ليالي بيشاور

ليالي بيشاور3%

ليالي بيشاور مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 1205

ليالي بيشاور
  • البداية
  • السابق
  • 1205 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 242386 / تحميل: 4170
الحجم الحجم الحجم
ليالي بيشاور

ليالي بيشاور

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ولا يسمح لي الوقت لأن أذكر أكثر ممّا ذكرت ، وفيه كفاية لمن أراد الهداية والابتعاد عن الغواية.

فالإمام الحسين بن عليّعليهم‌السلام حقّه كثير وفضله كبير على الإسلام والإنسانية ، فقد جاهد وكافح مثل هذا الظالم الفاجر ، وفضحه في العالم ، وأنقذ الدين من براثن كفر يزيد وحزبه الظالمين الفاسقين المنافقين.

وإنّي أتأسّف لما يصدر منكم ، فبدلا من أن تقدّروا هذا الجهاد العظيم للحسين السبط ، وتقدّروا تضحياته القيّمة وتفانيه في سبيل الله سبحانه ، فتأبّنوه في كلّ عام وتحيوا يوم عاشوراء بتشكيل المجالس والمحافل ، وتقرءوا على المسلمين تاريخه المبارك ، وتلقوا على الناس خطبه وكلماته التي يبيّن فيها أسباب نهضته المقدّسة وأهدافه السامية ، ويفضح فيها يزيد وبني اميّة وحزبهم.

وبدل أن تذهبوا إلى زيارة مرقده الشريف وتقفوا أمامه وقفة إجلال وإكرام واحترام ، فتستلهموا منه الإيمان واليقين ، وتتعلّموا منه التضحية والتفاني في سبيل الدين.

بدل كلّ ذلك ، تعارضون الملايين من شيعته ومحبّيه الّذين يؤدّون له الاحترام ويقدّرون نهضته المباركة وجهاده العظيم ، وينظرون إليه نظرة إكبار وإجلال ، ويبكون ويحزنون لما أصابه من أعدائه الظالمين ، ويزورون مرقده المقدّس بلهفة وخشوع.

وإنّكم ترمونهم بالكفر والشرك ، وتعبّرون عن زيارة تلك المراقد المشرّفة بعبادة الأموات!!

٢٢١

رمز قبر الجنديّ المجهول

جرت العادة في أكثر بلاد العالم وخاصة البلاد المتقدّمة الاروبية والدول الحضارية ، أنّهم يشيّدون مبنى على شكل قبر رمزي باسم : الجندي المجهول ، ويصرفون أموالا باهظة في إنشائه ، ويعيّنون مديرا مسئولا وبإمرته موظفين لإدارته والمحافظة عليه.

فيأخذون ضيوف الدولة وهم شخصيّات البلدان الاخرى كرؤساء الجمهوريات ورؤساء الدول والوزراء والممثّلين عنهم ، إلى ذلك القبر الوهمي ، فيقفون وقفة خشوع واحترام ، ويؤدّون المراسم التي تنبئ عن إجلال وتعظيم ذلك المكان الذي ليس هو إلاّ قبر رمزي قام بنيانه وشيّدت أركانه لإحياء اسم الجندي الذي دافع عن وطنه وضحى نفسه في سبيل حرّيّة شعبه وبلاده.

ولم يكن في العالم ، ولا يوجد هناك عاقل يعارض هذا العمل وينهى عنه. بل كاد أن يكون من المراسم الواجبة عند الحكومات والدول المتقدّمة.

ولن نجدكم تعارضون الشيعة وتنكرون عملهم حينما يقفون أمام قبور شهداء الإسلام وخاصّة شهداء العترة الهادية وهم جنود الله سبحانه ، المعلومون المعرفون في السماوات والأرضين.

وتنقدون الشيعة لوقوفهم أمام تلك القبور التي لم تكن وهمية وخالية أو خيالية ، بل هي مراقد أطهار ومراكز أنوار ، تتضمّن أشخاصا كان لهم الأثر العظيم في بناء حضارة البشر وإنسانية الإنسان ، تتضمّن أجسادا تشعّ منها أنوار العلم والفضيلة ، وأنوار الإيمان والإحسان ،

٢٢٢

وتذكّر زائريها بالمثل العليا وتلهمها الصبر والجهاد وصفات الأمجاد ، وكلّ خصال الخير والأخلاق الحميدة.

فالشيعي يقف أمام تلك القبور المقدّسة والمراقد الطاهرة ويخاطب أصحابها الّذين تحسبونهم أمواتا ، والله يقول :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) .

لذلك يخاطبهم الشيعي فيقول :

«أنا سلم لمن سالمكم ، وحرب لمن حاربكم ، ووليّ لمن والاكم ، وعدوّ لمن عاداكم» وهو يعلن بهذه العبارات الرائعة أنّه سائر على خطّ الجهاد في سبيل الله تعالى ونيل الشهادة من أجل الدين والعقيدة وأنتم تنتقدون الشيعة وتنكرون عليهم زيارة تلك القبور المقدّسة!!

وطائفة اخرى ـ وهم الوهّابيّون ـ يهدمون تلك المراقد المباركة ، ويخرّبون تلك القباب الطاهرة ، ويهتكون حرمتها ، ويقتلون زوّارها ، كما حدث في سنة ١٢١٦ هجرية في الثامن عشر من شهر ذي الحجّة في يوم الغدير ، وكان أهالي كربلاء أكثرهم قد ذهبوا إلى زيارة مرقد الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام في النجف الأشرف ، وبقيت النساء والأطفال والعجزة والمرضى في المدينة ، فاغتنم الوهّابيّون هذه الفرصة وهجموا من الحجاز على كربلاء المقدّسة ، وهدموا قبر أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام وقبور الشهداء من صحبه الكرام ، ونهبوا خزانة الحرم الشريف التي كانت تحتوي على ثروة عظيمة لا تثمّن من هدايا الملوك وغيرهم.

وقد أبدوا وحشية وضراوة لا نظير لها ، فما رحموا حتّى النساء

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٦٩.

٢٢٣

والأطفال والشيوخ والمرضى ، فقتلوا خلقا كثيرا حتّى بلغ عددهم أكثر من خمسة آلاف ، وأسروا جمعا آخر وساقوهم معهم فباعوهم في الأسواق!!

وهكذا صنعوا ما صنعوا وارتكبوا ما ارتكبوا باسم الدين المبين وشريعة سيّد المرسلين وهو منهم بريء ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

هدم قبور أهل البيتعليهم‌السلام في البقيع

إنّ الأمم المتمدّنة في العالم تبني قبور شخصيّاتها من العلماء والقادة والملوك والزعماء وتحافظ عليها وتحترمها ، وحتّى القبور الوهمية والمراقد الرمزية باسم قبر الجندي المجهول.

ولكن مع الأسف الشديد ، إنّ فرقة من الّذين يدّعون أنّهم مسلمون ، ويزعمون أنّ مخالفيهم في عقائدهم الشاذّة التي ما أنزل الله بها من سلطان ، مشركون ، وهي الفرقة الوهّابيّة ، هجموا بكلّ وحشية ، بالأسلحة الفتّاكة ، الجارحة والنارية ، على مراقد أئمّة أهل البيت النبويعليهم‌السلام ومنتسبيهم في البقيع بالمدينة المنوّرة وهدموا قبابهم المقدّسة ، وساووا قبورهم ومراقدهم الطاهرة بالأرض ، وسحقوها سحقا ، وذلك في اليوم الثامن من شوّال سنة ١٣٢٤ هجرية.

فكأنّهم أسفوا على عدم وجودهم مع أسلافهم الّذين رشقوا جنازة الحسن المجتبى السبط الأكبر للنبي المصطفى بالسهام والنبال ، أو مع أسلافهم الّذين سحقوا جسد الحسين الشهيد سبط الرسول وقرّة عين الزهراء البتول وأجساد أهله وأنصاره المستشهدين معه بخيولهم.

ولكن إذا لم يدركوا ذلك الزمان ولم ينالوا من أجساد آل النبي

٢٢٤

الكرام ، فقد نالوا من قبورهم وسحقوا مراقدهم المقدّسة!

فتلك قبور أبناء رسول الله وعترته الطاهرة في البقيع ، وقبور شهداء احد وسيّدهم حمزة سيّد الشهداءعليهم‌السلام في احد ، وقبور غيرهم من الصحابة الكرام ، مهدومة مهجورة ، ليس هناك سقف يستظلّ به الزائرون ، ولا مصباح وسراج يستضيء بنوره الوافدون ، بمرأى من المسلمين ، وهم أحقّ من غيرهم بحفظ تلك المعالم الفاخرة والمراقد الطاهرة ، فقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حرمة المسلم ميّتا كحرمته حيّا. وكم عندنا وعندكم من الأخبار الصحيحة المرويّة في فضل زيارة قبور المؤمنين ، وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يذهب إلى البقيع ويستغفر للأموات ولنعم ما قيل :

لمن القبور الدراسات بطيبة

عفّت لها أهل الشقا آثارا

قل للذي أفتى بهدم قبورهم

أن سوف تصلى في القيامة نارا

أعلمت أيّ مراقد هدّمتها؟!

