موسوعة كربلاء الجزء ١

موسوعة كربلاء 8%

موسوعة كربلاء مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 735

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 735 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 511218 / تحميل: 6002
الحجم الحجم الحجم
موسوعة كربلاء

موسوعة كربلاء الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الذكور!! فإذن أنتم أسباطه وأبناء بنته ، لا أولاده وذرّيّته!!

قلت : ما كنت أحسبك معاندا أو لجوجا ، وإلاّ لما قمت مقام المجيب على سؤالكم ، ولما قبلت الحوار معكم!

الحافظ : لا يا صاحبي! لا يلتبس الأمر عليك ، فإنّا لا نريد المراء واللّجاج وإنّما نريد أن نعرف الحقيقة ، فإنّي وكثير من العلماء نظرنا في الموضوع ما بيّنته لكم ، فإنّا نرى أنّ عقب الإنسان ونسله إنّما هو من الأولاد الذكور لا البنات ، وذلك كما يقول الشاعر في هذا المجال :

بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد

فإن كان عندكم دليل على خلافه يدلّ على أنّ أولاد بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولاده وذرّيّته فبيّنوه لنا حتّى نعرفه ، وربّما نقتنع به فنكون لكم من الشاكرين.

قلت : إنّ الدلائل من كتاب الله (عزّ وجلّ) والروايات المعتبرة لدى الفريقين على ذلك قويّة جدّا.

الحافظ : أرجو منكم أن تبيّنوها حتّى نستفيد بذلك.

قلت : إنّي وفي أثناء كلامكم تذكرت مناظرة حول الموضوع ، جرت بين الخليفة العبّاسي هارون ، وبين : الإمام أبي إبراهيم موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام ، فقد أجابهعليه‌السلام بجواب كاف وشاف اقتنع به هارون وصدّقه.

الحافظ : كيف كانت تلك المناظرة أرجو أن تبيّنوها لنا؟

قلت : قد نقل هذه المناظرة علماؤنا الأعلام في كتبهم المعتبرة ، منهم : ثقة عصره ، ووحيد دهره ، الشيخ الصدوق في كتابه القيّم : «عيون أخبار الرضا»(١) .

__________________

(١) عيون أخبار الرضا : ج ١ ص ٨٤ ح ٩.

٢١

ومنهم : علاّمة زمانه ، وبحّاثة قرنه ، الشيخ الطبرسي في كتابه الثمين : «الاحتجاج» وأنا أنقلها لكم من كتاب «الاحتجاج»(١) وهو كتاب علمي قيّم ، يضم بين دفّتيه أضخم تراث علمي وأدبي لا بدّ لأمثالك أيّها الحافظ من مطالعته ، حتّى ينكشف لكم الكثير من الحقائق العلمية والوقائع التاريخية الخافية عليكم.

أولاد البتولعليها‌السلام ذرية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

روى العلاّمة الطبرسي أبو منصور أحمد بن علي في الجزء الثاني من كتابه : «الاحتجاج» رواية مفصّلة وطويلة تحت عنوان : «أجوبة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام لأسئلة هارون» وآخر سؤال وجواب ، كان حول الموضوع الذي يدور الآن بيننا ، وإليكم الحديث بتصرّف :

هارون : لقد جوّزتم للعامّة والخاصة أن ينسبوكم إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولوا لكم : يا أولاد رسول الله ، وأنتم بنو عليّ ، وإنّما ينسب المرء إلى أبيه ، وفاطمة إنّما هي وعاء ، والنبيّ جدّكم من قبل أمّكم؟؟!

الإمامعليه‌السلام : لو أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نشر فخطب إليك كريمتك ، هل كنت تجيبه؟!

هارون : سبحان الله! ولم لا أجيبه ، وأفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.

الإمامعليه‌السلام : لكنّه لا يخطب إليّ ، ولا أزوّجه.

هارون : ولم؟! الإمامعليه‌السلام : لأنّه ولدني ولم يلدك.

__________________

(١) الاحتجاج : ج ٢ المناظرة رقم ٢٧١ ص ٣٣٥.

٢٢

هارون : أحسنت!!

ولكن كيف قلتم : إنّا ذرّيّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنبيّ لم يعقّب؟! وإنّما العقب للذّكر لا للأنثى ، وأنتم ولد بنت النبي ، ولا يكون ولدها عقبا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !!

الإمامعليه‌السلام : أسألك بحقّ القرابة والقبر ومن فيه إلاّ أعفيتني عن هذه المسألة.

هارون : لا أو تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي! وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم ، كذا أنهي لي ، ولست أعفيك في كلّ ما أسألك عنه ، حتّى تأتيني فيه بحجّة من كتاب الله ، وأنتم معشر ولد عليّ تدّعون : أنّه لا يسقط عنكم منه شيء ، ألف ولا واو ، إلاّ تأويله عندكم واحتججتم بقوله (عزّ وجلّ) :( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (١) وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم!!

الإمامعليه‌السلام : تأذن لي في الجواب؟

هارون : هات.

الإمامعليه‌السلام : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم :( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٢) فمن أبو عيسىعليه‌السلام ؟!

هارون : ليس لعيسى أب!

الإمامعليه‌السلام : فالله (عزّ وجلّ) ألحقه بذراري الأنبياء عن طريق أمّه مريمعليها‌السلام وكذلك ألحقنا بذراري النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل أمّنا فاطمةعليها‌السلام

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية ٣٨.

(٢) سورة الأنعام ، الآية ٨٤ و ٨٥.

٢٣

هل أزيدك؟

هارون : هات.

الإمامعليه‌السلام : قال الله تعالى :( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (١) ولم يدّع أحد أنّه أدخله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الكساء [و] عند مباهلة النصارى ، إلاّ عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسينعليه‌السلام ، واتّفق المسلمون : أنّ مصداق :( أَبْناءَنا ) في الآية الكريمة : الحسن والحسين عليهما السّلام ، و( نِساءَنا ) : فاطمة الزهراءعليها‌السلام ( وَأَنْفُسَنا ) : عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

هارون : أحسنت يا موسى! ارفع إلينا حوائجك.

الإمامعليه‌السلام : ائذن لي أن أرجع إلى حرم جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأكون عند عيالي.

هارون : ننظر إن شاء الله(٢) .

الاستدلال بكتب العامة ورواياتهم

هناك دلائل كثيرة جاءت في نفس الموضوع تدلّ على ما ذكرناه ،

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٦١.

(٢) لكن ما زال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام بعيدا عن حرم جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مفارقا لأهله وعياله ، ينقل من سجن الى سجن ، مكبّلا بالقيد والحديد وفي ظلم المطامير حتّى قضى بدسّ هارون السمّ إليه مسموما شهيدا صلوات الله وسلامه عليه. «المترجم».

٢٤

وقد سجّلها علماؤكم ونقلها حفّاظكم ورواتكم.

منهم : الإمام الرازي في الجزء الرابع من «تفسيره الكبير»(١) وفي الصفحة [١٢٤] من المسألة الخامسة قال في تفسير هذه الآية من سورة الأنعام : إنّ الآية تدلّ على أنّ الحسن والحسين [عليهما السّلام] ذرّيّة رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) لأنّ الله جعل في هذه الآية عيسى من ذرّيّة إبراهيم ولم يكن لعيسى أب ، وإنّما انتسابه إليه من جهة الامّ ، وكذلك الحسن والحسين [عليهما السّلام] فإنّهما من جهة الامّ ذرّيّة رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم).

كما إنّ [الإمام] الباقر [عليه‌السلام ] استدل للحجّاج الثقفي بهذه الآية لإثبات أنّهم ذرّيّة رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) أيضا(٢) :

ومنهم : ابن أبي الحديد في : «شرح نهج البلاغة» ، وأبو بكر الرازي في تفسيره استدلّ على أنّ الحسن والحسين عليهما السّلام أولاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة أمّهم فاطمةعليها‌السلام بآية المباهلة وبكلمة :( أَبْناءَنا ) كما نسب الله تعالى في كتابه الكريم عيسى إلى إبراهيم من جهة أمّه مريمعليها‌السلام .

ومنهم : الخطيب الخوارزمي ، فقد روى في «المناقب» والمير السيّد علي الهمداني الشافعي في كتابه «مودّة القربى» والإمام أحمد بن حنبل

__________________

(١) التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي : المجلد السابع ج ١٣ ، ص ٦٦.

(٢) المروي في كتاب الاحتجاج : ج ٢ ص ١٧٥ المناظرة ٢٠٤ أن الإمام الباقرعليه‌السلام استدل بهذه الآية في حديثه مع أبي الجارود ، فراجع.

٢٥

وهو من فحول علمائكم في مسنده ، وسليمان الحنفي البلخي في «ينابيع المودّة»(١) بتفاوت يسير : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ـ وهو يشير إلى الحسن والحسين عليهما السّلام ـ : «ابناي هذان ريحانتاي من الدنيا ، ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا».

ومنهم : محمد بن يوسف الشافعي ، المعروف بالعلاّمة الكنجي ، ذكر في كتابه «كفاية الطالب» فصلا بعد الأبواب المائة بعنوان : «فصل : في بيان أنّ ذرّيّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صلب عليّ [عليه‌السلام ]» جاء فيه بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله (عزّ وجلّ) جعل ذرّيّة كلّ نبي في صلبه ، وإنّ الله (عزّ وجلّ) جعل ذرّيّتي في صلب عليّ بن أبي طالب»(٢) .

ورواه ابن حجر المكي في صواعقه المحرقة : ص ٧٤ و ٩٤ عن الطبراني ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ؛ كما ورواه أيضا الخطيب الخوارزمي في «المناقب» عن ابن عبّاس.

قلت(٣) : ورواه الطبراني في معجمه الكبير في ترجمة الحسن ، ثمّ قال :

فإن قيل : لا اتّصال لذرّيّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعليّ [عليه‌السلام ] إلاّ من جهة فاطمة [عليها‌السلام ] وأولاد البنات لا تكون ذرّيّة ، لقول الشاعر :

__________________

(١) ينابيع المودة : الباب ٥٤ ص ١٩٣ وفيه : عن الترمذي عن ابن عمر قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ان الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا»

(٢) كفاية الطالب : ص ٣٧٩.

(٣) والقائل هو الكنجي الشافعي تعقيبا لما رواه.

٢٦

بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد

قلت : في التنزيل حجّة واضحة تشهد بصحّة هذه الدعوى وهو قوله (عزّ وجلّ)(١) :( وَوَهَبْنا لَهُ ) [أي : إبراهيم]( إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ) ـ إلى أن قال : ـ( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى ) فعدّ عيسى [عليه‌السلام ] من جملة الذرّيّة الّذين نسبهم إلى نوح [عليه‌السلام ] وهو ابن بنت لا اتّصال له إلاّ من جهة أمّه مريم.

وفي هذا دليل مؤكّد على أنّ أولاد فاطمة [عليها‌السلام ] هم ذرّيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا عقب له إلاّ من جهتها ، وانتسابهم إلى شرف النبوّة ـ وإن كان من جهة الامّ ـ ليس بممنوع ، كانتساب عيسى إلى نوح ، إذ لا فرق.

وروى الحافظ الكنجي الشافعي في آخر هذا الفصل ، بسنده عن عمر بن الخطّاب ، قال : سمعت رسول الله يقول : كلّ بني انثى فإنّ عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة ، فإنّي أنا عصبتهم وأنا أبوهم(٢) .

قال العلاّمة الكنجي : رواه الطبري في ترجمة الحسن.

هذا ، وقد نقله أيضا بتفاوت يسير وزيادة في أوّله ، بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كلّ حسب ونسب منقطع يوم القيامة ما خلا حسبي ونسبي(٣) .

أقول : ونقله كثير من علمائكم وحفّاظكم ، منهم الحافظ سليمان الحنفي في كتابه : «ينابيع المودّة»(٤) وقد أفرد بابا في الموضوع فرواه عن

__________________

(١) في سورة الأنعام : الآيتين ٨٤ و ٨٥.

(٢) كفاية الطالب : ص ٣٨١.

(٣) كفاية الطالب : ص ٣٨٠.

(٤) ينابيع المودة ، الباب ٥٧ ص ٣١٨.

٢٧

أبي صالح ، والحافظ عبد العزيز بن الأخضر ، وأبي نعيم في معرفة الصحابة ، والدارقطني والطبراني في الأوسط.

ومنهم : الشيخ عبد الله بن محمد الشبراوي في : «الإتحاف بحبّ الأشراف».

ومنهم : جلال الدين السيوطي في : «إحياء الميت بفضائل أهل البيت»(١) .

ومنهم : أبو بكر ابن شهاب الدين في : «رشفة الصادي في بحر فضائل بني النبيّ الهادي» ط. مصر ، الباب الثالث.

ومنهم : ابن حجر الهيثمي في «الصواعق المحرقة» الباب التاسع ، الفصل الثامن ، الحديث السابع والعشرون» قال : أخرج الطبراني عن جابر ، والخطيب عن ابن عبّاس ونقل الحديث.

وروى ابن حجر أيضا في «الصواعق الباب الحادي عشر ، الفصل الأول ، الآية التاسعة ...» : وأخرج أبو الخير الحاكمي ، وصاحب «كنوز المطالب في بني أبي طالب» إنّ عليّا دخل على النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) وعنده العبّاس ، فسلّم فردّ عليه (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) السلام وقام فعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه عن يمينه.

فقال له العبّاس : أتحبّه؟

قال (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) : يا عمّ! والله الله أشدّ حبّا له منّي ، إنّ الله (عزّ وجلّ) جعل ذرّيّة كلّ نبيّ في صلبه ، وجعل ذرّيّتي في صلب هذا.

__________________

(١) من الحديث ٢٩ ص ٢٨ الى الحديث ٣٤ ص ٣٢.

٢٨

ورواه العلاّمة الكنجي الشافعي في كتابه : «كفاية الطالب الباب السابع»(١) بسنده عن ابن عبّاس.

