ليالي بيشاور

ليالي بيشاور4%

ليالي بيشاور مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 1205

ليالي بيشاور
  • البداية
  • السابق
  • 1205 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 235866 / تحميل: 3900
الحجم الحجم الحجم
ليالي بيشاور

ليالي بيشاور

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

فقام اسيد بن حضير ـ وهو ابن عم سعد بن معاذ ـ وقال : كذبت والله لنقتلنّه وأنفك راغم. فانك منافق تجادل عن المنافقين ، والله لو نعلم ما يهوى رسول الله من ذلك في رهطي الأدنين ما رام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكانه حتى آتيك برأسه ، ولكني لا أدري ما يهوى رسول الله.

ثم تغالظوا ، وقام آل الخزرج من جانب ، وآل الأوس من جانب آخر ، وكادوا أن يشتبكوا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر ، فأشار رسول الله إلى الحيّين جميعا أن اسكتوا ، ونزل عن المنبر فهدّأهم وخفضهم حتى انصرفوا ...

هذا القسم من القصة المذكورة في رواية البخاري غير صحيح ، ولا يتلاءم مع التاريخ الثابت الصحيح لأن « سعد بن معاذ » كان قد مات بعد إصدار حكمه في بني قريظة متأثرا بجرح أصابه في معركة « الاحزاب » ، وقد وقعت حادثة « الإفك » بعد واقعة بني قريظة ، وقد صرّح البخاري نفسه بهذا في صحيحه ( ج ٥ ص ١١٣ ) في باب « معركة الاحزاب وبني قريظة » ، فكيف يمكن والحال هذه أن يحضر مجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجادل سعد بن عبادة في قصة الإفك التي وقعت بعد واقعة بني قريظة بعدة شهور؟!(١)

لقد ذهب المؤرخون الى أن معركة الخندق ثم واقعة بني قريظة وقعتا في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، فتكون النتيجة ان قضية بني قريظة انتهت في التاسع عشر من شهر ذي الحجة ، وقد توفي سعد بن معاذ في أعقاب هذه الحادثة مباشرة لمّا انفجر به جرحه(٢) في حين وقعت غزوة بني المصطلق في شهر شوال

__________________

القبيلتين منافسة قديمة ، وكان « عبد الله بن أبي » خزرجيا ، فاعتبر « سعد بن عبادة » كلام « سعد بن معاذ » تعريضا بالخزرج وحطا من شأنهم.

(١) نفس المصدر السابق ، والجدير بالذكر أن ابن هشام لم يذكر في سيرته « سعد بن معاذ » ، ولكنه روى جدال اسيد مع سعد بن عبادة راجع السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٠٠ ، وهكذا فعل ابن الاثير في الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٣٤ ، ولكن المغازي ذكر القصة كاملة ، واتى باسم سعد بن معاذ راجع : ج ٢ ص ٤٣١.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٥٠.

٣٢١

من السنة السادسة(١) .

أجل إنّ ما هو مهمّ في المقام هو أن نعرف أنّ حزب النفاق حاول أن يزلزل النفوس ، ويبلبلها ببهت امرأة صالحة ذات مكانة في المجتمع الاسلامي يومذاك.

وقد فسر قوله : « الّذي تولى كبره » أي الذي تحمل القسط الاكبر من هذه العملية الخبيثة بعبد الله بن ابي ، فهو الذي قاد هذه العملية الرخيصة والخطرة كما صرحت بذلك عائشة نفسها أيضا.

الرواية الاخرى في سبب النزول :

وتقول هذه الرواية أن الآيات الحاضرة نزلت في « مارية القبطيّة » زوجة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووالدة إبراهيم.

فان هذه الرواية تقول : لما مات إبراهيم بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزن عليه حزنا شديدا ، فقالت عائشة : ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إلاّ ابن جريح ، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا صلوات الله عليه وأمره بقتله ، فذهب علي صلوات الله عليه ومعه السيف ، وكان جريح القبطي في حائط ( أي بستان ) ، فضرب « علي » باب البستان ، فأقبل جريح له ليفتح الباب ، فلما رأى عليّا صلوات الله عليه ، عرف في وجهه الغضب ، فأدبر راجعا ولم يفتح باب البستان ، فوثب عليعليه‌السلام على الحائط ونزل إلى البستان ، وأتبعه ، وولّى جريح مدبرا ، فلما خشي أن يرهقه ( أي يدركه ) صعد في نخلة وصعد « علي » في أثره ، فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة ، فبدت عورته ، فاذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء ، فانصرف عليّعليه‌السلام إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٩٧ ، ولعلّه فطن ابن هشام لهذه الناحية فترك ذكر سعد بن معاذ ، بينما غفل عنها البخاري في صحيحه ، راجع شروح البخاري منها : فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر : ج ٨ ص ٤٧١ و ٤٧٢ للوقوف على اضطراب الشرّاح في معالجة هذا التناقض.

٣٢٢

فقال له : يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحمى في الوبر أم أتثبّت؟

قال : لا بل تثبت.

قال : والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال وما له ما للنساء.

فقال : الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت.

وهذه الرواية التي نقلها « المحدث البحراني » في « تفسير البرهان » ج ٢ ص ١٢٦ ـ ١٢٧ و « الحويزي » في تفسير « نور الثقلين » ج ٣ ص ٥٨١ ـ ٥٨٢ ضعيفة وغير مستقيمة من حيث المفاد ، وهو ضعف ظاهر لا يحتاج الى البيان ولذلك.

ومن هنا لا يمكن القبول بها في شأن نزول هذه الآيات.

فالمهم هو وقوع أصل هذه الحادثة ، كان من كان المتّهم في هذه الحادثة.

٣٢٣

٤٢

رحلة سياسيّة دينيّة

كانت السنة الهجرية السادسة بكل حوادثها المرة والحلوة تقترب من نهايتها عند ما رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام أنه دخل البيت ( الكعبة ) وحلق رأسه ، وأخذ مفتاح البيت ، وعرّف مع المعرفين ، فقصّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الرؤيا على أصحابه وتفاءل به خيرا(١) .

ولم يلبث أن أمر أصحابه بالتهيّؤ للعمرة ، ودعا القبائل المجاورة التي كانت لا تزال على شركها وكفرها الى مرافقة المسلمين في هذه السفرة ، ولهذا شاع في جميع أنحاء الجزيرة العربية أن المسلمين سيتجهون في شهر ذي القعدة صوب مكة يريدون العمرة.

ولقد كانت هذه السفرة الروحانية تنطوي ـ مضافا إلى العطاء الروحاني والمعنوي ـ على مصالح اجتماعية وأهداف سياسية ، فقد عززت مكانة المسلمين في شبه الجزيرة العربية ، وتسببت في انتشار دين التوحيد في أوساط المجتمع العربي آنذاك ، وذلك :

أولا : لأنّ القبائل العربية المشركة كانت تتصوّر أن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخالف كل عقائد العرب ، وتقاليدهم الشعبية ، والدينية حتى فريضة الحج ، والعمرة التي كانت تعد من ذكريات الاسلاف ومواريثهم.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ص ١٢٦.

٣٢٤

من هنا كانوا يخافون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتوجسون خيفة من دينه ، وعقيدته ، ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استطاع في هذه المناسبة ـ باشتراكه ، واشتراك أصحابه في مراسيم العمرة أن يخفف هذا الخوف لدى القبائل المشركة إلى حدّ كبير ، وأن يوضح بعمله أنّ رسول الإسلام لا يعارض زيارة بيت الله الحرام ، والفريضة المذكورة التي تعد من طقوسهم الدينية ، وتقاليدهم المذهبية ، بل يعتبرها فريضة مقدسة ، فهو مثل والد العرب الاكبر « إسماعيل بن إبراهيم الخليل »عليهما‌السلام يعمل على المحافظة على هذه التقاليد الدينية ، وبهذا استطاع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستقطب قلوب من كان يتوهم أن رسالة « محمّد » ودعوته ، ودينه يعارض جميع شئونهم وتقاليدهم وأعرافهم الدينية ، والشعبية ، ويخالفها مخالفة مطلقة ، ويقلّل من خوفهم ، واستيحاشهم.

ثانيا : إذا استطاع المسلمون أن يحرزوا في هذا السبيل نجاحا ، ويؤدوا مناسك العمرة في المسجد الحرام بحرية ، أمام أعين الآلاف من المشركين ، فان عملهم هذا بنفسه سيكون تبليغا ناجحا للإسلام ، لأن أخبار المسلمين ستنتشر بواسطة المشركين الذين قدموا مكة من جميع المناطق لاداء مناسك العمرة ، فسيحملون أنباء ما رأوه وشاهدوه من أفعال المسلمين الرشيدة ، وأخلاقهم الفاضلة ، إلى أوطانهم لدى عودتهم من مكة إلى بلادهم ، وبهذا ينتشر نداء الإسلام في تلكم المناطق التي لم يستطع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يبعث إليها الدعاة والمبلغين حتى ذلك الحين ، ويترك هذا الأمر أثره المطلوب.

ثالثا : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكّر الناس في المدينة بحرمة الأشهر الحرم وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأمر المسلمين بأن لا يحملوا معهم من الاسلحة شيئا إلاّ السيف الذي يحمله كل مسافر معه.

ولقد جلب هذا الامر عواطف كثير من الغرباء عن الإسلام نحو هذا الدين ، وغيّر من نظرتهم السلبية تجاه دعوة الإسلام ، لأنهم شاهدوا بام أعينهم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرّم القتال في هذه الاشهر ، ويدافع بنفسه عن

٣٢٥

هذه السنّة الدينية القديمة ويدعو إلى رعايتها خلافا لكل الدعايات التي كانت تبثها قريش عن أن الاسلام لا يحترم هذه الأشهر ، ويجيز الاقتتال وسفك الدماء فيها.

