العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته9%

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 603

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته
  • البداية
  • السابق
  • 603 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41464 / تحميل: 4553
الحجم الحجم الحجم
العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

لكن الأُردوبادي رجّح أن تكون ولادته في (٢٧ هـ) اعتماداً على مقدّمات وحسابات وافتراضات تفرّد بها(١) وأنّه قُتِلَ شهيداً سنة (٦١ هـ) في العاشر من شهر محرّم الحرام ، في الطَفّ وهي كربلاء(٢) .

وأمّا محلّ ولادته :

فقد قال الأُردوبادي : وأمّا محلّ ولادته سلام الله عليه فلا شكّ أنّه المدينة المنوّرة ، فإنّ أمير المؤمنين سلام الله عليه ـ إذْ ذاك ـ كان فيها ، وكانت هجرتُهُ عليه السلام إلى الكوفة بعد ثماني سنين تقريباً(٣) فقد كانتْ في حدود سنة (٣٥ هـ)(٤) .

موقف العبّاس عليه السلام من إخوته عند الشهادة :

قال البخاري النسّابة : لمّا كان يوم الطَفّ قدّم الحسين بن عليّ عليهما السلام إخوة العَبّاس ، وهم ثلاثة : جعفر ، وعثمان ، وعَبْد الله أبو بكر ، حتّى قتلوا وورثهم العَبّاس ، ثمّ قُتِلَ العَبّاس فورثهم جميعاً ابنه عُبَيْد الله بن العَبّاس(٥) . وهذا النصّ دليل على أنّ الإمام الحسين عليه السلام هو الّذي قدّم الإخوة الثلاثة على العَبّاس للقتال ، فقُتِلُوا قبله ، وليس المقدّم لهم هو

__________________

(١) فصول من حياة أبي الفَضْلِ (ص ١ ـ ٤٢).

(٢) عمدة الطالب (ص ٣٥٦).

(٣) فصول من حياة أبي الفَضْلِ (ص ٤٤).

(٤) فصول من حياة أبي الفَضْلِ (ص ٣٥).

(٥) سرّ السلسلة (ص ٨٩) معالم أنساب (ص ٢٥٦).

١٢١

العبّاس ، وإذا كان يرثهم ـ كما عبر البخاريّ ـ فلكونه أخاً لهم من الأبوين ، فهو يحجبُ الإخوة من طرفٍ واحدٍ ، كما عليه فقه الإماميّة(١) .

وقال الشيخ المفيد : لمّا رأى العَبّاسُ بن عليّ عليهما السلام كثرة القتلى في أهله ، قال لإخوته من أُمّه ـ وهم عَبْد الله ، وجعفرٌ ، وعُثمانُ ـ : «يا بني أُمّي ، تقدّموا أمامي حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله ، فإنّه لا ولد لكم »(٢) .

وقال الدينوريّ : لمّا رأى ذلك العَبّاس ، قال لإخوته : عَبْد الله ، وجعفر ، وعثمان : بني عليّ وعليهم السلام ، وأُمّهم جميعاً أُمُّ البنين العامريّة من آل الوحيد : «تقدّموا ـ بنفسي أنتم ـ فحامُوا عن سيّدكم ، حتّى تموتُوا دُونه ».

فتقدّموا جميعاً ، فصاروا أمام الحسين عليه السلام يقُونَهُ بِوُجُوهِهم ونُحُورِهم.

فحمل هانئ بن ثبيت(٣) الحَضرميّ على عَبْد الله بن عليّ ، فقتله.

ثمّ حمل على أخيه جعفر بن عليّ ، فقتله أيضاً.

ورمى يزيدُ الأصبحيّ عثمانَ بن عليّ بِسَهمٍ ، فقتله ، ثمّ خرج إليه فاحتزّ رأسه ، فأتى عُمَرَ بنَ سعدٍ ، فقال له : أثِبْنِي! فقال عمرُ : عليك بأميرك ـ يعني عُبَيْد الله بن زياد ـ فسَلْهُ انْ يُثِيبَكَ!

وبقي العَبّاس بن عليّ قائماً أمامَ الحسين يُقاتلُ دُونه ، ويميلُ معهُ

__________________

(١) راجع الروضة البهيّة شرح اللمعة الدمشقية ، ويلاحظ أنّ الأخ من الأبوين إنّما يحجب الإخوة غير الأشقاء فقط ، ولا يحجب غيرهم من الورثة ؛ كالأبوين والزوجة وغيرهما.

(٢) الإرشاد للشيخ المفيد (٢ / ١٠٩).

(٣) كذا الصواب وفي المصدر : ثويب.

١٢٢

حيثُ مالَ ، حتّى قُتِلَ رحمةُ الله عليه(١) .

ونقل أبو الفرج ، قال : قال العَبّاس بن عليّ لأخيه من أبيه وأُمّه عَبْد الله ابن عليّ : «تقدّم بين يَدَيَّ حتّى أَراكَ (٢) وأَحْتَسِبَكَ ، فإنّه لا وَلَدَ لَكَ » فتقدّم بين يديه ، وشدّ عليه هانئ بن ثُبَيْت الحضرميّ ، فقتله(٣) .

تحريف مبنيّ على تصحيف :

علّق محقّق مقاتل الطالبيين على قول العَبّاس عليه السلام لأخيه عَبْد الله : «تقدّم بين يديَّ حتّى أراك وأحتسبك » ما نصّه : في الخطيّة : حتّى أرثك(٤) .

أقولُ : أنّ رسم الخطّ العربيّ القديم هو كتابة الألف المتوسّطة في مثل كلمة (أراك ) و(أراكم ) بصورة ألفٍ صغيرةٍ على كرسيّ الياء هكذا : (أريك ) و(أريكم ) ومع حذف الألف القصيرة على الكرسيّ (يـ) وعدم تنقيط الكلمة يُشَبَّهُ على مَنْ لم يعرفْ هذا الرسم ، فتتصحّف الكلمةُ عنده بـ (أرثك ) أو (أرثكم ) وهذا ما حصل للبعض في نقل كلام العَبّاس عليه السلام.

فعن ابن الأثير : أنّ العَبّاس قال لإخوته من أُمّه : عبد الله وجعفر

__________________

(١) الأخبار الطوال (ص ٢٥٧).

(٢) في هامش المطبوعة ما نصّه : «في الخطيّة (حتّى أرثك»).

أقول : هذا من التصحيف ؛ لأنّ رسم كلمة (أَراكَ) قديماً يُكتب : (أريك) حيثُ تجعل الألف القصيرة على نبرةٍ تشبهُ كرسيّ الياء المتّصلة هكذا (يـ) ومع حذف الألف القصيرة وعدم تنقيط الكلمة تقرب في الرسم من (أرثك) فلاحظ. كما ذكرنا في المتن أيضاً.

(٣) مقاتل الطالبيين (ص ٨٨).

(٤) مقاتل الطالبيين (ص ٨٨) هـ (١).

١٢٣

وعثمان : «تقدّموا حتّى أرثكم فإنّه لا ولد لكم » ففعلوا فقتلوا(١) .

وهو المنقول عن الطبري عن أبي مخنف قال : وزعموا أنّ العَبّاس قال(٢) .

وهو تصحيف أدّى إلى تحريف المَعْنى بلا ريب ، فإنّ المنقول عنه في مهمّات الكتب ـ كما قدّمنا ـ هو حثّ العبّاس عليه السلام إخوتَه على الطاعة والانقياد والتفاني والتضحية في سبيل أخيهم الحسين الإمام عليه السلام ولمّا قدّم الحسينُ عليه السلام إخوته للقتال ، ما كان من العَبّاس إلاّ التشجيع لهم ، وبَعثهم على التقدّم والحماية عن سيّدهم الإمام عليه السلام لأخيه من أبيه وأُمّه عَبْد الله : «أَحْتَسِبَكَ » لِما في تحمّلمصيبة قتلهم ؛ وصبرِه على فقدهم من الأجر ، وأرادَ لهم رفيع المنزلة بتحصيل الشهادة ، وهو شاهدٌ على تفانيهم ، وهذا يدلّ على أرفع معاني الكرامة عنده ، وعظيم المحبّة لهم ، وكريم المنزلة لديه حيث حثّهم على مثل ذلك الجهاد العظيم بين يدي الإمام عليه السلام الوحيد.

