المصابيح

المصابيح9%

المصابيح مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 659

المصابيح
  • البداية
  • السابق
  • 659 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87057 / تحميل: 4144
الحجم الحجم الحجم
المصابيح

المصابيح

مؤلف:
العربية

المصابيح

الإمام أبوالعباس الحسني

١

بسم الله الرحمن الرحيم

٢

٣
٤

شكر وتقدير

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من لا يشكر الناس لا يشكر الله»(١) وفي لفظ عن أبي سعيد الخدري «من لم يشكر الناس لم يشكر الله»(٢) وفي لفظ : «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»(٣) .

وقال كلثوم بن عمر العتابي في أبيات له :

فلو كان يستغني عن الشكر سيد

لعزة ملك أو علو مكان

لما أمر الله العباد بشكره

فقال اشكروا لي أيها الثقلان

وقال آخر :

فمن شكر المعروف يوما فقد أتى

أخا العرف من حسن المكافاة من عل

وانطلاقا من كل ذلك أتقدم بخالص شكري ، وفائق تقديري ، وجميل عرفاني إلى الوالد العلامة شيخ الإسلام ومجتهد العصر باليمن الميمون : مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي على ما تفضل به من التقديم والتعريف بالكتاب ومؤلفه ، سائلا اللهعزوجل أن يجعل ذلك في ميزان حسناته ، وأن ينفع بعلومه الأنام ، وأن يغفر له ولوالديه وللمؤمنين. آمين.

وهو أيضا للوالد : العلامة عبد الرحمن بن حسين شائم ، والعلامة محمد بن صلاح الهادي ،

__________________

(١) أخرجه الترمذي في جامعه (٤ / ٣٣٩ ح ١٩٥٤) عن أبي هريرة وقال : حديث حسن صحيح.

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٣٣٩ ح ١٩٥٥) عن أبي سعيد الخدري ، وقال : حسن صحيح.

(٣) أخرجه أبو داود في سننه (٤ / ٢٥٥ ح ٤٨١١) عن أبي سعيد الخدري.

٥

وللأساتذة محمد بن محمد فليته ، وعلي بن مجد الدين بن محمد المؤيدي ، وعبد الرحمن بن محمد شمس الدين ، وإبراهيم وإسماعيل ابني مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي ، والذين قاموا بمقابلة الكتاب وتصحيح النص من الأخطاء المطبعية ، كل ذلك قبل الدراسة والتحقيق ، فجزاهم الله عني خير الجزاء ، وجعل ذلك في ميزان حسناتهم.

عبد الله بن عبد الله بن أحمد الحوثي

وفقه الله تعالى آمين

٦

تقديم

بقلم شيخ الإسلام : مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي.

الحمد لله المنزل في أفصح بيان وأوضح برهان :( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ) [يوسف : ٣] ، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وخاتم النبيين رحمته للعالمين ، وحجته على الخلق أجمعين ، أبي القاسم رسول الله وصفوة الله ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ، وعلى آله عترته الذين اختصهم بالصلاة عليهم معه في الصلاة وحرم عليهم كما حرم عليه الزكاة ، وجعل أجر رسالته المودة لذي قرباه ، وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وأبانهم تبيانا واضحا منيرا حين مد عليهم كساءه ، وقرنهم في وجوب التمسك بهم في خبر الثقلين المعلوم بكتاب الله :

والقول والقرآن فاعرف قدرهم

ثقلان للثقلين نص محمد

ولهم فضائل لست أحصي عدها

من رام عد الشهب لم تتعدد

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليهم ، ورضوان الله على صحابته الأبرار من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فهذا كتاب المصابيح للسيد الإمام أبي العباس أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن إبراهيم بن الإمام محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

العالم الحافظ الحجة شيخ الأئمة ، ووارث الحكمة ، رباني آل الرسول ، وإمام المعقول

٧

والمنقول ، مؤلف النصوص ، وشارح المنتخب والأحكام ، وقد بلغ في كتابه المصابيح إلى الإمام يحيى بن زيد بن عليعليهم‌السلام ، وعاقه نزول الحمام عن بلوغ المرام ، وقد كان رسم فيها أسماء الأئمة الذين أراد ذكرهم إلى الناصر الحسن بن علي الأطروش ، فأتمها على وفق ترتيبه تلميذه الشيخ العلامة علي بن بلال.

وهذا السيد الإمام أبو العباس هو الذي أخذت عنه علوم آل محمد ، وأخذ هو والإمام المؤيد بالله والإمام أبو طالب عن الإمام الهادي عماد الإسلام ناشر علوم آبائه الكرام في الجيل والديلم وسائر جهات العجم يحيى بن الإمام المرتضى لدين الله محمد بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم ، وأخذ يحيى بن المرتضى عن عمه الناصر عن والده الهادي إلى الحق ، وهذه إحدى الطرق عن الهادي.

والثانية عن الإمام المرتضى عن أبيه يرويها الإمام أحمد بن سليمان بسنده إلى المرتضى.

والثالثة يرويها أبو العباس الحسني عن السيد الإمام المعمر المعاصر للهادي والناصر الراوي عنهما علي بن العباس بن إبراهيم بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن السبطعليهم‌السلام ، عن الإمام الهادي إلى الحق.

وكثيرا ما يروي المؤيد بالله عن أبي العباس ، وهو شيخ المؤيد بالله وأخيه الناطق بالحق ، وقد يطلق أنه خال الإمامين ، ولعله من الأم أو الرضاعة ، فإن أمهما من ولد الحسين وهو حسني.

توفيعليه‌السلام سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة.

ونظرا لأهمية الكتاب فقد تهيأ طبعه ليعم نفعه إن شاء الله تعالى ، وقد أذنت للولد العلامة الأوحد فخر الدين والإسلام عبد الله بن عبد الله بن أحمد الحوثي ـ حرسه الله تعالى وتولاه ـ بدراسة وتحقيق الكتاب ، كما أجزته أن يرويه عني وجميع ما صح له عني من مروياتنا ومؤلفاتنا حسب ما حررته في الجامعة المهمة ولوامع الأنوار وشرح الزلف من رواية ودراية.

٨

وقد جمعت بحمد الله في كتاب التحف شرح الزلف من الأئمة ، وتحقيق أنسابهم ، واستكمال عدد القائمين من أهل البيت في الحرمين ، والعراق ، واليمن ، والجيل ، والديلم ، وسائر أقطار الأرض ، ولمعا من أخبارهم ، وطرفا من كراماتهم ، ومؤلفاتهم ، وأولادهم ، وأعيان علماء الأمة ، ما لا يوجد في غيرها من الكتب المطولات والمختصرات ، وقد قصدنا التقرب إلى الله بتحصيل الممكن من الفوائد المهمة ، وبيان أحوال هؤلاء الأئمة ، والقيام ببعض واجب حقوقهم ، والانتفاع لمن وقف عليها من صالح المؤمنين كثر الله سوادهم ، وقد وقع التثبت والتحري وإمعان النظر في تدريج الأسماء الشريفة ، وأخذها من كتب أهل البيت الصحيحة.

لا معرفة للعلم وأبوابه إلا بالكشف عن حملته وأربابه

واعلم أيها الأخ وفقنا الله ، وإياك أنه قد تساهل أهل هذا العصر ، واغفلوا البحث والنظر ، ولم يعلموا أنه لا معرفة للعلم وأبوابه إلا بالكشف عن حملته وأربابه ، وأنه لو لا معرفة الآثار التي أنفق فيها العلماء الأعلام نفائس الأعمار لما تميز لنا الموحد من الملحد ، ولا الصادق من الكاذب ، ولما عرف حملة السنة الشريفة رفع الله أحكامها ، وأنار أعلامها ، ولانسدت على المكلف أبواب دينه التي كلفه الله معرفتها ، والعلم دين فانظروا من تأخذون دينكم عنه ، فلأجل هذا وجب البحث ، ولا يكفيك أن تعرف مثلا الباقر والصادق ، وزيد بن علي ، والهادي ، والناصر ، والأئمة الأربعة وأمثالهم الذين عرفانهم كالشمس ، لا شك فيه ولا لبس فيه ، بل لا بد من معرفة سائر الأئمة والمقتصدين ، والمتحملين للعلم ، والبحث عن إجماعاتهم لا تباع سبيلهم ، وسلوك نهجهم ، ومعرفة أرباب العدالة ، وضدها من النقلة ، سواء كنت ترى سلب الأهلية أو مظنة التهمة.

فإن قلت كما قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى : الإرسال أسقطه ، وإنكار قبولهم إياه سفسطة؟

٩

قيل له : ذاك فيما كان مرسلا ، لكن لا بد من معرفة المرسل ، وحفظه وثقته ، وكونه لا يرسل إلا عن عدل ، مع اتفاق المذهب في العدالة ، ولا طريق لمن جهل هذا الفن إلى ذلك ، ولا إلى معرفة نزول الأحكام ، وأسباب النزول ، وما يتعلق بهما من التمييز بين الناسخ والمنسوخ ، والخاص والعام ، وغير ذلك من طرق الأحكام ، فلم يكن أكثر الخلاف في الاجتهاديات إلا لهذا.

وقد تكلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في أحوال الروايات ، والرواة ، بما يرشد الأمة إلى سبيل النجاة.

