تربة الحسين عليه السلام الجزء ٣

تربة الحسين عليه السلام10%

تربة الحسين عليه السلام مؤلف:
الناشر: دار المحجّة البيضاء
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 554

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 554 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42743 / تحميل: 4657
الحجم الحجم الحجم
تربة الحسين عليه السلام

تربة الحسين عليه السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار المحجّة البيضاء
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

فكان العالم المجرّب الحكيم والناقد الخبير، وكان لطيف الحسّ، نقيّ الجوهر، وضّاء النفس، سليم الذوق، مستقيم الرأي، حسن الطريقة، سريع البديهة، حاضر الخاطر، عارفاً بمهمّات الأُمور(١) .

عبادته وتقواهعليه‌السلام :

اشتهر عليّ بن أبي طالب بتقواه التي كانت علّة الكثير من تصرّفاته مع نفسه وذويه والناس... وفيما ترى العبادة لدى المعظم رجع أصداء الضعف في نفوسهم أحياناً، ومعنىً من معاني التهرّب من مواجهة الحياة والأحياء أحياناً أُخرى، وهوساً موروثاً ثمّ مدعوماً بهوس جديد مصدره تقديس الناس والمجتمع لكلّ موروث في أكثر الأحيان... تراها تشتهر عند الإمام أخْذاً من كلّ قوّة ووصلاً لأطراف الحلقة الخلقية التي تشتدّ وتمتدّ حتى تجمع الأرض والسماء، ومعنىً من معاني الجهاد في سبيل ما يربط الأحياء بكلّ خير، وهي على كلّ حال شيء من روح التمرّد على الفساد يريد محاربته من كلّ صوب، ثمّ على النفاق وروح الاستغلال والاقتتال من أجل المنافع الخاصّة.. وعلى المذلّة والفقر والمسكنة والضعف، ثمّ على سائر الصفات التي تميّز بها عصره المضطرب القلق.

إنّ من تبصّر في عبادة الإمام، تبيّن له أنّ عليّاً متمرّد في عبادته وتقواه، كما هو متمرّد في أُسلوبه في السياسة والحكم، ففي عبادته افتتان الشاعر يقف في هيكل الوجود الرحب صافي النفس ممتلئ القلب، حتى إذا انكشفت له جمالات هذا الكون; تجاوبت وما في كيانه من أصداء وأظلال وموازين، فأطلق هذه الكلمة الرائعة التي نرى فيها دستوراً كاملاً لتقوى الأحرار وعبادة عظماء النفوس: (وإنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ

ــــــــــــ

(١) راجع: مقدمة شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم.

٢١

قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار)(١) .

إنّ عبادة الإمام ليست شيئاً من سلبيّة الخائف الهارب أو التاجر الراغب كما هي الحال عند الكثيرين من المتعبّدين، بل هي شيء من إيجابية الإنسان العظيم الواعي نفسه والكون على أساس من خبرة المجرّب وعقل الحكيم وقلب الشاعر.

وبهذا المفهوم للتقوى والعبادة كان عليّ يوجّه الناس إلى أن يتّقوا الله في سبيل الخير الإنساني العام، أو قل: في سبيل أمر أجلّ من رغبة تجّار العبادات في نعيم الآخرة، كان يوجّههم إلى التقوى لعلّ فيها ما يحملهم على أن يعدلوا وينصفوا المظلوم من الظالم فيقول:) عليكم بتقوى الله وبالعدل على الصديق والعدوّ ( (٢) . ولا خير في التقوى في نظر الإمام; إلاّ إذا دفعتك إلى أن تعترف بالحقّ قبل أن تشهد عليه، وألاّ تحيف على من تبغض ولا تأثم، والحياة ـ بهذا المعنى للعبادة ـ لا تبتغى لمتاع ولا تُرجى للذّة عابرة.

زُهدهعليه‌السلام :

لقد زهد عليّ في الدنيا وتقشّف، وكان صادقاً في زهده كما كان صادقاً في كلّ ما نتج عن يمينه أو بَدَر من قلبه ولسانه، زهد في لذّة الدنيا وسبب الدولة وعلّة السلطان وكلّ ما يطمح لبلوغه الآخرون، ويَرَوْن أنّه مرتكز وجودهم، فإذا هو يسكن مع أولاده في بيت متواضع تأوي إليه الخلافة لا المُلك، وإذا هو يأكل الشعير تطحنه امرأته بيديها فيما كان عمّاله يعيشون على أطايب الشام وخيرات مصر ونعيم العراق، وكثيراً ما كان يأبى على زوجته أن تطحن له، فيطحن لنفسه وهو أمير المؤمنين، ويأكل من الخبز اليابس الذي يكسره على ركبته، وكان إذا أرعده البرد واشتدّ عليه الصقيع لا يتّخذ له عدّة من دثار يقيه أذى البرد، بل يكتفي بما رقّ من لباس الصيف إغراقاً منه في صوفيّة الروح.

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة طبعة صبحي الصالح : ٥١٠ الحكمة ٢٣٧ ط دار الهجرة قم.

(٢) بحار الأنوار: ٧٧/٢٣٦ باب وصيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام ط الوفاء .

٢٢

روى هارون بن عنترة عن أبيه، قال: دخلتُ على عليّ بالخورنق، وكان فصل شتاء، وعليه خلق قطيفة هو يرعد فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين! إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً وأنت تفعل ذلك بنفسك؟ فقال: (والله ما أرزؤكم شيئاً، وما هي إلاّ قطيفتي التي أخرجتها من المدينة) (١) .

وأتى أحدهم عليّاً بطعام نفيس حلو يقال له: الفالوذج، فلم يأكله عليّ ونظر إليه يقول:(والله إنّك لطيّب الريح حسن اللون طيّب الطعم، ولكن أكره أن أُعوِّد نفسي ما لم تعتد) (٢) .

ولعمري إنّ زهد عليّ هذا ليس إلاّ معنىً ومزاجاً من معاني فروسيّته ومزاجها وإن بدا للبعض أنّهما مختلفان.

وقد حملت هذه السيرة الطيّبة عمر بن عبد العزيز ـ أحد خلفاء الأسرة الأموية التي تكره عليّاً وتختلق له السيّئات وتسبّه على المنابر ـ على أن يقول: أزهد الناس في الدنيا عليّ بن أبي طالب(٣) .

والمشهور أنّ عليّاً أبى أن يسكن قصر الإمارة الذي كان معدّاً له بالكوفة، لئلاّ يرفع سكنه عن سكن أولئك الفقراء الكثيرين الذين يقيمون في خِصاصهم البائسة، ومن كلامه هذا القول الذي انبثق عن أُسلوبه في العيش انبثاقاً:) أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟ !( (٤) .

إباؤه وشهامتهعليه‌السلام :

مثّل عليّ بن أبي طالب الفروسيّة بأروع معانيها وبكلّ ما تنطوي عليه

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٠/٣٣٤ ط الوفاء.

(٢) المصدر السابق : ٤٠/٣٢٧.

(٣) المصدر السابق : ٤٠/٣٣١ باب ٩٨ ذ ح ١٣ ط الوفاء.

(٤) نهج البلاغة طبعة صبحي الصالح: ٤١٨ الكتاب ٤٥ .

٢٣

من ألوان الشهامة. والإباء والترفّع أصلان من أصول روح الفروسيّة، فهما إذن من طبائع الإمام، لذلك كان بغيضاً لديه أن ينال أحداً من الناس بالأذى وإن آذاه، وأن يبادر مخلوقاً بالاعتداء ولو على ثقة بأنّ هذا المخلوق يقصد قتله.

وروح الإباء والترفّع هذه هي التي ارتفعت به عن مقابلة الأمويين بالسباب يوم كانوا يرشقونه به.. بل إنّه منع على أصحابه أن ينالوا الأمويين بالشتيمة المقذعة حتى قال لهم: (إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم; كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتّى يعرف الحقّ مَن جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان مَن لهج به ) (١) .

مروءتهعليه‌السلام :

إنّ مروءة الإمام أندر من أن يكون لها مثيل في التأريخ، وحوادث المروءة في سيرته أكثر من أن تعدّ، منها أنّه أبى على جنده ـ وهم في حال من النقمة والسخط ـ أن يقتلوا عدوّاً تراجع، كما أبى عليهم أن يكشفوا ستراً أو يأخذوا مالاً، ومنها: أنّه حين ظفر بألدّ أعدائه الذين يتحيّنون الفرص للتخلّص منه; عفا عنهم وأحسن إليهم وأبى على أنصاره أن يتعقّبوهم بسوء وهم على ذلك قادرون(٢) .

صدقه وإخلاصهعليه‌السلام :

وتتماسك هذه الصفات الكريمة في سلسلة لا تنتهي; وبعضها على بعض دليل، ومن أروع حلقاتها: الصدق والإخلاص، وقد بلغ به الصدق مبلغاً أضاع به الخلافة، وهو لو رضي عن الصدق بديلاً في بعض أحواله; لما نال منه عدوّ ولا انقلب عليه صديق.. لقد رفض أن يقرّ معاوية على عمله وقال:( لا أداهن في ديني

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة طبعة صبحي الصالح: ٣٢٣ ، الخطبة ٢٠٦.

(٢) البداية والنهاية: ٧ / ٢٧٦.

