العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته9%

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 603

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته
  • البداية
  • السابق
  • 603 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41146 / تحميل: 4518
الحجم الحجم الحجم
العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الادوية بقلب حاضر وفهم وافر بأنامل التصديق وكف التوفيق ثم تضعها في طبق التحقيق ثم تغسلها بماء الدموع ، ثم تضعها في قد الرجاء ثم توقد عليها بنار الشوق حتى ترغى زبد الحكمة ، ثم تفرغها في صحاف الرضا وتروّح عليها بمراوح الاستغفار ، ينعقد لك من ذلك شربة جديدة ، ثم تشربها في مكان لا يراك فيه احد الا الله تعالى فان ذلك يزيل عنك الذنوب حتى لا يبقى عليك ذنب. فأنشأ الطبيب يقول :

يا خاطب الحوراء في خدرها

مر فتقوى الله من مهرها

وكن مجداً لا تكن وانياً

جاهد النفس على برها

إلى غير ذلك مما يدلنا على ما للدين الحنيف من العناية بالصحة ، وما لدى النبي (ص) وأوصيائه من المعرفة الإلهية والكنوز القرآنية التي اختارهم الله لمعرفتها فلقد كان النبي (ص) في حياته الشريفة هو الواسطة الكبرى بين الخالق وخلقه ولما رفعه الله اليه أبى لطفه العام وكرمه الشامل أن يترك هذا الناس بعد النبي (ص) سدى ودون أن ينصب لهم ولياً مرشداً يكشف لهم عن تلك الكنوز ويبث فيهم تلك التعاليم الصالحة المصلحة والارشادات الحكيمة ، فكان أوصياؤه وأبناؤه هم حملة تلك العلوم وأمناء الله في أرضه على مكنون علمه وغامض سره ولا غرابة فقد أخذوا ذلك عن جدهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرائيل «ع» عن الله تعالى.

ولقد ظهر في الناس من تعاليمهم وارشاداتهم ما دل على كامل معرفتهم وتمام اطلاعهم على مختلف العلوم لا سيما علم الطب ، حتى جمع غير واحد من العلماء جملة من أقوالهم فألفها كتباً قيمة باسم ـ طب النبي ، وطب الائمة ، وطب الرضا إلى غيرها مما ملئت الكتب وتواترت بها الاحاديث الصحيحة ، وفي مقدمتها الرسالة الذهبية ( المذهبة ) التي ألفها الامام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام بطلب من المأمون الخليفة العباسي(1) وفيها فوائد جمة من قواعد الطب وأصول الصحة

__________________

(1) تذكر برمتها في بحار الأنوار ج 14.

٢١

وقد أمر المأمون ان تكتب بالذهب ، ولذلك سميت بالذهبية أو المذهبة ولم يكن للخليفة عنها غنى برجال الفن المتصلين به نظراء ـ حنا بن ماسويه وجبرائيل ابن بختشوع وصالح بن سلهمه الهندي وغيرهم من أطباء البلاط العباسي(1) .

أما الإمام الصادق «ع» فقد كان عصره عصر ابتداء النهضة العلمية في الجزيرة حيث اتجهت الانظار نحو طلب العلوم وأقبل الناس على اكتساب المعارف وكان الوقت ملائماً والظروف مساعدة له على بث مالديه من تلكم الكنوز القرآنية الموروثة. لذلك فقد ظهر من أقواله الحكيمة وآرائه الطيبة الصائبة وأحاديثه العلمية والدينية الصحيحة ما طبق الارجاء وأنار القلوب المظلمة وهدى النفوس التائهة ، حتى قصده القاصي والداني بين مستشف بارشاداته القيمة وبين مغترف من منهله العلمي العذب النمير.

ولأجل ذلك فقد روت عنه الرواة ، وكتبت عنه الكتب والرسائل. وتخرج عليه طائفة من العلماء والحكماء وجمهرة من جهابذة الدين وكثير من أكابر الحفاظ والمحدثين ، حتى أصبح قوله «ع» فصل الخطاب. فاذا قيل قال الصادق وقفت العلماء دون قوله واجمين ، وبما ورد عنه معترفين وله خاضعين.

وها نحن الآن نقدم اليك ما يخص موضوعنا هذا مما ورد عنه «ع» في علم الطب خاصة ، بيد أن طلبنا للاختصار في هذه الرسالة جعلنا نكتفي بالنزر القليل من وافر علمه وجزيل فضله لعدم إمكان الإحاطة الكاملة في هذا المختصر كما أن من المستحسن أيضاً قبل الشروع في البحث أن نذكر للقارئ الكريم ما يلزم ذكره ههنا لكي لا يغفل طالب الحقيقة فيزل أو يغتر بأقوال بعض ذوي الأغراض الخسيسة فيظن ، أن الإمام أبا عبدالله الصادق «ع» أخذ هذه العلوم عمن ورد الجزيرة من علماء الأجانب فلاسفة وأطباء وغيرهم ، إذ من البديهي المسلم كما سنثبته لك أن معرفته «ع» لم تكن إلا قبساً من أشعة علم النبي صلى الله عليه

__________________

(1) وقد شرح هذا الكتاب وعلق عليه وحققه الدكتور صاحب زيني النجفي باسم طب الرضا في سلسلة ( ملتقى العصرين ) الصادرة في الكاظمية.

٢٢

وآله الذي أخذه عن الوحي إذ لاينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى ثم استودع ذلك لدى وصيه الذي قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه : أنا مدينة العلم وعلي بابها(1) وأن وصيه هذا هو الذي قال : سلوني قبل أن تفقدوني ولن تسألوا بعدي مثلي(2) ، ثم استودعه علي «ع» ولديه الحسن والحسينعليهما‌السلام الذين قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهما(3) : هذان إمامان قاما أو قعدا ثم كان ذلك العلم الإلهي لدى الإمام السجاد ومنه لدى الباقر ثم ورثه الامام الباقر ولده الامام أبا عبدالله الصادق جعفر بن محمدعليه‌السلام .

إذن فهذه العظمة العلمية في شخصية الامام الصادق «ع» لم تكن إلا سراً من أسرار الكتاب ونوراً من أنوار النبوة وفيضاً من فيوضات الإمامة لا غير ولو كانت مكتسبة لظهر من أساتذته ومعلميه ـ كما زعم الجاهلون ـ بعض ما ظهر منه مما ملأ الكتب وفاضت به الأخبار والأحاديث.

ثم دع ما تقدم وتأمل منصفاً ثم أنظر في أقواله وتعاليمه بعين طالب الحقيقة فهل تجد لكل من ورد الجزيزة آنذاك من أطباء وفلاسفة إطلاعاً على آرائه وأقواله أو إدراكاً لما أبانه واظهره مما لم يدركه العلم في ذلك العصر ، ولم يقف العلماء على مغزاه ومرماه إلا بعد قرون متطاولة وأجيال متعاقبة ، وبعد أن مخضتهم التجارب العلمية وأرشدتهم الاكتشافات العملية إلى معرفة ذلك.

والآن اذكر لك بعض مناظراته الطبية لاثبت صحة دعوانا في طب الامام «ع» ولتحكم بنفسك على نفسك. وإليك بعضها :

__________________

(1) الغدير للأميني ج 6 ص 54.

(2) الغدير ج 6 ص 178.

(3) حديث متفق عليه.

٢٣

[[ مناظرة الإمام «ع» مع الطبيب الهندي (1) ]]

عن محمد بن إبراهيم الطالقاني عن الحسن بن علي العدوي عن عباد بن صهيب عن أبيه عن جده عن الربيع صاحب المنصور قال : حضر أبو عبدالله «ع» مجلس المنصور يوماً وعنده رجل من الهند يقرأ عليه كتب الطب ، فجعل أبو عبدالله «ع» ينصت لقراءته ، فلما فرغ الهندي قال له : يا أبا عبدالله ، أتريد مما معي شيئاً ؟ قال : لا فان معي خير مما معك ، قال وما هو ؟ قال «ع» أدواي الحار بالبارد والبارد بالحار والرطب باليابس واليابس بالرطب وأرد الأمر كله إلى الله عز وجل وأستعمل ما قاله رسول الله (ص) : وأعلم أن المعدة بيت الداء وأن الحمية رأس كل دواء واعط البدن ما اعتاده ، فقال الهندي : وهل الطب إلا هذا ؟ فقال الصادق «ع» أتراني من كتب الطب أخذت ؟ قال نعم ، قال «ع» : لا والله ما أخذت إلا عن الله سبحانه فاخبرني : أنا أعلم بالطب أم أنت ؟ قال الهندي بل أنا ، قال الصادق «ع» فأسألك شيئاً ، قال سل ، قال الصادقعليه‌السلام أخبرني يا هندي :

لم كان في الرأس شؤون ؟ قال لا أعلم.

فلم جعل الشعر عليه من فوق ؟ قال لا أعلم.

فلم خلت الجبهة من الشعر ؟ قال لا أعلم.

قالعليه‌السلام :

فلم كان لها تخطيط وأسارير ؟ قال لا أعلم.

فلم كان الحاجبان فوق العينين ؟ قال لا أعلم.

فلم جعلت العينان كاللوزتين ؟ قال لا أعلم.

فلم جعل الأنف فيما بينهما ؟ قال لا أعلم.

فلم ثقب الأنف من اسفله ؟ قال لا أعلم.

__________________

(1) بحار الأنوار ج 14 ص 478 وفي كشف الأخطار ( مخطوط ).

٢٤

فلم جعلت الشفة والشارب فوق الفم ؟ قال لا أعلم.

فلم أحد السن وعرض الضرس وطال الناب ؟ قال لا أعلم.

فلم جعلت اللحية للرجال ؟ قال لا أعلم.

فلم خلت الكفان من الشعر ؟ قال لا أعلم.

فلم خلا الظفر والشعر من الحياة ؟ قال لا أعلم.

فلم كان القلب كحب الصنوبر ؟ قال لا أعلم.

فلم كانت الرئه قطعتان وجعلت حركتهما في موضعهما ؟ قال لا أعلم.

فلم كانت الكبد حدباء ؟ قال لا أعلم.

فلم كانت الكلية كحب اللوبياء ؟ قال لا أعلم.

فلم جعل طي الركبة إلى الخلف ؟ قال لا أعلم.

فلم تخصرت القدم ؟ قال لا أعلم.

قال الصادق «ع» : لكني أعلم. قال الهندي : فأجب.

قال الصادق «ع» : كان في الرأس شؤون لأن المجوف إذا كان بلا فصل اسرع إليه الصداع فاذا جعل ذا فصول [ شؤون ] كان الصداع منه أبعد.

وجعل الشعر من فوقه ليوصل الأدهان إلى الدماغ ويخرج بأطرافه البخار منه ، ويرد الحر والبرد عنه.

وخلت الجبهة من الشعر لأنها مصب النور إلى العينين.

