، ولو لم يكن لى سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، ولم أفارقك أو أموت معك ، قال وقام سعيد بن عبد الله الحنفى.

فقال : لا والله يا ابن رسول الله لا نخليك أبدا حتّى يعلم الله أنا قد حفظنا فيك وصية رسوله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ولو علمت انّى اقتل فيك ، ثمّ أحيى ثمّ أخرج حيا ثمّ أذرى يفعل ذلك بى سبعين مرّة ما فارقتك حتّى القى حمامى دونك وكيف لا أفعل ذلك وإنمّا هى قتلة واحده ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا.

ثمّ قام زهير بن القين وقال والله يا ابن رسول الله لوددت انّى قتلت ثمّ نشرت ألف مرّة ، وأنّ الله تعالى قد دفع القتل عنك وعن هؤلاء الفتية ، من إخوانك وولدك ، وأهل بيتك وتكلّم جماعة من أصحابه بنحو ذلك وقالوا : أنفسنا لك الفداء نقيك بأيدينا ووجوهنا فإذا نحن قتلنا بين يديك نكون قد وفّينا لربنا وقضينا ما علينا.

__________________

(١) اللهوف : ٣٩.

٩

قيل لمحمّد بن بشير الحضرمى فى تلك الحال قد اسر ابنك بثغر الرّى ، فقال عند الله احتسبه ونفسى ما كنت أحبّ أن يوسر وأنا أبقى بعده ، فسمع الحسينعليه‌السلام قوله ، فقال: رحمك الله أنت فى حلّ من بيعتى ، فاعمل فى فكاك ابنك ، فقال اكلتنى السباع حيا إن فارقتك ، قال فأعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها فى فداء أخيه فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار.

قال الراوى : وبات الحسينعليه‌السلام وأصحابه تلك اللّيلة ولهم دوىّ كدوىّ النحل ، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد ، فعبر عليهم فى تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلا وكذا كانت سجيّة الحسينعليه‌السلام فى كثرة صلاته وكمال صفاته(١)

٦ ـ قال الفتال : فجمع الحسينعليه‌السلام أصحابه عند قرب المساء قال علىّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام : فدنوت منهم لأسمع ما يقول لهم ، وأنا إذ ذاك مريض ، فسمعت أبىعليه‌السلام يقول لأصحابه : اثنى على الله أحسن الثناء وأحمده على السرّاء والضرّاء ، اللهمّ انّى أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن وفهّمتنا فى الدين ، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة ، فاجعلنا من الشاكرين.

أمّا بعد فإنّى لا أعلم أصحابا ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أصحابى ، وأهل بيتى ، فجزاكم الله عنّى خيرا ألا وإنّى لأظنّ يوما لنا من هؤلاء ، إلّا وقد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعا فى حلّ ليس عليكم من ذمام ، هذا اللّيل ، قد غشيكم فاتّخذوه جملا ، فقال إخوته وأبناءه وبنى أخيه وابنا عبد الله بن جعفر لم نفعل لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك اليوم أبدا بدأهم بهذا القول العبّاس بن على رضى الله عنه ، واتبعته

__________________

(١) اللهوف : ٤٠.

١٠

الجماعة عليه فتكلّموا بمثله ونحوه.

فقال الحسينعليه‌السلام : يا بنى عقيل حسبكم من القتل بمسلم ، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم ، قالوا سبحان الله ما نقول للنّاس نقول انّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبنى عمومتنا خير الأعمام ، ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندرى ما صنعوا لا والله لا نفعل ولكن نفديك أنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتّى نرد موردك فقبّح الله العيش بعدك.

قال مسلم بن عوسجة والله لو علمت أنّى اقتل ثمّ أحيا ثمّ احرق ثمّ أحيا ثمّ احرق ثمّ أذرى ، يفعل بى ذلك سبعين مرّة ما فارقتك ، حتّى ألقى حمامى من دونك ، وكيف لا أفعل ذلك ، وإنّما هى قتلة واحدة ، ثمّ هى الكرامة الّتي لا انقضاء لها أبدا ، وقام زهير بن القينرحمه‌الله .

فقال والله لوددت انّى قتلت حتّى أقتل ، هكذا ألف مرّة ، وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتيان ، من أهل بيتك ، وتكلّم بعض أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا فى وجه واحد ، فجزاهم الحسين خيرا وانصرف الى مضربه ، قال علىّ بن الحسينعليهما‌السلام بينا أنّى جالس فى تلك العشية الّتي قتل فى صبيحتها أبى ، وعندى عمّتى زينب تمرّضنى إذا اعتزل أبى فى خباء وعنده فلان مولى أبى ذر الغفارى رضى الله عنه وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبى يقول :

يا دهر افّ لك من خليل

كم لك فى الاشراق والأصيل

من صاحب وطالب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وإنّما الامر الى الجليل

وكلّ حىّ سالك سبيل

فأعادها مرّتين أو ثلثا حتّى فهمتها وعلمت ما أراد فخنقتنى العبرة فرددتها ولزمت السكوت ، وعلمت انّ البلاء قد نزل ، قال الضحّاك بن عبد الله ومرّ بنا

١١

خيل لابن سعد ، يحرسنا وأنّ حسيناعليه‌السلام ليقرأ «ولا تحسبنّ( الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (١) .

٧ ـ قال أبو الفرج : كان عبيد الله بن زياد ـ لعنه الله ـ قد ولى عمر بن سعد الرى فلمّا بلغه الخبر وجه إليه أن سر إلى الحسين أوّلا فاقتله فاذا قتلته رجعت ومضيت الى الرى فقال له : اعفنى أيّها الأمير قال : قد أعفيتك من ذلك ومن الرى ، قال : اتركنى أنظر فى أمرى فتركه ، فلمّا كان من الغد غدا عليه فوجه معه بالجيوش ، لقتال الحسين ، فلمّا قاربه وتوافقوا قام الحسين فى أصحابه خطيبا فقال :

اللهمّ إنّك تعلم انّى لا أعلم أصحابا خيرا من أصحابى ، ولا أهل بيت خيرا من أهل بيتى فجزاكم الله خيرا ، فقد آزرتم وعاونتم والقوم لا يريدون غيرى ولو قتلونى لم يبتغوا غيرى أحدا ، فاذا جنكم اللّيل فتفرّقوا سواده وانجوا بأنفسكم فقام إليه العبّاس بن على أخوه وعلىّ ابنه وبنو عقيل فقالوا له : معاذ الله والشهر الحرام ، فما ذا نقول للنّاس إذا تركنا سيدنا وابن سيدنا وعمادنا وتركناه غرضا للنبل ودريئة للرماح وجزرا للسباع ، وفررنا عنه رغبة فى الحياة معاذ الله بل نحيا بحياتك ونموت معك فبكى وبكوا عليه ، وجزاهم خيرا ثم نزل صلوات الله عليه(٢) .

٨ ـ عنه حدّثنى عبد الله بن زيدان البجلى ، قال حدّثنا محمّد بن زيد التميمى ، قال حدّثنا نصر بن مزاحم ، عن أبى مخنف ، عن الحرث بن كعب ، عن علىّ بن الحسينعليه‌السلام قال : انّى والله لجالس مع أبى فى تلك اللّيلة وأنا عليل وهو يعالج سهاما له وبين يديه جون مولى أبى ذر الغفارى إذ ارتجز الحسينعليه‌السلام :

__________________

(١) روضة الواعظين : ١٥٧.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٧٤.