لقد فكر القائد الاسلاميّ مع نفسه بانه لو أصاب المسلمون في هذا السبيل أيّ نجاح ، فانهم يكونون قد حققوا أملا قديما من آمالهم التي طالما تشوقوا إلى تحقيقها.

كما أنه سوف يستطيع المهاجرون الذي طال بعدهم عن وطنهم ، وأهليهم ، أن يزوروا ذويهم وأقربائهم. هذا إذا سمحت قريش لهم بدخول مكة.

وأمّا إذا منعتهم قريش عن الدّخول في الحرم فان مكانة قريش ستتعرض ـ حينئذ ـ لخطر السقوط في العالم العربي ، وسيلومهم العرب على ذلك ، لأن جميع ممثلي القبائل العربية المحايدة سترى كيف عاملت قريش جماعة مسالمة أرادت دخول مكة لأداء مراسيم العمرة ، وزيارة الكعبة المعظمة ، ولا تحمل معها أيّ سلاح إلاّ ما يحمله المسافر في سفره عادة ، في حين يرتبط المسجد الحرام بالعرب كافة ، وانما تقوم قريش بمجرّد سدانته ، وادارة شئونه.

وهنا تتجلى حقانية المسلمين بشكل واضح ، ويتضح عدوان قريش وينكشف للجميع بطلان مواقفها ، فلا تستطيع قريش بعد ذلك أن تواصل تأليبها للقبائل العربية ضدّ الإسلام ، وعقد تحالفات عسكرية واتحاد نظاميّ مع قواها المحاربة المسلمين لانها قد منعت الزوّار المسلمين أمام أعين الآلاف من الحجيج والزائرين من حقهم المشروع.

لقد لا حظ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ هذه الجوانب وغيرها فامر المسلمين بالتوجّه نحو مكة ، وأحرم الف واربعمائه(١) أو الف وستمائة(٢) أو الف وثمانمائة(٣) في « ذي الحليفة » وقلّد سبعين بدنة ( بعيرا ) وبهذا أعلن عن هدفه من تلك الرحلة.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٠٩.

(٢) مجمع البيان : ج ٢ ص ٢٨٨.

(٣) روضة الكافي : ص ٣٢٢.

٣٢٦

ولقد أرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عينا له ليخبره عن قريش إذا وجدهم في أثناء الطريق.

ولما كان رسول الله بعسفان ( وهي منطقة بين الجحفة ومكة ) أتاه رجل خزاعيّ كان يتقصى الاخبار لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فعاهدوا الله أن لا تدخلها أبدا وهذا « خالد بن الوليد » في خيلهم ( وكانوا مائتين ) قد قدّموها الى كراع الغميم. ( وهي موضع بين مكة والمدينة أمام عسفان بثمانية أميال ).

فلما سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعزم قريش على منعه ومنع اصحابه من العمرة قال :

« يا ويح قريش ، لقد أكلتهم الحرب ما ذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب ، فان هم أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظنّ قريش ، فو الله لا أزال اجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله به ، أو تنفرد هذه السالفة(١) ( أي أقتل أو أموت ).

ثم طلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يدلّه على طريق آخر غير الطريق الذي هم بها لكي يتجنب مواجهة طليعة قريش بقيادة « خالد بن الوليد ».

فتعهّد رجل من بني أسلم بذلك فسلك برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه طريقا وعرا كثيرة الحجارة بين شعاب حتى انتهوا إلى منطقة سهلة تدعى بالحديبية ، فبركت هناك ناقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما هذا لها عادة ، ولكن حبسها حابس الفيل بمكة »(٢) .

ثم أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس أن ينزلوا في ذلك المكان فنزلوا.

__________________

(١) السالفة : صفحة العنق ، وكنى بهذه الجملة عن الموت لأنّها لا تنفرد عمّا يليها الاّ بالموت.

(٢) بحار الانوار : ج ٢٠ ص ٣٢٩ وغيره. وقد أشار بهذا الكلام إلى واقعة الفيل.

٣٢٧

ولما علمت طليعة قريش بمسير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لحقت به ، حتى اقتربت منه وحاصرت موكبه ورجاله فكان على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اذا أراد أن يواصل سيره باتجاه مكة ان يخترق صفوف رجال قريش ، فيسفك دماءهم ، ويعبر على أجسادهم ، وحينئذ كان الجميع يرى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يهدف العمرة والزيارة بل يريد الحرب والقتال ، فكان مثل هذا العمل يسيء إلى سمعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويضر بهدفه السلميّ.

ثم إن قتل هؤلاء النفر من طليعة قريش لا يزيل جميع الموانع من طريقه ، لأن قريشا كانت تبعث بإمدادات مستمرة ، ولم يكن لينته إلى هذا الحدّ.

هذا مضافا إلى أن المسلمين ما كانوا يحملون معهم حينذاك ـ إلاّ ما يحمله المسافر العاديّ من السلاح ، ومع هذه الحال لم يكن القتال أمرا صحيحا ، وحكيما بل كان يجب ان تحلّ المشكلة عن طريق التفاوض.

ولهذا عند ما نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المنطقة قال :

« لا تدعوني قريش اليوم إلى خطّة يسألونني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إياها »(١) .

ولقد بلغ كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا مسامع الناس ، وكان من الطبيعي أن يسمع به العدو أيضا ، ولهذا بعثوا برجال من شخصيّاتهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتعرفوا على هدفه الاصلي من هذا السفر.

مندوبو قريش عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

بعثت قريش بعدة مندوبين إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتعرفوا على مقصده وهدفه في هذا السفر.

وكان أول أولئك المبعوثين هو : « بديل بن ورقاء الخزاعي » الذي أتى

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٧٠ ـ ٢٧٢.

٣٢٨

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجال من خزاعة فكلّموه نيابة عن قريش وسألوه : ما الذي جاء به؟ فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« إنّا لم نجيء لقتال أحد ، ولكنّا جئنا معتمرين ».

فرجعوا إلى قريش وأخبروهم بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يات لقتال وإنما جاء معتمرا زائرا لبيت الله ، ولكن قريشا لم يصدقوهم وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب.

ثم بعثوا « مكرز بن حفص » فسمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما سمعه سابقه ، فعاد وصدّق ما أخبر بديل قريشا به ، ولكن قريشا لم تصدق مكرزا أيضا كما لم تصدّق سابقه.

فبعثت في المرة الثالثة الحليس بن علقمة(١) وكبير رماة العرب ، لحسم الموقف ، فلما رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقبلا قال :

« إن هذا من قوم يتألّهون ( أي يعظمون أمر الله ) فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه ».

فلما رأى الحليس ، الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محلّه ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إعظاما لما رأى ، فقال لهم : يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا الّذي عاقدناكم ، أيصدّ عن بيت الله من جاء معظما له وقد ساق الهدي معكوفا إلى محلّه؟! ، والذي نفس الحليس بيده لتخلّنّ بين محمّد وما جاء له ، أو لأنفّرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد ، وهكذا امتنع الحليس من مواجهة رسول الله بالقوة واستخدام العنف معه لصده ، وقد لاحظ بأم عينيه ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين لا يريدون إلاّ العمرة والزيارة لا القتال

__________________

(١) لقد جاء الحليس إلى النبي بعد عروة الثقفي حسب رواية الطبري في تاريخه : ج ٢ ص ٢٧٦.

٣٢٩

والحرب ، بل عاد يهدد قريشا اذا هي أرادت صدّه عن ذلك.

فشق هذا الكلام وهذا التهديد على قريش وخافوا من مخالفته ، فقالوا : مه ، كفّ عنا يا حليس حتّى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

ثمّ بعثوا أخيرا « عروة بن مسعود الثقفي » وكان رجلا لبيبا تطمئن قريش إلى درايته وحكمته وخيره وكان لا يحبّ أن يمثّل قريشا في هذه المفاوضات لما رآه من معاملتهم مع الممثلين السابقين ، ولكن قريشا تعهدت له بان تقبل بما تقول ، وأعلنت له عن ثقتها الكاملة به ، وبما سيخبر به ، وبأنه غير متّهم عندهم.

فخرج من عندهم حتى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجلس بين يديه ثم قال : يا محمّد جمعت أو شاب الناس ( أي أخلاطهم ) ثم جئت بهم إلى أهلك وقبيلتك ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وأيم الله لكأنّي بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا ، ( أو قال : أن يفرّوا عنك ويدعوك ).

وعند ما بلغ ابن مسعود في كلامه إلى هذا قال له أبو بكر وكان جالسا خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنحن ننكشف عنه ، وندعه؟

لقد كان « عروة » كأيّ دبلوماسيّ ماكر ، يحاول إضعاف معنويات أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلامه ، وروغانه.

وأخيرا انتهت المباحثات دون جدوى. وهنا جعل « عروة » يتناول لحية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ازدراء بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمغيرة بن شعبة ـ وكان واقفا على رأس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقرع يده إذا تناول لحية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول اكفف يدك عن وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن لا تصل إليك.

فسأل عروة : يا محمّد من هذا؟ فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة ( ويبدو أن جميع من كان حول النبي آنذاك أو بعضهم كانوا مقنعين رعاية للظروف الأمنية ).

٣٣٠

فغضب عروة وقال : « أي غدر ، وهل غسلت سوءتك إلاّ بالأمس » وكان المغيرة قد قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف فودى عروة المقتولين وأصلح الأمر.