فمثل هذا الأخ ، وفي ذلك الموقف الحرج الرهيب ، لا يتصوّر منهُ أن يفكّرَ أو يذكر أمَر الإرث وما أشبه من حُطام الدُنيا الفانية ؛ وهو مقبلٌ على نعيم الآخرة الّذي لا يفنى.

وقد أدّى هذا التصحيف إلى اجتهاد خاطئ ، ممّن نقل : أنّ العبّاس بن

__________________

(١) الكامل لابن الأثير (٤ / ٧٦).

(٢) تاريخ الطبري (٥ / ٤٤٩) وانظر فصول الأُردوبادي (ص ٧١).

١٢٤

عليّ ، قدّم أخاه جعفراً بين يديه ، لأنّه لم يكن له ولد ؛ ليحوزَ ولد العبّاس ابن عليّ ميراثه ، فشدّ عليه هانئ بن ثبيت الّذي قتل أخاه ، فقتله(١) .

وقد عارض أبو الفرج هذه الرواية بما ذكر بعدها مباشرةً من قوله : «هكذا قال الضحّاك ».

ولعلّ كلام الضحّاك هذا هو الذي سبب تصحيف الكلمة الواحدة من (أراكم ) إلى (أرثكم ).

فانظر : كيف أدّى إلى تحريف المعنى السامي الذي أراده العبّاس عليه السلام إلى معنى هابطٍ رذلٍ بعيدٍ عن روح النضال والجهاد والتضحية والمواساة؟.

وتَعِسَ من يُحاولُ أن يُسيء إلى تلك الروح العالية ، ويهبط بالكرامة والنجدة والمواساة إلى ما يُعارضها ويُنافيها من التفكير بالمادّة ، وما يتبع ذلك من الرذالة والخساسة الّتي هي من شأن أعداء آل محمّد ، ويجلّ آل البيت عليهم السلام ومن معهم منها ، كما نربؤ بهم عنها.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ٨٨).

١٢٥
١٢٦

البابُ الثاني

سِماتُ العَبّاس عليه السلام الجَسَدِيّةُ

١٢٧
١٢٨

كان العبّاس عليه السلام طوالاً من الرجال

قال أبو الفرج الأصفهانيّ : كانّ العَبّاس رجلاً وسيماً جميلاً ، يكرب الفَرَسَ المُطَهَّم(١) ورجلاه تخطّان الأرض ، وكان يقال له : قمر بني هاشم(٢) .

وقال أبو العَبّاس الحَسَنيّ في ذكر آخر من قُتِلَ من أهل البيت عليهم السلام مع الحسين : ثمّ العَبّاس بن علي بن أبي طالب ، وكان يُقاتلُ قتالاً شديداً ، فاعتوره الرجّالةُ برماحهم فقتلُوه ، فبقي الحسين عليه السلام وحدَهُ ليسَ معهُ أَحَدٌ(٣) .

وقال ابن الطِقْطقَى : كان العَبّاس عليه السلام شجاعاً ، فارساً ، كريماً ، باسلاً ، وفيّاً لأخيه ، واساه بنفسه عليه وعلى أخيه صلوات الله(٤) .

أقول : إنّ ضخامة الجسم بطول اليدين والرجلين ، والشجاعة تقتضي البسالة وشدّة القتال ، وقد وفى العبّاس عليه السلام بحقّ ذلك وأبلى في الأعداء ، فحنَقُوا عليه ، وقطعوا يديه ورجليه(٥) .

__________________

(١) المطهّم : السمين الفاحش السمن ، وـ المنتفخ الوجه ، وـ التامّ من كلّ شيء ، المعجم الوسيط (طهم) ص ٥٦٩ ، والمراد هنا : الفرس الضخم المرتفع.

(٢) مقاتل الطالبيين (ص ٩٠).

(٣) المصابيح (ص ٣٣١).

(٤) الأصيلي (ص ٣٢٨).

(٥) راجع : شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري (٣ / ١٩١ ـ ١٩٣).

١٢٩

رأس العبّاس الأصغر :

ثمّ إنّ الشيخ الصدوق(١) نقل عن هِشام بن محمّد ، عن القاسم بن الأَصْبَغ المُجاشعيّ قال : لمّا أُتِيَ بِالرؤوس إلى الكوفة إذا بِفارسٍ قد عَلّقَ في لَبَبِ فَرَسِهِ(٢) رأسَ غُلامٍ أَمْرَدَ ، كأنّهُ القمرُ في ليلة تَمِّهِ ، والفَرَسُ يَمْرَحُ ، فإذا طأطأَ رأسَهُ لَحَقَ الرأسُ بالأرض. فقلتُ لهُ : رأسُ مَنْ هذا؟

فقال : رأسُ العَبّاسِ بن عليٍّ.

قلتُ : ومنْ أنتَ؟ قال : حَرْمَلَةُ بنُ كاهِلِ الأسديّ.

ونقله سبط ابن الجوزيّ ، واللفظ له(٣) وانظر ما رواهُ أبو الفرج(٤) .

ومن الواضح أنّ وصف «الغُلام الأمرد» لا يَتناسَبُ مع أوصاف العَبّاس الأكبر السقّاء عليه السلام.

فلابدّ من حمله على أخيه العَبّاس الأصغر من الأصاغر من أولاد أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام وقد سبق ذكره ، وذكرنا أنّ أُمّهُ أُمُّ ولدٍ ، كما عن بعض ، وغيرها عن آخرين.

__________________

(١) عقاب الأعمال (ص ٢٥٩ ـ ٢٦٠) ح ٨ باب عقاب من قاتل الحسين عليه السلام.

(٢) اللبب : ما يشدّ في صدر الدابة ليمنع تأخّر السرج (المعجم الوسيط : لبب).

(٣) تذكرة الخواص (٢ / ٢ ـ ٢٥٣).

(٤) مقاتل الطالبيين (ص ١١٧ ـ ١١٨) والأمالي الخميسية (١ / ٢ ـ ١٨٣) والحدائق الوردية (١ / ٧ ـ ١٢٨) ولاحظ تذكرة الخواص (ص ٢٩١) وثواب الأعمال (٢١٩).

١٣٠

البابُ الثالث

سِماتُ العَبّاس عليه السلام الروحيّة

١٣١
١٣٢

إنّ مَنْ يترعرع في البيت الّذي طهّرَ اللهُ أهلَهُ ، فقال :( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (الآية ٣٣ من سورة الأحزاب).

لَحَرِيٌّ بكلّ الكمالات الروحيّة ، والعَبّاس عليه السلام نشأ في أحضان أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام ونَما في كنف الحَسَنِ المُجتبى ، وزاول الحياة في مدرسة الحُسين عليه السلام فاستأهَلَ المقاماتِ المعنويّة العالية ، واستحقّ المديحَ الصادقَ على لسان المعصومين عليهم السلام وقد رُوِيَت عنهم فيه ما يلي :

في كلمات الإمام الحسين عليه السلام ـ :

فهو من أهل بيت الحُسين عليه السلام الّذين توّجَهُمْ ليلةَ عاشوراء وأكرمهم بقوله :

«أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت (أبرّ ولا أوصل) (١) من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً (٢) .

فقد آزرتم وعاونتم ، والقوم لا يريدون غيري ، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحداً ، فإذا جنّكم الليلُ فتفرّقوا في سواده فانجوا بأنفسكم ».

فقام إليه العَبّاسُ بنُ عليّ أخوه ، وعليٌّ ابنه ، وبَنُو عقيلٍ ؛ فقالوا :

__________________

(١) في مقاتل الطالبیین (خيراً) بدل ما بين القوسين.

(٢) إلى هنا من الإرشاد للمفيد (٢ / ٩١).