١٢

يا دهر أف لك من خليل

كم لك فى الاشراق والأصيل

من صاحب وما جد قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وإنّما الأمر الى الجليل

وكلّ حىّ سالك السبيل

قال : وأمّا أنا فسمعته ورددت عبرتى ، وأمّا عمّتى فسمعته دون النساء فلزمتها الرقة والجزع فشقت ثوبها ولطمت وجهها ، وخرجت حاسرة تنادى : وا ثكلاه وا حزناه ، ليت الموت أعدمنى الحياة يا حسيناه يا سيّداه يا بقيّة أهل بيتاه استقلت ويئست من الحياة ، اليوم مات جدّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمّى فاطمة الزهرا وأبى على وأخى الحسن يا بقيّة الماضين وثمال الباقين.

فقال لها الحسين يا اختى ، لو ترك القطا لنام ، قالت : فانّما تغتصب نفسك اغتصابا ، فذاك اطول لحزنى وأشجى لقلبى وخرّت مغشيا عليها فلم يزل يناشدها واحتملها حتّى أدخلها الخباء(١) .

٩ ـ قال اليعقوبى : فروى عن علىّ بن الحسينعليه‌السلام أنّه قال : أنى جالس فى العشية التي قتل أبى الحسين بن على فى صبيحتها وعمّتى زينب تمرّضنى إذ دخل أبى وهو يقول :

يا دهر أف لك من خليل

كم لك فى الاشراق والاصيل

من صاحب وما جد قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وإنمّا الأمر الى الجليل

وكلّ حىّ سالك السبيل

ففهمت ما قال وعرفت ما أراد وخنقتنى عبرتى ورددت ، دمعى وعرفت أنّ البلاء قد نزل بنا فأمّا عمّتى زينب فانّها لما سمعت ما سمعت والنساء من شأنهنّ

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٧٥.

١٣

الرقة والجزع ، فلم تملك أن وثبت تجرّ ثوبها حاسرة وهى تقول وا ثكلاه ليت الموت أعدمنى الحياة اليوم ماتت فاطمة وعلىّ والحسن بن على أخى فنظر إليها فردّد غصّته ، ثمّ قال يا أختى اتقى الله فانّ الموت نازل لا محالة فلطمت وجهها وخرّت مغشيا عليها وصاحب وا ويلاه وا ثكلاه.

فتقدّم إليها فصبّ على وجهها الماء وقال لها يا أختاه تعزّى بعزاء الله فانّ لى ولكلّ مسلم أسوة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال : انّى أقسم عليك فأبرى قسمى لا تشقى علىّ جيبا ولا تخمشى علىّ وجها ولا تدعى علىّ بالويل والثبور ، ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندى وانّى لمريض مدنف وخرج الى أصحابه ، فلمّا كان من الغد خرج فكلم القوم وعظم عليهم حقّه وذكرهم اللهعزوجل ورسوله وسألهم أن يخلوا بينه وبين الرجوع.

فأبوا إلّا قتاله أو أخذه حتّى يأتوا به عبيد الله بن زياد ، فجعل يكلّم القوم بعد القوم والرجل بعد الرجل فيقولون ما ندرى ما تقول ، فأقبل على أصحابه ، فقال : إنّ القوم ليسوا يقصدون غيرى وقد قضيتم ما عليكم ، فانصرفوا فأنتم فى حلّ فقالوا لا والله يا ابن رسول الله حتّى تكون أنفسنا قبل نفسك فجزاهم الخير(١) .

١٠ ـ قال الطبرى : قال أبو مخنف : حدّثنى عبد الله بن عاصم الفائشى ، عن الضحاك بن عبد الله المشرقى بطن من همدان ، أنّ الحسين بن علىعليهما‌السلام جمع أصحابه ، قال أبو مخنف : وحدّثنى أيضا الحارث بن حصيرة ، عن عبد الله بن شريك العامرى ، عن علىّ بن الحسين قالا : جمع الحسين أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد وذلك عند ، قرب المساء ، قال علىّ بن الحسين : فدنوت منه لأسمع وأنا مريض

__________________

(١) تاريخ اليعقوبى : ٢ / ٢٣٠.

١٤

فسمعت أبى وهو يقول لأصحابه.

أثنى على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء وأحمده على السّراء والضرّاء اللهمّ إنّى أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا فى الدين وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة ، ولم تجعلنا من المشركين ، أمّا بعد ، فانّى لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابى ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتى ، فجزاكم الله عنّى جميعا خيرا ألا وانى أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غدا ألا وإنّى قد رأيت لكم فانطلقوا جميعا فى حلّ ، ليس عليكم منّى ذمام هذا ليل قد غشيكم فاتّخذوه جملا(١) .

١١ ـ عنه قال أبو مخنف : حدّثنا عبد الله بن عاصم الفائشى ـ بطن من همدان ـ عن الضحّاك بن عبد الله المشرقى ، قال : قدمت ومالك بن النضر الأرحبى على الحسين فسلّمنا عليه ، ثمّ جلسنا إليه فردّ علينا ورحّب بنا ، وسألنا عما جئنا له فقلنا : جئنا لنسلّم عليك ، وندعوا الله لك بالعافية ونحدث بك عهدا ونخبرك خبر الناس وإنّا نحدّثكم أنّهم قد جمعوا على حربك فرأيك.

فقال الحسينعليه‌السلام : حسبى الله ونعم الوكيل قال : فتذممنا وسلّمنا عليه ودعونا الله له قال : فما يمنعكما من نصرتى ، فقال مالك ابن النضر : علىّ دين ولى عيال ، فقلت له : انّ علىّ دينا وانّ لى لعيالا ، ولكنّك ان جعلتنى فى حلّ من الانصراف ، إذا لم أجد مقاتلا قاتلت عنك ما كان لك نافعا وعنك دافعا.

قال : فأنت فى حلّ ، فأقمت معه فلمّا كان الليل قال : هذا الليل قد غشيكم ، فاتّخذوه جملا ثمّ ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتى تفرّقوا فى سوادكم ومدائنكم حتّى يفرج الله ، فانّ القوم إنّما يطلبونى ولو قد أصابونى لهوا ، عن طلب

__________________

(١) تاريخ الطبرى : ٥ / ٤١٨.

١٥

غيرى ، فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر : لم نفعل لنبقى بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبدا ، بدأهم بهذا القول العبّاس بن على ، ثمّ انّهم تكلّموا بهذا ونحوه.

فقال الحسينعليه‌السلام : يا بنى عقيل حسبكم من القتل بمسلم اذهبوا قد أذنت لكم قالوا : فما يقول الناس! يقولون إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبنى عمومتنا ، خير الأعمام ، ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندرى ما صنعوا! لا والله لا نفعل ، ولكن نفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ، ونقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبح الله العيش بعدك(١) !

١٢ ـ عنه قال أبو مخنف : حدّثنى عبد الله بن عاصم ، عن الضحاك بن عبد الله المشرقى ، قال : فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي ، فقال : أنحن نخلّى عنك ولمّا نعذر الى الله فى أداء حقّك! أما والله حتّى أكسر فى صدورهم رمحى ، وأضربهم بسيفى ، ما ثبت قائمه فى يدى ، ولا أفارقك ، ولو لم يكن معى سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، دونك حتّى أموت معك.

