ليالي بيشاور

ليالي بيشاور3%

ليالي بيشاور مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 1205

ليالي بيشاور
  • البداية
  • السابق
  • 1205 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 242290 / تحميل: 4166
الحجم الحجم الحجم
ليالي بيشاور

ليالي بيشاور

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

والآن ، وبعد سرد هذه الحوادث الفجيعة والوقائع الفظيعة ، بقي عليكم ، إمّا أن تردّوا وتكذّبوا كلّ أعلامكم وكبار علمائكم من أصحاب الصحاح والمسانيد والتواريخ والتفاسير وغيرهم الّذين ذكروا هذه الحوادث ونقلوا تلك الوقائع.

وإمّا أن تذعنوا بأنّ عثمان لا تشمله الآية الكريمة ، ولا تنطبق عليه جملة( رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) فقد كان فظّا غليظا ، وصعبا قاسيا ، شديدا على المؤمنين ، ورءوفا رحيما شفيقا بالفاسقين والمنافقين!!

الحافظ : لقد ثبت عندنا وعند كثير من العلماء الأعلام : أنّ أبا ذرّرحمه‌الله ، هو الذي اختار المقام في الربذة من غير إجبار ، بل أحبّ أن يجتنب الأحداث ، فسافر إلى مسقط رأسه الربذة.

قلت : هذا قول بعض المتأخّرين من علمائكم المتعصّبين ، وهو قول اجتهادي من غير دليل وبدون أيّ مستند تاريخي(١) ، وإلا فكبار علمائكم ذكروا أنّه أبعد إلى الربذة بالقهر والجبر ، حتّى كاد أن يكون هذا الخبر من المسلّمات غير القابلة للنّقاش.

وكنموذج ، أنقل هذا الخبر الذي رواه الإمام أحمد في المسند ٥ / ١٥٦ ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ٣ / ٥٧ ، قال : روى الواقدي ، عن مالك بن أبي الرجال ، عن موسى بن ميسرة : أنّ أبا الأسود الدؤلي قال : كنت أحبّ لقاء أبي ذرّ لأسأله عن سبب خروجه ، فنزلت الربذة ، فقلت له : ألا تخبرني؟ أخرجت من المدينة

__________________

(١) أوّل من قال به هو قاضي القضاة عبد الجبّار نقلا عن الشيخ أبي علي ، كما رواه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج ٣ / ٥٢.

«المترجم»

٤٦١

طائعا أم أخرجت مكرها؟

فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين ، أغني عنهم ، فأخرجت إلى مدينة الرسولعليه‌السلام فقلت : أصحابي ودار هجرتي ، فاخرجت منها إلى ما ترى!

[ثمّ قال : بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد ، إذ مرّ بي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضربني برجله وقال «لا أراك نائما في المسجد!

فقلت : بأبي أنت وأمّي! غلبتني عيني ، فنمت فيه.

فقال : كيف تصنع إذا أخرجوك منه؟!

فقلت : إذن ألحق بالشام ، فإنّها أرض مقدّسة ، وأرض بقية الإسلام ، وأرض الجهاد.

فقال : فكيف تصنع إذا أخرجت منها؟!

فقلت : أرجع إلى المسجد.

قال : فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟!

قلت : آخذ سيفي فأضرب به.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا أدلّك على خير من ذلك ، انسق معهم حيث ساقوك ، وتسمع وتطيع ؛ فسمعت وأطعت ، وأنا أسمع واطيع ، والله ليلقينّ الله عثمان وهو آثم في جنبي».]

وكان يقول بالربذة : ما ترك الحقّ لي صديقا ، ردّني عثمان بعد الهجرة أعرابيا!

عليّعليه‌السلام مصداق( رُحَماءُ بَيْنَهُمْ )

كلّ ما ذكرناه كان ردّا على تأويل الشيخ عبد السلام لجملة

٤٦٢

( رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) على عثمان ، وقد أثبتنا خلافه.

واعتقادنا أنّ الذي يكون من أجلى مصاديق هذه الجملة هو الإمام عليّعليه‌السلام ، إذ حينما بويع بالخلافة وتسلّم الحكم ، عزل كلّ من ظلم الناس وجار على الضعفاء في حكومة عثمان.

وقد أشار عليه بعض الصحابة أن يترك الامور على حالها ويقوّي أركان حكومته ، فإذا استتبّ له الأمر وتمكّن من الرقاب بدأ بعزلهم واحدا واحدا ، فأجابه الإمام : والله لا أداهن في ديني ، ولا اعطي الرياء في أمري.

ولمّا أشار عليه ابن عبّاس في معاوية فقال : ولّه شهرا واعزله دهرا.

قالعليه‌السلام : والله لا أطلب النصر بالجور ، فليس لي عند الله عذر إن تركت معاوية ساعة يظلم الناس.

وجاءه طلحة والزبير يطلبان حكومة مصر والعراق ، فلو لبّى طلبهما لما خرجا عليه وما كانت فتنة البصرة ومعركة الجمل ، ولكنّه هيهات أن يغلب على أمره ، فإنّه أبى أن ينصب للولايات إلاّ العدول الكفوءين من المؤمنين ممّن امتحنهم الله عزّ وجلّ ونجحوا في الأحداث والفتن التي عاصروها ، ولم يميلوا عن طريق الحقّ ، ولم تلههم الدنيا بزخرفها ، ولم يكنزوا الذهب والفضّة ، ولم يجمعوا أموال المسلمين المحرومين إلى أموالهم!