وجعل فيهما التخطيط والأسارير ليحتبس العرق الوارد من الرأس إلى العين قدر ما يحيطه الانسان عن نفسه كالأنهار في الأرض التي تحبس المياه.

وجعل الحاجبان من فوق العينين ليردا عليهما من النور قدر الكفاية ، ألا ترى يا هندي أن من غلبه النور جعل يده على عينيه ليرد عليهما قدر الكفاية منه.

وجعل الأنف بينهما ليقسم النور قسمين إلى كل عين سواء.

وكانت العين كاللوزة ليجري فيها الميل بالدواء ويخرج منها الداء ، ولو كانت

٢٥

مربعة أو مدورة ما جرى فيها الميل ولا وصل اليها دواء ولا خرج منها داء.

وجعل ثقب الأنف في أسفله لتنزل منه الأدواء المنحدرة من الدماغ وتصعد فيه الروائح إلى المشام ، ولو كان في أعلاه لما نزل منه داء ولا وجد رائحة.

وجعل الشارب والشفة فوق الفم لحبس ما ينزل من الدماغ عن الفم لأن لا يتعفن على الانسان طعامه وشرابه فيميطه عن نفسه.

وجعلت اللحية للرجال ليستغني بها عن الكشف في المنظر ويعلم بها الذكر من الأنثى.

وجعل السن حاداً لأن به يقع العض.

وجعل السن عريضاً لأن به يقع الطحن والمضغ.

وكان الناب طويلاً ليسند الأضراس والأسنان كالاسطوانة في البناء.

وخلا الكفان من الشعر لان بهما يقع اللمس فلو كان فيهما شعر ما درى الانسان ما يقابله ويلمسه.

وخلا الشعر والظفر من الحياة لأن طولهما سمج يقبح وقصهما حسن فلو كان فيهما حياة لألم الانسان قصهما.

وكان القلب كحب الصنوبر لأنه منكس فجعل رأسه دقيقاً ليدخل في الرئة فيتروح عنه ببردها ولئلا يشيط الدماغ بحره.

وجعلت الرئة قطعتين ليدخل القلب بين مضاغطها فيتروح بحركتها.

وكانت الكبد حدباء لتثقل المعدة وتقع جميعها عليها فتعصرها ليخرج ما فيها من بخار.

وجعلت الكلية كحب اللوبياء لأن عليها مصب المنى نقطة بعد نقطة فلو كانت مربعة أو مدورة لأحتسبت النقطة الأولى إلى الثانية فلا يلتذ بخروجها إذا المني ينزل من فقار الظهر إلى الكلية وهي تنقبض وتنبسط وترميه أولاً فأولاً إلى المثانية كالبندقة من القوس.

٢٦

وجعل طي الركبة إلى خلف لأن الانسان يمشي إلى ما بين يديه فتعتدل الحركات ولولا ذلك لسقط في المشي.

وجعلت القدم متخصرة لأن المشي إذا وقع على الأرض جميعه ثقل ثقل حجر الرحى.

فقال الهندي : من أين لك هذا العلم ؟ قالعليه‌السلام : أخذته عن آبائيعليهم‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرائيل «ع» عن رب العالمين جل جلاله الذي خلق الأجساد والأرواح.

فقال الهندي : صدقت وأنا أشهد أن لا إله ألا الله وأن محمداً رسول الله وعبده وأنك اعلم اهل زمانك ( إنتهى ).

[[ سؤال النصراني منه عن تعداد عظام الانسان (1) ]]

في المناقب لابن شهراشوب : عن سالم بن الضرير أن نصرانياً سأل الصادق «ع» عن أسرار الطب ، ثم سأله عن تفصيل الجسم فقال «ع» : ان الله خلق الانسان على إثنى عشر وصلاً ، وعلى مائتين وثمانية وأربعين عظماً وعلى ثلاثمائة وستين عرقاً فالعروق هي التي تسقي الجسد كله ، والعظام تمسكه واللحم يمسك العظام ، والعصب يمسك اللحم ، وجعل في يديه إثنين وثمانين عظماً في كل يد واحد وأربعين عظما منها في كفه خمسة وثلاثون عظماً وفي ساعده إثنان وفي عضده واحد وفي كتفه ثلاثة فذلك واحد وأربعون وكذلك في الأخرى ، وفي رجله ثلاثة وأربعون عظماً منها في قدمه خمسة وثلاثون عظماً وفي ساقه إثنان وفي ركبته ثلاثة وفي فخذه واحد وفي وركه إثنان وكذلك في الأخرى. وفي صلبه ثماني عشر فقارة وفي كل واحد من جنبيه تسعة أضلاع وفي وقصته(2) ثمانية ، وفي رأسه ستة وثلاثون عظماً ، وفي فمه

__________________

(1) بحار الأنوار ج 14 ص 480.

(2) الوقصة العنق.

٢٧

ثماني وعشرون أو إثنان وثلاثون عظماً [ سنا ].

أقول ، المراد بالوصل هو الأعضاء العظمية المتصلة ببعضها وهي إثنا عشر. الرأس والعنق والعضدان والساعدان والفخذان والساقان وأضلاع اليمين وأضلاع اليسار.

ولعمري أن هذا الحصر والتعداد لم يتعد عين ماذكره المشرحون والجراحون في هذا العصر لم يزيدوا ولم ينقصوا ، اللهم إلا في التسمية أو جعل الاثنين لشدة اتصالهما واحداً وبالعكس ، وهذا مما يدلنا على إطلاعه الكامل بالتشريح ونظره الثاقب في بيان تفصيل الهيكل العظمي في بدن الانسان.

وهاك أيضاً بعض أسراره الطبية العجيبة التي لم يكتشفها علم الطب إلا بعد أن كملت العقلية البشرية ، ولم يعرفها الأطباء ذووا الأفكار الجبارة إلا بعد التجارب والتحقيق والتنقيب العلمي الكثير. فمنها :

[[ الدورة الدموية ]]

جاء في كتاب توحيد المفضل وهو جملة محاضرات وأمالي ألقاها الامام «ع» على تلميذه المفضل بن عمر الجعفي في إثبات التوحيد(1) من المسائل الطبية الجليلة ما لم يحلم بها الأطباء في ذلك العصر ، ولم يدركوها إلا بعد إثنى عشر قرنا عندما ظهر الاستاذ الدكتور ( هارفي ) الطبيب الشهير المعروف لدى الاطباء ( مكتشف الدورة الدموية ) ثم اكتشف ذلك الاكتشاف الذي افتخر به الغرب حتى جعله من معجزات عصر الاختراعات والذي قلب الطب ظهراً على عقب وهو في الحقيقة ولدى المتأمل المنصف اكتشاف كان قد ذكره الامام الصادق «ع» فى طي كلامه مع المفضل فلو نظرت إليه وتأملته لعلمت علم اليقين ، ان هذا المكتشف العظيم لم يأت بشيء جديد ولم يكن إلا عيالاً على ما قاله أبو عبدالله الصادق «ع» قبل عدة قرون.

__________________

(1) وقد شرحناه مفصلاً في أربعة أجزاء طبع منها جزأن والآخران تحت الطبع.

٢٨

وتأمل قوله حيث يقول :

فكر يا مفضل في وصول الغذاء إلى البدن ومافيه من التدبير ، فان الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه وتبعث بصفوه إلى الكبد في عروق رقاق واشجة بينهما قد جعلت كالمصفى للغذاء لكيلا يصل إلى الكبد منه شيء ـ فينكأها وذلك أن الكبد رقيقة لا تحتمل العنف ، ثم أن الكبد تقبله فيستحيل فيها بلطف التدبير دما فينفذ في البدن كله في مجار مهيأة لذلك بمنزلة المجاري التي تهيأ للماء حتى يطرد في الأرض كلها وينفذ ما يخرج منه من الخبث والفضول إلى مغايض أعدت لذلك فما كان منه من جنس المرة الصفراء جرى إلى المرارة ، وما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال ، وما كان من جنس البلة والرطوبة جرى إلى المثانة ، فتأمل حكمة التدبير في تركيب البدن ووضع هذه الأعظاء منه مواضعها واعداد هذه الأوعية فيه لتحمل تلك الفضول ، لئلا تنشر في البدن فتسقمه وتنهكه فتبارك من أحسن التقدير وأحكم التدبير ( إنتهى )(1) .

أقول : هكذا ورد عنهعليه‌السلام وهو صريح في بيان الدورة الدموية على حسب ما وصل اليه الطب الحديث بعد مدة تناهز الاثنى عشر قرنا وهذا مضافا إلى ما لوح فيه إلى وظائف الجهاز الهضمي ، والجهاز البولي ، وإلى وظيفة المرارة والطحال والكبد والمثانة. كما أنه «ع» أشار أيضا بقوله : لئلا ينتشر في البدن فيسقمه وينهكه ـ إلى ما أثبته طب القرن العشرين من التسمم البولي الحاصل من رجوع البول من المثانة إلى الدم عندما لم يخرج منها فينتشر بواسطة الدم في جميع أعضاء البدن فيسممه ويسقمه وإلى التسمم المعدي الحاصل من تعفن الفضلات المعدية والمعوية غير المندفعة منها والتي تحدث برجوعها إلى البدن وهي متعفنة فاسدة التهابات توجب تسممه وانتهاكه فتأمل.

__________________

(1) توحيد المفضل.

٢٩

[[ كيفية السماع والأبصار ]]

لقد ثبت في علم الطب الحديث وأصبح من البديهي لدى نطس الأطباء بعد التجارب والبحث العلمي في كيفية السماع : ان بين منبع الصوت والاذن السامعة توجد على الدوام مسافة ، ولأجل أن يدرك الصوت يحتاج إلى أن يكون بينهما وسط ذو مرونة وهذا الوسط المرن هو الهواء بوجه عام ، فاذا لم يكن هذا الوسط المرن بين السمع والمسموع لم يدرك الصوت ، ولذلك فلا يسمع صوت في الخلاء ( أي الموضع الخالي من الهواء ) البتة.

كما أجمعوا أيضا : على أن المرئيات مطلقا لا ترى مالم يشع عليها ضوء خارج عنها كضوء الشمس أو نور المصباح أو نور النجوم وأشباهها ، فان هذه الأشعة المنعكسة من أي مرئى كانت تدخل في العين من القرنية الشفافة وتمر بالحدقة بالبؤبؤ ثم تسقط على الشبكية وترسم عليها صورة المرئى.