قال : وقال سعيد بن عبد الله الحنفى : والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنا حفظنا غيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك ، والله لو علمت أنى أقتل ثمّ أحيا ثمّ أحرق حيّا ثمّ أذرى ، يفعل ذلك بى سبعين مرّة ما فارقتك ، حتّى ألقى حمامى دونك ، فكيف لا أفعل ذلك! وإنّما هى قتلة واحدة ثمّ هى الكرامة الّتي لا انقضاء لها أبدا.

قال : وقال زهير بن القين : والله لوددت أنى قتلت ثمّ نشرت ثمّ قتلت حتّى أقتل كذا ألف قتلة ، وأنّ الله يدفع بذلك القتل ، عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية

__________________

(١) تاريخ الطبرى : ٥ / ٤١٨

١٦

من أهل بيتك ، قال : وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا فى وجه واحد ، فقالوا : والله لا نفارقك ، ولكنّ أنفسنا لك الفداء ، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا ، فاذا نحن قتلنا كنّا وفّينا ، وقضينا ما علينا(١) .

١٣ ـ عنه قال أبو مخنف : حدّثنى الحارث بن كعب ، عن الضحّاك ، عن علىّ ابن الحسين بن علىّ قال : إنّى جالس فى تلك العشية التي قتل أبى فى صبيحتها ، وعمّتى زينب عندى تمرّضنى ، اذ اعتزل أبى بأصحابه فى خباء له ، وعنده حوىّ ، مولى أبى ذر الغفارى ، وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبى يقول :

يا دهر أفّ لك من خليل

كم لك فى الاشراق والأصيل

من صاحب وماجد قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وإنمّا الأمر الى الجليل

وكلّ حىّ سالك السبيل

قال : فأعادها مرّتين أو ثلاثا حتّى فهمتها ، فعرفت ما أراد ، فخنقتنى عبرتى ، فرددت دمعى ولزمت السكون ، فعلمت أنّ البلاء قد نزل ، فأمّا عمّتى فانّها سمعت ما سمعت ، وهى امرأة ، وفى النساء الرقّة والجزع ، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها ، وإنّها لحاسرة حتّى انتهت إليه ، فقالت : وا ثكلاه! ليت الموت أعدمنى الحياة! اليوم ماتت فاطمة أمّى وعلىّ أبى ، وحسن أخى ، يا خليفة الماضى ، وثمال الباقى ، قال : فنظر إليها الحسينعليه‌السلام فقال :

يا أخيّة ، اتّقى الله وتعزّى بعزاء الله ، واعلمى أنّ أهل الأرض يموتون ، وأنّ أهل السماء لا يبقون ، وأنّ كلّ شيء هالك إلّا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته ، ويبعث الخلق فيعودون ، وهو فرد وحده ، أبى خير منّى ، وأمّى خير منّى ، وأخى

__________________

(١) تاريخ الطبرى : ٥ / ٤١٩.

١٧

خير منّى ، ولى لهم ولكلّ مسلم برسول الله أسوة ، قال : فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها :

يا أخيّة ، إنّى أقسم عليك فأبرّى قسمى ، لا تشقّى علىّ ، جيبا ، ولا تخمشى علىّ وجها ، ولا تدعى علىّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت ، قال : ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندى ، وخرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرّبوا بعض بيوتهم من بعض ، وأن يدخلوا الأطناب بعضها فى بعض ، وأن يكونوا هم بين البيوت إلّا الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم(١) .

١٤ ـ عنه قال أبو مخنف : عن عبد الله بن عاصم ، عن الضحّاك بن عبد الله المشرقى ، قال : فلمّا أمسى حسين وأصحابه قاموا اللّيل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون قال : فتمرّ بنا خيل لهم تحرسنا ، وإنّ حسينا ليقرأ :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا ، فقال : نحن وربّ الكعبة الطيّبون ، ميّزنا منكم.

قال : فعرفته فقلت لبرير بن خضير : تدرى من هذا؟ قال : لا : قلت هذا أبو حرب السبيعى عبد الله بن شهر ـ وكان مضحاكا بطالا ، وكان شريفا شجاعا فاتكا ، وكان سعيد بن قيس ربما حبسه فى جناية ـ فقال له برير بن خضير : يا فاسق ، أنت يجعلك الله فى الطيّبين! فقال له : من أنت؟ قال : أنا برير بن خضير ، قال : إنّا لله! عزّ علىّ! هلكت والله هلكت والله يا برير!

قال : يا أبا حرب ، هل لك أن تتوب إلى الله من ذنوبك العظام! فو الله إنّا لنحن الطيّبون ، ولكنّكم لأنتم الخبيثون ، قال : وأنا على ذلك من الشاهدين ، قلت :

__________________

(١) تاريخ الطبرى : ٥ / ٤٢٠.

١٨

ويحك! أفلا ينفعك معرفتك! قال : جعلت فداك! فمن ينادم يزيد بن عذرة العنزى من عنز بن وائل! قال : ها هو ذا معى ، قال : قبح الله رأيك على كلّ حال! أنت سفيه ، ثمّ انصرف عنّا(١) .

١٥ ـ قال عبد الرزاق المقرم : وفى هذا الحال قيل لمحمّد بن بشير الحضرمى ، قد أسرا ابنك بثغر الرى فقال : ما أحبّ أن يؤسر وأنا أبقى بعده حيّا فقال له الحسين : أنت فى حلّ من بيعتى ، فاعمل فى فكاك ولدك ، قال : لا والله لا أفعل ذلك أكلتنى السباع حيّا إن فارقتك ، فقالعليه‌السلام : إذا اعط ابنك هذه الأثواب الخمسة ليعمل فى فكاك أخيه وكان قيمتها ألف دينار.

ولما عرف الحسين منهم صدق النية والاخلاص فى المفاداة دونة أوقفهم على غامض القضاء فقال : إنّى غدا اقتل وكلّكم تقتلون معى ولا يبقى منكم أحد حتّى القاسم وعبد الله الرضيع إلّا ولدى على زين العابدين لأنّ الله لم يقطع نسلى منه ، وهو أبو أئمة ثمانية.

فقالوا بأجمعهم الحمد لله الّذي أكرمنا بنصرك وشرفنا بالقتل معك أو لا ترضى أن نكون معك فى درجتك يا ابن رسول الله ، فدعا لهم بالخير وكشف عن أبصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنان ، وعرفهم منازلهم فيها وليس ذلك فى القدرة الإلهية بعزيز ، ولا فى تصرّفات الامام بغريب ، فان سحرة فرعون لما آمنوا بموسىعليه‌السلام وأراد فرعون قتلهم أراهم النبيّ موسى منازلهم فى الجنّة.

فى حديث أبى جعفر الباقرعليه‌السلام قال لأصحابه : أبشروا بالجنّة فو الله إنّا نمكث ما شاء الله بعد ما يجرى علينا ثمّ يخرجنا الله وإيّاكم حتّى يظهر قائمنا فينتقم من

__________________

(١) تاريخ الطبرى : ٥ / ٤٢١.

١٩

الظالمين ، وأنا وأنتم نشاهدهم فى السلاسل والأغلال وأنواع العذاب فقيل له من قائمكم يا ابن رسول الله قال : السابع من ولد ابنى محمّد بن على الباقر وهو الحجّة بن الحسن بن على بن محمّد بن على بن موسى بن جعفر بن محمّد بن على ابنى وهو الّذي يغيب مدّة طويلة ثمّ يظهر ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا(١) .