ولقد حورب عثمان وحصر ، على أن يعزل بعض ولاته وعمّاله فلم يجب إلى ذلك ، فكيف يفتتح الإمام عليّعليه‌السلام أمره بهذه الدنيّة ويداري الأشخاص بالولايات ، على أن يكون خليفة بالظاهر ، وليس

٤٦٣

له مراقبة امورهم والنظر في أعمالهم؟!!

والجدير بالذكر ، أنّنا نرى بعض الناس الّذين ينظرون إلى الامور على ظواهرها ولا يفكّرون في حقائقها ، ولا يدرسون الوقائع دراسة تعمّق وإمعان ، فيقيسونها بمقياس الدنيا لا الدين ، ويزنوها بمعيار الشياطين والمغوين ، لا المعيار الذي عيّنه ربّ العالمين ، فيستشكلون على سياسة أمير المؤمنينعليه‌السلام !

ولكن لو تعمّقوا وأنصفوا ، لأذعنوا أنّ عليّاعليه‌السلام كان يريد إدارة البلاد والعباد بالسياسة الدينية والطريقة الإلهيّة ، فهو لم يطلب الحكم إلاّ ليقيم الحقّ ويدحض الباطل ، ويقيم حدود الله سبحانه على القويّ والضعيف ، فيأخذ حقوق الضعفاء المحرومين من الأقوياء الظالمين.

فالراعي والرعيّة والرئيس والمرءوس عنده سواء ، والأصل عنده رضا الله عزّ وجلّ لا رضا الناس ، فلم تكن قاعدته في الحكم قاعدة غيره من الحكّام والخلفاء ، إذ جعلوا رضا الناس واستمالة قلوب الرؤساء أصلا لحكوماتهم فطلبوا النصر بالجور.

فكان عليّعليه‌السلام رحيما بالضعفاء ، طالبا لحقوق المحرومين ، مواسيا للمساكين ، رءوفا بالفقراء ، عطوفا على الأرامل والأيتام ، فكان يعرف بأبي الأرامل والأيتام ، وصاحب المساكين.

وروي المحدّثون والمؤرّخون : أنّه نظر الامام عليّعليه‌السلام الى امرأة على كتفها قربة ماء ، فأخذ منها القربة فحملها الى موضعها ، وسألها عن حالها فقالت : بعث عليّ بن أبي طالب زوجي الى بعض الثغور فقتل ، وترك صبيانا يتامى ، وليس عندي شيء ، فقد ألجأتني الضرورة الى خدمة الناس ، فانصرف الإمامعليه‌السلام وبات ليلته قلقا ، فلمّا أصبح

٤٦٤

حمل زنبيلا فيه طعام ، فقال بعضهم : أعطني أحمله عنك ، فقال : من يحمل وزري عنّي يوم القيامة؟ فأتى وقرع الباب فقالت : من هذا؟ قال : أنا العبد الذي حمل معك القربة ، فافتحي فإنّ معي شيئا للصبيان ، فقالت : رضي الله عنك وحكم بيني وبين عليّ بن أبي طالب ، فدخل وقال : إنّي احببت اكتساب الثواب ، فاختاري بين أن تعجني وتخبزي وبين أن تعلّلي الصبيان لأخبز أنا ، فقالت : أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر ، ولكن شأنك والصبيان ، فعلّلهم حتّى أفرغ من الخبز ، قال : فعمدت الى الدقيق فعجنته ، وعمد عليّعليه‌السلام الى اللحم فطبخه ، وجعل يلقّم الصبيان من اللّحم والتمر وغيره.

فرأته امرأة تعرفه فقالت لأم الصبيان : ويحك هذا أمير المؤمنين

فكان رحيما ورءوفا برعاياه حتى أهل الذمّة منهم ، فإنّه كان يوما على المنبر في مسجد الكوفة فسمع بأنّ بسر بن أرطاة هاجم بعض البلاد التي كانت تحت حكومته ، فروّع الناس وأرعبهم وأخذ سوار امرأة معاهدة ذمّيّة من يدها.

فبكي عليّعليه‌السلام من هذا الخبر وقال : لو أنّ امرأ مات من هذا الخبر أسفا ما كان ملوما ، بل كان به جديرا.

وكانعليه‌السلام رحيما بعدوّه وصديقه ، فإنّ عثمان على ما كان عليه من سوء التصرّف وسوء السيرة معه حتّى إنّه ضرب الإمامعليه‌السلام بالسوط ـ كما رواه ابن أبي الحديد عن الزبير بن بكّار ، في شرح النهج ٩ / ١٦ ـ مع كلّ ذلك فقد ذكر المؤرّخون ـ منهم : ابن أبي الحديد في شرح النهج ٢ / ١٤٨ ـ أنّه : لما منع عثمان الماء واشتدّ الحصار عليه ، فغضب

٤٦٥

عليّعليه‌السلام من ذلك غضبا شديدا ، وقال لطلحة : أدخلوا عليه الروايا. فكره طلحة ذلك وساءه ، فلم يزل عليّعليه‌السلام ، حتّى أدخل الماء إليه.

ونقل أيضا في صفحة ١٥٣ عن أبي جعفر ـ الطبري ، صاحب التاريخ ـ قال : فحالوا بين عثمان وبين الناس ، ومنعوه كلّ شيء حتّى الماء ، فأرسل عثمان سرّا إلى عليّعليه‌السلام وإلى أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم قد منعونا الماء ، فإنّ قدرتم أن ترسلوا إلينا ماء فافعلوا.