١٣٣

معاذَ الله ، والشهر الحرام ، فماذا نقول للناس؟!(١) .

قال الشيخ المفيد :

فقال له إخوتُه ، وأبناؤُهُ ، وبَنُو أخيه ، وابنا عَبْد الله بن جعفر : لِمَ نفعلُ ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً.

بَدَأَهُم بِهذا القول العَبّاسُ بنُ عليٍّ رضوانُ الله عليه ، واتّبعته الجماعة عليه ، فتكلّموا بمثله ونحوه(٢) .

وقال أبو الفرج :

فقام إليه العبّاس أخوه ، وعليٌّابنه ، وبنو عقيلٍ فقالوا له :

معاذ الله والشهر الحرام! فماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم؟ إنّا تركنا سيّدنا وابن سيّدنا وعمادنا ، وتركناهُ غرضاً للنبل ودريئةً للرماح ، وجزراً للسباع.

وفررنا منه رغبةً في الحياة!؟ معاذ الله! بل نحيا بحياتك ، ونموت معك(٣) .

إنّ وصف الإمام الحسين عليه السلام لأهل بيته بالبرّ والصلة ، وجعلهم خيرَ أهلِ بيتٍ في المؤازرة والمعاونة ، والتمجيد لهم بهذه الكلمات الذهبيّة ؛ لهي شارةُ مجدٍ وكرامة في صَدْرِ مَنْ حَضَرَ من أهل بيته معهُ في تلك المِحنة الرهيبة ، وفي ذلك الموقف الصعب العصيب.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج (٢ ـ ١١٣).

(٢) الإرشاد للمفيد (٢ / ٩١) وراجع الكامل في التاريخ لابن الأثير (٤ / ٥٧).

(٣) مقاتل الطالبيين (ص ١١٣).

١٣٤

ثمّ إنّ تقدّم العَبّاس عليه السلام على جميع الحاضرين من أهل البيت ومن الأصحاب ، وفيهم أبناءُ الإمام وصحابة الرسول ، وكبار الشيبة والمشايخ ، وكون العَبّاس هو المتكلّمَ الأوّلَ في هذا المجمعِ الضخمِ الفخمِ ، والملتقى الشريف ، وفي مثل الموقف الحرج الّذي يرتج فيه الكلامُ على كلّ منطيقٍ ، إنّ تصدّرَ العَبّاس بمثلِ ذلك الكلام ، لدليلٌ على تملّيهِ بالإيمان واليقينِ بِما يقومُ به من المُتابعة لإمامِهِ ، كما ينمُّ عمّا يملكهُ من البُطولة والحميّة والدفاع عن الحقّ وأهله.

وممّا جاء في حديث المقتل : أنّ الإمام عليه السلام خاطب أخاهُ العَبّاس ، عند زحف جيش الكوفة نحو المخيّم الحسينيّ ، عصر التاسع من المحرّم ، فقال الإمام عليه السلام له :

يا عبّاسُ ، اركبْ ـ بِنفسي أنْتَ ، يا أخي! ـ حتّى تلقاهم ، فتقول لهم : مالكُم؟ وما بدا لكُم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم (١) ؟

إنّ تخصيصَ الإمام عليه السلام لأخيه العَبّاس لهذه الرسالة المهمّة فيها من الدلالة على المدى الفائق في اعتماده عليه بلا ريبٍ ، وهذا ما سنتحدّث عنه في الباب التالي من هذا الكتاب.

لكن تَفَدِّي الإمامِ بنفسهِ الشريفةِ أخاهُ العباسَ بقوله : «بِنفسي أنْتَ ، يا أخي! ...» فيه دلالةٌ أكبرُ ، لأنّ نفس الإمام عليه السلام هي أشرفُ نفسٍ على وجه الأرض ، والعَبّاس وكلُّ مَن معهُ إنّما حَضَرُوا معهُ لِيُحافِظُوا على نَفسهِ

__________________

(١) تاريخ الطبري (٥ / ٤١٦).

١٣٥

العزيزة والعظيمة ، وهذا واجبُهُم الإلهيّ ، فكيفَ يَتفَدّى الإمامُ بِنفسهِ هذِهِ لِلعبّاسِ!

إنّ في ذلك تقديساً لِلعَبّاسِ يُساوي قُدسيّة نفسِ الإمامِ عليه السلام ويرفع مستوى عظمة العَبّاس وكرامته إلى مُستوى اليقينِ بعظمةِ الإمامِ وكرامته.

وهذا ما تُؤكّدُهُ مجموعةُ الأحاديث والروايات الواردة عن الأئمّة عليهم السلام في حقّ العَبّاس عليه السلام وتبيين بعض فضائله وفواضله ، نسردها هُنا :

كلام الإمام زين العابدين السجّاد عليه السلام في عمّه العَبّاس :

أسندَ الشيخُ الصدوقُ إلى أبي حمزة الثُمالي ؛ ثابت بن أبي صفيّة ، قال : نظر سيّدُ العابدين عليُّ بنُ الحسين عليهما السلام إلى عُبَيْد الله بن العَبّاس بن عليّ ابن أبي طالب عليهم السلام فاستعبرَ ، وقال :

«ما من يومٍ أشدَّ على رسول الله صلى الله عليه وآله من يومِ أُحُدٍ ، قُتِلَ فيه عمّه حمزةُ ابن عَبْد المطّلب أسدُ الله وأسدُ رسوله ، وبعدهُ يوم مُؤتة قُتِلَ فيه ابن عمّه جعفرُ بنُ أبي طالب.

ثمّ قال : ولا يومَ كيومِ الحسين عليه السلام ازدلَفَ إليه ثلاثونَ ألفِ رجلٍ يزعمون أنّهمْ من هذه الأُمّة!!؟؟ كلٌّ يَتَقَرَّبُ إلى اللهِ عزّ وجلّ بِدَمِهِ!!! وهو باللهِ يذكّرهُمْ فلا يتّعِظُون ، حتّى قَتَلُوهُ بَغْياً وظُلْماً وعُدْواناً.

ثمّ قال : رَحِمَ اللهُ العَبّاسَ ، فقدْ آثَرَ ، وأَبْلى ، وفَدَى أخاهُ بِنَفسهِ ، حتّى قُطِعَتْ يداهُ ، فأبْدَلَهُ اللهُ عزّ وجلّ بِهما جَناحينِ يَطِيرُ بِهما مَعَ الملائكةِ في الجنّة ، كما جَعل لِجَعفرِ بنِ أبي طالب.

١٣٦

وإنّ للعبّاسِ عندَ اللهِ تبارك وتعالى منزلةً يغبطُهُ بِها جميعُ الشُهداء يومَ القيامةِ »(١) .

إنّ ما يحتويه هذا النصُّ من كلمات الثناء والتمجيد لِمواقِفِ العَبّاسِ واضحةٌ صريحةٌ ، ونقرأُ وراءَها دلالاتٍ عميقةٍ :

فتذكيرُ الإمام السجّاد عليه السلام بأيّام الرسول صلى الله عليه وآله وغزواته ، وما جرى فيها عليه من الشدائد بِقَتل أهلِ بيتهِ في أُحُدٍ ومُؤتَةَ ، تدلُّ على المُقارَنةِ بينَ تلكَ الأيّامِ ، وبين يومِ الحُسين عليه السلام وفي ذلك :

١ ـ التوحيد بين الأهدافِ في الأيّامِ كلّها ، بِفارقِ أنّ القائدَ هُناكَ هُو رسول الله ، وهُنا هو ابنُه الحُسين الّذي نَصَّ على أنّهُ «مِنْهُ» في حديث : «حُسينٌ مِنّي وأنا من حُسينٍ أَحَبَّ اللهُ مَن أَحَبَّ حُسيناً »(٢) .

وبهذا حدّد الرسولُ صلى الله عليه وآله المسيرَ والمصيرَ ، بأنّ حركة الحسين عليه السلام هي استمرارٌ لحركة الرسول صلى الله عليه وآله.