أما الإرسال فمذهب أهل البيت ومن تابعهم أنه إذا صح لهم الحديث ووثقوا بطرقه أرسلوه في كثير من الروايات في المؤلفات المختصرات.

قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة في سياق المراسيل بعد أن فصل أقسام الخبر : فمذهبنا أن ذلك يجوز ، ولا نعلم خلافا بين العترةعليهم‌السلام ، ومن قال بقولهم ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وأصحابه ، ومالك ، والمتكلمين ، بلا خلاف في ذلك بين من ذكرنا ، إلا ما يحكي عن عيسى بن أبان ، فإنه قال : تقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ، ومن نزل عن درجتهم لم تقبل مراسيله إلا أن يكون إماما إلى أن قال : وخالف في ذلك الذين يتسمون بأصحاب الحديث ، والظاهرية ، وقد نسب ذلك إلى الشافعي ، وتعليله هذه المقالة يقضي بأنه يجوز قبول المراسيل ، لكن لا على الإطلاق.

قالعليه‌السلام : الدليل على صحة ما ذهبنا إليه أن العلة التي أوجبت قبول مسند الراوي هي قائمة في مرسله ، وهي العدالة والضبط ، إلى أن قال : والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أن الصحابة اتفقوا على العمل بالمراسيل اتفاقهم على العمل بالمسانيد.

قلت : وهذه حجة لازمة بينه وقائمة ، قال السيد العلامة البدر محمد ابن إسماعيل الأمير ، المتوفى سنة اثنين وثمانين ومائة وألف ، صاحب : سبل السّلام ، والروضة ، والعدة ، وغيرها ،

١٠

جوابا على السيوطي لما تكلم على رواية فيها الإرسال ما لفظه : قلت لا يضر ذلك فإنه من قسم المرسل الذي أجمع السلف على قبوله ، كما ذكر العلامة محمد بن إبراهيم الوزير ، عن العلامة الكبير محمد بن جرير ، وقال إنه إجماع السلف ، ولم يظهر الخلاف إلا بعد المائتين ، ذكر ذلك في شرح التحفة العلوية.

لا ثمرة لأي قول وعمل لا يقصد بهما مطابقة أوامر الله ونواهيه

واعلم أيها الأخ أمدنا الله وإياك بتأييده ، وبصرنا بألطافه وتسديده ، أن من تفكر في المبدأ والمعاد ، ونظر بعين التحقيق إلى ما تنتهي إليه أحوال العباد ، يعلم علما لا ريب فيه أنه لا طائل ولا ثمرة لأي قول وعمل لا يقصد بهما مطابقة أوامر الله ونواهيه ، وموافقة مراده من عباده ومراضيه ، وما يضطر إليه فله حكم الضرورة ، وذلك لأن المعلوم الذي لا يتردد فيه عاقل ، أنه لا بقاء لهذه الدار ، ولا لجميع ما فيها ولا قرار ، وإنما هي ظل زائل ، وسناد مائل ، وغرور حائل ، ولله القائل :

منافسة الفنى فيما يزول

على نقصان همته دليل

ومختار القليل أقل منه

وكل فوائد الدنيا قليل

فكيف وبعد ذلك دار غير هذا الدار :

تفنى اللذاذة ممن نال بغيته

من الحرام ويبقى الإثم والعار

تبقى مغبة سوء في عواقبها

لا خير في لذة من بعدها النار

ولن يعبر عنها معبر أبلغ مما عبر وحذر ربنا الذي أحاط بكل شيء علما ، نحو قوله تعالى :( إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ) [لقمان : ٣٣] ولو لا ما أراد الله بها من إقامة حجته ، وإبانة حكمته لقضائه العدل وحكمه الفصل أن لا يثيب ولا يعاقب على مجرد العلم منه سبحانه ، وإنما يجازي جل وعلا على الأعمال بعد التمكين ، والاختيار ، والإعذار ، والإنذار ، قال تعالى :( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) [فصلت : ٤٠].

١١

وقال تعالى :( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ، إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) [الدهر : ٢ ، ٣] ،( وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) [الشمس : ٧ ، ٨] ،( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) [البلد : ١٠] ولأجل هذا مثل لهم أمره تعالى بالابتلاء ، والاختبار ، وهو العليم الخبير ، قال تعالى :( تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) [الملك : ١ ، ٢] ، لو لا ما قضته الحكمة الربانية لكان إيجادها وجميع ما فيها والحال هذه عبثا ولعبا ، وعناء على أهلها وتعبا ، ولهذا قال جل سلطانه ، وتعالى عن كل شأن شأنه :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) [المؤمنون : ١١٥] ، فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ ) [الأنبياء : ١٦ ، ١٧] ،( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) [الدخان : ٣٨ ، ٣٩] ولكنه جل شأنه وعلا على كل سلطان سلطانه رتب عليها دارين دائمين ، لا زوال لهما ولا انقطاع ، ولا نفاذ لما فيهما ولا ارتفاع ، إما نعيما وملكا لا يبلى ، وإما عذابا وحميما(١) لا يفنى ، نعوذ برحمته من عذابه ، ونرجوه بمغفرته حسن ثوابه ، فيحق والله المعبود بكل عاقل أن يرتاد لنفسه طريق النجاة ، ويجتنب كل ما يقطعه عما أراده به مولاه ، وإذا نظر علم أن الضلال لم يكن في هذه الأمة ، والأمم الخالية إلا من طريق اتباع الهوى ، وهو الأصل في الإعراض عن الحق ، والركون إلى الدنيا ، ومجانبة الإنصاف ، ومطاوعة الكبراء ، والأسلاف ، قال الله تعالى لرسوله داود صلوات الله عليه :( وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) [ص : ٢٦] ، وقال تعالى :( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [القصص : ٥٠] ،( فَأَمَّا مَنْ طَغى ، وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ، وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ) [النازعات : ٣٧ ـ ٤١].

وقال جل اسمه :( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا

__________________

(١) بالنصب على البدل من دارين ، وقد كان في الأصل بالرفع خبر مبتدأ محذوف.

١٢

يَخْرُصُونَ ، أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ، بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) [الزخرف : ٢٠ ـ ٢٢].

واعلم أن الله جل جلاله لم يرتض لعباده كما علمت إلا دينا قويما ، وصراطا مستقيما ، وسبيلا واحدا وطريقا قاسطا ، وكفى بقولهعزوجل :( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [الأنعام : ١٥٣] ، ونهى أشد النهي عن التفرق بهذه الآية ، وأمثالها من الكتاب العزيز ، وعن القول عليه سبحانه بغير علم ، والجدال بالباطل ، قال ذو الجلال :( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) [الشورى : ١٣].

افتراق الأمة

هذا وقد وقع علم قطعا وقوع الافتراق في الدين ، وأحاديث افتراق الأمة يصدقها الواقع ، وقد قال تعالى :( وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) [هود : ١١٨ ، ١١٩] قال نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليهم في تفسيره : قال الله :( مُخْتَلِفِينَ ) لأن الاختلاف لا يزال أبدا بين المحقين والمبطلين ، وهو حبر من الله تعالى عما يكون ، وأنهم لن يزالوا مختلفين فيما يستأنفون ، فالاختلاف منهم وفيهم ، ولذلك نسبه الله إليهم.

وقوله :( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) : يريد المؤمنين فإنهم في دينهم متآلفون غير مختلفين ، وقوله تبارك وتعالى :( وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) يقول سبحانه : للمكنة مما يجب به الثواب والعقاب من السيئة والحسنة ، ولو لا خلقه لهم كذلك وعلى ما فطرهم من ذلك لما اختلفوا في شيء ، ولما نزل عليهم أمر ولا نهي ، ولما كان فيهم مسيء ، ولا محسن ، ولا كافر ، ولا مؤمن إلخ.

وكلام حفيده الهادي إلى الحق مثل كلامهعليهما‌السلام ، وبمعنى ما ذكراه فسر الآية صاحب الكشاف ، وقد قابلت عباراته في تفسيره للآيات فوجدته كثير الملاءمة لكلام من سبقه من الأئمةعليهم‌السلام ، لا سيما في تخريج الآيات القرآنية على المعاني البيانية ، وأصل ذلك أنه

١٣

معتمد على تفسير الحاكم الجشمي التهذيب ، وطريقة الحاكم رضي الله عنه في الاقتداء بمنارهم ، والاهتداء بأنوارهم معلومة ، وهذا عارض.

قد خاض بعض أئمتنا المتأخرون وغيرهم في تعداد الفرق الثلاث والسبعين ، منهم : الإمام يحيى ، والإمام المهديعليهما‌السلام ، والقرشي صاحب المنهاج ، وما أحسن ما قاله إمام التحقيق الإمام عز الدين بن الحسنعليه‌السلام في المعراج ما نصه : أقول وبالله التوفيق : أما تعيين الثلاث والسبعين فمما لا ينبغي أن يحاوله أحد منا إلا بتوقيف ، فإنه لا يمكن القطع به وبت الاعتقاد. إلى قوله ، وأما معرفة الفرقة الناجية فالطريق إليها حاصلة إلى آخر كلامه.