إذن فلا سماع إلا بالهواء ولا رؤية إلا بالضياء حسب العلم الحديث ، وهذا القول الناتج بعد البحث والتنقيب من قبل علماء وفطاحل وباختبارات كثيرة طيلة أعوام وأجيال ، هو بلا ريب جاء مطابقا لقول الامام الصادق «ع» ، بل هو عين ماذكره قبل مدة غير قصيرة أي قبل ألف ومائتي سنة وذلك حيث يقول(1) :

أنظر الآن يا مفضل إلى هذه الحواس التي خص بها الإنسان في خلقه وشرف بها على غيره ( إلى أن يقول ) فجعل الحواس خمسأ تلقى خمساً لكي لا يفوتها شيء من المحسوسات. فخلق البصر ليدرك الألوان ، فلو كانت الألوان ولم يكن بصر يدركها لم يكن فيها منفعة ، وخلق السمع ليدرك الأصوات ، فلو كانت الأصوات ولم يكن سمع يدركها لم يكن فيها أرب ، وكذلك ساير الحواس ، ثم

__________________

(1) توحيد المفضل.

٣٠

هذا يرجع متكافئأ فلو كان بصر ولم تكن ألوان لما كان للبصر معنى ، ولو كان سمع ولم تكن أصوات لم يكن للسمع موضع ، فانظر كيف قدر بعضها يلقى بعضاً فجعل لكل حاسة محسوساً يعمل فيه ، ولكل محسوس حاسة تدركه ، ومع ذلك فقد جعلت أشياء متوسطة بين الحواس والمحسوسات لايتم الحس إلا بها ، كمثل الضياء والهواء فانه لو لم يكن ضياء يظهر اللون للبصر لم يكن البصر يدرك اللون ولو لم يكن هواء يؤدي الصوت إلى السمع لم يكن السمع يدرك الصوت الخ.

أقول : فتأمل وانصف وجدانك ، أهل جاء الطب الحديث بغير ما ذكره الامام «ع» للمفضل في ما أملاه عليه من محاضرته القيمة بصورة سهلة واضحة.

وإليك نظرية علمية ثالثة ( وما أكثر نظرياته العلمية التي لو جمعت ولوحظت لكانت أسساً علمية طبية لكل مخترع مفتخر به اليوم. ولكن ) ذكرها الامام الصادقعليه‌السلام قبل اكتشاف العلم الحديث لها في القرن التاسع عشر الميلادي وهي معرفة حصول العدوى من السقيم إلى المريض بواسطة الجراثيم المرضية كما سنذكره لك على وجه الاكمال.

[[ العدوى والجراثيم ]]

قال الامام جعفر بن محمد الصادق «ع»(1) : لا يكلم الرجل مجذوماً إلا أن يكون بينهما قدر ذراع وفي لفظ آخر قدر رمح.

وهذا من أوضح الدلالات على وجود العدوى في الاسلام ، وأنها تكون بواسطة الجراثيم وقد أثبت علم الطب الحديث باكتشاف علماء ( البكتريولوجيا ) إجماعاً أن ميكروب الجذام يندر وجوده في الهواء حول المصاب أكثر من بعد مسافة متر أو متر ونصف متر وربما كان كذلك في المسلولين ، وهو قول الامام «ع» ولا غرابة في معرفة الامام بهذا وأمثاله ، بعد أن كان من الراسخين في العلم ، ومن الذين اختارهم الله تعالى لسره وأطلعهم على غامض علمه. وبعد أن ورد عن

__________________

(1) الوسائل ج 2 ص 208 طبع عين الدولة.

٣١

النبي (ص) قوله : فر من المجذوم فرارك من الأسد(1) . وقوله (ص) : لا تدخلوا بلداً يكون فيه الوباء(2) . وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يوردن ممرض على مصح(3) إلى غيرها من الأحاديث الدالة على ذلك.

إذن فالاسلام مثبت على هذا وجود الجراثيم المرضية وعدواها وانها موجودة في جسم المصاب ، وذلك قبل أن يكتشفها الدكتور الافرنسي ( دافين ) في سنة 1850 وقبل أن يشاهدها بمجهر الدكتور ( باستور ) في أواخر القرن التاسع عشر.

هذا مضافاً إلى أن العقل يحكم بوجودها في الأمراض السارية المعدية وذلك لأن المرض لم يكن في الأجسام الا عرضاً وارداً عليها ، ومن المسلم أن العرض لا يمكن أن يقوم بذاته في الخارج دون أن يعرض على جسم آخر يقوم به ، فاذا قيل انتقل المرض فمعناه : أن الجسم الحامل له هو المنتقل به ، وليس المكروب إلا هذا الجسم الناقل ، ولم يرد النهي عن دخول البلد التي فيها الوباء أو الأمر بالفرار من المجذوم أو عدم ورود الممرض على المصح إلى غير ذلك إلا لغرض عدم إنتقال هذا الجسم الحامل للمرض ( الجراثيم ) من السقيم إلى السليم وليست العدوى إلا هذا.

بقي هنا أن تنظر إلى ما أخرجه رواة الحديث من الفريقين باسناد صحيحة عن رسول الله (ص) من قوله : لا عدوى ولا طيرة(4) إلى غيره بالفاظ أخر فهو يؤل بأحد معنيين :

الأول : إن دين الاسلام جاء بنواميس تمنع من المام أي من الأوباء الموجبة للعدوى ، فقد نهى عن أقسام الفجور المستتبعة للامراض السارية كما جاء باصول

__________________

(1) البحار ج 16.

(2) مجمع البحرين في باب عدوى وفي صحيح مسلم ج 2.

(3) صحيح مسلم ج 2.

(4) صحيح مسلم ج 2 ص 259.

٣٢

الصحة جمعاء ، فقد نهى مثلاً عن الأكل قبل الجوع والكف قبل الشبع مما يمنع السدود وفساد الاخلاط والتخمة التي هي من أمهات الأمراض إلى غير ذلك مما يضيق به هذا المختصر ، ثم حرم الأشياء الضارة كلها ، كما أثبت الطب أضرارها وأضرار إستعمالها بعد التجارب العلمية والعملية. إذاً فمتى إلتزم المسلم بها أي بتلك الآداب والارشادات والسنن والأحكام والتعاليم فانه لا يكاد يجد لأي مرض إلماماً به مما يستتبع العدوى عدا طفايف تتكيف بها النفس من حر أو برد وأمثالهما مما لا عدوى فيها.

وهذا المعنى يناسب نفي الذات الظاهر في الحديث.

الثاني : أن الاسلام بنسب كلية التأثير فى الأجزاء الكونية بالمبدأ الأقدس سبحانه وتعالى ، فلا يرى المسلم المعتنق لهذا الدين الحنيف أن تلكم الأمراض تستلزم العدوى بانفسها لا محالة ( كما هو مزعمة الجاهلية ) وإنما يعتقد أن ذلك التأثير محدود من المبدأ الحق سبحانه ، وهذا هو المقصود بالطيرة وإن ما يتطير به غير مستقل بالتأثير ، ولا يكون إلا ما شاء الله ، فاذا إعتقد الانسان ذلك اكتسح عنه الاضطراب بما يتطير به لانه أمر مردد بين مقدر وغير مقدر والأول ( المقدر ) لا ندحة له والثاني ( غير المقدر ) لا يصيبه البتة وربما ينفي عنه بهذا الاعتقاد أصل التطير ، فلا يتطير بعد. ومن هنا كان (ص) يقول : ان الذي أنزل الداء أنزل الدواء(1) .

قال الطيبي(2) لا ، التي لنفي الجنس دخلت على المذكورات فنفت ذواتها وهي غير منفية ، فيوجه النفي إلى أوصافها وأحوالها التي هي مخالفة للشرع فان الصفر والعدوى والهامة موجودة ، والنفي مازعمت الجاهلية لا إثباتها فان نفي الذات لارادة الصفات أبلغ في باب الكناية ( إنتهى ).

__________________

(1) كشف الأخطار المخطوطة.

(2) بكسر الطاء والياء الخفيفة ، هو الحسن بن محمد بن عبدالله المحدث المفسر المتوفى سنة 743 ه‍ .

٣٣

وهناك معان أخرى للحديث ، يتأتى بها الوفاق بينه وبين مامر ، إقتصرنا على ما ذكرها روما للاختصار.

والآن وبعد ذكرنا للجراثيم ناسب أن نذكر لك نبذة مختصره عن تاريخها وأثرها في الأجسام ، وكيفية ورود العدوى بواسطتها وحسب الطب الحديث إتماماً للفائدة وإيضاحاً للبحث.

[[ الجراثيم ومجمل تاريخها ]]

الجراثيم ( الميكروبات ) جمع جرثومة ( ميكروب ). ومعنى ميكروب ( الحي الدقيق ) وقد وضع هذا الاسم لهذا الحي الدقيق رجل يدعى ( سيدلوث ) سنة 1878 م. أما العلم الذي يبحث عنها وعن أنواعها وآثارها فيسمى : ( البكتريولوجيا ) وهو لفظ يوناني مأخوذ من تركيب لفظة ( بكتريا ) بمعنى العصي جمع عصا ، وذلك لأن شكل الكثير منها مستقيم كالعصا. ولفظة ( لوجيا ) بمعنى العلم ، أما المؤسس لهذا العلم فهو الاستاذ ( لويس باستور ) الأفرنسي المتولد 1822 م والمتوفى سنة 1895 م وان أشهر من نبغ فيه بعده هو الاستاذ الدكتور ( روبرت كوخ ) الألماني مكتشف ميكروب التدرن الرئوي في السل والمتولد سنة 1843 م والمتوفى سنة 1910 م.

وغير خفي أن الذي هدي الناس إلى معرفة هذه الأحياء الدقيقة ( غير المرئية بالعين المجردة ) هو المجهر ( الميكروسكوب ) الذي اخترع في سنة 1590 م قبل تأسيس هذا العلم بمدة طويلة.

وللجراثيم أشكال ثلاثة :

1 ـ الشكل الباسللي أي المستطيل.

2 ـ البروز وهي التي ترى كنقط صغار قد يلتقي بعضها ببعض فتتكون منها خيوط تسمى ( البروزالسلسلية ) وقد تجتمع مثنى وثلاث ورباع وقد تتكون

٣٤

باجتماعها على شكل الكلية ، أو على شكل عنقود فتسمى الكلليه ( بتشديد الياء ) أو العنقودية إلى غير ذلك.

3 ـ الشكل الحلزوني وهو جراثيم مستطيلة ملتوية على نفسها كالثعبان أو كحركة الضمة ( و ) أو الشولة ( ، ) ولذلك تسمى أحياناً ( الباسيل الضمي ) وقد يكون لقسم منها أهداب في أطرافه.

وهذه الجراثيم تنمو وتتوالد باحدى طريقتين :

1 ـ أما بانقسامها عرضاً إلى قسمين وكل قسم منهما إلى قسمين أيضاً وهلم جرا.

2 ـ وأما بتولد حبيبة في داخل الجرثومة تنفلق عنها ، ثم تنمو هذه الحبيبة فتكون جرثومة وهكذا بكل سرعة.

ويحدث ضررها بنموها في السائل الذي يتربى فيه وبافرازها فيه مواد تفتك في البدن فتكا ذريعاً مهما كانت قليلة أو ضعيفة.