هي للملائك لا تزال مزارا

فلم هذه المعاملة السيّئة مع آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ؟! وهم الّذين جعلهم الله عزّ وجلّ في المرتبة العليا والدرجة العظمى ، وجعلهم سادة المسلمين وقادة المؤمنين.

الحافظ : إنّكم تغالون في حقّ أئمّتكم ، ما الفرق بينهم وبين سائر أئمة المسلمين؟! إلاّ أنّهم يمتازون بانتسابهم إلى النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) ، وليس لهم أيّ فضل آخر على غيرهم!

قلت : هذا مقال من يجهل قدرهم ولا يعرف شأنهم ومقامهم! ولو تركتم التعصّب والعناد ، ودرستم حياتهم وسيرتهم دراسة تحقيق وإمعان ، لعرفتم كيف هم أفضل من أئمّتكم ، ولا قررتم أنّ أئمّتنا هم

٢٢٥

وحدهم يمثّلون جدّهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علمه وحلمه وصفاته وأخلاقه وسيرته وسلوكه.

وبما أنّ الوقت لا يتّسع لخوض هذا البحث أختم حديثي وأدع هذا المبحث الهامّ إلى مجلس آخر إن شاء الله تعالى.

فوافق الحاضرون كلّهم وتركوا المجلس مودّعين ، فخرجت إلى الباب لتوديعهم أيضا.

٢٢٦

المجلس الرابع ليلة

الاثنين ٢٦ / رجب

في أوّل المغرب دخل ثلاثة من أهل السنّة من غير العلماء ، وكانوا من الحاضرين في المجالس السابقة ، وقالوا : جئنا قبل الآخرين لنقول لسماحتكم : إنّ حديث الناس في كلّ مكان ، في الدوائر الحكومية والمتاجر ، وحتّى في الحوانيت ، يدور حول مناظرتكم وحواركم مع علمائنا ، وإنّ الصحف التي تنشر هذا الحوار مهما كثرت نسخها فهي مع ذلك تنفد في أوّل ساعة من نشرها.

ويشاهد في كلّ نقطة وزاوية من البلد شخص بيده صحيفة يقرأ حديثكم بصوت عال وحوله جمع غفير من الناس يستمعون إليه وهم يتابعون حواركم وحديثكم بكلّ لهفة واشتياق.

اعلم يا سيّد! إنّ مجتمعنا متعطّش لفهم هذه الحقائق التي طالما أخفاها علماؤنا! فنرجوك يا مولانا أن تكشف أستار الظلام وتزيل الأوهام أكثر فأكثر ، لتتنوّر أفكار الناس لا سيّما العوامّ ، فيعرفوا حقائق الإسلام.

٢٢٧

ونرجوك أن تبسط لنا المواضيع المطروحة وتبيّنها من غير تكلّف ، ببيان وكلام سهل نفهمه نحن العامّة والسوقة.

فإنّ الناس إذا عرفوا عقائدكم وفهموا مذهبكم سيتقبّلونه ويعتنقونه ، وسيتمسّكون بعقائدكم لأنّها مبنيّة على أساس القرآن والأحاديث الصحيحة المروية في كتبنا وهي أقرب إلى الفطرة والعقل.

والله يا سيّد إنّ كلامك بعث الوعي في مجتمعنا ، فكأنّهم كانوا نياما فانتبهوا وكانوا عميا فأبصروا.

نحن وأهل بلدنا كنّا نسمع منذ الطفولة من علمائنا ومشايخنا بأنّ الشيعة مشركون وكفّار وأنّهم من أهل النار!

ولكن بفضل حديثكم في الليالي الماضية عرفنا أنّ شيعة أهل البيت هم المسلمون حقّا ، فهم أتباع النبيّ وأهل بيته ، وعرفنا أنّ ما يقوله مشايخنا وعلماؤنا عن الشيعة كلّه كذب وافتراء ، فالشيعة إخواننا في الدين.

قلت : إنّي أشكركم على حسن فهمكم واتباعكم للحق بعد ما عرفتموه ، واشكركم على هذا الكلام النابع من قلوبكم الصافية ونفوسكم الزاكية.

ثمّ استأذنت منهم لأصلّي العشاء ، وبينما أنا في الصلاة إذ دخل سائر الإخوة من العلماء وغيرهم ، فأنهيت الصلاة والدعاء ، وأقبلت نحوهم وسلّمت عليهم ورحّبت بهم.

فقال النوّاب : لقد قرّرت في الليلة الماضية أن تحدّثنا عن مقام أئمّتكم واعتقادكم في حقّهم ، لأنّنا نحبّ أن نعرف ما هو الاختلاف بيننا وبينكم حول الأئمّة.

٢٢٨

قلت : لا مانع لدي من ذلك إذا يسمح العلماء الأعلام والحاضرون الكرام.

الحافظ : ـ وهو منخطف اللون ـ : لا مانع لدينا أيضا.

معنى الإمام في اللغة

قلت : إنّ العلماء في المجلس يعرفون إنّ لكلمة الإمام معان عديدة في اللغة ، منها : المقتدى.

فإمام الجماعة هو الذي تقتدي به جماعة المصلّين وتتابعه في أفعال الصلاة كالقيام والقعود والركوع والسجود.

وأئمّة المذاهب الأربعة هم فقهاء بيّنوا لأتباعهم أحكام الإسلام ومسائل الدين ، واجتهدوا فيها واستنبطوها من القرآن والسنّة الشريفة بالقياس والاستحسانات العقلية ، فلذلك لمّا نطالع كتبهم نرى في آرائهم وأقوالهم ، في الاصول والفروع ، اختلافا كثيرا.

ويوجد مثل الأئمّة الأربعة في كلّ دين ومذهب ، وحتّى في مذهب الشيعة ، وهم العلماء الفقهاء الّذين يرجع إليهم الناس في امور دينهم ويعملون بأقوالهم ويقلّدونهم في الأحكام الشرعية والمسائل الدينية ، ومقام هؤلاء المراجع عندنا كمقام الأئمّة الأربعة عندكم ، وهم في هذا العصر الذي غاب فيه عن الأنظار الإمام المعصوم المنصوص عليه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يستنبطون الأحكام الشرعية ويستخرجون المسائل الدينية على أساس القرآن والسنّة والإجماع والعقل ، فيفتون بها ، وللعوامّ أن يتّبعوهم ويقلّدوهم ، وفي اصطلاح مذهبنا نسمّيهم : مراجع الدين ،

٢٢٩

والواحد منهم : المرجع الديني.

سدّ باب الاجتهاد عند العامّة

كان الأئمّة الأربعة حسب زعمكم فقهاء أصحاب رأي وفتوى في المسائل الدينية ومستندهم : الكتاب والسنّة والقياس. فهنا سؤال يطرح نفسه وهو :

إنّ الفقهاء وأصحاب الرأي والفتوى عددهم أكثر من أربعة ، وأكثر من أربعين ، وأكثر من أربعمائة ، وأكثر وكانوا قبل الأئمة الأربعة وبعدهم ، وكثير منهم كانوا معاصرين للأئمّة الأربعة ، فلما ذا انحصرت المذاهب في أربعة؟!

ولما ذا اعترفتم بأربعة من الفقهاء وفضّلتموهم على غيرهم وجعلتموهم أئمّة؟!

من أين جاء هذا الحصر؟!

ولما ذا هذا الجمود؟!

نحن وأنتم نعتقد أنّ الإسلام قد نسخ الأديان التي جاءت قبله ، ولا يأتي دين بعده ، فهو دين الناس إلى يوم القيامة ، قال تعالى :( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) (١) .

فكيف يمكن لهذا الدين الحنيف أن يساير الزمن والعلم في الاختراعات والاكتشافات والصناعات المتطوّرة ، ولكلّ منها مسائل مستحدثة تتطلّب إجابات علمية؟!

فإذا أغلقنا باب الاجتهاد ولم نسمح للفقهاء أن يبدوا رأيهم

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٨٥.

٢٣٠

ويظهروا نظرهم ـ كما فعلتم أنتم بعد الأئمّة الأربعة ـ فمن يجيب عن المسائل المستحدثة؟!

وكم ظهر بينكم بعد الأئمّة الأربعة فقهاء أفقه منهم ، ولكنّكم ما أخذتم بأقوالهم وما عملتم بآرائهم! فلما ذا ترجّحون اولئك الأربعة على غيرهم من الفقهاء والعلماء لا سيّما على الأفقه والأعلم منهم؟! أليس هذا ترجيح بلا مرجّح ، وهو قبيح عند العقلاء؟!

انفتاح باب الاجتهاد عند الشيعة

ولكن في مذهبنا نعتقد : أنّ في مثل هذا الزمان وبما أنّ الإمام المعصوم غائب عن الأبصار ، فباب الاجتهاد مفتوح غير مغلق ، والرأي غير محتكر ، بل كلّ صاحب رأي حرّ في إظهار رأيه ، شريطة أن يكون مستندا إلى الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو العقل ، وعلى العوامّ أن يرجعوا إليهم في أخذ الأحكام ومسائل الإسلام.

والإمام الثاني عشر ، وهو المهديّ المنتظر (عج) ، آخر أئمّتنا المعصومين ، أمر بذلك قبل أن يغيب عن الأبصار فقال : من كان من الفقهاء حافظا لدينه ، صائنا لنفسه ، مخالفا لهواه ، مطيعا لأمر مولاه ـ أي ربّه ـ فللعوامّ أن يقلّدوه.