فجاء عليّعليه‌السلام في الغلس ، فوقفعليه‌السلام على الناس ، فوعظهم وقال : أيّها الناس! إنّ الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين ، إنّ فارس والروم لتأسر فتطعم وتسقي ، فالله الله! لا تقطعوا الماء عن الرجل.

فأغلظوا له وقالوا : لا نعم ولا نعمت عين.

فلمّا رأى منهم الجدّ نزع عمامته عن رأسه ورمى بها إلى دار عثمان يعلمه أنّه قد نهض ، وعاد إلى آخره.

مقايسة بين عليعليه‌السلام وعثمان

لقد سبق أن ذكرنا عطايا عثمان لأقاربه ورهطه ، أمثال أبي سفيان والحكم بن أبي العاص وابنه مروان وغيرهم ، فكان يخصّص أموال المسلمين من بيت المال بهؤلاء ونظرائهم ، ويمنعها عن أهلها ، أمثال أبي ذرّ وعبد الله بن مسعود وغيرهما.

وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ٩ / ١٦ : وروى الزبير بن بكّار عن الزهري ، قال : لمّا أتي عمر بجواهر كسرى ، وضع في المسجد فطلعت عليه الشمس فصار كالجمر ، فقال لخازن بيت المال : ويحك!

٤٦٦

أرحني من هذا ، واقسمه بين المسلمين ، فإنّ نفسي تحدّثني أنّه سيكون في هذا بلاء وفتنة بين الناس.

فقال : يا أمير المؤمنين ، إن قسّمته بين المسلمين لم يسعهم وليس أحد يشتريه ، لأنّ ثمنه عظيم ، ولكن ندعه إلى قابل ، فعسى الله أن يفتح على المسلمين بمال فيشتريه منهم من يشتريه.

قال : ارفعه فأدخله بيت المال.

وقتل عمر وهو بحاله ، فأخذه عثمان لمّا ولي فحلّى به بناته!

هذا ، وانظروا إلى الخبر الذي نقله ابن أبي الحديد في شرح النهج ١١ / ٢٥٣ ، قال : سأل معاوية عقيلا عن قصّة الحديدة المحماة.

قال [عقيل] : نعم ؛ أقويت وأصابتني مخمصة شديدة ، فسألته فلم تند صفاته ، فجمعت صبياني وجئته بهم ، والبؤس والضرّ ظاهران عليهم ؛ فقال : ائتني عشية لأدفع إليك شيئا.

فجئته يقودني أحد ولدي ، فأمره بالتنحّي ، ثمّ قال : ألا فدونك ، فأهويت ـ حريصا قد غلبني الجشع ، أظنّها صرّة ـ فوضعت يدي على حديدة تلتهب نارا ، فلما قبضتها نبذتها ، وخرت كما يخور الثور تحت يد جازره.

فقال لي : ثكلتك أمّك! هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا ، فكيف بك وبي غدا إن سلكنا في سلاسل جهنم؟!

ثمّ قرأ :( إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ ) (١) .

ثمّ قال : ليس لك عندي فوق حقّك الذي فرضه الله لك إلا ما ترى ، فانصرف إلى أهلك.

__________________

(١) سورة غافر ، الآية ٧١.

٤٦٧

فجعل معاوية يتعجّب ، ويقول : هيهات هيهات! عقمت النساء أن يلدن مثله! انتهى.

فقارنوا بين الاثنين ، واعرفوا الحقّ في (علي) أمير المؤمنينعليه‌السلام .

عفوه عن الأعداء

كان عليّعليه‌السلام في أعلى مرتبة من مراتب العفو والصفح ، كان يقول : لكلّ شيء زكاة ، وزكاة الظفر بعدوّك العفو عنه.

ولقد عفا عن مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير لمّا ظفر بهما وهما أسيران مقيّدان في يوم الجمل ، فأمر بفكّ قيدهما وأطلق سراحهما ، مع العلم أنّهما كانا من ألدّ أعدائه وأشدّ مبغضيه.

وصفحه عن عائشة ، أعظم من كلّ عفو وصفح ؛ لأنّها سبّبت تجمّع الناس الغافلين ، وأغوت الجاهلين ، وقادتهم لقتال أمير المؤمنين وسيّد الوصيّينعليه‌السلام ، فهي التي أضرمت نار الحرب وأجّجت الفتنة ؛ ومع كلّ ذلك ، لمّا اندحر أنصارها ، وانكسر جيشها ، وسقطت من الجمل مغلوبة مقهورة ، أسيرة في أيدي المؤمنين ، أمر الإمام عليّعليه‌السلام أخاها محمد بن أبي بكر أن يأخذها إلى بيت في البصرة ويقوم بخدمتها ويكرمها.

وبعد ذلك هيّأ الإمام عليّعليه‌السلام عشرين امرأة من قبيلة عبد القيس ، وأمرهنّ بلبس ملابس الرجال والعمائم ، وأن يحملن معهنّ السيوف والسلاح ويتلثّمن حتّى لا يعرفن ، وأمرهنّ أن يحطن بأمّ المؤمنين عائشة ويوصلنها إلى المدينة المنوّرة ، وأرسل خلف النسوة رجالا مسلّحين ليراقبوهنّ من بعيد ويذبّوا عنهنّ عند الحاجة.