أما طريق العدوى بها وبعبارة أوضح طريق دخول الجراثيم إلى الجسم فلذلك أبواب كثيرة أهمها أربعة وهي :

1 ـ الرئتان. 2 ـ الجهازالهضمي. 3 ـ الجلد. 4 ـ الأغشية المخاطية كأعضاء التناسل والعين مثلاً ولا يلزم أن يكون سطح الجسم أو الأغشية المخاطية مجروحة لكي يدخل ذلك المكروب من الجرح ، بل قد يدخل من الأماكن ذات النسيج الرقيق من الجلد أو من مسامها ولكن الجرح يسهل الدخول.

أما مصادر خروج الميكروب أي ألأشياء التي تحمل الجراثيم وتتصل بالبدن ثم تنقلها اليه فهي :

1 ـ الهواء. 2 ـ الطعام. 3 ـ الشراب. 4 ـ التراب. 5 ـ ما يلامس جلد المصاب من الاجسام الخارجية كالملابس والأواني وأمثالها.

ولقائل أن يقول : كيف توجد العدوى ونرى بالحس والوجدان أن ليس كل إنسان اتصل به ميكروب مرض معدي أصيب به ، بل كم من متعرض له

٣٥

ينجو وكم من متوق محتاط يصاب بأسرع من غيره. إذاً فما معنى العدوى ؟ وهل تلك الاصابة إلا صدفة كما إتفقت للمريض الأول ؟

فنقول : لا لوم عليك إذا ما تصورت ذلك فانكرت العدوى لأن الظاهر كما زعمت ، ولكن قد غاب عنك أن الأطباء والعلماء قد اتفقوا بلا خلاف على أن أثر العدوى بالجراثيم المرضية وسرايتها في السليم متوقفة على شروط إذا لم تحصل فان العدوى لم يكن لها أثر البتة وهي :

1 ـ القابلية ومعناها أن يوجد في الميكروبات ما يحصل به نماؤها مثل ضعف الكريات البيض في دم السليم التي هي بمنزلة الجنود المدافعة عن البدن والمكلفة باقتناص ما يرد إليه من الجراثيم المرضية الفتاكة وردعها عنه بكل قواها ، فاذا ضعفت هذه الكريات في الدم أصبح البدن مستعداً إلى قبول الجراثيل قابلاً لفتكها غير مدافع عن ضررها.

2 ـ الفاعلية ومعناها أن تحصل تلك الجرثومة في بيئة أو وسط ملائمين لنموها ومساعدين لها على مكثها وتفريخها.

3 ـ حصول الوقت الكافي لتأثيرها في البدن.

فاذا حصلت هذه الشروط الثلاثة وحصل الناقل لها كالهواء أو الطعام أو الشراب أو غيرها حصلت العدوى وإلا فلا عدوى.

ثم أن هناك أمراً آخر لابد من ملاحظته وذلك أن للأمراض المعدية أدواراً ثلاثة : 1 ـ دور الابتداء. 2 ـ دور التوقف. 3 ـ دور الانحطاط.

وهي أي الأمراض منها ما يعدي في كل أدواره ومنها ما يعدي في دور الابتداء فقط ومنها ما يعدي في دور الانحطاط. إذاً فلا تحصل العدوى دائماً.

ويتلخص من هذه المقدمة أن المرض المعدي لا تحصل منه العدوى إلا إذا كان في دوره المعدي مع حصول القابلية والفاعلية من المكروب نفسه مع حصول الوقت الكافي لنموه ومع مساعدة البيئة أو الوسط مع ضعف المناعة في بدن السليم

٣٦

( أي ضعف الكريات البيض ) أما بغير ذلك فلا عدوى.

قال ابن سينا : ليس كل سبب يصل إلى البدن يفعل فيه ، بل قد يحتاج مع ذلك إلى أمور ثلاثة : 1 ـ إلى قوة من قوته الفاعلة. 2 ـ وقوة من قوة البدن الاستعدادية. 3 ـ وتمكن من ملاقات أحدهما للآخر بزمان في مثله يصدر ذلك الفعل منه ، وقد تخلتف أحوال الأسباب عند موجباتها ، ربما كان السبب واحداً واقتضى في أبدان شتى أمراض شتى ، أو في أوقات شتى ، وقد يختلف فعله في الضعيف والقوي وفي شديد الحس وضعيفه.

وهنا كان من المناسب أيضأ أن تعلم بأن للأمراض المعدية أسباباً مهيئة أخرى وهي قسمان ـ مادية ـ ومعنوية ـ وبعبارة أوضح ، ظاهرة وكامنة.

أما الظاهرة ( المادية ) فهي مثل فساد الهواء وفساد الماء والأبخرة الرديئة المتعفنة والأماكن الرطبة وكثيرة السكان وقليلة النور وشدة الحرارة والبرودة وفساد الطعام والمستنقعات والحروب وشرب الخمور وارتكاب المعاصي إلى غير ذلك من الأمور التي تجعل الجسم مستعداً لقبول العدوى.

وأما الكامنة ( المعنوية ) فمثل الوراثة ، والسن والجنس ، والمزاج الضعيف والجوع والتعب المفرطين ، وقد يكون منها الغضب والوهم والهم والغم والحزن والرعب والخوف والعشق وغيرها.

فان الاحداث والاسباب النفسية كثيراً ما تؤثر في حدوث الامراض أو تطورها وبالأخير إنهاك القوى التي يجعل الجسم عرضة لكل عدوى.

قال جالينوس : الغضب يلهب الأمزجة الصفراوية والحارة فيهيء الجسم للحميات الحادة كالحمى العفنية اللازمة ، والغم والحزن يفسدان الدم فيكونان علة للحمى التيفوئيدية ، والفزع والرعب يحدثان أحياناً رقة الدم وفقد الكريات الدموية فيكونان سبباً للتيفوس وأشباهها ( إنتهى مضمون كلامه ).

وهذه نبذة وجيزة عن الميكروبات ذكرناها ليتضح لك جيداً ويبدو لك جلياً

٣٧

معنى قول الامام «ع» : لا يكلم الرجل مجذوماً إلا وأن يكون بينهما قدر ذراع وبلفظ آخر قدر رمح.

فتأمل جيداً فى قوله هذا كيف أشار بكلماته القصار إلى خلاصة ما إكتشفه علم القرن العشرين بعد التاسع عشر من الأسرار العجيبة التي إفتخر بها كأنه جاء بشيء جديد في حين أن الامام الصادق «ع» قد أبان عنه قبل 14 قرناً بكل وضوح.

[[ حديث الأهليلجة (1) ]]

إن هذا الحديث الجليل والكتاب الشريف الذي كتبه الامام الصادق «ع» إلى تلميذه المفضل بن عمر الجعفي في إثبات التوحيد ، لحديث طويل لا يسعه هذا المختصر ، ولكنا قد إقتطفنا منه جزءاً يسيراً مما هو محل شاهدنا للاستدلال على كامل معرفته «ع» بالعقاقير ومنافعها وأضرارها وأنواعها ومنابتها وطرق إستعمالها بما لم يعرفها أطباء عصره ولم يدركها ذوو الفن من المشتغلين بها على أنهعليه‌السلام كان قد ذكرها طي كلامه عن التوحيد ولم يقصد بيانها مفصلاً وهذا مما يوضح لكل منصف عارف ما لدى الإمام من العلم الكامل بهذا الفن علماً أخذه عن أجداده عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالوراثة لا عن تعليم معلم أو تدريس أستاذ وإليك ما إقتطفناه منه.

كتب المفضل بن عمر الجعفي إلى أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق «ع» يعلمه أن أقواماً ظهروا من أهل هذه الملة يجحدون بالربوبية ويجادلون على ذلك ويسأله أن يرد على قولهم ليحتج عليهم بما إدعوا به.

فكتب أبو عبدالله «ع» إليه :

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد وفقنا الله وإياك لطاعته وأوجب لنا بذلك رضوانه ورحمته. وصل كتابك تذكر فيه ما ظهر في ملتنا وذلك من قوم أهل

__________________

(1) البحار ج 2 ص 75 ط طهران.

٣٨

الالحاد بالربوبية قد كثرت عدتهم واشتدت خصومتهم ، وتسأل أن أصنع الرد عليهم والنقض لما في أيديهم كتاباً على نحو ما رددت على غيرهم من أهل البدع والاختلاف ونحن نحمد الله على النعم السابغة والحجج البالغة والبلاء المحمود عند الخاصة والعامة ( إلى أن يقولعليه‌السلام ) ولعمري ما أتى الجهال من قبل ربهم وأنهم ليرون الدلالات الواضحات والعلامات البينات في خلقهم وما يعاينون في ملكوت السماوات والأرض والصنع العجيب المتقن الدال على الصانع ، ولكنهم قوم فتحوا على أنفسهم أبواب المعاصي وسهلوا لها سبيل الشهوات ، فغلبت الأهواء على قلوبهم واستحوذ الشيطان بظلمهم عليهم ، وكذلك يطبع الله على قلوب المفسدين.

وقد وافاني كتابك ورسمت لك كتاباً كنت نازعت فيه بعض أهل الأديان من أهل الأنكار وذلك أنه :

كان يحضرني طبيب من بلاد الهند وكان لا يزال ينازعني في رأيه ويجادلني عن ضلالته فبينما هو يوماً يدق اهليلجه ليخلطها بدواء إحتاج إليه من أدويته إذ عرض له شيء من كلامه الذي لم يزل ينازعني فيه من إدعائه أن الدنيا لم تزل ولا تزال شجرة تنبت وأخرى تسقط ونفس تولد وأخرى تتلف ، وزعم أن إنتحال المعرفة لله تعالى دعوى لا بينة لي عليها ولا حجة لي فيها ، وأن ذلك أمر أخذه الآخر عن الأول والأصغر عن الأكبر ، وأن الأشياء المختلفة والمؤتلفة والظاهرة والباطنة إنما تعرف بالحواس الخمس. فاخبرني بم تحتج في معرفة ربك الذي تصف قدرته وربوبيته وإنما يعرف القلب الأشياء كلها بالآلات الخمس.

