ليالي بيشاور

ليالي بيشاور3%

ليالي بيشاور مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 1205

ليالي بيشاور
  • البداية
  • السابق
  • 1205 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 241883 / تحميل: 4159
الحجم الحجم الحجم
ليالي بيشاور

ليالي بيشاور

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

ومن أهمّ علامات الأولياء كما في قوله تعالى :( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) .

ولمّا وصل البحث إلى هذه النقطة ، نظر العلماء إلى الساعة وهي تشير إلى أنّ الوقت قد جاوز منتصف الليل.

فأرادوا الانصراف من المجلس ، ولكنّ النوّاب قال : ما وصلنا إلى نتيجة حول الآية الكريمة :( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) إلى آخره والسيد بعد لم يتمّ كلامه في الموضوع.

فقال الحاضرون : لقد تعب السيد فنترك البحث إلى الليلة المقبلة إن شاء تعالى فتوادعنا وانصرفوا.

__________________

(١) سورة يونس ، الآية ٦٣.

٣٦١
٣٦٢

المجلس السادس

ليلة الأربعاء ٢٨ رجب ١٣٤٥ هجرية

قبل غروب الشمس جاءني إلى البيت حضرة الفاضل غلام إمامين ، وكان تاجرا محترما من أهل السنّة ، وهو رجل كيّس ورزين ، كان يحضر مجلس الحوار في كلّ ليلة.

جاءني وقال : أيها السيد الجليل! إنّما جئت في هذا الوقت وقبل مجيء رفاقي ، لأخبرك بأنّك كسبت قلوبنا ونوّرتها بكلامك الحلو وبيانك العذب ، فانجذب أكثر الحاضرين نحوك ، فقد كشفت لنا ما كان مستورا وبيّنت لنا الحقّ الذي كان مجهولا.

واعلم أنّنا حين انصرفنا في الليلة الماضية من المجلس ، وقع اختلاف شديد بيننا وبين علمائنا وعاتبناهم عتابا شديدا على إخفائهم هذه الحقائق عنّا وإغوائنا بالأكاذيب والأباطيل ، وكاد الأمر يؤول من التشاجر إلى التناحر ، ولكنّ بعض العقلاء والكبار توسّطوا في ذات البين وأنهوا القضيّة بسلام.

ولمّا صار وقت المغرب تهيّأت وقمت للصلاة ، واقتدى بي كلّ من

٣٦٣

كان في البيت ، وصلّى غلام إمامين أيضا معنا جماعة.

وبعد إتمامنا الصلاة ، جاء العلماء ومعهم الأصحاب والرفاق ، فأكرمهم صاحب البيت ورحّب بهم ورحبت بهم بدوري ، وبعد ما شربوا الشاي وتناولوا الحلوى ، وجّه الاستاذ نوّاب عبد القيّوم خان نظره إليّ واستاذن للسؤال ، فأذنت له.

فقال : نسألكم أن تتمّوا موضوع الليلة الماضية حول الآية الكريمة :( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) .

قلت : إذا أذن لي المشايخ الحاضرون ، فلا مانع لديّ.

الحافظ : ـ وكان في حالة غضب ـ : لا مانع تكلّموا ونحن نستمع.

قلت : لقد بيّنت لكم في الليلة الماضية بعض الإشكالات الأدبية على تأويل الآية وتطبيقها على الخلفاء الراشدين.

وأمّا في هذه الليلة فنبحث فيها من جهات اخرى حتّى ينكشف الحقّ للحاضرين.

إنّ جناب الشيخ عبد السلام سلّمه الله تعالى أوّل كلّ صفة من الصفات الأربعة في الآية الكريمة على أحد الراشدين بالترتيب ، فأقول :

أوّلا : لم يذكر أحد من المفسّرين في شأن نزول الآية ، هذا التأويل.

ثانيا : كلّنا يعرف أنّ الصفات الأربعة المذكورة إذا اجتمعت كلّها في شخص واحد ، فهو المراد من الآية الكريمة.

وأمّا إذا تحقّق بعضها في شخص ، فلا يكون ذلك هو مقصود الآية ومرادها.

٣٦٤

ونحن إذا نظرنا في تاريخ الإسلام نظر تحقيق وتعمّق ، ودرسنا حياة الصحابة دراسة تحليلية ، ونظرنا في سيرتهم نظرة استقلالية ، بعيدا عن الأغراض النفسية والعوارض القلبية ، لوجدنا أنّ كلّ الصفات المذكورة في الآية الكريمة ما اجتمعت في واحد من الصحابة سوى مولانا علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

الحافظ : إنّكم معشر الشيعة تغالون في حقّ سيّدنا عليّ كرّم لله وجهه ، فكلّما وجدتم آية في وصف المؤمنين والمتّقين والمحسنين والصالحين ، تقولون : نزلت في شأن الإمام عليّ!!

قلت : هذا اتّهام وافتراء آخر منكم ، نحن الشيعة لا نغالي في حقّ مولانا الإمام عليّعليه‌السلام ، وإنّما نواليه ولا نبغضه ، كما أراد الله سبحانه ، فلذلك نقول فيه ما هو حقّه ، وإنّه لظاهر كالشمس في الضحى.

من ينكر فضلك يا حيدر؟!

هل ضوء الشمس ضحى ينكر؟!

وكلّ ما نقوله نحن في أمير المؤمنينعليه‌السلام ، إنّما هو من كتبكم ومصادركم!

الآيات النازلة في شأن عليّعليه‌السلام

وأمّا الآيات المباركة الكثيرة التي نقول بأنّها نزلت في شأن الإمام عليعليه‌السلام وفضله ، إنّما نذكر رواياتها وتفاسيرها من كتبكم المعتبرة ومن تفاسير علمائكم الأعلام.

فإنّ الحافظ أبو نعيم ، صاحب كتاب «ما نزل من القرآن في عليّ»

٣٦٥

والحافظ أبو بكر الشيرازي ، صاحب كتاب «نزول القرآن في علي» والحاكم الحسكاني ، صاحب كتاب «شواهد التنزيل» فهؤلاء من علماء الشيعة أم من علمائكم؟!

والمفسّرون الكبار ، أمثال : الإمام الثعلبي والسيوطي والطبري والفخر الرازي والزمخشري ، والعلماء الأعلام ، أمثال : ابن كثير ومسلم والحاكم والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبي داود وأحمد بن حنبل وابن حجر والطبراني والكنجي والقندوزي ، وغيرهم ، الّذين ذكروا في كتبهم ومسانيدهم وصحاحهم ، الآيات القرآنية التي نزلت في شأن الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام

هل هم من علماء الشيعة أم من أهل السنّة والجماعة؟!

ولقد روى الحسكاني ، والطبراني ، والخطيب البغدادي في تاريخه ، وابن عساكر في تاريخه ، في ترجمة الإمام عليّعليه‌السلام ، وابن حجر في الصواعق : ٧٦ ، ونور الأبصار : ٧٣ ، ومحمد بن يوسف الكنجي في «كفاية الطالب» في أوائل الباب الثاني والستّين ، في تخصيص عليعليه‌السلام بمائة منقبة دون سائر الصحابة ، بإسنادهم عن ابن عبّاس ، قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب ثلاثمائة آية.

وروى العلامة الكنجي في الباب الحادي والثلاثين بإسناده عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أنزل الله تعالى آية فيها :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلاّ وعليّ رأسها وأميرها.

ورواه عن طريق آخر : إلاّ وعليّ رأسها وأميرها وشريفها.

وروى في الباب عن ابن عبّاس أيضا أنّه قال : ولقد عاتب الله عزّ وجلّ أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير آي من القرآن وما ذكر عليّا إلاّ بخير.

٣٦٦

فمع هذه الأخبار المتضافرة والروايات المعتبرة الجمّة التي رواها كبار علمائكم ومحدّثيكم ، نحن لا نحتاج لوضع الأحاديث وجعل الأخبار في شأن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وإثبات فضله وجلالته وخلافته.

فإنّ رفعة مقامه وسموّ شأنه وعلوّ قدره يلوح للمنصفين في سماء العلم والمعرفة ، كشمس الضحى في وسط السماء ، لا ينكرها إلاّ فاقدو البصر أو السفهاء.

وكما ينسب إلى الإمام محمّد بن إدريس الشافعي ـ أو غيره من الأعلام ـ أنّه حين سئل عن فضل الإمام عليّعليه‌السلام قال : ما أقول في رجل ، أخفى أعداؤه فضائله بغضا وحسدا ، وأخفى محبّوه فضائله خوفا ورهبا ، وهو بين ذين وذين قد ملأت فضائله الخافقين(١) .

وأمّا حول الآية الكريمة ، فإنّي كلّ ما أقوله فهو من كتبكم وأقوال علمائكم ، كما إنّي إلى الآن ما تمسّكت بأقوال الشيعة في محاوراتي معكم ، ولا أحتاج أن أتمسّك بها في محاوراتي الآتية أيضا إنشاء الله تعالى.