فلما وصلت إلى المدينة ونزلت بيتها واستقرّت ، اجتمعت

٤٦٨

زوجات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعض المؤمنات من أهل المدينة عندها وعاتبنها على خروجها! فأظهرت الندم ، وشكرت لعليّعليه‌السلام عفوه وصفحه عنها ومقابلته لها بالرحمة والكرامة ، إلاّ أنّها قالت : ولكن ما كنت أظنّ أن يبعثني عليّ بن أبي طالب مع رجال أجانب من البصرة إلى المدينة ، فإنّه ما راعى حرمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حبيبته!!

فهنا كشفن المرافقات لها لثامهنّ وخرجن من زيّ الرجال إلى ظاهرهنّ وحقيقتهنّ.

فخجلت كثيرا وشكرت عليّاعليه‌السلام أكثر من ذي قبل!

نعم هكذا يكون أولياء الله وخلفاؤه.

معاوية يمنع وعليّعليه‌السلام يسمح

وأذكر لكم شاهدا آخر على رأفة عليّعليه‌السلام ورحمته حتّى بالخارج عليه لقتاله ، مثل معاوية وحزبه الفاسقين ، في صفّين.

لقد ذكر جميع المؤرّخين وأصحاب السير ، منهم : المسعودي في مروج الذهب ، والطبري في تاريخه ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ٣ / ٣١٨ و ١٠ / ٢٥٧ ، وينابيع المودّة ـ للقندوزي ـ باب ٥١ ، وغيرهم ذكروا : أنّ معاوية استولى على الفرات فمنع جيش الإمام عليّعليه‌السلام من حمل الماء ، وقال : لا والله لا ندعهم يشربون حتّى يموتوا عطشا!

فهاجمهم جيش الإمام عليّعليه‌السلام واستولوا على الفرات وانهزم جيش معاوية ، ولكنّ عليّاعليه‌السلام لم يمنعهم الشرب وسمح لهم بحمل الماء بالله عليكم أيّها الحاضرون أنصفوا! أيّ الخليفتين تشمله الجملة

٤٦٩

من الآية الكريمة :( رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) ؟

وإذا كنتم تريدون تعريف الآية الكريمة وإعرابها كاملة

فيكون( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ) مبتدأ( وَالَّذِينَ مَعَهُ ) معطوف على المبتدأ ، وخبره وما بعده خبر بعد الخبر ، وكلّها صفات شخص واحد ، يعني : الّذين يعدّون مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويوصفون بمعيّته ، هم الّذين يكونون أشدّاء على الكفّار ، رحماء بينهم إلى آخره.

وحيث إنّ هذه الصفات ما اجتمعت في أحد من الصحابة غير عليّعليه‌السلام ، فالذي يعدّ مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معيّة حقيقية معنوية ، فلا فارقه ولا فكّر بمفارقته حتّى ساعة واحدة ، هو عليّعليه‌السلام ، فكأنّهما اصبحا حقيقة ونفسا واحدة ، اتّحدا روحا ومعنى وإن افترقا جسما وبدنا.

الشيخ : عندنا إجابات وردود كثيرة على كلامكم ، ولكن نكتفي بواحدة منها ، وهي : إنّ معاني الآية الكريمة إذا كانت تنطبق على سيّدنا عليّ كرّم الله وجهه فقط ، ولم تشمل أحدا غيره ، فلما ذا جاءت الآية على صيغة الجمع؟! فتقول : والّذين معه ، أشدّاء ، رحماء ، ركّعا ، سجّدا ، يبتغون ، سيماهم ، وجوههم كلّها كلمات على صيغة الجمع.

قلت :

أوّلا : أنا حاضر لأستمع كلّ إجاباتكم وردودكم ، وإلا فسكوتكم يدلّ على صحّة حديثي وربّما كان عندكم مغالطات تسمونها إجابات! فاطرحوها ، فإنّي لا أتركها بلا جواب ، إن شاء الله تعالى.

ثانيا : إنّ سؤالكم هذا ، نقاش لفظي ، لأنّكم تعلمون أنّ في كلام العرب والعجم يطلقون صيغة الجمع على المفرد من أجل التعظيم

٤٧٠

والتفخيم ، وكم لها في القرآن نظائر! منها :

آية الولاية ونزولها في الإمام عليّعليه‌السلام

القرآن الكريم هو أعظم مرجع في اللغة العربية ، وأقوى سند لها ، وفي ما نحن فيه أيضا ، القرآن دليل قاطع ، وبرهان ساطع.

فنجد فيه آية كريمة أخرى وهي : آية الولاية( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (١) ، فكلماتها على صيغة الجمع ، واتّفق المفسّرون والمحدّثون من الفريقين ـ الشيعة والسنّة ـ أنّها نزلت في حقّ عليّعليه‌السلام وحده ، منهم : الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير ٣ / ٤٣١ ، والإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسير «كشف البيان» وجار الله الزمخشري في الكشّاف ١ / ٤٢٢ ، الطبري في تفسيره ٦ / ١٨٦ ، أبو الحسن الرمّاني في تفسيره ، ابن هوازن النيسابوري في تفسيره ، ابن سعدون القرطبي في تفسيره ، الحافظ النسفي في تفسيره المطبوع في حاشية تفسير الخازن البغدادي ، الفاضل النيسابوري في غرائب القرآن ١ / ٤٦١ ، أبو الحسن الواحدي في أسباب النزول : ١٤٨ ، الحافظ أبو بكر الجصّاص في تفسير أحكام القرآن : ٥٤٢ ، الحافظ أبو بكر الشيرازي في كتابه «ما نزل من القرآن في عليّعليه‌السلام » ، أبو يوسف الشيخ عبد السلام القزويني في تفسيره الكبير ، القاضي البيضاوي في تفسيره أنوار التنزيل ١ / ٣٤٥ ، جلال الدين السيوطي في الدرّ المنثور ٢ / ٢٩٣ ، القاضي الشوكاني في

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٥٥.