وعلى ذلك فإنّ المقارنة تقعُ بين أصحاب الرسول في تلك الأيّام ، والأصحاب في يوم الحسين عليه السلام. وتخصّص المقارنة بين الشهداء في أيّام الرسول من أقاربه وأهل بيته ، والشهداء في يوم الحسين من أهل بيته.

__________________

(١) الأمالي للصدوق (ص ٧ ـ ٥٤٨) وهو آخر حديث في المجلس (٧٠) تسلسل (٧٣١) ورواه في كتابه الخصال (ص ٦٨ رقم ١٠١) بالسند ، من قوله : «رحم الله العَبّاس ...» إلى آخره وقال : والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة ، وقد أخرجته بتمامه مع ما رويته في فضائل العَبّاس بن علي عليهما السلام في كتاب (مقتل الحسين بن عليّ عليهما السلام).

(٢) وقد شرحنا الحديث في كتابنا (الحسين عليه السلام سماته وسيرته) الفقرة (١١).

١٣٧

وقد سبق الإمام أَمِيْر المُؤْمِنِيْن عليّ عليه السلام إلى ذلك في ما رواه الگنجي عنه ، أنه قال عند مروره بكربلاء : «يقتل في هذا الموضع شهداء ليس مثلهم شهداء إلا شهداء بدر »(١) .

٢ ـ ثمّ المقارنة بين حمزة الّذي مثّلَ بِجسدهِ الكُفّارُ يومَ أُحُدٍ ، وبين منْ قطّع إرباً إرباً في كربلاء يوم عاشُوراء. وبين جعفر الطيّار ابن عمّ الرسول صلى الله عليه وآله وبين العَبّاس أخ الحسين عليه السلام وصولاً إلى تساويهما في ما جرى عليهما من قطع اليدين ، وإبدالهما بجناحين ، فهما معاً يطيران في الجنّة مع الملائكة. على أنّ العبّاسَ امتاز بقطع الرِجْلين كما سيأتي عند ذكر مقتله عليه السلام.

٣ ـ وفي المقارنة الدلالةُ على أنّ يوم الحُسين عليه السلام هو كأيّام رسول الله صلى الله عليه وآله الّتي حدثتْ واستمرّتْ باستمرار الحقّ الّذي جاءَ بهِ الرسُولُ وضحّى بوجوده وأهل بيته وأصحابه ، كما الحُسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه.

٤ ـ وفي المقارنة دلالةٌ أُخرى عميقةٌ ، وهي أنّ الرسول صلى الله عليه وآله إنّما كان يقدّم أهلَ بيته أضاحي في سبيل مَبْدَئِهِ ورسالته ، وهو من أبلغ الأدلّة على حقّية رسالته ، بل أهل بيته بما قدّموه من التضحيات الكبيرة هُم مِن المُعجزات الإلهيّة للرسول ، حيثُ إنّ الملوك يُحاوِلُون الاحتفاظَ بِذويهم والابتعاد بهم عن مواقعِ الخطرِ ، لكن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقدّم أعزَّ أهلِهِ وذَويهِ في لَهَواتِ الحُرُوبِ ، يُدافِعُون عن الحقّ حتّى الشهادة.

__________________

(١) كفاية الطالب (ص ٤٢٧) وتاريخ دمشق لابن عساكر (١٤ / ٢٢٢).

١٣٨

فكذلك الحُسينُ عليه السلام اتِّباعاً لسيرةِ جدّهِ وأبيهِ قَدَّمَ أمامَ المُواجهاتِ الرَهيبةِ ، أَعَزَّ مَن كانَ معهُ من أهلِ بيتهِ ، فلا بُدّ أنْ تعدّ معركةُ كربلاء من مُعجزات الحسين صلى الله عليه وآله.

٥ ـ ثمّ إنّ المفارقةَ المؤلِمَةَ بين تلك الأيّام ـ أيّام الرسول ـ وبين يوم الحسين : أنّ المُواجهةَ في أيّام الرسول صلى الله عليه وآله كانت بين الكُفّار ؛ وبين المُسلمين ، والحُدودُ والأهدافُ كانت مُتمايِزةً ومعروفةً وواضحةً. لكنّها في يوم الحسين عليه السلام كانت بين الحسينِ سِبطِ رسول الله وأصحابِه من جِهَةٍ ، وبينَ شرذمةٍ مِمّن يَدَّعُون الانتِماءِ إلى دينِ جدِّهِ الرسول ، ويعتبرُونَ أنفسَهم مسلمين ومن أُمّتِهِ! ، لكنّهم جاءُوا : (يَتَقَرَّبُون إلى الله بِسفكِ دَمِ سبطهِ وريحانته الحُسين ).

إنّها من أصعبِ المواقِفِ وأحرجِها ، حيثُ صارت الحقيقةُ خافيةً على الأُمّةِ إلى هذهِ الدرجةِ ، ولمّا يَمْضِ على وفاةِ رسول الله نصفُ قرنٍ (خمسون سَنَةً) فقط!!!

فما أضلَّها من أُمّةٍ؟! وما أكثرها من خسارة أن تضيع تلك الجهود الغالية ، في سبيل هداية الأمّة!.

وما أقبحَها من رِدّةٍ على الأعقابِ!؟

وما أسرعَه من نقض للعهد!!؟؟

وما أعظمَ مقامَ مَن وَقَفَ مَعَ الحَقّ ، وجاهَدَ في سبيلهِ! في مثل ذلك الجهلِ والعَمى المُطبق!

١٣٩

وقد ذكر الإمام السجاد عمه أبا الفضل في حديث آخر :

أورده الشيخ الصدوق(١) ، قال : حدّثنا المظفّر بن جعفر [بن المظفّر] ابن العلويّ السّمر قنديّ : حدّثنا جعفر بن محمّد بن مسعود العيّاشيّ ، عن أبيه ، قال : حدّثنا عبد الله بن محمّد بن خالد الطّيالسيّ ، قال : حدّثني أبي ، عن محمّد بن زياد ، عن الأزديّ ، عن حمزة بن حُمران ، عن أبيه حُمران ابن أعين ، عن أبي جعفر ؛ محمّد بن عليّ الباقر عليهما السلام قال :

كان عليُّ بنُ الحسين عليهما السلام يُصلِّي في اليوم والليلة أَلْفَ رَكعة [...] .

ولَقَدْ كانَ بَكى على أَبيهِ الحُسين عليه السلام عِشرينَ سنةً ، وما وُضِعَ بَينَ يَديهِ طعامٌ إلاّ بَكى ، حتّى قال له مَولىً لهُ : يا ابنَ رَسُول الله! أَمَا آنَ لِحُزْنِكَ أنْ يَنْقَضِيَ؟! فقالَ له : وَيْحَكَ إنّ يَعقُوبَ النّبيَّ عليه السلام كانَ لهُ اثنا عَشَر ابْناً ، فغَيّبَ اللهُ عنهُ واحِداً منهم ، فابْيَضَّتْ عَيْناهُ من كَثْرةِ بُكائِهِ عليهِ ، وشابَ رَأسُهُ من الحُزْنِ ، واحْدَوْدَبَ ظَهْرُهُ من كَثْرةِ بُكائِهِ عليهِ ، وشابَ رَأسُهُ من الحُزْنِ ، واحْدَوْدَبَ ظَهْرُهُ من الغَمِّ ، وكان ابْنُهُ حَيّاً في الدُنْيا ؛ وأنَا نَظَرْتُ إلى أَبِي ، وأَخِي ، وعَمِّي ، وسَبعة عَشَرَ من أَهل بَيْتِي : مَقْتُولِين حَوْلِي!!! فَكيفَ يَنْقَضِي حُزْني؟؟؟ (٢) .

والمراد بقوله : «عمّي » هوالعباس عليه السلام. فمِن هُنا كانت كلمة : «لا يومَ كيومِ أبي عَبْد الله الحُسين » أصدقَ. وكان مقامُ شُهداء كربلاء أشرفَ. وكانَ مقامُ العَبّاسِ يومَ القيامة بحيثُ «يغبِطُهُ جميعُ الشُهداء » بِلا استثناءٍ.