٢٤

ولا أعطي الدنيّة في أمري ) ولمّا ظهرت حيلة معاوية; أطلق عبارته التي صحّت أن تكون صيغة للخلق العظيم:( والله ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر; لكنت من أدهى الناس ) (١) . وقال مشدّداً على ضرورة الصدق مهما اختلفت الظروف:( الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك ، على الكذب حيث ينفعك ) (٢) .

شجاعتهعليه‌السلام :

إن شجاعة الإمام هي من الإمام بمنزلة التعبير من الفكرة وبمثابة العمل من الإرادة، لأنّ محورها الدفاع عن طبع في الحق وإيمان بالخير، والمشهور أنّ أحداً من الأبطال لم ينهض له في ميدان.. فقد كان لجرأته على الموت لا يهاب صنديداً، بل إنّ فكرة الموت لم تجل مرة في خاطر الإمام وهو في موقف نزال، وأنّه لم يقارع بطلاً إلاّ بعد أن يحاوره لينصحه ويهديه.

وكان عليّ مع قوته البالغة يتورّع عن البغي أيّاً كان الظرف، وأجمع المؤرّخون على أنّه كان يأنف القتال إلاّ إذا حُمِل عليه حملاً، فكان يسعى أن يسوّي الأُمور مع خصومه على وجوه سلميّة تحقن الدم وتحول دون النزال.

وطبيعة التورّع عن البغي أصل من أصول نفسيّة عليّ وخلق من أخلاقه، وهي متّصلة اتّصالاً وثيقاً بمبدئه العام الذي يقوم بمعرفة العهد وصيانة الذمّة والرحمة بالناس حتى يخونوا كلّ عهد ويقسوا دون كلّ رحمة.

وما كان لعليّ أن يستنجد الصداقة على العداوة; لولا ذلك الفيض العظيم من الوفاء والحنان الذي تزخر به نفسه ويطغى على جنانه.

ولكنّ صاحب المودّات لم يرعَ أصدقاؤه له مودّة، لأنّهم لم يكونوا ليطمعوا

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة، الخطبة : ٢٠٠.

(٢) نهج البلاغة، قصار الحكم: ٤٥٨.

٢٥

بأن يحولوا بينه وبين نفسه، فيطلق أيديهم في خيرات الأرض دون سائر الخلق، يقول عليّعليه‌السلام :( والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلُبها جَلبَ شعيرة ما فعلتُ، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة ) (١) وليس عليّ في هذا المجال قائلاً ثمّ عاملاً، بل هو القول يجري من طبيعة العمل الذي يُعمل والشعور الذي يُحَسّ... فعليّ أكرم الناس مع الناس، وأبعد الخلق عن أن ينال الخلق بالأذى، وأقربهم إلى بذل نفسه في سبيلهم على أن يقتنع ضميره بضرورة هذا البذل، أوَليست حياته كلّها سلسلة معارك في سبيل المظلومين والمستضعفين، وانتصاراً دائماً للاُمّة دون من يريدونه آلة إنتاج لهم من السادة ورثة الأمجاد العائلية، أولم يكن سيفاً صارماً فوق أعناق القرشيّين الذين أرادوا استغلال الخلافة والإمارة للسلطان والجاه وتكديس الأموال ؟! أَلمْ يَضع الخلافةَ والحياةَ على الأرض لأنّه أبى مسايرة أهل الدنيا في استعباد إخوانهم الضعفاء والفقراء والمظلومين ؟

عدلهعليه‌السلام :

ليس غريباً أن يكون عليٌّ أعدل الناس، بل الغريب أن لا يكونَهُ، وأخبار عليّ في عدله تراثٌ يشرّف المكانة الإنسانية والروح الإنساني.

وكان الإمام يأبى الترفّع عن رعاياه في المخاصمة والمقاضاة، بل إنّه كان يسعى إلى المقاضاة إذا وجبت لتشبّعه بروح العدالة.

وتجري في روحه العدالة حتى أمام أبسط الأُمور، ووصايا الإمام ورسائله إلى الولاة تكاد تدور حول محور واحد هو العدل، وقد انتصر العدل في قلب عليّ وقلوب أتباعه وإن ظلموا وظلم.

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة، الخطبة: ٢٢٤.

٢٦

تواضعهعليه‌السلام :

إنّ من أصول أخلاق الإمام أنّه كان يعتمد البساطة ويمقت التكلّف. وكان يقول:( شر الإخوان من تكلّف له ) (١) . ويقول:( إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه ) (٢) ويقصد بالاحتشام مراعاته حتى التكلّف.

وكان لا يتصنّع في رأي يراه أو نصيحة يسديها أو رزق يهبه أو مال يمنعه. وكانت هذه الطبيعة تلازمه حتى يسأم أصحاب الأغراض من استرضائه بالحيلة. وإذا هم ينسبون إليه القسوة والجفوة والزهو على الناس، وليس صدق الشعور وإظهاره زهواً وليس جفوة، بل إنّه كان يمقت الزهو والعجب.. ولطالما نهى ولدَه وأعوانه وعمّاله عن الكبر والعجب قائلاً:( إيّاك والإعجاب بنفسك، واعلم أنّ الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب ) (٣) . وكره التكلّف في محبّيه الغالين كما كره التكلّف في مبغضيه المفرطين فقال:( هلك فيّ اثنان: محبٌ غال ومبغضٌ قال ) (٤) .

لقد كان يخرج إلى مبارزيه حاسر الرأس ومبارزوه مقنعون بالحديد، أفعجيب أن يخرج إليهم حاسر النفس وهم مقنعون بالحيلة والرياء؟.

نقاؤهعليه‌السلام :

وتميّز عليّ بسلامة القلب، فهو لا يحمل ضغينة على مخلوق ولا يعرف حقداً على ألدّ أعدائه ومناوئيه ومن يحقدون عليه حسداً وكرهاً.

كرمهعليه‌السلام :

وكان من خلقه أنّه كان كريماً ولا حدود لكرمه، ولكنّه الكرم السليم

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة، قصار الحكم: ٤٧٩.

(٢) المصدر السابق: ٤٨٠.

(٣) المصدر السابق من كتاب ٣١ رقم ٥٧.

(٤) نهج البلاغة : ١١٧.

٢٧

بأصوله وغاياته لا كرم الولاة الذين (يكرمون) بأموال الناس وجهودهم. وهذا الكرم لم يعرفه عليٌّ مرّة في حياته، وإنّما كرمه هو الذي يعبّر عن جملة المروءات، ففيما كان يزجر ابنته زجراً شديداً إذ هي استعارت من بيت المال قلادة تتزيّن بها في عيد من الأعياد. كان يسقي بيده النخل لقوم من يهود المدينة حتى تمْجلَ يده فيتناول أجرته فيهبها لأهل الفاقة والعوز ويشتري بها الأرقاء ويحرّرهم في الحال.

وقد شهد معاوية على كرم عليّ قائلاً: لو ملك عليّ بيتاً من تبر وبيتاً من تبن لأنفد تبره قبل تبنه(١) .

علمه ومعارفهعليه‌السلام :

قال ابن أبي الحديد: (وما أقول في رجل تُعزى إليه كلّ فضيلة، وتنتمي إليه كلّ فرقة، وتتجاذبه كلّ طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عُذْرِها، وسابق مضمارها، ومجلّي حَلْبتها، كلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى. وإنّ أشرف العلوم ـ وهو العلم الإلهي ـ من كلامهعليه‌السلام اقتبس وعنه نقل وإليه انتهى ومنه ابتدأ... وعلم الفقه هو أصله وأساسه وكلّ فقيه في الإسلام فهو عيال عليه ومستفيد من فقهه... وعلم تفسير القرآن عنه أُخذ ومنه فُرّع وعلم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوّف(؟!) إنّ أرباب هذا الفنّ في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون، وعنده يقفون.. وعلم النحو والعربية قد علم الناس كافة أنّه هو الذي ابتدعه وأنشأه، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعَه وأصوله...)

ثم قال: (وأمّا الفصاحة، فهوعليه‌السلام إمام الفصحاء وسيّد البلغاء، وفي كلامه قيل: (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين)، ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة ..

ــــــــــــ

(١) تاريخ دمشق لابن عساكر : ٤٣/٤١٤ ترجمة علي بن أبي طالب عليه‌السلام .

٢٨

فوالله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره، ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالةً على أنّه لا يجارى في الفصاحة ولا يُبارى في البلاغة...)

ثم قال: (وأمّا الزهد في الدنيا، فهو سيّد الزهاد، وبدل الأبدال، وإليه تشدّ الرحال، وعنده تُنْفَضُ الأحلاس، ما شبع من طعام قطّ، وكان أخشنَ الناس مأكلاً وملبساً(.

وأمّا العبادة فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاةً وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام النافلة، وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على وِرده أن يُبسَط له نِطَعٌ بين الصفّين ليلةَ الهرير(١) فيصلّي عليه ورده والسهام تقع بين يديه وتمرّ على صِماخيه يميناً وشمالاً، فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته... وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله وما يتضمّنه من الخضوع لهيبتهِ والخشوع لعزّته والاستخذاء له; عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أيّ قلب خرجت، وعلى أيّ لسان جَرَت. وقال عليّ بن الحسين وكان الغاية في العبادة:عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عند عبادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأمّا قراءته القرآن واشتغاله به فهو المنظور إليه في هذا الباب; اتّفق الكلّ على أنّه كان يحفظ القرآن على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يكن غيره يحفظه، ثمّ هو أوّل من جمعه. وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمّة القرّاء كلّهم يرجعون إليه.