لذلك يجب عند الشيعة ، على كلّ من بلغ سنّ الرشد والبلوغ الشرعي ، ولم يكن مجتهدا فقيها ، يجب عليه أن يقلّد أحد الفقهاء الأحياء الحاوين لتلك الشرائط التي اشترطها الإمام المعصومعليه‌السلام .

ولا يجوز عندنا تقليد الفقيه الميّت ابتداء ، والعجيب أنّكم تتّهمون الشيعة بأنّهم يعبدون الأموات لزيارتهم القبور!!

٢٣١

ليت شعري هل زيارة القبور عبادة الأموات أم عبادة الأموات هي اعتقادكم بأنّ كلّ من لم يتّبع الأئمّة الأربعة في الأحكام الشرعية ، ولم يلتزم برأي الأشعري أو المعتزلي في اصول الدين ، فهو غير مسلم ، يجوز قتله ونهب ماله وسبي حريمه حتّى إذا كان يتبع أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته الهاديةعليهم‌السلام ؟!!

مع العلم أنّ أئمّة المذاهب الأربعة ، وأبا الحسن الأشعري والمعتزلي ، ما كانوا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يدركوا صحبته ، فبأيّ دليل تحصرون الإسلام في رأي هؤلاء الستّة؟! أليس هذا العمل منكم بدعة في الدين؟!

الحافظ : لقد ثبت عندنا أنّ الأئمّة الأربعة حازوا درجة الاجتهاد وتوصّلوا إلى الفقه وإبداء الرأي في الأحكام ، وكانوا على زهد وعدالة وتقوى. فلزم علينا وعلى جميع المسلمين متابعتهم والأخذ بقولهم.

قلت : إنّ الامور التي ذكرتها لا تصير سببا لانحصار الدين في أقوالهم وآرائهم وإلزام المسلمين بالأخذ منهم فقط إلى يوم القيامة ، لأنّ هذه الصفات متوفّرة في علماء وفقهاء آخرين منكم أيضا.

ولو قلتم بانحصار هذه الصفات في الأئمّة الأربعة فقد أسأتم الظنّ في سائر علمائكم الأعلام ، بل أهنتموهم وهتكتم حرمتهم ولا سيّما أصحاب الصحاح منهم!!

ثمّ إنّ إلزام المسلمين وإجبارهم على أيّ شيء يجب أن يكون مستندا إلى نصّ من القرآن الحكيم أو حديث النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنتم تجبرون المسلمين وتلزمونهم على أخذ أحكام دينهم من أحد الأئمّة الأربعة من غير استناد إلى الله ورسوله ، فعملكم هذا لا يكون إلاّ تحكّما وزورا.

٢٣٢

السياسة تحصر المذاهب في أربعة

لقد سبق زعمكم أنّ التشيّع مذهب سياسي ، ولا أساس له في الدين ، ونحن أثبتنا وهن هذا الكلام وبطلانه. بنقل عدد كبير من الأحاديث النبوية الشريفة التي يذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها شيعة عليّعليه‌السلام بالفوز والفلاح ويعدهم الجنّة.

وأثبتنا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو مؤسّس مذهب الشيعة ، واضع أساسه ، وهو الذي سمّى موالي الإمام عليّعليه‌السلام وأتباعه بالشيعة ، حتّى صار هذا الاسم علما لهم في حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستندنا في كلّ ذلك على الروايات المعتبرة المرويّة في كتبكم ، المقبولة لديكم ، والتي تعتمدون عليها كلّكم.

والآن أقول بكلّ صراحة : إنّ مذاهبكم الأربعة هي مذاهب سياسية ليس لها أساس في الدين ، وهذا ثابت لأهل التقوى واليقين.

فإن كنتم لا تعلمون أساس التزامكم بالمذاهب الأربعة وانحصار الإسلام الحنيف فيها كما تزعمون ، فراجعوا التاريخ وطالعوه بدقّة وحقّقوا بهذا حتّى تعرفوا إنّما وجدت المذاهب الأربعة بدواع سياسية ، وكان الهدف منها ابتعاد المسلمين عن أهل البيتعليهم‌السلام وإغلاق مدرستهم العلمية!

هذا ما كان يبتغيه السلطان الظالم الغاصب الذي تسمّونه : «الخليفة» لأنّ الخلفاء كانوا يرون أهل البيتعليهم‌السلام منافسين لهم في الحكم والسلطة ، فهم يحكمون على الناس بالقوّة والقهر والسوط والسيف ، ولكنّ الناس يميلون إلى أهل البيتعليهم‌السلام بالرغبة والمحبّة قربة

٢٣٣

إلى الله تعالى فيطيعونهم ويأخذون بأقوالهم ويتّبعونهم في مسائل الحلال والحرام ، وكلّ أحكام الإسلام.

فأهل البيتعليهم‌السلام هم أصحاب السلطة الشرعية والحكومة الروحية المهيمنة على النفوس والقلوب عند الناس ، فلأجل القضاء على هذه الحالة ـ التي جعلت الخلفاء في حذر وخوف دائم ، وسلبت منهم النوم والراحة ـ بادروا إلى تأسيس المذاهب الأربعة ، واعترفت السلطات الحكومية والجهات السياسية بها دون غيرها ، وأعطتها الطابع الرسمي ، وحاربت ما سواها بكلّ قوّة وقسوة.

وأصدرت قرارات رسمية تأمر الناس بالأخذ بقول أحد الأئمّة الأربعة ، وأمرت القضاة أن يحكموا على رأي أحدهم ويتركوا أقوال الفقهاء الآخرين ، هكذا انحصر الإسلام بالمذاهب الأربعة ، وإلى هذا اليوم أنتم أيضا تسيرون على تلك القرارات الظالمة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

والعجيب أنّكم ترفضون كلّ موقف من مسلم مؤمن يعمل بالأحكام الدينية على غير رأي الأئمّة الأربعة ، حتّى إذا كان يعمل برأي الإمام عليّ بن أبي طالب والعترة الهاديةعليهم‌السلام كمذهب الشيعة الإمامية.

فإنّ الشيعة سائرون على منهج أهل البيت الصحيح السليم وهو الخطّ الذي رسمه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيأخذون دينهم من الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام الذي تربّى في حجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو باب علمه ، وقد أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بمتابعته والأخذ منه ، والأئمّة الأربعة بعد لم يخلقوا ، فقد جاءوا بعد رسول الله بعهد طويل ، مائة عام أو أكثر ، مع ذلك تزعمون أنّكم على حقّ والشيعة على باطل!!

٢٣٤

أما قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا(١) ؟!

فانظروا وفكّروا من المتمسّك بالثقلين ، نحن أم أنتم؟!

أما قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق وهوى ـ وفي رواية : هلك(٢) ـ فمن المتخلّف عنهم ، نحن أم أنتم؟!

هل الأئمّة الأربعة من أهل البيتعليهم‌السلام ؟! أم الإمام عليّ والحسن والحسين ريحانتا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسبطاه وسيّدا شباب أهل الجنة؟!

أما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهما : فلا تتقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم(٣) ؟!

ثم يقول ابن حجر في «تنبيه» له على الحديث : سمّى رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) القرآن وعترته ثقلين ، لأنّ الثقل : كلّ نفيس خطير مصون وهذان كذلك ، إذ كلّ منهما معدن للعلوم الدينية والأسرار والحكم العليّة والأحكام الشرعية ، ولذا حثّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) على الاقتداء والتمسّك بهم والتعلّم منهم

وقيل سميّا ثقلين : لثقل وجوب رعاية حقوقهما ، ثمّ الّذين وقع الحث عليهم منهم ، إنّما هم العارفون بكتاب الله وسنّة رسوله ، إذ هم الّذين لا يفارقون الكتاب إلى ورود الحوض ، ويؤيّده الخبر السابق :

__________________

(١) ذكرنا فيما سبق مصادره من كتب العامّة بالتفصيل.

(٢) ذكرنا مصادره بالتفصيل فيما سبق وانظر : الصواعق المحرقة : ٩١ ، تحت الآية السادسة.

(٣) الصواعق المحرقة : ٨٩ ، تحت الآية الرابعة.

٢٣٥

ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم.

وتميّزوا بذلك عن بقيّة العلماء ، لأنّ الله أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، وشرّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة ، وقد مرّ بعضها إلى آخر ما قاله ابن حجر.

وما لي لا أتعجّب منه ومن أمثاله وما أكثرهم في علمائكم! فإنّه مع إذعانه وإقراره بأنّ أهل البيتعليهم‌السلام يجب أن يقدّموا على من سواهم ، ويجب أن تأخذ الأمّة منهم أحكام دينها ومسائلها الشرعية ، لكنّه قدّم أبا الحسن الأشعري عليهم وأخذ منه اصول دينه ، وقدّم الأئمّة الأربعة ، وأخذ أحكام الشريعة المقدّسة منهم لا من أهل البيتعليهم‌السلام !!

وهذا نابع من العناد والتعصّب واللجاج ، أعاذنا الله تعالى منها.