__________________

(١) الخصال للشيخ الصدوق (ص ٥١٧ ـ ٥١٩) باب «ثلاث وعشرين» من الخصال المحمودة.

(٢) الخصال ، للشيخ الصدوق (٢ / ٦١٥ ـ ٥١٨) ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (٤ / ١٨٠) وراجع : حلية الأولياء لأبي نعيم (٣ / ١٣٣ ـ ١٤٥) (١٣٨) والبحار (٤٦ / ٣٦).

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

تواتره عند المتقي

ومنهم: الشيخ علي المتقي في كتابٍ له في المتواترات قال في أوّله: « الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وبعد: - فيقول الفقير إلى الله تعالى علي بن حسام الدين الشهير بالمتقي: هذه الأحاديث متواترة نحو اثنين وثمانين حديثاً، التي جمعها العلامة السيوطي رحمة الله تعالى عليه وسمّاها قطف الأزهار المتناثرة. وذكر فيها رواتها من الصحابة عشرة فصاعداً، لكني حذفت الرواة وذكرت متن الأحاديث ليسهل حفظها وهي هذه « قال:

« من كنت مولاه فعلي مولاه -

أما ترضى أنْ تكون مني بمنزلة هارون من موسى ».

تواتره عند محمد صدر العالم

وقال محمد صدر العالم: « أخرج الشيخان عن سعد بن أبي وقاص، وأحمد والبزار عن أبي سعيد الخدري، والطبراني عن أسماء بنت عميس وأم سلمة وحبشي بن جنادة، وابن عمر وابن عبّاس وجابر بن سمرة وعلي والبراء ابن عازب وزيد بن أرقم:

إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلّف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله تخلّفني في النساء والصبيان؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي.

وهذا الحديث متواتر عند السيوطيرحمه‌الله »(١) .

____________________

(١). معارج العلى في مناقب المرتضى - مخطوط.

١٦١

تواتره عند ولي الله الدهلوي

وقال ولي الله الدهلوي في مآثر أمير المؤمنينعليه‌السلام : « فمن المتواتر حديث: أنت مني بمنزلة هارون من موسى. روي ذلك عن: سعد بن أبي وقاص، وأسماء بنت عميس، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن عبّاس وغيرهم »(١) .

وقال أيضاً: « وشواهد هذا الحديث كثيرة وهي بالغة حدّ التواتر كما لا يخفى على متتبّعي الحديث »(٢) .

تواتره عند المولوي مبين

وقال المولوي محمد مبين في باب فضائل الإمامعليه‌السلام :

« وأكثر الأحاديث المذكورة في هذا الباب من المتواترات، كحديث: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وحديث: أنا من علي وعلي مني، وأللهم وال من والاه وعاد من عاداه. وحديث: لأعطين الرّاية رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله. وغيرها »(٣) .

____________________

(١). إزالة الخفا - مآثر علي بن أبي طالب، من المقصد الثاني.

(٢). قرّة العينين: ١٣٨.

(٣). وسيلة النجاة في مناقب السادات: ٧١، الباب الثاني من أبواب الكتاب.

١٦٢

دحض المكابرة

في صحّة الحديث أو تواتره

١٦٣

١٦٤

فهذا حديث المنزلة وصحّته وثبوته وشهرته بل تواتره عند أهل السنّة، حسب تصريحات كبار أساطينهم ومشاهير أئمتهم وعلمائهم

فالعجب كلّ العجب من جماعةٍ من متكلّميهم الأعلام يضطرّهم العجز عن الجواب عن الإستدلال به ويلجؤهم التعصّب للهوى إلى القدح في سنده أو المكابرة في تواتره

أبو الحسن الآمدي

فهذا أبو الحسن الآمدي يقول عنه: « غير صحيح ». والغريب جدّاً ذكر ابن حجر المكي هذا القول الشنيع في مقام الجواب عن الإستدلال فيقول:

« إنّ الحديث إن كان غير صحيح - كما يقول الآمدي - فظاهر »(١) .

ترجمة الآمدي

لكن هذا الرّجل مقدوح مجروح عند علماء أهل السنة، كالذهبي وابن حجر العسقلاني، ويكفي لسقوطه كونه تارك الصّلاة: قال الذهبي:

« سيف الآمدي المتكلّم صاحب التصانيف علي بن أبي علي، قد نفي من دمشق لسوء اعتقاده، وصحّ أنه كان يترك الصلاة، نسأل الله العافية. وكان من الأذكياء. مات سنة ٦٣١ »(٢) .

____________________

(١). الصواعق المحرقة: ٧٣.

(٢). ميزان الإعتدال ٢ / ٢٥٩ رقم ٣٦٤٧.

١٦٥

فأيّ وجهٍ يتصوّر لاعتماد ابن حجر المكي على قول مثل هذا الرجل الفاسد، إلاّ التعصّب للباطل؟!

لكن هذا القول السّاقط لا يختص بهذا المتكلّم الفاسد، فقد تفوّه به غيره من متكلّميهم:

عضد الدين الإيجي

قال عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي صاحب ( المواقف ) في الجواب عن الإستدلال به: « الجواب: منع صحّة الحديث »(١) .

شمس الدين الإصفهاني

وقال شمس الدين محمود بن عبد الرحمن الإصفهاني بعد ذكر بعض الأدلة: « والجواب عن الثاني: إنه لا يصحّ الإستدلال به من جهة السند، ولو سلّم صحة سنده قطعاً، لكن لا نسلّم أنّ قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، كلّ منزلة كانت لهارون من موسى »(٢) .

وقال أيضاً: « إنّه لا يصح الإستدلال به من جهة السند كما تقدم في الخبر المتقدم. ولئن سلّم صحة سنده قطعاً، لكن لا نسلّم أن قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، يعمّ كلّ منزلة كانت لهارون من موسى »(٣) .

____________________

(١). المواقف في علم الكلام: ٤٠٦.

(٢). شرح الطوالع - مخطوط.

(٣). شرح التجريد - مخطوط.

١٦٦

التفتازاني

وقال سعد الدين التفتازاني: « والجواب: منع التواتر، بل هو خبر واحد في مقابلة الإجماع، ومنع عموم المنازل »(١) .

وقال أيضاً: « وردّ: بأنه لا تواتر، ولا حصر في علي، ولا عبرة بأخبار الآحاد في مقابلة الإجماع»(٢) .

القوشجي

وقال علاء الدين القوشجي: « وأجيب: بأنّه على تقدير صحّته، لا يدلّ على بقائه خليفةً بعد وفاته دلالةً قطعيّةً، مع وقوع الإجماع على خلافه »(٣) .

الشريف الجرجاني

وقال الشريف الجرجاني في شرح قول صاحب المواقف: « الجواب: منع صحة الحديث »: « كما منعه الآمدي. وعند المحدثين إنه صحيح وإن كان من قبيل الآحاد »(٤) .

إسحاق الهروي

وقال إسحاق الهروي سبط الميرزا مخدوم الشريفي في ( السهام الثاقبة ): « قلنا: التواتر ممنوع. وإنما هو خبر واحد في مقابلة الإجماع فلا يعتبر ».

____________________

(١). شرح المقاصد ٥ / ٢٧٥.

(٢). تهذيب الكلام في الجواب عن حديث المنزلة.

(٣). شرح التجريد: ٣٧٠.

(٤). شرح المواقف ٨ / ٢٦٢ - ٢٦٣.

١٦٧

عبد الكريم الصدّيقي

وقال عبد الكريم نظام الصدّيقي نسباً والحنفي مذهباً في ( إلجام الرافضة ): « والجواب: إنّ هذا الحديث كما قال الآمدي غير صحيح ».

حسام الدين السهارنفوري

وقال حسام الدين السهارنفوري: « هذا الخبر ممنوع الصحّة كما صرّح به الآمدي، وعلى تقدير صحّته كما هو مختار المحدثين، فهو خبر واحد لا متواتر، فلا يصلح للإحتجاج على الخلافة»(١) .