٤٧١

تفسيره «فتح الغدير» السيّد محمود الآلوسي في تفسيره «روح المعاني» الحافظ ابن أبي شيبة الكوفي في تفسيره ، أبو البركات في تفسيره ١ / ٤٩٦ ، الحافظ البغوي في «معالم التنزيل» ، الإمام النسائي في صحيحه ، محمد بن طلحة الشافعي في «مطالب السئول» ، ابن أبي الحديد في شرح النهج ١٣ / ٢٧٧ ، الخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره ١ / ٤٩٦ ، الحافظ القندوزي في «ينابيع المودّة» ، الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه «المصنّف» ، رزين العبدري في «الجمع بين الصحاح الستّة» ، ابن عساكر في تاريخه ، سبط ابن الجوزي في التذكرة : ٩ ، القاضي عضد الإيجي في كتابه المواقف : ٢٧٦ ، السيّد الشريف الجرجاني في شرح المواقف ، العلاّمة ابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة : ١٢٣ ، الحافظ أبو سعد السمعاني في «فضائل الصحابة» أبو جعفر الإسكافي في «نقض العثمانية» ، الطبراني في الأوسط ، ابن المغازلي في «مناقب عليّ بن أبي طالب» ، العلاّمة الكنجي القرشي الشافعي في «كفاية الطالب» ، العلاّمة القوشجي في شرح التجريد ، الشبلنجي في نور الأبصار : ٧٧ ، محبّ الدين الطبري في الرياض النضرة ٢ / ٢٢٧ ، وغيرهم من كبار أعلامكم.

رووا عن السدّي ومجاهد والحسن البصري والأعمش وعتبة بن أبي حكيم وغالب بن عبد الله وقيس بن ربيعة وعباية بن ربعي وعبد الله ابن عبّاس وأبي ذرّ الغفاري وجابر بن عبد الله الأنصاري وعمّار بن ياسر وأبي رافع وعبد الله بن سلام ، وغيرهم من الصحابة ، رووا أنّ الآية الكريمة نزلت في شأن سيّدنا عليّعليه‌السلام ، وقد اتّفقوا على هذا المضمون وإن اختلفت ألفاظهم ، قالوا :

٤٧٢

إنّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام كان يصلّي في المسجد ، إذ دخل مسكين وسأل المسلمين الصدقة والمساعدة ، فلم يعطه أحد شيئا ، وكان عليّعليه‌السلام في الركوع فأشار بإصبعه إلى السائل ، فأخرج الخاتم من يد الإمام عليّعليه‌السلام ، فنزلت الآية في شأنه وحده على صيغة الجمع ، وذلك من أجل التعظيم والتفخيم لمقامهعليه‌السلام .

الشيخ عبد السّلام : إنّ هذا التفسير وشأن النزول لم يكن قول جميع علمائنا ، فقد خالف هذا القول جماعة ، فمنهم القائل : إنّها نزلت في شأن الأنصار ، وبعض قالوا : نزلت في شأن عبادة بن الصامت. وجماعة قالوا : نزلت في حقّ عبد الله بن سلام.

قلت : إنّي أتعجّب منكم ، حيث تتركون قول أعظم أعلامكم وأشهر علمائكم وأكثرهم ، إضافة إلى إجماع علماء الشيعة في ذلك ، وتتمسّكون بأقوال شاذّة من أفراد مجهولين أو معلومين بالكذب والنصب والتعصّب ، بحيث نجد أقوالهم ورواياتهم مردودة وغير مقبولة عند كبار علمائكم.

والجديد بالذكر أنّ بعض علمائكم ادّعى إجماع المفسّرين واتّفاقهم على أن الآية نزلت في شأن الإمام عليّعليه‌السلام ، منهم : الفاضل التفتازاني ، والعلامة القوشجي في شرح التجريد ، قال : إنّها باتّفاق المفسّرين نزلت في حقّ علي بن أبي طالب حين أعطى السائل خاتمه وهو راكع

فهل العقل السليم يسمح لكم بترك قول جمهور العلماء والمفسّرين وتتمسّكون بأقوال واهية وشاذّة صدرت من المتعصّبين والمعاندين الجاحدين للحق والدين؟!

٤٧٣

شبهات وردود

الشيخ عبد السلام : سماحتكم أردتم بهذه الآية أن تثبتوا خلافة سيّدنا علي كرم الله وجهه بلا فصل بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والحال أنّ فيها أمورا تمنع من قصدكم.

أوّلا : كلمة «الوليّ» في الآية بمعنى المحبّ ، لا بمعنى الإمام والخليفة ، وإذا كانت بالمعنى الذي تقولونه فلا ينحصر الوليّ في رجل واحد ، بل تشمل الآية أفرادا كثيرين ، على القاعدة المقرّرة عند العلماء وهي : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المعنى والسبب ؛ وعلى هذا فالإمام عليّ كرّم الله وجهه هو أحد أفراد الآية الكريمة.