مطاعن الأئمّة الأربعة

ثمّ أسألك أيّها الحافظ ، إذا كان الواقع كما زعمت أنّ الأئمّة الأربعة كانوا على زهد وعدالة وتقوى ، فكيف كفّر بعضهم بعضا ، ورمى بعضهم الآخر بالفسق؟!!

الحافظ : ـ وقد تغيّر لونه ولاح الغضب في وجهه وصاح ـ : لا نسمح لكم أن تتهجّموا على أئمّتنا وعلمائنا إلى هذا لحدّ ، أنا اعلن أنّ كلامك هذا كذب وافتراء على أئمّة المسلمين ، وهو من أباطيل علمائكم ، أمّا علماؤنا فكلّهم أجمعوا على وجوب احترام الأئمّة الأربعة وتعظيمهم ، ولم يكتبوا فيهم سوى ما يحكي جلالة شأنهم وعظيم مقامهم.

٢٣٦

قلت : يظهر أنّ جنابك لا تطالع حتّى كتبكم المعتبرة ، أو تتجاهل عن مثل هذه المواضيع فيها. وإلاّ فإنّ كبار علمائكم كتبوا في ردّ الأئمّة الأربعة ، وفسّق بعضهم الآخر بل كفّر بعضهم بعضهم الآخر!!

الحافظ : نحن لا نقبل كلامك ، بل هو مجرّد ادّعاء ، ولو كنت صادقا في ما تزعم فاذكر لنا أسماء العلماء وكتبهم وما كتبوا حتّى نعرف ذلك!

قلت : أصحاب أبي حنيفة وابن حزم وغيرهم يطعنون في الإمامين مالك والشافعي.

وأصحاب الشافعي ، مثل : إمام الحرمين ، والإمام الغزالي وغيرهما يطعنون في أبي حنيفة ومالك.

فما تقول أنت أيها الحافظ ، عن الامام الشافعي وأبي حامد الغزّالي وجار الله الزمخشري؟!

الحافظ : إنّهم من كبار علمائنا وفقهائنا ، وكلّهم ثقات عدول يعتمد عليهم ويصلّى خلفهم.

قلت : جاء في كتبكم عن الإمام الشافعي أنّه قال : ما ولد في الإسلام أشأم من أبي حنيفة!

وقال أيضا : نظرت في كتب أصحاب أبي حنيفة فإذا فيها مائة وثلاثون ورقة خلاف الكتاب والسنّة!

وقال الإمام الغزّالي في كتابه «المنخول في علم الاصول» : فأمّا أبو حنيفة فقد قلّب الشريعة ظهرا لبطن ، وشوّش مسلكها ، وغيّر نظامها ، وأردف جميع قواعد الشرع بأصل هدم به شرع محمّد المصطفى ، ومن فعل شيئا من هذا مستحلا كفر ، ومن فعله غير

٢٣٧

مستحلّ فسق.

ويستمرّ بالطعن في أبي حنيفة بالتفصيل إلى أن قال : إنّ أبا حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، يلحن في الكلام ولا يعرف اللغة والنحو ولا يعرف الأحاديث ، ولذا كان يعمل بالقياس في الفقه ، وأوّل من قاس إبليس.

انتهى كلام الغزالي.

وأمّا جار الله الزمخشري صاحب تفسير «الكشّاف» وهو يعدّ من ثقات علمائكم وأشهر المفسّرين عندكم ، قال في كتابه «ربيع الأبرار» : قال يوسف بن أسباط : ردّ أبو حنيفة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعمائة حديث أو أكثر!

وحكي عن يوسف أيضا : أنّ أبا حنيفة كان يقول : لو أدركني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأخذ بكثير من قولي!!

وقال ابن الجوزي في «المنتظم» : اتّفق الكلّ على الطعن فيه ـ أي : في أبي حنيفة ـ والطعن من ثلاث جهات :

١ ـ قال بعضهم : إنّه ضعيف العقيدة ، متزلزل فيها.

٢ ـ وقال بعضهم : إنّه ضعيف في ضبط الرواية وحفظها.

٣ ـ وقال آخرون : إنّه صاحب رأي وقياس ، وإنّ رأيه ـ في أغلب الأحيان مخالف للأحاديث الصّحاح.

انتهى كلام ابن الجوزي.

والكلام من هذا النوع كثير في كتبكم حول الأئمّة الأربعة ، وأنا لا أحبّ أن أخوض هذا البحث ، وما أردت أن أتكلّم بما تكلّمت ، ولكنّك أحرجتني بكلامك حيث قلت : إنّ علماء الشيعة يكذبون على

٢٣٨

علمائنا وأئمّتنا! فأردت أن أثبت لك وللحاضرين أنّ كلام علماء الشيعة مستدلّ وصحيح ولا يعبّر إلاّ عن الواقع والحقيقة. ولكن كلامك أيّها الحافظ عار من الصحّة والواقع ، وإذا أردت أن تعرف المطاعن كلّها حول الأئمّة الأربعة ، فراجع كتاب «المنخول في علم الأصول» للغزّالي ، وكتاب «النكت الشريفة» للشافعي ، وكتاب «ربيع الأبرار» للزمخشري ، وكتاب «المنتظم» لابن الجوزي حتى تشاهد كيف يطعن بعضهم بعضهم الآخر حدّ التكفير والتفسيق!!

ولكن لو تراجع كتب الشيعة الإمامية حول الأئمّة الاثني عشرعليهم‌السلام لرأيت إجماع العلماء والفقهاء والمحدّثين والمؤرّخين على تقديسهم وعظم شأنهم وجلال مقامهم وعصمتهم (سلام الله عليهم).

لأنّنا نعتقد أنّ الأئمّة الاثني عشرعليهم‌السلام كلّهم خرّيجو جامعة واحدة ، وهم أخذوا علمهم من منبع ومنهل واحد ، وهو منبع الوحي ومنهل الرسالة ، فلم يفتوا إلاّ على أساس كتاب الله تعالى والسنّة الصحيحة التي استورثوها من جدّهم خاتم النبيّين وسيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق الإمام عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام وفاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمينعليها‌السلام ، وحاشا أئمّتناعليهم‌السلام أن يفتوا على أساس الرأي والقياس ، ولذا لا تجد أيّ اختلاف في ما بيّنوه ، لأنّهم كلّهم ينقلون عن ذلك المنبع الصافي الزلال : «روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري»!.

٢٣٩

مقام الإمام عند الشيعة الإمامية

الإمام في اصطلاح الشيعة يختلف عن الإمام في اصطلاحكم ، فإنّ الإمام عندكم بمعناه اللغوي وهو : المقتدى ، كإمام الجمعة والجماعة.

ولكن الإمام عندنا ـ كما هو ثابت في علم الكلام ـ هو : صاحب الرئاسة العامة الإلهية خلافة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في امور الدين والدنيا ، إذ يجب على الامة كافة اتّباعه ، ولذا نعتقد بأنّ الإمامة من اصول الدين.

الشيخ عبد السلام : الإمامة عند علمائنا لا تعدّ من اصول الدين ، بل أثبتوا أنّها من فروع الدين ، وهم فنّدوا قول الشيعة بالأدلّة القطعية ، فقولكم : إنّ الإمامة من اصول الدين كلام بلا دليل.

قلت : كثير من علمائكم وافقونا في هذه العقيدة وأثبتوا صحّتها ، وردّوا كلام القائلين بأنّ الإمامة من فروع الدين.

منهم : القاضي البيضاوي ، وهو من أشهر مفسّريكم ، قال في كتابه «منهاج الاصول» : إنّ الإمامة من أعظم مسائل اصول الدين التي توجب مخالفتها الكفر والبدعة.

ومنهم : العلاّمة القوشجي ، وهو من أشهر الكلاميّين عندكم ، قال في كتابه «شرح التجريد» في مبحث الإمامة : وهي رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا خلافة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومنهم : القاضي روزبهان ، وهو من علمائكم الّذي اشتهر

٢٤٠

بالتعصّب ضدّ الشيعة ، قال : الإمامة عند الأشاعرة هي : خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملّة بحيث يجب اتّباعه على كافة الامّة.

ثمّ إذا كانت الإمامة من فروع الدين لما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد على أهميّتها بقوله المروي في كتبكم المعتبرة ، مثل : «الجمع بين الصحيحين» للحميدي و «شرح العقائد النسفية» لسعد التفتازاني.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات ولم يعرف إمام زمانه ، مات ميتة جاهلية».

من الواضح أنّ عدم المعرفة بفرع من فروع الدين لا يوجب التزلزل في أصل الدين حتّى يخرج صاحبه من الدنيا بالجاهلية قبل الإسلام ولذا صرّح البيضاوي : بأنّ مخالفة الإمامة توجب الكفر والبدعة.

فالإمامة في معتقدنا ، مرتبة عظيمة هامّة ، نازلة منزلة النبوّة ، والإمام قائم مقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا يظهر الفرق بين أئمّتنا الاثني عشر من أهل البيتعليهم‌السلام وبين الأئمّة عندكم ، فأنتم تطلقون كلمة الإمام على علمائكم ، كالإمام الأعظم ، والإمام مالك ، والإمام الشافعي ، والإمام أحمد ، والإمام الفخر الرازي ، والإمام الغزالي ، وغيرهم ، وهو عندكم كإمام الجمعة والجماعة ، والإمام بهذا المعنى يخرج عن الحدّ والحصر.