وهناك مجموعة كبيرة من الأحاديث الشريفة المعتبرة ، المرويّة في كتبكم ، المقبولة عند علمائكم ، تقول : إنّ النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) كان يعبّر عن الحسن والحسين عليهما السّلام ، بأنّهما ابناه ، ويعرّفهما لأصحابه ويقول : هذان ابناي

وجاء في تفسير : «الكشّاف» وهو من أهمّ تفاسيركم ، في تفسير آية المباهلة : لا دليل أقوى من هذا على فضل أصحاب الكساء ، وهم : عليّ وفاطمة والحسنان ، لأنّها لمّا نزلت ، دعاهم النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) فاحتضن الحسين وأخذ بيد الحسن ومشت فاطمة خلفه وعليّ خلفهما ، فعلم : إنّهم المراد من الآية ، وإنّ أولاد فاطمة وذرّيّتهم يسمّون أبناءه وينسبون إليه (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) نسبة صحيحة نافعة في الدنيا والآخرة(٢) .

وكذلك الشيخ أبو بكر الرازي في «التفسير الكبير» في ذيل آية المباهلة ، وفي تفسير كلمة :( أَبْناءَنا ) له كلام طويل وتحقيق جليل ، أثبت فيه أنّ الحسن والحسين هم ابنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذرّيّته ، فراجع(٣) .

__________________

(١) كفاية الطالب : الباب السابع ، ص ٧٩.

(٢) الكشاف : ج ١ ص ٣٦٨.

(٣) حول آية المباهلة والحسنينعليهما‌السلام :لقد أجمع المفسّرون على أنّ( أَبْناءَنا ) في آية المباهلة إشارة إلى الحسن

٢٩

__________________

والحسين عليهما السّلام ، وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخرجهما معه يوم المباهلة مجيبا أمر الله (عزّ وجلّ) ، وقد أجمع عليه المحدّثون والمؤرّخون من المسلمين.

وإليك بعض المدارك والمصادر في هذا الباب :

١ ـ الحافظ مسلم بن الحجّاج ، في صحيحه ، ج ٧ ص ١٢٠ ، ط. محمد علي صبيح ـ مصر.

٢ ـ الإمام أحمد بن حنبل ، في مسنده ، ج ١ ص ١٨٥ ، ط. مصر.

٣ ـ العلاّمة الطبري ، في تفسيره ، ج ٣ ص ١٩٢ ، ط. الميمنية ـ مصر.

٤ ـ العلاّمة أبو بكر الجصّاص ـ المتوفّى سنة ٢٧٠ ه‍ ـ في كتاب «أحكام القرآن» ج ٢ ص ١٦ ، قال فيه : إنّ رواة السير ونقلة الاثر لم يختلفوا في أنّ النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) أخذ بيد الحسن والحسين وعليّ وفاطمة رضي الله عنهم ودعا النصارى الّذين حاجّوه إلى المباهلة إلى آخره.

٥ ـ الحاكم ، في «المستدرك» ج ٣ ص ١٥٠ ، ط حيدرآباد الدكن.

٦ ـ العلاّمة الثعلبي ، في تفسيره في ذيل آية المباهلة.

٧ ـ الحافظ أبو نعيم ، في كتاب «دلائل النبوّة» ص ٢٩٧ ، ط. حيدرآباد.

٨ ـ العلاّمة الواحدي النيسابوري ، في كتاب : «أسباب النزول» ص ٧٤ ، ط. مصر.

٩ ـ العلاّمة ابن المغازلي في كتابه مناقب علي بن أبي طالب (ع).

١٠ ـ العلاّمة البغوي ، في كتابه «معالم التنزيل» ج ١ ص ٣٠٢.

وفي كتابه «مصابيح السنّة» ج ٢ ص ٢٠٤ ، ط المطبعة الخيرية.

١١ ـ العلاّمة الزمخشري ، في تفسير : «الكشّاف» ج ١ ص ١٩٣ ، ط. مصطفى محمد.

١٢ ـ العلاّمة أبو بكر ابن العربي ، في كتاب «أحكام القرآن» ج ١ ص ١١٥ ، ط.

مطبعة السعادة بمصر.

٣٠

__________________

١٣ ـ العلاّمة الفخر الرازي ، في «التفسير الكبير» ج ٨ ص ٨٥ ، ط. البهية بمصر.

١٤ ـ العلاّمة المبارك ابن الأثير ، في «جامع الاصول» ج ٩ ص ٤٧٠ ، ط. المطبعة المحمدية بمصر.

١٥ ـ الحافظ شمس الدين الذهبي ، في تلخيصه المطبوع في ذيل مستدرك الحاكم ، ج ٣ ص ١٥٠ ، ط. حيدرآباد.

١٦ ـ الشيخ محمد بن طلحة الشافعي ، في «مطالب السئول».

١٧ ـ العلاّمة الجزري ، في كتاب «أسد الغابة» ج ٤ ص ٢٥ ، ط. الاول بمصر.

١٨ ـ العلاّمة سبط ابن الجوزي ، في «التذكرة» ص ١٧ ، ط. النجف.

١٩ ـ العلاّمة القرطبي ، في كتاب «الجامع لاحكام القرآن» ج ٣ ص ١٠٤ ، ط.

مصر ، سنة ١٩٣٦.

٢٠ ـ العلاّمة البيضاوي ، في تفسيره ، ج ٢ ص ٢٢ ، ط. مصطفى محمد بمصر.

٢١ ـ العلاّمة محبّ الدين الطبري ، في «ذخائر العقبى» ص ٢٥ ، ط. مصر سنة ١٣٥٦.

وفي كتابه الآخر «الرياض النضرة» ص ١٨٨ ، ط. الخانجي بمصر.

٢٢ ـ العلاّمة النسفي ، في تفسيره ، ج ١ ، ص ١٣٦ ، ط. عيسى الحلبي بمصر.

٢٣ ـ العلاّمة المهايمي ، في : «تبصير الرحمن وتيسير المنان» ج ١ ص ١١٤ ، ط.

مطبعة بولاق بمصر.

٢٤ ـ الخطيب الشربيني ، في تفسيره «السراج المنير» ج ١ ص ١٨٢ ، ط. مصر.

٢٥ ـ العلاّمة النيسابوري ، في تفسيره ، ج ٣ ص ٢٠٦ ، بهامش تفسير الطبري ، ط.

الميمنية بمصر.

٢٦ ـ العلاّمة الخازن ، في تفسيره ، ج ١ ص ٣٠٢ ، ط. مصر.

٣١

__________________

٢٧ ـ العلاّمة أبو حيّان الأندلسي ، في كتابه «البحر المحيط» ج ٢ ص ٤٧٩ ، ط ، مطبعة السعادة بمصر.

٢٨ ـ الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي ، في تفسيره ، ج ١ ص ٣٧٠ ، ط. مصطفى محمد بمصر.

وفي كتابه «البداية والنهاية» ج ٥ ص ٥٢ ، ط. مصر.

٢٩ ـ أحمد بن حجر العسقلاني ، في «الإصابة» ج ٢ ص ٥٠٣ ، ط. مصطفى محمد بمصر.

٣٠ ـ العلاّمة معين الدين الكاشفي ، في كتاب «معارج النبوّة» ج ١ ص ٣١٥ ، ط. لكنهو.

٣١ ـ ابن الصبّاغ المالكي ، في «الفصول المهمّة» ص ١٠٨ ، ط النجف.

٣٢ ـ جلال الدين السيوطي ، في «الدر المنثور» ج ٤ ص ٣٨ ، ط. مصر.

وفي كتابه «تاريخ الخلفاء» ص ١١٥ ، ط. لاهور.

٣٣ ـ ابن حجر الهيتمي ، في كتابه «الصواعق المحرقة» ص ١٩٩ ، ط. المحمدية بمصر.

٣٤ ـ أبو السعود أفندي ، شيخ الإسلام في الدولة العثمانية ، في تفسيره ، ج ٢ ص ١٤٣ ، ط. مصر ، المطبوع بهامش تفسير الرازي.

٣٥ ـ العلاّمة الحلبي ، في كتابه «السيرة المحمدية» ج ٣ ص ٣٥ ، ط. مصر.

٣٦ ـ العلاّمة الشاه عبد الحقّ الدهلوي ، في كتاب «مدارج النبوّة» ص ٥٠٠ ط. بومبي.

٣٧ ـ العلاّمة الشبراوي ، في كتاب «الإتحاف بحبّ الاشراف» ص ٥ ، ط. مصطفى الحلبي.

٣٨ ـ العلاّمة الشوكاني ، في كتاب «فتح القدير» ج ١ ص ٣١٦ ، طبع مصطفى الحلبي بمصر.

٣٩ ـ العلاّمة الآلوسي ، في تفسيره «روح المعاني» ج ٣ ص ١٦٧ ، ط. المنيرية بمصر.

٣٢

ثمّ قلت بعد ذلك : فهل يبقى ـ يا أيّها الحافظ! ـ بعد هذا كلّه ، محلّ للشعر الذي استشهدت به؟! بنونا بنو أبنائنا إلى آخره.

وهل يقوم هذا البيت من الشعر ، مقابل هذه النصوص الصريحة والبراهين الواضحة؟!

فلو اعتقد أحد بعد هذا كلّه ، بمفاد ذلك الشعر الجاهلي ـ الذي قيل في وصفه : إنه كفر من شعر الجاهلية ـ ، لردّه كتاب الله العزيز وحديث رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ اعلم ـ أيّها الحافظ ـ أنّ هذا بعض دلائلنا في صحّة انتسابنا

__________________

٤٠ ـ العلاّمة الطنطاوي ، في تفسيره «الجواهر» ج ٢ ص ١٢٠ ، ط. مصطفى الحلبي بمصر.

٤١ ـ السيّد أبو بكر الحضرمي ، في كتاب «رشفة الصادي» ص ٣٥ ، ط. الإعلامية بمصر.

٤٢ ـ الشيخ محمود الحجازي ، في تفسير «الواضح» ج ٣ ص ٥٨ ، ط مصر.

٤٣ ـ العلاّمة صدّيق حسن خان ، في كتاب : «حسن الاسوة» ص ٣٢ ، ط. الجوائب بالقسطنطنية.

٤٤ ـ العلاّمة أحمد زيني دحلان ، في «السيرة النبوية» المطبوعة بهامش «السيرة الحلبية» ج ٣ ص ٤ ، ط. مصر.

٤٥ ـ السيّد محمد رشيد رضا ، في تفسير «المنار» ج ٣ ص ٣٢١ ، ط. مصر.

٤٦ ـ العلاّمة محمد بن يوسف الكنجي ، في كتابه «كفاية الطالب» الباب الثاني والثلاثين.

٤٧ ـ الحافظ سليمان الحنفي ، في كتابه : «ينابيع المودّة» ج ١ باب الآيات الواردة في فضائل أهل البيت ، الآية التاسعة.

«المترجم»

٣٣

إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعض براهيننا على أنّنا ذرّيّته ونسله ، ولذا يحقّ لنا أن نفتخر بذلك ونقول :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

الحافظ : إنّي اقرّ وأعترف بأنّ دلائلكم كانت قاطعة ، وبراهينكم ساطعة ، ولا ينكرها إلاّ الجاهل العنود ؛ كما وأشكركم كثيرا على هذه التوضيحات ، فلقد كشفتم لنا الحقيقة وأزحتم الشبهة عن أذهاننا.

صلاة العشاء

وهنا علا صوت المؤذّن في المسجد وهو يعلن وقت صلاة النساء ، والإخوة من العامّة ـ بخلافنا نحن الشيعة ـ يوجبون التفريق بين صلاتي الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء ، وقد يجمعون أحيانا ، وذلك لسبب كالمطر والسفر.

لذا فقد تهيّئوا جميعا للذهاب إلى المسجد ، فقال بعضهم : وبما أنّا نريد الرجوع بعد الصلاة إلى هذا المكان لمتابعة الحديث ، فالأحسن أن تقام جماعة في المسجد وجماعة في هذا المكان بالحاضرين ، حتّى لا يفترق جمعنا ولا يفوت وقتنا ، فهذه فرصة ثمينة يجب أن نغتنمها.

فوافق الجميع على هذا الاقتراح ، وذهب السيّد عبد الحيّ ـ إمام المسجد ـ ليقيم الجماعة فيه بالناس.

وأمّا الآخرون فقد أقاموا صلاة العشاء جماعة في نفس المكان ، واستمرّوا على ذلك في بقية الليالي التالية أيضا.

٣٤

مسألة الجمع أو التفريق بين الصلاتين

ولمّا استقرّ بنا المجلس بعد الصلاة ، خاطبني أحد الحاضرين ، ويدعى النوّاب عبد القيّوم خان ، وكان يعدّ من أعيان العامة وأشرافهم ، وهو رجل مثقّف يحبّ العلم والمعرفة ، فقال لي : في هذه الفرصة المناسبة التي يتناول العلماء فيها الشاي أستأذنكم لأطرح سؤالا خارجا عن الموضوع الّذي كنّا فيه ، ولكنّه كثيرا ما يتردّد على فكري ويختلج في صدري.

قلت : تفضّل واسأل ، فإنّي مستعدّ للاستماع إليك.

النوّاب : كنت أحبّ كثيرا أن ألتقي بأحد علماء الشيعة حتّى أسأله : أنّه لما ذا تسير الشيعة على خلاف السنّة النبوية حين يجمعون بين صلاتي الظهر والعصر ، وكذلك المغرب والعشاء؟!

قلت :

أولا : السادة العلماء ـ وأشرت إلى الحاضرين في المجلس ـ يعلمون أنّ آراء العلماء تختلف في كثير من المسائل الفرعية ، كما أنّ أئمّتكم ـ الأئمّة الأربعة ـ يختلفون في آرائهم الفقهيّة فيما بينهم كثيرا ، فلم يكن إذن الاختلاف بيننا وبينكم في مثل هذه المسألة الفرعية شيئا مستغربا.

ثانيا : إنّ قولك : الشيعة على خلاف السنّة النبوية ، ادّعاء وقول لا دليل عليه ، وذلك لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يجمع حينا ويفرّق اخرى.

النوّاب ـ وهو يتوجّه إلى علماء المجلس ويسألهم ـ : أهكذا كان يصنع رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) يفرّق حينا ويجمع اخرى؟

٣٥

الحافظ : يلتفت إلى النوّاب ويقول في جوابه ـ : كان النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) يجمع بين الصلاتين في موردين فقط : مورد السفر ، ومورد العذر من مطر وما أشبه ذلك ، لكي لا يشقّ على أمّته.