ثانيا : صيغة الجمع في كلمة «وليّكم» وكلمة «الّذين» تفيد العموم ، وحمل الجمع على الفرد ـ بدون دليل ـ يكون تأويلا لكلام الله تعالى بغير مجوّز.

قلت :

أوّلا : كلمة «الولي» جاءت بصيغة المفرد وأضيفت إلى ضمير الجمع ، أي : إنّما وليّ المسلمين.

ثانيا : أجبناكم من قبل أن الأدباء واللغويّين يجيزون إطلاق الجمع على الفرد لأجل التفخيم والتعظيم.

وأمّا القاعدة المقرّرة عند العلماء ، أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فنحن أيضا نلتزم بها ، فقد جاء في اللفظ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ ) وهي أداة حصر ، فلذا نقول : إنّ الآية نزلت في شأن

٤٧٤

أمير المؤمنينعليه‌السلام والولاية الإلهية في عصره منحصرة فيه ، فهو وليّ المسلمين دون غيره ، ولا يحقّ لأحد أن يدّعي الولاية على الإمام عليّعليه‌السلام ما دام في الحياة ، فإذا مات أو قتل فالولاية الإلهيّة التي تضمّنتها الآية تنتقل إلى غيره ، وهم الأئمّة الأحد عشر من ولده ، واحدا بعد الآخر ، فحينئذ يحصل مرادكم أيضا ، لأنّكم تقولون : إنّ الآية الكريمة تشمل أفرادا كثيرين لا فردا واحدا.

فالأفراد المشمولون بالآية هم الأئمّة المعصومون من أهل البيتعليهم‌السلام كما قال الزمخشري في «الكشّاف» في ذيل الآية الكريمة : ولو أن الآية حصر في شأن عليّعليه‌السلام فإنّ المقصود من نزولها بصيغة الجمع كان لترغيب الآخرين ليتّبعوا عليّاعليه‌السلام في هذا الأمر ويتعلّموا منه.

ثالثا : أمّا قولكم بأنّ الشيعة أوّلوا الآية بغير مجوّز ودليل ؛ ما هو إلاّ سفسطة كلام تريدون من ورائه إغواء العوامّ.

ونحن ذكرنا لكم أسماء ثلّة من كبار علمائكم وأشهر أعلامكم ومفسّريكم الّذين قالوا بأنّ الآية نزلت في شأن عليعليه‌السلام ، وهذا القول إنّما يكون تنزيل الآية وتفسيرها ، لا تأويلا أو رأيا اجتهاديا.

الشيخ عبد السّلام : أما كلمة «الوليّ» فهي بمعنى : المحبّ والناصر ، لا بمعنى الأولى بالتصرّف حتّى تستنبطوا منها معنى الخلافة ، لأنّها إذا كانت بمعنى الخلافة ، فيجب بعد نزول الآية أن يخلف عليّ كرّم الله وجهه رسول الله في حال حياته إذا سافر أو غاب لبعض شئونه ، وأن يقوم مقامه ويتصرّف في الأمور مثلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا الأمر لم يكن في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذا نقول : إنّ كلامكم باطل.

قلت : بأيّ دليل تقول : إنّ هذا الأمر ـ أي : قيام الإمام عليّعليه‌السلام

٤٧٥

مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لم يكن في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

فظاهر الآية يثبت مقام الولاية لعليّعليه‌السلام من حين نزولها ، واستمرار المقام بدليل الجملة الاسمية ، وأنّ «الوليّ» صفة مشبّهة ، وهذان دليلان على ثبات ودوام مقام الولاية.

ويؤيّد هذا المعنى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل عليّاعليه‌السلام خليفته في المدينة حين خرج منها إلى تبوك ، ولم يعزله بعد ذلك إلى أن توفّيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويؤيّده حديث المنزلة ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كرّره في مناسبات كثيرة ، قائلا : عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى. أو يخاطبه في الملأ : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

وقد ذكرنا لكم بعض مصادره في الليالي الماضية.

وهذا دليل آخر على أنّ عليّاعليه‌السلام كان خليفة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غيابه لما كان حيّا واستمرت خلافته للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد حياته أيضا.

الشيخ عبد السّلام : لو تعمّقتم في شأن نزول الآية كما تقولون وفكّرتم فيه ، لعدلتم عن رأيكم ؛ لأنّه لا يعدّ منقبة لسيّدنا عليّ ، بل يعدّ نقصا له كرّم الله وجهه ، وهو أجلّ من ذلك.

قلت :

أوّلا : لا يحقّ لأحد بلغ ما بلغ من العلم ، أن يغيّر ويبدّل شأن نزول آيات القرآن الحكيم ، سواء ثبتت بها منقبة أو منقصة لأيّ شخص كان ، فإنّ شأن النزول يتبع الواقع وليس بأمر اجتهادي ، ولا يدخل فيه رأي هذا وذاك ، ولا يتصرّف أحد في شأن نزول الآيات إلاّ شقيّ عديم الدين والإيمان ، يتّبع هواه ولا يطيع الله عزّ وجلّ ، مثل البكريّين في هذا الشأن ، فإنّهم اتّبعوا قول عكرمة الكذّاب وقالوا : إنّها نزلت

٤٧٦

في شأن أبي بكر!

ثانيا : أوضحوا لنا كيف تكون الآية الكريمة منقصة لمن نزلت في شأنه؟!