وقد علمت أن دين الله لا يكون تابعا للأهواء :( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) [المؤمنين : ٧١] ،( فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) [يونس : ٣٢] ،( شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ ) [الشورى : ٢١] ، نعم وقد صار كل فريق يدعي أن الحق معه ، والنجاة لمن اتبعه :

وكل يدعي وصلا لليلى

وليلى لا تقر لهم بوصل

إلا أن نابغة ممن لا مبالاة عندهم بالدين ، ومخالفة العقل ، والكتاب المبين ، ذهبوا إلى تصويب جميع الناظرين ، وأغلب هذه الفئة ليس لها مأرب إلا مساعدة أهل السياسة ، والتأليف للمفترقين ، ولقد جمعوا بين الضلالات ، وقالوا بجميع الجهالات ، أما علموا أن الله سبحانه أحكم الحاكمين ، وأنه يحكم لا معقب لحكمه ، وأنه لا هوادة عنده لأحد من خلقه ، وأنها لا تزيد طاعتهم واجتماعهم في ملكه ، ولا ينقص تفرقهم وعصيانهم من سلطانه :( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) [فاطر : ١٥] ، وقد خاطب سيد رسلهصلى‌الله‌عليه‌وآله سلم بقولهعزوجل :( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) [هود : ١١٢ ، ١١٣] مع أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله سلم ومن معه من أهل بدر ، فتدبر واعتبر إن كنت من ذوي الاعتبار ، فإذا أحطت علما بذلك ، وعقلت عن الله وعن رسوله ما ألزمك في تلك المسالك ، علمت أنه يتحتم عليك عرفان الحق واتباعه ، وموالاة أهله والكون معهم ،( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) [التوبة : ١١٩] ، ومفارقة الباطل وأتباعه ، ومباينتهم( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ

١٤

مِنْهُمْ ) [المائدة : ٥١] ،( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) [المجادلة : ٢٢] ،( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) [الممتحنة : ١] في آيات تتلى ، وأخبار تملى ، ولن تتمكن من معرفة الحق ، وأهله إلا بالاعتماد على حجج الله الواضحة ، وبراهينه البينة اللائحة ، التي هدي الخلق بها إلى الحق ، غير معرج على هوى ولا ملتفت إلى جدال ، ولا مراء ، ولا مبال بمذهب ولا محام عن منصب ،( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) [النساء : ١٣٥] ، وقد سمعت الله ينعي على المتخذين أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، وما حكى من تبري بعضهم من بعض ، ولعن بعضهم بعضا ، وتقطع الأسباب عندهم رؤية العذاب ، ولا يروعنك احتدام الباطل وكثرة أهله ، ولا يوحشنك اهتضام الحق وقلة حزبه ، فإن ربك جلّ شأنه يقول :( وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) [يوسف : ١٠٣] ،( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) [سبأ : ١٣] ،( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) [الأنعام : ١١٦].

واعلم ـ كما أسلفت لك ـ أن الدعاوى مشتركة بين جميع الفرق ، وكلهم يدعي أنه أولى بالحق ، وأن سادته وكبراءه أولو الطاعة ، وأهل السنة ، والجماعة ، ومن المعلوم أنه لا يقبل قول إلا ببرهان كما وضح به البيان من أدلة الألباب ، ومحكم السنة والكتاب.

وقد علم الله تعالى وهو بكل شيء عليم أنا لم نبن ما أمرنا كله إلا على الإنصاف ، والتسليم لحكم الرب الجليل ، بمقتضى الدليل :( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ) [الروم : ٣٠].

وأقول : قسما بالله العلي الكبير ، قسما يعلم صدقه العليم الخبير ألا غرض ولا هوى لنا غير النزول عند حكم الله ، والوقوف على مقتضى أمره ، وأنا لو علمنا الحق في جانب أقصى الخلق من عربي أو عجمي أو قرشي أو حبشي لقبلناه منه ، وتقبلناه عنه ، ولما أنفنا من اتباعه ، ولكنا من أعوانه عليه وأتباعه ، فليقل الناظر ما شاء ولا يراقب إلا ربه ، ولا يخشى إلا ذنبه فالحكم الله والموعد القيامة ، وإلى الله ترجع الأمور.

١٥

الفرقة الناجية

هذا وأنت أيها الناظر لدينه الناصح لنفسه ، الباحث في كتاب ربه وسنة نبيه ، إذا أخلصت النظر في الدليل ، ومحضت الفكر لمعرفة السبيل ، واقتفيت حجج الله وبيناته ، واهتديت بهدى الله ونير آياته ، علمت انها لم تقم الشهادة العادلة من كتاب رب العالمين ، وسنة الرسول الأمين ، بإجماع جميع المختلفين ، لطائفة على التعيين ، ولا لفرقة معلومة من المسلمين إلا لأهل بيت رسول الله ، وعترته وورثته صلوات الله عليه ، فقد علم في حقهم ما وضحت به الحجة على ذوي الأبصار ، واشتهر اشتهار الشمس رابعة النهار ، وامتلأت به دواوين الإسلام ، وشهد به الخاص والعام من الأنام ونطقت به ألسنة المعاندين ، وأخرج الله به الحق من أفواه الجاحدين ، لإقامة حجته ، وإبانة محجته ، على كافة بريته :( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [الأنفال : ٤٢].

ونشير بإعانة الله وتسديده إلى طرف يسير ، مما سطع من ذلك الفلق النوار ، واللج الزخار على سبيل الاختصار ، مع تضمن ذلك المقصد الأهم حل الأسئلة الواردة على الاستدلال بخصوص آية التطهير ، وبعموم إجماع آل محمد عليهم الصلاة والسّلام ، وبعضها نذكره وإن كان قد أجيب عنه ، كالذي قد تكلم فيه الإمام الناصر الأخير عبد الله بن الحسن في الأنموذج الخطير ، إما لبعد الجواب عن الانتوال ، أو لزيادة التقرير في كشف الإشكال ، واعلم أن الوارد فيهم صلوات الله عليهم لا نفي بحصره ، ولا نحيط بذكره ، وقد قال الإمام عز الدين بن الحسن في المعراج ناقلا عن الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزةعليه‌السلام ما لفظه : قالعليه‌السلام : وأعدل الشهادات شهادة الخصم لخصمه ، إذ هي لا حقة بالإقرار الذي لا ينسخه تعقب إنكاره ، وقد أكثرت الشيعة في رواياتها بالأسانيد الصحيحة إلى حد لم يدخل تحت إمكاننا حصره في وقتنا هذا إلا أنه الجم الغفير.

إلى أن قال : وتركنا ما ترويه الشيعة بطرقها الصحيحة التي لا يمكن عالما نقضها إلا بما يقدح في أصول الإسلام الشريف ، وكذلك ما اختص آباؤناعليهم‌السلام . إلى أن قال بعد ذكر لبعض كتب العامة : وفصول ما تناولته هذه الكتب مما يختص بالعترة الطاهرة خمسة وأربعون فصلا ، تشتمل على تسعمائة وعشرين حديثا ، منها من مسند أحمد بن حنبل مائة وأربعة

١٦

وتسعون حديثا ، ومن صحيح البخاري تسعة وسبعون حديثا ، ومن صحيح مسلم خمسة وتسعون حديثا ، ثم ساق ذلك حتى تمعليه‌السلام .

قلت : ولله السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير حيث يقول :

والقوم والقرآن فاعرف قدرهم

ثقلان للثقلين نص محمد

ولهم فضائل لست أحصي عدها

من رام عد الشهب لم تتعدد

هذا فأقول وبالله التوفيق : قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي» ، الخبر المتواتر المروي في كتب الإسلام عن بضع وعشرين صحابيا ، منهم : أمير المؤمنين ، وأبو ذر ، وجابر ، وحذيفة ، وزيد بن أرقم ، وأبو رافع ، وهو بلفظ عترتي ، وبلفظ أهل بيتي ، مجمع على روايته ، وقد أخرجه أحمد ، ومسلم في صحيحه ، وأبو داود ، وعبد بن حميد ، وغيرهم بلفظ «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثا»(١) ، وقد حاول البعض معارضة هذا الخبر بما روي مرسلا في الموطأ(٢) ، وفي المستدرك(٣) ، من طريق

