موسوعة كربلاء الجزء ١

موسوعة كربلاء 8%

موسوعة كربلاء مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 735

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 735 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 484857 / تحميل: 5729
الحجم الحجم الحجم
موسوعة كربلاء

موسوعة كربلاء الجزء ١

مؤلف:
العربية

موسوعة كربلاء الجزء ١

١
٢

موسوعة كربلاء الجزء ١

تأليف الدكتور لبيب بيضون

الجزء الاول

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تبويب الكتاب

الجزء الأول

تمّ تبويب الجزء الأول من الموسوعة وفق الأبواب التالية :

(١) ـ الباب الأول : (مقدمات)

ويشمل مقدمة في مصادر الموسوعة ، ثم استعراض لأنساب آل أبي طالب ، ثم توطئة في أهل البيتعليهم‌السلام وفضائلهم ، ثم فصل عن الإمام الحسينعليه‌السلام وجملة من مناقبه وفضائله ، ثم أنباء باستشهاد الحسينعليه‌السلام قبل وقوعه ، وإقامة المآتم الحسينية ، ثم فلسفة النهضة الحسينية وأهدافها.

(٢) ـ الباب الثاني : (الأوضاع السابقة للنهضة)

ويشمل العداوة بين بني أمية وبني هاشم ، ثم خلافة الإمام الحسنعليه‌السلام وصلحه مع معاوية ، وحكم معاوية وبعض هناته ، ومنها توليته ليزيد.

(٣) ـ الباب الثالث : (الإعداد للنهضة)

ويشمل حكم يزيد ، ونهضة الإمام الحسينعليه‌السلام في المدينة ، ثم في مكة ، حتّى خروجه منها في ٨ ذي الحجة سنة ٦٠ ه‍. ويتضمن هذا الباب مكاتبات البصريين والكوفيين للحسينعليه‌السلام ، ومسير مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، ونصائح المشفقين والمندّدين.

(٤) ـ الباب الرابع : (مسير الحسينعليه‌السلام إلى العراق)

ويشمل تهيّؤ الحسينعليه‌السلام للسفر ، ثم مسيره من مكة إلى كربلاء. ويتضمن هذا الباب تحقيقا بعدد الهاشميين الذين خرجوا مع الحسينعليه‌السلام ، وتحقيقا بالمواضع التي مرّبها.

٥

(٥) ـ الباب الخامس : (في كربلاء)

ويشمل هذا الباب كل ما حدث للحسينعليه‌السلام منذ حلّ في كربلاء في ٢ محرم ، وحتى بدء القتال يوم العاشر من المحرم سنة ٦١ ه‍.

الجزء الثاني

كما تمّ تبويب الجزء الثاني من الموسوعة وفق الأبواب الأربعة التالية :

(٦) ـ الباب السادس : (معركة كربلاء)

ويشمل أسماء المستشهدين من أنصار الحسينعليه‌السلام ، ومعركة كربلاء ، واستشهاد جميع الصحب والآل ، حتّى مصرع الإمام الحسينعليه‌السلام .

(٧) ـ الباب السابع : (حوادث بعد الشهادة)

ويشمل اشتراك الطبيعة في الحزن والبكاء على الحسينعليه‌السلام ، وأهوال يوم العاشر من المحرم. ثم نهب الخيام وتحريقها وسلب حرائر النبوة. ثم مسير الرؤوس والسبايا إلى الكوفة ، وإقامتهم فيها حتّى ١٩ محرم.

(٨) ـ الباب الثامن : (مسير الرؤوس والسبايا إلى الشام)

ويشمل مسير الرؤوس والسبايا إلى دمشق ، وشماتة يزيد بقتل الحسينعليه‌السلام .

ثم ردّ نسائه إلى المدينة المنورة. ووصف لمرقد الحسينعليه‌السلام ، والمشاهد المشرّفة لأهل البيتعليهم‌السلام في دمشق والقاهرة. ويختم هذا الباب ببيان عقوبة قاتلي الحسينعليه‌السلام .

(٩) ـ الباب التاسع : (جرائم يزيد بعد حادثة كربلاء)

ويشمل هجوم جيش يزيد على المدينة المنورة واستباحتها ثلاثة أيام ، ثم تطويق الكعبة المشرّفة وضربها بالمنجنيق وحرق أستارها. وينتهي هذا الباب بتقويم يزيد وبيان فسقه وكفره ، وأنه من أكبر الأسباب التي عملت على انقسام المسلمين واختلافهم وضياعهم.

٦

ترجمة المؤلف

لبيب بيضون

ولد بدمشق عام ١٩٣٨ م.

أتم دراسته المتوسطة في المدرسة المحسنية ، ثم حصل على الشهادة الثانوية من ثانوية ابن خلدون ـ فرع الرياضيات والفيزياء. تابع تحصيله الجامعي في جامعة دمشق حيث حصل على شهادة البكالوريوس في العلوم الفيزيائية ، ثم على الدبلوم في التربية عام ١٩٦٢ م.

عيّن بعد ذلك مدرّسا في الثانويات الرسمية لمدة سنتين.

ثم اجتاز مسابقة لانتقاء المعيدين في كلية العلوم بجامعة دمشق ، فعيّن معيدا في قسم الفيزياء. وبعد عدة سنوات نقل إلى الهيئة الفنية.

وفي عام ١٩٧٦ أوفد بمنحة كوبرنيك إلى بولونيا ، فنال الماجستير في الفيزياء من جامعة غداينسك.

ثم ترفع إلى مدير أعمال في الهيئة الفنية في القسم المذكور. وفي نيسان ١٩٩٨ أحيل على التقاعد.

إضافة لميله العلمي ، فهو كاتب ومؤلف بارع ، استطاع بأسلوبه الرصين أن يقدّم للأمة العربية والاسلامية العديد من المؤلفات القيّمة ، التي اتسمت بالطابع العلمي والأدبي معا ، إضافة إلى التوجيه الاجتماعي.

وفي عام ١٩٩٨ م نال الدكتوراة الإبداعية من الاتحاد العالمي للمؤلفين باللغة العربية الّذي مركزه في باريس ، وذلك لتأليفه كتاب خطب الإمام الحسينعليه‌السلام على طريق الشهادة ، وكتاب تصنيف نهج البلاغة الّذي طبع عدة مرات.

أصدر من مؤلفاته :

١ ـ مختارات علمية في الفيزياء النووية والالكترونية ، صدر في طبعته الثانية عام ١٩٧٢.

٧

٢ ـ مظاهر من العظمة والابداع في خلق الانسان ، جزآن : صدرا عام ١٩٧٠ و ١٩٧١.

٣ ـ الكحول والمسكرات والمخدرات ، صدر عام ١٩٧١.

٤ ـ خطب الإمام الحسينعليه‌السلام على طريق الشهادة ، صدر عام ١٩٧٤.

٥ ـ تصنيف نهج البلاغة ، صدرت الطبعة الأولى في دمشق عام ١٩٧٨ ، والثانية في قم عام ١٩٨٤.

٦ ـ صراع مع الذات ، وهو عن مذكراته في بولونيا ، جزآن : صدرا عام ١٩٨٠ و ١٩٨١.

٧ ـ علماء وأعلام ، جزآن : صدرا عام ١٩٨٠ و ١٩٨٢.

٨ ـ مختارات شعرية ، جزآن : صدرا عام ١٩٨٠.