إلى آخر ما يسوقه من إعتراض الطبيب وجواب الإمام «ع» من البراهين العقلية والدلائل الحسية التي أفحمته حتى جعلته يقر بالربوبية والوحدانية لله تعالى و قد أعرضنا عنها كلها عدا ما هو الشاهد لنا على إثبات ما للامام «ع» من معرفة خواص الأدوية ومنافع العقاقير ومضارها في عصر لم يدركها فيه غيره حتى الاخصائيين منهم بمعرفتها. وإليك محل الشاهد من الحديث :

٣٩

قال الامام الصادق «ع» لذلك الطبيب :

فاعطني موثقاً إذا أنا أعطيتك من قبل هذه الاهليلجة التي بيدك وما تدعى من الطب الذي هو صناعتك وصناعة آبائك وأجدادك وما يشابهها من الأدوية لتذعنن للحق ولتنصفن من نفسك. قال : ذلك لك ، قلت : هل كان الناس على حال وهم لا يعرفون الطب ومنافعه من هذه الاهليلجة وأشباهها. قال : نعم ، قلت : فمن أين اهتدوا ؟ قال بالتجربة والمقايسة ، قلت : فكيف خطر على أوهامهم حتى هموا بتجربته ، وكيف ظنوا أنه مصلحة للاجسام وهم لا يرون فيه إلا المضرة ، وكيف عرفوا فعزموا على طلب مايعرفون مما لا تدلهم عليه الحواس ؟ قال : بالتجربة ، قلت : إخبرني عن واضع هذا الطب وواصف هذه العقاقير المتفرقة بين المشرق والمغرب هل كان بدمن أن يكون الذي وضع ذلك ودل على هذه العقاقير رجل حكيم من أهل هذه البلدان ؟ قال لابد أن يكون كذلك وأن يكون رجلاً حكيماً وضع ذلك وجمع عليه الحكماء فنظروا في ذلك وفكروا فيه بعقولهم. قلت : كأنك تريد الانصاف من نفسك والوفاء بما أعطيت من ميثاقك فاعلمني كيف عرف الحكيم ذلك ؟ وهبه عرف ما في بلاده من الدواء كالزعفران الذي بأرض فارس مثلاً. أتراه إتبع جميع نبات الأرض فذاقه شجرة شجرة حتى ظهر على جميع ذلك ، وهل يدلك عقلك على ان رجالاً حكماء قدروا على ان يتبعوا جميع بلاد فارس ونباتها شجرة شجرة حتى عرفوا ذلك بحواسهم وظهروا على تلك الشجرة التي يكون فيها خلط بعض هذه الأدوية التي لم تدرك حواسهم شيئاً منها ، وهبه أصاب تلك الشجرة بعد بحثه عنها وتتبعه جميع بلاد فارس ونباتها فكيف عرف أنه لا يكون دواء حتى يضم إليه الاهليلج من الهند والمصطكي من الروم والمسك من تبت والدارصين من الصين وخصى بيد ستر من التراك والافيون من مصر والصبر من اليمن والبورق من أرمينية وغير ذلك من أخلاط الأدوية وهي عقاقير مختلفة تكون المنفعة باجتماعها ولا تكون منفعتها في الحالات بغير إجتماع. أم كيف اهتدى لمنابت هذه

٤٠

وأمّا الجدُّ الأعلى : عَدْنانُ :

فَقَدْ قال المسعوديّ : إنّما سُمّيَ «عدنان» من العَدْنِ ، وهو الإقامة ، لأنّ الله أقام ملائكةً لحفظه ، وذلك لأنّ أعين الإنس والجنّ كانت إليه مصروفةً ، وأرادوا قتلَهُ ، وقالوا : «لئن تركنا هذا الغلام حتّى يدرك مدارك الرجال ليخرجنّ من ظهره من يسود الناس» فوكّل الله به من يحفظه (فَنَشَأ أحْسَنَ أهلِ زمانِه خَلْقاً وخُلُقاً)(١) .

وهو أوّل من وضع أنصاب الحرم ، وَكَسا الكعبة(٢) وهو أصلُ العَدْنانيّة كلّهم ، ومنه تفرّقت شعوبهم وقبائلهم ، وعلى عهده اجتاح بُخْتَنُصَّرُ بلاد العرب وشتّتهم ، وعلى يد ابنِهِ مَعَدّ استعاد مجد أبيه وقومه(٣) .

هؤلاء هم آباءُ أبي الفَضْلِ العَبّاس عليه السلام :

فتراهم قد توارثوا الشرفَ والمجدَ والفضيلةَ خَلَفاً عن سَلَفٍ وهم على ما نعتقده نحن الإماميّة الاثني عشريّة : كلّهم مؤمنون موحّدون ، على ملّة أبيهم إبراهيم النَبِيّ صلّى الله على نبيّنا وآله وعليه. بل كانوا من الصدّيقين ،

__________________

(١) إثبات الوصيّة (ص ٧٤) وتاريخ الخميس (١ / ١٤٦) وما بين القوسين لم يرد فيه.

(٢) تاريخ اليعقوبي (١ / ٢٧٠).

(٣) ولا خلافَ بين علماء النسب أنّ عدنانَ من ذُرّية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام لكنّهم اختلفوا في عَدَدِ الوسائط إليه. والمأْثُوْرُ عَنْهُ صلى الله عليه وآله كان إذا وَصَلَ إلى عدنان أَمْسَكَ ولم يَتَجاوَزْهُ أُنظر : الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٣).

وقال بعضهم بَعْدَ رَفْعِهِ نَسَبَ رسول الله صلى الله عليه وآله إلى عدنان :

إلى هُنا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

واخْتَلَفُوْا مِنْ آدمٍ (*) إلَيهِ

(*) صَرَفَ (آدَمَ) لِمُراعاةِ الْوَزْنِ.

٤١

وفي آبائهم من كانوا من الأنبياء والمرسلين ، والأوصياء والمعصومين(١) .

وَلعَذنان الشَّرَفُ الْأَقْعَسُ وَطِرازُ السُّؤْدَدِ الأنْفَسُ بولادَتهِ لأَشْرَفِ الْخَلْقِ وَسَيّدِ الأنبياء والمرسلين وفي ذلك يقولُ ابنُ الرُّوْميّ الشاعرُ الشهيرُ(٢) :

فَكَمْ أَبٍ قَدْ عَلا بِابْنِ ذُرى شَرَفٍ كَما عَلا بِرَسُول اللهِ عَدْنانُ

وأمّا أُمّهات أُولئك :

فقد ذكر المسعودي : أنّ كلّ واحدٍ منهم ـ أي أَجْداد النَبِيّ صلى الله عليه وآله ـ كان يأخذ على ابنه أن لا يَتَزَوَّدَ إلاّ أطهر النساء في زمانه(٣) .

__________________

(١) أوائل المقالات للشيخ المفيد (ص ١٢) ولاحظ بحار الأنوار للمجلسي (١٥ / ١١٧) وراجع تفسير الرازي (٢٤ / ١٧٤) ط البهيّة في مصر ، و(٨ / ٥٣٧) ط بيروت حديثاً. والبداية والنهاية (٢ / ٤٨١).

(٢) للماوَرْدِيّ الفقيه الشافعي صاحب (الأحكام السلطانيّة) كلامٌ نفيسٌ في إيمان آباء النَبِيّ صلى الله عليه وآله كلّهم كما هو مذهب العترة عليهما السلام.

(٣) إثبات الوصيّة (ص ٧٤).

٤٢

وأعمامُ العبّاس عليه السلام

فأعمامُ أبيه أمير المؤمنين هُم أولاد عَبْد المطّلب :

فكان لعَبْد المطّلب عشرةُ أبناء أكبرُهم الحارثُ ، وبه كان يُكنّى وللحارث عقبٌ.

فينبغي استيفاء ذكر الأعمام :

حمزةُ بنُ عَبْد المطّلب : أسدُ الله وأسد رسوله ، سيّد الشهداء في صدر الإسلام.

الزُبيرُ بنُ عَبْد المطّلب : صاحب حِلْف الفضول ، والّذي حمى مكّة أنْ يُظْلَمَ بها أحدٌ ، وكانت قُريشٌ لا تُبرمُ أمراً حتّى يشهدُهُ.

وهُو الّذي طرد حرب بن أُميّة حتّى استجار منهُ بأبيه عَبْد المطّلب(١) .

وعَبْد الله بنُ عَبْد المطّلب : والدُ النَبِيّ صلى الله عليه وآله ولم يُعْقِبْ سواهُ ، وكان آخر بني أبيه لأُمّه ، وهم الزُبير ، وأبو طالب ، أُمّهم فاطمةُ بنتُ عمرو المخزومية.

والعَبّاسُ بنُ عَبْد المطّلب : كانت له سقاية الحاج وعمارة البيت بعد وفاة أبي طالب عليه السلام والعمارة : أن لا يتكلّم أحدٌ في المسجد الحرام بِهُجْرٍ

__________________

(١) بطل العلقمي (١ / ٢٦٢) وانظر مروج الذهب للمسعودي (٢ / ٢٧٧) ورسائل الجاحظ (ص ٤٧) ـ

٤٣

ولا رَفَثٍ ولا يرفعُ فيه صوتَهُ ، وكان العبّاس ينهاهم عن ذلك(١) .

وأبو طالب بن عَبْد المطّلب : والدُ أمِيْر المُؤْمِنِيْن عليّ عليه السلام :

وقد مرّ ذكره في الآباء.

وأولاده أعمال العَبّاس أبي الفضل ، هم :

جعفر :

شهيد مُؤتَةَ ، ذو الجناحين ، قطعت يداه في المعركة ، وكان حامل لواء المسلمين فضمّ اللواء على صدره حتّى ضُرِب على يافوخه فسقط هو واللواء(٢) كان يشبّه برسول الله صلى الله عليه وآله خَلَقاً وخُلقاً.

كان جواداً ، ويحبّ المساكين ويجلس إليهم ويحدّثهُم ، فلقّبه النَبِيّ صلى الله عليه وآله «أبا المساكين»(٣) .

وبكى رسول الله في نعيه ، وقال : «على مثل جعفر فلتبك البواكي»(٤) .

وعقيل بن أبي طالب :

قال الجاحظ : كان عقيل ناسباً عالماً بالأُمّهات ، بيّن اللسان ، شديد الجواب لا يقوم له أحد وكان من رواة الأشعار ومن علماء قريش بالأنساب والأخبار وكان أكثرهم ذكراً لمثالب الناس (ولمثالب قريش

__________________

(١) العقد الفريد (٢ / ٣٢٠).

(٢) بطل العلقمي (١ / ٢٩١).

(٣) حلية الأولياء لأبي نعيم (١ / ١١٧).

(٤) ذخائر العقبى للطبري (٢ / ٤٤٤) طبع قم ، و(ص ٣٦٢) طبع جدّة.

٤٤

خاصّة) فعادوه لذلك(١) .

وكان مبغّضاً إليهم لأنّه كان يعدّ مساويهم ، فعادوه لذلك وقالوا فيه بالباطل ، ونسبوه إلى الحمق واختلقوا عليه أحاديث مزوّرة(٢) .

وقال علي عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله : إنّك لتحبّ عقيلاً؟! فقال صلى الله عليه وآله : «إيْ والله ، إنّي لأُحبّه حُبَّيْنِ : حُبّاً له ، وحَبّاً لحُبّ أبي طالب له ، وإنّ ولده المقتول في محبّة ولدك ، فتدمع عليه عيون المُوْمنين وتصلّي عليه الملائكةُ المقرَّبون».

ثمّ بكى صلى الله عليه وآله حتّى جرتْ دموعُهُ على صدره ، ثمّ قال : «اللهمّ إنّي أشكُوا إليك ما تلقى عترتي من بعدي»(٣) .