وما أقول في رجل تحبّه أهل الذمّة على تكذيبهم بالنبوّة، وتعظّمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملّة، وتصوِّر ملوك الإفرنج والروم صورته في بِيَعها وبيوت عباداتها، حاملاً سيفه؟ وما أقول في رجل أحبّ كلُّ واحد أن يتكثّر به، وودّ كلُّ أحد أن يتجمّل ويتحسّن بالانتساب إليه؟

ــــــــــــ

(١) هي أشد ليلة مرّت على الجيشين في معركة صفّين، راجع مروج الذهب : ٢ / ٣٨٩ .

٢٩

وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى.. لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلاّ السابق لكلّ خير محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ؟

ــــــــــــ

(١) من مقدمة ابن أبي الحديد لشرح نهج البلاغة ١ / ١٦ ـ ٣٠ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

٣٠

الباب الثاني: فيه فصول:

الفصل الأول: نشأة الإمام عليعليه‌السلام .

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام عليعليه‌السلام .

الفصل الثالث: من الولادة إلى الإمامة.

الفصل الأول: نشأة الإمام عليعليه‌السلام

نسبه الوضّاء :

هو الإمام أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إياس بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان.

جدّه الكريم :

عبد المطلب شيبة الحمد، وكنيته أبو الحرث، وعنده يجتمع نسبه بنسب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان مؤمناً بالله تعالى، ويعلم بأنّ محمداً سيكون نبيّاً(١) .

ولمّا حضرت عبد المطلب الوفاة دعا ابنه أبا طالب، فقال له: يا بني! قد علمت شدّة حبّي لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجدي به أنظر كيف تحفظني فيه قال أبو طالب: يا أبه! لا توصني بمحمّد فإنّه ابني وابن أخي(٢) .

ــــــــــــ

(١) الطبقات لمحمد بن سعد: ١ / ٧٤ ط. ليدن.

(٢) كمال الدين للصدوق : ١٧٠ ط النجف الأشرف و ١٧٢ ط طهران عن ابن عباس. وفي موسوعة التاريخ الإسلامي: ١/٢٨٥.

٣١

والده :

عبد مناف، وقيل: عمران، وقيل: شيبة، وكنيته أبو طالب، وهو أخو عبد الله والد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأُمه وأبيه. ولد أبو طالب بمكّة قبل ولادة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخمس وثلاثين سنة، وانتهت إليه بعد أبيه عبد المطلب الزعامة المطلقة لقريش، وكان يروي الماء لوفود مكّة كافّة لأنّ السقاية كانت له، ورفض عبادة الأصنام فوحّد الله سبحانه، ومنع نكاح المحارم وقتل الموؤدة والزنا وشرب الخمر وطواف العراة في بيت الله الحرام(١) . ولمّا توفّي عبد المطلب; تكفّل أبو طالب رعاية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان أبو طالب يحبّه حبّاً شديداً لا يحبّه ولده، وكان لا ينام إلاّ إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه، وكان يخصّه بالطعام دون أولاده.

وروي أنّ أبا طالب دعا بني عبد المطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما اتّبعتم أمره، فاتّبعوه وأعينوه ترشدوا. وما زالت قريش كافّة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى مات أبو طالب(٢) .

توفّي أبو طالب قبل الهجرة بثلاث سنين وبعد خروج بني هاشم مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الشِعب وعمره بضع وثمانون سنة(٣) ، وكان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعلّق شديد بأبي طالب، فقد عاش في كنفه (٤٣) عاماً منذ الثامنة من عمره الشريف حينما توفّي جدّه عبد المطلب.. وقد ثبت أنّ أبا طالب كان موحّداً مؤمناً بالله ومعتقداً بالإسلام أرسخ الاعتقاد، وبقي على حاله هذه حتى وافاه الأجل، وإنّما أخفى إيمانه ليتمكّن أن يكون له شأن واتّصال مع كفّار مكّة، وليطّلع على

ــــــــــــ

(١) روضة الواعظين للفتال: ١٢١ ـ ١٢٢ وصية أبي طالب لبني هاشم.

(٢) الطبقات لابن سعد: ١ / ٧٥.

(٣) الكامل في التأريخ لأبن الأثير: ٢ / ٩٠، راجع : موسوعة التاريخ الإسلامي : ١/٤٣٦.

٣٢

مكائدهم ومؤامراتهم، فكان يعيش حالة التقيّة، وكان مثله كأصحاب الكهف في قومهم، وهو ممّن آتاهم الله أجرهم مرّتين لإيمانه وتقيّته(١) .

أُمّه :

فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، تجتمع هي وأبو طالب في هاشم، أسلمت وهاجرت مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت من السابقات إلى الإيمان وبمنزلة الأُم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ربّته في حجرها، ولمّا ماتت فاطمة بنت أسد; دخل إليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجلس عند رأسها وقال:( رحمك الله يا أُمي، كنت أُمي بعد أُمي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والآخرة ) .

وغمّضها، ثمّ أمر أن تغسل بالماء ثلاثاً، فلمّا بلغ الماء الّذي فيه الكافور سكبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده، ثمّ خلع قميصه فألبسه إيّاها وكفّنت فوقه ودعا لها أسامة بن زيد مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطّاب وغلاماً أسود فحفروا لها قبرها، فلمّا بلغوا اللّحد حفره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده، وأخرج ترابه ودخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبرها فاضطجع فيه، ثمّ قال:( الله الّذي يحيي ويميت، وهو حيّ لا يموت، اللّهمّ اغفر لأُمّي فاطمة بنت أسد بن هاشم، ولقّنها حجتها، ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك والأنبياء من قبلي، فإنّك أرحم الراحمين ) وأدخلها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللحد والعباسُ وأبو بكر(٣) .

فقيل: يا رسول الله رأيناك وضعت شيئاً لم تكن وضعته بأحد من قبل:

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٣٥ / ٧٢. وانظر: منية الطالب في إيمان أبي طالب للشيخ الطبسي، وأبو طالب مؤمن قريش للشيخ عبد الله الخُنيزي وموسوعة التاريخ الإسلامي: ١/٥١٤ ـ ٥١٧ و ٥٩٦ ـ ٦٠١.

(٢) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ٣١.

(٣) بصائر الدرجات : ٧١ عن الصادق عليه‌السلام ، وراجع: موسوعة التاريخ الإسلامي: ٢/٤٣٣ ـ ٤٣٧ .

٣٣

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنّة، واضطجعت في قبرها ليخفّف عنها من ضغطة القبر، إنّها كانت من أحسن خلق الله صُنعاً إليّ بعد أبي طالب رضي اللّه عنهما ورحمهما ( (١) .

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام عليّعليه‌السلام

ولد الإمام عليعليه‌السلام قبل البعثة النبوية بعقد واحد، وعاصر إرهاصات البعثة وكل حركة الرسالة خلال العهد المكّي ـ وهو عهد بناء الأمة المسلمة وتكوين القاعدة الرسالية الصلبة ـ كما عاصر كل أحداث العهد المدني، حيث تم فيه بناء الدولة الإسلامية بقيادة سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وساهم بكل وجوده في بناء هذا الكيان الشامخ حتى تجلّى للجميع عمق وجوده في هذا البناء الرسالي الفريد.

وحمل الإمامعليه‌السلام بأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشعل الهداهية الربّانية والقيادة الإسلامية بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغم تراجع جمع من الصحابة وتمرّدهم على نصوص الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخذلانهم للإمامعليه‌السلام والحيولة دون استلامه للقيادة السياسية ولكنه استمر في انجاز مهمامّه الرسالية في تلك الظروف العصيبة وعايس الخلفاء رغم انه كان يرى محلّه من القيادة محل القطب من الرحى فصبر وفي العين قذى مدة عقدين وصنف عقد حتّى انكشفت للأمة جملة من نتائج انحرافها الخطير عن تخطيط الرسول الأمين.

من هنا التجأت الأمة إلى الإمام لتسلم له زمام أمرها بعد تلك الخطوب وذلك التصدع الذي طال كيانه فحمل عبء القيادة بكل جدارة خلال نصف عقد فقط حتّى قدّم دمه الطاهر في سبيل الله رخيصا يبتغي به رضوان الله تعالى تثبيتا للقيم الرسالية التي جاهد من أجل إرسائها في وجدان المجتمع الإسلامي وضمير المجتمع الإنساني.

وعلى هذا تنقسم حياة الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إلى شطرين رئيسين:

الشطر الأول: حياته منذ ولادته وحتّى وفاة سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الشطر الثاني: حياته من حين وفاة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتولّيه لمهامّ الإمامة الشرعية وحتّى استشهادهعليه‌السلام في محراب العبادة.

ــــــــــــ

(١) الفصول المهمة لابن الصباغ: ٣٢، وفي فرائد السمطين: ١ / ٣٧٩: (صنعت شيئاً لم تصنعه بأحد) وروى إسلام فاطمة بنت أسد وهجرتها وحنانها ورعايتها للرسول ووفاتها وما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضلها كثير من الحفّاظ والمؤلّفين في كتبهم كابن عساكر وابن الأثير وابن عبد البرّ ومحب الدين الطبري ومحمد بن طلحة والشبلنجي وابن الصبّاغ البلاذري وغيرهم.