ولكن الإمام بالمعنى الذي نقوله نحن فهو في كلّ زمان واحد لا أكثر ، وهو أفضل أهل زمانه في جميع الصفات الحميدة ، فهو الأعلم والأتقى والأشجع والأورع والمعصوم بفضل الله ولطفه من الخطأ والسهو ، فيكون حجّة الله في الأرض ، ولا تخلو الأرض من حجّة لله

٢٤١

عزّ وجلّ ، يعيّن بالنصّ ، كما وردت نصوص من النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إمامة الاثني عشر من أهل البيتعليهم‌السلام ، وأمر أمّته بطاعتهم والأخذ منهم.

والأئمّة الاثنا عشرعليهم‌السلام بعد جدّهم خاتم النبيّين وسيّد الخلق أجمعين يكونون أعلى رتبة وأرفع درجة من جميع الخلق حتّى الأنبياء العظام عليهم تحيات وصلوات الملك العلاّم.

الحافظ : الله أكبر! قبل هذا كنت تذمّ الغلاة وتطردهم من مذهب الشيعة ، والآن ثبت أنّكم أيضا مغالون في حقّ أئمّتكم إذ تجعلونهم أعلى وأرفع من الأنبياء العظام ، والقرآن يصرّح بأنّ مقام النبوّة أعلى المراتب التي يمنحها الله سبحانه لأحد من عباده المكرّمين ، فكلامكم مخالف للقرآن الحكيم والعقل السليم!

قلت : مهلا لا تتسرّع في ردّنا ، ولا تعجل في تخطئة كلامنا ، ولا تقل بأنّ كلامنا يخالف القرآن الحكيم ، بل لنا دليل على صحّة كلامنا واعتقادنا من القرآن الكريم ، واعلم بأنّنا أبناء الدليل ، حيثما مال نميل.

الحافظ : بيّنوا دليلكم حتّى نعرفه! فإنّ كلامكم غريب جدّا!

قلت : إنّ الله سبحانه بعد أن يذكر امتحان أبي الأنبياء إبراهيم الخليلعليه‌السلام وابتلاءه في نفسه وأمواله وولده ، وبعد نجاحه وفوزه في كلّ تلك الامتحانات ، أراد الله تعالى أن يمنحه مقاما أعلى من النبوّة والرسالة والخلّة والعزم ، لأنّه كان آنذاك نبيّا رسولا من اولي العزم وصاحب الخلّة ، فرفعه إلى مقام الإمامة وجعله إماما للناس ، فقال سبحانه :( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ

٢٤٢

لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) . فظهر أنّ الإمامة أعلى مرتبة من النبوّة والرسالة والعزم والخلّة.

الحافظ : فعلى هذا ، إنّ الإمام عليّ (كرّم الله وجهه) يكون مقامه عندكم أعلى من مقام سيّدنا محمّد (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) ، وأيّ غلوّ أعظم من هذا؟!

قلت : ليس كذلك! وإنّما بين النبوّة العامّة والنبوّة الخاصة فرق كبير ، والإمامة أعلى رتبة من النبوّة العامة ودون النبوّة الخاصة ، والأخيرة هي درجة خاتم الأنبياء وسيّد الخلق أجمعين ، محمّد المصطفى ، حبيبنا وحبيب إله العالمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

النوّاب : أرجو المعذرة من التدخّل في البحث ، فإنّي حريص على اكتساب المعلومات وفهم هذه المسائل ، ولذا حينما تخطر مسألة في بالى أطرحها فورا لأنّي أخاف أن أنساها ، فسؤالي عن الآية الكريمة التي تقول :( لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) (٢) ـ أي : الرسل ـ فالأنبياء كلّهم في رتبة واحدة ومقام الجميع عند الله تعالى على حدّ سواء ، فكيف قسّمتم النبوّة إلى قسمين عامّة وخاصّة؟! أرجو التوضيح.

قلت : هذه الآية صحيحة في محلّها ، أي : لا نفرّق بين أحد من الرسل بأنّهم مبعوثون من عند الله عزّ وجلّ إلى الناس ، وكلّهم يدعون إلى الله سبحانه وحده لا شريك له ، وإلى المعاد والقيامة ، ويدعون إلى المعروف والحسنات ، وينهون عن المنكرات والسيّئات.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٢٤.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٣٦ وسورة آل عمران ، الآية ٨٤.

٢٤٣

مراتب الأنبياء

ولكن هل إنّ النبيّ المبعوث إلى ألف نفر يساوي مقامه مقام النبيّ الذي أرسل الى مائة ألف؟! وهل هذا يساوي مقامه مقام النبي الذي بعثه الله وأرسله إلى الناس كافّة؟!

وكذلك هل إنّ معلّم الدورة الابتدائية يساوي مقامه العلمي مقام استاذ الكلّيّة أو الجامعة؟! لا

والحال إنّه يصحّ أن نقول لاستاذ الجامعة معلّم أيضا ، وكلاهما يعملان في وزارة واحدة وهي : وزارة التربية والتعليم ومسئوليتهما أن يأخذا بيد الطلاب ويصعدا بهم سلّم العلم والثقافة ، ولكن أين هذا من ذاك!

وكذلك الأنبياء والرسل متساوون من جهة أنّهم مبعوثون ومرسلون من عند الله عزّ وجلّ إلى خلقه ، لا نفرّق بين أحد منهم

ولكن من حيث العلم والفضل غير متساوين ، فقد قال تعالى :( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ) (١) .

قال الزمخشري في الكشّاف في تفسيرها : إنّ المراد من :( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ) هو نبيّنا محمّد الّذي فضّله الله على جميع الأنبياء بخصائص كثيرة ، أهمّها أنّه خاتم النبيّين.

النوّاب : أشكركم على هذا التوضيح التامّ ، ورفع الشبهة والوهم ، وقد بقي عندي سؤال آخر ، أستأذنكم وأستأذن الحاضرين

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٥٣.

٢٤٤

لأطرحه ، وهو : أرجوكم أن توضّحوا معنى : النبوّة الخاصة وميزتها ولو باختصار ، والرجاء أن يكون بيانكم على حدّ فهمنا ومستوانا.

قلت : إنّ ميزات النبوّة الخاصة كثيرة والمجلس لم ينعقد لبيان هذا الموضوع ، فإذا ادخل هذا البحث ضمن بحوثنا انشغلنا عن مبحث الإمامة الذي هو محور النقاش والحوار. ولكن من باب : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» ابيّن لكم باختصار :

النبوّة الخاصّة

الإنسان الكامل هو صاحب النفس المتكاملة بالتزكية ، لقوله تعالى :( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ) (١) وتزكية النفس إنّما تحصل عن طريق التعقّل ، والعقل يدعو إلى العلم والعمل ، فهما الجناحان اللذان يحلّق بهما الإنسان ويسمو بهما إلى قمّة الكمال الممكن.

كما روي عن الإمام عليعليه‌السلام أنّه قال : «خلق الإنسان ذا نفس ناطقة ، إن زكّاها بالعلم والعمل فقد شابهت جواهر أوائل عللها ، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد وصار موجودا بما هو إنسان دون أن يكون موجودا بما هو حيوان».

فكما أنّ الطائر يرتفع في الفضاء ويحلّق في الجوّ على قدر قوّة جناحيه بالنسبة إلى جثّته ، كذلك الإنسان يرتفع في سماء المعنوية والكمالات الروحية بمقدار علمه وعمله الصالح المبتني على أساس العقل السليم.

فكلّ إنسان إذا بلغ مرتبة الكمال فقد بلغ مرتبة النبوّة ، وإذا

__________________

(١) سورة الشمس ، الآية ٩.

٢٤٥

اختاره الله سبحانه وبعثه إلى الناس ، صار نبيّا رسولا.

وللنبوّة والكمال مراتب ، كما هو ثابت في أبحاث النبوّة في الكتب الكلامية ، وأعلى تلك المراتب هي المرتبة التي حين وصل إليها حبيب الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ختمت به النبوّة ، وليس فوق الخاتمية مرتبة ممكنة للإنسان ، وأعلى منها مرتبة الربّ جلّ جلاله وعمّ نواله.

فمقام خاتم النبيّينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوق جميع المراتب المتصوّرة والمقرّرة لممكن الوجود ، ودون مرتبة واجب الوجود.

ومرتبة الإمام فوق مراتب النبوّة ودون مرتبة الخاتمية بدرجة ، ولمّا كان الإمام عليعليه‌السلام واصلا إلى مرتبة النبوّة واتّحدت نفسه مع نفس خاتم النبيّينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى صار كنفس واحدة ، منحه الله تعالى مرتبة الإمامة وجعله أفضل من الأنبياء الماضين.

وصلنا إلى هنا فارتفع صوت المؤذّن يدعو إلى صلاة العشاء ، وبعد إقامة الصلاة ، عاد الجميع إلى المجلس وتناولوا الشاي والحلوى.

فقال الحافظ : إنّك تصعّب الموضوع أكثر فأكثر ، وقبل أن تجيب على الإشكال الأوّل ، نجد في كلامك إشكالا آخر!