فقطع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام على عروة وقال له مثل ما قال لبديل ورفيقيه ، وأنه لم يات يريد حربا ، بل جاء يريد العمرة ، ولاجل أن يرى عروة مكانته بين أصحابه وأتباعه ، قامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضأ أمامه ، فرأى عروة بام عينيه كيف أنه لا يتوضّأ إلاّ وتسابق أصحابه على التقاط القطرات المتناثرة من وضوئه ، فرجع إلى قريش وقال لهم : يا معشر قريش إنّي قد جئت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشيّ في ملكه ، وإنّي والله ما رأيت ملكا في قوم قطّ مثل محمّد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء قط فروا رأيكم(١) .

رسول الله يبعث مندوبا الى قريش :

لم تثمر الاتصالات التي جرت بين مبعوثي قريش ، وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان من الطبيعي أن يتصور رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ مبعوثي قريش لم يستطيعوا نقل هدفه إلى قريش ، وإسماعهم الحقيقة ، وأن اتهامهم لهم بالجبن والكذب منعهم من قبول ما قد أخبروا به ، ولهذا قرّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبعث هو مندوبا عنه إلى رءوس الشرك ليوضّح لهم هدف رسول الاسلام من هذا السفر ، وأنه ليس إلاّ زيارة بيت الله وأداء مناسك العمرة لا غير.

فاختار رجلا لبيبا حازما من بني خزاعة يدعى « خراش بن اميّة » فبعثه إلى قريش بمكّة وحمله على بعير يقال له « الثعلب ». ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له من

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٥٩٨ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٨٧.

٣٣١

الزيارة والعمرة ، فدخل مكة ، وبلّغ سادة قريش رسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن قريشا ـ خلافا لكل الأعراف الدولية والاجتماعية قديما وحديثا. والقاضية بحصانة السفراء وضرورة احترام كل مما يمت إليهم بصلة من ممتلكاتهم عمدت الى جمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي امتطاه سفير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكة فعقروه عدوانا ، وكادوا أن يقتلوا سفير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، ولكن وساطة جماعة من قادة العرب ادت إلى أن تخلّي قريش سبيله حتى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إن هذا العمل الدنيء أثبت ـ بوضوح ـ أن قريشا لم تكن تريد السلام بل كانت دائما في صدد اشعال قتيل الحرب.

ولم تلبث قريش أن كلّفت خمسين رجلا من فتيانها بالطواف بعسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغية أخذ شيء من أمواله ، أو أسر بعض أصحابه لو أتيح لهم ذلك ، ارعابا للمسلمين وتخويفا لهم. ولكن هذه الخطة فشلت فشلا ذريعا ، فان هؤلاء لم يصيبوا شيئا بل أسرهم المسلمون جميعا وأتى بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعفا عنهم ، وخلّى سبيلهم مع أنهم كانوا قد رموا في عسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحجارة والنبل.

وبهذا ثبت رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرة اخرى أنه يحب السلام ويسعى إليه ، وانه جاء معتمرا لا معتديا ولا محاربا(١) .

النبي يبعث سفيرا آخر الى قريش :

رغم كل هذه الامور ورغم كلّ التصلّب والتعصّب الذي أبدته القيادة القرشية المشركة ضدّ الاسلام والمسلمين وضد محاولات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السلميّة لم ييأس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تحقيق السلام

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٧٨.

٣٣٢

فقد كان يريد ـ واقعا ـ أن يعالج المشكلة من طريق المفاوضات ، ومن طريق تغيير التصورات التي كان يحملها اشراف قريش وسادتها المتعنتين المتصلبين عن رسول الله ودعوته.

ومن هنا كان يجب هذه المرّة أن يختارصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا لم تخض يده في دماء قريش ، ولهذا لم يصلح « علي بن أبي طالب » ولا « الزبير » ولا غير هم من فرسان الاسلام وشجعانه الذين جالدوا صناديد قريش في ميادين القتال وأردوا فريقا منهم صرعى ، لمثل هذه السفارة ، وهذه المهمة.

ولهذا تقرر ـ بعد التأمل. انتداب « عمر بن الخطاب » لهذه المهمة ، أي الذهاب الى مكة ، والتحدث الى سادة قريش ، ورؤسائها ، لأنه لم يكن قد أراق من المشركين حتى ذلك اليوم ولا قطرة دم ، ولكن « عمر » اعتذر عن تحمل هذه المسئولية ، والقيام بهذه المهمة المحفوفة بالمخاطر قائلا : يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عديّ ( وهم عشيرته ) من يمنعني ، ولكني ادلّك على رجل أعزّ بها مني ، « عثمان بن عفان ». ( لكونه أمويا بينه وبين أبي سفيان زعيم قريش قرابة )(١) .

فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « عثمان بن عفان » فبعثه إلى « أبي سفيان » وأشراف قريش ، ليخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وأنه انما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته.

فخرج عثمان الى مكة ، فلقيه « أبان بن سعيد بن العاص » حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانطلق « عثمان » حتى أتى أبا سفيان وأشراف قريش فبلغهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ،

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣١٥.

٣٣٣

فامتنع عثمان عن الطواف احتراما لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثم إن قريشا احتبست عثمان عندها ، ولعلّهم فعلوا ذلك ريثما يتوصلوا إلى حلّ ثم يطلقوه ليبلّغ الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأيهم.

بيعة الرضوان :

إلاّ أن إبطاء مبعوث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن العودة من مكة أوجد قلقا شديدا في نفوس المسلمين ، خاصّة وأنه شاع أن عثمان قد قتل ، فثارت ثائرة المسلمين ، واستعدّوا للانتقام من قريش وعمد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا إلى مخاطبتهم قائلا :

« لا نبرح حتى نناجز القوم ».

وذلك تقوية لارادة المسلمين ، وتحريكا لمشاعرهم الطاهرة.

وفي هذه اللحظات الخطيرة ، وفي ما كان الخطر على الابواب ، وبينما لم يكن المسلمون متهيئين للقتال قرر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجدّد بيعته مع المسلمين.

فجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت شجرة ، وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات والوفاء واحدا واحدا ، ويحلفون له أن لا يتخلوا عنه أبدا ، وأن يدافعوا عن حياض الإسلام حتى النفس الأخير ، وقد سمّيت هذه البيعة ببيعة « الرضوان » التي جاء ذكرها في قوله تعالى :

«لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً »(١) .

فاتضح موقف المسلمين بعد هذه البيعة ، فإمّا أن تسمح لهم قريش بدخول مكة لزيارة بيت الله المعظّم ، وإمّا أن تتصلّب في موقفها الرافض فيكون بينهم

__________________

(١) الفتح : ١٨.

٣٣٤

القتال والحرب(١) .

وبينما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الحال اذ طلع عليهم « عثمان بن عفان » ، وكان ذلك بنفسه طليعة سلام كان يريده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فأخبر عثمان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الذي يمنع قريشا من السماح لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدخول مكة هو اليمين التي الزموا بها انفسهم أن لا يدعوه يدخل مكة هذا العام وانهم سيبعثون إليه من يتفاوض معه بهذا الشأن.

سهيل بن عمرو يفاوض رسول الله :

بعثت قريش ـ في المرة الخامسة ـ « سهيل بن عمرو » الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كلّفته بانهاء المشكلة ضمن شروط خاصّة سنقرؤها في ما يأتي.

فأقبل « سهيل بن عمرو » على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولما رآه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.

فلما انتهى « سهيل » إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكلّم في المسألة كما يتكلّم أي دبلوماسيّ بارع ، فقال وهو يحاول إثارة عواطف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاسيسه :

يا أبا القاسم إن مكة حرمنا وعزّنا ، وقد تسامعت العرب بك إنك قد غزوتنا ومتى ما تدخل علينا مكة عنوة تطمع فينا فنتخطّف ، وإنا لنذكّرك الحرم ، فان مكة بيضتك التي تفلّقت عن رأسك.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فما تريد »؟

__________________

(١) ولقد كان لهذه البيعة في نفسها أثرا سياسيا مهما في نفس العدو ، يقول الواقدي : فلما رأت عيون قريش سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب اشتدّ رعبهم وخوفهم وأسرعوا إلى القضية ( ج ٢ ص ٦٠٤ ). وراجع امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٩١ أيضا.

٣٣٥

قال : اريد أن أكتب بيني وبينك هدنة على أن اخلّيها لك في قابل(١) فتدخلها ، ولا تدخلها بخوف ولا فزع ، ولا سلاح إلاّ سلاح الراكب ، السيف في القراب.

فقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعقد مثل هذا الصلح.

وهكذا أدّت مفاوضات « سهيل » مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عقد صلح شامل وواسع بين قريش وبين المسلمين.

ولقد تشدد « سهيل » في شروط هذا الصلح كثيرا ، حتى كاد أن ينتهي هذا التشدّد إلى قطع المفاوضات أحيانا ، ولكن حيث إن الطرفين كانا يرغبان في الصلح والموادعة ، لهذا كانا يستأنفان التحاور والتفاوض مرة اخرى ، بعد كلّ أزمة تطرأ على المباحثات.

وأخيرا انتهت مفاوضات الجانبين ـ رغم كل ما أبداه مندوب قريش من التصلّب ـ الى عقد وثيقة موادعة وهدنة نظّمت في نسختين ووقع عليها الجانبان.

ويروي كافّة المؤرخين وأرباب السير أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استدعى عليّاعليه‌السلام ، وامره أن يكتب تلك الوثيقة قائلا له : اكتب « بسم الله الرحمن الرحيم » فكتب « عليّ » ذلك فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن أكتب : باسمك اللهم!!

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب : باسمك اللهم وامح ما كتبت.

ففعل « علي » ذلك.