وأمّا إذا كان في الحضر ، ولم يكن هناك عذر للجمع ، فكان يفرّق ، وأظنّ أنّ السيّد قد التبس عليه حكم السفر والحضر!!

قلت : كلاّ ، ما التبس عليّ ذلك ، بل أنا على يقين من الأمر ، وحتّى أنّه جاء في الروايات الصحيحة عندكم : بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يجمع بين الصلاتين في الحضر من غير عذر.

الحافظ : ربّما وجدتم ذلك في رواياتكم وتوهّمتم أنّها من رواياتنا!!

قلت : لا ، ليس كذلك ، فإنّ رواة الشيعة قد أجمعوا على جواز الجمع بين الصلاتين ، لأنّ الروايات في كتبنا صريحة في ذلك ، وإنّما الكلام والنقاش يدور فيما بين رواتكم حول الجمع وعدمه ، فقد نقلت صحاحكم وذكرت مسانيدكم ، أحاديث كثيرة وأخبارا صريحة في هذا الباب.

الحافظ : هل يمكنكم ذكر هذه الروايات والأحاديث وذكر مصادرها لنا؟

قلت : نعم ، هذا مسلم بن الحجّاج ، روى في صحيحه في باب «الجمع بين الصلاتين في الحضر» بسنده عن ابن عبّاس ، أنّه قال : صلّى رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) الظهر والعصر جمعا ، والمغرب والعشاء جمعا ، في غير خوف ولا سفر.

٣٦

وروى أيضا ، بسنده عن ابن عبّاس ، أنّه قال : صلّيت مع النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) ثمانيا جمعا ، وسبعا جمعا(١) .

وروى هذا الخبر بعينه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ج ٢ ص ٢٢١ ، وأضاف إليه حديثا آخر عن ابن عبّاس أيضا ، أنّه قال : صلى رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) في المدينة مقيما غير مسافر ، سبعا وثمانيا.

وروى مسلم في صحيحه أخبارا عديدة في هذا المجال ، إلى أن روى في الحديث رقم ٥٧ ، بسنده عن عبد الله بن شقيق ، قال : خطبنا ابن عبّاس يوما بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم ، فجعل الناس يقولون : الصلاة ـ الصلاة! فلم يعتن ابن عبّاس بهم ، فصاح في هذه الأثناء رجل من بني تميم ، لا يفتر ولا ينثني : الصلاة الصلاة!

فقال ابن عبّاس : أتعلّمني بالسنّة؟ لا أمّ لك!

ثمّ قال : رأيت رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) جمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء.

قال عبد الله بن شقيق : فحاك في صدري من ذلك شيء ، فأتيت أبا هريرة ، فسألته ، فصدّق مقالته.

وروى مسلم في صحيحه الحديث رقم ٥٨ ذلك أيضا بطريق آخر عن عبد الله بن شقيق العقيلي ، قال : قال رجل لابن عبّاس ـ لمّا طالت خطبته ـ : الصلاة! فسكت ، ثمّ قال : الصلاة! فسكت. ثمّ قال :

__________________

(١) يقصد بالثمان : ركعات الظهر والعصر ، وبالسبع : ركعات المغرب والعشاء ، في الحضر. «المترجم».

٣٧

الصلاة! فسكت ، ثمّ قال : لا أمّ لك! أتعلّمنا بالصلاة ، وكنّا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)؟!

وروى الزرقاني وهو من كبار علمائكم ، في كتابه «شرح موطّأ مالك ج ١ ص ٢٦٣ ، باب الجمع بين الصلاتين» عن النسائي ، عن طريق عمرو بن هرم ، عن ابن الشعثاء ، أنّه قال : إنّ ابن عبّاس كان يجمع بين صلاتي الظهر والعصر ، وصلاتي المغرب والعشاء في البصرة ، وكان يقول : هكذا صلّى رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم).

وروى مسلم في صحيحه ، ومالك في : «الموطّأ» وأحمد بن حنبل في «المسند» والترمذي في صحيحه في «باب الجمع بين الصلاتين» بإسنادهم عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : جمع رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء بالمدينة ، من غير خوف ولا مطر ، فقيل لابن عبّاس : ما أراد بذلك؟

قال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمّته.

هذه بعض رواياتكم في هذا الموضوع ، وهي أكثر من ذلك بكثير ، ولكن ربّما يقال : إنّ أوضح دليل على جواز الجمع بين الصلاتين من غير عذر ولا سفر ، هو : أنّ علماءكم فتحوا بابا في صحاحهم ومسانيدهم بعنوان : «الجمع بين الصلاتين» وذكروا فيه الروايات التي ترخّص الجمع مطلقا ، فيكون دليلا على جواز الجمع مطلقا ، في السفر والحضر ، مع العذر وبلا عذر.

ولو كان غير ذلك ، لفتحوا بابا مخصوصا للجمع في الحضر ، وبابا مخصوصا للجمع في السفر ، وبما أنّهم لم يفعلوا ذلك ، وإنّما

٣٨

سردوا الروايات في باب واحد ، كان ذلك دليلا على جواز الجمع مطلقا!

الحافظ : ولكنّي لم أجد في صحيح البخاري روايات ولا بابا بهذا العنوان.

قلت :

أوّلا : إنّه إذا روى سائر أصحاب الصحاح ـ غير البخاري ـ من مثل مسلم والترمذي والنسائي وأحمد بن حنبل ، وشرّاح صحيحي مسلم والبخاري ، وغيرهم من كبار علمائكم ، أخبارا وأحاديث في مطلب ما وأقرّوا بصحّتها ، ألا تكون رواية أولئك كافية في إثبات ذلك المطلب ، فيثبت إذن هدفنا ومقصودنا؟!

وثانيا : إنّ البخاري أيضا ذكر هذه الروايات في صحيحه ، ولكن بعنوان آخر ، وذلك في باب «تأخير الظهر إلى العصر» من كتاب مواقيت الصلاة ، وفي باب «ذكر العشاء والعتمة» وباب «وقت المغرب».

أرجو أن تطالعوا هذه الأبواب بدقّة وإمعان حتّى تجدوا أنّ كلّ هذه الأخبار والروايات الدالّة على جواز الجمع بين الصلاتين منقولة هناك أيضا.

الجمع بين الصلاتين عند علماء الفريقين

والحاصل : إنّ نقل هذه الاحاديث من قبل جمهور علماء الفريقين ـ مع الإقرار بصحّتها في صحاحهم ـ دليل على أنّهم أجازوا الجمع ورخّصوه ، وإلاّ لما نقلوا هذه الروايات في صحاحهم.

٣٩

كما أنّ العلاّمة النووي في «شرح صحيح مسلم» والعسقلاني والقسطلاني وزكريّا الأنصاري ، في شروحهم لصحيح البخاري ، وكذلك الزرقاني في «شرح موطّأ مالك» وغير هؤلاء من كبار علمائكم ذكروا هذه الأخبار والروايات ، ثمّ وثّقوها وصحّحوها ، وصرّحوا بأنّها تدلّ على الجواز والرخصة في الجمع بين الصلاتين في الحضر من غير عذر ولا مطر ، وخاصة بعد رواية ابن عبّاس وتقرير صحّتها ، فإنّهم علّقوا عليها بأنّها صريحة في جواز الجمع مطلقا ، وذلك حتّى لا يكون أحد من الأمّة في حرج ومشقّة.

النوّاب ـ وهو يقول متعجبا ـ : كيف يمكن مع وجود هذه الأخبار والروايات المستفيضة والصريحة في جواز الجمع بين الصلاتين ، ثمّ يكون علماؤنا على خلافها حكما وعملا؟!

قلت ـ بديهي ، ومع كامل العذر على الصراحة ـ : إنّ عدم التزام علمائكم بالنصوص الصريحة والروايات الصحيحة لا تنحصر ـ مع كلّ الأسف ـ بهذا الموضوع فقط ، بل هناك حقائق كثيرة نصّ عليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصرّح بها في حياته ، ولكنّهم لم يلتزموا بها ، وإنّما تأوّلوها وأخفوا نصّها عن عامة الناس ، وسوف تنكشف لكم بعض هذه الحقائق خلال البحث والنقاش في موضوع الإمامة وغيره إن شاء الله تعالى.

وأمّا هذا الموضوع بالذات ، فإنّ فقهاءكم لم يلتزموا ـ أيضا ـ بالروايات التي وردت فيه مع صراحتها ، وإنّما أوّلوها بتأويلات غير مقبولة عرفا.

٤٠

فقال بعضهم : إنّ هذه الروايات المطلقة في الجمع بين الصلاتين لعلّها تقصد الجمع في أوقات العذر ، مثل الخوف والمطر وحدوث الطين والوحل ، وعلى هذا التأويل المخالف لظاهر الروايات أفتى جماعة كبيرة من أكابر متقدّميكم ، مثل : الإمام مالك والإمام الشافعي وبعض فقهاء المدينة فقالوا : بعدم جواز الجمع بين الصلاتين إلاّ لعذر كالخوف والمطر!

ومع أنّ هذا التأويل يردّه صريح رواية ابن عبّاس التي تقول : «جمع النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، بالمدينة من غير خوف ولا مطر».

وقال بعضهم الآخر في تأويل هذه الروايات المطلقة الصريحة في الجمع بين الصلاتين مطلقا ، حتّى وإن كان بلا عذر ولا سفر : لعلّ السحاب كان قد غطّى السماء ، فلم يعرفوا الوقت ، فلمّا صلّوا الظهر وأتمّوا الصلاة ، زال السحاب وانكشف الحجاب ، فعرفوا الوقت عصرا ، فجمعوا صلاة العصر مع الظهر!!

فهل يصحّ ـ يا ترى ـ مثل هذا التأويل في أمر مهمّ مثل الصلاة ، التي هي عمود الدين؟!

وهل أنّ المؤوّلين نسوا أنّ المصلّي ـ في الرواية ـ هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ وجود السحاب وعدمه لا يؤثّر في علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي يعلم من الله تعالى ، وينظر بنور ربّه (عزّ وجلّ)؟!

وعليه : فهل يجوز أن نحكم في دين الله العظيم استنادا إلى هذه التأويلات غير العرفيّة ، التي لا دليل عليها سوى الظنّ أو التّرجيح! وقد

٤١

قال تعالى :( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (١)

إضافة إلى ذلك ما الذي تقولونه في جمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين صلاتي المغرب والعشاء ، مع أنّه لا أثر حينها للسحاب وعدمه فيه؟!

إذن فهذا التأويل وغيره من التأويلات ، خلاف ظاهر الروايات ، وخلاف صريح الخبر القائل : «إنّ ابن عبّاس استمرّ في خطبته حتّى بدت النجوم ، ولم يبال بصياح الناس : الصلاة الصلاة ، ثمّ ردّ ابن عبّاس على التميمي بقوله : أتعلّمني بالسنّة؟! لا أمّ لك! رأيت رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) جمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء» ثمّ تصديق أبي هريرة لمقالة ابن عبّاس.

وعليه : فإنّ هذه التأويلات غير معقولة ولا مقبولة عندنا ، وكذا غير مقبولة عند كبار علمائكم أيضا ، إذ إنّهم علّقوا عليها : بأنّها خلاف ظاهر الروايات.

فهذا شيخ الإسلام الأنصاري في كتابه «تحفة الباري في شرح صحيح البخاري في باب صلاة الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء آخر ص ٢٩٢ في الجزء الثاني» وكذا العلاّمة القسطلاني في كتابه «إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري في ص ٢٩٣ من الجزء الثاني» وكذا غيرهما من شرّاح صحيح البخاري ، وكثير من محقّقي علمائكم ، قالوا : هذه التأويلات على خلاف ظاهر الروايات ، وإنّ التقيّد بالتفريق بين الصلاتين ترجيح بلا مرجّح وتخصيص بلا مخصّص.

النواب : إذن فمن أين جاء هذا الاختلاف الذي فرّق بين الإخوة

__________________

(١) سورة يونس ، الآية ٣٦.

٤٢

المسلمين إلى فرقتين متخاصمتين ، ينظر بعضهم إلى الآخر بنظر البغض والعداء ، ويقدح بعضهم في عبادة البعض الآخر؟!

قلت :

أوّلا : بما أنّك قلت : بأنّ المسلمين صاروا فريقين متعاديين ، أوجب عليّ الوقوف قليلا عند كلمة : متعاديين ، لنرى معا هل العداء ـ كما قلت ـ كان من الطرفين ، أو من طرف واحد؟!

وهنا لا بدّ لي ـ وأنا واحد من الشيعة ـ أن أقول دفاعا عن الشيعة ـ أتباع أهل البيتعليهم‌السلام ، وإزاحة لهذه الشبهة عنهم ـ : بأنّا نحن ـ معاشر الشيعة ـ لا ننظر إلى أحد من علماء العامة وعوامهم بعين التحقير والعداء ، بل نعدّهم إخواننا في الدين.

وذلك بعكس ما ينظره بعض العامة إلينا تماما ، إذ إنّهم يرون أنّ الشيعة أعداءهم ، فيتعاملون معهم معاملة العدوّ لعدوّه ، ولم تأتهم هذه النظرة بالنسبة إلى شيعة آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأتباع مذهب أهل بيت رسولهم الكريم ، إلاّ بسبب التقوّلات والأباطيل التي نشرت ضدّهم بواسطة الخوارج والنواصب وبني أميّة وأتباعهم من أعداء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعداء آله الكرامعليهم‌السلام ، وبسبب الاستعمار ـ في يومنا هذا ـ الذي هو ألدّ أعداء الإسلام والمسلمين ، والذي يخشى على منافعه ومطامعه من وحدة المسلمين واجتماعهم.

ومع الأسف الشديد فإنّ هذه التضليلات العدوانية أثّرت في قلوب وأفكار بعض أهل السّنة ، حتّى نسبونا إلى الكفر والشرك!

ويا ليت شعري هل فكّروا بأيّ دليل ذهبوا إلى هذا المذهب وفرّقوا بين المسلمين؟!