١٦ ـ عنه خرجعليه‌السلام فى جوف اللّيل إلى خارج الخيام ، يتفقّد التلاع والعقبات فتبعه نافع بن هلال البجلى ، فسأله الحسين عمّا أخرجه ، قال : يا ابن رسول الله أفزعنى خروجك الى جهة معسكر هذا الطاغى ، فقال الحسين : انّى خرجت أتفقد التلاع والروابى ، مخافة أن تكون مكمنا لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون ثمّ رجععليه‌السلام وهو قابض على يد نافع ويقول : هى هى والله وعدا لا خلف فيه.

ثمّ قال له : ألا تسلك بين هذين الجبلين فى جوف اللّيل ، وتنجو بنفسك فوقع نافع على قدميه يقبلهما ويقول : ثكلتنى امى إن سيفى بألف وفرسى مثله ، فو الله الذي منّ بك علىّ لا فارقتك حتّى يكلأ عن فرى وجرى ، ثمّ دخل الحسين خيمة زينب ووقف نافع بازاء الخيمة ينتظره فسمع زينب تقول له : هل استعلمت من أصحابك نياتهم ، فانى أخشى أن يسلّموك عند الوثبة ، فقال لها : والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلّا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دونى استيناس الطفل الى محالب امّه.

قال نافع : فلمّا سمعت هذا منه بكيت وأتيت حبيب بن مظاهر وحكيت ما سمعت منه ، ومن اخته زينب.

قال حبيب : والله لو لا انتظار أمره لعاجلت بسيفى هذه اللّيلة ، قلت : إنّى

__________________

(١) مقتل الحسين : ٢٣٥.

٢٠

ولم يكتفِ العرب بهذه الأصنام الكبرى، بل ربما كان بعضهم، أو أكثرهم يتخذ له صنماً في بيته يطوف به عند خروجه، وساعة أوبته، وربما صحبه معه في سفره.

وكانوا يعتبرونها الوسيط بينهم وبين الله، ويعبدونها لتقرّبهم من الله زلفى، فهم يذكرون الله على ألسنتهم، ويسمون عبد الله وتيم الله، إلاّ أنّهم نسوا عبادة الله، واقتصروا على عبادة هذه الأصنام.

* * *

ولقد تسرّب إلى الجزيرة العربية ديانات أخرى اصطدمت مع ديانتهم، تسربت إليها اليهودية، وكونت لها مستعمرات في شبه الجزيرة أهمّها يثرب، ونشط اليهود لبثّ دعوتهم، وعملوا على نشرها في الجنوب، وتهوّد كثير من أهل اليمن.

وتسرّبت إليها النصرانية، ولم يكن طريقها من الشمال فقط، فإنّ النصرانية امتدّت إلى الحبشة، ثمّ عبرت البحر الأحمر إلى اليمن، ثمّ استقرّت في نجران، وكذلك تسرّبت من الشام إلى الحيرة، وامتدّت على شاطئي دجلة والفرات.

* * *

النصرانية الحقيقية التي جاء بها عيسى ( ع )، ديانة روحيّة مقدّسة، لم تكن لتختلف بجوهرها عن الديانة اليهودية التي جاء بها موسى ( ع )، وكذلك لا تختلف عن الإسلام بقدر ما يتراءى اليوم من الذين يدينون بالأديان الثلاثة.

٢١

وهي دين سامي متقشّف دعا إلى الزهد، والمسالمة (اترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله) (ومن ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر) ولم يكن فيها أي جدل في طبيعة السيّد المسيح، ولكنّها اصطدمت بمدرسة الإسكندرية - وكانت ملتقى ثقافات، ومجمعاً من مجامع العلم، والحركة الفكريّة - والتقى الفكر السامي القائل بطبيعة واحدة بالفكر الروماني الوثني، ولم تخرج المسيحيّة بريئة من هذا المجتمع، وإنّما تلقّحت بالتثليث، وبهذا تزحلقت النصرانية عن سموّها الروحي، وهوت من علياء مراتب الإيمان الكامل إلى الجدل في المسيح وأمه عليهما السلام، وعبادة الصور مما قربها إلى الوثنية.

ولم تكن النصرانية من قبل تعرف الصور، ولكن المؤتمرات التي كانت تعقد تباعاً، وتقرر بشأن طبيعة المسيح ( ع ) هي التي كانت تقرر إدخال الصور، وبعض المؤتمرات كان ينفيها، والذي يلوح إنّه كان للأهواء الشخصية أثر كبير في ذلك.

وقد انشقّت النصرانية على نفسها إلى فرق عديدة، فرقة يرون أنّ المسيح هو الله، وأنّ الله والإنسان اتحدا في طبيعة واحدة هي المسيح. وأخرى قالت إنّ للمسيح طبيعتين متميزتين، الطبيعة اللاهوتية، والطبيعة الناسوتية. إلى غير ذلك من الفرق، وقد أشار القرآن المجيد وردّ عليها فقال:( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ إنّه مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجنّة وَمَأْوَاهُ النّارُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مَنْ أَنْصَارٍ ) ،( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إله إلاّ إله وَاحِدٌ ) ،( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ

٢٢

مَرْيَمَ وَأُمّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) . والمسيح نفسه نفى ما ينسب إليه من ادعاء الإلوهية، كما نصّ على ذلك الكتاب المجيد( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيـسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمّيَ إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أعلم مَا فِي نَفْسِكَ إِنّكَ أَنْتَ علاّمُ الْغُيُوبِ ) .

(ويلوح أنّ فكرة التثليث لم تكن قبل القرن الثالث للميلاد، وإنّ أول من نشر فكرة التثليث هو راهب مصري اسمه انتاسيوس، كان البابا العشرين لكنيسة الإسكندرية من سنة 326 - 373)(1) .

والذي يظهر أنّ الذي عبر إلى الجزيرة العربية من هذه العقائد عقيدتان: العقيدة النسطورية، والعقيدة اليعقوبيّة، وانتشرت النسطورية في الحيرة، واليعقوبية عند الغسانيين وسائر بلاد الشام، ويظنّ بعضهم أنّ نجران كانت على مذهب اليعاقبة.

وقد انتشرت التعاليم المسيحيّة بين العرب، ووجد فيهم مَنْ يميل إلى الرهبنة، وبناء الأديرة، واشتهر منهم قس بن ساعدة، وذكروا إنّه (كان يتقفّز القفار، ولا تكنّه دار، يحتسي الطعام، ويأنس بالوحش والهوام)

وذكروا أنّ قسّاً هذا كان أسقف نجران، وكذلك اشتهر منهم أميّة بن السلط، وورقة بن نوفل.

وقد نشط القسس والرهبان للتبشير بالدين المسيحي، وكانوا يردون أسواق العرب لهذه الغاية.

____________________

(1) راجع تاريخ الكنيسة المصرية، هلال شهر ديسمبر 1927.