قلت : الموضوع واضح وسهل ، فلا أدري ما هو الصعب في نظركم؟! وما هو الإشكال في كلامي؟! اطرحوه حتّى أجيب عنه!!

الحافظ : في كلامكم الأخير أجد بعض الكلمات التي لا تخلو من إشكال :

١ ـ قولكم : إنّ عليّا كرّم الله وجهه وصل مرتبة النبوّة.

٢ ـ قولكم : إنّ عليّا اتّحدت نفسه مع نفس النبيّ حتّى صارا كنفس واحدة.

٢٤٦

٣ ـ قولكم : إنّ عليّا أفضل من جميع الأنبياء غير خاتم النبيّين (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم).

فهذه الجمل غريبة جدّا ، ولا أدري ما هو دليلكم عليها؟!

قلت : ربّما يكون كلامي غريبا ومشكلا وصعبا بالنسبة لكم! لأنّكم لا تريدون أن تتعمّقوا في الحقائق ولا تريدون أن تدرسوا القضايا هذه دراسة تحقيق وتفهّم.

وأمّا بالنسبة للعلماء المحقّقين والمنصفين ، فإنّ كلامي ليس بغريب ولا مشكل ، بل هو واضح ومقبول.

وإليك الجواب عن الإشكالات التي طرحتها :

إثبات مرتبة النبوّة لعليّعليه‌السلام

إنّ الدليل على أنّ الإمام عليّعليه‌السلام وصل مرتبة النبوّة وكان أهلا لهذا المقام العظيم ، هو حديث المنزلة المرويّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتبكم المعتبرة أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«يا عليّ! أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي».

وتارة كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاطب الناس فيقول : «عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى» إلى آخره.

الحافظ : لا نعلم صحّة هذا الحديث ، وعلى فرض صحّته فهو خبر واحد لا يعتدّ به ولا يعتمد عليه.

قلت : يظهر أنّك قليل الاطّلاع حتّى على كتبكم والأخبار والأحاديث المرويّة فيها ، أو أنّك تتجاهل الحقائق وتتناسى الأحاديث

٢٤٧

المرويّة عن طرقكم حتّى وصل بعضها حدّ التواتر ، مثل هذا الحديث ، وأتعجّب من قولك : إنّه خبر واحد فكلامك هذا إمّا عن سهو أو عناد!

إسناد حديث المنزلة

ولكي تعرف ويعرف الحاضرون صحّة حديث المنزلة عندنا وعندكم ، فإنّي أذكر بعض أسانيده الحاضرة في ذهني وحافظتي بمقدار ما يسمح لي المقام ، حتّى يعترف الكلّ أنّ هذا الحديث الشريف لم ينقل عن طريق واحد ، بل من طرق متعدّدة ، رواه كبار علمائكم ومحدّثيكم ، وهو من الأحاديث المتواترة :

١ ـ البخاري في الصحيح / ٣ من كتاب المغازي في باب غزوة تبوك ، ومن كتاب بدء الخلق في باب مناقب عليعليه‌السلام .

٢ ـ مسلم بن الحجّاج في صحيحه ٢ / ٢٣٦ / ٢٣٧ / ط. مصر ١٢٩٠ ، وفي كتاب فضل الصحابة / باب فضائل عليعليه‌السلام .

٣ ـ الإمام أحمد بن حنبل في المسند ١ / ٩٨ و ١١٨ و ١١٩ في وجه تسمية الحسنين عليهما السّلام.

فبعد ذكر هذه الأسانيد والمدارك المعتبرة من أعلام علمائكم ، وهي قليل من كثير ، هل أذعنت بصحّة حديث المنزلة؟ وهل تعترف بأنّك كنت مشتبها في قولك : إنّه خبر واحد لا يعتدّ به!

الحافظ : لم يثبت التواتر بثلاثة مصادر ، بل يحتاج إلى ذكر مصادر أكثر حتّى نقول وصل حدّ التواتر.

٢٤٨

قلت :

أوّلا : كلّ مصدر من هذه المصادر التي ذكرتها يعادل عندكم بألف.

ثانيا صرّح بعض المحقّقين من علمائكم بتواتر حديث المنزلة ، مثل : العلاّمة جلال الدين السيوطي في كتبه : «الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة» و «إزالة الخفاء» و «قرّة العينين» ففي هذه الكتب عدّ حديث المنزلة من الأحاديث المتواترة.

وإذا لم يزل في قلبك شكّ وتريد أن تطمئنّ فراجع كتاب : «كفاية الطالب» تأليف محمد بن يوسف الكنجي الشافعي ، وهو من أعلام علمائكم ، في الباب السبعين منه ، فإنّه بعد ما يروي الحديث عن عدّة طرق ، يقول : هذا حديث متّفق على صحّته ، رواه الأئمّة الأعلام إلى آخره.

فأكتفي بهذا المقدار ، وأظنّ أنّ الإبهام ارتفع والحافظ اقتنع.

الحافظ : أنا لست بلجوج ولا معاند ، ولكن أدعوك إلى مطالعة كلام العالم الفقيه أبي الحسن الآمدي ، الذي هو من المتكلّمين المتبحّرين ، فإنّه يردّ حديث المنزلة ويضعّفه.

قلت : أتعجّب منك! إذ إنّك عالم وتدّعي التحقيق والإنصاف ، ثمّ تعدل عن كبار علمائكم الموثّقين بما فيهم أئمّة أهل الحديث المجمع على صحّة ما رووا كالبخاري ومسلم ، ثمّ تأخذ بقول الآمدي سيّئ العقيدة والتارك الصلاة!!

الشيخ عبد السّلام : الإنسان حرّ في بيان عقيدته ، فلا يجوز لأحد أن يتّهم أحدا أظهر عقيدته في شيء يخالف المشهور ، ثمّ يقبح من

٢٤٩

مثلكم أن تتهجّموا بسوء الكلام على فقيه ، بل يجب أن تردّوه بالمنطق والدليل ، وخاصة جنابك ، حيث تجسّد أخلاق أهل البيت رضي الله عنهم.

قلت :

أوّلا : إن كنتم تلتزمون بحرّيّة العقيدة ، فلما ذا ترمون الشيعة بالكفر والشرك وتجوّزون قتلهم ونهب أموالهم؟!

لذا فهم يخفون عقائدهم الحقة إذا عاشوا في بلادكم وبين أظهركم خشية القتل!

أم إنّكم تقصدون حرّيّة الآمدي فحسب ، وذلك في نصبه العداء ومخالفته لأهل البيتعليهم‌السلام ؟!!

ثانيا أنا لم أتهجّم على الآمدي بسوء الكلام ، بل نقلت قول علمائكم الأعلام فيه.

الشيخ عبد السّلام : أين ذكر علماؤنا الآمديّ بسوء العقيدة وترك الصلاة؟!

شرح أحوال الآمدي

ذكر ابن حجر في كتاب «لسان الميزان» : السيف الآمدي ، المتكلّم عليّ بن أبي عليّ ، صاحب التصانيف ، وقد نفي من دمشق لسوء اعتقاده ، وصحّ أنّه كان يترك الصلاة!!

وذكر الذهبي ـ وهو من أعلامكم ـ في كتاب «ميزان الاعتدال» نفس الترجمة للآمدي وزاد : «أنه كان من المبتدعة».

وإذا نظرتم في حال الآمدي بنظر التحقيق لعرفتم أنّه لو لم يكن

٢٥٠

عديم الإيمان ومبتدعا لما خالف جميع الصحابة حتّى عمر بن الخطّاب ـ الذي هو أحد رواة حديث المنزلة ـ ولما خالف كلّ المحدّثين الثقات وأعلام الرواة.

وأتعجّب من أنّكم تطعنون في الشيعة ، لأنّهم لا يقبلون بعض الأحاديث المرويّة في الصحيحين عندكم ، وهي عندنا غير صحيحة السند!

ولكنّ الآمدي حينما يردّ حديثا أجمع عليه علماء الفريقين ، وصحّحه ورواه جميع أصحاب الصحاح الستّة! كيف تقبلون كلامه وتأخذون برأيه؟! وهو واحد خارج عن الإجماع ، وعلى الأصل الذي عندكم!

ولو لم يكن للآمدي أيّ عيب ونقص سوى إنّه ردّ حديثا جاء في الصحيحين ، وبردّه كذّب الفاروق وكذّب البخاري ومسلم وسائر أصحاب الصحاح ، لكفى في طعنه وفسقه عندكم.

الحافظ : قلتم إنّ أحد رواة حديث المنزلة ، الخليفة عمر بن الخطّاب (رض) فهل يمكن أن تبيّنوا سندكم على هذا النقل؟

قلت : روى جماعة من علمائكم ومحدّثيكم حديث المنزلة عن عمر بن الخطّاب ، منهم :

١ ـ نصر بن محمّد السمرقندي الحنفي ، في كتاب «المجالس».

٢ ـ محمد بن عبد الرحمن الذهبي ، في «الرياض النضرة».

٣ ـ المولى علي المتّقي الهندي ، في «كنز العمّال».

٤ ـ العلاّمة ابن الصبّاغ المالكي ، في «الفصول المهمّة».