٩ ـ إيمان أبي طالبعليه‌السلام ، صدر عام ١٩٨٠.

١٠ ـ بهلول الكوفي ، صدر عام ١٩٨٢.

١١ ـ علوم الطبيعة في نهج البلاغة ، طبع في طهران عام ١٩٨٢.

١٢ ـ أضواء على المهرجان الألفي لنهج البلاغة ، صدر في دمشق عام ١٩٨٢

١٣ ـ ذكرى المؤتمر الثالث لنهج البلاغة ـ المرأة في الإسلام ومن خلال نهج البلاغة ـ الفقر ، أسبابه وعلاجه. صدرت في طهران عام ١٩٨٤ ضمن كتاب (نهج البلاغة نبراس السياسة ومنهل التربية).

١٤ ـ الفيزياء العملية لطلاب السنوات الأولى في كلية العلوم ، بالاشتراك مع الأستاذين عماد قدسي وعمر طه ، صدر عام ١٩٨٣.

١٥ ـ قصة الغدير وقصة المباهلة (مترجمتان) ، صدرتا عام ١٩٨٥.

١٦ ـ الكلمات الفارسية في اللغة العربية ، صدر عام ١٩٨٥.

١٧ ـ غدير الأنوار في علوم الأخيار ، صدر عام ١٩٩١.

١٨ ـ دوحة آل بيضون ، صدر عام ١٩٩١.

١٩ ـ الشيعة في العالم.

٢٠ ـ قصة كربلاء ، صدر عام ١٩٩٥.

٢١ ـ قواعد اللغة الفارسية ، صدرت الطبعة الثانية عام ١٩٩٥.

٢٢ ـ طب المعصومين ، صدر عام ١٩٩٨.

٢٣ ـ قصص ومواعظ ، صدر عام ١٩٩٩.

٨

٢٤ ـ ديوان شعر (نجوى القلب) صدر عام ٢٠٠٠.

٢٥ ـ مواعظ وحكم ، صدر عام ٢٠٠٠.

٢٦ ـ حجر بن عدي ، صدر عام ٢٠٠٠.

٢٧ ـ فرائد الأشعار ، صدر عام ٢٠٠٠.

٢٨ ـ معارج التقوى ، صدر عام ٢٠٠١.

٢٩ ـ نهج العارفين (أدعية) ، صدر عام ٢٠٠١.

٣٠ ـ أنساب العترة الطاهرة ، صدر عام ٢٠٠١.

٣١ ـ القرآن وإعجازه ، صدر عام ٢٠٠٢.

٣٢ ـ صفحات من حياتي ، صدر عام ٢٠٠٢.

٣٣ ـ الله والإعجاز العلمي في القرآن ، صدر عام ٢٠٠٢.

٣٤ ـ الشهيد محمّد بن أبي بكر ، صدر عام ٢٠٠٢.

٣٥ ـ مدخل إلى نهج البلاغة [العقائد] ، صدر عام ٢٠٠٣.

٣٦ ـ معالم العلوم في تراث الإمام عليعليه‌السلام ، صدر عام ٢٠٠٣.

٣٧ ـ تبسيط المسائل الفقهية (النجاسات والمطهرات) ، صدر عام ٢٠٠٤.

٣٨ ـ قصة طوفان نوحعليه‌السلام ، صدر عام ٢٠٠٤.

٣٩ ـ قصة سلمان المحمدي (الفارسي) ، صدر عام ٢٠٠٤.

٤٠ ـ قصة يوسفعليه‌السلام ، صدر عام ٢٠٠٤.

٤١ ـ التفسير المبين لجزء (عمّ) ، صدر عام ٢٠٠٥.

٤٢ ـ نفحات من شذى إقبال ، صدر عام ٢٠٠٥.

٤٣ ـ دمشق القديمة وأهل البيتعليهم‌السلام ، صدر عام ٢٠٠٥.

٤٤ ـ أوليات المعرفة [العقائد] ، صدر عام ٢٠٠٥.

٤٥ ـ الشهيدان أويس القرني ومحمد بن أبي حذيفة ، صدر عام ٢٠٠٥.

٩
١٠

الإهداء

إلى النفوس الأبية التي رفضت كل ذلّ وعار

وإلى الصدور العامرة التي لم تستكن يوما إلى صغار

وإلى الأرواح القدسية التي هفت إلى منازل الأبرار

إلى الرجال المؤمنين الذين استهانوا بالحياة والأعمار

وإلى الأبطال المكافحين لحماية الرسالة والفضيلة والذّمار

وإلى الأشبال الذين أحدقوا بالبدر ساعة البلاء والإحصار

إلى المخلصين الصادقين ، المقاتلين في كربلاء ، وقد عزّت الأنصار وإلى الذين لم ترهبهم جيوش البغاة وقد ازدلفت اليهم من شتيت الأمصار

وإلى الذين قدّموا نفوسهم للموت ، وبريق السيوف يخطف بالأبصار

إلى التائهين الذين انقلبوا إلى الحق بعد طول الضلال والاغترار وإلى المخطئين الذين أيقنوا أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الأوزار

وإلى التائبين الذين انقلبوا عن غيّهم في اللحظات الحاسمة قبل ساعة الاحتضار.

إلى النجوم الزواهر من بني هاشم وآل أبي طالب الأخيار

وإلى حبّات قلب فاطمة البتول زوجة الوصيّ وبنت محمّد المختار وإلى أعلام الهداية وقرابين الرسالة السادة الميامين الأطهار

١١

إلى عبد الرحمن وجعفر وعبد الله أبناء عقيل ومسلم المغوار

وإلى القاسم الغلام وعبد الله الرضيع وأبي الفضل العباس قمر الأقمار وإلى محمّد وجعفر وعثمان وعمر وعبد الله أبناء حيدرة الكرار

إلى الحق المشرق الّذي لا يخبر رغم الكسوف والزلازل والإعصار وإلى الحرية والفضيلة والإباء التي تأبى الضياع والغروب والانحدار وإلى المبدأ القويم الّذي لا تتفتّح أزاهره إلا بدم الشهادة المدرار

إلى سيد الشهداء (أبي عبد الله الحسين) سيد الأشراف والأحرار وإلى أمير ركب الهدى وقد سار على درب الشهادة والفخار

وإلى أسد العرين وقد حلّ في كربلاء تترصده المنايا والأخطار

إلى سيد البطولة الّذي لم يعبا بزحف الأشرار والكفار

وإلى إمام التضحية الّذي لم يضنّ بنفس أو بأهل أو بأولاد صغار وإلى مشعل الإباء الّذي اختار المنية دون الدنيّة

والشهادة دون النار والعار.

د. لبيب بيضون

١٢

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

بعد ليل دامس طويل من الجهالة والظلام ، انشقّ الوجود عن فجر صادق مبين ، وصبح أبلج منير ، يؤذن بولادة خير البرية والأنام ، حاملا مبادئ الحرية والعدالة والإسلام.

وظل الفجر الجديد يطارد ذيول الليل المنحسر ، حتّى شعشع نوره الأرجاء ، وملأ بلألائه آفاق الأرض والسماء.