وأمّا تطبيق الآية الكريمة :( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) على مولانا وسيّدنا الإمام عليّعليه‌السلام ، فهو ليس قولي فحسب ، بل أذكر جيّدا أنّ العلاّمة محمّد بن يوسف القرشي الكنجي الشافعي ، في

__________________

(١) وفيه يقول الشاعر :

لقد كتموا آثار آل محمّد

محبّوهم خوفا وأعداؤهم بغضا

فأبرز من بين الفريقين نبذة

بها ملأ الله السموات والأرضا

والقول أعلاه لأحمد بن حنبل لا للشافعي! «المترجم»

٣٦٧

كتابه «كفاية الطالب» في الباب الثالث والعشرين ، وبعد روايته للحديث النبويّ الشريف الذي يشبّه فيه الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بالأنبياء والمرسلينعليهم‌السلام فيقول العلاّمة الكنجي في شرحه للحديث : وشبّهه بنوح في حكمته ، وفي رواية في حكمه ، وكأنّه أصحّ لأنّ عليّاعليه‌السلام كان شديدا على الكافرين رءوفا بالمؤمنين كما وصفه الله تعالى في القرآن بقوله :( وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) وأخبر الله عزّ وجلّ عن شدّة نوحعليه‌السلام على الكافرين بقوله :( ... رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) (١) إلى آخر كلام العلاّمة الكنجي.

وأمّا قول الشيخ عبد السّلام : بأنّ( وَالَّذِينَ مَعَهُ ) إشارة إلى أبي بكر لأنّه كان صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار.

فإنّي أجبت بأنّ صحبته كانت من باب الصدفة ، ولو سلّمنا بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذه معه لا عن صدفة ، فهل مرافقة أيّام قلائل وصحبة سفر واحد ، تساوي مرافقة أكثر العمر وصحبة سنين عديدة هي التي قضاها مولانا الإمام عليّعليه‌السلام تحت رعاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعلّم عنده وتأدّب بآدابه وتربّى على يده وتحت إشرافه؟!

فلو أنصفتم لقلتم : إنّ عليّا أخصّ من أبي بكر في هذه الصفة أيضا ؛ لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذه من أبي طالب وربّاه في حجره وعلّمه وأدّبه ، فكان أوّل من آمن به وعمره حينذاك عشر سنين ، آمن عليّعليه‌السلام حين كان أبو بكر وعمر وعثمان وأبو سفيان ومعاوية وغيرهم من المسلمين ، كفّارا مشركين ، يعبدون الأوثان ويسجدون للأصنام ، وعلي

__________________

(١) سورة نوح ، الآية ٢٦.

٣٦٨

ما سجد لصنم قطّ ، كما صرّح كثير من علمائكم.

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مربّي عليعليه‌السلام ومعلّمه

لقد ذكر بعض علمائكم موضوع تربية النبيّ عليّا من الصغر.

منهم ابن الصبّاغ المالكي في كتابه «الفصول المهمّة» فإنه خصّص فصلا في الموضوع.

ومنهم محمّد بن طلحة الشافعي في كتابه «مطالب السئول» في الفصل الأوّل.

والحافظ سليمان الحنفي في «ينابيع المودّة» الباب السادس والخمسين ، ص ٢٣٨ ط المكتبة الحيدرية ، نقلا عن «ذخائر العقبى» للطبري.

والثعلبي في تفسيره ، عن مجاهد.

وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٣ / ١٩٨ ط دار إحياء الكتب العربية ، نقلا عن الطبري في تاريخه(١) ، روى بإسناده عن مجاهد ، قال : كان من نعمة الله عزّ وجلّ على عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وما صنع الله له ، وأراده به من الخير ، أنّ قريشا أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثير.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعبّاس ـ وكان من أيسر بني هاشم ـ : يا عبّاس ، إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة ، فانطلق بنا فلنخفّف عنه من عياله ، آخذ من بيته

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٢ / ٣١٣ طبعة المعارف.

٣٦٩

واحدا ، وتأخذ واحدا ، فنكفيهما عنه.

فقال العبّاس : نعم.

فانطلقا حتّى أتيا أبا طالب ، فقالا له : إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتّى ينكشف عن الناس ما هم فيه.

فقال لهما : إن تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما.

فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا فضمّه إليه ، وأخذ العبّاس جعفرارضي‌الله‌عنه فضمّه إليه ، فلم يزل عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتّى بعثه الله نبيّا ، فاتّبعه عليّعليه‌السلام ، فآمن به وصدّقه ، ولم يزل جعفر عند العبّاس حتّى أسلم واستغنى عنه(١) .

__________________

(١) وفي شرح النهج لابن أبي الحديد : ١٣ / ٢٠٠ ط دار إحياء الكتب العربية ، قال : وروى الفضل بن عبّاس ; ، قال : سألت أبي عن ولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّهم كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له أشدّ حبّا؟ فقال : علي بن أبي طالب : فقلت : سألتك عن بنيه! فقال : إنّه كان أحب إليه من بنيه جميعا وأرأف ، ما رأيناه زايله يوما من الدهر منذ كان طفلا ، إلا أن يكون في سفر لخديجة ، وما رأينا أبا أبرّ بابن منه لعليّعليه‌السلام ، ولا ابنا أطوع لاب من عليّعليه‌السلام لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ونقل ابن أبي الحديد في ج ١٠ / ٢١ و ٢٢٢ ، عن أبي جعفر النقيب أنّه كان يقول : انظروا إلى أخلاقيهما وخصائصهما ـ أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي عليه‌السلام ـ هذا شجاع ، وهذا شجاع.

وهذا فصيح ، وهذا فصيح.

وهذا سخيّ جواد ، وهذا سخيّ جواد.

وهذا عالم بالشرائع والأمور الإلهيّة وهذا عالم بالفقه والشريعة والأمور الإلهيّة الدقيقة الغامضة.

وهذا زاهد في الدنيا غير نهم ولا مستكثر منها ، وهذا زاهد في الدنيا تارك لها غير متمتّع بلذّاتها.

٣٧٠

وقال ابن الصبّاغ المالكي بعد نقله للرواية : فلم يزل عليّعليه‌السلام مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى بعث الله عزّ وجلّ محمّدا نبيّا ، فاتّبعه عليّعليه‌السلام وآمن به وصدّقه ، وكان إذ ذاك في السنة الثالثة عشر من عمره لم يبلغ الحلم ، وإنّه أوّل من أسلم وآمن برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الذكور.

__________________

وهذا مذيب نفسه في الصلاة والعبادة ، وهذا مثله.

وهذا غير محبّب إليه شيء من الأمور العاجلة إلاّ النساء ، وهذا مثله.

وهذا ابن عبد المطّلب بن هاشم وهذا في قعدده ، وأبواهما أخوان لأب وأمّ ، دون غيرهما من بني عبد المطّلب ، وربّي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجر والد هذا ، وهذا أبو طالب ، فكان جاريا عنده مجرى أحد أولاده.

ثمّ لمّا شبّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكبر استخلصه من بني أبي طالب وهو غلام ، فربّاه في حجره مكافأة لصنيع أبي طالب به.

فامتزج الخلقان ، وتماثلت السجيتان ، وإذا كان القرين مقتديا بالقرين ، فما ظنّك بالتربية والتثقيف الدائر الطويل؟!

فواجب أن تكون أخلاق محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأخلاق أبي طالب ، وتكون أخلاق عليّعليه‌السلام كأخلاق أبي طالب أبيه ، ومحمّد عليه‌السلام مربّيه ، وأن يكون الكلّ شيمة واحدة وسوسا ـ أي أصلا ـ واحدا ، وطينة مشتركة ونفسا غير منقسمة ولا متجزّئة ، وألاّ يكون بين بعض هؤلاء وبعض فرق ولا فضل ، لو لا أنّ الله تعالى اختصّ محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برسالته. واصطفاه لوحيه ، لما يعلمه من مصالح البريّة في ذلك ، ومن أنّ اللّطف به أكمل ، والنفع بمكانه أتمّ وأعمّ ، فامتاز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك عمّن سواه ، وبقي ما عدا الرسالة على أمر الاتّحاد ، فقال له : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي.

فأبان نفسه منه بالنبوّة وأثبت له ما عداها من جميع الفضائل والخصائص مشتركا بينهما. «المترجم»

٣٧١

عليّعليه‌السلام أوّل من آمن

ثمّ ينقل ابن الصبّاغ المالكي ، قول الإمام الثعلبي في تفسيره للآية الكريمة( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ) (١) ، أنّه روى عن ابن عبّاس وجابر بن عبد الله الأنصاري وزيد بن أرقم ومحمّد بن المنكدر وربيعة المرائي ، أنّهم قالوا : أوّل من آمن برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد خديجة أمّ المؤمنين ، هو علي بن أبي طالب.

وهذا الموضوع الهامّ صرّح به كبار علمائكم الأعلام ، مثل : البخاري ومسلم في الصحيح ، والإمام أحمد في مسنده ، وابن عبد البرّ في الاستيعاب : ٣ / ٣٢ والإمام النسائي في الخصائص ، وسبط ابن الجوزي في التذكرة : ٦٣ والحافظ سليمان الحنفي القندوزي في الينابيع ـ باب ١٢ ـ نقلا عن مسلم والترمذي ، وابن أبي الحديد في شرح النهج : ١٣ / ٢٢٤ ط إحياء الكتب العربية ، والحمويني في فرائد السمطين ، والمير السيّد علي الهمداني في مودّة القربى ، والترمذي في الجامع : ٢ / ٢١٤ ، وابن حجر في الصواعق ، ومحمد بن طلحة القرشي في مطالب السئول ـ الفصل الأوّل ـ ، وغيرهم من كبار علمائكم ومحدّثيكم ذكروا بأنّ : النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث يوم الاثنين وآمن به عليّ يوم الثلاثاء ـ وفي رواية : وصلّى عليّ يوم الثلاثاء ـ وقالوا : إنّه أوّل من آمن برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الذكور.