ثم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أكتب « هذا ما صالح عليه رسول الله سهيل بن عمرو ».

فقال سهيل ، لو أجبتك في الكتاب إلى هذا لأقررت لك بالنبوّة فامح هذا الاسم واكتب : محمّد بن عبد الله ( أو قال : لو شهدت انك رسول الله لم اقاتلك.

__________________

(١) أي افرغ لك مكة في العام القادم لتدخلها.

٣٣٦

ولكن أكتب اسمك واسم ابيك ).

ولم يرض بعض من حضر من المسلمين في هذه النقطة بأن يرضخ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمطالب « سهيل » الى هذه الدرجة ، ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يلاحظ مصالح عليا غفل عنها ذلك البعض كما سنذكرها فيما بعد رضي بمطلب « سهيل » ، وقال لعليّعليه‌السلام : امحها يا عليّ.

فقال عليّعليه‌السلام بأدب بالغ : يا رسول الله إن يديّ لا تنطلق لمحو اسمك من النبوة.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فضع يدي عليها ، فمحى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده كلمة : رسول الله نزولا عند رغبة « سهيل » مفاوض قريش(١) .

ان التسامح الذي أبداه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تنظيم وثيقة الصلح هذه لا يعرف له نظير في تاريخ العالم كله ، لأنه اظهر بجلاء أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقع فريسة بيد الاهواء والاغراض الشخصية والعواطف والاحاسيس العابرة ، وكان يعلم أن الحقائق لا تتبدّل ولا تتغيّر بالكتابة والمحو ، من هنا تسامح مع مفاوض قريش « سهيل » الذي تصلّب في مطاليبه غير المشروعة كثيرا ، حفاظا على أصل الصلح. وحرصا على السلام.

التاريخ يعيد نفسه :

ولقد ابتلي عليعليه‌السلام تلميذ النبي الأول بمثل هذه التجربة المرّة بعد

__________________

(١) الارشاد : ص ٦٠ ، اعلام الورى : ١٠٦ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٦٨ وقد اخطأ الطبري في هذا المقام اذ قال : في احدى رواياته لهذه الحادثة : قال لعلىعليه‌السلام : امح « رسول الله » ، قال : لا والله لا أمحاك أبدا فأخذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس يحسن يكتب فكتب مكان « رسول الله » : محمّد.

وهكذا نسب الكتابة إلى شخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن نعلم انه أمي لا يحسن الكتابة ، وقد حققنا هذه المسألة في المجلد الثالث من موسوعة مفاهيم القرآن ٣١٩ ـ ٣٧٤.

٣٣٧

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فيوم امتنع عليعليه‌السلام عن محو كلمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اسم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يا عليّ إنّك أبيت أن تمحو اسمي من النبوّة فو الّذي بعثني بالحق نبيّا لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد »(١)

ولقد بقيت هذه القضية في ذاكرة عليّعليه‌السلام ، حتى إذا كان يوم « صفين » وخدع أصحاب الامام عليّعليه‌السلام بالاسلوب الماكر الذي اتبعه جيش الشّام الذي قاتل عليّاعليه‌السلام بقيادة معاوية بن أبي سفيان ومساعدة عمرو بن العاص ، وأجبروا الامامعليه‌السلام على عقد الصلح مع معاوية فشكّل الجانبان لجنة لتنظيم وثيقة ذلك الصلح ، كلّف « عبيد الله بن رافع » كاتب الامام من جانب الامام عليّعليه‌السلام بأن يكتب وثيقة الصلح ، فكتب :

« هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي » قال عمرو بن العاص ممثل معاوية في تلك المفاوضات : لو علمنا أنك أمير المؤمنين لم ننازعك!!

وهكذا طالب عمرو بن العاص بحذف عبارة أمير المؤمنين.

وطال الكلام والتشاجر في هذا الموضوع ، ولم يكن الامام علي يريد ان يعطي حجة للبسطاء من أصحابه ، ولهذا لم يرضخ لهذا المطلب ، ولكنه بعد إلحاح من أحد قادة جيشه سمح بأن يمحى لقب « أمير المؤمنين » من اسمه ثم قال : « الله اكبر سنة بسنة ».

وهو بذلك يشير إلى حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له يوم الحديبية(٢) .

__________________

(١) الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٣٨ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٥٣.

(٢) الكامل في التاريخ : ج ٣ ص ١٦٢ ، راجع المصدر لتقف على القصة بكاملها ولتقف على ما دار بين الامام وابن العاص.

٣٣٨

نصّ صلح الحديبية :

وأخيرا عقدت اتّفاقية صلح وهدنة بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقريش تضمنت المواد والشروط التالية :

١ ـ تعهّد المسلمون ، وقريش بترك الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض.

٢ ـ من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشا ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه.

٣ ـ من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده ( أي يتحالف معه ) دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

٤ ـ انّ محمّدا يرجع بأصحابه إلى المدينة عامه هذا ولا يدخل مكة ، وانما يدخل مكة في العام القابل في أصحابه فيقيم فيها ثلاثة أيام ، لا يدخل فيها بسلاح إلاّ سلاح المسافر ، السيوف في القرب(١) .

٥ ـ أن لا يستكره أحد على ترك دينه ويعبد المسلمون الله بمكة علانية وبحرية ، وان يكون الاسلام ظاهرا بمكة وان لا يؤذي أحد ولا يعيّر(٢) .

٦ ـ لا إسلال ( سرقة ) ولا إغلال ( خيانة ) بل يحترم الطرفان أموال الطرف الآخر ، فلا يخونه ولا يسرق منه(٣) .

٧ ـ أن لا تعين قريش على محمّد وأصحابه أحدا بنفس ولا سلاح(٤) .

هذا هو نص وثيقة « صلح الحديبية » ، وقد جمعنا بنوده من المصادر المتنوعة

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٥٢.

(٣) مجمع البيان : ج ٩ ص ١١٧ أو : « من قدم مكة من أصحاب محمّد حاجّا أو معتمرا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله ، ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو الشام فهو آمن على دمه وماله ».

(٤) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٥٢.

٣٣٩

التي أشرنا الى بعضها في الهامش ، وقد كتبت هذه الوثيقة في نسختين ، ثم وقع عليها جماعة من شخصيات قريش ، والمسلمين وشهدوا عليها واعطيت نسخة الى « سهيل بن عمرو » ممثل قريش ، وتركت نسخة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

نشيد الحرية :

لقد كان كل عاقل لبيب يحسن تقدير الامور يسمع نشيد الحريّة من ثنايا هذا الصلح التاريخيّ ، ومع أن كل بنود هذه المعاهدة جديرة بالاهتمام والاكبار ، إلاّ أن النقطة التي تستحق الاهتمام والتقدير أكثر من سواها هي المادّة الثانية في هذا الصلح ، وهي المادّة التي أزعجت بعض الصحابة يوم انعقاد تلك المعاهدة.

فقد انزعج صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا التمييز الصارخ ، وقالوا حول قرار القيادة الحكمية المتمثلة في قائد محنّك كرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان ينبغي أن لا يقولوه ، في حين تعتبر هذه المادة من أعظم بنود الوثيقة إذ تعكس نظرة رسول الاسلام ، وتفكيره حول كيفيّة تبليغ الاسلام ، وإشاعته ونشره ، فانه يظهر منها ـ وبجلاء ـ مدى احترام رسول الاسلام لمبدإ الحرية.

ولقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معرض الاجابة على من اعترض من صحابته على البند القاضي بتسليم كل مسلم فرّ من قريش إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين إلى قريش ، دون العكس قائلا :

« من جاءهم منّا فأبعده الله ومن جاءنا منهم رددناه إليهم فلو علم الله الاسلام من قلبه جعل له مخرجا ».

وأراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الذي يهرب من جماعة المسلمين ويلجأ إلى المشركين فلا قيمة لإيمانه وإسلامه ، إذ أن ذلك يدل على أنه لم يؤمن بهذه الدين حق الإيمان فلا داعي لأن يعاد إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793

794

795

796

797

798

799

800

801

802

803

804

805

806

807

808

809

810

811

812

813

814

815

816

817

818

819

820

821

822

823

824

825

826

827

828

829

830

831

832

833

834

835

836

837

838

839

840

841

842

843

844

845

846

847

848

849

850

851

852

853

854

855

856

857

858

859

860

861

862

863

864

865

866

867

868

869

870

871

872

873

874

875

876

877

878

879

880

881

882

883

884

885

886

887

888

889

890

891

892

893

894

895

896

897

898

899

900

901

902

903

904

905

906

907

908

909

910

911

912

913

914

915

916

917

918

919

920

921

922

923

924

925

926

927

928

929

930

931

932

933

934

935

936

937

938

939

940

941

942

943

944

945

946

947

948

949

950

951

952

953

954

955

956

957

958

959

960

961

962

963

964

965

966

967

968

969

970

971

972

973

974

975

976

977

978

979

980

981

982

983

984

985

986

987

988

989

990

991

992

993

994

995

996

997

998

999

1000

1001

1002

1003

1004

1005

1006

1007

1008

1009

1010

1011

1012

1013

1014

1015

1016

1017

1018

1019

1020

1021

1022

1023

1024

1025

1026

1027

1028

1029

1030

1031

1032

1033

1034

1035

1036

1037

1038

1039

1040

وأصحاب الضمير والوجدان؟!

ثم فكّروا ، وأنصفوا! ألا يكون هذا الطلب والأمر الذي تريدون منّا ، مخالفا لما أراده الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

اتحاد المسلمين

أمّا قولك : أليس من الأفضل أن نتّحد؟

فنقول : إنّنا نتمنّى ذلك ، ولا نزال نسعى لتحقيق هذا الأمر ، ونسأل الله تعالى أن يوحّد المسلمين على الهداية وعدم الضلالة ، وهذا لا يكون الاّ بالتمسك بالثّقلين كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا».