وما أن أفلت شمس ذلك اليوم البشير ، حتّى أشرق القمر المنير ، تحفّه النجوم المتلألئة كالأزاهير. ولم يطل الأمر حتّى بدأت بقايا الليل المختبئة في الكهوف والأخاديد ، تلملم بعضها بعضا من جديد ، وتشحن الفضاء بظلامها المديد. إلى أن طوّقت البدر بسوادها ، ولفّعت القمر ببرقعها ، معلنة مقتل الإمام أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالبعليه‌السلام .

وحزنت النجوم الزهر على المصاب الكبير ، وانقضّ أحدها ليأخذ بثأرها المستطير ، فاغتاله الظلام وواراه عن الأنظار ، بين غدر الغادرين وخذلان المترددين. فإذا قد قضى نجل المرتضى وفاطمة الزهرا ، وسبط النبي المصطفى ، الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام .

وفي غضبة النور على الظلام ، توقّد نجم في الجوزاء ، حتّى غدا كوكبا درّيّا يفيض بالضياء ، فجازت أشعته الهادية كل قلب من الأحياء ، وتنوّرت منه الدّنيا بالضوء والسناء. وما زال متّقدا في أعالي السماء ، حتّى كوّرت شعلته الحمراء ، وبدأت غرّته تقطر بالدماء ، لتسقي الحجر الأصم في الصحراء ، وتنبت في القفر أزهار الولاء والفداء. إنه الإمام الحسينعليه‌السلام سيد الشهداء.

ويمتزج الألم بالدموع ، والحزن بالخشوع ، والدم يكتب الخلود بالنجيع ، ويعيد كل فصل من فصول التاريخ إلى ربيع هناك حيث انتصر الدم على السيف ،

١٣

وتغلبّ الحق على الزيف في أرض كربلاء ، في هجير الصحراء ، وقد منعوا حتّى الطفل الرضيع من شربة الماء!.

لقد علّمنا الحسينعليه‌السلام كيف أن الموت الهادف يصنع الحياة ، وأن الألم الواعي يهب الحرية والإباء ، وأن حياة الذل والهوان لا تجتمع مع العقيدة والإيمان.

ولقد عملت على وضع هذه الموسوعة السنية ، وعمدت إلى جعلها حفيّة وفيّة ، لتكون لقلب كل حرّ روضة غنيّة ، يقطف من دوحتها ثمارا جنيّة ، وقطوفا حسنة وحسينية ، وينهل من نبعها الطامي كأسا فاطمية وعلوية ، فتعود مهجته بها زاكية أبيّة ، وترجع نفسه بولائها راضية مرضيّة.

إن دروس الحسينعليه‌السلام دروس عميقة بالغة الأثر والتأثير ، تعلمنا ـ إضافة لدروس التضحية والبطولة والفداء ـ أن ننظر إلى الأمور نظرة بعيدة مديدة ، عميقة محيطة مترامية ، فيكون جهادنا وفداؤنا قربانا للأجيال المتحدّرة والأحقاب المتلاحقة ، لا أن يكون قربانا عابرا ، يستهدف اللحظة الراهنة.

ثم تعلمنا بالاضافة لذلك أن لا يكون إيماننا مجرد إيمان فكريّ نظري لا يستند إلى واقع عملي ، وإنما أن يكون واقعا وتطبيقا ودفاعا وتضحية في سبيل المثل الأعلى

ثم تعلمنا أن نستهين بالمصاعب والمصائب مهما عظمت ، ونمحو من خلدنا فكرة المستحيلات ، بما نتسلح به من إرادة قوية مؤمنة وتصميم حازم أكيد.

وما أظن أن إنسانا في مسرح التاريخ والبطولة ، استطاع أو يستطيع أن تكون له مثل هذه الكفاءات العالية ، والمواهب الفريدة النادرة ـ غير الإمام الحسينعليه‌السلام ـ ليمثل هذا الدور الجوهري الخطير في قيادة حركة الإيمان وإحياء دعوة الإسلام ، فيصدّع مسيرة الكفر المتقدمة ، ويسحق زحوف النفاق المتفجرة ، ويعيد للرسالة المحمدية قدسيتها المفقودة وهيبتها المنهوبة ، وقد أوشكت على الإنطفاء شعلتها ، وعلى الغروب مقلتها. فأيقظ النفوس وأهاج الأرواح ، لتستبصر واقع أمرها ، وتضطلع بالمسؤوليات المترتبة عليها ، فتسترخص بالنفس والنفيس في سبيل الحق ، وتحمي صرح الكرامة مهما كلّفها ذلك من تضحيات ، وتروّي نبتة الفضيلة بدمائها غير عابئة بالموت.

١٤

إنه الإمام الحسينعليه‌السلام ، الّذي عقد كل هذه الآمال العريضة الجسيمة ، على مصرع شخصه الكريم ومصرع كل أهله وأنصاره ، إذ لم يجد أمضى من ذلك سلاحا ، ولا أقوم من ذلك سبيلا ، لبلوغ غرضه الشريف. فهزّت شهادته أركان العروبة والإسلام ، وقلبت مفاهيم الخوف والخنوع والاستسلام ، إلى مبادئ الثورة والعزّة والإقدام ، فكان منها ما كان من المستحيلات والفتوح ، الّتي أحيت معالم الإسلام الخالد ، ودفعت مسيرته الهادرة إلى يومنا الحاضر ، وأرست دعائمه ثابتة كالجبال ، ونصبت راياته خفاقة مدى الأجيال.

دمشق في ١ محرم الحرام ١٤١٠ ه

الموافق ٣ آب ١٩٨٩ م

د. لبيب وجيه بيضون

١٥

من وحي الشّهادة

(آيات من سورة آل عمران)

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١٣)قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) صدق الله العظيم

١٦

من الأثر النبوي الشريف

أخرج الثعالبي في تفسيره الكبير عن جرير بن عبد الله البجلي (قال) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا.

ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له.

ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائبا.

ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكمل الإيمان. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنة ، ثم منكر ونكير. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها.

ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافرا. ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس من رحمة الله».

١٧

نداء إلى الشبيبة المؤمنة للاقتداء بالحسينعليه‌السلام

دم ودموع ، وسموّ واستعلاء

وألم يفري الضلوع ، وعزّة للنفس وإباء

تلك ذكرى أبي الشهداء الحسينعليه‌السلام

ما العبرة في ذكرى أبي الشهداء؟.

هي عبرة العقيدة الّتي لا تضعف ، والإيمان الّذي لا يهن ، والعزّة الّتي لا تستخذي ، والإباء الّذي لا يقهر ، والقلب الشجاع الّذي لا تردعه الأهوال.

وهي في الجانب الآخر : عبرة النفس الإنسانية حين تمسخ ، والطبع البشري حين ينتكس ، والشرّ اللئيم الخسيس حين تسعفه القوة المادية ، والنذالة القذرة المنتنة حين تواتيها الظروف.

وما الّذي صنعته الأيام والدهور ، بهذا وذاك؟.

لقد خلدّت العقيدة والإيمان والعزة والإباء والقلب الشجاع ، خلّدتها في القلوب نورا وإيمانا وعقيدة تذكيها القرون والأجيال

ولقد دفنت الطبع المنتكس والشّر اللئيم والنذالة القذرة. وعفّت على هذه الصور البشعة ، إلا أن تذكرها بالمقت والازدراء.

ألا فلينظر الشباب أي الطريقين يسلك اليوم بعد ألف وثلاثمائة عام.

لينظر أيسلك طريق الخلود الكريم ، أم طريق الفناء المهين؟.