كما جاء في مطالب السئول : ولمّا انزل الوحي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٠٠.

٣٧٢

وشرّفه الله سبحانه وتعالى بالنبوّة كان عليّعليه‌السلام يومئذ لم يبلغ الحلم ، وكان عمره إذ ذاك في السنة الثالثة عشر ، وقيل : أقلّ من ذلك ، وقيل : أكثر منه ، وأكثر الأقوال وأشهرها : أنّه لم يكن بالغا ، فإنّه أوّل من أسلم وآمن برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الذكور ، وقد ذكر ذلك بعض الشعراء على لسان أمير المؤمنينعليه‌السلام وأشاروا إليه في أبيات وهي :

محمد النبي أخي وصنوي

وحمزة سيّد الشهداء عمّي

وجعفر الذي يضحي ويمسي

يطير مع الملائكة ابن أمّي

وبنت محمّد سكني وعرسي

منوط لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ولدي منها

فأيّكم له سهم كسهمي؟!

سبقتكم إلى الإسلام طرّا

غلاما ما بلغت أوان حلمي

وأوجب لي ولايته عليكم

رسول الله يوم غدير خمّ

فويل ثمّ ويل ثمّ ويل

لمن يلقى الإله غدا بظلمي(١)

ونقل الطبري في تاريخه : ٢ / ٢٤١ والترمذي في الجامع : ٢ ص ٢١٥ والإمام أحمد في مسنده : ٤ / ٣٦٨ وابن الأثير في تاريخه الكامل : ٢ / ٢٢ والحاكم في المستدرك : ٤ / ٣٣٦ ومحمد بن يوسف

__________________

(١) قال الحافظ سليمان الحنفي في ينابيع المودّة ، الفصل الرابع : ولمّا وصل إلى عليّعليه‌السلام أنّ معاوية افتخر بملك الشام ، قال لغلامه : أكتب ما املي عليك ، فأنشد :

محمّد النبي أخي وصهري

وحمزة سيّد الشهداء عمّي

إلى آخره

وبعد ذكره الأبيات قال :

قال البيهقي : إنّ هذا الشعر ممّا يجب على كلّ مؤمن أن يحفظه ليعلم مفاخر عليّ عليه‌السلام في الإسلام. «المترجم»

٣٧٣

القرشي الكنجي في كفاية الطالب : الباب الخامس والعشرون ، وغيرهم من علمائكم الثقات رووا بإسنادهم عن ابن عبّاس : أوّل من صلّى عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام (١) .

__________________

(١) روى العلاّمة الكنجي في «كفاية الطالب» في الباب الخامس والعشرين بإسناده عن ابن عبّاس ، قال : «أوّل من صلّى عليّعليه‌السلام » ثمّ نقل اختلاف الأقوال في ذلك وخصم النزاع بقوله : والمختار من الروايات عندي قول ابن عبّاس ، ويدلّ عليه قول عبد الرحمن بن جعل الجمحي حين بويع عليّعليه‌السلام ، قال :

لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة

علي الدين معروف العفاف موفّقا

عفيفا عن الفحشاء أبيض ماجدا

صدوقا وللجبّار قدما مصدّقا

أبا حسن فارضوا به وتمسّكوا

فليس لمن فيه يرى العيب منطقا

عليا وصيّ المصطفى وابن عمّه

وأوّل من صلّى لذي العرش واتّقى

وقال الفضل بن العبّاس في قصيدة له :

وكان وليّ الأمر بعد محمّد

عليّ وفي كلّ المواطن صاحبه

وصيّ رسول الله حقّا وصهره

وأوّل من صلّى وما ذمّ جانبه

وقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين :

إذا نحن بايعنا عليّا فحسبنا

أبو حسن ممّا نخاف من الفتن

وأوّل من صلّى من الناس واحدا

سوى خيرة النسوان والله ذو المنن

يعني : خديجة بنت خويلد ، ثمّ يذكر الكنجي روايات في هذا الباب.

ونقل الحافظ سليمان الحنفي في الباب الثاني عشر من «ينابيع المودّة» روايات كثيرة جدّا في أنّ أوّل من آمن وصلّى عليّ بن أبي طالب ، قال : أنشد بعض أهل الكوفة ، أيّام صفّين في مدحه :

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النشور من الرحمن غفرانا

أوضحت من ديننا ما كان مشتبها

جزاك ربّك منّا فيه إحسانا

نفسي الفداء لأولى الناس كلّهم

بعد النبي عليّ الخير مولانا

أخ النبي ومولى المؤمنين معا

وأوّل الناس تصديقا وإيمانا

«المترجم»

٣٧٤

وروى الحاكم الحسكاني في كتابه «شواهد التنزيل» في ذيل الآية( السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ ) بسنده عن عبد الرحمن بن عوف ، أنّ عشرة من قريش آمنوا وكان أوّلهم عليّ بن أبي طالب.

وروى كثير من علمائكم ـ منهم الإمام أحمد في مسنده ، والخطيب الخوارزمي في «المناقب» والحافظ سليمان الحنفي القندوزى في الباب الثاني عشر من «الينابيع» وغيرهم ـ بإسنادهم عن أنس بن مالك ، أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : صلّت الملائكة عليّ وعلى عليّ سبع سنين ، وذلك أنّه لم ترفع شهادة أن لا إله إلاّ الله إلى السماء ، إلاّ منّي ومن عليّ.

وأمّا ابن أبي الحديد ـ في شرح نهج البلاغة : ٤ / ١٢٥ ط دار إحياء الكتب العربية ، بعد ما نقل روايات كثيرة في سبق عليّعليه‌السلام إلى الإيمان ، وأخرى مخالفة ، قال : فدلّ مجموع ما ذكرناه أنّ علياعليه‌السلام أوّل الناس إسلاما وأنّ المخالف في ذلك شاذّ ، والشاذّ لا يعتدّ به.

وهذا الإمام الحافظ أحمد بن شعيب النسائي ، صاحب واحد من الصحاح الستّة عندكم ، له كتاب «خصائص الإمام عليّعليه‌السلام ، فإنّه روى أوّل حديث في هذا الكتاب بإسناده عن زيد بن أرقم ، قال : أوّل من صلّى مع رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) علي رضي الله عنه.

وابن حجر الهيتمي ـ مع شدّة تعصبه ـ يرى أنّ عليّاعليه‌السلام أوّل من آمن ؛ كما في الفصل الثاني من كتابه «الصواعق المحرقة».

ونقل الحافظ سليمان الحنفي القندوزي في كتابه «ينابيع المودة» في الباب الثاني عشر ، نقل واحدا وثلاثين خبرا ورواية عن الترمذي والحمويني وابن ماجة وأحمد بن حنبل والحافظ أبي نعيم والإمام

٣٧٥

الثعلبي وابن المغازلي وأبي المؤيّد الخوارزمي والديلمي وغيرهم ، بعبارات مختلفة والمعنى واحد ، وهو أنّ عياعليه‌السلام أوّل من أسلم وآمن وصلّى مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وينقل رواية شريفة في آخر الباب ، من كتاب المناقب بالإسناد عن أبي زبير المكّي ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، أنقلها لكم إتماما للحجّة وإكمالا للفائدة

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : «إنّ الله تبارك وتعالى اصطفاني واختارني وجعلني رسولا ، وأنزل عليّ سيّد الكتب ، فقلت : إلهي وسيّدي ، إنّك أرسلت موسى إلى فرعون فسألك أن تجعل معه أخاه هارون وزيرا ، يشدّ به عضده ، ويصدّق به قوله وإنّي أسألك يا سيّدي وإلهي ، أن تجعل لي من أهلي وزيرا ، تشدّ به عضدي ، فاجعل لي عليّا وزيرا وأخا ، واجعل الشجاعة في قلبه ، وألبسه الهيبة على عدوّه ، وهو أول من آمن بي وصدّقني وأوّل من وحّد الله معي.

وإنّي سألت ذلك ربّي عزّ وجلّ ، فأعطانيه ؛ فهو سيّد الأوصياء ، اللحوق به سعادة ، والموت في طاعته شهادة ، واسمه في التوراة مقرون إلى اسمي ، وزوجته الصدّيقة الكبرى ابنتي. وابناه سيّدا شباب أهل الجنة ابناي ، وهو وهما والأئمة من بعدهم حجج الله على خلقه بعد النّبيين ، وهم أبواب العلم في أمّتي ، من تبعهم نجا من النار ، ومن اقتدى بهم هدي إلى صراط مستقيم ، لم يهب الله محبّتهم لعبد إلاّ أدخله الجنّة».

فهذا قليل من كثير ممّا نقله حملة الأخبار ، من علمائكم الكبار ، في هذا المضمار ؛ ولو نقلتها كلّها لطال بنا المجلس في موضوع واحد

٣٧٦

إلى النهار ، ولكن أكتفي بهذه النماذج التي ذكرتها لكي يعرف العلماء والحاضرون أنّ الإمام عليّعليه‌السلام كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ صغره وقبل أن يبعث.

وحينما بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة ، آمن به عليّعليه‌السلام ولازمه ولم يفارقه أبدا.

فهو أولى وأجلى لمصداق الآية :( وَالَّذِينَ مَعَهُ ) من الذي صاحب النبيّ وكان معه في سفر واحد.