وهذا الحديث من (أعلام النُبُوَّة ودلائلها) حيث أخبر صلى الله عليه وآله عن شهادة الحسين سبطه الشهيد وشهادة مسلم بن عقيل في الكوفة ، وهو شارة فخرٍ عُظمى ووسام شرفٍ في كتف مسلمٍ عليه السلام من نبي الإسلام ، فهنيئاً له.

فهؤلاء أعمام العَبّاس الشهيد ، إخوة أبيه ، الّذين توجّهم رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله : «لو أنّ أبا طالب ولد الناسَ كُلَّهم لكانوا أشِدّاء أقوياء»(٤) .

__________________

(١) البيان والتبيين (٢ / ٣٢٤) طبع هارون ، و(٢ / ٢٢١) طبع ملحم وما بين القوسين من الاستيعاب (٢ / ٢٥٢) وانظر : الوافي بالوفيّات (٢٠ / ٦٣).

(٢) الاستيعاب (٢ / ٢٥٢).

(٣) الأمالي للشيخ الصدوق (ص ٨٨ المجلس ٢٧) والاستيعاب (٢ / ٢٥٢).

(٤) شرح الأخبار للقاضي النعمان المصريّ (١ / ٣٠) في حديث ٣٠٨ و(٣ / ٢١٦) أُمّ هاني بنت أبي طالب وعن غرر الخصائص للوطواط (ص ١٧). ولاحظ : كشف الغمّة للأربلي (٢ / ٢٣٥).

٤٥

وهؤلاء أعمام أبي الفَضْلِ العَبّاس ، في الإسلام وكلّهم من الصحابة الكرام ، وقد أوجز فيهم القول حسّان شاعر النَبِيّ إذْ قال :

وما زال في الإسلام من آل هاشمٍ

دعائم عِزٍّ لا تُرامُ ومَفْخَرُ

بهاليلُ منهم جعفرٌ وابن أُمّه

عليٌّ ومنهم أحمدُ المُتَخَيَّرُ(١)

وقلتُ ـ أنا الجلاليُّ ـ مُجارياً ومُكَمِّلاً :

وحمزةُ والعَبّاسُ ثمّ عقيلُهم

مآثرُهُم في الصُحْفِ تُتلى وتُنْشَرُ

أُولئك أهلُ البيتِ آلُ مُحمَّدٍ

بِطُهْرِهِمُ القرآنُ أُنْزِلَ يُخْبِرُ

__________________

(١) بطل العلقمي (١ / ٢٤٩) وقد اعتمدنا على هذا الكتاب في البحث عن نسب العَبّاس عليه السلام بما له من الآباء والأعمام ، فقد بحث فيه بتفصيل واف عن تراجم هؤلاء وأرجعنا إلى مصادره مع مراجعة بعضها المتيسّر ، في مطبوعاته الحديثة وتصحيح نصوصه.

٤٦

أُمَّهاتُ أبي الفضل العَبّاس وأَخْوالُهُ

فوالدتُهُ : أُمّ البَنِيْنَ :

فاطمة بنت حَرَام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد ـ وهو عامر ـ بن كعب ابن عامر بن كِلاب بن ربيعة(١) بن عامر بن صعصعة(٢) .

اسمُها : فاطمة :

سمّاها «فاطمة» من كبار النسّابين : أبو نصر البخاريّ(٣) وابن عِنَبة(٤) وأكّد الإمام السيّد محسن الأمين في مواضع من كتابه أعيان الشيعة(٥) أنّ اسْمَها «فاطِمَةُ». وصرّح بذلك الأُردوباديّ ونقل ذلك عن أبي نصر البخاريّ ، وعن ابن أمير الحاجّ في شرح قصيدة أبي فراس(٦) .

وقد توهّم من قال : إنَّ اسْمَها كُنْيَتُها (يعني أُمّ البَنِيْنَ).

__________________

(١) إلى هنا أثبتت النسب أكثر المصادر ، وأقدمها مقتل أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام لابن أبي الدنيا (ص ١٣٠).

(٢) صَعْصَعَة بن مُعاوِيَةَ بْنِ بكْرِ بْنِ هَوازِنٍ بْنِ مَنْصُوْر بْنِ عِكْرِمَة بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ عَيْلان (قيس بن عَيْلان خ ل) بن مُضَر بْنِ نِزارِ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدنان.

(٣) سرّ السلسلة (ص ٨٨) معالم أنساب الطالبيين (ص ٢٥٥).

(٤) عمدة الطالب (ص ٣٥٦).

(٥) أعيان الشيعة (٧ / ٤٢٩) و(٨ / ٣٨٩) و(٣ / ٤٧٥).

(٦) فصول من حياة العَبّاس عليه السلام (ص ١٨).

٤٧

وقد أغربَ من ادّعى أنّه : لم تذكر المصادر المعتبرة (!) لها اسماً وأضاف : بل ظاهرهم أنّ «أُمّ البنين» هو اسمها(١) .

أبوها : حَرامٌ :

كذا أثبته بالراء النسّابون ، منهم : ابنُ الكَلْبي(٢) والزُبَيْرُ بنُ بَكّار(٣) وافقهم : ابْنُ عَبْد رَبِّهِ(٤) وابنُ حَجَر العسقلانيُّ(٥) والمَقْريزيُّ(٦) والشيخُ الطوسيُّ في الرجال عند ذكر العَبّاس في أصحاب الإمام الحسين عليه السلام قال : أُمّ البنين بنت حَرَام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد ، من بني عامر(٧) .

وعلّق السيّد الزنجاني على اسم (حرام) بقوله : كذا في نسختين وفي بعض النسخ ، و(تنقيح المقال)(٨) وجامع الرواة(٩) : «حزام» بالمهملة بعدها معجمة.

ثمّ قال : والصحيح الأوّل ، فقد ترجمه في الإصابة (رقم ١٩٦٥) في

__________________

(١) قاموس الرجال للتستري (١٢ / ١٩٦) وقلّده في موسوعة التاريخ الإسلامي (٥ / ١٣٦).

(٢) جمهرة النسب (ص ٣٥٧).

(٣) النسب للزبير بن بكّار. ولا حظ : الجوهرة في النسب للبري (١ / ٣٩٥) و(٢ / ٢٢).

(٤) العقد الفريد (٥ / ١٣٤).

(٥) الإصابة (٢ / ٦٠) رقم ١٩٦١ ، وقال : العامري ثمّ الوحيدي ، له إدراك.

(٦) اتّعاظ الحنفا (١ / ١٠٥).

(٧) الرجال للشيخ الطوسي (ص) وبرقم (٩٦١) في نسخة السيّد الحجّة الشبيري الزنجاني دام ظلّه ، المصوّرة عندنا.

(٨) تنقيح المقال للشيخ المامقاني (٣ / ٧٠) في فصل النساء.

(٩) جامع الرواة للشيخ الأردبيلي ، وراجع مستدركات علم الرجال للنمازي (٨ / ٥٥١) رقم ١٧٩٥٧.

٤٨

باب الحاء والراء المهملتين ، فراجع(١) .

أقولُ : وقد جاء في «مقتل أَميْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام» لابن أبي الدُّنيا ، عند ذكر أولاده ، ذكر العَبّاس وإخوته من أُمّ البَنِيْنَ ، فقال : «بنت حَرَام»(٢) .(٣) .

وكذلك أثبته «بنت حَرَام» السيّد أبو السعادات ؛ عليّ بن محمّد الحَسَنيّ المعروف بابن الشَجَرِيّ(٤) وابن قتيبة(٥) .

وجاء عند أبي العَبّاس الحسنيّ من الزيدية في كتاب «المصابيح» بلفظ «حرام» لكن طبع في موضع آخر : «حزام» بالزاي(٦) ولا ريب في كون أحدهما تصحيفاً ، والصواب هو الأوّل. وكذلك صوّب الأُردوبادي «حرام»(٧) . والشيخ عَبْد الواحد المظفّر قد حسم الأمر وأصاب المنحر بقوله : اسمه «حرام» بالحاء المهملة ، والراء المهملة ، بعدها ألِفٌ وميمٌ ،

__________________

(١) الرجال للطوسي هامش الرقم (٩٦١) من النسخة المصوّرة عندنا.

(٢) مقتل أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام المصوّرة المحفوظة عندنا.

(٣) كذا قرأتُ الكلمة في النسخة المصوّرة. لكن المرحوم الطباطبائي الّذي حقّق الكتاب ، أثبت الكلمة «حزام» بالزاي ، من غير تعليق. انظر مجلّة (تراثنا) العدد (١٢) ص (١٣٠).

وأظنّه اتّبع المشهور في أكثر الكتب المتداولة ، لوجود تشويهٍ بالسواد على حرف الراء من كلمة (حرام) من النسخة المصوّرة التي اعتمدها ، وقد تحقّق لديّ أنّ التشويه إنّما هو علامةٌ كان يضعها الكاتب على حرف الراء في الكلمات تمييزاً لها عن حرف الزاي ، الّتي وضع عليها نقطة فقط ، وهذا واضح لمن دقّق في تلك النسخة.

(٤) الأمالي الخميسية لابن الشجري (١ / ١٧٠ و ١٧١).

(٥) المعارف ـ طبع عكاشة ـ (ص ٢١١).

(٦) المصابيح (ص ٣٣١).

(٧) فصول من حياة العَبّاس عليه السلام للأُردوبادي (ص ١٨).

٤٩

ويأتي في كثير من النسخ «حزام» بالزاي المعجمة(١) وهو غلطٌ قطعيٌّ(٢) .

وقد جاءت الكلمة «حزام» بالزاي في أكثر المصادر المطبوعة ، منها ما للقدماء مثل : يحيى بن الحسن العقيقي(٣) والطبري(٤) وأبي الفرج الأصفهاني(٥) والخوارزمي(٦) وابن حزم(٧) وعلى ذلك أكثر المطبوعات المتأخّرة.

وقد عرفت نّ الّذي صوّبه المحقّقون هو «حَرام» بالراء.

مَن هو «أبو المُحِلّ»(٨) ؟ :

كُنّي «حرام» في بعض المصادر بـ «أبي المُحِلّ» كما سيأتي.

وهذا غلطٌ فاحش ؛ فإنّها كُنيةٌ للديّان ، وهو ولد (حرام) وأخو أُمّ البَنِيْنَ.

وأُمّهما : ليلى بنت سهيل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كِلاب(٩) .

__________________

(١) اسم هذا الحرف هو (الزاي) فلا حاجة إلى تمييزه عن (الراء) بوصف المعجمة ، وكذلك لا حاجة في ذلك بوصف الراء بالمهملة ، كما حقّقناه في رسالة (الضبط).

(٢) بطل العلقمي (١ / ١١١).