٥ ـ محبّ الدين الطبري ، في «ذخائر العقبى».

٦ ـ الشيخ سليمان الحنفي ، في «ينابيع المودّة».

٢٥١

٧ ـ موفّق ابن أحمد الخوارزمي ، في «المناقب».

هؤلاء كلّهم رووا عن ابن عبّاس حبر الأمّة ـ واللفظ للأخير ـ بسنده المتّصل ـ بحذف سلسلة السند للاختصار ـ قال :

حدّثني أمير المؤمنين الرشيد ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عبد الله بن عبّاس ، قال : سمعت عمر بن الخطّاب وعنده جماعة فتذاكروا السابقين إلى الإسلام

فقال عمر : أمّا عليّ فسمعت رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) يقول فيه ثلاث خصال وددت لو أنّ لي واحدة منهنّ ، كان أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس.

كنت أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة من الصحابة إذ ضرب النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) بيده على منكب عليّ فقال : يا عليّ! أنت أوّل المؤمنين إيمانا ، وأوّل المسلمين إسلاما ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

أخرجه ابن عساكر في تاريخه عن عمر مع تغيير يسير في اللّفظ.

وأخرجه المتّقي الهندي الحنفي في كنز العمّال : ٦ / ٣٩٥ وفيه زيادة لم تكن في غيره ، وهذا نصّه :

مسند عمر ، عن ابن عبّاس [قال :] قال عمر بن الخطّاب : كفّوا عن ذكر عليّ بن أبي طالب! فإنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) يقول في عليّ ثلاث خصال ، لئن يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس :

كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجرّاح ونفر من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) والنبيّ متّكئ على عليّ بن

٢٥٢

أبي طالب ، حتّى ضرب بيده على منكبه ثمّ قال : أنت يا عليّ أوّل المؤمنين إيمانا ، وأوّلهم إسلاما ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، وكذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك.

وأخرجه الإسكافي في كتابه «نقض الرسالة العثمانية» للجاحظ : ص ٢١ / ط مصر وفيه زيادات نافعة ، فليراجع.

وبعد هذا هل يجوز في مذهبكم الردّ على الخليفة عمر وهو الفاروق عندكم؟! وإذا لا يجوز ذلك فكيف تأخذون بقول الآمدي المعلوم الحال؟!

حكم الخبر الواحد عند العامة

وبقيت جملة اخرى من كلامكم ، لا بدّ لي من جوابها ، زعمتم : أنّ حديث المنزلة خبر واحد ، ثمّ قلتم : إنّ الخبر الواحد لا اعتبار به ولا اعتماد عليه.

أقول : إذا يصدر هذا الكلام من أحد الشيعة فإنّه يقبل منه ، لأنّه على الأصل والمبنى المقبول عندنا.

ولكن صدور هذا الكلام من مثلكم يثير التعجّب والتساؤل ، لأنّ في مذهبكم خبر الواحد مقبول وحجّيّته ثابتة ، حتّى أنّ بعض علمائكم حكم بتكفير وفسق المنكر له ، فقد قال ملك العلماء شهاب الدين في كتابه «هداية السعداء» في فصل المضمرات من كتب الشهادات :

ومن أنكر الخبر الواحد والقياس ، وقال : إنّه ليس بحجّة ، فإنّه يصير كافرا! ولو قال : هذا الخبر الواحد غير صحيح ، وهذا القياس غير ثابت ؛ لا يصير كافرا ولكن يصير فاسقا!

٢٥٣

الحافظ : لقد سررت جدّا من حسن بيانكم وسعة اطّلاعكم عن كتبنا ، وقد وجدتكم على خلاف ما كنت أسمع من قبل بأنّ علماء الشيعة لا يلمسون كتبنا ويعتقدون بنجاستها ، فكيف بمطالعتها؟!

قلت : هذه أقاويل وأباطيل أعداء الإسلام ، فإنّهم يريدون أن يفرّقوا بين المسلمين ، وفي المثل : «يصطادون بماء عكر» وهو من باب : «فرّق تسد».

يريدون فرض سيادتهم وهيمنتهم علينا ، ولكنا يجب أن نكون واعين في هذه الامور ويجب أن نعرف خطط أعدائنا المستعمرين فنبيّنها لعامّة الناس حتّى لا يقعوا في شباكهم ، ويتبصّروا في تشخيص مصالحهم ومضارّهم ، فيخيّبوا آمال الأعداء بمخالفتهم.

يجب أن نوجّه أتباعنا المسلمين إلى مفاهيم القرآن الحكيم حيث يقول :( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (١) .

على أثر غفلتنا عن القرآن ، وابتعادنا عن تعاليمه الحقّة ، يتمكّن عدوّ المسلمين أن يتصرّف في أفكارنا ، فنصدّق أكاذيبه ونعتقد بأباطيله! منها ما كنت تسمعه ، كما قلت : بأنّ علماء الشيعة لا يلمسون كتبكم إلى آخره.

نحن نأخذ كتب المرتدّين والكفار والمشركين بكلتي يدينا ونطالعها حتّى نعرف ما يقولون ، فنأخذ صحيحها ونطرح سقيمها ، ونردّ شبهاتها الموجّهة إلينا ، فكيف بكتبكم وأنتم إخواننا في الدين؟!

فاعلموا أنّنا على خلاف ما قيل لكم ، بل نحترم كتبكم

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية ٦.

٢٥٤

ونطالعها بدقّة وإمعان ، ونستفيد من آراء علمائكم وأقوال محقّقيكم ، ونستفيد من الأحاديث والروايات الصحيحة المرويّة في مسانيدكم وصحاحكم ، وإنّ كثيرا من الكتب التي تدرّس في حوزاتنا العلمية تكون من تأليف وتصنيف علمائكم.

منتهى الأمر بعض رواتكم المقبولين عندكم ، غير موثّقين ولا معتبرين عندنا ، مثل : أنس وأبي هريرة وسمرة وغيرهم ، وهذا لا يخصّنا الآن ، فإنّ بعض علمائكم أيضا لا يقبلونهم ، منهم : أبو حنيفة ، فإنّه لا يقبل هؤلاء الثلاثة ونظراءهم!

وكتبكم عندنا معتبرة ونستفيد منها ، وأنا ـ شخصيا ـ أكثر مطالعاتي حول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرته المباركة وتاريخ الأئمّة من آله صلوات الله عليهم تكون من كتبكم ، وأستند إليها في خطبي ومحاضراتي ، وأنقل منها أكثر ممّا أنقل من كتبنا.

وإنّ مكتبتي الخاصة تحتوي على أكثر من مائتي مجلّد مطبوع ومخطوط من كتبكم المشهورة في التفسير والتاريخ والفقه والحديث والكلام والرجال و...

ولكنّنا نطالع كتبكم مطالعة تحقيق وتمحيص فكما أنّ النّقّاد والصّرافين يميزون بين الدراهم والدنانير ، الصحيحة من المغشوشة ، فكذلك نحن حينما نطالع أيّ كتاب لا نحسب محتوياته ومضامينه من المسلّمات ، بل نتفكّر فيها ونميّز بين الأحاديث والروايات والمواضيع ، فنأخذ الصحيحة ونترك السقيمة ، ولا تؤثّر فينا شبهات وتشكيكات الفخر الرازي ، ولا مغالطات ابن حجر ، أو إشكالات روزبهان ، أو تكذيبات الآمدي وأمثالهم.

٢٥٥

واعلم أنّ مطالعتي لكتبكم ، والنظر في الأحاديث المرويّة والمقبولة عندكم ، كانت السبب في معرفتي لأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أكثر ، ويقيني بعلوّ مقامهم وعظم شأنهم.

الحافظ : لقد ابتعدنا عن موضوع البحث ، فالرجاء بيّنوا وجه الاستدلال بحديث المنزلة ، على أنّ عليّا كرّم الله وجهه كان في رتبة النبوّة؟!

قلت : يثبت بهذا الحديث الشريف ثلاث خصائص للإمام عليّعليه‌السلام :

١ ـ مقام النبوّة بأنه لو كان نبيّ بعده لكان عليّا ولكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيين.

٢ ـ مقام وزارة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلافته.

٣ ـ أفضليّة الإمام عليعليه‌السلام على جميع الصحابة.

ودليل ذلك أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل الإمام عليّاعليه‌السلام منه بمنزلة هارون من موسى ، وكان هارون نبيّا ، وكان وزير موسى وخليفته في قومه ، وكان أفضل بني إسرائيل بعد أخيه موسى.

النوّاب : هل كان هارون نبيّا؟!

قلت : نعم.

النواب : عجبا! إنّي ما سمعت بهذا من قبل! فهل ذكر الله نبوّته في القرآن الحكيم؟!

قلت : نعم ، في سورة النساء ، الآية ١٦٣ ، قوله تعالى :( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) .

٢٥٦

وفي سورة مريم ، الآية ٥٣ قوله تعالى :( وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا ) .

الحافظ : إذا على هذا فمحمد وعليّ كلاهما نبيّان مبعوثان من عند الله إلى الخلق!