شبهة على الموضوع وردّها

الحافظ : نحن كلّنا نقول بما تقولون ، ونقرّ بأنّ عليّا كرّم الله وجهه أوّل من آمن ، وأنّ أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة آمنوا بعده بمدة من الزمن ، ولكن إيمان اولئك يفرق عن إيمان عليّ بن أبي طالب ، إذ لا يحسب العقلاء إيمانه في ذلك الزمان فضيلة ، ويحسبون إيمان اولئك المتأخّرين عنه فضيلة!

لأنّ عليا كرم الله وجهه ، آمن وهو صبيّ لم يبلغ الحلم ، واولئك آمنوا وهم شيوخ كبار في كمال العقل والإدراك.

ومن الواضح أنّ إيمان شيخ محنّك ومجرّب ذي عقل وبصيرة أفضل من إيمان طفل لم يبلغ الحلم.

وأضف على هذا أنّ إيمان سيّدنا عليّ كان تقليدا وإيمانهم كان تحقيقيا ، وهو أفضل من الإيمان التقليدي.

قلت : إنّي أتعجّب من هذا الكلام ، وأنتم علماء القوم! أنا لا

٣٧٧

أنسبكم إلى اللجاج والعناد والتعصّب ، ولكن أقول : إنّكم تفوّهتم من غير تفكّر ، وتكلّمتم من غير تدبّر ، تبعا لأسلافكم الّذين قلّدوا بني أميّة وتبعوا الناصبين العداء للعترة الهادية!

والآن ، لكي يتّضح لكم الأمر ، أجيبوا على سؤالي :

هل إنّ علياعليه‌السلام حين آمن صبيا ، كان إيمانه بدعوة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم من عند نفسه؟!

الحافظ : أوّلا : لما ذا تنزعجون من طرح الشبهة وتتضجّرون من إيراد الإشكال ، فإذا لم نطرح ما يختلج في صدورنا من الشبهات ، ولا نستشكل على كلامكم ، فلن يصدق على مجلسنا اسم الحوار والمناظرة ؛ فقد اجتمعنا هنا لنعرف الحقّ ، وهذا يقتضي أن نطرح كلّ ما يكون في أذهاننا من الشبهات والإشكالات حول مذهبكم وعقائدكم ؛ فإن دفعتم الشبهات ورفعتم الإشكالات وأوضحتم الحقّ ، يلزم علينا أن نصدّقكم ونعتنق مذهبكم ، وإذا لم تتمكّنوا من ذلك فيلزم عليكم تصديق مذهبنا وترك مذهبكم.

ثانيا : وأما جواب سؤالكم ، أقول : من الواضح أنّ عليّا كرم الله وجهه إنّما آمن بدعوة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا من عند نفسه.

قلت : هل إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين دعا عليّاعليه‌السلام إلى الإيمان كان يعلم أن لا تكليف على الطفل الذي لم يبلغ الحلم أم لا؟!

إذا قلتم : ما كان يعلم! فقد نسبتم الجهل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لا يجوز ؛ لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدينة العلم ، ولا يخفى عليه شيء من الأحكام.

وإذا قلتم : إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعلم أن لا تكليف على الطفل ومع ذلك دعا علياعليه‌السلام وهو صبيّ إلى الإيمان بالله والإيمان برسالته ، فيلزم من

٣٧٨

قولكم إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام بعمل لغو وعبث ، والقول بهذا في حدّ الكفر بالله سبحانه!

لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤيّد بالعصمة ، ومسدّد بالحكمة من الله تعالى وهو بريء من اللغو والعبث ، وقد قال عزّ وجلّ في شأنه :

( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) (١) .

فضيلة سبق عليّعليه‌السلام إلى الإيمان

لقد ثبت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا عليّاعليه‌السلام إلى الإيمان ، فاستجاب وآمن بالله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّد العقلاء والحكماء ، ولا يصدر منه عمل اللغو والعبث ، فلا بدّ أنّه رأى عليّاعليه‌السلام أهلا وكفوا ، فدعاه الى الإيمان صبيّا.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على قابلية الإمام عليعليه‌السلام ولياقته وكماله وفضله وتميّزه ووفور عقله.

وصغر السنّ لا ينافي الكمال العقلي ، وبلوغ الحلم وحده لا يكون سبب التكليف ، فإنّ هناك من بلغ الحلم ولم يكلّف ـ لقصر عقله وسفهه ـ وبالعكس ، نجد من لم يبلغ الحلم ، لكنّ الله كلفه باعظم التكاليف ، كما قال سبحانه وتعالى في شأن يحيىعليه‌السلام :( وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) (٢) .

وقال تعالى حكاية عن عيسى بن مريم :( إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ

__________________

(١) سورة النجم ، الآية ٣ و ٤.

(٢) سورة مريم ، الآية ١٢.

٣٧٩

الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) (١) .

قال هذه الجملة ، وهو صبيّ في المهد ، فالحكم المأتيّ ليحيى إنّما كان تكليفا من الله تعالى ليحيىعليه‌السلام ، والنبوّة كذلك تكليف من عند الله عزّ وجلّ لعيسى بن مريمعليه‌السلام ، وهذان التكليفان لهذين الصبيّين ، دليل على عظمة شأنهما وكمالهما وكفايتهما وفضلهما ووفور عقلهما.

وإيمان الإمام عليّعليه‌السلام بدعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هو تكليف موجّه من هذا القبيل ، وهو على فضله وكماله أكبر دليل!

وقد أشار سيّد الشعراء إسماعيل الحميري ـ المتوفى سنة ١٧٩ هجرية ـ إلى هذه الفضيلة قائلا :

وصيّ محمد وأبو بنيه

ووارثه وفارسه الوفيّا

وقد اوتي الهدى والحكم طفلا

كيحيى يوم اوتيه صبيّا

كما كان الإمام عليّعليه‌السلام يشيد بهذه الفضيلة ويفتخر بها كما مرّ في أشعاره :

سبقتكم إلى الاسلام طفلا

صغيرا ما بلغت أوان حلمي(٢)

__________________

(١) سورة مريم ، الآية ٣٠.

(٢) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ٤ / ١٢٢ ، ط دار إحياء التراث أو الكتاب العربي : ومن الشعر المروي عنهعليه‌السلام في هذا المعنى الأبيات التي أوّلها :

محمّد النبيّ اخي وصهري

وحمزة سيّد الشهداء عمّي

ومن جملتها :

سبقتكم إلى الإسلام طرّا

غلاما ما بلغت أوان حلمي

«المترجم»

٣٨٠

وإذا كان إيمانه في الصغر لا يعدّ فضيلة ، فلما ذا كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينوّه به ويشير إليه؟! وما ذلك إلاّ ليسجل له فضيلة اخرى ، تضاف إلى فضائله الجمّة؟!

فقد روى الحافظ سليمان الحنفي في «ينابيع المودّة» الباب السادس والخمسين ، عن محبّ الدين الطبري المكّي في كتابه «ذخائر العقبى» بسنده عن عمر بن الخطّاب ، أنّه قال :

كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة وجماعة إذ ضرب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منكب عليّ فقال «يا عليّ! أنت أوّل المؤمنين إيمانا ، وأوّلهم إسلاما ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى».

وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عبّاس ، أنّه قال :

كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجرّاح وجماعة من الصحابة عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ ضرب على منكب عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فقال «أنت أوّل المسلمين إسلاما ، وأنت أوّل المؤمنين إيمانا ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، كذب يا عليّ من زعم أنّه يحبّني ويبغضك».

ورواه ابن الصبّاغ المالكي عن ابن عبّاس أيضا في الفصول المهمّة : ١٢٥ :

وروى الإمام أحمد بن شعيب بن سنان النسائي في «الخصائص» وموفّق بن أحمد الخطيب الخوارزمي في (المناقب) مختصرا ، وابن عساكر في تاريخه مختصرا ، وأخرجه المتّقي الهندي في كنز العمال : ٦ / ٣٩٥ ، وهذا نصّه :

من مسند عمر ، عن ابن عبّاس [قال :] قال عمر بن الخطّاب : كفّوا عن ذكر عليّ بن أبي طالب ، فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول

٣٨١

في عليّ ثلاث خصال ، لأن يكون لي واحدة منهنّ أحب إليّ ممّا طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجرّاح ونفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنبيّ متّكئ على عليّ بن أبي طالب ، حتّى ضرب بيده على منكبه ثم قال «أنت يا عليّ أوّل المؤمنين إيمانا ، وأوّلهم إسلاما ، أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، وكذب عليّ من زعم أنّه يحبّني ويبغضك».

وفي رواية ابن الصبّاغ المالكي أضاف «من أحبك فقد أحبّني ، ومن أحبّني أحبّه الله ، ومن أحبّه الله أدخله الجنّة ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، ومن أبغضني أبغضه الله تعالى وأدخله النار(١) ».

وروى الطبري في تاريخه عن محمد بن سعد بن أبي وقّاص ، قال : سألت أبي : هل إنّ أبا بكر أوّل من آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

فقال : لا ، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين رجلا ، ولكنّه كان أفضل منّا في الإسلام.

وذكر الطبري أيضا فقال : ولقد أسلم قبل عمر بن الخطّاب خمسة وأربعون رجلا وإحدى وعشرون امرأة ، ولكن أسبق الناس إسلاما وإيمانا فهو عليّ بن أبي طالب.