حاصل كلماتهم أمران:

وأنت إذا لاحظت كلمات هؤلاء رأيت الواحد منهم يتّبع الآخر ويقلّده فيما قال ولا يزيد عليه بشىء إنّ الغرض هو إبطال إمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام وردّ الإستدلال على إثباتها بأيّ طريقٍ كان

لقد لاحظت أنّ حاصل كلماتهم في مقام الجواب عن الإستدلال بهذا الحديث الشريف هو:

١ - المنع من صحّته

فالآمدي يقول: « هذا الحديث غير صحيح » ثم يأتي من بعده غيره ويأخذ منه هذا من أن غير يوضّح وجهه ويبيّن دليله

____________________

(١). مرافض الروافض - مخطوط.

١٦٨

الجواب عنه

لكن يكفي في الجواب عنه ما تقدّم سابقاً من أنّ هذا الحديث في أعلى درجات الصحّة عند القوم، فقد رووه بالأسانيد المعتبرة والطرق المتكثرة عن جمع غفير من الصّحابة، ثم نصّوا على صحّته وقالوا بتواتره عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخرجه الشيخان في صحيحيهما، وكذا غيرهما من أصحاب الصّحاح فإذا لم يكن هذا الحديث صحيحاً سنداً فأيّ حديث عندهم صحيح؟ وإذا أمكن القدح في سند هكذا صحيح فبأيّ شيء يمكنهم إثبات فضيلةٍ لمشايخهم أو معتَقدٍ من عقائدهم أو حكمٍ من الأحكام الشرعية؟

فإذا كان هذا حال أساطين أهل السنة في مقابلة الشيعة، فأيّ خيرٍ منهم يطلب، وأيّ إنصافٍ يرتجى في شيء من المباحث العلميّة؟

ومن هنا يعلم أنْ لا ملاك عند القوم ولا ضابطة يقفون عندها ولا قاعدة يلتزمون بها في البحث مع الشّيعة

لقد وصف ابن حجر المكّي الصحيحين بأنهما « أصحّ الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتدّ به»(١) وكذا قال غيره كما لا يخفى على من راجع ( المنهاج في شرح المنهاج للنووي ) و ( شرح النخبة لابن حجر العسقلاني ) و ( قرة العينين للدهلوي ) وغيرها.

وزعموا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل كتاب البخاري كتابه، وأمر بدراسته، كما في ( مقدمة فتح الباري ).

ونقلوا عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم بصحّة جميع أحاديث البخاري والإذن بروايتها عنه، وكذا صحيح مسلم كما في ( الدر الثمين في

____________________

(١). الصواعق المحرقة، الفصل الأوّل، في كيفيّة خلافة أبي بكر.

١٦٩

مبشّرات النبي الأمين ) لولي الله الدهلوي.

وذهبوا إلى القول بأنّ من يهوّن أمرهما فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين كما في ( حجّة الله البالغة ).

وتجرّأوا على ردّ فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام الواردة في أخبار الفريقين، بسبب المخالفة بينها وبين أحاديث الصحيحين، وتقديم أحاديثهما بدعوى قيام الإجماع على صحّتها دون غيرها كما في ( قرّة العينين )

وطعنوا على الشيعة عدم اعتمادهم على أحاديثهما كما في ( النواقض )

إلى غير ذلك ممّا قالوه في شأن الصحيحين

ومع كلّ هذا يقدحون في حديث المنزلة المخرّج فيهما!!

وعلى الجملة فإنّ ما سبق ذكره في سند حديث المنزلة، وما قالوه في صحّته وثبوته وتواتره لا سيّما كونه من أحاديث الصحيحين والصحاح الأخرى كافٍ لدحض القدح في سند هذا الحديث

٢ - نفي تواتره وأنّه خبر واحد

والأمر الثاني نفي تواتره وزعم كونه من الآحاد بعد الإعتراف بكونه صحيحاً عند أهل الحديث.

الجواب عنه

إنّ هذا كسابقه واضح السّقوط لما عرفت من أنه من حديث أكثر من عشرين نفساً من الصّحابة، وقد ادّعى ابن حجر التواتر فيما رواه ثمانية، وابن حزم فيما رواه أربعة منهم.

على أنّ جماعة من أكابرهم - وعلى رأسهم الحاكم النيسابوري - ينصّون على تواتره، والسّيوطي والمتقي يذكرانه فيما ألّفاه في الأحاديث المتواترة.

١٧٠

وجوه صحّة الإحتجاج به ولو كان واحداً

على أنّا لو سلّمنا عدم تواتره وكونه من أخبار الآحاد، فلنا وجوه عديدة على جواز الإستدلال والإحتجاج به على إمامة مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام :

١ - تأيّده بأحاديث متواترة

إنّ حديث المنزلة - على فرض عدم تواتره - تؤيّده أحاديث متواترة قطعاً مثل حديث: من كنت مولاه فعلي مولاه. ونحوه ممّا تواتر نقله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتبهم، في فضائل ومناقب أمير المؤمنينعليه‌السلام .

٢ - تواتره عند الشيعة

إن كون هذا الحديث متواتراً عند الشيعة بلا ريب، وكونه منقولاً عند الأعلام والأساطين من أهل السنّة - وبطرقٍ كثيرة - يوجب القطع بصدوره، وما هذا شأنه لا عائبة في التمسّك به.

٣ - تمسّكهم بالآحاد في مختلف الأبحاث

إنّ الإحتجاج بالآحاد جائز عند أهل السنّة، وهذا ديدنهم ودأبهم في مختلف الأبحاث، فلو فرض كون حديث المنزلة من الآحاد فالتمسّك به جائز.

بل إنّ في كلمات بعضهم الحكم بكفر من أنكر الخبر

١٧١

الواحد والقياس وقال إنه ليس بحجة فإنه يصير كافراً. ولو قال: هذا الخبر غير صحيح وهذا القياس غير ثابت لا يصير كافراً ولكن يصير فاسقاً »(١) .

٤ - النقض بحديث: الأئمة من قريش

إن العمدة في الخلافة البكريّة وأصل دليلها عند أهل السنّة هو خبر واحد، أعني حديث « الأئمة من قريش » الذي رواه أبو بكر نفسه وتفرّد به حسبما صرّح به أئمّتهم(٢) فالإلتزام بعدم جواز الإستدلال بخبر الواحد في مسألة الخلافة يستلزم قلع أساس الخلافة البكريّة

* قال الفخر الرازي في المسألة الثامنة من الأصل العشرين، من كتابه ( نهاية العقول ) -: « قوله: الأنصار طلبوا الإمامة مع علمهم بقولهعليه‌السلام : الأئمة من قريش.

قلنا: هذا الحديث من باب الآحاد. ثم إنه ضعيف الدلالة على منع غير القرشي من الإمامة، لأنّ وجه التعلّق به إمّا من حيث أن تعليق الحكم بالإسم يقتضي نفيه عن غيره، أو لأن الألف واللام يقتضيان الإستغراق. والأول باطل، والثاني مختلف فيه. فكيف يساوي ذلك ما يدّعونه من النصّ المتواتر الذي لا يحتمل التأويل؟

وأيضاً: فلأن الحديث مع ضعفه في الأصل والدلالة لمـّا احتجّوا به على الأنصار تركوا طلب الإمامة، فكيف يعتقد بهم عدم قبول النصّ الجلي المتواتر؟ ».

____________________

(١). هداية السعداء - الجلوة الرابعة من الهداية السابعة - مخلوط.

(٢). ذكر علماء أهل السنّة تفرّد أبي بكر بحديثين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحدهما: إنا معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة. والآخر: الأئمة من قريش، وستعلم بذلك في النصوص الآتية.

١٧٢

فإذا جاز إحتجاج أبي بكر بحديثٍ واحد تفرّد به - مع ضعفه في الدلالة كما اعترف الرازي - جاز للشيعة الإحتجاج بحديث المنزلة على خلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، لأنّه - حتّى لو كان غير متواتر عند أهل السنة - أقوى من الحديث المذكور سنداً ودلالةً بلا ريب.