قلت : أنا لا أقول هكذا ، وأنت تعلم أنّ عدد الأنبياء كثير جدّا ، وهو محل اختلاف بين العلماء ، حتّى قال بعضهم : إنّ عددهم مائة وعشرون ألفا أو أكثر ، لكن كان أكثرهم يتّبعون الأنبياء أولي العزم من الرسل. وهم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتمهم سيّدنا ونبيّنا محمّد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهارون كان نبيّا غير مستقلّ ، وإنّما كان تابعا لأخيه موسى ويعمل على شريعة أخيه.

كذلك الإمام عليّعليه‌السلام ، كان تاليا لرتبة أخيه وابن عمّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واصلا مقام النبوّة ولكن غير مستقلّ بالأمر ، بل كان تابعا لشريعة سيّد المرسلين وخاتم النبيّين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وكان غرض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا الحديث الشريف أن يعرّف عليّاعليه‌السلام لامته في هذا المقام ، ويثبت له تلك الرتبة الرفيعة والدرجة العليّة ، وهذه خصيصة عالية من خصائص الإمام عليّعليه‌السلام .

وذكر ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» حديث المنزلة وعلّق عليه قائلا :

ويدلّ على أنّه وزير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نصّ الكتاب والسنّة ، قول الله تعالى :( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (١) .

__________________

(١) سورة طه ، الآية ٢٩ ـ ٣٢.

٢٥٧

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام : «أنت منّي بمنزلة هارون بن موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي».

فأثبت له جميع مراتب هارون من موسى.

فإذا هو وزير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشادّ أزره ، ولو لا أنّه خاتم النبيّين لكان شريكا في أمره(١) .

وذكر العلاّمة محمد بن طلحة الشافعي حديث المنزلة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتابه مطالب السئول : ١ / ٥٤ ط دار الكتاب ، وعلّق عليه فقال : فتلخيص منزلة هارون من موسى أنّه كان أخاه ووزيره ، وعضده ، وشريكه في النبوّة ، وخليفته على قومه عند سفره ، وقد جعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا منه بهذه المنزلة ، وأثبتها له ، إلاّ النبوّة ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استثناها في آخر الحديث بقوله : «لا نبيّ بعدي» فبقي ما عدا النبوّة المستثناة ثابتا لعليّعليه‌السلام من كونه أخاه ووزيره وعضده وخليفته على أهله عند سفره إلى تبوك.

وهذه من المعارج الشراف ومدارج الإزلاف ، فقد دلّ الحديث بمنطوقه ومفهومه على ثبوت هذه المزيّة العليّة لعليّعليه‌السلام ، وهو حديث متّفق على صحّته.

انتهى كلامه.

وذكر مثل هذا الكلام العلاّمة ابن الصبّاغ المالكي في كتابه «الفصول المهمّة» وكذلك كثير من علمائكم الكبار قد ذكروا الحديث وعلّقوا عليه تعليقات مفيدة ، ولكنّ الوقت لا يسمح أن أذكر لكم كلّ مقالات علمائكم وتعليقاتهم المؤيّدة لكلامنا حول حديث المنزلة.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٢١١ / ط دار إحياء الكتب العربية.

٢٥٨

الحافظ : ولكنّي أظنّ أنّ الاستثناء في الحديث ينفي مرتبة نبوّة عليّ كرّم الله وجهه ، وإنّ قولكم : إنّ سيّدنا محمدا (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) لو لم يكن خاتم النبيّين وكان الله يبعث بعده نبيّا لكان ذلك عليّ بن أبي طالب! من غلوّكم ولم يقل به قائل.

قلت : إنّ الحقّ واضح ، ولكنّك يا للأسف تتبّع أسلافك في إنكار الحقّ بعد ظهوره ، نعوذ بالله من التعصّب والعناد!

ثمّ اعلم أنّ هذا القول لا يكون من الشيعة فحسب حتّى ترمينا بالغلوّ ، وإنّما كثير من علمائكم ذهب هذا المذهب أيضا.

الحافظ : لا أعرف أحدا من علمائنا ذهب هذا المذهب ، وإن كنتم تعرفون أحدا فاذكروا اسمه!

قلت : أحد علمائكم الذي أخذ بهذا القول هو : ملاّ علي بن سلطان محمد الهروي القاري ، صاحب التصانيف والتآليف الكثيرة. قال في كتابه «المرقاة في شرح المشكاة» عند ذكره حديث المنزلة قال : وفيه إيماء إلى أنّه لو كان بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّا لكان عليّا.

ومنهم : العلاّمة الشهير والعالم النحرير جلال الدين السيوطي ، في آخر كتابه «بغية الوعّاظ في طبقات الحفّاظ» ذكر مسندا عن جابر بن عبد الله الأنصاري : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ولو كان لكنته.

ومنهم : المير سيّد علي الهمداني ، الفقيه الشافعي ، ذكر في الحديث الثاني من المودّة السادسة في كتابه «مودّة القربى» عن أنس بن

٢٥٩

مالك ، أنّه روى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ الله اصطفاني على الأنبياء فاختارني واختار لي وصيّا ، واخترت ابن عمّي وصيّي ، يشدّ عضدي كما يشدّ عضد موسى بأخيه هارون ، وهو خليفتي ، ووزيري ، ولو كان بعدي نبي لكان عليّ نبيّا ، ولكن لا نبوّة بعدي.

فثبت أنّ الشيعة لا تنفرد بهذا المقال ، بل هناك كثير من علمائكم قالوا به أيضا.

بل قال به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا كما يظهر من الأخبار المرويّة في كتبكم ، وقد مرّت.

فحديث المنزلة يضمن جميع مراتب هارون بالنسبة لموسى لعليّ ابن أبي طالب بالنسبة لمحمّد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ النبوّة بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي استثناها فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إلاّ أنّه لا نبوّة بعدي».

وأجلى المراتب الثابتة لهارون هي خلافته لقوله تعالى :( وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (١) ومنها تثبت خلافة عليّعليه‌السلام بعد خاتم النبيّينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الحافظ : لقد ذكرت الآيات القرآنية أنّ هارون شريك موسى في أمر النبوّة ، فكيف جعلوه خليفة له؟! والحال أنّ مرتبة الشريك أعلى من مرتبة الخليفة ، فإذا جعلوا الشريك خليفة فقد أنزلوه من مقامه ، لأنّ مقام النبوّة أعلى من مقام الخلافة.

قلت : لو تدبّرت في حديثنا السابق وفهمته ، ما طرحت هذا الإشكال! فقد بيّنا أنّ نبوّة موسى هي الأصل ونبوّة هارون تابعة لنبوّة أخيه ، كما يقال : إنّ فلانا عضو على البدل ، فكأنّه خليفته.

__________________

(١) سورة طه ، الآيات ٢٥ ـ ٣٤.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793

794

795

796

797

798

799

800

801

802

803

804

805

806

807

808

809

810

811

812

813

814

815

816

817

818

819

820

821

822

823

824

825

826

827

828

829

830

831

832

833

834

835

836

837

838

839

840

841

842

843

844

845

846

847

848

849

850

851

852

853

854

855

856

857

858

859

860

861

862

863

864

865

866

867

868

869

870

871

872

873

874

875

876

877

878

879

880

881

882

883

884

885

886

887

888

889

890

891

892

893

894

895

896

897

898

899

900

901

902

903

904

905

906

907

908

909

910

911

912

913

914

915

916

917

918

919

920

921

922

923

924

925

926

927

928

929

930

931

932

933

934

935

936

937

938

939

940

941

942

943

944

945

946

947

948

949

950

951

952

953

954

955

956

957

958

959

960

961

962

963

964

965

966

967

968

969

970

971

972

973

974

975

976

977

978

979

980

981

982

983

984

985

986

987

988

989

990

991

992

993

994

995

996

997

998

999

1000

1001

1002

1003

1004

1005

1006

1007

1008

1009

1010

1011

1012

1013

1014

1015

1016

1017

1018

1019

1020

1021

1022

1023

1024

1025

1026

1027

1028

1029

1030

1031

1032

1033

1034

1035

1036

1037

1038

1039

1040

1041

1042

1043

1044

1045

1046

1047

1048

1049

1050

1051

1052

1053

1054

1055

1056

1057

1058

1059

1060

1061

1062

1063

1064

1065

1066

1067

1068

1069

1070

1071

1072

1073

1074

1075

1076

1077

1078

1079

1080

1081

1082

1083

1084

1085

1086

1087

1088

1089

1090

1091

1092

1093

1094

1095

1096

1097

1098

1099

1100

1101

1102

1103

1104

1105

1106

1107

1108

1109

1110

1111

1112

1113

1114

1115

1116

1117

1118

1119

1120

1121

1122

1123

1124

1125

1126

1127

1128

1129

1130

1131

1132

1133

1134

1135

1136

1137

1138

1139

1140

1141

1142

1143

1144

1145

1146

1147

1148

1149

1150

1151

1152

1153

1154

1155

1156

1157

1158

1159

1160

1161

1162

1163

1164

1165

1166

1167

1168

1169

1170

1171

1172

1173

1174

1175

1176

1177

1178

1179

1180

1181

1182

1183

1184

1185

1186

1187

1188

1189

1190

1191

1192

1193

1194

1195

1196

1197

1198

1199

1200

1201

1202

1203

1204

1205