__________________

(١) روى الحافظ سليمان الحنفي في «ينابيع المودّة» الباب الثاني عشر ، عن الحمويني بسنده عن أبي رافع ، عن أبي ذرّ ، قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعلي «أنت أوّل من آمن بي ، وأنت أوّل من يصافحني يوم القيامة ، وأنت الصدّيق الأكبر ، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحقّ والباطل ، وأنت يعسوب المسلمين ، والمال يعسوب الكفّار».

«المترجم»

٣٨٢

ميزة إيمان عليّعليه‌السلام

ثمّ إنّ لإيمان عليّعليه‌السلام ميزة على إيمان غيره ، وهي أنّ إيمانهعليه‌السلام كان عن فطرة غير مسبوق بكفر أو شرك ، فإنّه بدأ حياته التكليفيّة بالإيمان ولم يشرك بالله سبحانه طرفة عين ، بينما الآخرون بدءوا بالكفر والشرك ثمّ آمنوا ، فكان إيمانهم مسبوقا بالكفر والشرك ، وإيمان الإمام عليعليه‌السلام كان عن فطرة ، وهو فضيلة عظيمة وميزة كريمة امتاز بها عن غيره.

لذا قال الحافظ أبو نعيم في كتابه «ما نزل من القرآن في عليّعليه‌السلام » والمير السيّد عليّ الهمداني في كتابه «مودّة القربى» نقلا عن ابن عبّاس أنّه قال : والله ما من عبد آمن بالله إلاّ وقد عبد الصنم ، إلاّ عليّ بن أبي طالب ، فإنّه آمن بالله من غير أن يعبد صنما.

وروى محمد بن يوسف الكنجي القرشي في «كفاية الطالب» الباب الرابع والعشرين ، بإسناده إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال «سبّاق الامم ثلاثة لم يشركوا بالله طرفة عين : عليّ بن أبي طالب ، وصاحب ياسين ، ومؤمن آل فرعون ؛ فهم الصدّيقون ، حبيب النجّار «مؤمن» أو صاحب ياسين ، وحزقيل مؤمن آل فرعون ، وعليّ بن أبي طالب وهو أفضلهم(١) ».

__________________

(١) وذكر ابن أبي الحديد رواية أبي جعفر الإسكافي بسنده عن ابن عبّاس ، قال :«السبّاق ثلاثة : سبق يوشع بن نون إلى موسى ، وسبق صاحب يس إلى عيسى ، وسبق عليّ بن أبي طالب الى محمّد عليه و:».

٣٨٣

وفي «نهج البلاغة» قال عليعليه‌السلام «فإنّي ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة».

وروى الحافظ أبو نعيم وابن أبي الحديد وغيرهما ، أنّ علياعليه‌السلام لم يكفر بالله طرفة عين.

وروى الإمام أحمد في المسند ، والحافظ سليمان الحنفي في «ينابيع المودّة» عن ابن عبّاس ، أنّه قال لزمعة بن خارجة : إنّه [عليّا] لم يعبد صنما ، ولم يشرب خمرا ، وكان أوّل الناس إسلاما.

وأخيرا أتوجّه إلى من يقول بأنّ إيمان الشيخين أفضل من إيمان عليّعليه‌السلام فأسأله : أما سمع الحديث النبوي الشريف الذي رواه كبار علماء العامّة ، منهم : ابن المغازلي في المناقب ، والإمام أحمد في المسند ، والخطيب الخوارزمي في المناقب ، والحافظ سليمان الحنفي في «ينابيع المودة» وغيرهم ، رووا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال «لو وزن إيمان علي وإيمان أمّتي لرجح إيمان علي على إيمان أمّتي إلى يوم القيامة».

وروى الإمام الثعلبي في تفسيره ، والخوارزمي في المناقب ، والمير السيّد عليّ الهمداني في المودّة السابعة من كتابه «مودّة القربى» عن عمر بن الخطّاب ، قال : أشهد أنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول «لو أنّ السموات السبع والأرضين السبع وضعن في كفّة ميزان ووضع إيمان

__________________

ثمّ يروي عن الشعبي ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّعليه‌السلام «هذا أوّل من آمن بي وصدّقني وصلّى معي».

شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٢٥ ط دار إحياء التراث العربي.

«المترجم»

٣٨٤

عليّ في كفّة ميزان لرجح إيمان علي(١) ».

وفي ذلك يقول سفيان بن مصعب الكوفي :

«أشهد بالله لقد قال لنا

محمد والقول منه ما خفى

لو أن إيمان جميع الخلق ممّن

سكن الأرض ومن حلّ السما

يجعل في كفّة ميزان لكي

يوفي بإيمان عليّ ما وفى»

عليّعليه‌السلام أفضل الأمّة

روى المير السيد عليّ الهمداني ، الفقيه الشافعي ، في كتابه «مودّة القربى» أخبارا متظافرة في أفضلية الإمام عليّعليه‌السلام على جميع الصحابة ، بل على جميع الأمّة.

قال في المودّة السابعة : عن ابن عبّاس ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

__________________

(١) لقد روى هذا الخبر والحديث عن عمر بن الخطّاب ، جمع من العلماء والمحدّثين من أهل السنّة ، منهم :

محب الدين الطبري في الرياض النضرة ٢ / ٢٢٦ ، وذكره في ذخائر العقبى ص ١٠٠ أيضا ، والمتّقي الحنفي في كنز العمّال ٦ / ١٥٦ نقله من «فردوس الأخبار» للديلمي ، عن ابن عمر.

ومنهم العلاّمة الكنجي القرشي الشافعي في كتابه «كفاية الطالب» الباب الثاني والستين في تخصيص عليّعليه‌السلام بمائة منقبة دون سائر الصحابة ، روى بسنده عن عمر بن الخطّاب ، وفي تعليقه قال : هذا حديث حسن ثابت ، رواه الجوهري في كتاب «فضائل علي عليه‌السلام » عن شيخ أهل الحديث الدارقطني ، وأخرجه محدّث الشام في تاريخه في ترجمة عليّ عليه‌السلام ، كما أخرجناه سواء.

ومنهم العلاّمة الصفوري الشافعي ، رواه في كتابه نزهة المجالس ٢ / ٢٤٠ ط مصر سنة ١٣٢٠ هجرية. «المترجم»

٣٨٥

«أفضل رجال العالمين في زماني هذا عليّعليه‌السلام (١) ».

__________________

(١) وفي المصدر نفسه ، في المودّة السابعة أيضا في الخبر الأوّل ، رواه عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام عن ابن عمر ، في خبر طويل عن سلمان ، قال في آخره : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له :. «. وإنّي أوصيت إلى عليّعليه‌السلام ، وهو أفضل من أتركه بعدي».

وروى أيضا في المودّة السابعة عن أنس ، قل : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنّ أخي ، ووزيري ، وخليفتي في أهلي ، وخير من أترك بعدي ، يقضي ديني ، وينجز موعدي ، عليّ بن أبي طالب».

وروى كثير من أعلام العامة خبرا بهذا المعنى ، منهم : العلامة الكنجي القرشي الشافعي في «كفاية الطالب» الباب الثاني والستين ، ص ١١٩ ، ط الغري سنة ١٣٥٦ ه‍ بسنده عن عطاء ، قال : سألت عائشة عن عليّ عليه‌السلام ، فقالت : ذلك خير البشر ، لا يشكّ فيه إلاّ كافر.

قال : هكذا ذكره الحافظ ابن عساكر في ترجمة عليّ عليه‌السلام في تاريخه في المجلّد الخمسين.

وخرّجه الكنجي الشافعي عن طرق عديدة في نفس الصفحة ؛ منهم : الإمام عليّ عليه‌السلام ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من لم يقل عليّ خير البشر فقد كفر».

وعن حذيفة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «عليّ خير البشر ، من أبى فقد كفر».

وعن جابر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر.

وخرّجه بهذا اللفظ ، الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» في ترجمة الإمام علي عليه‌السلام .

وخرّجه المناوي في «كنوز الحقائق» المطبوع بهامش «الجامع الصغير» للسيوطي ، ج ٢ / ٢٠ ـ ٢١ ، من سنن أبي يعلى ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ خير البشر من شكّ فيه كفر.

وخرّجه المتّقي في كنز العمال ٦ / ١٥٩ عن الإمام عليّ عليه‌السلام ، وعن ابن عبّاس ، وابن مسعود ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، فراجع.

والخير هنا بمعنى الأفضل.

«المترجم».

٣٨٦

وقال ابن أبي الحديد في مقدّمة شرح نهج البلاغة : ١ / ٩ : وأمّا نحن فنذهب إلى ما ذهب إليه شيوخنا البغداديّون ، من تفضيلهعليه‌السلام ـ أي : عليّ ـ وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الفضل ، وهل المراد به الأكثر ثوابا ، أو الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة ، وبيّنا أنّهعليه‌السلام أفضل على التفسيرين معا.

وقال في ١١ / ١١٩ : وقع بيدي بعد ذلك كتاب لشيخنا أبي جعفر الإسكافي ، ذكر فيه أنّ مذهب بشر بن المعتمر ، وأبي موسى ، وجعفر بن مبشّر ، وسائر قدماء البغداديين ، أنّ أفضل المسلمين عليّ بن أبي طالب ، ثمّ ابنه الحسن ، ثمّ ابنه الحسين ، ثمّ حمزة بن عبد المطّلب ، ثمّ جعفر بن أبي طالب إلخ.