الشيخ عبد السلام : لأنّه من جملة خصال سيّدنا عليّ كرّم الله وجه التي تعدّ من أجمل خصاله وفضائله ، أنّه لمّا كان يقف للصلاة كان ينسى نفسه وكلّ شيء سوى الله سبحانه ، فلا يحسّ ولا يبصر إلاّ عظمة الله وآياته.

وقد روى بعض العلماء ، أنّهعليه‌السلام اصيب بسهم في رجله في إحدى المعارك ، فأشار عليه طبيب جرّاح ليأذن له حتّى يشق اللحم ويخرج السهم من رجله ، فأبىعليه‌السلام .

ثمّ لمّا وقفعليه‌السلام بين يدي الله تعالى واستغرق في العبادة في حال السجود أمر الإمام الحسن ـرضي‌الله‌عنه ـ أن يخرج الجرّاح السهم من رجل أبيه ، فأخرجه وما أحسّ سيّدنا عليّ أبدا!

فإنّ رجلا هذا حاله حين الصلاة ، كيف يلتفت إلى سائل فقير فيعطيه خاتمه وهو في حال الركوع؟!

ألم يكن انصرافه عن الله تعالى والتفاته إلى الفقير نقصا لصلاته ونقضا لعبادته؟!

قلت : إنّ هذا الإشكال أهون من بيت العنكبوت! لأنّ التفات المصلّي إلى الامور المادّيّة تعدّ نقصا ، وأمّا إلى الامور المعنوية فهو كمال ، فإعطاء الزكاة والصدقة للفقير عبادة مقرّبة إلى الله سبحانه ، والصلاة ـ أيضا ـ عبادة أقامها عليّعليه‌السلام قربة إلى الله تعالى ، فهو لم يخرج عن حال التقرّب إلى الله ، ولم ينصرف عن العبادة إلى عمل غير

٤٧٧

عبادي ، وإنّما انصرف من الله إلى الله ، وتكرّرت عبادته ، فقد آتى الزكاة في حال الصلاة ، فجمع فرضين ليكسب رضا الله عزّ وجلّ ويتقرّب إليه ، وقد قرّبه الباري سبحانه وتعالى وقبل منه الزكاة والصلاة ، فأنزل الآية وأعطاه الولاية ، ليكون دليلا على قبول عمله وعبادته.

ألم يكن هذا دليل على فضل الإمام عليّعليه‌السلام وكماله؟!

ما لكم كيف تحكمون؟!

عود على بدء

فثبت أنّ الذي تنطبق عليه الآية الكريمة تطبيقا كاملا وصحيحا صريحا من غير تأويل وتعليل ، إنّما هو الإمام عليّعليه‌السلام الذي كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معيّة امتزجت نفسهعليه‌السلام بنفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطيّبة ، وأخلاقهعليه‌السلام بأخلاقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكريمة ، وصفاتهعليه‌السلام بصفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحميدة ، حتّى أصبحا حقيقة واحدة لا يمكن افتراقهما.

وثبت أنّه لم يكن أشدّ منهعليه‌السلام على الكفّار ، ولا أرحم وأرأف منهعليه‌السلام بالمؤمنين.

فكان صلب الإيمان ، ثابت العقيدة ما شكّ في النبوّة والدين لحظة واحدة ، ولا تزلزل في رسالة سيّد المرسلين طرفة عين أبدا.

الشيخ عبد السّلام : لا أدري ما الذي تقصده من هذه الكنايات والتّصريحات؟!

فهل شكّ أحد الخلفاء الراشدين والصحابة المهتدين ، بعد ما آمنوا بالدين؟!

٤٧٨

وهل تزلزل أحدهم في رسالة خاتم النبيّين؟! حتّى تقول : إنّ عليّا ما شكّ وما تزلزل! بل كلهم كذلك ، ما شكوا وما تزلزلوا ، فلما ذا هذا التأكيد على سيّدنا عليّ كرّم الله وجهه؟! لعلك تريد أن تقول : بأنّ الشيخين أو غيرهما من الصحابة الكرام شكّوا في الدين وتزلزلوا في الإيمان؟!!

قلت : يا شيخ! اشهد الله أنّي لم أقصد بكلامي ما ظننت ، ولو كان ذلك لأظهرته بالصراحة لا بالكناية.

الشيخ عبد السلام : إنّ اسلوب حديثك ينبئ بأنّ عندك شيئا في هذا المجال ، ولا تريد أن تظهره بالمقال ، ولكنّي اريد منك أن تبيّن كلّ ما في قلبك ولا تبقي شيئا ، ولا تنس أنّنا لا نقبل منك شيئا إلاّ مع الدليل والبرهان.

قلت : لو كنتم تعفونني من الخوض في هذا الموضوع لكان أجمل وأحسن ، وإن كانت أدلّتي كلّها من كتب علمائكم الأعلام ومحدّثيكم الكرام ، ولكن رعاية لبعض الجهات احبّ أن لا أطرح هذا الموضوع أبدا.

الشيخ عبد السلام : إنّك بهذا الكلام ألقيت الشكّ في قلوب هؤلاء العوامّ ، فإنّهم سيظنّون أنّ الشيخين ـ رضي الله عنهما ـ وغيرهما من الصحابة الكرام قد شكّوا يوما وتزلزلوا في الدين الحنيف والنبوّة!

فالرجاء الأكيد إمّا أن تقيم الدليل والبرهان الصريح الواضح على هذا الكلام ، أو أن ترجع في كلامك الذي فيه إيهام ، وتعلن من غير إبهام ، بأنّ الشيخين وغيرهما من الصحابة الكرام ، ما زلّت بهم

٤٧٩

الأقدام ، ولم يشكّوا طرفة عين في النبوّة والإسلام.