ولقد ذكرت لكم في الليالي الماضية مصادر هذا الحديث الشريف من كتبكم المعتبرة ، وقد صرّح بعض علمائكم أنه من الأحاديث المتواترة.

ويبيّن لنا القرآن الكريم كذلك أساس الاتحاد وعدم التفرق فيقول :( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (١) .

قال ابن حجر في الصواعق المحرقة(٢) في تفسير الآية : أخرج الثعلبي في تفسير هذه الآية عن جعفر الصادقرضي‌الله‌عنه أنه قال «نحن حبل الله الذي قال الله تبارك وتعالى :( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) ». فالاتحاد يصبح ممكنا إذا كان على أساس التمسّك بالقرآن وأهل البيتعليهم‌السلام ، وإلاّ فلا يمكن ذلك ولا يتحقّق أبدا. كما نرى

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٠٣.

(٢) الصواعق المحرقة / الباب الحادي عشر / الفصل الأول / الآية الخامسة.

١٠٤١

بعض علمائكم وأعلامكم يكتبون على الشيعة في كتبهم ويفترون عليهم ويتّهمونهم بالكفر والشرك ، وهو ادّعاء بلا دليل. فامنعوا أوّلا هؤلاء المتعصّبين المعاندين التابعين للخوارج والنواصب من هذه التهجّمات والتعسّفات ، وردّوا أقاويلهم وأباطيلهم ، حتى يتحقّق إن شاء الله التّقارب والاتحاد بين الشيعة وأهل السنّة ، مع غضّ النظر عن الاختلافات الموجودة بينهم في العقائد والقواعد الدينيّة ، كالتقارب والاتحاد بين المذاهب الأربعة ، مع غض النظر عن كل الاختلافات الموجودة بينهم ، مع أننا نجد في كتبهم أنّهم كانوا يكفّرون بعضهم بعضا ، لشدّة اختلافاتهم ، ـ وقد نقلت لكم بعض تكفيرهم بعضهم في الليالي الماضية ـ ومع ذلك نرى أتباع ايّ واحد من المذاهب الأربعة يتمتّع بالحريّة الكاملة في كل البلدان والمدن الإسلاميّة ، فيعمل برأي إمامه ويقوم بعباداته كلّها على أساس مذهبه من غير مانع ورادع ، حتى لو كان أهل تلك المدن من أتباع مذهب آخر.

ولكن نحن الشيعة على حسب مذهب أئمة أهل البيت ـ وهم العترة الهادية ـ يجب أن نسجد على التراب ، فنأخذ معنا قطعة من الطين اليابس فنسجد عليه ، وإذا بكم تهرّجون ضدّنا وتفترون علينا فتقولون لجهالكم بأنّ الشيعة عبّاد الصنم ، وتستدلّون لهم بسجودنا على الطينة اليابسة ، فتلبسون عليهم الأمر وتدلّسون عليهم ، بأنّ الطينة صنم ، والشيعة يعبدونه!!

الشيخ عبد السلام : إذن فلما ذا تختلفون أنتم في صلاتكم وسجودكم مع المسلمين؟! ولو كنتم توافقونهم ما حدث هذا الاشتباه أو سوء التعبير والفهم. وأنا أنصحكم إن كنتم تريدون رفع الاتّهام عن

١٠٤٢

أنفسكم ، فصلّوا كما يصلّي المسلمون عامّة.

قلت : هذا الاختلاف إنما هو مثل اختلافكم أنتم اتباع الشافعي مع سائر المذاهب.

الشيخ عبد السلام : نحن نختلف في الفروع وأنتم تختلفون في الأصول.

قلت : أوّلا : السجود جزء من الصلاة ، والصلاة من فروع الدين.

ثانيا : اختلافكم مع اتباع مالك وأحمد وأبي حنيفة لم يكن في الفروع فحسب بل تعدّى إلى الأصول أيضا بحيث نجد في الكتب كما قلت آنفا يفسّق ويكفّر بعضكم بعضا.

الشيخ عبد السلام : التكفير والتفسيق من عمل المتعصّبين والجاهلين ، وإلاّ فاجماع علماء العامّة وأعلام أهل السنّة على أنّ العمل بفتوى أيّ واحد من الأئمة الأربعة صحيح ، والعامل مأجور ومثاب.

قلت : بالله عليكم فكّروا وانصفوا!! لما ذا العمل برأي الأئمة الأربعة صحيح والعامل به مأجور ومثاب ـ مع العلم أن تعيين هؤلاء الأربعة إنّما كان بأمر أحد الملوك واسمه «بيبرس» كما في خطط المقريزي كما مرّ قوله في الليالي الماضية ـ مع شدّة اختلافهم في الفروع وحتى في أصول الدين؟ ولكن تجعلون العمل برأي أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، والأخذ بنظر العترة الهادية يوجب الكفر! مع العلم بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرجع أمّته إليهم إذا اختلفوا في الرأي. فأمر أن يؤخذ برأيهم

١٠٤٣

لأنّهم على الهدى والصواب ، ومخالفهم يكون في العمى والضلال(١) .

__________________

(١) نقل ابن حجر في الصواعق المحرقة / الباب الحادي عشر / الفصل الأول في الآيات الواردة فيهم / الآية الرابعة / نقل في ذيلها حديث الثقلين بطرق كثيرة ، وقال في نهاية كلامه وفي رواية صحيحة «إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا ان تبعتموهما وهما : كتاب الله وأهل بيتي عترتي». وزاد الطبراني «إني سألت ذلك لهما فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم».

ثم قال : اعلم أنّ لحديث التّمسك بذلك طرقا كثيرة وردت عن نيّف وعشرين صحابيا ومرّ له طرق مبسوطة وفي بعض تلك الطرق أنّه قال ذلك بحجّة الوداع بعرفة ، وفي أخرى أنّه قال بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه ، وفي أخرى أنّه قال ذلك بغدير خم ، وفي أخرى أنه قال لمّا قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف كما مرّ ، ولا تنافي إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماما بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة.

وفي رواية عند الطبراني عن ابن عمر [آخر ما تكلّم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اخلفوني في أهل بيتي ..». وبعد نقل روايات وكلمات قال تنبيه : سمّى رسول الله (ص) القرآن وعترته ـ وهي بالمثناة الفوقية : الأهل والنسل والرهط الأدنون ـ ثقلين لأنّ الثقل كل نفيس خطير مصون ، وهذان كذلك إذ كل منهما معدن للعلوم اللدنيّة والأسرار والحكم العليّة ، والأحكام الشرعيّة ، ولذا حث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الاقتداء والتمسّك بهم والتعلّم منهم ، وقال (ص) «الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت». وقيل سمّيا ثقلين : لثقل وجوب رعاية حقوقهما.]

ثم الذين وقع الحث عليهم منهم إنّما هم العارفون بكتاب الله وسنّة رسوله ، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب ، ويؤيّده الخبر السابق : «ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم» وتميّزوا بذلك عن بقيّة العلماء لأنّ الله أذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا ، وشرّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة ، وقد مرّ بعضها وسيأتي

١٠٤٤

فسوء التعبير وسوء الفهم منكم بالنسبة لنا ، لم يكن لأجل اختلافنا معكم في الأعمال ، وإنّما منشؤه حبنا وولاؤنا لأهل البيت والعترة الطاهرةعليهم‌السلام وبغضنا لأعدائهم وظالميهم. وإلاّ فإنّ الاختلاف في الأعمال والأحكام موجود بين نفس المذاهب الأربعة في الأصول والفروع من الطهارة إلى الديات ، والجدير أنّ بعض فتاوي أئمتكم مخالفة لصريح القرآن واجتهادا خلاف النصّ ، ومع ذلك تغضّون النظر وتوجّهون الفتوى بشيء من التوجيه وتعذرون المفتي بأنّه عمل

__________________

قال : وفي أحاديث الحث على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة ، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض ـ كما يأتي ـ ويشهد لذلك الخبر السابق : «في كل خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي». قال ابن حجر [ثمّ أحقّ من يتمسّك به منهم إمامهم وعالمهم عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، لما قدّمناه من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته. ومن ثمّ قال أبو بكر : عليّ عترة رسول الله (ص) ، أي الذين حث على التمسّك بهم فخصّه لما قلنا. قال : وكذلك خصّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما مرّ يوم غدير خم ، والمراد بالعيبة والكرش في الخبر السابق آنفا ، أنّهم موضع سرّه ، وأمانته ، ومعادن نفائس معارفه وحضرته ، إذ كل من العيبة والكرش مستودع لما يخفى فيه مما به القوام والصلاح ، لأنّ الأول : لما يحرز فيه نفائس الأمتعة والثاني : مستقرّ الغذاء الذي به النموّ وقوام البنية. وقيل : هما مثلان لاختصاصهم بأموره الظاهرة والباطنة ، إذ مظروف الكرش باطن ، والعيبة ظاهر ، وعلى كلّ فهذا غاية في التعطّف عليهم والوصيّة بهم.]

أقول : إنّما نقلت هذا الكلام ليهتدي من يهتدي عن بيّنة ، ويضلّ من ضلّ عن بيّنة ، و ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ ) .

«المترجم»

١٠٤٥

بالقياس والاستحسان.

ولكن الشيعة لا عذر لهم في سجودهم على التراب وهو مع كونه على أساس النّصوص وعمل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ، يوجب عندكم كفر الشيعة وشركهم والعياذ بالله سبحانه وتعالى.