ولو أمعنت النظر في عبارة الرازي المذكورة لرأيتها في قوّة ألف دليل على بطلان خلافة أبي بكر، لأن الدليل الذي احتجّ به أبو بكر على استحقاقه الخلافة دون الأنصار ضعيف في الأصل والدلالة، ومن المعلوم أن ما كان ضعيفاً في الدلالة لا يجوز الإحتجاج به قطعاً وإنْ كان قوياً في الأصل، فكيف لو كان ضعيفاً في الأصل كذلك؟

* وصاحب ( المرافض ) أيضاً يصرّح بكون خبر « الأئمة من قريش » خبر واحدٍ ولا يفيد إلّا الظن، وقد كان للأنصار مجال للبحث فيه.

* وكذا صاحب ( النواقض ) ينصّ على ذلك لكنه يعزو روايته إلى « رجل » وهذه عبارته - في الفصل الثالث من فصول الكتاب -:

« الدليل العاشر: إعلم أن أرباب السير وأصحاب الحديث نقلوا أنّ في يوم السقيفة لمـّا اختلفوا أولاً في أمر الخلافة، وكانت الأنصار يقولون: لا نرضى بخلافة المهاجرين علينا، بل منّا أمير ومنكم أمير، قام رجل وقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: الأئمة من قريش. فسكت الأنصار وبايعوا أبا بكر، لغاية إتّباعهم أقوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكمال تقواهم. ومع أن خلافة المهاجرين عليهم كانت عندهم مكروهة غاية الكراهة رضوا بمجرّد خبر واحدٍ وإنْ كان لهم مجال بحثٍ فيه ».

* ومن طرائف المقام اعتراف القوم بانحصار دليل خلافة أبي بكر بهذا الحديث الذي عرفت حاله أنظر إلى المولوي عبد العلي شارح ( مسلَّم

١٧٣

الثبوت ) يقول مازجاً بالمتن:

« ولنا ثانياً: إجماع الصّحابة على وجوب العمل بخبر العدل، وليس فيه استدلال بعمل البعض حتى يرد أنه ليس حجةً ما لم يكن إجماعاً، وفيهم أمير المؤمنين علي، وفي إفراده كرّم الله وجهه قطعٌ لما سوّلت به أنفس الروافض - خذلهم الله تعالى - بدليل ما تواتر عنهم، وفيه تنبيه لدفع أنّ الإجماع أحادي، فإثبات المطلوب به دور، - من الإحتجاج والعمل به، أي بخبر الواحد، لا إنه اتفق فتواهم بمضمون الخبر، وعلى هذا لا يرد أن العمل بدليلٍ آخر، غاية ما في الباب إنه وافق مضمون الخبر - في الوقائع التي لا تحصى - وهذا يفيد العلم بأن عملهم لكونه خبر عدلٍ في عملي - وبه اندفع أنّه يجوز أن يكون العمل ببعض الأخبار للإحتفاف بالقرائن ولا يثبت الكلّية - من غير نكير من واحد. وذلك يوجب العلم عادةً لأتّفاقهم، كالقولِ الصريح الموجب للعلم بهِ، كما في التجربيّات. وبه اندفع أن الإجماع سكوتي وهو لا يفيد العلم. ثم فصّل بعض الوقائع فقال:

فمن ذلك: عمل الكل من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، بخبر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه: الأئمة من قريش. ونحن معاشر الأنبياء لا نورّث. وقد تقدّم تخريجهما. والأنبياء يدفنون حيث يموتون. حين اختلفوا في دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. رواه ابن الجوزي، كذا نقل عن التقرير »(١) .

أقول:

فظهر أن حديث « الأئمة من قريش » من الأخبار الآحاد التي عمل بها أصحاب النبي واحتجّوابها، لا أنهم عملوا في المسألة بدليلٍ آخر، غاية ما في

____________________

(١). فواتح الرحموت في شرح مسلّم الثبوت ٢ / ١٣٢.

١٧٤

الباب أنه وافق مضمون الخبر.

فثبت إنحصار دليل صرف الخلافة عن الأنصار إلى أبي بكر بالحديث المذكور الذي عرفت حاله.

كما أن قول صاحب ( النواقض ): « رضوا بمجرّد خبر واحدٍ » نص في أن رضاهم كان بسبب هذا الخبر وحده لا لأمرٍ آخر ولعلّه لما ذكرنا استحيى الرجل من نسبة رواية الحديث إلى أبي بكر، فنسبها إلى « رجل »!!

ولعلّه من هنا ادّعى ابن روزبهان في كتابه ( الباطل ) أن أبا بكر لم يرو هذا الحديث أصلاً فقال: « فأمّا حديث الأئمة من قريش فلم يروه أبو بكر، بل رواه غيره من الصحابة، وهو كان لا يعتمد على خبر الواحد ».

لكنّها دعوى في غاية الغرابة، فإنّ علماء القوم ينسبون روايته والإحتجاج به إلى أبي بكر جازمين بذلك، في غير موضعٍ من بحوثهم كما لا يخفى على من يلاحظ ( شرح المختصر ) حيث جاء فيه: « وعمل الصحابة بخبر أبي بكر: الأئمة من قريش »(٢) و ( فواتح الرحموت - شرح مسلّم الثبوت ) وقد تقدّمت عبارته، و ( إزالة الخفا في سيرة الخلفاء ) وغيرها من كتب القوم

لكن عبارة ابن روزبهان أيضاً ظاهرة في وهن هذا الحديث وسقوطه عن الصلاحيّة للإحتجاج به للخلافة فلا تغفل.

٥ - قطعيّة أحاديث الصّحيحين

إنّ حديث المنزلة - لكونه في الصحيحين - مقطوع الصدور لو فرض أنّه ليس على حدّ التواتر لأنّ أحاديث الصحيحين مقطوعة الصدور لدى: إبن الصلاح، وأبي إسحاق وأبي حامد الإسفرانيين، والقاضي أبي الطيّب، والشيخ

____________________

(١). شرح مختصر الأصول للعضدي ٢ / ٥٩.

١٧٥

أبي إسحاق الشيرازي، وأبي عبدالله الحميدي، وأبي نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق، والسرخسي الحنفي، والقاضي عبد الوهاب المالكي، وأبي يعلى وابن الزاغوني الحنبليين، وابن فورك، وأكثر أهل الكلام، وأهل الحديث قاطبةً، وهو مذهب السّلف عامة، ومحمد بن طاهر المقدسي - بل قال بذلك فيما كان على شرطهما أيضاً - والبلقيني، وابن تيمية، وابن كثير، وابن حجر العسقلاني، والسيوطي، وإبراهيم الكردي الكوراني، وأحمد النخلي، وعبد الحق الدهلوي، وولي الله الدهلوي

فهؤلاء كلّهم وغيرهم يقولون بأنّ حديث الصحيحين مقطوع بصحّته

وإليك بعض التصريحات الواردة عنهم في هذا الباب، نذكرها بإيجاز مقتصرين على محلّ الحاجة منها:

* قال السيوطي بشرح التقريب مازجاً به: « وإذا قالوا: صحيح متفق عليه، أو على صحته، فمرادهم إتفاق الشيخين لا إتفاق الاُمّة. قال ابن الصّلاح: لكنْ يلزم من إتفاقهما إتفاق الاُمة عليه، لتلقّيهم له بالقبول. وذكر الشيخ - يعني ابن الصلاح -: ( إنّ ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحّته، والعلم القطعي حاصل فيه ) قال: خلافاً لمن نفى ذلك

قال البلقيني: ما قاله النووي وابن عبد السلام ومن تبعهما ممنوع، فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين مثل قول ابن الصّلاح عن جماعةٍ من الشافعية، كأبي إسحاق وأبي حامد الإسفرانيين، والقاضي أبي الطيّب، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعن السرخسي والزاغوني من الحنابلة، وابن فورك، وأكثر أهل الكلام من الأشعريّة، وأهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامة. بل بالغ ابن طاهر المقدسي في صفوة التصوف فألحق به ما كان على شرطهما وإنْ لم يخرجاه

١٧٦

وقال شيخ الإسلام: ما ذكره النووي في شرح مسلّم من جهة الأكثرين، أمّا المحقّقون فلا، وقد وافق ابن الصلاح أيضاً محققون

وقال ابن كثير: وأنا مع ابن الصّلاح فيما عوّل عليه وأرشد إليه.