__________________

(١) روي بألفاظ متقاربة ، فممن أخرجه الإمام زيد بن عليعليهما‌السلام في المجموع ص (٤٠٤) ، والإمام علي بن موسى الرضى في الصحيفة (٤٦٤) ، والدولابي في الذرية الطاهرة ص (١٦٦) رقم (٢٢٨) ، والبزار ٣ / ٨٩ رقم (٨٦٤) عن عليعليه‌السلام ، وأخرجه مسلم ١٥ / ١٧٩ ، والترمذي ٥ / ٦٢٢ رقم (٣٧٨٨) ، وابن خزيمة ٤ / ٦٢ رقم (٢٣٥٧) ، والطحاوي في مشكل الآثار ٤ / ٣٦٨ ـ ٣٦٩ ، وابن أبي شيبة في المصنف ٧ / ٤١٨ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ٥ / ٣٦٩ (تهذيبه) ، والطبري في ذخائر العقبى ١٦ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٣٠ ، والطبراني في الكبير ٥ / ١٦٦ ، رقم (٤٨٦٩) ، والنسائي في الخصائص ١٥٠ رقم (٢٧٦) ، الدارمي ٢ / ٤٣١ ، وابن المغازلي الشافعي في المناقب ٢٣٤ ، ٢٣٦ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٦٧ ، وابن الأثير في أسد الغابة ٢ / ١٢ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٤٨ ، وصححه وأقره الذهبي ، عن زيد بن أرقم ، وأخرج عبد بن حميد ١٠٧ ـ ١٠٨ (المنتخب) ، وأحمد ٥ / ١٨٢ ، ١٨٩ ، الطبراني في الكبير ٥ / ١٦٦ ، وأورده السيوطي في الجامع الصغير ١٥٧ ، رقم (٢٦٣١) ، ورمز له بالتحسين ، وهو في كنز العمال ١ / ١٨٦ رقم ٩٤٥ ، وعزاه إلى ابن حميد وابن الأنباري عن زيد بن ثابت. وأخرجه أبو يعلى في المسند ٢ / ١٩٧ ، ٣٧٦ ، وابن أبي شيبة في المصنف ٧ / ١٧٧ ، والطبراني في الصغير ١ / ١٣١ ، ١٣٥ ، ٢٢٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٧ ، ٦ / ٢٦ ، وهو في كنز العمال ١ / ١٨٥ ، رقم ٩٤٣ ، وعزاه إلى البارودي ورقم ٩٤٤ ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن سعد ، وأبو يعلى ، عن أبي سعيد الخدري ، وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٨ / ٤٤٢ ، وهو في الكنز ١ / ١٨٩ ، وعزاه إلى الطبراني في الكبير عن حذيفة بن أسيد ، وأخرجه الترمذي في السنن ٥ / ٦٢١ رقم ٣٧٨٦ ، وذكره في كنز العمال ١ / ١١٧ رقم (٩٥١) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة ، والخطيب في المتفق والمفترق ، عن جابر بن عبد الله. ومصادر أخرى عديدة يجدها الباحث في كتابنا (لوامع الأنوار) المتداول.

(٢) الموطأ ٢ / ٨٩٩.

(٣) المستدرك : ١ / ٩٣.

١٧

واحدة عن أبي هريرة بلفظ «وسنتي» مع أنه في المستدرك نفسه بلفظ : وعترتي من ثلاث طرق ، وعلى فرض ثبوت هذه الرواية الشاذة فلا معارضة ، فالكتاب والسنة مؤداهما واحد ، ولذا اكتفى بذكر الكتاب والعترة في الخبر المتواتر فكيف يعرضون عنه :( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) [النساء : ٥٤].

وإلى آية الولاية وهي قولهعزوجل :( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) [المائدة : ٥٥] أجمع آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نزولها في الوصيعليه‌السلام ، قال الإمام الأعظم الهادي إلى الحق الأقومعليه‌السلام في الأحكام(١) في سياق الآية : فكان ذلك أمير المؤمنين دون جميع المسلمين ، وقال الإمام أبو طالبعليه‌السلام في زيادات شرح الأصول : ومنها النقل المتواتر القاطع للعذر أن الآية نزلت في أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وقال الإمام أحمد بن سليمانعليه‌السلام : ولم يختلف الصحابة والتابعون أنه المراد بهذه الآية. وحكى الإمام المنصور باللهعليه‌السلام إجماع أهل النقل على أن المراد بها الوصي ، وحكى إجماع أهل البيت على ذلك الإمام الحسن بن بدر الدين ، والأمير الحسين ، والأمير صلاح بن الإمام إبراهيم بن تاج الدين ، والإمام القاسم بن محمدعليهم‌السلام وغيرهم كثير.

وروى ذلك الإمام المرشد باللهعليه‌السلام عن ابن عباس من أربع طرق ، وأتى الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بطرق كثيرة في ذلك ، منها : عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وابن عباس ، وعمار بن ياسر ، وأبي ذر ، وجابر بن عبد الله ، والمقداد بن الأسود ، وأنس بن مالك ، ومن التابعين : محمد بن علي ، وأبي جعفر الباقر ، وعطاء بن السائب ، وعبد الملك بن جريج ، ومن الرواة في نزولها فيهعليه‌السلام : أبو علي الصفار ، والكنجي ، وأبو الحسن علي بن محمد المغازلي الشافعي ، وأبو إسحاق أحمد رزين العبدري ، والنسائي ، وحكى السيوطي أن الخطيب

__________________

(١) الأحكام ١ / ٣٧.

١٨

أخرج ذلك في المتفق والمفترق عن ابن عباس ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن مردويه ، وابن جرير ، وأبو الشيخ عنه.

وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عمار ، وأخرجه الشيخ ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن سلمة بن كهيل ، وابن جرير عن مجاهد ، وأخرجه أيضا عن عتيبة بن أبي حكيم والسدي ، وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في المعرفة ، عن أبي رافع ، وتكلم صاحب الكشاف ، وغيره على وجه الجمع مع أن المراد الفرد ، وذكر الرواية في نزولها فيه ، وكذلك الرازي في مفاتيح الغيب ، وأبو السعود في تفسيره ، وعلى الجملة الأمر كما قال الأمير الحسين بن محمدعليهما‌السلام : إجماع أهل النقل على أن المراد بها عليعليه‌السلام إلا من لا يعتد به. انتهى.

قال الإمام المنصور باللهعليه‌السلام في الرسالة النافعة بعد أن ساق الروايات من كتب العامة : وتنكبنا روايات الشيعة على اتساع نطاقها ، وثبوت ساقها ، ليعلم المستبصر أن دليل الحق واضح المنهاج ، مضيء السراج. انتهى.

ولله القائل :

يا من بخاتمه تصدق راكعا

إني رجوتك في القيامة شافعا

هذا والمنزل فيه وفي أهل بيت الرسول صلوات الله عليه وعليهم أكثر من أن يحصر ، فإنهم مهبط الوحي ، ومختلف الملائكة ، ولله القائل :

وبيت تقاصر عنه البيوت

طال سناء على الفرقد

تبيت الملائكة من حوله

ويصبح للوحي دار الندي

فبحق قول ابن عمه حبر الأمة ، وترجمان القرآن : عبد الله بن العباس رضي الله عنهم : أنزلت في علي ثلاثمائة آية.

وقوله أيضا : ما نزل في أحد من كتاب الله ما نزل في علي كرم الله وجهه. وقوله أيضا :

١٩

ما أنزل الله يا أيها الذين آمنوا إلا وعلي أميرها وشريفها ، وكل ذلك ثابت بأسانيده بحمد الله تعالى.

وإلى خبر الغدير الذي خطب به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع بمشهد الجمع الكثير ، والجم الغفير ، وفي ذلك اليوم الذي أنزل الله تعالى فيه على الأصح(١) :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) [المائدة : ٣].

قال إمام اليمن يحيى بن الحسينعليه‌السلام في الأحكام : وفيه أنزل الله على رسوله :( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) [المائدة : ٦٧] ، إلى أن قال : فنزل تحت الدوحة مكانه وجمع الناس ثم قال : «يا أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى يا رسول الله. فقال : اللهم اشهد ، ثم قال : اللهم اشهد ، ثم قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، واخذل من خذله ، وانصر من نصره». انتهى(٢) .

وقد خطب الحجيج صلوات الله عليه وآله بخطبة كبرى روى كل منها ما حفظ.

قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزةعليه‌السلام : هذا الخبر قد بلغ حد التواتر ، وليس لخبر من الأخبار ماله من كثرة الطرق ، وطرقه مائة وخمس طرق.

وقال السيد جمال الدين الهادي بن إبراهيم الوزير : من أنكر خبر الغدير فقد أنكر ما علم من الدين ضرورة ؛ لأن العلم به كالعلم بمكة وشبهها ، فالمنكر سوفسطائي. وقال السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير : إن حديث الغدير يروى بمائة طريق وثلاث وخمسين طريقا. انتهى.

__________________

(١) إشارة إلى ما رواه البخاري وغيره أن الآية نزلت يوم عرفة ، وهو محمول إن صح على تكرار النزول ، كما قالوا بذلك في كثير من الآي ، وقلنا إن صح بنا على ما هو الحق عند أرباب التحقيق والإنصاف من أن في الصحيحين الصحيح وغير الصحيح كغيرهما كما قرر ذلك الدار قطني فيما انتقده ، وابن حجر في هدي الساري ، خلافا لما عليه الكثير من المقلدين والمتعصبين ، ولسنا بصدد مجادلتهم.

(٢) الأحكام : ١ / ٣٧ ـ ٣٨.

٢٠

الأجساد بألفي عام(١) . وفيه نظر، لاحتمال أن يكون المراد بالأرواح الملائكة، وبالأجساد العنصريّات. كذا قيل، فليتأمّل.

لا قدمها الذاتيّ الّذي [هو] عبارة عن عدم سبق الغير على موصوفه أصلا ومطلقا، وهو من خواصّ الحقّ تعالى لا يشركه فيه شيء.

ويدلّ عليه أدلّة التوحيد المسلّمة عند المحقّقين.

والقول به تدفعه البراهين الساطعة التي أقاموها على حدوث الأجسام وأعراضها ونفوسها المتعلّقة بها، وعلى أنّه لا قديم بالذات سوى الحقّ تعالى.