٢٣

وكان أهمّ موطن للنصرانية في الجزيرة العربية نجران - وهي من مخاليف اليمن من ناحية مكّة - وكانت بلدة زراعيّة خصبة (عامرة بالسكّان تصنع الأنسجة الحريرية، وتتاجر في الجلود، وفي صنع الأسلحة، وكانت إحدى المدن التي تصنع الحلل اليمانية التي تغنّى فيها الشعراء، وكانت قريبة من الطريق التجاري الذي يمتدّ إلى الحيرة). وتغنّى بنجران وبكعبتها الشعراء يقول الأعشى:

وكعبة نجران حتم عليـ

ك حتّى تناخى بأبوابها

نزور يزيداً وعبد المسيح

وفيساهم خير أربابها

وشاهدنا الجل والياسمو

ن والمسمعات بقصابها

وبربطنا دائم معمل

فأيّ الثلاثة أزرى بها

وذكروا إنّه أهلها كانوا قبل النصرانية (على دين العرب يعبدون نخلة عظيمة بين أظهرهم، ولها في كلّ سنة عيد، فإذا كان ذلك العيد علّقوا عليها كلّ ثوب حسن وجدوه، وحليّ النساء)، وقد ذكروا أسباباً لاعتناق أهلها دين النصرانية، ولكن في كلها مجال للشك، ولا يهمنا تحقيق ذلك.

ومهما يكن من أمر فإنّ نجران تنصّرت، وصارت مركزاً مهماً للنصرانيّة، وبنوا فيها كعبة على غرار الكعبة في مكّة قال ياقوت:

(وكعبة نجران هذه - يقال - بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي على بناء الكعبة، وعظّموها مضاهاة للكعبة، وسموها كعبة نجران، وكان فيها أساقفة معتمّون، وهم الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعاهم إلى المباهلة)(1)

____________________

(1) معجم البلدان ج 8، ص 264.

٢٤

وقد غزا ذو نواس نجران بجنوده، ودعاهم إلى اليهوديّة فأبوا عليه، وذكروا في سبب ذلك(أنّ يهوديّاً كان بنجران عدا أهلها على ابنين له فقتلوهما ظلماً، فرفع أمره إلى ذي نواس، وتوسل إليه باليهودية، واستنصره على أهل نجران - وهم نصارى - فحمى له ولدينه وغزاهم)، وقتل جماعة بالسيف، وجماعة خدّد لهم أخدوداً من نار، وألقاهم فيه، وبعضهم يرى إنّه نزل في تلك الواقعة قوله تعالى( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ* النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَى‏ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ* وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) وللشك في ذلك مجال واسع. وقد استنجد نصارى نجران بالحبشة؛ فانجدوهم، وغزوا بلاد العرب، وهزموا ذا نواس، واستمرّت النصرانيّة في نجران تحميها الحبشة من الجنوب والروم من الشمال.

وكان يتولى كعبة نجران - وإن شئت فقل نجران وتوابعها - ثلاثة: السيّد - واسمه وهب - ويظهر أنّه كان يدير الأمور الخارجية، ويتولى أمور العلاقات بينهم وبين القبائل من غيرهم، وهو ما نسميه اليوم وزير الخارجية، وكان أيضاً رئيسهم في الحرب، وهو ما نسميه وزير الحربية، أو وزير الدفاع. والعاقب - واسمه عبد المسيح - وكان يتولّى الأمور الداخليّة، وهو ما نسميه اليوم وزير الداخلية، والأسقف - وهو أبو حارثة - وكان يتولى الأمور الدينية. ولكن المهمات كانت يشتور الثلاثة فيها. قال ياقوت:

(ووفد على رسول الله ( ص ) وفد نجران، وفيهم السيّد - واسمه وهب - والعاقب - واسمه عبد المسيح - والأسقف - وهو أبو حاتم - وأراد رسول الله ( ص ) مباهلتهم فامتنعوا، وصالحوا النبي ( ص )؛ فكتب لهم كتاباً فلمّا وليّ أبو بكر نفذ ذلك لهم، فلمّا وليّ عمر أجلاهم واشترى أموالهم).

٢٥

وفد نجران

في لحظة قصيرة من الزمن خفق علم الإسلام في الجزيرة العربية، وانطلقت الألسن في البيوت، وفي المساجد، وعلى المآذن، تشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً رسول الله، في كلّ يوم خمس مرات.

وفي لحظة قصيرة جدّاً رأيت القلوب تهتزّ طرباً عندما تنطق الشفاه بهذا الاسم المبارك الأغر.

فإن قرابة عشرين سنة يستظهر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وثنية العرب دين آبائهم وأجدادهم هي لحظة من الزمن قصيرة جداً، وما عشرون عاماً إذا قسناها إلى الجهود الجبّارة، والفتح العظيم، والانتصار الباهر على الوثنية.

لم يكن من حجّة لدين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمن طويل ليظهر فيه على الأديان كلها، فإنّه دين تسكن إليه النفوس مؤمنة بدوام ظله وشمول عدله.

ولم يكن من حاجة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمن طويل ليستظهر على الوثنيّة الرعناء، وعلى النصرانية المتزحلقة، وعلى اليهوديّة المتكالبة؛ لأنها دعوة ليس فيها ما ينفيه العقل.

٢٦

وهل محمّد إلاّ رسول الله، أرسله رحمة للعالمين؟

وهل محمّد إلاّ بشير ونذير؟

وأي نفس سامية تتردد في ترك عبادة الأوثان، لعبادة الله الواحد الأحد؟.. وأي نفس سامية مفتوحة للحق ولا تتسع لتعاليم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؟.. أليس يدعو الناس إلى الحب والمودة والإخاء في الله، وإلى التراحم والبر والإحسان، وإعطاء السائل والمحروم، والبر باليتيم؟ ويدعوهم فيما يدعوهم إلى فكّ العقل من قيوده، وإلى الحريّة المطلقة، ويدعوهم إلى ترك الرذيلة، وإلى التمسّك بأهداب الفضيلة، ويدعوهم إلى توحيد الله الذي خلق كلّ شيء، وبيده ملكوت كلّ شيء، يدعوهم إلى تحطيم كلّ ما بينهم وبين الله سبحانه، من أغلال لا هبل ولا اللات ولا العزّى؛ فإنها كلّها لا تغني عن الله شيئاً.

* * *

لقد أعدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلّ العدد، وهيّأ الله له الأسباب، وجاء نصر الله والفتح، وفتح رسول الله ( ص ) مكّة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأقام الرسول( ص ) في المدينة، ومعه المسلمون مستريحين إلى نصر الله، وقد كلل جهادهم بالفوز والظفر، واستتبّ الأمر لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، استتباباً جعل العرب الذين لم يؤمنوا بالله ورسوله ( ص ) يخافون سطوة الإسلام فتوافدوا على رسول الله ( ص )؛ ليدخلوا في دين الله.

ولكنّ هذا كلّه لم يكن تمهيداً كافياً للانتقال العظيم الذي أعدّ له الإسلام، ولنشر الدعوة في المملكتين العظيمتين فارس والروم، فإن رسالة الإسلام عامّة

٢٧

لم تكن لبلاد دون أخرى، أو لقوم دون آخرين، والنصر وإن كان بيد الله، يؤتيه من يشاء من عباده، لكن لا يؤتيه إلاّ لمن أعدّ له كلّ عدده.

والدعوة الإسلامية قد بلغت يومئذ من النضوج في النفوس ما يجعل الإسلام دين الكافة من الناس، والدعوة في ذلك العهد تعدت عن دور التوحيد، والوعد والوعيد، إلى النواحي الاجتماعية والأخلاقية والسياسية.