٤٣

ألم يفكّروا في نهي الله تعالى المسلمين عن التفرقة بقوله :( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (١) ؟

ثمّ أليس الله (عزّ وجلّ) ، وحده لا شريك له ، ربّنا جميعا ، والإسلام ديننا ، والقرآن كتابنا ، والنبيّ الكريم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيّين وسيّد المرسلين نبيّنا ، وقوله وفعله وتقريره سنّتنا ، وحلاله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، وأنّ الحقّ ما حقّقه ، والباطل ما أبطله ، ونوالي أولياءه ، ونعادي أعداءه ، والكعبة مطافنا وقبلتنا جميعا ، والصلوات الخمس ، وصيام شهر رمضان ، والزكاة الواجبة وحجّ البيت لمن استطاع إليه سبيلا ، فرائضنا ، والعمل بجميع الأحكام والواجبات والمستحبّات وترك الكبائر والمعاصي والذنوب مرامنا؟!

ألستم معنا في هذا كلّه؟!

أم إنّ شرعنا أو شرعكم ، وإسلامنا وإسلامكم غير ما بيّنّاه من الدين المبين؟؟!

وأنا على علم ويقين بأنّكم توافقوننا في كلّ ما ذكرناه ، وإن كان بيننا وبينكم شيء من الخلاف فهو كالخلاف الموجود فيما بينكم وبين مذاهبكم ، فنحن وأنتم في الإسلام سواء( كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (٢) .

إذن فلما ذا صار بعض العامة ينسبوننا إلى ما لا يرضى به الله ورسوله ، ويبغون الفرقة بيننا وبينهم ، وينظرون إلينا بنظر العداوة

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٠٣.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٢٨٥.

٤٤

والبغضاء؟! وهذا ما يتربّصه بنا أعداء الإسلام ويريده لنا الشيطان ، شياطين الإنس والجنّ ، قال تعالى في ذلك :( ... شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ ) (١) .

وقال تعالى :( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) (٢) فتارة يوقع الشيطان العداوة والبغضاء بين المسلمين بواسطة الخمر والميسر ، وتارة بواسطة التسويلات والأوهام التي يلقيها في قلوبهم عبر التهم والأباطيل التي ينشرها شياطين الإنس في أوساطهم.

ثانيا : سألت : من أين جاء هذا الاختلاف؟

فإنّي أقول لك وقلبي يذوب حسرة وأسفاً : لقد جاء هذا وغيره من الاختلافات الفرعية على أثر اختلاف جذري وخلاف أصولي ، ليس هذا الوقت مناسبا لذكره ، ولعلّنا نصل إليه في مباحثنا الآتية فنتعرّض له إذا دار النقاش حوله ، وحين ذاك ينكشف لكم الحقّ وتعرفون الحقيقة إن شاء الله تعالى.

ثالثا : وأمّا بالنسبة إلى مسألة الجمع والتفريق بين الصلاتين ، فإنّ فقهاءكم بالرغم من أنّهم رووا الروايات الصحيحة والصريحة في الرخصة وجواز الجمع لأجل التسهيل ورفع الحرج عن الامّة ، أوّلوها ـ كما عرفت ـ ثمّ أفتوا بعدم جواز الجمع من غير عذر أو سفر ، حتّى أنّ بعضهم ـ مثل أبي حنيفة وأتباعه ـ أفتوا بعدم جواز الجمع مطلقا

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية ١١٢ و ١١٣.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٩١.

٤٥

حتّى مع العذر والسفر(١) .

ولكنّ المذاهب الاخرى من الشافعية والمالكية والحنابلة على كثرة اختلافاتهم الموجودة بينهم في جميع الأصول والفروع أجازوا الجمع في الأسفار المباحة كسفر الحج والعمرة ، والذهاب إلى الحرب ، وما أشبه ذلك.

وأمّا فقهاء الشيعة ، فإنّهم تبعا للأئمّة الأطهار من آل النبي المختارصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الّذين جعلهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ميزانا لمعرفة الحقّ والباطل ، وعدلا للقرآن ، ومرجعا للامّة في حلّ الاختلاف ، وصرّح بأنّ التمسّك بهم وبالقرآن معا أمان من الفرقة والضلالة بعده ـ أفتوا بجواز الجمع مطلقا ، لعذر كان أم لغير عذر ، في سفر كان أم في حضر ، جمع تقديم في أوّل الوقت ، أم جمع تأخير في آخر الوقت ، وفوّضوا الخيار في الجمع والتفريق إلى المصلّي نفسه تسهيلا عليه ودفعا للحرج عنه ، وبما أنّ الله يحبّ الأخذ برخصه ، اختارت الشيعة الجمع بين الصلاتين ، حتّى لا يفوتهم شيء من الصلاة غفلة أو كسلا ، فجمعوا تقديما ، أو تأخيرا.

ولمّا وصل الكلام في الجواب عن الجمع بين الصلاتين إلى هنا قلت لهم : أرى الكلام عن هذه المسألة بهذا المقدار كافيا ، فإنّي أظنّ

__________________

(١) جاء في كتاب «عارضة الاحوذي بشرح صحيح الترمذي» للإمام الحافظ ابن العربي المالكي : ج ١ باب «ما جاء في الجمع بين الصلاتين».

قال علماؤنا : الجمع بين الصلاتين في المطر والمرض رخصة. وقال أبو حنيفة : بدعة وباب من أبواب الكبائر.

ثمّ يبدي الشارح رأيه فيقول : بل الجمع سنّة. «المترجم».

٤٦

بأنّ الشبهة قد ارتفعت عن أذهانكم وانكشف لكم الحقّ ، وعرفتم : أنّ الشيعة ليسوا كما تصوّرهم البعض أو صوّروهم لكم ، بل إنّهم إخوانكم في الدين ، وهم ملتزمون بسنّة النبي الكريم وبالقرآن الحكيم(١) .

عود على بدأ

قلت : والآن أرى أنّ من الأفضل أن نعود إلى حوارنا السابق ، ونتابع حديثنا حول المسائل الاصولية المهمّة ، فإنّ هناك مسائل اصوليّة أهمّ من هذه المسائل الفرعيّة ، فإذا توافقنا على تلك المسائل الاصولية ، فالموافقة على أمثال هذه المسائل الفرعية حاصلة بالتبع.

الحافظ : إنّني فرح بمجالسة عالم فاضل ومفكّر نبيل ، ومحادثة متفكّر ، ذي اطّلاع وافر على كتبنا ورواياتنا مثل جنابكم ، فقد بان لي فضلكم وعلمكم في أوّل مجلس جلسناه معكم ، وكما تفضّلتم ، فإنّ من الأفضل ـ الآن ـ أن نتابع حديثنا السابق.

__________________

(١) وأمّا دليلنا على جواز الجمع بين الصلاتين من القرآن الكريم قوله تعالى :( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ* إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) سورة الإسراء ، الآية ٧٨.

فالمواقيت التي بيّنها الله تعالى للصلوات اليومية في هذه الآية المباركة ، ثلاثة : ١ ـ دلوك الشمس ، وهو الزوال ، ٢ ـ غسق الليل ، ٣ ـ الفجر.

وقال تعالى :( أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ* وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) سورة هود ، الآية : ١١٤.

فالطرف الأوّل ـ من طرفي النهار ـ هو : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والطرف الثاني هو : من زوال الشمس إلى غروبها ، وزلفا من الليل ، أي : أوّل الليل ، وهو وقت زوال الحمرة بعد غروب الشمس. «المترجم».

٤٧

غير إنّي أستأذن سماحتكم لأقول متسائلا : لقد ثبت لنا بكلامكم الشيّق ، وبيانكم العذب ، أنّكم من الحجاز ، ومن بني هاشم ، فأحبّ أن أعرف ـ أنّكم مع هذا النسب الطاهر والأصل المنيف ـ ما حدا بكم حتّى هاجرتم من الحجاز وعلى الخصوص من المدينة المنوّرة ، مدينة جدّكم ومسقط رأسكم وسكنتم في إيران؟!

ثمّ في أيّ تاريخ كان ذلك ولما ذا؟!

قلت : إنّ أوّل من هاجر من آبائي إلى إيران هو الأمير السيّد محمد العابد ابن الإمام موسى بن جعفر (عليه الصلاة والسّلام) ، وكان فاضلا تقيّا ، عابدا زاهدا ، ولكثرة عبادته ـ إذ إنّه كان قائم الليل وصائم النهار وتاليا للقرآن الكريم في أكثر ساعات ليله ونهاره ـ لقّب بالعابد ، وكان يحسن الخطّ ويجيد الكتابة ، فصار يستغل فراغه باستنساخ وكتابة المصحف المبارك ، وكان ما يأخذه من حقّ مقابل كتابته يعيش ببعضه ، ويشتري بالزائد منه مماليك وعبيدا ويعتقهم لوجه الله (عزّ وجلّ) ، حتّى أعتق عددا كبيرا منهم بذلك.

ولمّا أدركته الوفاة وارتحل من الدنيا ودفن في مضجعه ، أصبح مرقده الشريف وإلى هذا اليوم مزارا شريفا لعامة المؤمنين في مدينة شيراز.

وأمر ابن الأمير أويس ميرزا معتمد الدولة ، ثاني أولاد الحاجّ فرهاد ميرزا معتمد الدولة ـ عم ناصر الدين شاه قاجار ـ بنصب ضريح فضّي ثمين على القبر الشريف ، وأمر بروضته المباركة ـ وهي مسجد لأداء الفرائض اليومية وإقامة الجماعة ، وتلاوة آيات الكتاب الكريم ، وقراءة الأدعية والصلوات المستحبّة ، أمر أن تزيّن بالمرايا وأنواع البلاط

٤٨

والرخام ، ليكون مأوى الزائرين الّذين يفدون إلى زيارة المرقد الشريف من كلّ صوب ومكان.

الحافظ : ما هو سبب هجرته من الحجاز إلى شيراز؟!

قلت : إنّ في أواخر القرن الثاني من الهجرة ، حينما أجبر المأمون الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه الصلاة والسلام) على الرحيل من مدينة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والهجرة إلى خراسان ، وفرض عليه الإقامة في طوس ، وذلك بعد أن قلّده ولاية العهد كرها ، وقع الفراق بين الإمام الرضاعليه‌السلام وبين ذويه وإخوته.

ولمّا طال الفراق ، اشتاق ذووه وإخوته وكثير من بني هاشم إلى زيارتهعليه‌السلام فاستأذنوهعليه‌السلام في ذلك فأذن لهم.

كما بعثوا كتابا إلى المأمون يطلبون منه الموافقة على سفرهم إلى طوس لزيارة أخيهم وإمامهم الرضاعليه‌السلام ، حتّى لا يصدّهم المأمون وجلاوزته وعمّاله عن قصدهم ، ولا يتعرّضوا لهم بسوء ، فوافق المأمون على ذلك ، وأبدى لهم رضاه ، فشدّوا الرحال ، وعزموا على السفر لزيارة الإمام الرضاعليه‌السلام ، فتحرّكت قافلة عظيمة تضمّ أبناء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذرّيّته ، وتوجّهت من الحجاز نحو خراسان ، وذلك عن طريق البصرة والأهواز وبوشهر وشيراز إلى آخره.

وكانت القافلة كلّما مرّت ببلد فيها من الشيعة والموالين لآل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انضمّ قسم كبير منهم إلى القافلة الهاشمية ، التي كان على رأسها السادة الكرام من إخوة الإمام الرضاعليه‌السلام ، وهم : الأمير السيّد أحمد المعروف ب : «شاه چراغ» والأمير السيّد محمد العابد وهو : «جدّنا الأعلى» والسيّد علاء الدين حسين ، أبناء الإمام

٤٩

موسى بن جعفرعليه‌السلام ، فكان الناس يلتحقون بهم طوعا ورغبة لينالوا زيارة إمامهم الرضاعليه‌السلام .

وعلى أثر ذلك ذكر المؤرّخون : بأنّ هذه القافلة حينما قربت من شيراز بلغ عدد أفرادها أكثر من خمسة عشر ألف إنسان ، بين رجل وامرأة ، وصغير وكبير ، وقد غمرهم جميعا شوق اللقاء ، وفرحة الوصال والزيارة.

فأخبر الجواسيس وعمّال الحكومة المأمون في طوس بضخامة القافلة وكثرة أفرادها ، وحذّروه من مغبّة وصولها إلى مركز الخلافة طوس ، فأوجس المأمون ـ من الأخبار الواصلة إليه عن القافلة الهاشمية ـ خيفة ، وأحسّ منها بالخطر على مقامه ومنصبه.

فأصدر أوامره إلى جواسيسه في الطريق ، وإلى حكّامه على المدن الواقعة في طريق القافلة الهاشمية ، يأمرهم فيها بأن يصدّوا القافلة عن المسير أينما وجدوها ، وأن يمنعوها من الوصول إلى طوس ، وكانت القافلة قد وصلت قريبا من شيراز حين وصل أمر الخليفة إلى حاكمها بصدّها ، فاختار الحاكم سريعا وعلى الفور أحد جلاوزته المسمّى : «قتلغ خان» وكان شديدا قاسيا ، وأمّره على أربعين ألف مقاتل ، وأمرهم بصدّ القافلة الهاشمية وردّها إلى الحجاز.

فخرج هذا الجيش الجرار من شيراز باتّجاه طريق القافلة وعسكر في «خان زنيون» وهو منزل يبعد عن شيراز ، ثلاثين كيلومترا تقريبا ، وبقوا يترصّدون القافلة ، وفور وصول القافلة إلى المنطقة وهي في طريقها إلى شيراز باتّجاه طوس ، بعث القائد «قتلغ خان» رسولا إلى السادة الأشراف ، وبلّغهم أمر الخليفة ، وطلب منهم الرجوع إلى

٥٠

الحجاز من مكانهم هذا فورا.

فأجابه الأمير السيّد أحمد ـ وهو كبيرهم ـ قائلا :

أوّلا : نحن لا نقصد من سفرنا هذا إلاّ زيارة أخينا الإمام الرضاعليه‌السلام في طوس.

وثانيا : نحن لم نخرج من المدينة المنوّرة ، ولم نقطع هذه المسافة البعيدة إلاّ بإذن من الخليفة وبموافقة منه ، ولهذا فلا مبرّر لصدّنا عن المسير.

ذهب الرسول وبلّغ مقالته إلى «قتلغ» ثمّ رجع وهو يقول : إنّ القائد قتلغ أجاب قائلا : بأنّ الخليفة أصدر إلينا أوامر جديدة تحتّم علينا وبكلّ قوّة أن نمنعكم من السفر إلى طوس ، ولعلّها أوامر أخرى اقتضتها الظروف الراهنة ، فلا بدّ لكم أن ترجعوا من هنا إلى الحجاز.