٣٤

ونظرا لتنوّع الأدوار والظروف التي عاشهاعليه‌السلام يمكننا أن نصنّف حياته إلى عدّة مراحل:

المرحلة الأولى: من الولادة إلى البعثة النبويّة المباركة.

المرحلة الثانية: من البعثة إلى الهجرة.

المرحلة الثالثة: من الهجرة إلى وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهذه المراحل الثلاث تدخل في الشطر الأول من حياته وقد تجلّى فيها انقياده المطلق للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدفاع المستميت عن الرسالة والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

المرحلة الرابعة: حياة الإمام في عهد (أبي بكر وعمر وعثمان(.

المرحلة الخامسة: حياته في عهد دولته.

وسوف ندرس المراحل الثلاث الأولى في الفصل الثالث من الباب الثاني.

كما نبحث عن المرحلة الرابعة من حياته في الباب الثالث بفصوله الأربعة، ونخصص الباب الرابع بالمرحلة الخامسة من حياتهعليه‌السلام .

الفصل الثالث: المرحلة الأولى : من الولادة إلى البعثة النبوية المباركة

ولادته :

قال عليّعليه‌السلام :(فإنّي ولدتُ على الفطرة وسَبقتُ إلى الإيمان والهجرة ( (١) .

ولِد الإمام عليّعليه‌السلام بمكّة المشرّفة داخل البيت الحرام وفي جوف الكعبة في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب سنة ثلاثين من عام الفيل قبل الهجرة بثلاث وعشرين سنة، ولم يولد في بيت الله الحرام قبله أحد سواه، وهي فضيلة خصّه الله تعالى بها إجلالاً له وإعلاءً لمرتبته وإظهاراً لتكرمته(٢) .

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة (صبحي الصالح): الخطبة ٥٧ ص٩٢، وأمالي الطوسي: ص٣٦٤ الرقم ٧٦٥، ومناقب آل أبي طالب: ٢ / ١٠٧، وشرح النهج لابن أبي الحديد: ٤ / ١١٤، وبحار الأنوار: ٤١ / ٢١٧.

(٢) خصائص أمير المؤمنين للشريف الرضي: ٣٩، والغدير للأميني: ٦ / ٢٢، والمستدرك للحاكم النيشابوري: ٣/٤٨٣، والكفاية للحافظ الكنجي الشافعي والخريدة الغيبيّة في شرح القصيدة العينيّة للآلوسي صاحب التفسير، ومروج الذهب للمسعودي، والسيرة النبوية، وموسوعة التاريخ الإسلامي: ١/٣٠٦ ـ ٣١٠.

٣٥

روي عن يزيد بن قعنب أنّه قال: كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب وفريق من بني عبد العزّى بإزاء بيت الله الحرام إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكانت حاملاً به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق، فقالت: يا ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنّي مصدّقة بكلام جديّ إبراهيم الخليلعليه‌السلام وإنّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الّذي بنى هذا البيت، وبحقّ المولود الّذي في بطني إلاّ ما يسّرت عليَّ ولادتي.

قال يزيد: فرأيت البيت قد انشق عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا وعاد إلى حاله والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنّ ذلك أمر من أمر الله عَزَّ وجَلَّ، ثمّ خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام (١) .

وأسرع البشير إلى أبي طالب وأهل بيته فأقبلوا مسرعين والبِشر يعلو وجوههم، وتقدّم من بينهم محمّد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضمّه إلى صدره، وحمله إلى بيت أبي طالب ـ حيث كان الرسول في تلك الفترة يعيش مع خديجة في دار عمه منذ زواجه ـ وانقدح في ذهن أبي طالب أن يسمّي وليده (عليّاً) وهكذا سمّاه، وأقام أبو طالب وليمةً على شرف الوليد المبارك، ونحر الكثير من الأنعام(٢) .

كناه وألقابه :

إن لأمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ألقاباً وكنىً ونعوتاً يصعب حصرها والإلمام بها، وكلّها صادرة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شتى المواقف والمناسبات العديدة التي وقفهاعليه‌السلام لنشر الإسلام والدفاع عنه وعن الرسول.

فمن ألقابهعليه‌السلام : أمير المؤمنين، ويعسوب الدين والمسلمين، ومبير(٣)  الشرك والمشركين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ومولى المؤمنين، وشبيه هارون، والمرتضى، ونفس الرسول، وأخوه، وزوج البتول، وسيف الله المسلول، وأمير البررة، وقاتل الفجرة، وقسيم الجنّة والنار، وصاحب اللواء، وسيّد

ــــــــــــ

(١) علل الشرائع للصدوق: ص٥٦، وروضة الواعظين للفتال النيسابوري: ص٦٧، وبحار الأنوار: ٣٥ / ٨ ، وكشف الغمة للأربلي: ١ / ٨٢ .

(٢) بحار الأنوار: ٣٥ / ١٨.

(٣) اليعسوب: يقصد به هنا سيّد قومه. المبير: المهلك.

٣٦

العرب، وخاصف النعل، وكشّاف الكرب، والصدّيق الأكبر، وذو القرنين، والهادي، والفاروق، والداعي، والشاهد، وباب المدينة، والوالي، والوصيّ، وقاضي دين رسول الله، ومنجز وعده، والنبأ العظيم، والصراط المستقيم، والأنزع البطين(١) .

وأمّا كناه فمنها: أبو الحسن، أبو الحسين، أبو السبطين، أبو الريحانتين، أبو تراب.

الإعداد النبويّ للإمام عليّعليه‌السلام :

كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتردّد كثيراً على دار عمّه أبي طالب بالرغم من زواجه من خديجة وعيشه معها في دار منفردة، وكان يشمل عليّاًعليه‌السلام بعواطفه، ويحوطه بعنايته، ويحمله على صدره، ويحرّك مهده عند نومه إلى غير ذلك من مظاهر العناية والرعاية(٢) .

وكان من نِعَم الله عزّ وجلّ على عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وما صنع الله له وأراده به من الخير أنّ قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعبّاس ـ وكان من أيسر بني هاشم ـ : يا عبّاس، إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا، فلنخفّف عنه من عياله، آخذُ من بيته واحداً، وتأخذ واحداً، فنكفيهما عنه ، قال العباس: نعم.

فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له:إنّا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتّى ينكشف عن الناس ما هم فيه ، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا

ــــــــــــ

(١) كشف الغمة للأربلي: ١ / ٩٣. وقد وردت ألقاب أُخرى عديدة لأمير المؤمنين في مصادر الرواة والمحدّثين منها: صحيح الترمذي والخصائص للنسائي والمستدرك للحاكم النيسابوري وحلية الأولياء للأصفهاني وأُسد الغابة لابن الأثير وتأريخ الإسلام للذهبي وغيرهم.

(٢) بحار الأنوار: ٣٥ / ٤٣.

٣٧

ما شئتما، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاًعليه‌السلام فضمّه إليه وكان عمره يومئذ ستة أعوام، وأخذ العبّاس جعفراً، فلم يزل عليّ بن أبي طالب مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بعثه الله نبيّاً، فاتّبعه عليّعليه‌السلام فآمن به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العبّاس حتّى أسلم واستغنى عنه(١) .

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن اختار عليّاًعليه‌السلام : (قد اخترت من اختاره الله لي عليكم عليّاً ( (٢) .

وهكذا آن لعليّعليه‌السلام أن يعيش منذ نعومة أظفاره في كنف محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث نشأ وترعرع في ظل أخلاقه السماويّة السامية، ونهل من ينابيع مودّته وحنانه، وربّاهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقاً لما علّمه ربّه تعالى، ولم يفارقه منذ ذلك التأريخ.

وقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى أبعاد التربية التي حظي بها من لدن أستاذه ومربّيه النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومداها وعمق أثرها، وذلك في خطبته المعروفة بالقاصعة: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة (٣) ، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جَسده، ويشمّني عَرْفه (٤) ، وكان يمضع الشيء ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة (٥) في فعل) .

إلى أن قال:(ولقد كنت أتّبعه اتباع الفصيل (٦) أثر أمه، يرفع لي في كلّ يوم من

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري: ٢ / ٥٨ ط مؤسسة الأعلمي بيروت، وشرح ابن أبي الحديد: ١٣ / ١٩٨، وينابيع المودة: ٢٠٢، وكشف الغمة: ١ / ١٠٤، وموسوعة التاريخ الإسلامي : ١ / ٣٥١  ـ ٣٥٦.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١ / ١٥ ، نقلاً عن البلاذري والأصفهاني.

(٣) الخصيصة: الخاصة.

(٤) عرفه (بالفتح): رائحته، وأكثر استعماله في الطيب.

(٥) الخطلة: الخطأ ينشأ من عدم الرؤية.

(٦) الفصيل: ولد الناقة.

٣٨

أخلاقه علماً (١) ، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء (٢) ، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة (٣) الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: يا رسول الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبيّ، ولكنّك وزير، وأنّك لعلى خير) (٤) .