وقد آن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهيّئ المسلمين للانتقال العظيم إلى خارج الجزيرة، إلى الشمال وإلى الجنوب.. وآن له أن يبعث في نفوسهم روح النشاط لفتح المملكتين فارس والروم. وآن للمسلمين أن يفهموا أنّ هذا العلم المبارك الذي يرفرف فوق شبه جزيرة العرب يجب أن يخرج إلى خارجها؛ ليرف أيضاً فوق عروش القياصرة والأكاسرة، ثمّ ليطوف حول حوض البحر الأبيض، ثمّ ينتهي به المطاف إلى ما وراء البحار..

ولم يكن في الدعوة الإسلامية ما يخشى معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إليه، فإنّه دين الحرية والمساواة، والبر والرحمة وفكّ العقل من القيود والأغلال، تتقبله النفوس مرتاحة إليه.. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليتردد يوماً في دعوة الملوك إلى الإسلام، ولكنّه أراد أن يهيّئ أصحابه للنهوض، فخرج عليهم يوماً فقال:

« أيها الناس: إنّ الله بعثني رحمة وكافة، فلا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريّون على عيسى بن مريم.»

- وكيف اختلف الحواريّون يا رسول الله

- « دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثاً قريبا قرّ وسلّم،

٢٨

وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل.»

ثمّ ذكر لهم إنّه مرسل إلى هرقل وكسرى والمقوقس والحارث الغساني ملك الحيرة، والحارث الحميري ملك اليمن، وإلى نجاشي الحبشة.

وذكروا إنّه لما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكّة، وانقادت له العرب، أرسل رسله ودعاته إلى الأمم، وكاتب الملكين كسرى وقيصر يدعوهما إلى الإسلام، أو الإقرار بالجزية، أو الإذن بالحرب، أكبر شأنه أهل نجران، وخلطاؤهم من بني عبد المدان، وجميع بني الحرث بن كعب، ومن انضوى إليهم، ونزل بهم من دهماء الناس على اختلافهم هناك في المذاهب النصرانية، من الاروسية والسالوسية والمارونية والنسطورية، وقد امتلأت قلوبهم - على تفاوت منازلهم - رهبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورعباً، وإنّهم كذلك إذ وردت عليهم رسل رسول الله ( ص ) وهم: عتبة بن غزوان، وعبد الله بن أبي أمية، والهديل بن عبد الله أخو تيم بن مرّة، وصهيب بن سنان، يدعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا فإخوان في الله، وإن أبوا فإلى خطة الخسف، الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وأن أبوا فآذنوهم على سواء، وكان في كتابه صلى الله عليه وآله وسلم لهم:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) .

ذعر الأساقفة ذعراً شديداً، وهزّ الكتابٌ نجرانَ هزّاً عنيفاً؛ فعقدوا مؤتمراً عاماً في كعبتهم اجتمع فيه رؤساء نجران، وأهل الرأي من الأقيال

٢٩

واجتمع من القبائل من عك وحمير وانمار، ومن دنا منهم سبباً ونسباً، فكان مؤتمراً عامّاً اشتوروا فيه، وأفاضوا في الرأي والجدل العنيف، في حديث مفصّل يجده القارئ في خاتمة هذا الكتاب(1) .

ويلوح لنا أنّ المشادّة كانت عنيفة بينهم، فيما يجب أن يتخذوه من حيطة؛ ليأمنوا غزو الإسلام، وليحتفظوا بكعبتهم (لأنّهم أصابوا بموضعهم من دينهم شرفاً، ووجهاً عند ملوك النصرانية جميعاً.)

ويلوح أيضاً أنّه كان في هؤلاء الأساقفة من هو مؤمن برسالة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، مصدّق بدعوته.

وذكروا إنّه اجتمع عامة الناس على السيّد والعاقب، يسألونهما - بعد هذا الجدال العنيف - عن رأيهما، وما يعملان في دينهم فقاولا لهم: (تمسكوا بدينكم حتّى يكشف لنا دين محمّد، وسنسير إلى يثرب، وننظر ما جاء به، وفيما يدعو إليه).

قالوا: (وتجّهز السيّد والعاقب والأسقف، ومعهم أربعة عشر راكباً من نصارى نجران، وسبعون رجلاً من أشراف بني الحرث بن كعب وساداتهم - وفيهم قيس بن الحصين ويزيد بن عبد المدان - فاغترز(2) القوم ظهور

_________________________

(1) أهمل المؤرخون هذا المؤتمر، كما أهملوا كثيراً من الحقائق الأخرى، ومرواً بيوم المباهلة، وبالمؤتمر مروراً عابراً، ونحن وضعنا هذه الرسالة؛ لنقدم للقرّاء هذا المؤتمر المنعقد في نجران، بما فيه من حوار، وإشادة بفضل آل رسول الله وصدق رسالة محمّد صل الله عليه وإله وسلم .

(2) غرز الرجل رجله في الغروز - الركاب - وضعها فيه.

٣٠

خيولهم وأقبلوا لوجوههم إلى المدينة).

وقالوا: (ولما استراث(1) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر أصحابه، أنفذ إليهم خالد بن الوليد، في خيل سرّحها معه لمشارفة أمرهم فالفوهم وهم عائدون)

وقالوا أيضاً: (ولما دنوا من المدينة أحب السيّد والعاقب أن يباهيا المسلمين، وأهل المدينة بأصحابهما، وبمن خف من بني الحرث معهما، فاعترضاهم وقالا لو كففتم صدور ركابكم، ومسستم الأرض، فألقيتم عنكم تفثكم(2) وثياب سفركم، وشننتم(3) عليكم من باقي مياهكم كان ذلك أمثل، فانحدر القوم عن الركاب، فأماطوا من شعثهم(4) ، وألقوا عنهم ثياب بذلتهم(5) ولبسوا ثياب صونهم(6) من الأتحميات(7) والحرير والحبر، وذرّوا المسك في لممهم(8) ومفاوقهم ثمّ ركبوا الخيل واعترضوا الرماح على مسابح(9) خيلهم، وأقبلوا يسيرون زردقا(10) واحداً، وكانوا من أجمل العرب صوراً، وأصحّهم أجساماً وخلقاً،

____________________

(1) استراث الخبر استبطأه.

(2) أي أزلتم الوسخ عنكم.

(3) شن الماء عليه أي صبّه.

(4) الشعث ككتف المغبر الرأس، وأماط كشف، أي أزالوا الغبرة التي لحقتهم من السفر.

(5) البذلة من الثياب ما يستعمل كلّ يوم.

(6) الثياب التي تحفظ قيمتهم، وتلفت أنظار الناس إليهم.

(7) أتحم الحائك الثوب وشاه.

(8) الشعر المجاوز شحمة الأذن فهو لمة، فإذا بلغ المنكبين فهو جمة.

(9) المسبح منتهى معرفة الفرس، وقيل هو منتهى منبت العرف تحت القربوس، أي وضعوا الرماح على فرابيس الخيل عرضاً؛ استهانة - بالمسلمين وعدم المبالاة على حد قول الشاعر:

جاء شقيق عارضاً رمحه

إنّ بني عمك فيهم رماح

والذي يتهيب الأمر لابد أن يكون على استعداد فيحمل رمحه متهيئاً للطوارئ.

(10) أي صفحاً واحداً.

٣١

فلمّا تشوفهم الناس أقبلوا نحوهم، فقالوا (ما رأينا وفداً أجمل من هؤلاء)، وكان المحارث بن كعب يقول (ما رأينا وفداً مثلهم).