سيد قطب

١٨

أشهر المستشهدين من أصحاب الحسينعليه‌السلام

١٩

دروس من سيرة الحسينعليه‌السلام واستشهاده

يعلمنا هذا الكتاب دروسا كثيرة من خلال سيرة الإمام الحسينعليه‌السلام واستشهاده.

يعلمنا أن المؤمن الصحيح :

يؤمن بالمسؤولية ، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

لا يكتفي بالأفكار ، بل يعمل على تحقيق أفكاره وتطبيقها عمليا.

لا يعتقد فحسب ، بل يعتقد ويعمل.

يقول كلمة الحق ، حتّى أمام السلطان الجائر.

لا يعصي ربه ليرضي الناس [لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق].

المؤمن عزيز النفس ، يتحلى بالإباء والتضحية والفداء.

يأبى الذل والظلم والاستعباد.

حرّ متحرر ، تنبع أعماله من إرادته وتفكيره.

صادق فيما عاهد الله عليه ، لا يغيّر ولا يبدّل.

مستقيم ، لا يساوم ولا ينحرف ، ولا تطغيه الشهوات.

يطبّق مبدأه على نفسه أولا ، ثم على الآخرين.

جريء صريح ، يقاوم الباطل بلا هوادة ولا مهادنة.

شجاع حازم ، لا ترهبه كثرة الأعداء.

صامد لا يتراجع ، وثابت لا تردعه الأهوال.

جسور يذلل المصاعب ، ويستهين بالمستحيلات.

لا يبدأ أحدا بقتال ، حتّى يقيم الحجة عليه.

يقدّم نفسه قربانا للعقيدة والأجيال.

يفكر في الآخرين ، قبل أن يفكر في نفسه.

٢٠

كريم الأصل، شريف الفضل، فاضل القبيلة، تقي العشيرة، زكي الركانة (1) ، مؤدي الأمانة من بني هاشم، وابن عم النبي صلى الله عليه وآله.

الإمام المهدي الرشاد، مجانب الفساد، الأشعث الحاتِم (2) ، البطل الجماجم (3) ، والليث المزاحم.

بدري، مكي، حنفي، روحاني، شعشعاني، من الجبال شواهقها، ومن ذي الهضاب رؤوسها، ومن العرب سيدها، من الوغاء ليثها.

البطل الهمام، والليث المقدام، والبدر التمام، محكّ المؤمنين، ووارث المشعرين، وأبو سبطين، الحسن والحسين.

والله أمير المؤمنين حقّاً حقّاً علي بن أبي طالب عليه من الله الصلوات الزكية والبركات السنية.

فلمّا سمع الحجّاج أمر بقطع رأسه رضوان الله عليه (4) .

هؤلاء باقة من الأبرار والشهداء الأحرار، وهم نماذج حيّة وأمثلة صادقة من تضحيات الشيعة، على مدّ التاريخ وتفانيهم في سبيل الدين والشريعة.. ممّن أعلنوا الحق، ونادوا بالحقيقة، بلا مداراة ولا تقيّة، حيث رأوا انّ احقاق الحق وابطال الباطل كامن في تضحيتهم، وأن مقتضى الدين وخصوصية المورد يدعو الى صراحتهم.

وهناك العشرات بل المئات من عظماء الشيعة سلكوا هذا الطريق ممّن تلاحظ جهادهم وجهودهم من كتاب شهداء الفضيلة لشيخنا العلّامة الأميني أعلى الله مقامه.

__________________

1. الركانة: الوقار.

2. الحاتم: القاضي.

3. الجماجم: العظماء.

4. معجم رجال الحديث: 15 / 89.

٢١

ممّا لا يترك أدنى شبهة في بطلان كلام الخصم فيما نسبه إلى الشيعة في مسألة التقيّة.

وماذا يرد أو يجيب الخصم في الخطاب الصارم الذي قرع به قنبر الشيعي الشجاع وصكّ مسامع ذلك الطاعن السفّاك، الحجّاج بن يوسف الثقفي، هل هو تقيّة أم تضحية؟!

والمسألة في التقيّة واضحة، والحقيقة فيها أوضح من الشمس، وأبين من الأمس بحيث يدركه الوجدان، ويراه كل شخص بالعيان.

لكن لأجل التشكيك التجاهلي من الخصم في الواضحات، والالتواء عن الحقيقة في البديهيّات، لابدّ من دراسات توضيحيّة، وبيان الأدلّة القطعيّة من الفريقين، للتجلّى صحّة التقيّة في البين.

فلنبين في البدء ما ادّعاه الخصم في التقيّة ثمت نجيب عنه ونوضح بطلان كلماته الادّعائيّة، ثمّ نستدل على حقيقة التقيّة وشرعيّتها، ونلقى الأضواء على تماميّتها وصحّتها بوجوه خمسة:

1 - الكتاب الكريم.

2 - السنّة النبويّة.

3 - سيرة صالحي الصحابة.

4 - أقوال فقهاء المذاهب وأفعالهم.

5 - حكم العقل والفطرة.

ومن الله التوفيق، ومنه العون انه خير ناصر ومعين.

٢٢

دعوى الخصم

هرّجوا على الشيعة الأبرار بأنّ التقيّة نفاق، كما طعن بذلك تعبيراً عن حقده الدفين ابن تيميّة ومن حذا حذوره.

قال في منهاجه عند افتراءه الخبيث في تشبيه الشيعة باليهود:

ومثل استعمال التقيّة وأظهار الباطل خلاف ما يضمرون من العداوة، مشابهةً لليهود (1) .

يريد بذلك أنّ التقيّة نفاق وأن حكمها الحرمة.

الجواب الفصل

ان هذا باطل، موضوعاً وحكماً.

فليست التقيّة نفاقاً موضوعاً، وليس حكم التقيّة حكم النفاق أي الحرمة شرعاً، وذلك لما يلي بيانه، ويلزم معرفته، فنقول:

1 - موضوع التقيّة

التقيّة في مفهومها الموضوعي هي: المداراة مع من يُخاف من سطوته، حذراً من غوائله وضرره، كما يشهد بذلك قوله تعالى: ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) (2) أي تخافون منهم.

__________________

1. منهاج السنّة: ج 1، ص 9.

2. سورة آل عمران، الآية 28.

٢٣

بينما معنى النفاق هو: التظاهر بالحق مع إنطواء القلب على الباطل.

كما يشهد به قوله تعالى في توصيف المنافقين: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) (1) .

كانوا يبطنون الكفر ويتظاهرون بالايمان.

وكذا قوله تعالى: ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) (2) .

كانوا يشهدون بالرسالة وقلبهم منطو على الجحود نفاقاً منهم.

فالمنافق يتظاهر بالايمان وقلبه مضمر للكفر، كما يشهد به قوله تعالى: ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ) (3) .

بينما المؤمن على العكس يتظاهر بمداراة العدو خوفاً، وقلبه منطو على الحق، كما صرّحت بذلك قضيّة عمّار بن ياسر ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ) - أي على الكفر - ( وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) (4) .

فنلاحظ بوضوع ان موضوع التقيّة في منطق القرآن - وهو ال ميزان الحق - يغاير موضوع النفاق.

فالتقيّة في مفهومها الحقيقي هي المداراة مع الخصم خوفاً وتحذّراً فليست هي نفاقاً أو ضلالة.