وبعد نقله هذا القول ، وعدّه عقيدة المعتزلة ، ينظم فيه شعرا ، فيقول :

وخير خلق الله بعد المصطفى

أعظمهم يوم الفخار شرفا

السيّد المعظّم الوصي

بعد البتول المرتضى علي

وابناه ثمّ حمزة وجعفر

ثمّ عتيق بعدهم لا ينكر

الشيخ عبد السّلام : لو كنت تطالع أقوال العلماء في أفضلية أبي بكر (رض) ما كنت تتمسّك بغيره.

قلت : وأنتم إذا كنتم تتركون أقوال المتعصّبين وتأخذون بأقوال المنصفين من علمائكم الأعلام ، لرأيتم رأينا وتمسّكتم بقولنا في تفضيل الإمام عليّعليه‌السلام .

ولكي تعرف دلائل وبراهين الطرفين أدلّك على مصدر واحد كنموذج راجع : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٣ / ٢١٥ ـ

٣٨٧

٢٩٥ ، فإنّه ذكر في هذا الفصل من الكتاب كلام الجاحظ ، ودلائله على أفضلية صاحبكم ، أبي بكر ، وذكر ردّ أبي جعفر الإسكافي وهو من أفاضل علماء السنّة وكبار أعلام الأمّة وشيخ المعتزلة ، وذكر دلائله وبراهينه العقلية والنقلية في تفضيل الإمام عليّعليه‌السلام على غيره من الامّة.

ومن جملة كلامه ـ في صفحة ٢٧٥ ـ يقول أبو جعفر الإسكافي : إنّنا لا ننكر فضل الصحابة وسوابقهم ، ولسنا كالإمامية الّذين يحملهم الهوى على جحد الأمور المعلومة (لقد أصدر علينا حكما غيابيا ولو كنّا لأجبناه) قال : ولكنّنا ننكر تفضيل أحد من الصحابة على عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام انتهى.

فنستفيد من مجموع الأخبار والأحاديث وأقوال العلماء والمحدّثين ، أنّ علياعليه‌السلام لا يقاس به أحد من المسلمين. وأنّ مقامه أسمى وشأنه أعلى من الآخرين بمراتب ، فلا يمكن أن تقدّموهم عليه بنقل بعض الأحاديث الضعيفة السند أو الدلالة.

ثمّ لا ينكر أنّ علياعليه‌السلام هو أبو العترة وسيّد أهل البيتعليهم‌السلام ، ولا يقاس بأهل البيت أحد من الأمّة في الشأن والمرتبة ، فكيف بسيّدهم وعلمهم؟!

لقد روى المير السيد عليّ الهمداني الشافعي ، في المودّة السابعة من كتابه «مودّة القربى» عن أحمد بن محمد الكرزي البغدادي ، أنّه قال : سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : سألت أبي عن التفضيل.

فقال : أبو بكر وعمر وعثمان. ثمّ سكت.

٣٨٨

فقلت : يا أبة أين عليّ بن أبي طالب؟!

قال : هو من أهل البيت ، لا يقاس به هؤلاء!

وإذا نريد أن نفسّر كلام الإمام أحمد فنقول : يعني : أنّ علياعليه‌السلام لا يذكر في عداد الصحابة ، بل هو في مقام النبوّة والإمامة.

ونجد خبرا آخر في المودّة السابعة أيضا بهذا المعنى ، رواه عن أبي وائل ، عن ابن عمر ، قال : كنّا إذا عددنا أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلنا : أبو بكر وعمر وعثمان.

فقال رجل : يا أبا عبد الرحمن! فعليّ ما هو؟!

قال : عليّ من أهل البيت لا يقاس به أحد ، هو مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في درجته ، إنّ الله تعالى يقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) (١) .

ففاطمة مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في درجته وعليّ معهما(٢) .

__________________

(١) سورة الطور ، الآية ٢١.

(٢) لقد وردت أخبار كثيرة في أنّ أهل البيتعليهم‌السلام لا يقاس بهم أحد ، منها ما في «ذخائر العقبى» لمحبّ الدين الطبري ، ص ١٧ ، فإنّه قال تحت عنوان (إنّهم لا يقاس بهم أحد) قال : وعن أنص ، قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) «نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد».

وأخرج هذا الحديث أيضا عبيد الله الحنفي في كتاب «أرجح المطالب» ص ٣٣٠ ، غير إنّه قال : أخرجه ابن مردويه في «المناقب».

وفي نفس الصفحة قال : قال عليّعليه‌السلام على المنبر :

«نحن أهل بيت رسول الله لا يقاس بنا أحد».

أخرجه الديلمي أيضا في «فردوس الأخبار» وأخرجه عن الديلمي علي المتّقي الحنفي في كنز العمّال ٦ / ٢١٨.

وفي نهج البلاغة في آخر الخطبة التي تقع قبل الخطبة الشقشقية ، قال الإمام

٣٨٩

وكان هذا الأمر واضحا وضوح الشمس في الضحى ، وكان من المسلّمات ، ولذا نرى في المودّة السابعة أيضا خبرا بهذا المعنى ، رواه عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم يحضر المهاجرون والأنصار ـ كذا ـ «يا عليّ! لو أنّ أحدا عبد الله حق عبادته ، ثمّ شكّ فيك وأهل بيتك ، أنّكم أفضل الناس ، كان في النار!!» انتهى.

لمّا سمع أهل المجلس هذا الخبر استغفر أكثرهم الله ، وبالخصوص الحافظ محمد رشيد. استغفروا الله ، لأنّهم كانوا يظنّون أفضليّة الآخرين!

هذه نماذج من الأخبار الكثيرة في تفضيل الإمام عليعليه‌السلام على الصحابة والمسلمين عامة ، وأضف عليها الحديث النبوي الشريف الذي رواه علماء الفريقين في يوم الخندق ومعركة الأحزاب ، حينما قتل الإمام عليّعليه‌السلام بطل الأحزاب وقائدهم وحامل لوائهم عمرو بن عبد ود العامري وانهزم المشركون وانتصر المسلمون ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين».

فاذا كان عمل واحد من مولانا الإمام عليّعليه‌السلام هو أفضل من عبادة الجنّ والإنس ، فكيف بأعماله كلّها ، من الجهاد في سبيل الله ، وتحمّل الأذى في جنب الله ، وصلاته ، وصومه ، وإنفاقه الصدقات ،

__________________

عليّعليه‌السلام «لا يقاس بآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الأمّة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء القالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ...».

«المترجم»

٣٩٠

ورعايته الأرامل والأيتام في طول حياته المباركة؟!

فلا أرى أحدا مع ما ذكرناه ، ينكر تفضيل الإمام عليّعليه‌السلام على غيره ، إلاّ المعاند.

عليّعليه‌السلام أفضل بدليل المباهلة

قال تعالى :( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (١) .

اتّفق المفسّرون ، وأجمع المحدّثون ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امتثل أمر الله عزّ وجلّ في الآية الكريمة فأخذ معه الحسن والحسينعليهم‌السلام تطبيقا لأبنائنا ، وأخذ فاطمة الزّهراءعليها‌السلام تطبيقا لكلمة نسائنا ، وأخذ الإمام عليّاعليه‌السلام ، تطبيقا لكلمة أنفسنا.

ومن الواضح الذي لا يشكّ فيه إلاّ كافر ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّد الأوّلين والآخرين ، وخير الخلق ، وأفضل الخلائق ، وبحكم كلمة( أَنْفُسَنا ) حيث جعل الله تعالى عليّاعليه‌السلام في درجة نفس النبيّ ، فصار هو كالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفضل ، وأصبح خير الخلق ، وأفضل الخلائق(٢) .

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٦١.

(٢) لقد وردت أحاديث كثيرة عن طرق الشيعة والسنّة في أنّ علياعليه‌السلام كنفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونكتفي هنا بنماذج ممّا رواه علماء العامة

نقل الحافظ سليمان الحنفي في كتابه «ينابيع المودة» في الباب السابع ، قال : أخرج أحمد بن حنبل في المسند وفي المناقب ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال «لتنتهينّ يا بني وليعة

٣٩١

__________________

أو لأبعثنّ إليكم رجلا كنفسي ، يمضي فيكم بأمري ، يقتل المقاتلة ، ويسبي الذرّيّة. فالتفت إلى عليعليه‌السلام فأخذ بيده وقال : هو هذا. مرّتين».

قال الحافظ سليمان : أيضا أخرجه موفّق بن أحمد الخوارزمي المكّي بلفظه.

أقول : وأخرجه العلاّمة الكنجي الشافعي في «كفاية الطالب» الباب الحادي والسبعين ، وقال : نقله عن «خصائص عليّ عليه‌السلام » لإمام أهل الجرح والتعديل الحافظ : النسائي ، وهو بسنده عن أبي ذرّ إلى آخره.

ونقل الحافظ سليمان أيضا في نفس الباب والمصدر ، قال : أخرج أحمد في «المسند» عن عبد الله بن حنطب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوفد ثقيف حين جاءوه : «لتسلمنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا كنفسي ليضربنّ أعناقكم ، وليسبينّ ذراريكم ، وليأخذنّ أموالكم ؛ فالتفت إلى عليّ وأخذ بيده فقال : هو هذا مرتين».