(وأقبل القوم حتّى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده، وحانت صلاتهم فضربوا ناقوسهم في المسجد، وقاموا يصلّون إلى المشرق فأراد الناس أن ينهوهم عن ذلك، فكفّهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ أمهلهم وأمهلوه ثلاثاً، فلم يدعُهم ولم يسألوه، لينظروا إلى هديه ويعتبروا ما يشاهدون منه مما يجدون من صفته، فلمّا كان بعد ثلاث دعاهم إلى الإسلام فقالوا:

(يا أبا القاسم ما أخبرتنا كتب الله عزّ وجلّ بشيء من صفة النبي المبعوث من بعد الروح عيسى عليه السلام إلاّ وقد تعرّفناه فيك، إلاّ خلّة هي أعظم الخلال آية ومنزلة، وأجلاها أمارة ودلالة)!!..

- رسول الله ( ص ) « وما هي؟. »

- (إنّا نجد في الإنجيل من صفة النبي.. من بعد المسيح إنّه يصدّق به ويؤمن به، وأنت تسبّه وتكذب وتزعم إنّه عبد)!!..

- « بل أصدّقه وأصدّق به وأؤمن به، وأشهد أنّه النبي المرسل من

٣٢

ربه عزّ وجلّ وأقول: إنّه عبد لا يملك نفعاً ولا ضرّاً، ولا موتاً، ولا حياة ولا نشورا. »

- وهل تستطيع العبيد أن تفعل ما كان يفعل، وهل جاءت الأنبياء بما جاء به من القدرة القاهرة؟!. ألم يكن يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وينبئهم بما كانوا يكنّون في صدورهم، وما يدّخرونه في بيوتهم؟ فهل يستطيع هذا الأمر إلاّ الله عزّ وجلّ أو ابن الله؟!.

- « قد كان عيسى أخي كما قلتم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخبر قومه بما في نفوسهم، وبما يدّخرون في بيوتهم، وكلّ ذلك بأذن الله عزّ وجلّ، وهو عبد الله.. غير مستنكف، فقد كان لحماً ودماً وشعراً وعظماً وعصباً وأمشاجاً، يأكل الطعام ويظمأ وينصب، والله باريه وربّه الأحد الحقّ، الذي ليس كمثله شيء وليس له ندٌّ»

-: فأرنا مثله جاء من غير فحل ولا أب.

-: « هذا آدم عليه السلام أعجب منه خلقاً من غير أب ولا أم، وليس شيء من الخلق بأهون على الله عزّ وجلّ في قدرته من شيء، ولا أصعب وإنّما أمره إن أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون( إِنّ مَثَلَ عِيسَى‏ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )

فقالوا: (فما نزداد منك في أمر صاحبنا إلاّ تبيّناً، وهذا الأمر الذي لا نقرّه لك فهلم فلنلاعنك(1) أينا أولى بالحق، ونجعل لعنة على الكاذبين

____________________

(1) يلوح من هذه الرواية أنّ وفد نجران طلب الملاعنه، ويخالفها روايات شتّى، ويظهر منها أنّ الذي طلب المباهلة هو رسول الله(صلّى الله عليه وإله)، وهذا الذي يظهر من القرآن المجيد.

٣٣

فإنها مثلة وآية معجلة)

(فغشيه الوحي، ونزل عليه قوله تعالى:( فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )

وتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نزل في ذلك عليه من القرآن وقال:

« إنّ الله أمرني أن أصير إلى ملتمسكم، وأمرني بمباهلتكم إن أقمتم وأصررتم على قولكم. »

- ذلك آية ما بيننا وبينك، وإذا كان الغد باهلناك. ثمّ انصرفوا إلى أماكنهم)

* * *

تذوق الرجال العارفون من الوفد حلاوة ما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من آي القرآن الحكيم، وأدركوا صدق الحديث، وأدركوا شدّة الخطر الذي يحوطهم فيما إذا باهلوا، ولقد توفرت لدى بعضهم الأمارات الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصحة رسالته، وإن كان الجهل والتعصب كانا يسيطران على بعض ذوي الشأن منهم، فكان يعتز بالحول والطول!..

ويظهر لنا أنّ بعضهم غلبت عليه شهواته في حب الرياسة، والجاه العريض

٣٤

الذي نالوه من ملوك النصرانية، وهذا النعيم الترف الباذخ (أمّا رأيت ما فعل بنا هؤلاء القوم؟. أكرمونا، ومولوّنا، ونصبوا لنا كنايسنا، وأعلوا فيها ذكرنا، فكيف تطيب نفوسنا بدين يستوي فيه الشريف والوضيع؟)

ومن اليسير أن نعرف أن هذه الارستقراطية هي التي عصبت عيونهم عن الالتجاء إلى الواقع المحسوس، وتغلبت على عقولهم، والانتقال من ارستقراطية إلى ديمقراطية تتصل بالروح والعقل، لا تقوى عليها النفوس المشغوفة بالملكية والثراء وحب الرياسة.

وعلى الغالب إنّ فكرة القوّة، وفكرة الثراء وحب الجاه، شعور مردّه في بعض الأحيان إلى الغيرة النفسية التي تحصل عادة من المفضول على فاضله المتغلب عليه بالبرهان القطعي، والدليل الواضح، وقد برز الآن واضحاً في نفوس النجرانيين، بيد إنّه مهما كان لهذه العناصر من مظاهر الجدّ في النفوس، وأرادت أن تظهر بالمظهر الحازم في الساعة الحاسمة، فإنها لا تلبث أن تنهزم مخذولة من قوّة الحقّ. وبحسبنا أن نطالع صورة ثانية يرسمها النجرانيون حينما انصرفوا إلى منزلهم من الحرى، وخلا بعضهم إلى بعض، وقد اعتصرت يد الأسى تلك القلوب المشغوفة بذلك البذخ، وتلك الأموال التي تغدقها عليهم النصرانية من الشمال، ومن الجنوب. وهذا رجل من العارفين يرشد قومه إلى الحقيقة فيقول لهم: (قد جاءكم محمّد بالفصل من أمره وأمركم فانظرا أولاً بمن يباهلكم، أبكافة أتباعه أم بأهل المكانة من أصحابه. أم بذوي التخشّع.. والصفوة ديناً وهم القليل منهم عدداً؟! فإن جاءكم بالكثرة، وذوي الشدّة، فإنما جاءكم مباهياً كما يصنع الملوك فالفلج إذاً لكم دونه. وإن جاءكم بنفر قليل ذوي تخشع فهؤلاء

٣٥

سجية الأنبياء وصفوتهم، وموضع بهلتهم. فإياكم والإقدام إذا على مباهلتهم. فهذه لكم إمارة فانظروا حينئذ ما تصنعون بينكم وبينهم)!!

هذا قسط من الرأي الصائب، والنصيحة الرشيدة، وهو كافٍ للقارئ أن يفهم منه أنّهم على علم سابق من سيرة الرسل، وأوليائهم الذين طبعوا على غرارهم، وجليّ بعد هذا أنّ أهل التخشّع هم الصفوة من أتباع الرسل والأنبياء، وموضع ثقتهم وبهلتهم.

وهذه كلمات تلقي ضوءاً على جانب كبير من الحقّ، وهي في مجموعها صورة صادقة للحقيقة رسمتها كلمات الله في كتبه المنزّلة على أنبيائه ورسله، وهي نصيحة على كلّ حال. ونصيحة موفقة في كثير من نواحيها.