__________________

1. سورة البقرة، الآية 14.

2. سورة المنافقون، الآية 1.

3. سورة التوبة، الآية 64.

4. سورة النحل، الآية 106.

٢٤

هذا، ولم نجد نصّاً واحداً في اللغة العربيّة تفسّر التقيّة بالنفاق، بل كلّ ما هنا لك من معاجم اللغة من الفريقين هو تفسيرها بالتحذّر والتحفّظ والتخوّف.

قال في مجمع البحرين (1) : قال تعالى: وإلّا أن تتّقوا منهم تقاة.. أي إتقاء مخافة القتل... والتقيّة والتقاة اسمان موضوعان موضع الاتقاء.

وقال في مرآة الأنوار (2) : إتقيت الشي تقيّة وتقاة: حذرته.

وقال في لسان العرب (3) : اتقيت الشيء، وتقيته، واتقيه واتقيت الشيء: حذرته.

وفي نهاية الأثيريّة (4) : توقّى واتّقى بمعنى، وفي حديث معاذ: توقّ كرائم أموالهم.. أي تجنّبها ولا تأخذها في الصدقة.

ومنه الحديث «تبقّه وتوقّه» أي استبق نفسك ولا تعرضها للتلف ولا تعرضها للآفات.

وفي المعجم الوسيط (5) : التقيّة: الخوف والحذر.

وعلى الجملة، يظهر بوضوح أنّ التقيّة في مفهومها الموضوعي من لغة العرب واستعمالهم ليست من النفاق في شيء، بل تنطبق هذه الكلمة على مفهوم المداراة. ومن البديهي أنه لا علاقة ولا مشابهة ولا أدنى مناسبة بين المداراة وبين النفاق الذي افتراه ابن تيميّة وشبّه به الشيعة باليهود الذين هو أولى بملتهم وبغضهم وعدائهم لآل الرسول صلى الله عليه وآله.

2 - حكم التقيّة

ممّا يشهد باختلاف موضوع التقيّة عن النفاق إختلاف حكمهما.

__________________

1. معجم البحرين: ص 96.

2. مرآة الأنوار: ص 223.

3. لسان العرب: ج 15، ص 402.

4. النهاية: ج 5، ص 217.

5. المعجم الوسيط (اللغة العصرية): ج 2، ص 1052.

٢٥

فقد اُجيزت التقيّة في كتاب الله تعالى بقوله: ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ) (1) .

بينما النفاق وعد عليه الدرك الأسفل من النار في آية: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) (2) .

بل قام على جواز التقيّة الأدلّة الأربعة، وحسّنها العقل، وغُرزت في الفطرة.

بل قضى بوجوبها في بعض الموارد متظافر الأدلّة كما سيأتي.

فكيف يُقاس حكم التقيّة بحكم النفاق؟!

وكيف يُطعن بالتقيّة على الشيعة وهي مباحة عند السنّة أيضاً وفي صحاحهم ومسانيدهم؟!

وكيف تستنكر التقيّة وهي موجودة عند علمائهم وفي سيرتهم؟!

وكيف تلصق التقيّة بخصوص الشيعة وهي واردة في مقالات أعلامهم؟!

هذا ما سنستعرض له تفصيلاً، ليستبصر به المصنف النبيل، ويعرف أنه لا مجال ولا احتمال لما بهتوا به الشيعة، وشنّعوا على الشريعة من استعمال النفاق أو الخداع.

ولنعم ما قال الدكتور السماوي في دراسة تحليليّة منه للتقيّة في كتابه مع الصادقين (3) : قال بعد ما ذكر أدلّة الجواز ما نصّه:

فلا مبرّر لأهل السنة والجماعة في التشنيع والإنكار على الشيعة من أجل عقيدة يقولون بها هم أنفسهم ويروونها في صحاحهم ومسانيدهم بأنّها جائزة بل واجبة، ولم يزد الشيعة على ما قاله أهل السنّة شيئاً، سوى أنّهم اشتهروا بالعمل بها أكثر من غيرهم لما لاقوه من الأمويين والعباسيين من ظلم واضطهاد.

__________________

1. سورة النحل، الآية 106.

2. سورة النساء، الآية 145.

3. مع الصادقين: ص 187، نقلناه بطوله لفائدته.

٢٦

فكان يكفي في تلك العصور أن يقال: هذا رجلُ يتشيّع لأهل البيت ليلاقي حتفه ويُقتل شرّ قتله على يد أعداء أهل البيت النبوي.

فكان لابدّ لهم من العمل بالتقيّة اقتداء بما أشار عليهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام، فقد رُوي عن الامام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: «التقيّة ديني ودين آبائي» وقال: «من لا تقيّة له لا دين له» وقد كانت التقيّة شعاراً لأئمّة أهل البيت أنفسهم دفعاً للضرر عنهم وعن أتباعهم ومحبّيهم، وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين الذين فُتنوا في دينهم كما فُتن عمّار بن ياسر رضي الله عنه وحتّى أكثر.

أمّا أهل السنّة والجماعة؛ فقد كانوا بعيدين عن ذلك البلاء؛ لأنّهم كانوا في معظم عهودهم على وفاق تام مع الحكّام فلم يتعرّضوا لا لقتلٍ ولا لنهبٍ ولا لظلم، فكان من الطبيعي جدّاً أن ينكروا التقيّة ويشنّعون على العاملين بها وقد لعب الحكّام من بني أُميّة وبين العبّاس دوراً كبيراً في التشهير بالشيعة من أجل التقيّة.

وبما أنّ الله سبحانه أنزل فيها قرآناً يُتلى وأحكاماً تُقضى، وبما أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عمل هو نفسه بها كما - مرّ عليك في صحيح البخاري - وأنّه أجاز لعمّار بن ياسر أن يسبّه ويكفر إذا عاوده الكفّار بالتعذيب، وبما أنّ علماء المسلمين أجازوا ذلك إقتداء بكتاب الله وسنّة رسوله، فأي تشنيع وأي استنكارٍ بعد هذا يصحّ أن يوجّه إلى الشيعة؟!

وقد عمل بالتقيّة الصحابة الكرام في عهد الحكّام الظالمين أمثال معاوية الذي كان يقتل كلّ من امتنع عن لعن علي بن أبي طالب عليه السلام.

وقصة حجر بن عدي الكندي وأصحابه مشهورة، وأمثال يزيد وابن زياد والحجّاج وعبد الملك بن مروان.. وأضرابهم، ولو شئت جمع الشواهد على عمل الصحابة بالتقيّة لاستوجب كتاباً كاملاً، ولكن ما أوردته من أدلّة أهل السنّة والجماعة كاف بحمد الله.

ولا أترك هذه الفرصة تفوت لأروي قصّة طريفة وقعت لي شخصيّاً مع عالم من علماء أهل السنّة إلتقينا في الطائرة وكنا مدعوّين لحضور مؤتمر إسلامي في بريطانيا،

٢٧

وتحادثنا خلال ساعتين عن الشيعة والسنّة، وكان من دعاة الوحدة، وأعجبت به غير أنّه ساءني قوله بأنّ على الشيعة الآن أن تترك بعض المعتقدات التي تُسبّب إختلاف المسلمين والطعن على بعضهم البعض، وسألته مثل ماذا؟

وأجاب على الفور: مثل المتعة والتقيّة.