المرحلة الثانية : من البعثة إلى الهجرة

عليّعليه‌السلام أول المؤمنين برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لقد نشأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قيم إلهية سامية كما صرّح بذلك القرآن الكريم بقوله تعالى:( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٥) ، فكان النموذج المغاير لإنسان الجزيرة في معتقده وتفكيره وسلوكه وأخلاقه، فسلك منذ نعومة أظفاره خطّاً موازياً لقيم رسالات الأنبياء سيَّما شيخهم إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، وكان في قناعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ هذا الخطّ لا يلتقي بقيم المجتمع الجاهلي، من هنا بدأصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإنشاء نواة الأسرة المؤمنة المتكونة منه وخديجة وعليّعليهم‌السلام .

وقرّر أن يشقّ مجرى التأريخ، وأن يفتح طريقاً وسط التيار العام، وأن يقاوم بتلك الأسرة الانحراف السائد، وأن يُحدث موجاً هادراً يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى تيار جارف للوثنية والجاهلية من ربوع الأرض، إنّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام والذي تربّى في حِجر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسجد لصنم قطّ، ولم يُشرك بالله طرفة

ــــــــــــ

(١) عَلَماً: فضلاً ظاهراً.

(٢) حراء: جبل قرب مكّة.

(٣) رنّة الشيطان: صوته.

(٤) شرح نهج البلاغة للفيض: ٨٠٢ ، الخطبة ٢٣٤.

(٥) القلم (٦٨) : ٤.

٣٩

عين. وعندما نزل الوحي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عليّعليه‌السلام إلى جانبه، وكان أوّل من آمن برسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما شهدت بذلك عامّة مصادر التأريخ.

وعن أنس بن مالك قال : أنزلت النبوّة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الاثنين وصلّى عليّعليه‌السلام يوم الثلاثاء(١) .

كما روي عن سلمان الفارسي أَنّه قال: أوّل هذه الأمة وروداً على نبيّهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوض، أوّلها إسلاماً عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام (٢) .

وعن العباس بن عبد المطلب أنّه سمع عمر بن الخطاب وهو يقول: كفّوا عن ذكر عليّ بن أبي طالب إلاّ بخير، فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: في عليّ ثلاث خصال، وددت أنّ لي واحدةً منهنّ، كلّ واحدة منهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس، وذلك أنّي كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجرّاح ونفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ ضرب النبي على كتف عليّ بن أبي طالب وقال: يا عليّ، أنت أوّل المسلمين إسلاماً، وأنت أول المؤمنين إيماناً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى، كذب من زعم أنّه يحبّني وهو مبغضك (٣) .

وإذ اتّفق المؤرّخون على أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام أوّل الناس إسلاماً(٤) ;  فقد

ــــــــــــ

(١) تأريخ دمشق لابن عساكر: ١ / ٤١، والكامل في التأريخ: ٢ / ٥٨، وتأريخ الطبري: ٢ / ٥٥، وسنن الترمذي: ٥ / ٦٠٠ الحديث ٣٧٣٥.

(٢) الاستيعاب لابن عبد البرّ المالكي بهامش الإصابة: ٣ / ٢٩، وتأريخ الطبري: ٢ / ٥٥ وفيه: عليّ أول من أسلم، وفي تأريخ دمشق لابن عساكر: ١ / ٣٢، ٣٦، ٦٥ ذكر أنّ عليّاً أول من أسلم، وتأريخ بغداد: ٢ / ٨١ رقم ٤٥٩.

(٣) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ١٢٦، وتأريخ دمشق لابن عساكر: ١ / ٣٣١ رقم الحديث ٤٠١.

(٤) من مصادر حديث أنّ علي بن أبي طالب أول من أسلم: سنن البيهقي: ٦ / ٢٠٦، ومسند أبي حنيفة: رقم ٣٦٨ ص١٧٣، وتأريخ الطبري: ٢ / ٥٥ ط مؤسسة الأعلمي، والكامل في التأريخ: ٢ / ٥٧، واُسد الغابة: ٤ / ١٦، تاريخ ابن خلدون : ج٣ / ص٧١٥ ، بدء الوحي والسيرة النبوية: ١ / ٢٦٢، والسيرة الحلبية: ١ / ٤٣٢، ومروج الذهب: ٢ / ٢٨٣، وعيون الأثر: ١ / ٩٢، والإصابة في معرفة الصحابة: ٢ / ٥٠٧، وتأريخ بغداد للخطيب البغدادي: ٢ / ١٨.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وأما جواب السؤال : راجعوا كتب التفاسير واللغة فإنّهم قالوا في معنى السجود ، وضع الجبهة على الأرض للعبادة ، وهو منتهى الخضوع ، ولقد أفتى أئمتكم بأنّ كل ما يفرش به الأرض يجوز السجود عليه ، سواء كان من صوف أو قطن أو إبريسم أو شيء آخر ، فأجازوا السجود على كل شيء حتى أفتى بعضهم بجواز السجود على العذرة اليابسة!

لكن فقهاءنا تبعاً لأئمة أهل البيت من العترة الهادية عليهم السلام قالوا بعدم جواز السجود إلا على الأرض أو ما أنبتته مما يؤكل ولا يلبس ، فالبساطة والفرش لا يصدق عليه اسم الأرض ، بل يكون حاجزاً بينها وبين الجبهة ، لذلك فنحن نأخذ طينة يابسة ـ تسهيلاً للأمر ـ ونسجد عليها في الصلاة.

الشيخ عبد السلام : نحن نعلم بأنكم تخصصون تراب كربلاء للسجود ، فتصنعون منه أشكالاً مثل الأصنام فتقدسونها وتحلونها في مخابئكم وتقبلوها وتوجبن السجود عليها ، وهذا العمل يخالف سيرة المسلمين ولذلك يهاجمونكم ويشنون عليكم تلك التهم والكلمات غير اللائقة بكم.

قلت : هذه المعلومات الي أبديتها هي من تلك المسموعات التي سمعتها من مخالفينا وأعدائنا ، وتلقيتها بالقبول بدون تحقيق وتفحّص ، وإنّ من دواعي الأسف وجود هذه الحالة ؛ إذ تذعنون بشيء من غير تحقيق ، فترسلونها إرسال المسلمات ، وتنتقدون الشيعة في أشياء وهميّة ليس لها وجود ، وقد قيل : «ثَبّت العرش ثم انقش». وإنّ كلامكم بأننا نصنع من تراب كربلاء أشكالاً مثل الأصنام فنقدسها كلام فارغ ، وتقول باطل وليس إلا إتهاماً وإفتراء علينا ، وغرض المفترين إلقاء العداوة والبغضاء بيننا وبينكم ، وتمزيق المسلمين وتفريقهم ، كل ذلك لأجل الوصول إلى مصالحهم الشخصية ، ومنافعهم المادية

١٨١

الفردية ، كما قيل : «فرّق تسد» ولو كنتم ـ قبل الحين وقيل أن تصدقوا كلام المغرضين ـ تفتشون عن الواقع وتحققون عن الموضوع ، بأن تسألوا عن الشيعة الذين تعرفونهم وتجاورونهم ما هذه الطينة التي تسجدون عليها؟ لسمعتم الجواب إننا نسجد لله سبحانه على التراب ، خضوعاً وتعظيماً له عَزّ وجَلّ ، ولقالوا : لا يجوز عندنا السجود بقصد العبادة سوى الله سبحانه وتعالى ، واعلم أيها الشيخ بأنّ علمائنا وفقهاءنا لم يوجبوا السجود على تراب كربلاء كما زعمت! ويكفيك مراجعة كتبهم الفقهية ورسائلهم العملية التي تتضمن الفروع والمسائل الأولية في العبادات والمعاملات وغيرها ، فإنّهم أجمعوا على جواز السجود على الأرض ، سواء التراب أو الحجر والمدر والرمال ، وغيرها من ملحقات الأرض وعلى كل ما يطلق عليه الأرض عدا المعادن ، وكذلك أجازوا السجود على كلما تنبتها من غير المأكول والملبوس ، هذا بحكم السنة الشريفة ، والأول بحكم الكتاب العزيز. ولذا قالوا : بأنّ السجود على الأرض أفضل ، وبعض فقهائنا أجاز السجود على النبات من غير المأكول والملبوس عند فقدان مشتقات الأرض ، لذلك وعملاً بالأفضل نحمل معنا طينة يابسة لكي نضعها على الفرش والبساط ونسجد عليها في الصلوات ؛ لأنّ أكثر الأماكن مفروشة بما لا يجوز السجود عليه كالبُسط المحاكة من الصوف أو القطن وما شابه ذلك ، وتسهيلاً للأمر فإننا نحمل معنا الطينة اليابسة ، لنسجد عليها في الصلاة ، وأما إذا صادف أن وقفنا على التراب للصلاة ، فلا نضع الطينة اليابسة ، بل نسجد على نفس التراب مباشرة ، إذ يتحقق السجود الذي أراده الله تعالى من عباده المؤمنين.