وذكر الحافظ سليمان في آخر الباب خبرا ننقله بعينه إتماما للفائدة ، قال :

وفي «المناقب» عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : لقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في عليّ خصالا لو كانت واحدة منها في رجل اكتفى بها فضلا وشرفا :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [«من كنت مولاه فعليّ مولاه.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ منّي كهارون من موسى.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ منّي وأنا منه.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي منّي كنفسي ، طاعته طاعتي ، ومعصيته معصيتي.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حرب عليّ حرب الله ، وسلم عليّ سلم الله.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وليّ عليّ وليّ الله ، وعدوّ عليّ عدوّ الله.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ حجة الله على عباده.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حبّ عليّ إيمان ، وبغضه كفر.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حزب عليّ حزب الله ، وحزب أعدائه حزب الشيطان.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ مع الحقّ ، والحقّ معه ، لا يفترقان.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي قسيم الجنّة والنار.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من فارق عليّا فقد فارقني ، ومن فارقني فقد فارق الله.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : شيعة عليّ هم الفائزون يوم القيامة».]

انتهى كلامه ، رفع في الخلد مقامه.

«المترجم»

٣٩٢

فأذعنوا واعتقدوا أنّ مصداق( وَالَّذِينَ مَعَهُ ) هو سيّدنا ومولانا عليّعليه‌السلام الذي كان من أوّل عمره ، ومن أوّل البعثة مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدعه في الملمّات ، وما تركه في الهجمات والطامّات ، بل كان ناصره وحاميه ، يقيه بنفسه ، ويدافع عنه بسيفه ، ويفديه بروحه.

حتّى إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فارقت روحه الدنيا ورأسه في حجر الإمام عليّعليه‌السلام كما قال في خطبة له في «نهج البلاغة» :

ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّي لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قطّ ، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال ، وتتأخّر الأقدام ، نجدة أكرمني الله بها.

ولقد قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّ رأسه لعلى صدري ، ولقد سالت نفسه في كفّي فأمررتها على وجهي ، ولقد ولّيت غسله والملائكة أعواني حتّى واريناه في ضريحه ، فمن ذا أحقّ به منّي حيّا وميّتا؟!

ولمّا وصلنا إلى نهاية خطبة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام صار وقت صلاة العشاء فقطعنا كلامنا وبعد ما أدّوا الصلاة شربوا الشاي وتناولوا الفواكه والحلوى ، ولمّا انتهوا بدأت أنا بالكلام فقلت : لقائل أن يقول : إذا كان عليعليه‌السلام مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ مواقفه ، فلما ذا لم يرافقه في الهجرة من مكّة إلى المدينة؟!

أقول : لأنّ علياعليه‌السلام قام في مكّة بأعمال مهمّة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد ألقاها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عاتقه وأمره أن ينفّذها ، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعتمد على أحد يقوم مقامه ويقضي مهامّه غير الإمام عليّعليه‌السلام ، لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما نعلم ـ كان أمين أهل مكّة ، حتّى إنّ الكفار والمشركين كانوا يستودعون عنده أموالهم ولا يعتمدون على غيره في استيداع

٣٩٣

أماناتهم وحفظها ، فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف بالصادق الأمين.

فخلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخاه وابن عمّه عليّاعليه‌السلام في مكّة ليردّ الودائع والأمانات إلى أهلها ، وبعد ذلك حمل معه بنت رسول الله وحبيبته فاطمة الزهراء التي كان يعزّ فراقها على أبيها ، وأخذ معه أمّه فاطمة بنت أسد وابنة عمّه فاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب وغيرهن فأوصلهنّ بسلام إلى المدينة المنوّرة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فضيلة المبيت على فراش النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وإضافة إلى ما ذكرنا ، فإنّ عليّاعليه‌السلام إذا لم يدرك فضيلة مرافقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الهجرة ، فإنّهعليه‌السلام أدرك مقاما أسمى بالاستقلال لا بالتبع ، وهو مبيته على فراش النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلتبس الأمر على الأعداء ، فيخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بينهم بسلام.

فإذا كانت آية الغار تعدّ فضيلة لأبي بكر بأنّ حسبته ثاني اثنين ، فقد جعلته تابعا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير مستقلّ في كسب الفضيلة ، وإنّما حصّلها تبعا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بينما الإمام عليعليه‌السلام حينما بات على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزلت في شأنه آية كريمة سجّلت له فضيلة مستقلّة تعدّ من أعظم مناقبه ، وهي قوله تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ) (١) .

وقد ذكر جمع كثير من كبار علمائكم الأعلام والمحدّثين الكرام ،

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٠٧.

٣٩٤

خبرا هامّا بهذه المناسبة ، وإن كانت ألفاظهم مختلفة ولكنّها متقاربة والمعنى واحد ، ونحن ننقله من كتاب «ينابيع المودة» للحافظ سليمان الحنفي ، الباب الحادي والعشرين ، وهو ينقله عن الثعلبي وغيره.

قال الحافظ سليمان : عن الثعلبي في تفسيره ، وابن عقبة في ملحمته ، وأبو السعادات في فضائل العترة الطاهرة ، والغزّالي في إحياء العلوم ، بأسانيدهم ، عن ابن عبّاس وعن أبي رافع وعن هند بن أبي هالة ربيب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أمّه خديجة أمّ المؤمنين رضي الله عنها ـ أنّهم قالوا :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل : إنّي آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه ، فأيّكما يؤثر أخاه عمره ، فكلاهما كرها الموت ، فأوحى الله إليهما : إنّي آخيت بين عليّ وليّي وبين محمّد نبيّي ، فآثر عليّ حياته للنبيّ ، فرقد على فراش النبيّ يقيه بمهجته. اهبطا إلى الأرض واحفظاه من عدوّه.

فهبطا ، فجلس جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، وجعل جبرائيل يقول : بخ بخ ، من مثلك يا ابن أبي طالب ، والله عزّ وجلّ يباهي بك الملائكة!»

فأنزل الله تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي ) .

أقول : الّذين نقلوا هذا الخبر بألفاظ متقاربة وبمعنى واحد ، جمع كبير من أعلام العامة ، منهم : ابن سبع المغربي في كتابه «شفاء الصدور» والطبراني في الجامع الأوسط والكبير ، وابن الأثير في أسد الغابة ٤ / ٢٥ ، وابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة : ٣٣ ، والفاضل النيسابوري ، والإمام الفخر الرازي ، وجلال الدين السيوطي ، في

٣٩٥

تفاسيرهم للآية الكريمة ، والحافظ أبو نعيم في كتابه «ما نزل من القرآن في عليّ» والخطيب الخوارزمي في «المناقب». وشيخ الإسلام الحمويني في (الفرائد) والعلاّمة الكنجي القرشي الشافعي في «كفاية الطالب» الباب الثاني والستّين ، والإمام أحمد في «المسند» ومحمد بن جرير بطرق متعدّدة ، وابن هشام في «السيرة النبوية» والحافظ محدّث الشام في «الأربعين الطوال» والإمام الغزالي في إحياء العلوم ٣ / ٢٢٣ ، وأبو السعادات في «فضائل العترة الطاهرة» وسبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص : ٢١ ، وغير هؤلاء الأعلام.

ونقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٦٢ ـ ط دار إحياء التراث العربي ـ قول الشيخ أبي جعفر الإسكافي ، قال : وقد روى المفسّرون كلّهم أن قول الله تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) أنزلت في عليّعليه‌السلام ليلة المبيت على الفراش.

فأرجو من الحاضرين ، وخاصّة العلماء الأفاضل ، أن يفكّروا في الآيتين بعيدا عن الانحياز إلى إحدى الجهتين ، فتدبّروا واستدلّوا ، وأنصفوا ، أيّهما أفضل وأكمل ، صحبة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومرافقته أيّاما قليلة في سفر الهجرة ، أم مبيت الإمام عليعليه‌السلام على فراش النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقتحامه خطر الموت ، وتحمّله أذى المشركين ، ورميه بالحجارة طيلة الليل ، وهو يتضوّر ولا يكشف عن وجهه ، ليسلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كيد الأعداء وهجومهم ، ومباهاة الله سبحانه ملائكته بمفاداة عليّعليه‌السلام وإيثاره ، ثمّ نزول آية مستقلّة في شأنه ، أنصفوا أيّهما أفضل؟؟

ولا يخفى أنّ بعض علمائكم الأعلام أنصفوا فأعلنوا تفضيل الإمام عليّعليه‌السلام على غيره ، وفضّلوا مبيته على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٩٦

على صحبة أبي بكر ومرافقته إيّاه في الهجرة ، منهم : الإمام أبو جعفر الإسكافي ـ وهو من أبرز وأكبر علماء ومشايخ أهل السنّة المعتزلة ـ في ردّه على أبي عثمان الجاحظ وكتابه المعروف بالعثمانية.

لقد تصدّى الإسكافي لنقضه بالبراهين العقلية والأدلّة النقلية ، وأثبت تفضيل الإمام عليّعليه‌السلام على أبي بكر ، وفضّل المبيت على الصحبة ، ونقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢١٥ ـ ٢٩٥ ، فراجعه ، فإنّه مفيد جدّا.

وممّا يذكره الشيخ أبو جعفر في مقاله ، قال :

قال علماء المسلمين : «إنّ فضيلة عليّعليه‌السلام تلك الليلة لا نعلم أحدا من البشر نال مثلها» شرح ابن أبي الحديد ١٣ : ٢٦٠.