التشاور دأب النبلاء

وهنا أخذ الأمير السيّد أحمد يشاور إخوته وغيرهم من ذوي الرأي والحجى من رجال القافلة في الأمر ، فلم يوافق أحد منهم على الرجوع ، وأجمعوا على مواصلة السفر إلى خراسان مهما كلّفهم الأمر ، فجعلوا النساء في مؤخّر القافلة ، والأقوياء من الرجال المجاهدين في المقدّمة ، وأخذوا يواصلون سفرهم.

وتحرّك قتلغ خان بجيشه وقطع عليهم الطريق ، وكلّما نصحهم السادّة أبناء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتخلية الطريق لهم لم ينفعهم نصحهم ،

٥١

وانجرّ الموقف إلى المناوشة والمقاتلة ، ومنها شبّت نيران الحرب والقتال بين الطرفين ، فحمي الوطيس وانهزم جيش المأمون على أثر مقاومة بني هاشم وشجاعتهم.

فتوسّل قتلغ خان بالمكر والخديعة ، وأمر جماعة من رجاله أن يصعدوا على التلال ، وينادوا بأعلى أصواتهم : يا أبناء علي وشيعته! إن كنتم تظنّون أنّ الرضا سوف يشفع لكم عند الخليفة ، فقد وصلنا خبر وفاته ، وجلوس الخليفة في عزائه ، فلما ذا تقاتلون؟! فإن الرضا قد مات!!

أثّرت هذه الخديعة أثرا كبيرا في انهيار معنويات المقاتلين والمجاهدين ، فتفرّقوا في ظلام الليل وتركوا ساحة القتال ، وبقي أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحدهم ، فأمر الأمير السيّد أحمد إخوته ومن بقي معه أن يرتدوا ملابس أهل القرى ويتزيّوا بزيّهم ، ويتفرّقوا في سواد اللّيل ، ويتنكّبوا عن الطريق العامّ حتّى يسلموا بأنفسهم ولا يقعوا في يد قتلغ خان ورجاله ، فتفرّقوا من هنا وهناك ، في الجبال والقفار ، مشرّدين مطاردين.

وأمّا الأمير السيّد أحمد ، وكذا السيّد محمد العابد ، والسيد علاء الدين ، فقد دخلوا شيراز مختفين ، وانفرد كلّ منهم في مكان منعزل واشتغل بعبادة ربّه.

نعم ، يقال : إن المراقد المنسوبة الى آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إيران وخاصة النائية منها في القرى وبين الجبال ، أكثرها لأصحاب تلك الوقعة الأليمة.

٥٢

ترجمة الأمير السيّد أحمد

الأمير السيّد أحمد هو أخ الإمام الرضاعليه‌السلام ، وأفضل أولاد أبيه بعد أخيه الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام ، وأكثرهم ورعا وأتقاهم.

وهو الذي اشترى في حياته ألف عبد مملوك وأعتقهم لوجه الله ، ويلقّب باللقب المعروف : «شاه چراغ» وبعد أن نجّاه الله تعالى من تلك المعركة ، توجّه مختفيا مع أخويه إلى شيراز ، وأقاموا فيها متنكّرين متفرّقين.

ونزل السيّد أحمد في شيراز عند أحد الشيعة في محلّة «سردزك» وهو المكان الذي فيه مرقده الآن ، واختفى في بيت ذاك الموالي واشتغل بالعبادة.

وأمّا قتلغ خان ، فقد جعل العيون والجواسيس في كلّ مكان لاستقصاء أخبار السادة المشرّدين والعثور عليهم ، وبعد سنة تقريبا عرف مكان السيّد أحمد ، فحاصره مع رجاله ، وأبى السيّد أن ينقاد ويستسلم لعدوّه ، فقاتلهم ذابّا عن نفسه ، وأبدى شجاعة وشهامة هاشمية ، أعجبت الناس كلّهم ، وكان كلّما ضعف عن الحرب يلتجئ إلى منزله فيستريح فيه لحظات ثمّ يخرج ويدافع عن نفسه.

فلمّا رأى قتلغ أنّهم لا يستطيعون القضاء عليه عبر المواجهة المسلحة ، احتالوا عليه بالدخول إلى بيت جيرانه والتسلل إليه عبر ثغرة أحدثوها من بيت الجيران ، فلمّا دخل السيّد بيته ليستريح فيه قليلا ، خرجوا إليه وغدروا به ، فضربوه بالسيف على رأسه ، فخرّ صريعا ، ثمّ أمر قتلغ خان ، فهدموا البيت على ذلك الجسد الشريف وبقي تحت

٥٣

التراب والأنقاض.

ولمّا كان أغلب الناس في ذلك الزمان من المخالفين ، ولم يكونوا شيعة لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ القليل منهم ، وذلك على أثر الأكاذيب والأباطيل التي كانت تنشر بواسطة الدولة ورجالها ضدّهم ، لم يرعوا حرمة ذلك المكان ، ولا حرمة الجسد الشريف ، ولم يرقبوا فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل تركوه مدفونا تحت الأنقاض وأكوام التراب.

اكتشاف الجسد الشريف

وفي أوائل القرن السابع الهجري دخلت شيراز في ظلّ حكومة الملك أبي بكر بن سعد مظفّر الدين ، وكان مؤمنا صالحا يسعى لنشر الدين الإسلامي الحنيف ، ويكرم العلماء ، ويحترم المؤمنين الأتقياء ، ويحب السادة الشرفاء ، وكما قيل : «الناس على دين ملوكهم» كان وزراؤه ورجال دولته مثله ـ أيضا ـ مؤمنين أخيارا ، ومنهم : الأمير مسعود بن بدر الدين ، وكان كريما يحب عمران البلاد وإصلاح حال العباد ، فعني بتجميل مدينة شيراز وتنظيفها من الأوساخ ، وتجديد بناياتها وإصلاح خرائبها ، إذ إنّ شيراز كانت عاصمة ملكهم.

فأمر ـ في جملة ما أمر بإصلاحه ، وتجديد البناء فيه ـ إعمار المكان الذي كان يضمّ جسد الأمير السيّد أحمد منذ قرون ، فلمّا جاء عمّاله ومستخدموه إلى المكان وانهمكوا بنقل التراب والأنقاض منه إلى خارج البلد ، وصلوا أثناء العمل إلى جسد طريّ لشابّ جسيم وسيم ، قد قتل في أثر ضربة على رأسه انفلقت هامته ، فأخرجوه من بين الأنقاض ، وأخبروا الأمير مسعود بذلك ، فجاء هو بصحبة جماعة

٥٤

من المسئولين للتحقيق في الموضوع.

وبعد الفحص الكثير ، والتنقيب عن وجود أثر يدلّ على هويّة الشابّ القتيل عثروا على خاتم له كان قد نقش عليه : «العزّة لله ، أحمد ابن موسى» فأذعنوا لمّا رأوا ذلك ـ إضافة إلى ما كانوا قد سمعوه عن تاريخ ذلك المكان ـ أيضا ـ من أخبار الشجاعة الهاشمية التي أبداها أولاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنفسهم في الواقعة الأليمة التي دارت هناك وأدّت أخيرا إلى شهادة أحمد بن موسىعليه‌السلام ـ أنّ هذا الجسد هو جسد الأمير السيّد أحمد بن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام .

ولمّا شاهد الناس أنّ الجسد الشريف قد أخرج من تحت الأنقاض وأكوام التراب وذلك بعد أربعمائة عام من تاريخ شهادته وهو على نضارته طريّا لم يتغيّر ، عرفوا أنّ صاحبه ولىّ من أولياء الله تعالى ، وأيقنوا بحقانية التشيّع مذهب أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ إنّه كان من أولاد الرسول وعلى مذهب أهل البيت الذي استشهد في سبيله ومن أجله ، فتشيّع على أثر ذلك كثير من أهل شيراز.

ثمّ أمر مسعود بن بدر الدين ، أن يدفنوا الجسد الطاهر في نفس المكان الذي عثروا عليه فيه ، بعد أن حفروا له قبرا وصلّوا عليه ، ودفنوه في قبره مجلّلا محترما بحضور العلماء وأعيان شيراز ، كما وأمر أن يشيّدوا على مرقده عمارة عالية ذات رحبة واسعة لتكون مأوى للزائرين والوافدين وبقيت كذلك حتّى توفّي الملك مظفّر الدين سنة ٦٥٨ ه‍ ق.

وفي عام ٧٥٠ ه‍ ق لمّا آلت السلطة على بلاد فارس إلى الملك إسحاق بن محمود شاه ودخل مدينة شيراز ، كانت أمّه معه ، وهي

٥٥

الملكة «تاشي خاتون» وكانت امرأة صالحة ، فتشرّفت بزيارة ذلك المرقد الشريف ، وأمرت بترميم الروضة المباركة وإصلاحها ، كما وأمرت ببناء وتشييد قبّة جميلة جدا فوق مرقده ، وجعلت قرية «ميمند» الواقعة على بعد ما يقرب من ثمانين كيلومترا عن مدينة شيراز وقفا عليه ، وأمرت بأن يصرف واردها على تلك البقعة المباركة ، وهي باقية إلى يومنا هذا ، حيث يعمل المتولّون لها على قرار الوقف وينفقون واردها في شئونه ، ومحصولها حتّى اليوم : ماء ورد معروف بجودته وطيبه في العالم.

ترجمة الأمير السيّد علاء الدين حسين

السيّد علاء الدين هو أيضا من إخوة الإمام الرضاعليه‌السلام ، ومن أبناء الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وهو الذي دخل بصحبة أخويه متستّرا إلى شيراز ، وفارقهما مختفيا في مكان لا يعرفه أحد ، واشتغل فيه بالعبادة.

ثمّ مضت مدّة من الزمن وهو مختف ، وكان بالقرب من محل اختفائه بستان لقتلغ خان والسيّد لا يعرف أنّها لقتلغ خان ، فضاقت به الدنيا يوما وضاق صدره ، فخرج من مخبئه وأطلّ على البستان لينفّس عن ضيق صدره ويروّح نفسه قليلا ، فجلس في زاوية واشتغل بتلاوة القرآن ، فعرفه رجال قتلغ العاملون في البستان ، فحملوا عليه ، ولم يمهلوه حتّى قتلوه والقرآن في يده وآياته على شفتيه ، فما هالهم إلاّ أن رأوا أنّ الأرض تنشقّ وتضمّ جسده الشريف وتخفيه عنهم حتّى مصحفه الذي كان في يديه.

مرّت أعوام كثيرة على هذه الواقعة الأليمة ، ومات قتلغ وانمحى

٥٦

أثر البستان ، وتبدّلت حكومات ودول كثيرة في بلاد فارس ، حتّى جاء عهد الدولة الصفوية.

وفي عهد الصفويّين اتّسعت مدينة شيراز حتّى وصلت البيوت إلى الارض التي ضمت جسد السيّد علاء الدين ، فعند ما كانوا يحفرون فيها لوضع أساس للبناء ، عثروا على جثّة شابّ جميل كأنّه قتل من ساعته ، واضعا يده على قبضة سيفه والمصحف الكريم على صدره ، فعرفوا ممّا لديهم من العلائم والشواهد ، أنّه هو السيّد علاء الدين حسين بن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ـ وقيل : إنّهم وجدوا اسمه مكتوبا على جلد المصحف الكريم ـ فدفنوه بعد الصلاة عليه في محلّه.

وأمر حاكم شيراز أن يبنوا على قبره الشريف مكانا عاليا وبناء رفيعا ليتسع للمؤمنين والموالين الّذين يتوافدون لزيارته من كلّ صوب ومكان وبعد ذلك جاء رجل من المدينة المنوّرة ـ يدعى : الميرزا علي المدني ـ لزيارة مراقد السادة الشرفاء ، وكان ثريّا ومن الموالين لأهل البيت وذراريهم ، فقام بتوسيع البناء على مرقد السيّد علاء الدين ، وشيّد عليه قبّة جميلة ، واشترى أملاكا كثيرة فجعلها وقفا على ذلك المرقد الشريف ، وأمر بصرف وارداتها في شئونه ، كما وأوصى بأن يدفن بعد موته في جوار السيّد علاء الدين ، فلمّا مات دفنوه هناك ، وقبره اليوم في تلك البقعة المباركة معروف ، وقد كتب عليه اسمه ، وهو : «ميرزا علي المدني» ولا يزال المؤمنون يزورونه ويقرءون له الفاتحة.

ثمّ إنّه بعد ذلك أمر الملك إسماعيل الصفوي الثاني بتزيين ذاك البناء المشيّد وترميمه بأحسن وجه ، فنصبوا الكاشي والمرايا وزيّنوا الروضة المباركة بأفضل زينة ، وهو إلى الآن مزار عظيم ومشهد كريم ،

٥٧

يقصده المؤمنون من كلّ أنحاء إيران وغيرها ، وأهالي شيراز يكنّون له غاية الاحترام والتكريم.

قال بعض النسّابة : إنّ السيّد علاء الدين كان عقيما لا نسل له ، وقال بعض آخر : كان له نسل ولكن انقرضوا ، ولم يبق له منهم عقب وذرّيّة.

وكذلك الكلام في أخيه الأكبر السيّد أحمد فقد قالوا في حقّه : إنّه لم يكن له أولاد ذكور ، بل كانت له بنت واحدة فقط ، وذلك على ما في كتاب : «عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب».

وقال بعضهم : كان للسيّد أحمد أولاد ذكور أيضا.

ترجمة الأمير السيّد محمد العابد

السيّد محمّد ، الملقّب بالعابد ، هو : ثالث إخوة الإمام الرضاعليه‌السلام ، ورابع أولاد الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وهو الذي دخل شيراز بصحبة أخويه ، الأمير السيّد أحمد والسيد علاء الدين حسين ، وفارقهما إلى مكان مجهول ، مختفيا ومتنكّرا لا يعرفه أحد ، يعبد الله تعالى فيه حتّى وافاه الأجل ومات موتا طبيعيا ودفن فيها.

ومن كثرة عبادته لقّب بالعابد.

خلّف أولادا أجلاّء ، أفضلهم من حيث العلم والتقوى ، والزهد والورع ، هو : السيّد إبراهيم المعروف ب : «المجاب».