فيتّضح من ذلك فساد كلمة النصارى، حيث قالوا بقدم الأقانيم الثلاثة، والثنويّة القائلين بقدم النور والظلمة، والحرنانيّين بقدم الفاعلين الباري والنفس والمنفعل غير الحيّ وهو الهيولى، والدهر والخلأ وهما غير فاعلين ولا منفعلين.

وما ذكرنا من جواز تعدّد القدماء بالقدم الدهريّ هو مذهب أكثر الحكماء، ولا دليل على امتناعه أصلا، والتفصيل مذكور في محلّه ينافي الوجيزة.

وكذا ما اخترناه من ثبوت المعدومات لا ينافي التوحيد على جميع المسالك، لأنّ القديم عندهم ما لا أوّل لوجوده، ولا مدخل للثبوت في ذلك، وقد عرفت الوجه فيما أسلفناه.

وأمّا لو جعلنا «هل» بمعنى «قد» فكذلك لو صرفنا النفي إلى القيد، ولو

__________________

(١) أنظر بصائر الدرجات: ٨٨.

٢١

صرفنا إلى المقيّد فتدلّ الآية على نفي القدم مطلقا، كما هو مسلك بعض المتكلّمين.

بوارق

الاولى: ذكر بعض الحكماء أنّ الشيئيّة إنّما هي من المعقولات الثانية الّتي ليست لها هويّات خارجيّة متأصلة بذاتها، متصوّرة بنفسها، متعقّلة أوّل الأمر، قائمة بموضوعاتها في الخارج بحيث يكون بإزائها شيء، بل هي أمر انتزاعيّ ينتزعها العقل من المهيّة حين وجودها أو ثبوتها، ومثلها الوجود والوحدة والكثرة والعلّيّة والمعلوليّة ونحو ذلك، وذلك واضح.

وبرهانه: أنّ الشيئيّة المطلقة لو كانت متأصّلة لزم أن يكون بإزائها شيء في الخارج وليس، فليس، ويتفرّع على ذلك امتناع ثبوت شيء بلا خصوص المهيّة. والتفصيل يطلب من الحكمة.

الثانية: قال الطبرسيّ رحمه الله: «لم يكن شيئا» جملة في محلّ الرفع، لأنّها صفة «حين»، والتقدير: لم يكن فيه شيئا مذكورا(١) .

أقول: ويحتمل أن يكون في محلّ النصب، لكونها حالا من «الإنسان» والرابطة هي المستتر، وهو الأولى لعدم الحاجة إلى التقدير.

الثالثة: قال بعض العارفين: إنّ الآية الشريفة تدلّ على بطلان القول بالتناسخ الّذي هو عبارة عن وجود شخص مرّة أخرى بعد وجوده في حين آخر، وهكذا لأنّه لو وجد إنسان قبل وجوده الآن لم يصدق أنّه أتى عليه، أي سبق على وجوده ومضى على ما هو إنسان بالقوّة زمان غير معيّن لم يكن فيه

__________________

(١) مجمع البيان، المجلّد ٥: ٦١١.

٢٢

شيئا مذكورا، ضرورة أنّه لو كان موجوداً مرّة أخرى كان شيئا مذكورا في حين.

وعلى بطلان القول بقدم النفوس الناطقة مطلقا دهريّا وذاتيّا، لأنّ الدهر عبارة عن زمان وجود العالم من أوّله إلى آخره، والحين بعضه، فلو كانت النفس قديمة لما صحّ القول بأنّه لقد مضى عليها حين لم يكن شيئا مذكورا.

هذا حاصل كلامه.

الرابعة: من التفسيرات المليحة، تفسير «الإنسان» في الآية بـــ«القائم المهديّ المنتظر» عجّل الله فرجه، والمذكور بالشهود، أي: قد أتى على ابن الحسن العسكريّ عليه السلام زمان لم يكن فيه مشهودا مرئيّا للناس لعدم استعدادهم لرؤيته والفوز بمشاهدته وهو زماننا هذا، زمن الغيبة الطويلة.

فأخبر الله تعالى عن ذلك الزمان بلفظ الماضي، إشارة إلى أنّه يكون لا محالة كما في قوله:( أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) (١) و( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) (٢) و( فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) (٣) .

وأمثال ذلك مطّردة في فصيح الكلمات.

هذا على تفسير «هل» بـــ«قد» وأمّا على تفسيرها بـــ«ما» فالمراد بالآية الإخبار عن لزوم الحجّة القائمة لكلّ أمّة في جميع الأعصار، فما مضت أمّة إلّا وقد أخبر نبيّها بالقائم الهادي المهديّ الّذي يجعل الأديان كلّها دينا واحدا

__________________

(١) النحل: ١.

(٢) القمر: ١.

(٣) النبأ: ١٩ ـ ٢٠.

٢٣

ويحمل الناس كلّهم على عبادة الله مخلصين له الدين، لا يشركون به شيئا.

فمعنى كونه عليه السلام «مذكورا» هو كونه بحيث يذكره كلّ نبيّ من آدم عليه السلام إلى محمّد صلّى الله عليه وآله الناسخ لجميع الأديان، والباقي دينه إلى آخر الزمان وأممهم بالذكر الحسن، وينتظرون فرجه، ويفرحون بمشاهدته، ويعتقدون بمجيئه وتمكنه من الأرض كلّها، وإن طالت المدّة، وعمّت الشدّة، ولا يشكّون في أمره، ولا يضلّون بغيره إلّا شرذمة مبتدعة.

أما طالعت أيّها الطالب، الفصل الثامن والسبعين من كتاب «مار متّى» من تلاميذ يسوع المسيح عليه السلام؟ فإنّه ذكر فيه: أنّ المسيح عليه السلام قال بعد كلام له لـمـّا سأله تلاميذه عن انقضاء الزمان ومجيء ابن الإنسان: الويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيّام، وسيكون ضيق عظيم لم يكن مثله من أوّل العالم حتّى الآن، ولا يكون ولو لا أنّ تلك الأيّام قصرت لم يخلص ذو جسد، لكن لأجل المنتجبين قصرت تلك الأيّام، حينئذ إن قال لكم: إنّ المسيح هنا أو هاهنا فلا تصدّقوا، فإن قالوا لكم: إنّه في البريّة فلا تخرجوا، وكما أنّ البرق يخرج من المشرق فيظهر في المغرب، كذلك يكون مجيء ابن البشر، وللوقت من بعد ضيق تلك الأيّام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوء، والكواكب تتساقط من السماء، وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء، وتنوح حينئذ كلّ قبائل الأرض، وترون ابن الإنسان آئبا على سحاب السماء إلى آخره.

وقريب من ذلك ما في كتاب «مارلوقا» و «مار مرقص» من تلاميذ عيسى عليه السلام.

٢٤

وعنه أيضا قد أخبر الله في «التوراة» وغيرها من الكتب السماويّة، فكان عليه السلام مذكورا في جميع الأعصار في كلّ أمّة إلى ذلك العصر، فإنّه مذكور في لسان أمّة محمّد صلّى الله عليه وآله برفيع الذكر إلى زمان حضوره عليه السلام فيذكر فيه بذكر مناسب لذلك الزمان على التفصيل المذكور في كتب أخبارنا.

ويدلّ على ذلك التفسير، تفسير «الإنسان» في قوله:( الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) (١) بـــ«القائم عليه السلام» أيضا. أي: الله بصفته الرحمانيّة لقد علّم محمّدا القرآن وأمر أمّته بما فيه ظاهرا، وخلق القائم عليه السلام الّذي من نسله وعلّمه بيان حقائق القرآن، وأجاز له الحكم بباطنه في زمانه، كما قال:( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) (٢) فزمان البيان متأخّر عن زمان القرآن، لمكان «ثمّ» الدالّة على التراخي قطعا.

وقريب من ذلك التفسير، تفسير «الإنسان» بـــ«عليّ عليه السلام» فإنّه كان مذكورا في جميع الأعصار والدهور بنوع من الذكر، وكان مع كلّ نبيّ من آدم إلى محمّد بصور مختلفة، كما قال: نحن نظهر في كلّ زمان على صورة.

ويدلّ على ذلك أيضا ما بيّنه عليه السلام في بعض خطبه المشهورة، كما لا يخفى على من تتبّعها.

__________________

(١) الرحمن: ١ ـ ٤.

(٢) القيامة: ١٧ ـ ١٩.

٢٥

ويدلّ على ذلك التفسير، تفسير «الإنسان» في قوله:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (١) بـــ«عليّ عليه السلام». أي: حمل «عليّ» الولاية الخاصّة واتّصف بها، وكان مظلوما لتصدّي غيره الغير المستحقّ لبعض خواصّها، مجهول القدر والمقام بين أكثر الناس.

فإنّهم لو كانوا عرفوه بالنورانيّة والروحانيّة لما اختاروا غيره عليه، وما جعلوا غيره متبوعا!

فإنّ مقامه عليه السّلام مقام ساذجيّ لا يدركه ملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل، ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان سوى الإجمال منه، كدرك الأدنى مقام الأعلى، وذلك واضح، فمن أدرك مقامه عليه السّلام ورتبته في القرب ولو إجمالا لا يصطفي عليه غيره بحقيقة الإيمان، فإعراضهم عنه عليه السّلام ونصبهم غيره دليل بيّن على أنّهم ما عرفوا نورانيّته فضلّوا ولم يهتدوا سبيلا.