وجدير بمن كان يصطفيهم الأنبياء، أن يكونوا القدوة لكلّ جيل من الأجيال، يجب على المؤمنين الاقتداء بهم، والاسترشاد برشدهم، وحقيق بالمؤمنين اتّباعهم في الطريق التي يسيرون عليها؛ لأنّهم لا يدلّون إلاّ على خير، ولا يشردون إلاّ إلى حقٍّ، كما ورد في الحديث عن عمّار بن ياسر «.. يا عمّار إن سلك الناس كلهم وادياً، وسلك عليٌّ وادياً، فاسلك وادي علي، وخلّ عن الناس. إنّ علياً لا يردك عن هدى، ولا يدلك على ردى. يا عمّار طاعة عليٍّ طاعتي، وطاعتي طاعة الله. »

* * *

وأصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، أو بتعير أوسع المسلمون، وإن بلغوا مئات الألوف في عهد صاحب الرسالة ( ص ) ولم يكن طريقهم إلى الدين طريقاً واحداً، ولم يكن هدفهم واحداً، ولم يصل الدين إلى أعماق قلوبهم

٣٦

بنسبة واحدة، والذين امتازوا بهديهم، وأخلاقهم، وكمالهم النفسي، كانوا أفراداً قلائل، أولئك هم النخبة الممتازة، ومن بين هذه النخبة الممتازة أفراد هم صفوة الصفوة، ولباب اللباب، هم (أهل بهلة الأنبياء)، وموضع عناية الله سبحانه، وهداة الخلق إلى الحقّ، لا يقاس بهم أحد، ولا يساويهم في المنزلة عند الله أحد، وهم (سجية الأنبياء، وصفوتهم)، الذين اصطفوهم من بين المؤمنين، ولو سئل الله بهم أجاب سؤال السائلين.

وما كادت تطالع أساقفة نجران وجوه أهل بهلة الأنبياء حتّى ارتدوا على أعقابهم، ترتعد فرائصهم، فإنّهم بعد لم يثوبوا إلى رشدهم من الدهشة التي أخذتهم حينما شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى طالعتهم هذه الوجوه المشعّة بالنور الربّاني في الساعة الحاسمة، فاحتوتهم الدهشة ثانية، وطاشت عقولهم، فقد رأوا وجوهاً لو سئل الله أن يزيل بها جبلاً لأزاله.

ودنت اللحظة الفاصلة التي كادت أن تفصل بين عهدين، وتحسم بين مبدأين إلى النهاية التي لا تتصل بحدّ من الزمن، وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقول الفصل من أمره وأمرهم، ولا بقاء على الدوام إلاّ للإصلاح.

ولا شكّ بأنّ المسيحيّة لم يبق لها شكلها الروحي، والعالم يحتاج المصلح الذي يطهّر العقيدة من دنس الرذائل التي عمت أطراف العالم.

وأسقف نجران أبى وامتنع عن أن يباهل، فإنّه تلمّس الحقيقة في الوجوه التي خرجت لتباهله، وليس في نجران، ولا في غيرها من يدفع لعنة الله الحاطمة، والعذاب النازل فيما لو سأل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ربّه أن يجعل لعنته على الكاذبين، ورفعت تلك الأيدي للتأمين على دعاء نبيه، وعرفوا إنّه لن يخطئهم السهم المراش فيما إذا باهلوه، وإنهم في نقطة التحوّل، والعقل لا يتصور

٣٧

في البراهين أقوى من برهان الوجدان والعيان، وهذه سحب البلاء تتدافع في الفضاء.

وعرفوا أيضاً أنّ النصرانيّة قد بلغت حدّها المحدود برسالة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وانتهى أجلها الذي أجّلت له، وانطوى بين تلافيف الزمن كما طويت شرائع من قبل، وليلحق آخرها بأولها، وحاضرها بماضيها.

واستيقن الأسقف أنّ يومهم هذا لم يعد موصولاً بماضيه، وإنّما هي شريعة جديدة وُعِدوا بها على لسان السيّد المسيح، وكتاب جديد ورسالة نهجت للناس الطريق الأمثل، ومضت تشقّ طريقها إلى أرواح الناس؛ لتجلوها من صدأ الإجرام الخُلُقي، الذي انغمس في مبائتها العالم بأسره.

وهذا محمّد رسول الله بحقّ يتقدم إلى الأمم، وبيده كتاب الله المجيد، ينير البصائر، ويرسم للناس المثل العليا من الفضائل التي تأخذ بيد البشرية إلى السعادة الدائمة.

٣٨

السمر

اجتاز الركب سكك المدينة على خيوله المطهمة، تفوح منه رائحة المسلك، وعليهم ثياب صونهم من الحرير اللمّاع، والحبر الموشى، على سرج مزركشة بالذهب الوهاج، قد اعترضوا الرماح على مناسج خيلهم، وكانوا من أجمل العرب صوراً.

* * *

وبعد - لم يكن عجباً إذا افتتن الضعفاء بالوفد النجراني، الذي يتمتع بكل المغريات للنفوس الضعيفة.

وليس عجباً أيضاً إذا كان هذا الوفد حديث أهل المدينة، فقد دخلها وفود كثيرة في السنة العاشرة وقبلها، يقدّمون الطاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ليس فيهم مثل وفد نجران، في معالمه الفاخرة، وزينته اللمّاعة. يقول المحارث بن كعب: (ما رأينا وفداً مثلهم).

* * *

كانت صورة الوفد تمر في نفس أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم جميعاً، ولكنّه مرور عابر في نفوس بعضهم، وهي أهون عليهم من أن تثير شيئاً، فإنّ الرسالة السماوية نهجت لهم الطريق الأمثل. على حين استقرارها

٣٩

في نفوس البعض الآخر مجلوّة بترفها المغدق، ونعيمها الباذخ، رهيبة اللمعان، رنانّة الجرس، هفتْ إليها النفوس الضعيفة، واستوعبت مشاعراً وقلوباً ما أضاءها النور المنبثق من رسالة السماء، والضوء المنير من مصباح محمّد صلى الله عليه وآله وسلم..

* * *

كان الترف الناعم، والنعيم الباذخ، والعيش الليّن، الذي يتمتع به وفد نجران حديث جماعة من أهل المدينة في سمرهم ومجالسهم.

وأين المحتاج الذي يستطيع أن يردّ طرفه عن حياة ناعمة، ونعيم ترف ودنياً مزهوّة؟

وأيّ المحرومين لا يفكر في هذا النضار الوهّاج المدلي في صدورهم؟ وقد صنعوا منه مقايض سيوفهم، ووشوا به حبرهم، وسرج خيولهم ، ثمّ لا تنكمش نفسه، ولا يستهويه الذهب اللمّاع، ولم تكن نفوسهم قد اكتملت بمناهج الدعوة الإسلامية، ولم تتصل بأرواحهم لينظروا إلى زخرف الحياة نظر ازدراء، وليجعلوا متعها تحت مواطئ الأقدام، فإنّ الإسلام هدى إلى الصراط القويم، والهدى رحمة من الله تجلو النفس، وصفاء يمحو الظلمة، وسعادة تصوغ النفس من جوهر تتضاءل أمامه المادة فلا يبقى لها أيّ ثمن.

* * *

ليلة مظلمة. لا يكاد ملتمس يحس فيها بطريقه لولا قبس ترسله النجوم المتلألئة في الصفحة السماء، تفتح يدها مرّة وتقبضها أخرى.. تقدّمت جيوش الظلام تسدل الستائر - وقد ألقى النهار سلاحه - على يثرب مدينة الرسول

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571