(٣) في (تسمية من أَعْقَبَ من ولد أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام) (ص ٢) من المخطوطة والنسخة غير منقوطة في أكثر حروفها المعجمة ولذلك يَدُبُّ الشكُّ إلى التنقيط في كلمة (حزام) فليدقّق.

(٤) تاريخ الطبري (٥ / ٤٦٨).

(٥) مقاتل الطالبيين (ص ٨٧).

(٦) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي (٢ / ٢٩).

(٧) جمهرة أنساب العرب لابن حزم (ص ٣٧).

(٨) جمهرة النسب ، للكلبي (ص ٣٣).

(٩) جمهرة النسب ، للكلبي (ص ٧ ـ ٣٢٨).

٥٠

وذكر ابنه : عَبْد الله بن الديّان أبي المُحِلّ في بعض المصادر(١) . والديّان أبو المحِلّ هو أخو أُمّ البَنِيْنَ ، وعبد الله هذا هو ابن أخيها ، وهي عمّتُهُ.

وكلمة «المُحِلّ» بضمّ الميم ، وكسر الحاء المهملة ، وتشديد اللام ، كما ضبط بالقلم في كتاب الكلبيّ(٢) .

وتصحّفت كلمة «المُحِلّ» إلى «المجْل»(٣) .

فممّن وقع هذا التصحيف في مؤلّفاتهم : أبو نصر البخاريّ(٤) وابن عِنَبة(٥) والطبريّ(٦) والمظفّر(٧) والأُردوبادي(٨) ومن تأخّر عنهم.

وأغرب ابن كثير في قوله : أُمّ البَنِيْنّ بنت حزام وهو المُحِلّ(٩) فحذف حرف الكنية. وقد أغرب المقريزي فقال : أُمّ البَنِيْنَ بنت المحل بن الديّان ابن حَرام(١٠) .

__________________

(١) تاريخ الطبري (٥ / ٤١٥) وفيه : عبد الله بن أبي المحلّ بن حزام ، وكذلك في الكامل لابن الأثير (٤ / ٥٦) ومقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي (١ / ٣٤٨).

(٢) جمهرة النسب للكلبي. وضبطه كذلك في عُمدة القاري شرح البخاري (٤ / ١٨٩) وهو في المصنّف لعبد الرزّاق (١ / ٤١٥) رقم ١٦٢٣ ومصنّف ابن أبي شيبة (٥ / ٣٩١) والطبقات الكبرى لابن سعد (٦ / ٢٤٢) وتهذيب التهذيب لابن حجر (٥ / ٣٤١).

(٣) سرّ السلسلة للبخاري (ص ٨٨) وتاريخ الطبري (٥ / ١٥٣).

(٤) سرّ السلسلة (٨٨) ومعالم أنساب الطالبيين (ص ٢٥٥).

(٥) عمدة الطالب (ص ٣٥٦).

(٦) تاريخ الطبري (٥ / ١٥٣) قال : بنت حزام وهو أبو المجل بن خالد.

(٧) بطل العلقميّ (ص ١٠٢) وقال في (ص ١١١) : أبوها أبو المحل حرام.

(٨) فصول من حياة العَبّاس عليه السلام (ص ١٨).

(٩) البداية والنهاية (٧ / ٥٥١).

(١٠) اتّعاظ الحنفا (١ / ١٠٥).

٥١

وجاء اسم أبيها عند بعضهم : حزام بن خالد بن دارم :

ففي كتاب الشيخ المفيد أنّها : بنت خالد بن دارم بن ربيعة(١) .

وقد عارضه الشيخ ابن إدريس ، وقال : إنّما أُمّ العبّاس أُمّ البنين بنت حزام بن خالد ربيعة بن عامر وليس من بني دارم التميميّ(٢) .

وفي كتاب نصر الجهضميّ : بنت خالد بن يزيد الكلابيّة(٣) .

وفي تذكرة سبط ابن الجوزيّ : وقيل : بنت خالد كلابية(٤) .

وفي مواضع أُخر : وقيل بنت خلة(٥) .

وجميع هذا بين خلطٍ وتصحيفٍ.

وأغرب ما رأينا ما جاء في كتاب «المنمّق» لابن حبيب البغدادي ، حيثُ عَدَّ العَبّاس بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام من «أبناء الحبشيّات من قريش»(٦) .

ذكر ذلك ابن إدريس ، وقال : هذا خطأٌ منه ، وتغفيلٌ ، وقلّة تحصيل(٧) .

أقولُ : لكنّ ابن حبيب نفسه ذكر في الكتاب المذكور أُمّ البَنِيْنَ ونَسَبَها

__________________

(١) الإرشاد للمفيد (١ / ٣٥٤).

(٢) السرائر (١ / ٦٥٦) وفي طبعة موسوعة ابن إدريس (٢ / ٤٩٤) ولمحقّقه اعتراض عليه وفصل الحديث عن هذه المعارضة في بطل العلقمي فراجع.

(٣) تاريخ أهل البيت عليهم السلام (ص ١٠٧).

(٤) تذكرة خواص الأُمّة (١ / ٦٦٤).

(٥) تذكرة خواص الأُمّة (١ / ٦٦٤).

(٦) المنمّق لابن حبيب البغدادي (ص ٤٠١).

(٧) السرائر لابن إدريس (٢ / ٤٩٥).

٥٢

«الوحيديّة»(١) .

فكيف يقول بكونها حبشيّة؟ وهو علاّمة في هذا الفَنّ لا يعارض!.

فلابدّ من وقوع الخطأ من غيره في ذلك الموضع.

وقد تبيّن أنّ الصواب في نسبها هو ما أثبتناه عند ذكر اسمها ، وهو ما اتّفقت عليه كلمة جمهور العُلماء من النسّابين والمُؤرّخين ، كما سلف. فهي : العامريّةُ ، الكِلابيّةُ ، الوَحِيْدِيّةُ. سلام الله عليها وعلى أولادها الشهداء الأبرار.

كُنْيتُها : أُمُّ البَنِيْنَ :

هذه الكُنْيةُ معروفةٌ لزوجة مالك بن جعفر بن كِلاب ، الّتي ولدتْ له خمسة أولاد كلّ واحدٍ منهم سيّدٌ من سادات قومه ، رئيسٌ من رؤسائهم ، وهم :

١ ـ ربيعة : وهو من فرسان العرب ، ويعرف «ربيع المُقْتِرِيْنَ» ، وهو أبو لَبِيْد الشاعر الشهير أحد أصحاب المعلّقات(٢) .

٢ ـ معاوية : وهو «مُعَوِّدُ الحُكّام»(٣) .

٣ ـ الطُفَيل : وهو «فارس قُرْزُل»(٤) .

__________________

(١) المنمّق ، (ص ٣٥١) وانظر السرائر (في الموسوعة) (٢ / ٤٩٥).

(٢) العقد الفريد (١ / ١٣٧).

(٣) الأمالي للسيد الشريف المرتضى (١ / ١٣٧) وفي طبعة إبراهيم (١ / ١٩٣).

(٤) كذا جاء ضَبْطُهُ في (القاموس المحيط) : (قُرْزُل) وهو اسم فرسه.

٥٣

٤ ـ عامر : وهو من فرسان العرب يعرف «مُلاعب الأسنّة»(١) .

٥ ـ سلمى : وهو «نَزّالُ المضِيْقِ»(٢) .

وفي أُمّ البَنِيْنَ هذه سارَ المثلُ : «أَنجبُ من أُمّ البَنِيْنَ»(٣) .

وفيهم يقول لَبيد الشاعر :

نَحْنُ بَنُو أُمّ البَنِيْنَ الأرْبَعهْ

وَنحْنُ خَيْرُ عامِر بنِ صَعْصَعَهْ(٤)

وإنّما ذكر الشاعر (الأربعة) لمناسبة السجع ، إذ هم خَمْسة.

ولكلّ واحدٍ من هؤلاء قصّة في تلقيبه بلقبه المذكور.

وفي «بني عامر» من الرجال الأبطال ، والفرسان ، والأجواد ، عدد كبير ، منهم الصحابة الكرام والتابعون العظام ، وقد ملئت الصحائف بذكرهم(٥) .

قال فيهم اليعقوبيّ : كانت الرئاسة ـ على العرب ـ في أقوام ثمّ صارت في بني عامر بن صعصعة ، ولم تزل فيهم(٦) .

وقال أهل اللغة : بنو عامر ـ قوم أُمّ البَنِيْنَ ـ كانوا حُمْساً(٧) ـ وهم

__________________ـ

(١) العقد الفريد (١ / ١٣٧).

(٢) المحبر لابن حبيب (ص ٣٥٨).

(٣) مجمع الأمثال للميداني (٣ / ٤٠٢) وجمهرة الأمثال للعسكري (٢ / ٣٢٥).

(٤) بطل العلقمي (١ / ٤ ـ ٢٠٥) وأمالي المرتضى (١ / ١٣٥) ومعجم البلدان (١ / ٣٨٦) وخزانة الأدب (٤ / ١٧٠) طبعة قديمة ، وفي طبعة هارون (٩ / ٥٤٨).

(٥) فصّل عن تاريخهم وآثارهم ومآثرهم الشيخ عَبْد الواحد المظفّر في كتاب (بطل العلقمي) (ج ١ ص ـ ٢٢٧) فليراجع.

(٦) تاريخ اليعقوبي (١ / ٢٢٧).

(٧) الرسائل للجاحظ (١ / ٢٦٢).

٥٤

المتشدّدون في دينهم ـ والحُمْسُ هم قريش قُطّان مكّة وسُكّانُها ومن له فيهم ولادة ، فكان لبني عامِر ولادةٌ في قريش(١) .

وانتقلت هذه الكُنْيةُ «أُمّ البَنِيْنَ» إلى والدة العَبّاس الشهيد ، قبلَ أن تدخل بيت الإمام أمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام كما هي العادة في تسمية الخلف بِاسْمِ واحدٍ من السَّلَفِ أو كُنْيَتِه ، ليكون ذكرى للماضين ، وعبرة وتنويهاً للباقين. وشاءَ اللهُ أن يكون لفاطمة (بَنُونَ أرْبَعَةٌ) من الإمام أمِيْر المُؤْمِنِينَ عليه السلام فينطبق عليها الاسْمُ كما جاء في الشعر ، فيكون لها حقيقةً بعدَ ما كانَ لتلك مَجازاً ، بل أصبحَ في التراث والتاريخَ عَلماً لِهذِهِ الأُمِّ سلام الله عليها لا تنصرف الكُنْية إلى غيرها.

وكفى أُم البَنيْنَ هذا الانتخاب من الإمام أمير المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام فضلاً وشرفاً ، مع مالها من النسب والحسب وما أثر عنها من الرعاية والعناية في بيت الإمام عليه السلام من دون نقل ما يخالف من سيرةٍ أو سريرة بل كانت كما نقل عن الشهيد الأوّل «من النساء الفاضلات»(٢) .