وحاولت جهدي إقناعه بأنّ المتعة هي زواج مشروع، والتقيّة رخصة من الله، ولكنّه أصرّ على رأيه ولم يقنعه قولي ولا أدلّتي، مدّعياً أن ما أوردته كلّه صحيح ولكن يجب تركه من أجل مصلحة أهم ألا وهي وحدة المسلمين.

واستغربت منه هذا المنطق الذي يأمر بترك أحكام الله من أجل وحدة المسلمين، وقلت له مجاملة: لو توقّفت وحدة المسلمين على هذا الأمر لكنت أوّل من أجاب.

ونزلنا من مكار لندن وكنت أمشي خلفه.

ولمّا تقدّمنا إلى شرطة المطار سُئل عن سبب قدومه إلى بريطانيا.

فأجابهم بأنّه جاء للمعالجة.

وادّعيت أنا بأنّي جئت لزيارة بعض أصدقائي.

ومررنا بسلام وبدون تعطيل إلى قاعة إستلام الحقائب، عند ذلك همست له: أرأيت كيف أنّ التقيّة صالحة في كلّ زمان؟

قال: كيف؟

قلت: لأنّنا كذبنا على الشرطة، أنا بقولي جئت لزيارة أصدقائي، وأنت بقولك جئت للعلاج، في حين أنّنا قدمنا للمؤتمر.

ابتسم وعرف بأنّه كذب على مسمع منّي! فقال: أليس في المؤتمرات الاسلاميّة علاج لنفوسنا؟

ضحكت قائلاً: أو ليس فيها زيارة لاخواننا؟

وعلى الجملة؛ ركيزة الكلام والذي يهمّ في المقام، ليتّضح الحق الناطق، وينبلج الصبح الصادق هو ذكر الأدلّة الكاملة في شرعيّة التقيّة، والوجوه الخمسة النقيّة فيها.

٢٨

التقيّة في القرآن الكريم

هناك آيات كريمة من الكتاب المجيد مبيحة للتقيّة، حتّى بتصريح مجامع العامّة وتفاسيرهم، منها:

1 - قوله تعالى: ( مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (1) .

ذكرها البخاري في باب خاص، وقال في عنوانه: (باب قوله: إلّا من اُكره وقلبه مطمئن بالايمان وهي التقيّة) (2) .

وقال القسطلاني في شرحه: إنّها - أي التقيّة - ثابتة إلى يوم القيامة، لا تختصّ بعهد النبي صلّى الله عليه [وآله - وسلّم] (3) .

وقال الفخر الرازي عند تفسير هذه الآية الشريفة:

إنّ عمّاراً أعطاهم ما أرادوا بلسانه مُكرهاً.

فقيل: يا رسول الله! إنّ عمّاراً كفر.

فقال: «كلّا إنّ عمّاراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الايمان بلحمه ودمه.

فأتى عمّار رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يبكي، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول: مالك؟

إن عادوا لك فعد بما قلت» (4) .

__________________

1. سورة النحل (16): 106.

2. صحيح البخاري: ج 5، ص 52، ح 1.

3. إرشاد الساري: ج 8، ص 14.

4. التفسير الكبير: ج 20، ص 132.

٢٩

وقال السيوطي في تفسيره:

إنّ المشركين أخذوا عمّار بن ياسر، فعذّبوه حتّى قاربهم من بعض ما أرادوا، وسبّ النبي صلى الله عليه وآله وذكر الهتهم بخير.

قال صلى الله عليه وآله: «كيف تجد قلبك؟».

قال: مطمئناً بالايمان.

قال: «إن عادوا فعد».

وفي ذلك أنزل الله تعالى: ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) (1) .

وقال ابن عبد البرّ المالكي:

كان عمّار واُمّه سميّة ممّن عُذّب في الله، ثمّ أعطاهم عمّار ما أرادوا بلسانه، وقلبه مطمئن بالايمان، وهذا ممّا اجتمع عليه أهل التفسير) (2) .

هذا ما في تفاسير السنّة، وتلاحظ انها متّفقة على تقيّة عمّار، بصريح الكتاب، وتقرير النبي الأكرم له في مورد النزول.

ومثلها تفاسير الخاصّة فانّها مجمعة أيضاً رواية وتفسيراً في تقيّة عمّار، ومن ذلك الأحاديث التفسيريّة التي نجدها مجموعة في كنز الدقائق (3) ، عند ذكر الآية الشريفة مثل:

1 - حديث أبي بكر الحضرمي عن الامام الصادق عليه السلام قال: قال بعضنا: مدّ الرقاب أحبّ إليك أم البراءة من عليّ عليه السلام؟

قال: الرخصة أحبُّ إليّ؛ أما سمعت قول الله في عمّار ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ

__________________

1. الدرّ المنثور: ج 4، ص 132.

2. الاستيعاب: ج 3، ص 1136.

3. كنز الدقائق: ج 7، ص 271.. وغيره.

٣٠

بِالْإِيمَانِ ) (1) .

2 - حديث الحميري باسناده الى أبي عبد الله عليه السلام قال:

«إنّ التقيّة ترس المؤمن، ولا ايمان لمن لا تقيّة له!

قلت: جعلت فداك! أرأيت قول الله تبارك وتعالى: ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) ؟

قال: «وهل التقيّة إلّا هذا» (2) .

3 - عن ابن عبّاس: نزل قوله: ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) في جماعة أكرهوا: وعم عمّار، وياسر أبوه، وأُمّه سميّة، وصهيب، وبلال، وخبّاب.. عُذّبوا وقُتل أبو عمّار وأُمّه، فأعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه، ثمّ أخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله..

فقال: قومٌ: كفر عمّار.

فقال صلّى الله عليه وآله: «كلّا، إنّ عمّاراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الايمان بلحمه ودمه».

وجاء عمّار إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وهو يبكي، فقال صلّى الله عليه وآله: «ما وراءك؟!»

قال: شرٌ - يا رسول الله - ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير.

فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعُد لهم بما قلت..» فنزلت الآية (3) .

__________________

1. تفسير العياشي: ج 2، ص 272.

2. قرب الاسناد: ص 35، ح 114.

3. مجمع البيان: ج 6، ص 597.

٣١

واعلم أنّ تقيّة عمّار وإن كانت من المشركين لكن تقيّة عمّار شأن نزول الآية وموردها، والمرد ليس مخصّصاً، فانّ الآية الشريفة عامة شاملة لكلّ تقيّة حتّى من المسلم، خصوصاً مع التعبير بكلمة (من) الموصولة التي هي عامّة شاملة، تشمل كلّ من اكره على شيء فارتكبه.

ثمّ إنّه اذا جازت التقيّة في اظهار الكفر بالله تعالى، واُبيجت لعمار فكيف بسائر الناس في سائر الأشياء دون الكفر بالله تعالى وعمّار ممّن ملئ ايماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الايمان بلحمه ودمه، وحرّم الله لحمه ودمه على النار، وروى فيه حتّى أهل السنّة ان «من عادى عمّاراً عاداه الله»، ومن أبغضه أبغضه الله، وإنّ الجنّة مشتاقة إليه (1) .

2 - قوله تعالى:

( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) (2) .

فالآية الشريفة جوّزت التقيّة فيما هو من أبغض الأشياء إلى الله تعالى وهو اتّخاذ الكافرين أولياء وأحبّة (3) .