١٨٢

الشيخ عبد السلام : لكنا نرى أكثركم تحملون تربة كربلاء وتقدسونها ، وكثيراً ما نرى الشيعة يقبلونها ويتبركون بها ، فما معنى هذا؟ وهي ليست إلا تربة كسائر التراب؟

قلت : نعم نحن نسجد على تراب كربلاء ، ولكن هذا لا يعني الوجوب ، فلا يوجد فقيه واحد من فقهاء الشيعة في طول التاريخ أفتى بوجوب السجود على تراب كربلاء ، وإنّما أجمعوا على جواز السجود على تربا أي بلد كان ؛ إلا أنّ تراب كربلاء أفضل ؛ وذلك للروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بأنّ السجود على تراب كربلاء يخرق الحجب السبع ، يعني : يصل الى عرش الرحمن والصلاة تقع مقبولة عند الله سبحانه وتعالى.

وهذا تقدير معنوي لجهاد الإمام الحسين عليه السلام ؛ إذ أنّه أقدم على الشهادة في سبيل الله لأجل إحياء الصلاة وسائر العبادات ، فتقديس التربة التي أريق عليها دماء الصفوة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتقديس التربة التي تحتضن الأجساد المخضبة بدماء الشهادة والجهاد المقدس ، والتربة التي تضم أنصار دين الله وأنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأهل بيته الأطهار ، تقديسها تقديس للدين وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكل المكارم والقيم ولكل المثل العليا التي جاء بها سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن مع كل الأسف نرى بعض من ينتسبون إلى السنة ـ وهم أشبه بالخوارج والنواصب ـ يفترون على لاشيعة بأنهم يعبدون الإمام الحسين ، ويستدلون لإثبات فريتهم وباطلهم ، بسجود الشيعة على تراب قبر الحسين عليه السلام؟! مع العلم بأنّه لا يجوز عندنا عبادة الإمام الحسين عليه السلام ، ولا عبادة جَدّه المصطفى وأبيه المرتضى الذين هما أعظمرتبة وأكبر جهاداً من الحسين عليه السلام.

١٨٣

وأقول بكل وضوح : بأنّ عبادة غير الله سبحانه وتعالى كائناً من كان ، كفر وشرك. ونحن الشيعة لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له ولا نسجد لغيره أبداً ، وكل من ينسب إلينا غير هذا فهو مفترٍ كذاب.

الشيخ عبد السلام : الدلائل التي نقلتموها في سبب تقديسكم لتراب كربلاء ، إنّما هي دلائل عقلية مستندة إلى واقعة تاريخية ، أو بالأحرى هي دلائل عاطفية ، ونحن بصدد الإستماع إلى أدلة نقلية ، فهل توجد روايات معتبرة تحكي تقديس النبي صلى الله عليه وآله وسلم واعتنائه بتراب كربلاء؟

قلت : أما في كتب علمائنا المحدثين ، ونقلة الأخبار والروايات ، فقد ورد الكثير عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تقديس تربة كربلاء ، وإهتمامهم وإعتنائهم بها ، وهم قد رغّبوا شيعتهم بالسجود عليها ، وفضلوها على سائر التراب ، وكلامهم سند محكم لنا ودليل أتم للعمل بين الله عَزّ وجَلّ.

وأما الروايات المنقولة في كتبكم ؛ فكثيرة جداً ، منها : كتاب الخصائص الكبرى ، للعلامة جلال الدين السيوطي ، فقد ذكر روايات كثيرة عن طريق أبي نعيم الحافظ ، والبيهقي ، والحاكم وغيرهم ، وهم بالإسناد إلى أم المؤمنين ـ أم سلمة وعائشة ـ ، وأم الفضل زوجة العباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عباس ، وأنس بن مالك ، وغيرهم ، ومن جملة تلك الروايات قول الراوي : رأيت الحسين في حجر جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي يده تربة حمراء وهو يشمها ويبكي ، فقلت ما هذه التربة يا رسول الله؟ وممّ بكاؤك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : كان عندي جبرئيل فأخبرني أنّ ولدي الحسين يقتل بأرض العراق ، وجاءني بهذه التربة من مصرعه. ثم ناولها لأم سلمة (رض) وقال لها : إنظري إذا انقلبت دماً عبيطاً فاعلمي بأنّ ولدي الحسين قد قتل. فوضعتها أم سلمة في قارورة وهي

١٨٤

تراقبها كل يوم ، حتى إذا كان يوم عاشوراء من سنة ٦١ هجرية ، فإذا بالتربة قد إنقلبت دماً عبيطاً ، فصرخت : وا ولداه واحسيناه وأبرت أهل المدينة بقتل الحسين.

ولقد أجمع علماؤنا أنّ أوّل من إتخذ من تراب كربلاء ـ بعد إستشهاد أبي عبد الله الحسين ، سيد الشهداء وأنصاره وصحبه السعداء الشهداء الأوفياء ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ هو السجاد زين العابدين ؛ إذ حمل معه كيساً من تلك التربة الزاكية الطيّبة ، فكان يسجد على بعضها وصنع ببعضها مسباحاً يُسبّح به ، وهكذا فعل أئمة أهل البيت عليهم السلام من بعده ، وهم أحد الثقلين.

فيلزم الإقتداء بهم والأخذ بقولهم وفعلهم لقول النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم : (إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ، وهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)(٢٣٢) ، فالتمسك بهم وبقولهم وفعلهم أمان من الضلال ، وموجب لدخول الجنة معهم إن شاء الله تعالى. ولقد روى شيخ الطائفة ابو جعفر الطوسي ، رضوان الله تعالى عليه ، في كتابه «مصباح المتهجد» بأنّ الإمام الصادق ، جعفر بن محمد عليهما السلام كان يحمل معه شيئاً من تربة كربلاء في منديل أصفر ، وكان وقت الصلاة يفتح ذلك المنديل ، ويسجد على تلك التربة ، وكان يقول : إنّ السجود على تراب قبر جدي الحسين عليه السلام غير واجب ، ولكن أفضل من السجود على غيره من بقاع الأرض ، وهذا رأي جميع فقهاء الشيعة بلا إستثناء.

__________________

(٢٣٢) ـ الطوسي ، الشيخ محمد بن الحسن : مصباح المتهجد / ٥١٠.

١٨٥

فكانت الشيعة أيضاً تحمل من تراب كربلاء في مناديل معهم ، فإذا صار وقت الصلاة فتحوا المنديل ، وسجدوا على التراب الذي فيه ، وبعد ذلك فكروا بصنع قطعات يسهل حملها ، فمزجوا تراب كربلاء بالماء وجعلوا منه قطعات من الطين اليابس تسهيلاً لحمله ونقله ، فكل من أحب يأخذ معه طينة يابسة يحملها معه ، فإذا صار وقت الصلاة ؛ يضعها حيث يشاء فيسجد عليها ، وهو من باب الفضيلة والإستحباب ، وإلا فنحن نسجد على كل ما يطلق عليه إسم الأرض ، من الحجر والمدر والتراب والحصى والرمل من كل بقاع الأرض. والآن فكروا ، هل يصح منكم ـ وأنتم علماء القوم ـ أن تهاجموا الشيعة المؤمنين ، لأجل سجودهم على تراب كربلاء؟ فتلبسوا الواقع على أتباعكم ، فيظنون بأنّ الشيعة كفار ومشركون ، يعبدون الأصنام ، ومن المؤسف أنّ بعض علماء أهل السنة أيضا يماشي عامة الناس ، ويؤيدهم من غير أن يتحقق في الموضوع ، ليعرف ما هو دليل الشيعة على عملهم؟ وما معنى ومغزى سجودهم على الطينة اليابسة؟!

ولو كان علماء العامة يحققون في ذلك لعرفوا أنّ الشيعة أكثر خضوعاً ، وأكثر تذللاً لله عَزّ وجَلّ ، إذ يضعون جباههم ـ وهو أفضل مواضع الجسم ـ على التراب الذي يسحق بالأقدام ، يضعون جباههم عليه خضوعاً لله وعبودية له سبحانه ، وهكذا يتصاغرون أمام عظمة الله تعالى ، ويتذللون له عَزّ وجَلّ.

فالعتب على علماء العامة ؛ إذ يتبعون بعض أسلافهم في إثارة التُّهم والإفتراءات والأكاذيب على الشيعة ، بغير تحقيق وتدبّر ، فنحن ندعوهم إلى

١٨٦

التفكّر والتعمق في معتقداتهم ومعتقداتنا ، ونطلب منهم بإلحاح أن يحققوا المسائل الخلافية بيننا وبينهم ، فيعرفوا دلائلنا ، لعلّهم يجدوا الحق فيتبعوه»(٢٣٣) .

٣ ـ الشيخ الأنطاكي(٢٣٤) مع بعض أعلام السنة :

«وفي يوم الرابع عشر من شهر محرم الحرام سنة ١٣٧٤ هـ ، أتاني جماعة من علماء السنة وبعضهم زملائي في الأزهر ، حاملين عليّ حقداً في صدورهم لأخذي بمذهب أهل البيت وتركي مذهب السنة ، ودار البحث بيننا طويلاً يقرب حوالي عشر ساعات تقريباً ، وذلك في كثير من المسائل ، ومنها إنتقادهم على الشيعة بأنّهم يسجدون على التربة الحسينية فهم مشركون ، وإجراءهم التعازي على الإمام الحسين عليه السلام وهو بدعة. فقلت لهم : كلاهما أمر محبوب محبذ إليه من الشارع المقدس ، أما قولكم أنّ الشيعة يسجدون على التربة الحسينية ، فهم مشركون! هذا غير صحيح ؛ لأنّ السجود على التربة لا يكون شركاً ؛ لأنّ الشيعة تسجد على التربة لا لها وإن كانت الشيعة تعتقد على حسب مدعاكم وزعمكم «على الفرض المحال» ، أنّ التربة هي أو في جوفها شيء يسجدون لأجلها ، فكان اللازم السجود لها لا السجود عليها ؛ لأنّ الشخص لا يسجد على معبوده ، ولأنّ السجود يجب أن يكون للمعبود وهو الله يعني تكون الغاية من السجود والخضوع هو الله سبحانه ، أما السجود على الله ؛ فهو كفر محض ، فسجود الشيعة على التربة ليس شركاً فأجابني أحدهم

__________________

(٢٣٣) ـ سلطان الواعظين ، السيد محمد الموسوي : ليالي بيشاور / ١٠٥٦ ـ ١٠٧١.