قلت: وهو الذي أختاره ولا أعتقد سواه »(١) .

* قال محمد أكرم بن عبد الرحمن المكي في ( إمعان النظر في توضيح نخبة الفكر ): « وانتصر لابن الصّلاح: المصنّف، ومن قبله شيخه البلقيني تبعاً لابن تيمية ».

* وقال الزين العراقي في ( شرح الألفية ):

« حكم الصحيحين والتعليق:

ص:

وأقطع بصحةٍ لما قد أسند

كذا له وقيل ظناً ولَدا

محقّقيهم قد عزاه النووي

وفي الصحيح بعض شيء قد روي

مضعَّف ولهما بلا سند

أشياء فإن يجزم فصحيح أو ورد

ممرّضاً فلا ولكن يشعر

بصحّة الأصل له كيُذكر

ش: أي ما أسنده البخاري ومسلم، يريد ما روياه بإسنادهما المتّصل فهو مقطوع لصحته. كذا قال ابن الصلاح، قال: والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافاً لمن نفى، وقد سبق إلى نحو ذلك: محمد بن طاهر المقدسي، وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف.

قال النووي: وخالف إبن الصلاح المحققون والأكثرون فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر »(٢) .

____________________

(١). تدريب الراوي ١ / ١٣١ وإلى ١٣٤.

(٢). فتح المغيث في شرح ألفية الحديث ١ / ٥٨.

١٧٧

* وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في ( تحقيق البشارة إلى تعميم الإشارة ): « ثم المتواتر يفيد العلم اليقيني ضرورياً. وقد يفيد خبر الواحد أيضاً العلم اليقيني لكن نظرياً بالقرائن، على ما هو المختار. قال الشيخ الإمام الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني في شرح نخبة الفكر: والخبر المحتف بالقرائن أنواع، منها: المشهور إذا كانت له طرق متبائنة سالمةً من ضعف الرواة والعلل. ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما ما لم يبلغ حدّ التواتر، فإنه احتفّ بقرائن، منها جلالتهما في هذا الشأن وتقدّمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول وممّن صرّح من أئمة الاُصول بإفادة ما خرّجه الشيخان العلم اليقيني النظري: الاُستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، ومن أئمة الحديث: أبو عبدالله الحميدي وأبو الفضل بن طاهر ».

* وللشيخ محمد معين بن محمد أمين رسالة مفردة في إثبات قطعية صدور أحاديث الصحيحين، أدرجها في كتابه ( دراسات اللبيب ) وإليك جملاً من عباراته:

« إن أحاديث الجامع الصحيح للإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، وكتاب الصحيح للإمام أبي الحسين مسلم بن حجاج القشيري - رحمهما الله تعالى ونفعنا ببركاتهما - هي رأس مال من سلك الطريق إلى الله تعالى، بالأسوة الحسنة بخير الخلق قاطبة والمعجزة الباقية من رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم، من حيث حفاظ أسانيدها على مرّ الدهور إلى زماننا هذا. فهي تلو القرآن في إعجازه الباقي ».

« قد فصّل وبيّن إمام وقته الحافظ جلال الدين السيوطي في هذا الكلام، من دلائل الطرفين والتأييد بأقوال المحققين لابن الصلاح ما فيه مغنىً للعاقل.

فقد تبّين أنه وافقه إجماع المحدثين بعد الموافقة مع علماء المذاهب

١٧٨

الأربعة جميعاً، ووافقه المتكلّمون من الأشاعرة ووافقه المتأخرون وهم النقّادون الممعنون النظر في دليل السابقين وهو المختار عند الإمام الحافظ السيوطي وهو مجدّد وقته ».

« تمسّك ابن الصّلاح بما صورة شكله: ما في الصحيحين مقطوع الصدور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأن الامة اجتمعت على قبوله، وكلّما اجتمعت الامة على قبوله مقطوع، فما في الصحيحين مقطوع.

أمّا ثبوت الصغرى فبالتواتر عن الأسلاف إلى الأخلاف.

وأمّا الكبرى فبما يثبت قطعية الإجماع ولو على الظن، كما إذا حصل الإجماع في مسألة قياسية. فإن الإجماع هناك ظنون مجتمعة أورثت القطع بالمظنون، لعصمة الأمة، فكذا هنا أخبار الآحاد مظنونة في نفسها، فإذا حصل الإجماع عليها أورثت القطع.

وتمسّك النووي بما صورة شكله: ما في الصحيحين مظنون الصدور عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم، لأنه من أحاديث الآحاد، وكلّما هو من أحاديث الآحاد مظنون، فهذا مظنون.

أمّا ثبوت الصغرى فظاهر، لندرة التواتر جدّاً.

وأمّا ثبوت الكبرى فمفروغ عنه في الفن.

فهذه صورة المعارضة بين التمسّكين، وهي ظاهر تحرير الكتاب، ولنبيّن الموازنة والمواجهة بينهما، بأن نأخذ دليل النووي في صورة المنع على دليل ابن الصلاح، ثم نحرّر مقدمة دليله الممنوعة، فإنْ تحصّن بالتحرير عن منعه فالحق معه، وإلّا فهو في ذمة المطالبة. وأنت تعرف أن المانع أجلد الخصمين وأوسعهما مجالاً، فنعط هذا المنصب لمن يخالف ما نعتقده من مذهب ابن الصلاح ومن معه، حتى يظهر الحق إن ظهر في غاية سطوعه ».

١٧٩

ثم شرع في تحقيق المسألة، وانتصر لابن الصّلاح، وإن شئت التفصيل فراجع رسالته التي أسماها: ( غاية الإيضاح في المحاكمة بين النووي وابن الصلاح ) المدرجة في كتابه ( دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب ).

* وهو مختار الشيخ إبراهيم بن حسن الكردي في رسالته ( إعمال الفكر والرّويات في شرح حديث إنما الأعمال بالنيّات ) وفي رسالته ( بلغة المسير إلى توحيد الله العليّ الكبير ). فإنّه ذكر مذهب ابن الصلاح وأيّده في أكثر من موضع، وذكر: « إنّ كلام الشّيخ ابن الصّلاحرحمه‌الله هذا كلام موجّه، محقق وإنْ ردّه الإمام النووي ».

* وقال ولي الله الدهلوي: « وأمّا الصحيحان فقد اتّفق المحدّثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وإنهما متواتران إلى مصنّفيهما، وأنّ كلّ من يهوّن أمرهما فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين »(١) .

* والأطرف من الكل: نقل الشيخ عبد المعطي - وهو من مشايخ القوم - عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشافهةً، تنصيصه على صحة جميع ما أخرجه البخاري!!! ذكر ذلك الشيخ أحمد النخلي المتوفى سنة ١١٣٠ وهو شيخ شيخ ولي الله الدهلوي، وقد وصفه ( الدهلوي ) في رسالته في ( أصول الحديث ) بأنه « أعلم أهل عصره ». وترجم له المرادي فوصفه بـ « الإمام العالم العلامة، المحدّث الفقيه الحبر الفهامة، المحقق المدقق النحرير »(٢) .

* نعم، ذكر النخلي هذا في رسالة ( أسانيده ) ما هذا نصّه:

« أخبرنا شيخنا جمال الدين القيرواني، عن شيخه الشيخ يحيى الخطّاب المالكي المكي قال: أخبرنا عمّي الشيخ بركات الخطابي، عن والده، عن جده

____________________

(١). حجّة الله البالغة: ١٣٩ باب طبقات كتب الحديث.

(٢). سلك الدرر في أعيان القرن الحادي عشر ١ / ١٧١.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603