الشيخ عبد السلام : أرجو أن تذكر بعض تلك الفتاوى التي أصدرها أئمة أهل السنّة على خلاف القرآن الكريم!!

قلت : فتاواهم المخالفة للنصوص كثيرة ولو أردتم الاطّلاع على جملتها أو جلّها فراجعوا كتاب «الخلاف في الفقه» تأليف العلاّمة الكبير والبحر الغزير والفقيه البصير شيخ الطائفة الإماميّة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (رحمه‌الله تعالى)(١) .

ولكي يعرف الحاضرون الكرام بأنّي ما كذبت على أئمتهم وما افتريت على فقهائهم ، أذكر بعض النماذج من تلك الفتاوى المخالفة لصريح القرآن الكريم.

فتوى أبي حنيفة : بجواز الوضوء بالنبيذ

كل مسلم له أدنى اطّلاع واقلّ معرفة بأحكام الدين والمسائل الشرعيّة ، أو يتلو كتاب الله العزيز بتفكّر وتدبّر ، يعلم بأنّه إذا حضر وقت الصلاة وأراد أن يؤديها يجب عليه الوضوء أولا لقوله تعالى :

__________________

(١) وكتاب النصّ والاجتهاد للإمام شرف الدين عليه رحمة ربّ العالمين يذكر فيه فتاوى القوم والنصوص المعارضة لها من الكتاب والسنّة فراجع.

«المترجم»

١٠٤٦

( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (١) ويجب أن يتمّ الغسل بالماء القراح ، واذا لم يوجد الماء القراح المطلق ، فيجب التيمم حينئذ ، لقوله سبحانه :( ... فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) (٢) .

وعلى هذا يكون إجماع الشيعة وأتباع مالك والشافعي وأحمد ابن حنبل ، وخالف أبو حنيفة الإجماع برأيه وأفتى بأنّه لو فقد الماء وهو في السفر وأراد إقامة الصلاة فيتوضّأ بنبيذ التمر ، ولو كان مجنبا يغتسل به. وكلّنا نعلم بأنّ النبيذ يكون ماء مضافا ، وهو ليس بالماء المطلق الذي ذكره الله سبحانه في القرآن الحكيم ، ولذا نجد في صحيح البخاري بابا عنوانه : (لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكّر).

الحافظ محمد رشيد : إنّي على مذهب الإمام الشافعي ، وأوافقكم على انّ الوضوء لا يجوز إلا بالماء المطلق ، وكذلك الغسل ، وعند فقدانه يجب التيمم فلا يجوز عندنا الوضوء والغسل بالنبيذ. ولكن اظنّ أنّ هذه الفتوى منسوبة للإمام أبي حنيفة ولم تكن فتواه وإن اشتهر عنه ونسبت إليه ، ولكن ربّ مشهور لا أصل له.

قلت : دفاعك مبني على الظنّ ، وقال الله سبحانه :( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (٣) . ولقد نقل جمع كثير هذه الفتوى عن أبي حنيفة الفخر الرازي في تفسيره المسمّى بمفاتيح الغيب : ج ٣ / ٥٥٢ في تفسير آية التيمّم أو آية الوضوء ، قال في المسألة الخامسة : قال الشافعيرحمه‌الله : لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر ، وقال أبو حنيفةرحمه‌الله :

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٦.

(٢) سورة النساء ، الآية ٤٣.

(٣) سورة يونس ، الآية ٣٦.

١٠٤٧

يجوز ذلك في السفر.

وكذلك نقلها ابن رشيد في كتابه بداية المجتهد.

الشيخ عبد السلام : لم تكن فتوى الإمام الأعظم مخالفة للنصّ ، بل هي موافقة لعمل رسول الله (ص) كما في بعض النصوص المرويّة.

قلت : تفضّل بذكر تلك النصوص.

الشيخ عبد السلام : منها الخبر المروي عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود قال : إنّ رسول الله (ص) قال لي في ليلة الجنّ : «عندك طهور؟ قلت : لا ، إلاّ شيء من نبيذ في إداوة. قال (ص) : تمرة طيّبة وماء طهور ، فتوضّأ».

وجاء عن طريق آخر ، روى عباس بن وليد بن صبيح الحلاّل عن مروان بن محمد الدمشقي عن عبد الله بن لهيعة عن قيس بن الحجّاج عن حنش الصنعاني عن عبد الله بن عباس عن ابن مسعود أنّه قال : إنّ رسول الله (ص) قال له ليلة الجنّ «معك ماء؟ قال : لا ، إلاّ نبيذا في سطيحة ، قال رسول الله (ص) : تمرة طيّبة وماء طهور. صبّ عليّ ، قال : فصببت عليه فتوضّأ به».

ومن الواضح أنّ عمل النبي (ص) حجّة لنا ، فأيّ نصّ أظهر من العمل؟

قلت : لو كنت تعرف قول علمائكم الأعلام في رواة هذا الخبر ما احتججت به. ومن الواضح أنّ العلماء قبل أن يبنوا على الخبر ويعملوا به فإنهم يحققون حول رواته. فإذا حصل الوثوق بهم والاعتماد عليهم قبلوا روايتهم وعملوا بها ، وإلاّ أعرضوا عنها ولم يعملوا بها.

لذلك قبل أن نبحث في أصل الموضوع ، نبحث عن إسناد الخبر

١٠٤٨

ورواته ، فنقول : أولا : أبو زيد مولى عمرو بن حريث ، مجهول عند علماء الرواية والدراية ، ولم يعبئوا بروايته وردّ عليه الترمذي وغيره ، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال : إنّه مجهول ، وإنّ الحديث والخبر الذي نقله عن ابن مسعود غير صحيح. وقال الحاكم لن نجد غير هذا الخبر من هذا الرجل وهو مجهول ، وعدّه البخاري من الضعاف لذا نرى القسطلاني والشيخ زكريا الأنصاري وهما اللذان شرحا صحيح البخاري ، قالا في شرحهما في باب : لا يجوز الوضوء بالنبيذ ، والخبر المروي عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث ، ضعيف.

وأمّا الخبر الثاني : فهو أيضا مردود لجهات عديدة : أوّلا : هذا الحديث والخبر غير مشهور ولم ينقله بهذا الطريق أحد من علمائكم وأعلامكم غير العلاّمة ابن ماجة القزويني. وثانيا : عدم نقل علمائكم الخبر بهذا الطريق معلوم بأنّهم ما اعتمدوا على بعض رواته وسلسلة سنده كما قال الذهبي في ميزان الاعتدال وذكر أقوال العلماء في الأمر فقال : عباس بن وليد لم يوثّق ولم يسلم من جرح أرباب الجرح والتعديل فتركوه. وكذلك مروان بن محمد الدمشقي فإنّه من المرجئة الضّلال ، وحكم الذهبي وابن حزم بضعفه ، وهكذا عبد الله بن لهيعة فإنّ علماءكم عدوّه من الضعفاء ، فإذا كان في رواة هذا الحديث عدد من الضعفاء أو كان أحدهم ضعيفا فإن الرواية تسقط عن الاعتبار.

ثالثا : بناء على الأخبار التي رواها علماؤكم بطرقهم عن عبد الله ابن مسعود فإنّه في ليلة الجن لم يكن أحد مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما نقل أبو داود في السنن في باب الوضوء ، والترمذي في صحيحه عن علقمة قال : سألوا ابن مسعود : من كان منكم مع رسول الله (ص) ليلة الجن؟

١٠٤٩

فقال : ما كان معه أحد منّا.

رابعا : ليلة الجنّ كانت في مكة قبل الهجرة ، ونزول آية التيمّم كان في المدينة المنوّرة بإجماع المفسرين. فعلى فرض صحّة الخبر فإنّ آية التيمّم نزلت ناسخة له.

ولهذه العلل فأنا أتعجّب من الشيخ عبد السلام ، سلّمه الله! كيف يتمسّك بخبر مجهول ضعيف مردود من جهات عديدة عند العلماء الاعلام ، فيتمسك به لينصر رأي أبي حنيفة الذي يعارض نصّ كلام الله العزيز ، كما ذكرنا؟

النوّاب : هل المقصود من النبيذ ، هذا الشراب المسكر الذي يحرّمه أكثر العلماء؟

قلت : النبيذ قسمان : قسم غير مسكر وهو طاهر وحلال ، وذلك عبارة عن الماء المضاف إليه التمر ، وقبل أن يحدث فيه انقلاب وفوران يصفّى ويشرب ، وهو شراب حلو طيّب الطعم والرائحة. وقسم آخر يبقى التمر في الماء حتى يحدث فيه الانقلاب والفوران ، فيتغيّر طعمه ورائحته ، ويكون مسكرا حراما. والنبيذ الذي محلّ بحثنا هو النبيذ غير المسكر ، وإلاّ فبإجماع المسلمين لا يجوز الوضوء بالنبيذ المسكر ، كما مرّ بأنّ البخاري فتح بابا في صحيحه بعنوان [باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر].

غسل الرجلين في الوضوء مخالف للنصّ القرآني

ومن فتاوى أئمتكم المناقضة لكلام الله والمخالفة للنصّ الصريح فتواهم في الوضوء بوجوب غسل الرجلين ، مع العلم بأنّ الله عزّ وجلّ

١٠٥٠

يقول :( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) .

وكلنا نعرف الفرق بين الغسل والمسح.

الشيخ عبد السلام : توجد أخبار مرويّة في كتبنا توجب غسل الرجلين.

قلت : الأخبار والروايات تكون معتبرة إذا لم تكن مناقضة للقرآن الحكيم ، ونحن نرى كلام الله العزيز يصرّح بمسح الرجلين ، فأيّ اعتبار لتلك الأخبار والروايات المغايرة للقرآن؟!