قال السيوطي في تفسيره:

__________________

1. سفينة البحار: ج 6، ص 507.

2. سورة آل عمران (3)، الآية 28.

3. في حديث الامام الصادق عليه السلام: (من أحبّ كافراً فقد أبغض الله، ومن أبغض كافراً فقد أحبّ الله). أطيب البيان: ج 3، ص 164.

وفي حديث الامام الرضا عليه السلام: (كن محبّاً لآل محمّد وإن كنت فاسقاً، وكن محبّاً لمحبّيهم وإن كانوا فاسقين).

قال العلّامة المجلسي: إنّ هذا الحديث موجود الآن بخط مولانا الامام الرضا عليه السلام في كروند باصفهان. أطيب البيان: ج 3، ص 165.

٣٢

أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله تعالى: ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) قال: إلّا مصانعة في الدنيا ومخالفة.

وأخرج عبد بن حماد، عن الحسن قال: التقيّة جائزة إلى يوم القيامة (1) .

وقال الحاكم في المستدرك:

(التقة: التكلّم باللسان، والقلب مطمئن بالايمان، وذلك كما في قصّة عمّار وشتمه النبي، لخلاص نفسه) (2) .

وقال أبو بكر الرازي في تفسير الآية:

(يعني أن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء، فتتقوم باظهار الموالاة من غير اعتقاده لها.

وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ، وعليه جمهور أهل العلم) (3) .

فتلاحظ تفسير الآية عند أهل السنّة بالتقيّة، وجوازها إلى يوم القيامة، ممّا يظهر عدم انحصارها بزمن خاص أو بواقعة خاصّة.

وهكذا تفسيرها عند الخاصّة هي مفسّرة بالتقيّة كما تلاحظ في مثل:

1 - حديث أمير المؤمنين عليه السلام: (وآمرك أن تستعمل التقيّة في دينك، فان الله يقول: ( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) .

وإيّاكم ثمّ إيّاك أن تتعرّض للهلاك، وأن تترك التقيّة التي أمرتك بها، فانّك شائط بدمك ودم إخوانك، معرّضٌ لنعمك ولنعمهم للزوال، مذلٌّ لهم في أيدي أعداء الله، وقد أمرك

__________________

1. الدرّ المنثور: ج 2، ص 16.

2. المستدرك على الصحيحين: ج 2، ص 291.

3. أحكام القرآن: ج 2، ص 10.

٣٣

باعزازهم» (1) .

2 - حديث الامام الصادق عليه السلام قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: «لا ايمان لمن لا تقيّة له، فانّ الله يقول: ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) (2) ».

3 - شيخ الطائفة الطوسي، قال: ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) فالتقيّة الاظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس إذا كان ما يبطنه هو الحق... والتقيّة عندنا واجبة عند الخوف على النفس، وقد روى رخصة في جواز الافصاح بالحق عندها (3) .

ومن أدلّة الكتاب على جواز التقيّة أيضاً قوله تعالى: ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ) (4) حيث ان توصيفه بالايمان ومدحه بذلك مع بيان كتمان ايمانه ليس إلّا تقيّة من فرعون وطغيانه.

والذي يتخلّص من آي الكتاب أنّ القرآن الكريم الذي حكم على المنافق بالدرك الأسفل من النار هو بنفسه رخّص في التقيّة، وأجاز الاتقاء، فالتقيّة تكون جائزة بحكم كتاب الله تعالى.

__________________

1. تفسير كنز الدقائق: ج 3، ص 66.

2. تفسير العياشي: ج 1، ص 166.

3. تفسير التبيان: ج 2، ص 434.

4. سورة غافر (40)، الآية 28.

٣٤

التقيّة في السنّة النبويّة

هناك أحاديث عديدة تبيّن تقيّة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله حتّى من بعض المسلمين، كما في حديث البخاري الآتي.

ومن المعلوم أنّ فعله صلى الله عليه وآله دليل على الحليّة اقلا، بل مقتضٍ للاقتداء والتأسّي، لأنّه القدوة والأُسوة.

ومن ذلك ما في أحاديث أهل السنة مثل:

1 - ما أخرجه البخاري في صحيحه:

بسنده عن عائشة: أنّ رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وآله، فلمّا رآه قال: «بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة».

فلمّا جلس تطلّق النبي صلى الله عليه وآله في وجهه وانبسط إليه.

فلمّا انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله! حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا، ثمّ تطلّقت في وجهه وانبسطت إليه (1) !!

__________________

1. لا يخفى أنّ هذا اعتراض من عائشة على رسول الله صلى الله عليه وآله - الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلّا وحي يوحى - وليس هذا الاعتراض منها أو قارورةٍ كُسرت في الاسلام، وإن شئت فلاحظ أحاديث تجاسرها على النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في مثل:

أ) حديث أحمد بن حنبل في مسنده: ج 4، ص 271، عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي فسمع صوت عائشة عالياً...

ب) حديث مالك بن أنس في الموطأ، باب صلاة الليل عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة

٣٥

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: «يا عائشة! متى عهدتني فحّاشاً؟»

إنّ شرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتّقاء شرّه» (1) .

ولا يخفى انه بقرينة قوله «أخو العشيرة» في متن الحديث أوّلاً.

وبقرينة كون رواية الحديث من عائشة - التي دخل بها النبي صلى الله عليه وآله في المدينة التي كانت - بلد المسلمين ثانياً.

بهاتين القرينتين يستفاد أنّ تقيّة صلوات الله عليه وآله كانت من مسلم لا من المشركين، ممّا تدلّ على انّ التقيّة تكون عامة، وليست خاصّة بالتقية من المشرك أو في بلد الشرك. وجاء في كتاب بالاسرار انه كان ذلك عبد الله بن أبي سلول [الأسرار فيما كنى وعرف به الأشرار: ج 2، ص 18].

ومثل هذا الحديث بل أصرح منه ومصرّح بالمداراة التي هي التقيّة حديث الحافظ أبي نعيم في حلية الأولياء (2) قال ما نصّة:

حدّثنا أبو بكر بن خلّاد، حدّثنا الحارث بن أبي أُسامة، حدّثنا الخليل ابن زكريا، حدّثنا هشام الدستوائي، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن صفوان بن عسال المرادي، قال: كنّا مع النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم - في سفر فأقبل رجل فيما نظر إليه رسول الله صلّى الله عليه و [آله] وسلّم قال: «بئس اخو العشيرة وبئس الرجل، فلمّأ دنا

__________________

أنها كانت تمدّ رجليها في قبلة رسول الله في صلاته.

ج) حديث النسائي في سننه، باب الغيرة والحسد أن صفية بنت عبد المطلب أهدت طعاماً إلى النبي فضربت عائشة على الاناء وكسرته.

د) حديث ابن ماجة في سننه، باب الحكم فيمن كسر شيئاً، روى أن حفصة سبقت عائشة فصنعت طعاماً للنبي فأكفئتها عائشة، فانكسرت القصعة، وانتشر الطعام.

1. صحيح البخاري: ج 7، ص 107، ح 6032، باب لم يكن النبي فاحشاً.

2. حلية الأولياء: ج 4، ص 191.

٣٦

منه أدنى مجلسه، فلمّا قام وذهب، قالوا: يا رسول الله! حين أبصرته، قلت: بئس أخو العشيرة وبئس الرجل ثم أدنيت مجلسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه و [آله] وسلّم: «إنّه منافق اداريه عن نفاقه فأخشى أن يفسد على غيره» (1) .