وهذا التفسير أيضا ممّا لم يذكره أحد من المفسّرين، فاغتنم وكن من الشاكرين.

قال الله جلّ برهانه:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) .

أقول: ليس المراد من «الإنسان» في تلك الآية المشيّة التي عبّر عنها بـــ«الإنسان» في الآية المتقدّمة، لأنّها كما عرفت ما خلقت من النطفة، بل

__________________

(١) الأحزاب: ٧٢.

٢٦

خلقها الله من نفسها، وخلق الأشياء كلّها منها وبها، وهي بأجمعها راجعة إليها، ساجدة لها، متحيّرة فيها، مقبلة عليها، فهي الحاكمة على الكلّ في الكلّ، والمشهودة في الكلّ للكلّ، والمحيطة بالكلّ، والسارية في الكلّ.

فالكلّ بوجودها قائمون، وفي اكتناه مقامها متحيّرون، فهي العلّة الثانويّة لوجود كلّ شيء، والمبدأ لخلق كلّ شيء، كما قال:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) (١) .

وقال عليه السّلام: إنّ الله خلق الأشياء بالمشيّة(٢) .

ولعلّ هذا هو السرّ في تكرار لفظ «الإنسان» مع أنّ المقام مقام الإضمار، كما لا يخفى.

نعم يحتمل كونها مرادة منه في تلك الآية أيضا بملاحظة أنّه تعالى أراد أن يخبر عن الخلق الجديد الثانويّ للمشيّة، وهو إبرازها في الهيكل الناسوتيّ العنصريّ الجسمانيّ، أي لقد أتى على المشيّة حين من الدهر كانت روحانيّة ساذجيّة غير مكبولة بالجسد العنصريّ، ثمّ ألبسناها لباس العنصريّات، وخلقناها من النطفة، وهي ماء الرجل والمرأة.

وأكثر المفسّرين لقد فسّروا «الإنسان» بولد آدم عليه السّلام خاصّة نظرا إلى أنّهم خلقوا من النطفة الكذائيّة دون آدم عليه السّلام، فإنّه خلق من صلصال من طين على التفصيل المسطور في كتب الأخبار.

وبعضهم بجميع أفراد البشر، فيشمل آدم عليه السّلام أيضا نظرا إلى أنّ

__________________

(١) النساء: ١، الأعراف: ١٨٩، الزمر: ٦.

(٢) الكافي ١: ١١٠.

٢٧

باب التغليب واسع، ولا يخفى أنّه لا حاجة إلى ذلك الاعتذار لو فسّرت النطفة بالمادّة منيّا كانت أو غيرها، وسيأتي إلى ذلك الإشارة إن شاء الله.

بوارق

الاولى: في نسبته تعالى خلق الإنسان إلى نفسه إشارة إلى ما هو المقرّر في مقامه، من أنّ الممكن الحادث محتاج إلى المؤثّر القديم، فلا يمكن له الوجود بنفسه من غير تأثير المؤثّر الواجب.

وادّعى جماعة من الحكماء على ذلك أنّه ضروريّ أوّليّ، فإنّ العقل بعد تصوّر الممكن من حيث يتساوى طرفاه بالنظر إلى ذاته، وتصوّر المؤثّر المرجّح لأحد الطرفين على الآخر يجزم بأنّ الممكن محتاج في حصول الوجود أو العدم إلى المرجّح ويحكم ببداهة ذلك.

وبعضهم جعلوا بطلان وجود الممكن بنفسه من غير حاجة إلى العلّة القديمة نظريّا، واستدلّوا عليه بوجوه كثيرة لا يخلو بعضها عن وهن.

منها: أنّ مهيّة الممكن تقتضي تساوي الطرفين، ووقوع أحدهما بلا مرجّح مستلزم لرجحانه، وهو مناف للفرض.

ومنها: أنّ الواجب ما كان بذاته منشأ لانتزاع الوجود من غير حاجة إلى العلّة، والممتنع ما كان ذاته منشأ لانتزاع العدم من غير حاجة إلى شيء آخر، والممكن ما ليس ذاته منشأ لانتزاع شيء من الوجود والعدم، بل طريان كلّ منهما له محتاج إلى ضمّ علّة، فلو كان ذاته بذاته منشأ لانتزاع الوجود من غير حاجة إلى ضمّ علّة لزم كونه واجبا، فإنّ المستغني بنفس ذاته عن العلّة مطلقا هو الواجب القديم الّذي يعبّر عنه المشّائيّون بالوجود الحقيقيّ.

٢٨

والإشراقيّون بالنور العينيّ.

والمتألّهون بمنشأ انتزاع الموجوديّة.

والصوفيّة بمرتبة الأحديّة وحضرة الجمعيّة وعين الكافور والوحدة الحقيقيّة وغير ذلك، واللازم باطل، فلا بدّ من كونه مفتقرا إلى علّة، وهو المطلوب.

ومنها: أنّ الممكن ما لم يترجّح لم يوجد، لأنّ ذلك هو قضيّة الإمكان، وذلك الترجّح أمر حادث لم يكن فيكون وجوديّا، فلا بدّ له من محلّ، وليس هو الأثر لتأخّره عن الترجّح، فيكون هو المؤثّر، وهو المطلوب.

ولهم أدلّة أخرى مذكورة في الكتب المبسوطة في الحكمة.

ويدلّ على ذلك أيضا بعض ما دلّ على وجوب وجود صانع حكيم، كدليل الدور ونحوه. ولسنا نحن بصدد التفصيل.

ثمّ هل الممكن كما يحتاج في وجوده إلى العلّة يحتاج في بقائه إليها أم لا، مسألة خلافيّة متفرّعة على أنّ علّة احتياج الممكنات إلى المؤثّر هل هي الإمكان أو الحدوث، فمن قال بالأوّل ـ كما هو المشهور ـ قال بالأوّل، ومن قال بالثاني قال بالثاني، إذ لا حدوث حال البقاء فلا احتياج.

دليل المشهور: أنّ العقل حاكم بأنّ الممكن ما يتساوى وجوده وعدمه، وما كان كذلك فهو محتاج إلى المرجّح المغاير حتى يرجّح أحد الطرفين، فيعلم منه أنّ علّة الحاجة في الواقع هي الإمكان، حيث رتّب العقل الاحتياج على تساوي الوجود والعدم، وأنّه قد يتصوّر الممكن ولا يحصل العلم باحتياجه إلى المؤثّر ما لم يلاحظ إمكانه حتّى لو فرض حادث واجب بالذات يحكم باستغنائه عن المؤثّر.

٢٩

وبعد ثبوت أنّ علّة الحاجة هي الإمكان يتّضح القول بأنّ الممكن الباقي حال بقائه محتاج إلى المؤثّر، فإنّ الإمكان لازم لمهيّة الممكن غير منفكّ عنها حال البقاء أيضا، فإنّ الممكن إنّما يصير ممكنا بوصف الإمكان بالضرورة، فمتى تحقّق العلّة وهي الإمكان يتحقّق المعلول وهو الحاجة بالبديهة، ضرورة وجوب تحقّق المعلول بتحقّق علّته التامّة. وذلك واضح.

واستدلّ الآخرون بأنّ تأثير المؤثّر في الباقي محال، لأنّه إن أفاد الوجود الّذي كان حاصلا يلزم تحصيل الحاصل، وإن أفاد أمرا متجدّدا لم يكن التأثير في الباقي، بل في ذلك الأمر المتجدّد، وبأنّ البناء كما يبقى بعد فناء البنّاء، كذلك يجوز أن يبقى الممكن من غير احتياج إلى المؤثّر.

وأجيب عن الأوّل بأنّ المؤثّر يؤثّر في استمرار الوجود وبقائه، فإنّ الحاصل بالحدوث ليس إلّا الوجود في زمانه، وحصول شيء في زمان لا يوجب حصول استمراره وبقائه، فإبقاء الوجود وإدامته من المؤثّر وهو غير حصول نفس الوجود.

وعن الثاني بأنّ الكلام في العلّة الموجدة وليس البنّاء موجدا للنباء، وإنّما هو علّة لحركات الآلات، وتلك الحركات علل عرضيّة معدّة لأوضاع مخصوصة بين تلك الآلات، وتلك الأوضاع مفاضة من علل فاعليّة غير تلك الحركات المستندة إلى حركة يد البنّاء.

ويتّضح من ذلك كلّه أنّ الغنيّ المطلق عن كلّ شيء هو الذات الأحديّة، فإنّها في مقامها الجليل ورتبتها الجليلة غير مفتقرة إلى شيء في الذاتيّة والوجود والبقاء التي هي شيء واحد بحقيقة الواحديّة في عالم الحقّ، لأنّ

٣٠

ذلك من لوازم العينيّة المسلّمة، وأنّ غيرها من الأشياء الممكنة محدثة بأمرها، موجودة بإفاضة الوجود منها إليها لها، باقية بإدامة رحمتها بها بحيث لو كان فيض الحقّ منقطعا عنها في أوّل الأمر لما كانت شيئا مذكورا.