فآية الوضوء صريحة بالغسل ثم المسح بقوله تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (١) .

فقد عطفت أرجلكم على ما قبلها أي :( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) .

الشيخ عبد السلام : إذا كان العطف على ما قبلها فيلزم أن تكون ارجلكم ـ مجرورة ـ مثل برؤسكم ، وحيث نراها منصوبة فيكون العطف على جملة : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم.

قلت : أوّلا : الأقرب يمنع الأبعد ، فإن جملة :( وَامْسَحُوا ) أقرب إلى كلمة :( أَرْجُلَكُمْ ) فلا مجال لعمل جملة :( فَاغْسِلُوا ) . ثمّ المقدّر في العطف كلمة :( وَامْسَحُوا ) ، فيكون( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) و( امْسَحُوا أَرْجُلَكُمْ ) . فتكون أرجلكم منصوبة لمحلّ امسحوا وكذلك لقاعدة النصب بنزع الخافض وهي القاعدة المقبولة عند النحاة والمعمول بها كما في القرآن الحكيم قوله تعالى :

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٦.

١٠٥١

( وَأعدَّ لهم جنّات تجري تحتَها الانهار ) (١) .

أي: تجري من تحتّها الأنهار، فنصبت كلمة تحتها لحذف حرف الجرّ وكذلك قوله سبحانه:( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ) (٢) تقديره : واختار موسى من قومه ولكن كلمة قومه نصبت لحذف «من» وذلك للقاعدة التي ذكرناها.

وكذلك في آية الوضوء نصبت كلمة :( أَرْجُلَكُمْ ) لحذف الباء عنها فتكون منصوبة بنزع الخافض.

وإذا أردتم تفصيلا أكثر فراجعوا تفسير الفخر الرازي فله بحث مفصّل في تفسير الآية الكريمة ويخرج من البحث بنتيجة وجوب المسح لا الغسل.

فتواهم بجواز المسح على الخفّ

وأعجب من فتواهم بوجوب غسل الرجلين في الوضوء ، فتواهم بجواز وكفاية المسح على الخفّين في الوضوء ، وهذا خلافه لنصّ القرآن أظهر من الأول. ومن بواعث العجب والاستغراب في نفس كلّ عاقل فتواهم بعدم كفاية المسح على الرجلين بل وجوب غسلهما في الوضوء ، ولكن كفاية مسح الخفّين في الوضوء دون غسل الرجلين ، فكيف المسح على الخفّين يحلّ محلّ غسل الرجلين؟ فاعتبروا يا أولي الألباب!!

الشيخ عبد السلام : لقد أفتى الأئمة الكرام (رضي الله عنهم)

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية ١٥٥.

١٠٥٢

بجواز مسح الخفين في الوضوء وكفايته عن غسل الرجلين عند ضرورة سفر أو وجود خطر ، بدليل الروايات الموجودة في كتبنا التي تحكي عمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك.

قلت : لقد ذكرنا لكم مرارا حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإعراض عن الروايات والأحاديث التي تروى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتكون معارضة لكلام الله ومغايرة للقرآن الحكيم ، فأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإسقاطها وعدم اعتبارها. وعلى هذا نجد روايات كثيرة جدّا ردّها وأسقطها علماؤكم وأعرضوا عنها وأعلنوا بأنها من الموضوعات.

وأمّا الأخبار والروايات التي وردت في كتبكم عن جواز المسح على الخفين في الوضوء ، فهي متعارضة ومختلفة ، وعليها نشأ الاختلاف في آراء الأئمة الأربعة ، فبعضهم أجاز ذلك في السفر دون الحضر ، وبعضهم أجاز ذلك في السفر والحضر وغير ذلك.

قال ابن رشيد الأندلسي في كتابه بداية المجتهد ج ١ ص ١٥ و ١٦ / قال في الموضوع : سبب اختلافهم تعارض الأخبار في ذلك. وقال في موضع آخر : والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك.

فكيف يجوز لكم عقلا وشرعا العمل بالأخبار المتعارضة والمتضاربة ، والمخالفة لنصّ القرآن؟! وكلنا نعلم أن الأصل والقاعدة المعمول بها عند تعارض الأخبار أن يؤخذ بالخبر الموافق للقرآن ويترك غيره.

فتواهم بجواز مسح العمامة

والنص الصريح في القرآن الحكيم على مسح الرأس بقوله تعالى :( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) . وعلى أساسه أفتى ائمة أهل البيت والعترة

١٠٥٣

الهاديةعليهم‌السلام بوجوب مسح بعض الرأس لوجود الباء وهي باء التبعيض.

وأفتى الشافعي ، ومالك ، وأبو حنيفة بوجوب مسح الرأس أيضا ، ولكن خالفهم أحمد بن حنبل وإسحاق والثوري والأوزاعي فأفتوا بجواز وكفاية مسح العمامة التي على الرأس في الوضوء ، فلا حاجة لكشف الرأس. هذا ما نقله عنهم الفخر الرازي في تفسيره الكبير في تفسير الآية الكريمة. وأنتم تعلمون ـ كما أن كلّ عاقل يعلم ـ بأنّ العمامة غير الرأس حتى إذا كانت على الرأس ، فإنّ الرأس عرفا ولغة يطلق على جزء من بدن الإنسان ، وهو أعلى الأجزاء وقمّة البدن ، ويتشكل من عظم الجمجمة واللحم والجلد والشعر الذي يكون على ذلك العظم ، وأمّا العمامة شيء آخر وهي قطعة من قماش تلف على الرأس.

لما ذا تفرّقون بين المسلمين؟

نحن وانتم كلنا مسلمون ، واختلاف الشيعة وأهل السنّة كاختلاف أتباع المذاهب الأربعة فيما بينهم علما أنّ اختلافهم لم يكن في الفروع فقط ، بل اختلفوا في الأصول أيضا ، ومع ذلك يغضّون النظر عن اختلافاتهم ، ويتحمّل أتباع كلّ مذهب أتباع المذاهب الأخرى من غير صدام وصراع ، ومن غير نزاع وعراك ، فيعمل كل منهم ويلتزم برأي رئيس مذهبه ، دون أن يعارضه أحد من أتباع المذاهب الثلاثة الأخرى.

ولكن أكثر هؤلاء إذا رأوا الشيعة يعملون بما يخالفهم ، هاجموهم ورموهم بالكفر والشرك ، مع علمهم بأنّ الشيعة يلتزمون

١٠٥٤

بقول أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ويتمسكون بالعترة الهادية ويأخذون عنهم.

وحتى في هذا المجلس الذي انعقد للتفاهم والنقاش السليم ، كم ذكرتم أعمال الشيعة واستدللتم بها على كفرهم وشركهم لجهلكم بواقع الأمر ، ولما كشفنا لكم الحقيقة وسمعتم إلى دلائلنا ، اعتذرتم ورجعتم عن قولكم. وقد تكرر منكم الهجوم ومنّا الدفاع ، ومع تكرار اعتذاركم إلينا لم يتوقف تهجمكم علينا ، وآخر ذلك صدر بصيغة العتاب والنّصح وهو قول الشيخ عبد السلام ـ سلّمه الله ـ في أوائل البحث إذ قال : وأنا أنصحكم ، إن كنتم تريدون رفع الاتهام عن أنفسكم ، فصلّوا كما يصلّي المسلمون عامّة.

ومع احترامي لجناب الشيخ وتقديري لنصحه ، أقول : نحن وأنتم متفقون على وجوب الصلاة في اليوم خمس مرّات ، ومتفقون على عدد ركعاتها وهي : في الصبح ركعتان والظهر أربع ومثلها العصر وفي المغرب ثلاث ركعات وفي العشاء أربع ، لكن في فروع الصلاة ومسائلها توجد اختلافات كثيرة بين كل المذاهب والفرق الإسلامية لا بين الشيعة والسنّة فحسب ، فكما يختلف واصل بن عطاء مع أبي الحسن الأشعري في الأصول والفروع ، ويختلف الأئمة الأربعة في أكثر المسائل الفقهية ، ويختلف سائر علمائكم وأصحاب الرأي والاجتهاد من أعلامكم مثل داود وكثير وسفيان الثوري وحسن البصري والأوزاعي وقاسم بن سلام وغيرهم ، فآراؤهم تختلف في المسائل والأحكام ورأي أئمة أهل البيتعليهم‌السلام وفتاواهم في المسائل والأحكام أيضا تختلف مع المذاهب الأربعة وغيرهم.

فإذا كان اختلاف الرأي يوجب التّهجّم والاتّهام ، فلما ذا لا يكون التّهجّم والاتهام على غير الشيعة ، يعني : اتباع المذاهب الأربعة؟ مع

١٠٥٥

العلم أنّ أئمتهم يفتون في بعض المسائل على خلاف ما أنزل الله تعالى ، كما ذكرنا نماذج منها!!

ولكنّا إذا خالفنا العامّة في صلاتنا ، بأن سجدنا على طينة يابسة فبدل أن يسألونا عن الدليل والسبب ، يتّهمونا بعبادة الأصنام ويسمّون تلك الطينة التي نسجد عليها بالصنم ، فلما ذا هذا الجهل والجفاء؟! ولما ذا هذا التفريق بين المسلمين؟!