2 - ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره:

قال عند قوله تعالى في سورة المائدة: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) .

روى أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان أيّام إقامته بمكة يُهاجر ببعض القرآن ويخفى بعضه اشفاقاً على نفسه من تسرّع المشركين إليه وإلى أصحابه.

فلمّا أعزّ الله الاسلام وأيّده بالمؤمنين قال له: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) أي لا تراقبنّ أحداً (2) .

يستفاد من هذا الحديث انّه صلوات الله عليه وآله كان يتقى باخفاء بعض الآيات وعدم التجاهر به اشفاقاً من المشركين، ولو كانت التقيّة نفاقاً لما اتّقى صلّى الله عليه وآله حتّى من المشركين.

3 - ما رواه مسلم في صحيحه:

روى في أنّ الاسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بُدأ.

عن حذيفة... قال: قلنا: يا رسول الله! أتخاف علينا ونحن بين الستمائة والسبعمائة؟

قال صلى الله عليه وآله: «انّكم لا تدرون لعلّكم أن تُبتلوا».

قال حذيفة: فابتلينا حتى جعل الرجل منّا يصلّي سرّاً (3) .

هذا نزر يسير ممّا جاء من طرق العامّة.

__________________

1. حلية الأولياء: ج 4، ص 191.

2. تفسير الفخر الرازي: ج 12، ص 41.

3. صحيح مسلم، ج 1، ص 131، كتاب الايمان، باب الاستسرار بالايمان للخائف.

٣٧

وأمّا الأحاديث الواردة في تجويز التقيّة وفضيلتها من طرق الخاصّة؛ فهي فائقة على التواتر وقد اُشيد بها من قبل النبي الأكرم وجميع الأئمّة صلى الله عليه وآله بالتظافر، نختار جملة منها وهي:

1 - حديث عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «اتّقوا على دينكم فأحجبوه بالتقيّة؛ فانه لا إيمان لمن لا تقيّة له، إنّما أنتم في الناس كالنحل في الطير، لو أنّ الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلّا أكلته، ولو أنّ الناس علموا ما في أجوافكم أنّكم تحبّونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم (1) في السرّ والعلانية، رحم الله عبداً منكم كان على ولايتنا» (2) .

2 - حديثحريز، عمّن أخبره، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّوجلّ: ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ) (3) قال: «التي هي أحسن التقيّة ( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (4) .

3 - حديث هشام الكندي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

«إيّاكم أن تعملوا عملاً يعيّرونّا به فإنّ ولد السوء يعيّر والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً صلّوا في عشائركم (5) ، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم، والله ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخبء».

__________________

1. يقال نحل فلاناً أي سابّه، وفي بعض النسخ: نجلوكم؛ من قولهم، نجل فلاناً: ضربه بمقدم رجله.

2. أُصول الكافي: ج 2، ص 218، ح 5.

3. سورة فصلت، الآية 34.

4. أُصول الكافي: ج 2، ص 218، ح 6.

5. أي عشائركم الذين فيهم المخالفين لكم في الدين.

٣٨

قلت: وما ألخبء؟ (1)

قال: «التقيّة» (2) .

4 - عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «كان أبي عليه السلام يقول: وأيّ شيءٍ أقرّ لعيني من التقيّة، إنّ التقيّة جنّة المؤمن» (3) .

5 - حديث محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدّم، فإذا بلغ الدّم فليس تقيّة» (4) .

6 - حديث حريزٍ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال: «التقيّة ترس (5) الله بينه وبين خلقه» (6) .

7 - حديث إسماعيل الجعفي، ومعمّر بن يحيى بن سام، ومحمّد بن مسلم، وزرارة، قالوا: سمعنا أبا جعفرٍ عليه السلام يقول: «التقيّة في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له» (7) .

8 - الأحاديث الشريفة في تفسير الامام العسكري عليه السلام عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام منها ما جاي في الوسائل: مجموعاً في باب واحد (8) الأحاديث الآتية:

__________________

1. الخبء: من الخباء والستر.

2. أُصول الكافي: ج 2، ص 219، ح 11.

3. أُصول الكافي: ج 2، ص 219، ح 14.

4. أُصول الكافي: ج 2، ص 219، ح 19.

5. التُرس هو المعدن الذي يحمله المحارب يتقي به ضربات العدو، يسمى بالفارسية (سپر)، فالتقيّة تمنع من البلايا النازلة.

6. أُصول الكافي: ج 2، ص 219، ح 19.

7. أُصول الكافي: ج 2، ص 219، ح 18.

8. لاحظ وسائل الشيعة: ج 11، ص 473، الباب الثامن والعشرين.

٣٩

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «مثل مؤمنٍ لا تقيّة له كمثل جسدٍ لا رأس له...» إلى أن قال: «وكذلك المؤمن إذا جهل حقوق إخوانه فإنّه يفوّت ثواب حقوقهم فكان كالعطشان يحضره الماء البارد فلم يشرب حتّى طغا، وبمنزلة ذي الحواسّ الصّحيحة لم يستعمل شيئاً منها لدفع مكروهٍ ولا لانتفاع محبوبٍ، فإذا هو سليبٌ كلّ نعمةٍ مبتلىً بكلّ آفة».

9 - قال وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «التقيّة من أفضل أعمال المؤمن، يصون بها نفسه وإخوانه عن الفاجرين، وقضاء حقوق الإخوان أشرف أعمال المتّقين، يستجلب مودّة الملائكة المقرّبين وشوق الحور العين».

10 - قال: وقال الحسن بن عليٍ عليهما السلام: «إن التقيّة يصلح الله بها أمّةً لصاحبها مثل ثواب أعمالهم فإن تركها أهلك أمّةً تاركها شريك من أهلكهم، وإن معرفة حقوق الإخوان يحبب إلى الرّحمن ويعظّم الزّلفى لدى الملك الدّيّان وإنّّ ترك قضائها يمقت إلى الرّحمن ويصغّر الرّتبة عند الكريم المنّان».

11 - قال: قال الحسين بن عليٍ عليهما السلام: «لو لا التقيّة ما عرف وليّنا من عدوّنا، ولو لا معرفة حقوق الإخوان ما عرف من السّيّئات شيءٌ إلّا عوقب على جميعها».

12 - قال: وقال عليُّ بن الحسين عليهما السلام: «يغفر الله للمؤمن كلّ ذنبٍ ويطهّره منه في الدّنيا والآخرة ما خلا ذنبين: ترك التقيّة، وتضييع حقوق الإخوان».

13 - قال: وقال محمّد بن عليٍ عليهما السلام: «أشرف أخلاق الأئمّة والفاضلين من شيعتنا استعمال التقيّة وأخذ النّفس بحقوق الإخوان».

14 - قال: وقال جعفر بن محمّدٍ عليهما السلام: «استعمال التّقيّة بصيانة الإخوان، فإن كان هو يحمي الخائف فهو من أشرف خصال الكرم.

والمعرفة بحقوق الإخوان من أفضل الصّدقات والزّكاة والحجّ والمجاهدات».

15 - قال: وقال موسى بن جعفرٍ عليهما السلام لرجلٍ: «لو جعل إليك التّمنّي في الدّنيا ما كنت تتمنّى؟!».

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735