وبعد كلام طويل ـ وكلّه مفيد ـ قال في صفحة ٢٦٦ و ٢٦٧ : قد بيّنا فضيلة المبيت على الفراش على فضيلة الصحبة في الغار بما هو واضح لمن أنصف ، ونزيد هاهنا تأكيدا بما لم نذكره فيما تقدّم فنقول : إنّ فضيلة المبيت على الفراش على الصحبة في الغار لوجهين :

أحدهما : إنّ علياعليه‌السلام قد كان أنس بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحصل له بمصاحبته قديما أنس عظيم ، وإلف شديد ، فلمّا فارقه عدم ذلك الأنس ، وحصل به أبو بكر ، فكان ما يجده عليّعليه‌السلام من الوحشة وألم الفرقة موجبا زيادة ثوابه ، لأنّ الثواب على قدر المشقّة.

وثانيهما : إنّ أبا بكر كان يؤثر الخروج من مكّة ، وقد كان خرج من قبل فردا فازداد كراهيّته للمقام ، فلمّا خرج مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وافق ذلك هوى قلبه ومحبوب نفسه ، فلم يكن له من الفضيلة ما يوازي فضيلة من احتمل المشقّة العظيمة وعرّض نفسه لوقع السيوف ورأسه

٣٩٧

لرضخ الحجارة ، لأنّه على قدر سهولة العبادة يكون نقصان الثواب.

وعالم آخر من علمائكم وهو ابن سبع المغربي ، صاحب كتاب «شفاء الصدور» يقول فيه وهو يبيّن شجاعة سيّدنا الإمام عليعليه‌السلام : إنّ علماء العرب أجمعوا على أنّ نوم عليّعليه‌السلام على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من خروجه معه ، وذلك أنّه وطّن نفسه على مفاداته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآثر حياته ، وأظهر شجاعته بين أقرانه. انتهى.

فالموضوع واضح جدّا بحيث لا ينكره إلاّ من فقد عقله بالتعصّب الذي يعمي ويصمّ عن فهم الحقّ وإدراك الحقيقة!

أكتفي بهذا المقدار في إطار البحث حول جملة( وَالَّذِينَ مَعَهُ ) وأمّا جملة( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) فقد قال الشيخ عبد السّلام : إنّ المراد منها والمقصود بها هو الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب.

فأقول : نحن لا نقبل الكلام بمجرّد الادّعاء ، من غير دليل. والأولى أن نطبّق العبارة على الشخص المشار إليه ، فندرس سيرته وحالاته ونعرف صفاته وأخلاقه ، فإذا تطابقت مع الآية الكريمة ، فحينئذ نسلّم ، وإذا لم تتطابق ، فنردّ ادّعاءكم وكلامكم ، ونثبت قولنا ورأينا بالدليل والبرهان.

فلنضع الجملة على طاولة التحليل والتحقيق فنقول : الشّدة تظهر في مجالين :

١ ـ مجال المناظرات العلمية والبحوث الدينيّة مع الخصوم.

٢ ـ مجال الجهاد الحربي والمناورات القتالية مع الأعداء.

أمّا في المجال العلمي فلم يذكر التاريخ لعمر بن الخطّاب مناظرة علمية ومحاورة دينية تغلّب فيها على الخصوم ومناوئي الإسلام.

٣٩٨

وإذا كنتم تعرفون له تاريخا وموقفا مشرّفا في هذا المجال فبيّنوه حتى نعرف!

ولكنّ علياعليه‌السلام يعترف له جميع العلماء وكلّ المؤرخين بأنّه كان حلال المشكلات الدينية والمعضلات العلمية.

وهو الوحيد في عصره الذي كان قادرا على ردّ شبهات اليهود والنصارى مع كلّ التحريفات التي جرت على أيدي الامويّين والبكريّين الخونة على تاريخ الإسلام ـ كما يصرّح بها علماؤكم في كتب الجرح والتعديل ـ مع ذلك ما تمكّنوا من إخفاء هذه الحقائق الناصعة ، والمناقب السّاطعة ، والأنوار العلمية اللامعة ، التي أضاءت تاريخ الإسلام مدى الزمان

وخاصة في عصر الخلفاء الّذين سبقوا الإمام عليّاعليه‌السلام ، فقد كان علماء اليهود والنصارى وسائر الأديان ، يأتون إلى المدينة ويسألونهم مسائل مشكلة ويوردون شبهات مضلّة ، ولم يكن لهم بدّ من أن يرجعوا إلى مولانا وسيّدنا عليّعليه‌السلام لأنّه باب علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيردّ شبهاتهم ويجيب عن مسائلهم ، وقد أسلم كثير من أولئك العلماء كما نجده مسطورا في التاريخ.

والجدير بالذكر ، أنّ الخلفاء الثلاثة الّذين سبقوا الامام عليّاعليه‌السلام كلّهم اعترفوا وأقرّوا له بتفوّقه العلمي وعجزهم وجهلهم أمام علماء الأديان.

وقد ذكر بعض المحقّقين من أعلامكم عن أبي بكر أنّه قال :

أقيلوني أقيلوني! فلست بخيركم وعليّ فيكم!

وأمّا عمر بن الخطّاب فقد قال أكثر من سبعين مرّة : لو لا عليّ

٣٩٩

لهلك عمر. وقال : لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن.

وذلك لمّا كان يرى من عليّعليه‌السلام حلّ المعضلات والحكم في القضايا المشتبهات التي كان يحار في حلّها وحكمها ، عمر وحاشيته وكلّ الصحابة ، وقد ذكر التاريخ كثيرا منها في كتبكم ولكن لا مجال لذكرها ، ولا منكر لها!! فالأفضل أن يدور بحثنا حول الأهمّ فالأهمّ.

النّواب : لا أرى موضوعا أهمّ من هذا ، فلو سمحتم أرجو أن تذكروا لنا بعض الكتب المعتبرة عندنا التي نقلت وذكرت ما نقلتم من قول الخليفة عمر الفاروق ، حتى نعرف الحقّ والواقع.

قلت : نعم ، إنّ أكثر علمائكم نقلوا هذه العبارات أو ما بمعناها وإن اختلف اللفظ ، وسأذكر لكم بعضهم حسب ما يحضر في ذهني وذاكرتي.

مصادر قول عمر

١ ـ ابن حجر العسقلاني ، في تهذيب التهذيب / ٣٣٧ ط حيدرآباد ـ الدّكن.

٢ ـ ابن حجر العسقلاني ـ أيضا ـ في الإصابة ٢ / ٥٠٩ ط مصر.

٣ ـ ابن قتيبة ـ المتوفى سنة ٢٧٦ هجرية ـ في تأويل مختلف الحديث : ٢٠١ و ٢٠٢.

٤ ـ ابن حجر المكي الهيتمي ، في الصواعق : ٧٨.

٥ ـ أحمد أفندي ، في هداية المرتاب : ١٤٦ و ١٥٢.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793

794

795

796

797

798

799

800

801

802

803

804

805

806

807

808

809

810

811

812

813

814

815

816

817

818

819

820

821

822

823

824

825

826

827

828

829

830

831

832

833

834

835

836

837

838

839

840

841

842

843

844

845

846

847

848

849

850

851

852

853

854

855

856

857

858

859

860

861

862

863

864

865

866

867

868

869

870

871

872

873

874

875

876

877

878

879

880

881

882

883

884

885

886

887

888

889

890

891

892

893

894

895

896

897

898

899

900

901

902

903

904

905

906

907

908

909

910

911

912

913

914

915

916

917

918

919

920

921

922

923

924

925

926

927

928

929

930

931

932

933

934

935

936

937

938

939

940

941

942

943

944

945

946

947

948

949

950

951

952

953

954

955

956

957

958

959

960

961

962

963

964

965

966

967

968

969

970

971

972

973

974

975

976

977

978

979

980

981

982

983

984

985

986

987

988

989

990

991

992

993

994

995

996

997

998

999

1000

1001

1002

1003

1004

1005

1006

1007

1008

1009

1010

1011

1012

1013

1014

1015

1016

1017

1018

1019

1020

1021

1022

1023

1024

1025

1026

1027

1028

1029

1030

1031

1032

1033

1034

1035

1036

1037

1038

1039

1040

1041

1042

1043

1044

1045

1046

1047

1048

1049

1050

1051

1052

1053

1054

1055

1056

1057

1058

1059

1060

1061

1062

1063

1064

1065

1066

1067

1068

1069

1070

1071

1072

1073

1074

1075

1076

1077

1078

1079

1080

1081

1082

1083

1084

1085

1086

1087

1088

1089

1090

1091

1092

1093

1094

1095

1096

1097

1098

1099

1100

1101

1102

1103

1104

1105

1106

1107

1108

1109

1110

1111

1112

1113

1114

1115

1116

1117

1118

1119

1120

1121

1122

1123

1124

1125

1126

1127

1128

1129

1130

1131

1132

1133

1134

1135

1136

1137

1138

1139

1140

1141

1142

1143

1144

1145

1146

1147

1148

1149

1150

1151

1152

1153

1154

1155

1156

1157

1158

1159

1160

1161

1162

1163

1164

1165

1166

1167

1168

1169

1170

1171

1172

1173

1174

1175

1176

1177

1178

1179

1180

1181

1182

1183

1184

1185

1186

1187

1188

1189

1190

1191

1192

1193

1194

1195

1196

1197

1198

1199

1200

1201

1202

1203

1204

1205