الشيخ عبد السلام : كما قلتم بأنّ مجلسنا هذا إنما انعقد للتعارف والتفاهم ، وأنا أشهد الله سبحانه بأنّي لم اقصد الإساءة إليكم والتجاسر عليكم ، فإذا صدر مني ما يسوء فسببه عدم اطلاعنا على مذهبكم وعدم مطالعتنا لكتبكم ، فما كنّا نعرفكم حق المعرفة ، لأنّا ما عاشرناكم ولا جالسناكم وإنما سمعنا وصفكم من لسان غيركم وتلقّيناها بالقبول من دون تحقيق ، فالتبست علينا كثير من الحقائق ، ومع تكرار الاعتذار ، أرجوكم أن تبيّنوا لنا سبب سجودكم على الطينة اليابسة؟

لماذا نسجد على التربة؟

قلت : أشكر شعوركم الطيّب وبيانكم الحلو العذب. وأشكركم على هذا الاستفهام ، لأنّ السؤال والاستفهام أجمل طريقة وأعقل وسيلة لإزاحة أيّ شبهة وإبهام.

وأمّا جواب السؤال : راجعوا كتب التفاسير واللغة فإنّهم قالوا في معنى السجود : وضع الجبهة على الأرض للعبادة ، وهو منتهى الخضوع ، ولقد

١٠٥٦

أفتى أئمتكم بأنّ كل ما يفرش به الأرض يجوز السجود عليه سواء كان من صوف أو قطن أو إبريسم أو شيء آخر ، فأجازوا السجود على كل شيء حتى أفتى بعضهم بجواز السجود على العذرة اليابسة!

لكن فقهاءنا تبعا لأئمة أهل البيت من العترة الهاديةعليهم‌السلام قالوا بعدم جواز السجود إلاّ على الأرض أو ما انبتته مما لا يؤكل ولا يلبس ، فالبساط والفرش لا يصدق عليه اسم الأرض ، بل يكون حاجزا بينها وبين الجبهة. لذلك فنحن نأخذ طينة يابسة ـ تسهيلا للأمر ـ ونسجد عليها في الصلاة.

لماذا السجود على التربة الحسينية؟

الشيخ عبد السلام : نحن نعلم بأنّكم تخصّصون تراب كربلاء للسجود فتصنعون منه أشكالا مثل الأصنام فتقدّسونها وتحملونها في مخابئكم وتقبّلونها وتوجبون السجود عليها. وهذا العمل يخالف سيرة المسلمين ، ولذلك يهاجمونكم ويشنّون عليكم تلك التهم والكلمات غير اللائقة بكم.

قلت : هذه المعلومات التي أبديتها هي من تلك المسموعات التي سمعتها من مخالفينا وأعدائنا ، وتلقّيتها بالقبول بدون تحقيق وتفحّص ، وإنّ من دواعي الأسف وجود هذه الحالة ، إذ تذعنون بشيء من غير تحقيق فترسلونها إرسال المسلّمات ، وتنتقدون الشيعة في أشياء وهميّة ليس لها وجود ، وقد قيل : «ثبّت العرش ثم انقش» ، وإنّ كلامكم بأنّنا نصنع من تراب كربلاء أشكالا مثل الأصنام فنقدّسها كلام فارغ وتقوّل باطل وليس إلاّ اتهاما وافتراء علينا ، وغرض المفترين إلقاء العداوة

١٠٥٧

والبغضاء بيننا وبينكم. وتمزيق المسلمين وتفريقهم ، كل ذلك لأجل الوصول إلى مصالحهم الشخصيّة ومنافعهم الماديّة الفرديّة كما قيل : «فرّق تسد».

ولو كنتم ـ قبل الحين وقبل أن تصدّقوا كلام المغرضين ـ تفتشون عن الواقع وتحققون عن الموضوع ، بأن تسألوا من الشيعة الذين تعرفونهم وتجاورونهم : ما هذه الطينة التي تسجدون عليها؟ لسمعتم الجواب : أنّنا نسجد لله سبحانه على التراب ، خضوعا وتعظيما له عزّ وجلّ ، لقالوا : لا يجوز عندنا السجود بقصد العبادة لسوى الله سبحانه وتعالى.

السجود على تراب كربلاء غير واجب عندنا

واعلم أيها الشيخ بأن علماءنا وفقهاءنا لم يوجبوا السجود على تراب كربلاء كما زعمت! ويكفيك مراجعة كتبهم الفقهيّة ورسائلهم العمليّة التي تتضمّن الفروع والمسائل الأوليّة في العبادات والمعاملات وغيرها ، فإنّهم أجمعوا على جواز السجود على الأرض سواء التراب أو الحجر والمدر والرمال وغيرها من ملحقات الأرض وعلى كل ما يطلق عليه الأرض عدا المعادن ، وكذلك أجازوا السجود على كلما تنبتها من غير المأكول والملبوس. هذا بحكم السنّة الشريفة ، والأوّل بحكم الكتاب العزيز. ولذا قالوا بأنّ السجود على الأرض أفضل ، وبعض فقهائنا أجاز السجود على النبات من غير المأكول والملبوس عند فقدان مشتقّات الأرض. لذلك وعملا بالأفضل نحمل معنا طينة يابسة

١٠٥٨

لكي نضعها على الفرش والبساط ونسجد عليها في الصلوات ، لأنّ أكثر الأماكن مفروشة بما لا يجوز السجود عليه كالبسط المحاكة من الصوف أو القطن وما شابه ذلك ، وتسهيلا للأمر فإننا نحمل معنا الطينة اليابسة ، لنسجد عليها في الصلاة ، وأمّا إذا صادف أن وقفنا على التراب للصلاة ، فلا نضع الطينة اليابسة بل نسجد على نفس التراب مباشرة ، إذ يتحقّق السجود الذي أراده الله تعالى من عباده المؤمنين.

الشيخ عبد السلام : لكنّا نرى أكثركم تحملون تربة كربلاء وتقدسونها ، وكثيرا ما نرى الشيعة يقبّلونها ويتبرّكون بها ، فما معنى هذا؟ وهي ليست إلاّ تربة كسائر التراب.

فضيلة السجود على تربة كربلاء

قلت : نعم نحن نسجد على تراب كربلاء ، ولكن هذا لا يعني الوجوب فلا يوجد فقيه واحد من فقهاء الشيعة في طول التاريخ أفتى بوجوب السجود على تراب كربلاء. وإنّما أجمعوا على جواز السجود على تراب أي بلد كان ، إلاّ أنّ تراب كربلاء أفضل وذلك للروايات الواردة عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام بأنّ السجود على تراب كربلاء يخرق الحجب السبع ، يعني «يصل إلى عرش الرحمن والصلاة تقع مقبولة عند الله سبحانه وتعالى».

وهذا تقدير معنوي لجهاد الإمام الحسينعليه‌السلام ، إذ إنّه أقدم على الشهادة في سبيل الله لأجل إحياء الصلاة وسائر العبادات. فتقديس التربة التي أريق عليها دماء الصفوة من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقديس

١٠٥٩

التربة التي تحتضن الأجساد المخضّبة بدماء الشهادة والجهاد المقدس ، والتربة التي تضم أنصار دين الله وأنصار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الأطهار ، تقديسها تقديس للدين وللنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكل المكارم والقيم ولكل المثل العليا التي جاء بها سيد المرسلين وخاتم النبيّين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ولكن مع كل الأسف نرى بعض من ينتسبون إلى أهل السنّة ـ وهم أشبه بالخوارج والنواصب ـ يفترون على الشيعة بأنّهم يعبدون الإمام الحسين ، ويستدلّون لإثبات فريتهم وباطلهم ، بسجود الشيعة على تراب قبر الحسينعليه‌السلام !! مع العلم بأنّه لا يجوز عندنا عبادة الإمام الحسينعليه‌السلام ولا عبادة جدّه المصطفى وأبيه المرتضى اللذين هما أعظم رتبة وأكبر جهادا من الحسينعليه‌السلام .

وأقول بكل وضوح : بأنّ عبادة غير الله سبحانه وتعالى كائنا من كان ، كفر وشرك. ونحن الشيعة لا نعبد إلاّ الله وحده لا شريك له ولا نسجد لغيره أبدا. وكل من ينسب إلينا غير هذا فهو مفتر كذّاب.

الشيخ عبد السلام : الدلائل التي نقلتموها في سبب تقديسكم لتراب كربلاء إنّما هي دلائل عقليّة مستندة إلى واقعة تاريخية أو بالأحرى هي دلائل عاطفيّة ، ونحن بصدد الاستماع إلى أدلّة نقليّة ، فهل توجد روايات معتبرة تحكي تقديس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتنائه بتراب كربلاء؟

اهتمام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتربة كربلاء

قلت : أمّا في كتب علمائنا المحدّثين ونقلة الأخبار والروايات فقد ورد الكثير عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تقديس تربة كربلاء واهتمامهم واعتنائهم بها وهم قد رغّبوا شيعتهم بالسجود

١٠٦٠

1061

1062

1063

1064

1065

1066

1067

1068

1069

1070

1071

1072

1073

1074

1075

1076

1077

1078

1079

1080

1081

1082

1083

1084

1085

1086

1087

1088

1089

1090

1091

1092

1093

1094

1095

1096

1097

1098

1099

1100

1101

1102

1103

1104

1105

1106

1107

1108

1109

1110

1111

1112

1113

1114

1115

1116

1117

1118

1119

1120

1121

1122

1123

1124

1125

1126

1127

1128

1129

1130

1131

1132

1133

1134

1135

1136

1137

1138

1139

1140

1141

1142

1143

1144

1145

1146

1147

1148

1149

1150

1151

1152

1153

1154

1155

1156

1157

1158

1159

1160

1161

1162

1163

1164

1165

1166

1167

1168

1169

1170

1171

1172

1173

1174

1175

1176

1177

1178

1179

1180

1181

1182

1183

1184

1185

1186

1187

1188

1189

1190

1191

1192

1193

1194

1195

1196

1197

1198

1199

1200

1201

1202

1203

1204

1205