لقّب بهذا اللقب ، لأنّه عند ما تشرّف بزيارة قبر جدّه الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، ووقف مسلّما عليه ، أتاه جواب سلامه من داخل القبر الشريف ، فسمعه هو ومن حوله ، وعلى أثر هذه المنقبة أجلّه الناس وعظّموه واحترموه ، ولقّبوه بالمجاب.

٥٨

وبعد وفاة أبيه السيّد محمد العابد توجّه إلى زيارة العتبات المقدّسة ، وسكن بجوار قبر جدّه الشهيد الإمام الحسينعليه‌السلام ، وقريبا من قبر جدّه الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ليزورهما أيّ وقت شاء.

وكان موضع قبر الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قد ظهر حديثا وعرف في ذلك الزمان بعد ما كان مجهولا على الناس طيلة مائة وخمسين سنة تقريبا ، فظهر بكرامة قدسية لتلك البقعة المباركة ، وصار خبره آنذاك حديث اليوم ، يتناقله الناس في المحافل والمجالس.

الحافظ : عجيب! في أيّ حال كان مرقد أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه منذ دفنه إلى ذلك الزمان ، حتّى اكتشف بعد مائة وخمسين سنة ، هل كان مخفيّا على المسلمين طيلة هذه المدّة؟! ولما ذا اخفي عنهم؟؟!

قلت : لمّا استشهد أمير المؤمنين عليعليه‌السلام كان ذلك في زمن طغى فيه بنو أميّة ، ولمّا كانعليه‌السلام يرى بنور الله أن ستمتدّ حكومة معاوية بعده من الشام إلى الكوفة ، أوصى أن يدفن ليلا بلا علم من أحد ، وأمر بأن يعفى موضع قبره ، لذلك لم يحضر دفنه إلاّ أولاده وخواصّ شيعته.

ولكي يشتبه الأمر على الناس ويبقى محلّ القبر مجهولا عليهم ، جهّزوا في صبيحة يوم ٢١ من شهر رمضان سنة أربعين للهجرة بعيرين وعقدوا عليهما نعشين ، بعثوا أحدهما إلى مكّة ، والآخر إلى المدينة ، وهكذا نفّذت وصيّة أمير المؤمنينعليه‌السلام وأخفى موضع قبرهعليه‌السلام عن عامّة الناس.

الحافظ : هل يمكنك أن تخبرني ما هو سبب هذه الوصية؟ وما

٥٩

الحكمة في الإصرار على إخفاء القبر؟!

لما ذا دفن الإمام عليعليه‌السلام سرّا؟

قلت : نحن لا نعلم السبب والحكمة بالضبط ، ربّما كان ذلك لما يعلمهعليه‌السلام من حقد بني أميّة وعدائهم الدفين لبني هاشم عامة ، وللنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولآلهعليهم‌السلام خاصة ، فإنّه كان من المحتمل أن ينبشوا القبر الشريف ويسيؤها الأدب مع الجسد الطاهر ، وهو ظلم دونه كلّ ظلم!!

الحافظ : هذا الكلام غريب منكم وبعيد جدّا ، كيف يمكن لإنسان أن يتعدّى على قبر مسلم بعد موته ودفنه ، إنّه لا يكون مهما كان بينهم من العداء والبغضاء؟!

قلت : ولكن ذلك ليس ببعيد من بني أمّيّة!!

أما طالعت تاريخهم الأسود وماضيهم الحقود؟!

أما قرأت جرائمهم العظيمة وأعمالهم الفجيعة ، التي يندى منها جبين الإنسانية خجلا ، وتدمع عينها أسفا؟؟!

أما علمت أنّ هذه العصبة الخبيثة والشجرة الملعونة في القرآن ، لمّا قبضوا على زمام الحكم وغصبوا الخلافة ، كم من أبواب جور فتحوا؟! وكم من جناية وغواية ابتدعوا؟! وكم من دم سفكوا؟! وأعراض هتكوا؟! وأموال نهبوا؟! وحرمات انتهكوا؟!

إنّ أولئك البعيدين عن الإسلام والإنسانية ، لم يراعوا شيئا من الدين والأخلاق الحميدة في حركاتهم وسكناتهم. فكانوا يتصرّفون في شئون المسلمين حسب أهوائهم وآرائهم الفاسدة ، وإنّ كثيرا من كبار علمائكم ومؤرّخيكم سجّلوا جرائم هذه الطغمة الفاسدة بحبر من عرق

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

٦٩٣ ـ اغتنموا الفرص فإنها تمرّ مرّ السحاب :

(سيد الشهداء للسيد مصطفى الاعتماد ، ص ٦٣)

لقد صدق الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام حيث قال :

«اغتنموا الفرص ، فإنها تمرّ مرّ السحاب».

وأية فرصة مواتية كهذه الفرصة التي سنحت لعبيد الله بن الحر الجعفي ، حيث جاءه الحسينعليه‌السلام يتخطى الأرض بقدميه ، وهو يدعوه إلى النجاة والتشرف بمثل هذا المصرع العظيم الّذي تتمناه الملايين من البشر ، فيعرض عنها ، ويندم بعده بما يشاء الندم ، فلم ينفع الظالمين الندم ، بعد تفويتهم الفرصة ، مكابرة وعنادا ، أو تجهّلا وغباء( يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) (٥٢) [غافر : ٥٢].

٦٩٤ ـ شخصان يعتذران عن نصرة الحسينعليه‌السلام :

(مقتل الحسين للمقرم ، ص ٢٢٦ ط ٣ نجف)

وفي هذا الموضع اجتمع بالحسينعليه‌السلام عمرو بن قيس المشرقي وابن عمه ، فقال لهما الحسينعليه‌السلام : جئتما لنصرتي؟. قالا له : إنا كثيرو العيال ، وفي أيدينا بضائع للناس ، ولم ندر ماذا يكون ، ونكره أن نضيّع الأمانة.

فقال لهماعليه‌السلام : انطلقا فلا تسمعا لي واعية ، ولا تريا لي سوادا ، فإنه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا ، فلم يجبنا أو يغثنا ، كان حقا على اللهعزوجل أن يكبّه على منخريه في النار(١) .

٦٩٥ ـ محاورة الحسينعليه‌السلام مع ابنه علي الأكبرعليه‌السلام وقد رأى رؤيا أثناء رحيله من قصر بني مقاتل :

(لواعج الأشجان ، ص ٨٧)

فلما كان آخر الليل أمر الحسينعليه‌السلام فتيانه فاستقوا من الماء ، ثم أمر بالرحيل.ثم ارتحل من (قصر بني مقاتل) ليلا.

__________________

(١) عقاب الأعمال للصدوق ص ٣٥ ؛ ورجال الكشّي ص ٧٤.

٥٨١

قال عقبة بن سمعان : فسرنا معه ساعة ، فخفق وهو على ظهر فرسه خفقة(١) [الخفقة : النومة اليسيرة] ثم انتبه ، وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين. وكرر ذلك مرتينأو ثلاثا.

فأقبل إليه ابنه علي بن الحسينعليهما‌السلام فقال : يا أبة جعلت فداك ، ممّ حمدت واسترجعت؟. قال : يا بني إني خفقت برأسي خفقة ، فعنّ لي فارس على فرس ، وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم ، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا.

فقال له علي الأكبرعليه‌السلام : يا أبة لا أراك الله سوءا ، ألسنا على الحق؟!. قال :بلى والذي إليه مرجع العباد. قال : إذن لا نبالي أن نموت محقّين. فقال له الحسينعليه‌السلام : جزاك الله من ولد ، خير ما جزى ولدا عن والده.

[قرى طف كربلاء]

«نينوى»

٦٩٦ ـ الحسينعليه‌السلام يتياسر حتّى يصل إلى نينوى :

(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٨٨)

فلما أصبح الحسينعليه‌السلام نزل فصلى الغداة ، ثم عجّل الركوب. فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرّ بهم ، فيأتيه الحرّ فيردّه وأصحابه. فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة ردا شديدا يتياسرون كذلك ، حتّى انتهوا إلى (نينوى).

٦٩٧ ـ كتاب ابن زياد إلى الحر بالتضييق على الحسينعليه‌السلام :

(المصدر السابق)

فإذا براكب على نجيب له وعليه السلاح متنكب قوسا ، مقبل من الكوفة ، وهو مالك بن النّسر الكندي ، فوقفوا جميعا ينتظرونه. فلما انتهى إليهم سلّم على الحر وأصحابه ، ولم يسلّم على الحسينعليه‌السلام وأصحابه. ودفع إلى الحر كتابا من ابن

__________________

(١) كذا في تاريخ الطبري ج ٦ ص ٢٣١ ؛ وفي مقتل الخوارزمي ج ١ ص ٢٢٦ ومناقب ابن شهراشوب ج ٢ ص ٢٤٥ : أن الحسينعليه‌السلام رأى ذلك في (الثعلبية). وفي مقتل العوالم ص ٤٨ أنهعليه‌السلام نام القيلولة في (العذيب) ، ومثل ذلك في مقتل أبي مخنف ص ٤٨. ذكر هذا كله السيد المقرم في مقتله من حاشية ص ٢٢٧.

٥٨٢

زياد ، فإذا فيه : أما بعد ، فجعجع بالحسين [أي ضيّق عليه واحبسه] حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي ، ولا تنزله إلا بالعراء ، في غير حصن ولا ماء. (وفي مثير ابن نما : لأنه عات ظلوم). وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتّى تأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام.

٦٩٨ ـ الحر يمنع الحسينعليه‌السلام من نزول (نينوى) أو (الغاضرية) أو (شفية)(١) :

(المصدر السابق)

فعرض لهم الحر وأصحابه ومنعوهم من المسير ، وأخذهم الحر بالنزول في ذلك المكان ، على غير ماء ولا قرية.

فقال الحسينعليه‌السلام : ويلك ما دهاك ، ألست قد أمرتنا أن نأخذ على غير الطريق ، فأخذنا وقبلنا مشورتك؟. فقال الحر : صدقت يابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن هذا كتاب الأمير عبيد الله قد وصل يأمرني فيه بالتضييق عليك.

فقال له الحسينعليه‌السلام : دعنا ويحك ننزل هذه القرية (يعني : نينوى) أو هذه (يعني : الغاضرية) أو هذه (يعني : شفية). فقال : لا أستطيع ، هذا رجل قد بعث عليّ عينا.

٦٩٩ ـ من كلام لهعليه‌السلام وقد دعاه زهير بن القين إلى مبادءة أصحاب الحر بالقتال بعد أن منعوه من نزول نينوى :

(مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢٣٤)

فقال للحسينعليه‌السلام رجل من أصحابه يقال له زهير بن القين البجلي :

يابن رسول الله ذرنا نقاتل هؤلاء القوم ، فإن قتالنا إياهم الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا معهم بعد هذا(٢) فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به. فقال له الحسينعليه‌السلام : صدقت يا زهير ، ولكن ما كنت لأبدأهم بالقتال حتّى يبدؤوني.

__________________

(١) انظر التعريف ببعض قرى الطف بعد قليل ، مع المصور الجغرافي لفرع نهر الفرات المار قريبا من كربلاء ، والمسمى : نهر العلقمي (الشكل ١١).

(٢) مناقب ابن شهراشوب ج ٣ ص ٢٤٧ ط نجف.

٥٨٣

فقال له زهير : فسر بنا حتّى ننزل كربلاء(١) فإنها على شاطئ الفرات ، فنكون هناك ، فإن قاتلونا قاتلناهم واستعنا بالله عليهم. فدمعت عينا الحسينعليه‌السلام حين ذكر (كربلاء) وقال : الله م إني أعوذ بك من الكرب والبلاء.

(وفي مقتل المقرم ، ص ٢٢٨) : قال زهير بن القين : يابن رسول الله إن قتال هؤلاء أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا ما لا قبل لنا به. فقال الحسينعليه‌السلام : ما كنت لأبدأهم بقتال. ثم قال زهير : ههنا قرية بالقرب منا على شط الفرات ، وهي في عاقول(٢) حصينة ، والفرات يحدق بها إلا من وجه واحد.قال الحسينعليه‌السلام : ما اسمها؟. فقال : تسمى العقر(٣) . فقالعليه‌السلام : نعوذ بالله من العقر. والتفت الحسين إلى الحر وقال : سر بنا قليلا ثم ننزل. فساروا جميعا حتّى إذا أتوا أرض كربلاء وقف الحر وأصحابه أمام الحسينعليه‌السلام ومنعوهم عن المسير ، وقالوا : إن هذا المكان قريب من الفرات.

ويقال : بينا هم يسيرون إذ وقف جواد الحسينعليه‌السلام ولم يتحرك ، كما أوقف الله ناقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الحديبية. فعندها سأل الحسين عن الأرض؟ فقال له زهير : سر راشدا ولا تسأل عن شيء حتّى يأذن الله بالفرج. إن هذه الأرض تسمى الطف(٤) . فقالعليه‌السلام : فهل لها اسم غيره؟. قال : تعرف كربلاء. فدمعت عيناه وقال : الله م أعوذ بك من الكرب والبلاء ، ههنا محطّ ركابنا ومسفك دمائنا

__________________

(١) كربلاء : موضع في طريق البرية عند الكوفة. وتقع كربلاء على خط الطول ٤٣ درجة و ٥٥ دقيقة شرقي غرينتش ، وعلى خط العرض ٣٤ درجة و ٤٥ دقيقة شمال خط الاستواء ، في المنطقة المعتدلة الشمالية. وذكر المؤرخون أن كربلاء كانت في عهد البابليين معبدا ، وأن اسمها محرّف من كلمتي (كرب) بمعنى معبد أو مصلّى أو حرم ، و (أبلا) بمعنى (إله) باللغة الآرامية ، فيكون معناها (حرم الإله).

(٢) العاقول : منعطف الوادي والنهر.

(٣) جاء في كتاب (الحسين في طريقه إلى الشهادة) ص ١٢٨ أن هناك قريتين مندرستين تقعان على الفرات جنوب الأنبار (الفلوجة اليوم) يقال لهما عقر الغربي ، وهي التي أشار إليها زهير على الحسينعليه‌السلام أن ينزل بها.