وكذا لو انقطع الفيض الآن لما يبقى شيء. ونعم ما قيل: إنّ الممكن بالنسبة إلى فيض الحقّ كالمستضيء في مقابلة الشمس إذا حجب عنها زال ضوؤه وصار مظلما.

الثانية: في تعليق «الخلق» على «الإنسان» وإيقاعه عليه إشعار بأنّ المهيّات غير مجعولات بجعل الجاعل، كما هو مذهب بعض الحكماء.

والدليل على ذلك الإشعار أنّ تعليق أمر على الشيء فرع ثبوت ذلك الشيء، فقوله( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) (١) معناه إنّا أوجدنا مهيّة الإنسان الثابتة، وألبسناها لباس الوجود، وأصبغناها بذلك الصبغ، كما يفعل الصبّاغ بالثوب، فالمهيّة شيء ثابت أزلا، والوجود شيء آخر يعرضها عروض الوصف بالموصوف.

كذا قد يخطر بالبال، وللمناقشة فيه مجال، لأنّ تعليق الأمر على شيء يتصوّر على وجهين :

الأوّل: أن يكون ذلك الأمر من الأوصاف الصرفة التي ينفكّ عن الموصوف المتصوّر، كزينة البيت، وصبغ الثوب، ونحو ذلك.

والثاني: أن يكون من الأوصاف اللازمة المقارنة التي هي في نفس الأمر مقدّمات وشرائط للشيء، كبناء البيت، ونسج الثوب.

__________________

(١) الإنسان: ٢.

٣١

ولا يخفى أنّ الأمر المعلّق إذا كان من الأوّل يجب ثبوت المعلّق عليه قبل التعليق، ولا يستلزم المقارنة، فإنّك إذا قلت: صبغت الثوب، يفهم منه ثبوت الثوب أوّلا حتّى يصبغ، وإذا كان من الثاني فلا يستلزم الثبوت السابق، بل التعليق يدلّ على المقارنة، فإنّك إذا قلت: بنيت البيت، يفهم منه أنّ ثبوت البيت قارن بناءه، وذلك واضح.

ولعلّ «الخلق» من ذلك القبيل، أي أوجدنا الإنسان وجعلنا مهيّته مهيّة مقارنة لوجوده، بمعنى أنّا جعلنا المهيّة المعقولة موجودة في الخارج بالجعل البسيط الّذي [هو] عبارة عن موجوديّة المهيّة في الخارج من غير أن تكون شيئا ثابتا في نفسها قبل ذلك، فيصبغها الجاعل بصبغ الوجود، كفعل الصبّاغ.

والحاصل أنّ فعل الحقّ للمهيّة وجعله لها هو بعينه إيجادها في الخارج، واتّصافها بالوجود مقارن لثبوتها، بل لا تمايز بينهما في الخارج حينئذ أصلا.

نعم يحصل التمايز بالتحليل العقليّ، وهما في غير خزينة العقل شيء واحد ثابتان في آن واحد، ألا ترى أنّ المتحرّك إذا تحرّك لا يجعل الحركة ولا شيئا آخر حركة، بل يفعل الحركة، وبمجرّد فعله لها تصير موجودة.

وكذا الخطّاط إذا خطّ لا يجعل الخطّ ولا شيئا آخر خطّا، بل يفعل الخطّ، وبمجرد فعله يصير موجودا في الخارج.

وهكذا، لا الجعل المركّب الّذي [هو] عبارة عن جعل الماهيّة إيّاها أوّلا، ثمّ إطراء الوجود عليها بحيث يكون كلّ منهما متميّزا عن الآخر، فإنّ

٣٢

ذلك باطل للزوم الجبر المنفيّ عقلا وشرعا، ولاستلزام وقوع الشكّ في كونها مهيّة عند الشكّ في وجود المؤثّر الجاعل. وهو باطل، فتأمّل.

وهنا مسلك آخر لبعض الحكماء، وهو أنّ الماهيّات قديمة أزليّة ثابتة بنفسها من نفسها غير مجعولة بجعل الجاعل، ولا تأثير للباري فيها لأزليّتها، وإنّما الباري خلعها خلعة الوجود، وصبغها بصبغ الوجود، كما قال:( صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ) (١) فزمان الإيجاد غير زمان الثبوت متأخّر عنه، كيف وهي الحقائق الأزليّة الّتي أشار إليها عليّ عليه السلام في دعاء «سهم الليل» حيث قال: أللّهمّ إنّي أسألك بالحقائق الأزليّة(٢) إلى آخره، فتأمّل.

فقوله:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) معناه: إنّا أبدعنا وجوده وأثّرنا فيه لا في مهيّته، والقول بأنّ الوجود أمر اعتباريّ لا يصلح، لكونه أثرا للمؤثّر ممّا لا نفهمه.

والحاصل أنّه تعالى لقد أشار في تلك الآية إلى تأثيره الاختراعيّ بالنسبة إلى الوجود خاصّة، وهو التأثير الإبداعيّ على هذا المسلك، لا بالنسبة إلى المهيّة لأزليّتها، وبعض الحكماء يطلقون التأثير الاختراعيّ على إفاضة الأثر على قابل كالصور والأعراض على المادّة القابلة، والإبداعيّ على إيجاد الأليس عن الليس المطلق.

الثالثة: قال بعض العارفين: إنّ التقديم مع التأكيد والتقرير في قوله: ( إِنَّا

__________________

(١) البقرة: ١٣٨.

(٢) انظر: البلد الأمين: ٣٤٩، مصباح الكفعميّ: ٢٦٥.

٣٣

خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) مفيد للحصر، وفيه إشارة إلى دفع ما يتوهّم من إسناد التصوير إلى المصوّرة، فإنّ الفطرة السليمة تشهد بأنّ المصوّرة مركّبة كانت أو بسيطة لا تمكّن لها من هذا التصوير العجيب والتشكيل البديع الغريب، فإنّ البنيّة البهيّة الإنسيّة خلقت بوجه يترتّب عليها بأجزائها منافع شتّى.

وقد أشار الحكماء إلى خمسة آلاف منها، وقالوا: إنّ الحدس الصائب يحكم بأنّ الّذي لم يدرك من منافعها أكثر بكثير ممّا أدرك.

قال جالينوس في آخر كتابه لشرح منافع الأعضاء: إنّي بعد ما عرفت هذه المنافع تنبّهت بأنّ خلق الإنسان وأعضائه ليس باتّفاق، بل روعي فيه تلك المنافع ومصالح أخرى ليس إلّا فعل حكيم خبير قدير. انتهى.

ثمّ إنّ الغزاليّ أسند أفعال المصوّرة، بل أفعال القوى كلّها إلى الملائكة، وإنّي أستفيد من هذه الآية وغيرها ردّ هذا أيضا، فإنّ من تفطّن بها تأكيدا وحصرا وعرف أنّ الإنسان في العلم والعرفان أكثر من الملك بكثير، ونبّه بأنّ الخالق الفاعل لهذا التصوير عليم بالمنافع خبير حكيم، علم أنّه ليس ذلك إلّا فعل فاعل الكلّ ومصوّره، وأنا أرى أنّه كما يستفاد من إتقان العقل وأحكامه علم العقل كما قرّروه واستدلّوا به على علمه تعالى، كذلك يستفيد اللبيب البصير الخبير من حال إتقان المصنوع كيفيّة وكمّيّة علم الصانع، بل كثيرا من صفاته. انتهى ملخّص كلامه.

وحاصله يرجع إلى ما قرّرناه من افتقار الممكن إلى المؤثّر الواجب، ومن أنّ الممكن لا يجوز أن يصير منشأ لوجود نفسه، فلا يمكن أن يصير منشأ لوجود غيره إلّا بالتوسيط، ومن أنّ فاقد الشيء لا يصلح لأن يكون موجدا له، كما قيل:

٣٤

ذات نايافته از هستى بخش

كى تواند كه شود هستى بخش

ولكن ما استفاده من بطلان التفويض والتوسيط فغير مستفاد، لأنّ الشيء كثيرا ما يستند إلى العلّة التامّة، فيقال: أثمر الله، وأنبت الله.

ولا ريب في أنّ الله هو العلّة لجميع العلل، فكيف ينكر عليه في نسبته الخلق إلى ذاته خاصّة مع الحصر، كيف ونسبة الشيء إلى غير العلّة التامّة من العلل المعدّة مجازيّة، يقال: أثمر الشجر، وأنبتت الأرض، وإن صحّت تلك النسبة أيضا.

ألا ترى إلى قوله تعالى:( وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ) (١) وقوله:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (٢) كيف نسب التوفّي تارة إلى نفسه، وتارة إلى الملك.

ولا ريب أنّ الأوّل حقيقيّ، كما قال:( هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) (٣) وإن كان بواسطة الغير.

ألا ترى أنّ الأشياء كلّها خلقت من المشيّة مع أنّه ينسب الخلق إلى الحقّ، كما قال:( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (٤) وربّما ينسب إلى المشيّة، نظرا إلى كونها واسطة، كما قال عليه السلام: أنا خالق السماوات والأرض بإذن ربّي.