(٢٣٤) ـ العلامة الكبير الشيخ محمد مرعي الأمين الأنطاكي ، أحد أعلام سوريا ، ولد سنة ١٣١٤ هـ في قرية من القرى التابعة إلى أنطاكية ، تبعد عنها ما يقرب من أربعة فراسخ تدعى (عنصو) ، ثم نزل حلب وتخرج من الأزهر وأصبح أحد أعلام سوريا ، كان في بداية أمره شافعياً ثم إعتنق مذهب أهل البيت (ع) ، توفي عام ١٣٨٣ هـ.

١٨٧

ـ وهو أعلمهم ـ قائلاً : أحسنت يا فضيلة الشيخ على هذا التحليل اللطيف ، ولنا أن نسألك : ما سبب إصرار الشيعة على السجود على التربة ، ولم لا تسجدون على سائر الأشياء ، كما تسجدون على التربة؟

فأجبته : ذلك عملاً بالحديث المتفق عليه باجماع جميع فرق المسلمين ، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً). فالتراب الخالص هو الذي يجوز السجود عليه باتفاق جميع طوائف المسلمين ، ولذلك نسجد دائماً على التراب الذي اتفق المسلمون جميعاً على صحة السجود عليه ، فسألني : وكيف إتفق المسلمون عليه؟

فأجبته : أول ما جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وأمر ببناء مسجد فيها ، هل كان المسجد مفروشاً بفرش؟ فأجابني : كلا لم يكن مفروشاً. قلت : فعلى أي شيء كان يسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون؟ أجابني : على أرض المسجد المفروشة بالتراب. قلت : ومن بعد النبي في زمن (أبي بكر وعمر وعثمان وأمير المؤمنين علي عليه السلام ، هل كان المسجد مفروشاً بفرش؟

فأجابني : على أرض مفروشة بالتراب. فقلت : إذن جميع صلوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت على الأرض ، وكان يسجد على التراب صحيح قطعاً ، ومعاشر ال شيعة إذ تسجد على التراب تأسياً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فتكون صلواتهم صحيحة قطعاً.

فأورد عليَّ : بأنّ الشيعة لم لا تسجد على غير التربة التي يحملونها معهم من سائر مواضع الأرض ، أو غيرها من التراب؟

١٨٨

فأجبته :

أولاً ـ إنّ الشيعة تجوز السجود على كل أرض ، سواء في ذلك المتحجر منها أو التراب.

ثانياً ـ حيث أنّه يشترط في محل السجود الطهارة من النجاسة ، فلا يجوز السجود على أرض نجسة ، أو تراب غير طاهر ، لذلك يجعلون معهم قطعة من الطين الجاف الطاهر ، تَفصّياً عن السجود على ما لا يعلم طهارته من نجاسته ، مع العلم أنّهم يجوزون السجود على التربة أو أرض لا يعلم نجاسته.

فأورد عليَّ : إن كانت الشيعة يريدون بذلك السجود على التراب الطاهر الخالص ، فلم يحملون معهم تراباً يسجدون عليه؟

فأجبته : حيث أنّ حمل التراب يوجب وسخ الثياب ـ لأنّه أينما وضع من الثوب ، فلا بد أن يوسخه ـ لذلك تمزجه بشيء من الماء ، ثم ندعه ليجف حتى لا يوجب حمله وسخ الثوب؟ ثم إنّ السجود على قطعة من الطين الجاف أكثر دلالة على الخضوع والتواضع لله ، فإنّ السجود هو غاية الخضوع ، ولذا لا يجوز السجود لغير الله سبحانه ، فإذا كان الهدف من السجود هو الخضوع لله ، فكلما كان مظهر السجود أخفض من موضع اليدين والرجلين ؛ لأنّ ذلك أكثر دلالة على الخضوع لله تعالى.

وكذلك يستحب أن يُغفِّر الأنف بالتراب في حال السجدة ؛ لأنّ ذلك أشد دلالة على التواضع والخضوع لله تعالى ؛ ولذلك فالسجود على الأرض ؛ أو على قطعة من الطين الجاف أحسن من السجود على غيرها مما يجوز السجود

١٨٩

عليه ؛ لأنّ في ذلك وضع أشرف مواضع الجسد ـ وهو الجبهة ـ على الأرض ، خضوعاً لله تعالى ، وتصاغراً أمام عظمته.

أما أن يضع الإنسان ـ في حال السجدة ـ جبهته على سجاد ثمين ، أو على معادن كالذهب والفضة وأمثالهما ، أو على ثوب غال القيمة ؛ فذلك مما يقلل من الخضوع والتواضع ، وما أدى إلى عدم التصاغر أمام الله العظيم ، إذن ، فهل يمكن أن يعتبر السجود على ما يزيد من تواضع الإنسان أمام ربه شركاً وكفراً ، والسجود على ما يذهب بالخضوع لله تعالى تقرباً من الله ، إن ذلك إلا قول وزور؟!

ثم سألني فما هذه الكلمات المكتوبة على التربة التي تسجد الشيعة عليها؟

فأجبته :

أولاً ـ المكتوب على بعضها ، سبحان ربي الأعلى وبحمده رمزاً لذكر السجود ، وعلى بعضها أنّ هذه التربة متخذة من تراب أرض كربلاء المقدسة ، بالله عليك أسأل من فضيلتك ، هل في ذلك بأس؟ وهل يُعد ذلك شركاً؟ وهل ذلك يخرج التربة عن كونها تراباً جائز السجود عليه؟

فأجابني : كَلّا!

ثم سألني : ما هذه الخصوصية في تربة أرض كربلاء ، حيث أنّ أكثر الشيعة مقيدين بالسجود عليها مهما أمكن؟

قلت : السر في ذلك ، أنّه ورد في ال حديث الشريف : (السجود على التربة الحسينية يخرق السماوات السبع الخ)(٢٣٥) . يعني أنّ السجود عليها يوجب قبول

__________________

(٢٣٥) ـ هذا ال حديث منقول بالمعنى ، والموجود في النص هكذا : (السجود على تربة أبي عبد الله (ع) ، يخرق الحجب السبع).

١٩٠

الصلاة وصعودها إلى السماء ، وما ذلك إلا لإدراك أفضلية ، ليست في تربة غير كربلاء المقدسة.

فأورد عليَّ : هل السجود على تربة الحسين تجعل الصلاة مقبولة عن دالله تعالى ، ولو كانت الصلاة باطلة؟

فأجبته : أنّ الشيعة تقول : بأنّ الصلاة الفاقدة لشرط من شرائط الصحة باطلة غير مقبولة ، ولكن الصلاة الجامعة لجميع شرائط الصحة ، قد تكون مقبولة عند الله تعالى ، وقد تكون غير مقبولة ـ أي لا يثاب عليها ـ ، فاذا كانت الصلاة الصحيحة على تربة الحسين ؛ قبلت ويثاب عليها ، فالصحة شيء ، والقبول شيء آخر.

فسألني : وهل أرض كربلاء المقدسة أشرف من جميع بقاع الأرض ، حتى من أرض مكة المعظمة ، والمدينة المنورة ، حتى يكون السجود عليها أفضل؟

فقلت : وما المانع من ذلك؟

قال : إنّ تربة مكة التي لم تزل منذ نزول آدم عليه السلام إلى الأرض كعبة ، وأرض المدينة التي تحتضن جسد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، تكونان في المنزلة دون منزلة كربلاء ، قال : هذا أمر غريب! وهل الحسين بن علي أفضل من جده الرسول؟

قلت : إنّ عظمة الحسين من عظمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وشرف الحسين من شرف الرسول ، ومكانة الحسين عند الله تعالى إنما هي لأجل أنّه إمام سار على دين جده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى استشهد في ذلك لا ليست منزلة الحسين إلا جزءاً من منزلة الرسول ، ولكن حيث أنّ الحسين عليه السلام قتل هو وأهل بيته

١٩١

وأنصاره في سبيل إقامة الإسلام ، وإرساء قواعده ، وحفظها عن تلاعب متبعي الشهوات ، عَوّضه الله تعالى باستشهاده ثلاثة أمور :

١ ـ إستجابة الدعاء تحت قبته.

٢ ـ الأئمة من ذريته.

٣ ـ الشفاء في تربته(٢٣٦) .