أُمُّ الْبَنِيْنَ وَكَفاها فَخْرا

أنْ لَمْ تَلِدْ إلاّ فَتىً هِزَبْرا

فَيالَها كُنْيَةَ فَخْرٍ خَلَّدَتْ

لَها بِسِفْرِ الْمَكْرُماتِ ذِكْرا

__________________

(١) لسان العرب ، وتاج العروس (مادّة : حمس) وانظر الكامل في التاريخ (١ / ٦٣٩) والنهاية والبداية لابن الأثير مادّة (حمس) (١ / ٣٥٨).

(٢) مجموعة الشهيد الأوّل نقلاً في كتاب العبّاس عليه السلام للسيّد المقرّم.

٥٥

أَضْحَتْ بِها «مَخْصُوْصَةً» حَثُ اغْتَدَتْ

أوْلى بِها مِنْ غَيْرِها وأحْرى

إذْ وَلَدتْ أَرْبَعَةً قَد أَشْرَقُوا

في أُفُقِ الْمَجْدِ نُجُوْماً زُهْرا

مُجَزَّرِيْنَ كَالأَضاحِيِّ غَدَوْا

فَاحْتَسَبَهُمْ طاعَةً وَصَبْرا

جادُوْا عَنِ ابْنِ الْمُصْطَفى بِأَنْفُسٍ

نَفِيْسَةٍ سَمَتْ عُلاً وَقَدْرا

خَيْرُ قَرابِيْنَ بِطَفِّ كَرْبلا

بَعْدَ حُسَيْنٍ ؛ شَرَفاً وطُهْرا

بِالثُّكْلِ أَوْلاها الإِلهُ أَجْرَهُ

مُذْ واسَتِ الطُّهْرَ الْبَتُوْلَ الزَّهْرا

وَنالَتِ الزُّلْفى مِنَ اللهِ بِما

قَدْ أخْلَصَتْ سَرِيْرَةً وَجَهْرا

مِنْ رَبِّنا لا بَرِحَتْ بِمَنِّهِ

سَحائِبُ اللُّطْفِ عَلَيْها تَتْرى

ذكر أَمِيْر المُؤْمِنِينَ عليه السلام لها :

وكلّ تلك الأمجاد كانت هي المطلوبة للإمام أمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام وهو الممتثل لأمر النَبِيّ صلى الله عليه وآله القائل : «اختاروا لنُطَفِكُم ، فإنّ الخال أحد

٥٦

الضَجِيْعَيْن»(١) ـ(٢) .

ولذلك طلبَ الإمامُ من أخيه عقيل ـ الّذي كان عارفاً بأنساب العرب وأخبارهم ، بل كانَ من أعلم قريشٍ بالنَسَبِ(٣) ـ فقال له :

«اطلُبْ لي امرأةً ولدتْها شجعانُ العرب ، حتّى تَلِدَ لي وَلَداً شُجاعاً».

فوقع الاختيار على أُمّ البَنِيْنَ الكِلابِيّةِ ، وولدتْ له العَبّاس بن علي ، وإخوته عليهم السلام(٤) .

وروي : أنّ الإمامَ أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام قال لأخيه :

«انْظُرْ إِلَيَّ (٥) امرأةً قد وَلَدْتْها الفحولة من العرب لأتَزَوَّجَها ، فتلدَ لي غُلاماً فارساً» .

فقال له عقيلٌ أمَّ البَنِيْنَ الكِلابيّةَ ، فإنّه ليس في العرب أشجعُ من آبائها(٦) ـ(٧) .

__________________

(١) رواه الإمام الكليني في الكافي الشريف (٢ / ٥) وعنه في وسائل الشيعة (٣ / ٦).

(٢) في بعض الطُّرُق : «اختارُوا لِنُطَفِكُمْ فَإنَّ الْعِرْقُ دَسّاسٌ» وفي ذلِكَ يَقُولُ الشاعِرُ :

لا تَخْطِبَنَّ سِوى كَرِيْمَةِ مَعْشَرٍ

فَالْعِرْقُ دَسّاسٌ مِنَ الْجِهَتَيْنِ

أَوَ ما تَرى أنَّ النَّتِيجَةَ دائماً

تَبَعُ الأخَسِّ مِنَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ

(٣) أسد الغابة (٣ / ٤٢٣) والوافي بالوفيات (٢٠ / ٦٣).

(٤) سرّ السلسلة (٨٨) ومعالم أنساب العرب (٢٥٤).

(٥) كذا ضبطه العلاّمة الأُردوبادي ، والمطبوع في المصادر : (إلى امراةٍ) وفي الكتب المتأخرة (انظر لي امراةً).

(٦) عمدة الطالب (ص ٣٥٧).

(٧) وبنو كلابٍ كانوا مِنْ أَشْرافِ الْعَرَبِ ، وفيهم ذُؤابَةُ المَجْدِ من بني عامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ، وفيهم

٥٧

وفي نصٍّ آخر : قال عقيل : إنّه ليس في العرب أشجعُ ـ أو أفرسُ ـ من آباء أُمّ البَنِيْنَ الّتي وَلَدَتْها الفُحولةُ من العرب ، وهم بنُو كِلاب.

ولقد صَدَّقَ العَبّاسُ توقُّع أبيه في أُمّه ، حيثُ حقّق أروع أمثلة البسالة والمروءة في كربلاء ، مقرُوناً بسائر ملكاته الفاضلة الّتي بدتْ في تلك المعركة الحاسمة من الإيمان والوفاء وغيرهما من سيرته المعنويّة.

وكَفَى العَبّاس فخراً أنْ تنطبق عليه نُبُوءةُ أبيه ، وتتحقَّقَ فيه أُمنيتُهُ الّتي قصدَها من ذلك الزواج المُقدّس.

متى تزوّجها الإمام أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام؟

لا ريبَ أنّ الإمام عليه السلام كان قد أقدم عليها متخذاً نصب عينيه وصيّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسنّته في قوله : «اختاروا لنُطَفِكُم ، فإنّ الخال أحد الضَجِيْعَيْن»(١) .

وذكر سبطُ ابن الجوزي أولاد أُممّ البَنِيْنَ الأربعة ، وقال : تزوّجها [الإمامُ عليه السلام] بعد فاطمة(٢) . وذكر زوجات الإمام أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام :

__________________

يقولُ جرير في هجاء الراعي النُّمَيريّ :

فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ

فلا كَعْباً بَلَغْتَ ولا كِلابا

ونُمَير هو ابن عامر بن صعصعة ، وكعب وكلاب ابْنا أَخِيْهِ ربيعة بن عامر بن صَعْصَعَة ، لكنّ الشَّرَفَ والسُّؤْدَدَ كانا في أَولادِهِما دُوْنَ أَوْلادِ نمير.

(١) رواه الكليني في الكافي (٥ / ٣٣٢) باب ١٢ ح ٣. والطوسي في تهذيب الأحكام (٧ / ٤٠٢) ب ٣٤.

(٢) تذكرة الخواص (١ / ٦٦٤).

٥٨

فقال في «أسماء بنت عُمَيْسٍ» : تزوّجها بعد أُمّ البَنِيْنَ(١) .

وقال في «أُمامة بنت أبي العاص» : تزوّجها بعد الصَهْباء(٢) .

وقال أبو الفداء : ثمّ بعد موت فاطمة ، تزوّج أُمّ البَنِيْنَ بنت حرام(٣) الكلابيّة ، فولد له منها [ثمّ ذكر أولادها الأربعة] وقال : قُتِلَ هؤلاء مع أخيهم الحسين ، ولم يُعْقِبْ منهم غيرُ العَبّاس(٤) .

أقولُ : لكن المشهور : أنّ أوّل من تزوّج الإمام بعد فاطمة الزهراء عليها السلام هي (أُمامةُ) بنتُ أبي العاص ، وأُمّها زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله. تزوّجها الإمامُ بوصيّة من الزهراء عليها السلام.

قال الشيخ ابنُ شهر آشوب : «وأوصتْ [الزهراء عليها السلام] إلى علي عليه السلام بثلاث :

أن يتزوّج بابنة أُختها «أُمامة» لحُبّها أولادها.

وأن يتّخذَ نعشاً ، ووصفته له.

وأن لا يشهدَ أحدٌ جنازتها ممّن ظَلَمَها.

وأن لا يترك أن يُصلّي عليها أحدٌ منهم»(٥) .

وقال ابنُ طلحة الشافعي : أُمامةُ بنتُ أبي العاص ، وهي بنتُ زينب ابنة

__________________

(١) تذكرة الخواص (١ / ٦٦٤).

(٢) تذكرة الخواص (١ / ٦٦٤).

(٣) في المصدر : حزام ، وهو غلط كما مضى.

(٤) تاريخ أبي الفداء المسمّى بالمختصر في أخبار البشر (١ / ١٨١).

(٥) مناقب آل أبي طالب (٣ / ٤١١).

٥٩

رسول الله صلى الله عليه وآله تزوّجَها بعد موت خالتها فاطمة(١) .

وأمّا من قال : إنّ الإمامَ عليه السلام تزوّج أُمّ البَنِيْنَ بعدَ فاطمة عليها السلام كالطبري الّذي قال عند ذكر فاطمة عليها السلام : ثمّ تزوّج بَعْدُ أُمّ البنين(٢) .

فلا يُنافي ما تقدّم ، لأنّ البعدية تصدُق مع تراخٍ بين وفاة فاطمة وبين هذا الزواج. فيما إذا كان مسكن أُمّ البَنِيْنَ مع أهلها في الكوفة ، فلاحظ ما سنذكره عن محلّ ولادة العَبّاس عليه السلام.

الإمام وبني أمّ البنين :

وفي الحديث عن ابن عبّاس ، قال : ذكر التزويج عند أَمِير المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام فقال : إنّ من لذّة العيش أنْ ترى في كلّ عامٍ عرساً. فقال له بعض أصحابه : وأنتَ لمْ تفعلْ ذلك! فقال : كيف وعندي أربعٌ؟ قال : أترك واحدةً منهنّ!

فقال : عن أيّتهنّ؟

فعندي أمامةُ بنت أبي العاص ، أوصتني فاطمةُ بتزوّجها بعدها.

وعندي أُمّ البَنِيْنَ ، وهي تأتي في كلّ عامٍ بابنٍ.

وعندي أسماءُ بنت عُمَيسٍ ، كأنّها جامٌ من ذَهَبٍ.

وعندي أمّ حبيب التغلبيّة ، وهي النفسُ الّتي بينَ الجَنْبَينِ(٣) .

__________________

(١) مطالب السؤول (١ / ٦٤٧).

(٢) لاحظ تاريخ الطبري (٥ / ١٥٣).

(٣) مكارم أخلاق النبيّ والأئمّة عليهم السلام للراوندي (ص ١٩١) رقم (٢٣٦ / ٧٣).

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603