وذلك واضح، فليس في الآية دلالة على أنّ الله خلق الإنسان بمباشرة ذاته من غير أن يفوّض إفاضة الوجود إليه إلى غير، وإن كان القول بالتفويض

__________________

(١) النحل: ٧٠.

(٢) السجدة: ١١.

(٣) غافر: ٦٨.

(٤) الزمر: ٦٢.

٣٥

بذلك المعنى باطلا بدليل آخر، وهنا أبحاث كثيرة لا يسعها المقام، ولا يتحمّلها أكثر الأنام.

الرابعة: يحتمل أن يكون المراد من النطفة ما هو المنشأ للوجود وهو المشيّة الأزليّة الّتي هي العلّة لوجود الأشياء الممكنة كما عرفت، وتخصيص الإنسان بالذكر لأنّ له من المقام والشرف ما ليس لغيره من الأشياء الّتي خلقت من المشيّة وبها.

وفي توصيف النطفة بالأمشاج الّتي هي الأطوار المختلفة إشارة إلى تطوّرات المشيّة وتحوّلاتها وترقّياتها وتعرّجاتها في حدّ ذاتها، فإنّها لا تزال يفيض الحقّ إليها في جميع الأحوال والأعصار بحسب ما يعلمه من المصلحة والقوّة.

ألا ترى أنّ للنطفة تحوّلات وتنقّلات بحسب الاستعداد. وإن فسّرنا «الإنسان» بمحمّد صلّى الله عليه وآله حينئذ، ففيه إشارة إلى مبادئ حاله صلّى الله عليه وآله ونهاية مآله.

أي لقد ترقّينا بمقام محمّد، بأن جعلناه إنسانا كاملا في الأنس بالحقّ، والفوز بنور الصدق بحيث لا مقام أعلى من مقامه، ولا معراج أرفع من معراجه، بعد ما كان في أوّل الأمر غير كامل واقعا موقع النطفة المستعدّة لتلك المرتبة، وذلك في زمان تشكّله بشكل آدم عليه السّلام، فإنّه في تلك الصورة له مقام النطفة. وهكذا إلى أن برز في هيكله الشريف الّذي كان عليه في زمانه بعد وساطة سائر المراتب كمرتبة نوح وإبراهيم وعيسى وموسى عليهم السّلام.

٣٦

ولقد أشار إلى تلك المراتب والتحوّلات بقوله:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (١) ويناسب ذلك التفريع في قوله:( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) أي جعلنا محمّدا في ذلك الهيكل الشريف والمقام المنيف، سميعا لكلماتنا المنزّلة، قابلا للحقائق الّتي ما اطلعنا على علمها أحدا من العالمين، بصيرا بآياتنا الجماليّة والجلاليّة، والبوارق الجذبيّة، والبارقات الكشفيّة الّتي لا يستطيع لها مادّة سوى مادّته الشريفة الّتي استعدّت من الأزل.

وهنا مطالب مكنونة لم يعثر عليها سوى العارفين، ولسنا نذكرها لما فيه من مظنّة ضلالة الغافلين.

وقيل: «النطفة» هي ماء الرجل الخارج من الصلب، وماء المرأة الخارج من الترائب، فما كان من عظم وعصب وقوّة فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم فمن المرأة.

وعن بعض الحكماء أنّ المراد بها العناصر المعروفة، أي ركّبنا الإنسان من تلك العناصر على التفصيل المقرّر في مقامه.

و «الأمشاج» إمّا جمع لمشج ومشيج، كالخلط والخليط، والجمع أخلاط، وإمّا مفرد بمعنى المشيج، فيستقيم التوصيف، كما في الثوب الأكياس، أي نطفة مختلطة من الماءين.

وقيل: أي نطفة أطوار متغيّرة من حال إلى حال، طورا علقة، وطورا

__________________

(١) المؤمنون: ١٢ ـ ١٤.

٣٧

مضغة، وطورا عظاما، إلى أن صار إنسانا.

وقيل: مختلفة اللون، فإنّ نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء.

وقيل: أي نطفة مشجت بدم الحيض، فإذا حبلت ارتفع الحيض. والكلّ محتمل.

الخامسة: قال الطبرسيّ رحمه الله: «نبتليه» في موضع نصب على الحال(١) . انتهى.

أقول: هذا على المذهب المشهور متعيّن، وأمّا على مذهب من أجاز تقديم الوصف على الموصوف سيّما في مقام يراعى فيه السجع فالتعيين لا دليل عليه، فيحتمل كونه في موضع النصب على الوصفيّة لقوله:( سَمِيعاً بَصِيراً ) بل هو الأقوم لأنّه لا وجه للابتلاء قبل جعله سميعا بصيرا، إذ المراد به هو الاختبار بالتكليف ليظهر حاله من السعادة والشقاوة إلّا على تفسير «الإنسان» بمحمّد صلّى الله عليه وآله والنطفة الأمشاج بمراتب المشيّة، فإنّه صلّى الله عليه وآله لقد اختبر بالتكاليف في تلك المراتب السابقة بحسبها، وفي المرتبة الأخيرة الّتي هي نهاية المراتب بحسبها.

والإخبار عن جعله سميعا بصيرا بحسب تلك الرتبة لا ينفي كونه سميعا بصيرا في غيرها من المراتب بحسبها، فإنّ للإنسان الواحد تكاليف مختلفة في الأزمنة المختلفة. وذلك واضح.

والتكاليف الّتي اختبر الله بها محمّدا إمّا تعمّ التكاليف الّتي كلّف بها

__________________

(١) مجمع البيان، المجلّد ٥: ٦١١.

٣٨

لأجل نفسه من الطاعات والرياضات وما كلّف به لأجل الخلق كالدعوة إلى الإيمان والأمر بالعمل بما في القرآن، كما قال( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (١) .

ولقد كان محمّد عبده الخاصّ ورسوله الّذي اصطفاه واختبره بجميع أنواع الاختبارات، فوجده قويّا لحمل التكاليف، جليدا في طاعة الخالق، صابرا على كلّ ما يصيبه في سبيل المرضاة، راضيا بجميع ما جرى عليه، كما قال:( إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) فأعطاه من الشرف والمقام ما لم يعط أحدا من العالمين، حيث قال( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً ) (٣) أي للكلمات الإلهيّة، والتغنّيات اللاهوتيّة، والترنّيات الهاهوتيّة، والتفرّدات الملكوتيّة الإنسيّة( بَصِيراً ) أي بمشاهدة الأنوار القدسيّة، والشعاشع الجذبانيّة، واللوامع الربّانيّة.

ثمّ لا يخفى أنّ الابتلاء في ذلك الكلام وغيره ممّا نطق به القرآن ليس على حقيقته، إذ حقيقة الابتلاء هو طلب الاطّلاع على المجهول، ولا يتصوّر جهل على الحقّ الموصوف بجميع صفات الكمال على أكمل الاتّصاف.

كيف ولا يعزب عن علمه شيء، وهو بكلّ شيء عليم.

كيف وهو العالم بما كان قبل أن يكون، والمطّلع على أحوال كلّ شيء قبل خلق كلّ شيء، فلا شيء إلّا وهو العالم به قبل وجوده، والمطّلع على جميع أحواله قبل شهوده، ولا تغيير في علمه أصلا.

__________________

(١) المائدة: ٦٧.

(٢) القلم: ٤.

(٣) الإنسان: ٢.

٣٩

كيف ويعلم بكلّ شيء قبل خلقه كما يعلم به بعد خلقه، وذلك من الواضحات الّتي قد برهنّا عليها في بعض فوائدنا الشريفة.

بل المراد منه إتمام الحجّة على الخلق، وإعلامهم بما هم عليه من السعادة والشقاوة، فإنّ السعيد هو المفطور على السعادة في بطن أمّه، أي في قابليّته الأزليّة، وكذلك الشقيّ مذوّت على الشقاوة من أوّل الأمر، ولكن لـمـّا كان الفريقان لم يعلما بما هم عليه أوجدهم الله وابتلاهم بالتكاليف، وأرسل إليهم النبيّين مبشّرين ومنذرين ليطّلعوا على أحوالهم، ولئلّا يكون لهم على الله حجّة يوم القيامة، الّذي هو يوم بروز حقائق كلّ شيء بما هي عليه، وهو اليوم المشهود فيه خفايا ذوات كلّ شيء، كما قال:( ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) (١) وقال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) (٢) وهنا أبحاث كثيرة لا يفهمها كثير من الأنام.

هذا على المذهب المختار، وأمّا على مذهب من زعم أنّ الله تعالى لا يعلم بالشيء إلّا بعد حصوله في الخارج، ولا يلمع نور علمه على الشيء إلّا بعد البروز، كما لا ينوّر الشمس مكانا إلّا بعد رفع الحاجب المانع عن الاستضاءة والاستنارة، فالابتلاء على حقيقته، فإنّه تعالى على ذلك يريد أن يطّلع على ما لم يحط به علمه.

ولا يخفى سخافة ذلك المذهب، كما فصّلنا وجهها في بعض تحقيقاتنا.

السادسة: قد استفاد بعض العارفين من قوله: ( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) أنّ الإنسان بمزاجه في تركيبه استعدّ لهذه القوى، فإنّ في «الفاء» المفيدة

__________________

(١) هود: ١٠٣.

(٢) الطارق: ٩.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659