فعظم الله تعالى تربته ؛ لأنّه قتل في سبيل الله أفجع قتلة ، وقتل معه أولاده وأخوته وأصحابه ، وسبي حريمه وغير ذلك من المصائب التي نزلت به من أجل الدين ، فهل في ذلك مانع؟ أم هل في تفضيل تربة كربلاء على سائر بقاع الأرض حتى على أرض المدينة ، معناه أنّ الحسين عليه السلام أفضل من جده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، بل الأمر بالعكس ، فتعظيم تربة الحسين تعظيم للحسين ، وتعظيم الحسين عليه السلام تعظيم لله ولجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقام أحدهم عن مجلسه وعليه آثار البشاشة والسرور ، فحمدني كثيراً ، وطلب مني بعض مؤلفات الشيعة ، بعد أن قال : مولاي إفادتك ، هذا صحيح وأني كنت أتخيل أنّ الشيعة يفضلون حتى على جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والآن عرفت الحقيقة ، وأشكرك على هذه المناظرة اللطيفة والإلتفاتات الطيبة التي زودتنا بها ، وسوف أحمل معي أبداً قطعة من أرض كربلاء المقدسة لأسجد عليها أينما صليت ، كما أني سأدع السجود على غير التراب ، ومخصوصاً التربة الحسينية»(٢٣٧) .

__________________

(٢٣٦) ـ هذا مأخوذ من حديث محمد بن مسلم ، حيث قال : سمعت أبا جعفر ، وجعفر بن محمد (ع) يقولان (إنّ الله تعالى عَوّض الحسين (ع) من قتله ، أن جعل الإمامة في ذريته ، والشفاء في تربته ، واجابة الدعاء عند قبره ، ولا تُعدُّ أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره الخ) ـ راجع بحار الأنوار للمجلسي : ج ٤٤ / ٢٢١.

(٢٣٧) ـ الأنطاكي ، الشيخ محمد مرعي : لماذا اخترت مذهب أهل البيت / ٣٤١.

١٩٢

٤ ـ الدكتور التيجاني مع الشهيد الصدر :

يقول الدكتور التيجاني : «سألته بعد ذلك عن التربة الحسينية التي يسجدون عليها ، والتي يسمونها بـ(التربة الحسينية).

أجاب قائلاً : يجب أن يُعرف قبل كل شيء أننا نسجد على التراب ، ولا نسجد للتراب ـ كما يتوهم البعض الذين يشهرون بالشيعة ـ فالسجود هو لله سبحانه وتعالى وحده ، والثابت عندنا وعند أهل السنة أيضاً أنّ أفضل السجود على الأرض ، أو ما أنبتت الأرض من غير المأكول ، ولا يصح السجود على غير ذلك ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفترش التراب ، وقد إتخذ له خمرة من التراب والقش يسجد عليها ، وعَلّم أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ فكانوا يسجدون على الأرض ، وعلى الحصى ، ونهاهم أن يسجد أحدهم على طرف ثوبه ، وهذا من المعلومات بالضرورة عندنا. وقد إتخذ الإمام زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين عليهما السلام تربة من قبر أبيه أبي عبد الله عليه السلام باعتبارها تربة زكية طاهرة ، سالت عليها دماء سيد الشهداء ، وإستمر على ذلك شيعته إلى يوم الناس هذا ، فنحن لا نقول بأنّ السجود لا يصَحّ إلا عليها ، بل نقول بأنّ السجود يصَحّ على أي تربة أو حجرة طاهرة ، كما يصح على الحصير والسجاد المصنوع من سعف النخيل وما شابه ذلك»(٢٣٨) .

٥ ـ المستر رايلي مع سكرتير وزارة المعارف العراقية

يقول الدكتور عبد الجواد الكليدار : «وقبل ذلك حوالي عام ١٩٢٢ ـ ١٩٢٣ ، زار كربلاء المستر رايلي وكيل مستشار المعارف ، إذ ذاك يصحبه

__________________

(٢٣٨) ـ التيجاني ، الدكتور محمد السماوي : ثم اهتديت / ٦٦.

١٩٣

سكرتير الوزارة ، وكان الرجل بالأصل قِسّاً يتتبع مثل هذه الأمور ، ولا سيما في بغداد كانوا قد أدخلوا في ذهنه بعض المسائل ، فعندما كان يتجول في أسواق كربلاء ، وصل إلى حانوت لبيع الترب على الزائرين ، فسأل السكرتير مستغرباً ، كأنّه لا يعرف ذلك : ما هذا الذي يبيعونه في هذا الحانوت؟

فأجابه السكرتير إرتجالاً ، هذه تربة كربلاء ، وهي مثل حصى كنيسة القديس بطرس عندكم ، التي تباع كل واحدة منها بفرنك واحد ـ أي بدرهم ـ على الزائرين.

وما كان ينتظر المستشار هذا الجواب الفجائي غير المنتظر ، فضحك وقال : صدقت ، نحن أيضاً في أوروبا عندنا مثل هذه العوائد ولا غرابة في ذلك ، إذ أنّ كل من يزور تلك الكنيسة في روما يشتري من حصاها للتبرك والإستشفاء ، فتجد أنّ مثل هذه العادات في تقديس بعض الأشياء الدينية لا تخلو منها أمة ، وحتى الأمم الأوروبية المتحضرة الراقية توجد بأكثر من ذلك»(٢٣٩) .

٦ ـ الأستاذ محمد خير(٢٤٠) مع خصوم الشيعة :

يقول الأستاذ محمد خير : «ومما يثير أعداء الشيعة عليهم ، هو قولهم : أنّ الشيعة يخالفون جمهور أهل السنة لسجودهم على أحجار من الطين ، يحملونها في جيوبهم ويقدسونها تقديسا. والحقيقة أنّ الشيعة يحملون ألواحاً من الطين من التربة التي دفن فيها سيدنا الحسين ، ويتبركون بها عند سجودهم.

__________________

(٢٣٩) ـ الكليدار ، الدكتور عبد الجواد : تاريخ كربلاء وحائر الحسين (ع) / ١٣٦.

(٢٤٠) ـ محمد أحمد حامد محمد خير ، سوداني مالكي المذهب ، أشعري العقيدة ، ينتمي إلى أسرة دينية عريقة في العلم في منطقة الخندق بالشمالية ، إلتحق بجامعة الخرطوم ـ كلية الاقتساد ـ وتخرج منها عام ١٩٨١ م ، تلقى العلوم الدينية على يد عدد من العلماء.

١٩٤

وتفسير هذه المسألة بسيط جداً ، وهو أنّ الشيعة ـ حسب المذهب الجعفري ـ يعتقدون أنّ السجود على الأرض ، أو ما خرج منها واجب ، وهم لم ينفردوا بهذا الرأي ، بل أنّ الراجح من مذهب السادة المالكية أنّ السجود على الأرض أفضل ، ولذلك فهم يعملون هذه الأحجار ، ويسجدون عليها حيثما ذهبوا. أما القول بأنّ هذه الأحجار من تربة كربلاء ، وأنهم يتبركون بها ؛ فلا بأس من ذلك فقد تواتر عند الأئمة من أهل البيت ، أنهم كانوا يسجدون على تربة سيدنا الحسين وقد روى شيخ الطائفة الطوسي : (أنّه كان للإمام الصادق بن محمد الباقر ، خريطة ديباج صفراء ، فكان إذا حضرت الصلاة صَبّها على سجادته وسجد عليها ، وقال : إنّ السجود على تربة أبي عبد الله ، يخرق الحجب السبع)(٢٤١) إنّ فضل التربة التي ضمت سيدنا الحسين ، فضل عظيم ولها خبر عجيب ، لقد كان أول من عظم هذه التربة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فقد روى الحاكم ، والبيهقي ، وأبي نعيم عن عدد من الصحابة ، أنّ أم سلمة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فوجدت بيده تربة حمراء ، والحسين في حجره ، وعينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تهرقان الدموع. فقالت أم سلمة : ما هذه التربة يا رسول الله؟

فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : أتاني جبريل فأخبرني أنّ أمتي ستقتل ابني هذا ، وأتاني بتربة من تربته حمراء)(٢٤٢) .

وورد في بعض الروايات : أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سلم تلك التربة إلى أم سلمة ، وقال لها : (إذا رأيتها فاضت دماً فاعلمي أنّ الحسين قتل. فكانت تتعهدها ،

__________________

(٢٤١) ـ الطوسي ، الشيخ محمد بن الحسن : مصباح المتهجد / ٥١٠.

(٢٤٢) ـ خير ، محمد احمد حامد : براءة الشيعة / ٤٥ ـ ٤٦.

١٩٥

وحفظتها في قارورة إلى أن وجدتها فاضت يوم عاشوراء ، فقالت لجاريتها : إعلمي أنّ ابني قد قتل.

والمقصود أنّ تربة سيدنا الحسين تبركت بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّ فيها سرّ سيدنا الحسين وبركته ؛ إذ تغيرت بموته ، ولذا تبرك بها أتباع أهل البيت إلى يوم القيامة ، وحرم الله منها من حرم»(٢٤٣) .

__________________

(٢٤٣) ـ خير ، محمد أحمد حامد : براءة الشيعة / ٤٥ ـ ٤٦.

١٩٦

البحث الثاني

قصص الرؤى

١٩٧
١٩٨

بحوث تمهيدية

١ ـ بيان حقيقة الرؤى

٢ ـ أقسام الرؤى

٣ ـ أهمية الرؤى

٤ ـ نتيجة البحث

١٩٩
٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554