(٤) الطف في اللغة : ما أشرف من أرض العرب على ريف العراق. وسمي (الطف) لأنه مشرف على العراق ، من أطفّ على الشيء ، بمعنى أطلّ. وطف الفرات : هو الشاطئ الّذي به قتل الحسينعليه‌السلام وأصحابه ، وهي أرض بادية قريبة من الريف.

٥٨٤

ومحل قبورنا. (وفي لواعج الأشجان ، ص ١٠٣ : ههنا مناخ ركابنا ومحط رحالنا ومقتل رجالنا ومسفك دمائنا) بهذا حدّثني جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

٧٠٠ ـ تعريف ببعض قرى طف كربلاء :

ينقسم نهر الفرات عند وصوله إلى منطقة كربلاء إلى فرعين :

ـ الأول : فرع شرقي ، يشكل شط الحلة أو (سورا).

ـ الثاني : فرع غربي ، يشكل نهر العلقمي ، وهو يمرّ قريبا من كربلاء في الشمال ، ثم يمرّ من الكوفة في الجنوب ، وكان لذلك يسمى : شط الكوفة ، ويسمى اليوم شط (الهندية).

ويقع على نهر العلقمي في الشمال تجمّع قرى طف كربلاء (انظر الشكل ١١ التالي) مثل : نينوى والغاضرية وشفية والعقر.

ـ فأما (نينوى) : فتقع شرق كربلاء على الضفة الشرقية لنهر نينوى ، الّذي يتفرع عن الفرات الأصلي.

وقال شيخنا المظفر : كانت نينوى قرية مسكونة ، وأراد الحسينعليه‌السلام النزول بها ، فمنعه الحر.

وفي (مجلة المقتبس ، ج ١٠ سنة ١٣٣٠ ه‍) : كانت نينوى من قرى الطف الزاهرة بالعلوم ، وصادف عمرانها زمن الإمام الصادقعليه‌السلام . وفي أوائل القرن الثالث لم يبق لها خبر.

ومنطقة نينوى تمتد من أراضي السليمانية اليوم إلى سور بلدة كربلاء. ولا بأس أن ننوه بأن نينوى هذه هي غير (نينوى) التي في شمال العراق ، الواقعة على الضفة الشرقية لنهر دجلة في محاذاة الموصل.

ـ وأما (الغاضرية) أو الغاضريات : نسبة إلى غاضرة ، وهي امرأة من بني عامر ، وهم بطن من أسد ، كانوا يسكنون هذه الأرض. وتقع اليوم شمالي

(الهيابي) التي فيها مصانع الآجر. وتبعد شمالا عن بلدة كربلاء كيلومترا تقريبا ، وهي تمتد من (لجنقة) فما دونها إلى بلدة كربلاء.

ـ وأما (شفية) : فهي بئر لبني أسد.

ـ وأما (العقر) : فقد كانت بها منازل بخت نصّر.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٠ ص ١٨٨ ؛ واللهوف على قتلى الطفوف ، ص ٤٥.

٥٨٥

(الشكل ١١) : خارطة كربلاء يوم ورود الحسين (ع) إليها

مأخوذة من كتاب (بغية النبلاء في تاريخ كربلاء للسيد عبد الحسين الكليدار)

(الشكل ١٢) مصور الحائر الحسيني والمخيّم والقبر الشريف

٥٨٦

٧٠١ ـ جواد الحسينعليه‌السلام يتوقف عن المسير في كربلاء :

(المنتخب لفخر الدين الطريحي ، ص ٤٣٩ ط ٢)

فسار الحسينعليه‌السلام والحر ، حتّى انتهوا إلى أرض كربلاء ، إذ وقف الجواد الّذي تحت الحسينعليه‌السلام ولم ينبعث من تحته ، وكلما حثّه على المسير لم ينبعث خطوة واحدة. فقال الإمامعليه‌السلام : يا قوم ما يقال لهذه الأرض؟. فقالوا : نينوى.فقال : هل لها اسم غير هذا؟. قالوا : نعم ، تسمى (كربلاء). فعند ذلك تنفّس الصعداء ، فقال : هذه والله كرب وبلاء. ههنا والله ترمّل النسوان ، وتذبّح الأطفال ، وههنا والله تهتك الحريم. فانزلوا بنا يا كرام. فههنا محل قبورنا ، وههنا والله محشرنا ومنشرنا ، وبهذا أوعدني جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا خلف لوعده.

٧٠٢ ـ ما اسم هذه الأرض؟ :

(أخبار الدول للقرماني ، ص ١٠٧)

ذكر الدميري في (حياة الحيوان) أن الحسينعليه‌السلام لما وصل إلى كربلاء سأل عن اسم المكان؟. فقالوا له : كربلاء ، فقال : كرب وبلاء. لقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين ، وأنا معه. فوقف ، وسأل عن هذا المكان؟. وقال : ههنا محطّ ركابهم ، وههنا مهراق دمائهم. فسئل عن ذلك؟. فقال : نفر من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقتلون ههنا ثم أمر بأثقاله فحطّت في ذلك المكان.

٧٠٣ ـ سؤال الحسينعليه‌السلام عن اسم كربلاء ، وخبر القارورة :

(تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ، ص ٢٥٩ ط ٢ نجف)

ثم قال الحسينعليه‌السلام : ما يقال لهذه الأرض؟. فقالوا : كربلا ، ويقال لها أرض نينوى ، قرية بها. فبكى ، وقال : كرب وبلاء. أخبرتني أم سلمة قالت : كان جبرئيل عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنت معي ، فبكيت ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعي ابني ، فتركتك. فأخذك ووضعك في حجره. فقال جبرئيل : أتحبه؟. قال : نعم. قال : فإن أمتك ستقتله!. قال : وإن شئت أن أريك تربة أرضه التي يقتل فيها؟. قال : نعم.قالت : فبسط جبرئيل جناحيه على أرض كربلاء فأراه إياها.

فلما قيل للحسينعليه‌السلام : هذه أرض كربلاء ، شمّها وقال : هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنني أقتل فيها. (وفي رواية) :فقبض منها قبضة فشمّها.

٥٨٧

٧٠٤ ـ أول نزول الحسينعليه‌السلام كربلاء :

(الفاجعة العظمى للسيد عبد الحسين الموسوي الحائري ، ص ١١٧)

قال في (روضة الشهداء) : فلما سمع الحسينعليه‌السلام باسم [كربلاء] نزل عن الفرس. فلما وطئ الأرض بأقدامه الشريفة تغيّر لون التراب وصار كلون الزعفران ، وسطع منه غبار علا وجهه ولحيته بحيث اغبرّ رأسه ولحيته الشريفة. فنظرت أم كلثومعليها‌السلام إليه ، قالت : واعجباه من هذه البيداء ، ما أشدّ وأعظم هولها ، أرى منها هولا عظيما. فسلّاها الحسينعليه‌السلام .

٧٠٥ ـ الحسينعليه‌السلام ينعى نفسه :(المصدر السابق)

وفي بعض كتب التواريخ : أن الحسينعليه‌السلام أخذ من تراب كربلاء وشمّها ، وقال : ههنا والله تخضب لحيتي بدمي. ههنا والله تقطّع أوداجي ، ويعزّى جدي وأبي وأمي من ملائكة السماء. هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيلعليه‌السلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأني أقتل فيها.

٧٠٦ ـ نزول كربلاء :

(في سير أعلام النبلاء للذهبي ، ج ٣ ص ٣٠٨) : فعدل الحسينعليه‌السلام

إلى كربلاء ، وأسند ظهره إلى [قصميا] ، (وفي تذكرة الخواص لسبط

ابن الجوزي ، ص ٢٥٧ : إلى [قصب]) حتّى لا يقاتل إلا من وجه واحد. وكان معه خمسة وأربعون فارسا ، ونحو من مئة راجل.

٧٠٧ ـ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ :

(الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري ج ٢ ، ص ٥)

قال : فلقيه الجيش على خيولهم بوادي السباع ، فلقوهم وليس معهم ماء.فقالوا : يابن بنت رسول الله ، اسقنا. قال : فأخرج لكل فارس صحفة من ماء ، فسقاهم بقدر ما يمسك برمقهم. ثم قالوا : سر يابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما زالوا يرجونه ، وأخذوا به على الجرف ، حتّى نزلوا بكربلاء.

فقال الحسينعليه‌السلام : أي أرض هذه؟. قالوا : كربلاء. قال : هذا كرب وبلاء.قال : فنزلوا وبينهم وبين الماء ربوة ، فأراد الحسينعليه‌السلام وأصحابه الماء ، فحالوا بينهم وبينه!. فقال له شهر بن حوشب : لا تشربوا منه حتّى تشربوا من الحميم!.

٥٨٨

الباب الخامس

في كربلاء

الفصل ١٨ ـ كربلاء ونزول كربلاء

ـ اليوم الثالث من المحرّم : لقاء عمر بن سعد

ـ اليوم السادس من المحرم : تجهيز الجيوش

ـ اليوم السابع من المحرم : الحصار ومنع الماء

الفصل ١٩ ـ اليوم التاسع من المحرّم : خطبة امتحان الأصحاب

ـ ليلة العاشر من المحرم : صلاة ودعاء

الفصل ٢٠ ـ يوم عاشوراء : خطبة الحسينعليه‌السلام الأولى والثانية

ـ فهارس الجزء الأول من الموسوعة

٥٨٩
٥٩٠

الفصل الثامن عشر

في كربلاء

(الخميس ٢ محرم سنة ٦١ ه‍)

وكان نزول الحسينعليه‌السلام في كربلاء يوم الخميس الثاني من شهر المحرّم سنة ٦١ هجرية. وقد قطع في مسيرته ستة عشر منزلا ، مكث في بعضها يوما أو يومين أو ثلاثة أيام ، وكان مجموع سفره ٢٤ يوما.

* تعريف بالباب الخامس :

يشمل هذا الباب إقامة الحسينعليه‌السلام في كربلاء من اليوم الثاني من المحرم وحتى اليوم العاشر منه ، حين وضع عمر بن سعد السهم في كبد قوسه ، وقال :اشهدوا لي عند الأمير أنني أول من رمى. فينتهي بذلك الجزء الأول من الموسوعة ، ليبدأ الجزء الثاني مع بداية القتال يوم عاشوراء.

وسوف يتمّ تقسيم هذا الباب إلى فصول متميزة حسب التوقيت الزمني للأيام التسعة التي قضاها الحسينعليه‌السلام في كربلاء ففي اليوم الثاني قامعليه‌السلام بنصب الخيام وترتيبها. وفي اليوم الثالث التقى مع طلائع جيش عمر بن سعد الذين جاؤوا لقتاله. وفي اليوم السادس وردت عليه الجيوش إلى كربلاء حتّى تكاملت ثلاثين ألفا. وفي اليوم السابع جاء الأمر من ابن زياد بمنع الماء عن الحسينعليه‌السلام ، فنزل عمرو بن الحجاج واستحل مشرعة الفرات ، وبدأ الحصار على الحسينعليه‌السلام .وفي الأثناء كانت المفاوضات تتمّ بين الحسينعليه‌السلام وعمر بن سعد دون جدوى.وفي اليوم التاسع من المحرم بدأ زحف الجيش الأموي نحو مخيّم الحسينعليه‌السلام ، فطلب منهم الحسينعليه‌السلام بواسطة أخيه العباس الإمهال إلى اليوم التالي ليقضوا آخر ليلة من حياتهم بالصلاة والدعاء. ثم يشمل الفصل الأخير حوادث اليوم العاشر من المحرم ، من الصباح وحتى بدء القتال بعد صلاة الظهر وسوف نبدأ هذا الباب بإعطاء لمحة عن نهر الفرات ، ثم عن كربلاء : تاريخها وجغرافيتها وفضلها.

٥٩١

«نهر الفرات»

٧٠٨ ـ مجرى نهر الفرات :

ينبع نهر الفرات من تركيا ، ثم يمرّ بسورية حيث يرفده البليخ عند الرقة ، والخابور عند البصيرة. ثم يدخل الأراضي العراقية عند (البوكمال) فيمرّ بعانة وهيت والرمادي [انظر المصور] ثم الفلوجة والمسيّب ، حيث ينقسم إلى فرعين.

(الشكل ١٣) : مجرى نهر الفرات ودجلة

يقول الأستاذ طه الهاشمي في كتابه (مفصّل جغرافية العراق) ص ١٤٧ : وفي جنوب قرية المسيّب الواقعة على الضفة اليسرى ، ينقسم نهر الفرات إلى فرعين :الفرع الغربي ويسمى بشط الهندية ، والفرع الشرقي ويسمى بشط الحلة.

وفى شمال (السماوة) قليلا يجتمع الفرعان معا [انظر الشكل ١٣ و ١٤].

٥٩٢

وعندما قلّت المياه في شط الحلة ، شيّدوا سدة الهندية لتوزيع المياه بشكل متساو على الفرعين. وهو يقع جنوب المسيب وعلى بعد ٥ أميال ، حيث يفترق الفرعان.

وقد كان شط الهندية يدعى قديما (شط الكوفة) لأنه يمرّ من الكوفة. وقد سماه بعض المؤرخين العرب : نهر العلقمي أيضا.

وبعد اجتماع الفرعين ، يلتقي نهر الفرات بنهر دجلة في شط العرب الّذي يصب في الخليج العربي [طول نهر الفرات الكلي ٢٧٣٦ كم].

يقول المسعودي في (التنبيه والإشراف) : ثم ينقسم الفرات إلى جهتين : قسم منهما يتوجه يسيرا نحو المغرب يسمى (العلقمي) يمرّ بالكوفة وغيرها ، والقسم الآخر يسمى (سورا) يمرّ بمدينة سورا ، ويسقي كثيرا من أعمال السواد.

ولا بأس أن ننوه بأن مجاري الأنهار القديمة تختلف كثيرا عن مجاريها الحالية ، بفعل العوامل الطبيعية ، فكم من أنهار قد انتقلت من مكانها إلى مكان آخر ، وكم من شاطئ كان بحرا في الماضي ثم أصبح اليوم أرضا يابسة ، كما حصل لمصب شط العرب في الخليج ، فقد كانت البصرة في الماضي ميناء على البحر ، واليوم تبعد عنه عدة كيلومترات.

وأغلب الظن أن مجرى نهر الفرات الّذي كانت الكوفة عليه ، قد ابتعد باستمرار باتجاه الشرق حتّى أصبح على ما هو عليه اليوم.

٧٠٩ ـ نهر العلقمي :(نهضة الحسين لهبة الدين الشهرستاني ، ص ٩٠)

يقول السيد هبة الدين : وأما نهر الفرات ، فكان عموده الكبير ينحدر من أعاليه يسقي القرى إلى ضواحي الكوفة. وكذلك ينشق من عمود النهر من شمالي المسيب نهر كفرع منه ، يسيل على بطاح ووهاد شمال شرقي كربلاء ، حتّى ينتهي إلى قرب مثوى سيدنا العباسعليه‌السلام ثم إلى نواحي الهندية ، ثم ينحدر فيقترن بعمود الفرات في شمال غربي قرية ذي الكفل ، ويسمى حتّى اليوم (العلقمي).

وفي (مدينة الحسين) لمحمد حسن مصطفى آل كليدار ، ج ٢ ص ٤ ، يقول :

سمي فرع الفرات القريب من كربلاء (بالعلقمي) لأحد سببين :

١ ـ ذهب فريق من المؤرخين إلى الاعتقاد بأن القسم المحاذي من هذا النهر لطف كربلاء قد كلّف بحفره رجل من بني علقمة ، بطن من تميم ، جدهم علقمة بن زرارة بن عدس ، فسمي النهر (بالعلقمي).

٥٩٣

(الشكل ١٤) : مصور نهر دجلة والفرات ، والمواقع الهامة عليهما

٥٩٤

٢ ـ والفريق الثاني من المؤرخين قالوا : سمي النهر بالعلقمي لكثرة شجر العلقم (الحنظل) حول حافتي النهر. ذكر ذلك النويري في كتابه (بلوغ الأرب في فنون الأدب).

ونهر العلقمي هو الّذي ملكه عمرو بن الحجاج بأمر من ابن زياد ، فبعث خمسمائة من خيله فاستحلوه ، ومنعوا الحسينعليه‌السلام من الوصول إليه منذ اليوم السابع. وقد حاول العباسعليه‌السلام الاستسقاء منه أكثر من مرة ، وفي المرة الأخيرة استشهد وهو راجع منه ، يحمل القربة إلى الأطفال الظمأى والنساء العطشى. وكان على ضفة النهر بعض النخيل.

وقد صاغ بعض الشعراء أبياتا فيها تورية بين (العلقمي) والعلقم ، مؤداها أن نهر العلقمي ليته كان علقما إذ لم يشرب منه العباسعليه‌السلام حين ذهب للاستسقاء ، فقتل قرب النهر دون أن يشرب ، يقول :

وهوى بجنب العلقميّ فليته

للشاربين به يداف العلقم

وفي حين نقل الحسينعليه‌السلام كل المستشهدين إلى مكان واحد قريبا من المخيم ، فإن العباس هو الوحيد الّذي ترك في مكانه ، ودفن في مكان استشهاده الّذي يبعد ٣٥٠ مترا شرق مرقد الحسينعليه‌السلام وقريبا من النهر.

ملفّ كربلاء

٧١٠ ـ مدينة كربلاء :

(أضواء على معالم محافظة كربلاء لمحمد النويني ، ص ٢٥)

تقع مدينة كربلاء في الجنوب الغربي من بغداد ، على بعد ١٠٥ كم ، وتقع شمال غرب الكوفة على بعد ٧٢ كم. وهي تقع في بقعة يحيط بها النخيل الوارف ، تحفّها بساتين الفاكهة. وفيها مرقد مولانا الحسينعليه‌السلام وأخيه العباسعليه‌السلام بمنائرهما وقبابهما الذهبية.

والملاحظ أن كربلاء بعيدة قليلا عن ماء الفرات (نهر العلقمي). ويسمى المكان الّذي نزل فيه الحسينعليه‌السلام يوم الثاني من المحرم وخيّم فيه هو وأصحابه (بالمخيّم) ويقع جنوب غرب مرقد الحسينعليه‌السلام . ويسمى الجزء من نهر العلقمي القريب من المرقد (المسنّاة) وهو الّذي حاول العباسعليه‌السلام الاستسقاء منه وقتل قريبا منه ، حيث قبره الآن (انظر الشكل ١٢).

٥٩٥

٥٩٦

ويخترق اليوم مدينة كربلاء طولا فرع من نهر الحسينية لتأمين الشرب ، وهو يتفرع عن الفرات بالقرب من سدّ الهندية.

ويبلغ تعداد مدينة كربلاء حوالي مائة ألف نسمة ، وهي أصغر من النجف حيث قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام .

ولم تكن كربلاء في العهد القديم قبل الفتح الاسلامي بلدة تستحق الذكر ، بل كانت قرية بسيطة عليها مزارع وضياع الدهّاقين الفرس.

٧١١ ـ حال كربلاء قبل الإسلام :(الأرض والتربة الحسينية ، ص ٣٧)

يصف أحدهم مزايا هذه الأرض الطبيعية وما كان لها من المكانة والحرمة عند الأمم القديمة قبل الإسلام بقوله : وإن أسمى تلك البقاع وأنقاها تربة ، وأطيبها طينة ، وأزكاها نفحة ، هي تربة كربلاء ، تلك التربة الحمراء الزكية ، وكانت قبل الإسلام قد اتخذت نواويس ومعابد ومدافن للأمم الغابرة ، كما يشير به كلام الإمام الحسينعليه‌السلام في خطبته حيث يقول : «كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين (النواويس) وكربلاء».

٧١٢ ـ مكانة كربلاء بعد الاسلام :

مدينة كربلاء المقدسة من أهم مدن العراق ، تمتاز بقدسيتها وبتاريخها الحافل بالأمور العظام والحوادث الجسام.

فقد أخبرتنا الأسفار التاريخية عن معارك خطيرة دارت رحاها في ربوع هذه المحافظة ، منها معركة القادسية بين العرب والفرس سنة ١٤ ه‍ ، التي انتصر فيها المسلمون على أعظم امبراطورية فارسية ، بقيادة سعد بن أبي وقاص في خلافة عمر ابن الخطاب. والقادسية تبعد عن الكوفة جنوبا بمقدار مرحلة [أي حوالي ٤٥ كم].

ثم كانت معركة كربلاء سنة ٦١ ه‍ ، التي كانت أكبر معركة تصحيحية في صدر الإسلام. فزادت قدسية كربلاء منذ أن حلّ فيها ثاني السبطين وريحانة رسول الله الحسينعليه‌السلام .

٧١٣ ـ اشتقاق اسم كربلاء :

تعددت الآراء حول أصل تسمية (كربلاء) نذكر منها ستة آراء :

١ ـ فالكربلة : رخاوة في القدمين ، يقال : جاء يمشي مكربلا. فيجوز على هذا أن تكون أرض هذا الموضع رخوة ، فسميت كربلاء.

٥٩٧

٢ ـ ويقال كربلت الحنطة : إذا هذّبتها ونقّيتها. فيجوز على هذا أن تكون هذه الأرض منقّاة من الحصى والدّغل ، فسميت بذلك.

٣ ـ الكربل : اسم ورد أحمر ، قد نبت في هذه الأرض ، فسميت الأرض باسم كربلاء.

٤ ـ وقيل : إن اسمها مأخوذ من كرب وبلاء ، لأنها من أول ما خلقت هذه الأرض كانت محلا للبلاء والهول والاضطراب حتّى أن كل من كان يمرّ بها كانت تحدث له أشياء عجيبة ، ويشعر بالغم والهم حتّى يخرج منها.

وتذكر الروايات أن أكثر الأنبياء مرّوا بها ، منهم آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إضافة لآخرين مثل الإمام عليعليه‌السلام وسلمان وغيرهما.

٥ ـ إن (كربلاء) لها جذر ديني قديم ، وهي مركبة من كلمتين : (كرب) بمعنى حرم ، و (ابلا) بمعنى الإله ، أي أنها (حرم الإله) ، وهو لفظ آشوري ، مما يدل على أنه كان هناك فيها حرم إله يعبد.

ويذكر السيد إبراهيم الزنجاني في (وسيلة الدارين) ص ٧٣ أن أصل الكلمة معبد ، فيقول : يرجع تاريخ كربلاء إلى عهد البابليين ، وقد كانت معبدا لسكان بلدين هما : نينوى ، وعقر بابل ، بابل الكلدانيين الواقعين بالقرب منها. واسم كربلاء مؤلف من كلمتين : (رب) بمعنى مصلّى أو معبد أو حرم ، و (إيلا) بمعنى الله ، باللغة الآرامية ، أي (حرم الله).

٦ ـ (أقول) : وحين التقيت بالأخ الدكتور سهل البدري في طهران ذكر لي معنى جديدا عن كربلاء قال : بنتيجة تحقيقاتي عن كربلاء ، وجدت أنها في اللغة السامرية والبابلية تعني (الرجل القربان) ، وفي اللغات الأكادية والعبرية والآشورية والآرامية تعني (قربان الله).

٧ ـ أنها مشتقة من (كور بابل) أي مجموعة قرى بابلية.

يقول السيد عبد الرزاق الحسني في (موجز تاريخ البلدان العراقية) ص ٥٤ : رأى بعضهم أن التوصل إلى معرفة كربلاء وتاريخها القديم قبل الإسلام قد يأتي عن طريق معرفة اشتقاق هذه الكلمة ، فاحتمل أن تكون لفظة (كربلاء) منحوتة من كلمة (كور بابل) العربية ، بمعنى مجموعة قرى بابلية كثيرة ، منها :

٥٩٨

ـ نينوى : القريبة من أراضي سد الهندية.

ـ الغاضرية : المشهورة اليوم بأراضي الحسينية.

ـ كربلة : وهي القريبة اليوم من مدينة كربلاء جنوبا وشرقا.

ـ كربلاء (أو عقر بابل) : وهي قرية في الشمال الغربي من الغاضرية وبأطلالها أثريات مهمة.

ـ النواويس : التي كانت مقبرة عامة قبل الفتح الاسلامي.

ـ الحير (أو الحائر) : وهو اليوم موضع قبر الحسينعليه‌السلام إلى حدود الصحن الشريف.

وغير ذلك من القرى الكثيرة (راجع نهضة الحسين للشهرستاني ، ص ٦٦).

مناقشة وردّ اشتباه :

يقول السيد محمّد حسن آل كليدار في كتابه (مدينة الحسين) ص ١٢ :

كور بابل ليست أصل كربلا : لما فتح الساسانيون العراق على عهد شابور ذي الأكتاف ، قسّموا العراق إلى إستانات [ولايات] ، وكل إستانة إلى طسج [قضاء] ، وقسّموا هذه الطساسيج إلى رساتيق [نواحي] ، فأصبحت الأراضي الواقعة بين عين التمر والفرات طسجا ، وهي ستة طساسيج من إستانة (بهقباد) ، ومنها طسج بابل ، وطسج النهرين (الّذي تنتمي إليه مدينة كربلاء).

ولما فتح المسلمون العراق في عهد عمر بن الخطاب عام ١٤ ه‍ بقيادة سعد ابن أبي وقاص ، أصبح اسم الطّسج السابق : كور بابل.

وقد أخطأ بعض المؤرخين في ترجمة الاسم الأصلي لكربلاء ، والتبس الأمر عليهم فظنوا أنه محرّف من كور بابل ، والصحيح أنه من كرب إيلا ، أي حرم الإله.

٧١٤ ـ أسماء كربلاء :

لكربلاء أسماء متعددة قديمة. بعضها مختص بها ، ويختلف باختلاف المساحة المقصودة من المدينة أو الحرم. وقد يكون بعض تلك الألفاظ هو أسماء ، وبعضها الآخر أوصاف لها. وبعضها يطلق على قرى وأماكن قريبة منها وواقعة في منطقتها.

فمن أسمائها : نينوى والغاضرية والنواويس والعقر والطف ومشهد الحسينعليه‌السلام والحائر والحير وشاطئ الفرات وعموراء وصفورا ومارية.

٥٩٩

إلا أن أهم هذه الأسماء هو (الحائر) لما أحيط بهذا الاسم من الحرمة والتقديس ، أو أنيط به من أعمال وأحكام في الفقه والعبادات.

وإليك تعريف سريع ببعض المواقع الهامة في منطقة كربلاء :

٧١٥ ـ الطّف :

الطفّ في اللغة له عدة معان :

١ ـ ما أشرف من أرض العرب على ريف العراق. قال أبو سعيد : سمي الطف لأنه مشرف على العراق ، من أطفّ على الشيء ، بمعنى : أطلّ.

٢ ـ الطف : طف الفرات ، أي الشاطئ.

٣ ـ الطف : أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرية ، فيها كان مقتل الحسينعليه‌السلام . وهي أرض بادية قريبة من الريف ، فيها عدة عيون ماء جارية ، منها : الصيد ، والقطقطانة ، والرّهيمة ، وعين جمل وذواتها. وهي عيون كانت للموكلين بالمسالح التي كانت وراء خندق سابور الّذي حفره بينه وبين العرب وغيرهم.

٧١٦ ـ بابل :

(الفهرست : معجم الخريطة التاريخية للممالك الإسلامية لأمين واصف بك ، ص ١٩)

بابل مدينة من أقدم وأكبر مدن العالم القديم ، على الجانب الأيسر من نهر الفرات. بناها الكلدانيون ، وهي مدينة النمرود. اشتهرت في الأزمان الغابرة بالثروة والحضارة. وفيها مات الاسكندر المكدوني سنة ٣٢٣ ق. م وحملت جثته إلى الاسكندرية.

قال المفسرون في قوله تعالى :( وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ) [البقرة : ١٠٢] هي بابل العراق ، التي اتخذها البابليون عاصمة لهم.

قال : فأما الملوك الأوائل ، أعني ملوك النبط وفرعون وإبراهيم ، فإنهم كانوا نزلا ببابل ، وكذلك بخت نصّر ، الّذي يزعم أهل السير أنه ممن ملك الأرض بأسرها ، انصرف بعد ما أحدث ببني إسرائيل ما أحدث ، انصرف إلى بابل فسكنها.

قال أبو المنذر هشام بن محمّد الكلبي : إن مدينة بابل كانت اثني عشر فرسخا في مثل ذلك. وكان بابها مما يلي الكوفة. وكان الفرات يجري ببابل حتّى صرفه بخت نصّر إلى موضعه الآن ، مخافة أن يهدم عليه سور المدينة ، لأنه كان يجري معه.

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735