قلت : يا شيخ! إنّ الشكّ والترديد كان يعتري أكثر الصحابة الّذين كانوا في مرتبة دنيا من الإيمان ، ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم ، ولم يمتزج بنفوسهم.

فكان بعضهم يبقى في حال الشكّ والريب ، فكانت آيات من القرآن الحكيم تنزل في شأنهم وذمّهم ، كالمنافقين الّذين نزلت آيات كثيرة في سورة المنافقين وغيرها في ذمّهم.

وبعضهم كان يعرض عليه الشكّ والترديد ثم يزول عنه بعد مدّة.

هذا جواب عام ، ولا نريد أن نمسّ أحدا ، فأرجوكم أن تكتفوا بهذا المقدار ، في هذا الإطار.

الشيخ عبد السلام : إنّ الشكّ الذي وقع بسبب كلامك في قلوب الحاضرين باق ، فإمّا أن تذكر ما يختلج في قلبك ، واضحا من غير التباس ، مستدلا بأقوال علمائنا المعتمدين عندنا وكتبنا الموثوقة المعتبرة لدينا ، أو تصرّح بأنّ الشيخين كانا في حدّ اليقين ، وما شكّا في الدين ، ولم يتزلزلا في نبوّة سيّد المرسلين ، طرفة عين.

قلت : يا شيخ! إنّ إلحاحك وإصرارك على هذا الأمر ، اضطرّني أن أكشف عن حقائق لم أكن أحبّ أن أكشف عنها.

نعم ، لقد شك عمر بن الخطّاب في نبوّة خاتم النبيّينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتناقل الخبر بعض علمائكم الأعلام ، مثل ابن المغازلي الشافعي في كتابه : مناقب عليّ بن أبي طالب(١) والحافظ محمد بن أبي نصر الحميدي في

__________________

(١) لم أجد هذا الخبر في (المناقب) لابن المغازلي.

٤٨٠

كتابه «الجمع بين الصحيحين» نقل عن عمر بن الخطّاب أنّه قال بعد يوم الحديبية : ما شككت في نبوّة محمّد قط كشكّي يوم الحديبية.

فسياق الكلام يقتضي أنّه شكّ في هذا الأمر مرارا ، ولكن شكّه يوم الحديبية كان أقوى وأشدّ.

النوّاب : لو سمحت ، بيّن لنا ما كان سبب شكّ الفاروق في الحديبية؟ وما الذي جرى هناك حتّى وقع عمر منه في شكّ؟!

قلت : شرح القضية بالتفصيل يحتاج إلى وقت كثير ، لكن ملخّصه.

شكّ عمر في نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى في ما يرى النائم ، أنّه دخل مكّة مع أصحابه واعتمروا.

فلمّا أصبح حدّث الأصحاب برؤياه ، فسأله الأصحاب عن

__________________

ووجدت مصادر كثيرة لأعلام القوم ، تنقل قول عمر ، بهذه العبارة التالية أو غيرها : «ما شككت منذ أسلمت إلاّ يومئذ إلى آخره» منها تاريخ الطبري ٢ / ٧٨ و ٧٩ ، الرياض النضرة ١ / ٣٧٢ ، عمر بن الخطّاب ـ للاستاذ عبد الكريم الخطيب ـ : ٦٣ ، تاريخ الخلفاء ـ للسيوطي ـ : ٤٣ ، السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٣ / ٣٣١ ، الإمام علي ـ لعبد الفتاح عبد المقصود ـ ١ / ١٦٥ ، تفسير الخازن ٤ / ١٥٧ ، تفسير ابن كثير ٤ / ١٩٦ ، السيرة الحلبية ٣ / ١٩ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٥٧ ، صحيح البخاري ـ مشكول ـ ٣ / ١٩٠ ، عيون الأثر ٢ / ١١٩ ، تاريخ الاسلام السياسي ١ / ٢٤٦ ، كنز العمّال ٢ / ٥٢٧.

«المترجم»

٤٨١

تأويلها وتعبيرها ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ندخل مكّة إن شاء الله ونعتمر» ولم يعيّن وقتا للدخول إليها.

ثمّ تهيّأ مع الأصحاب للسفر إلى مكّة وأداء العمرة ، فلما وصل الحديبية ـ وهي بئر بالقرب من مكّة على حدود الحرم ـ ، علمت قريش بمجيء النبيّ والمسلمين ، فخرجوا مسلّحين ليمنعوهم من الدخول.

والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يقصد من سفره إلاّ زيارة البيت الحرام وأداء العمرة ولم ينو الحرب والقتال ، لذلك لمّا بعث المشركون من قريش وفدا للمفاوضة ، استقبلهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاوضهم وكتب معهم ما اشتهر بصلح الحديبية ، على أن يرجع النبيّ والمسلمون في ذلك العام ثمّ يأتون في العام القابل ، ليؤدّوا مناسكهم ويعتمروا ، من غير مانع إلى آخر الشروط.

فلمّا وقّع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك شكّ عمر بن الخطّاب في نبوّة سيّد المرسلين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : النبيّ لا يكذب ، أما قلت : ندخل مكة ونأتي بالمناسك معتمرين؟! فلما ذا صالحتهم على الرجوع ولم تدخل مكة؟!

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لكنّي ما عيّنت وقتا ، فهل قلت ، ندخل مكّة في هذا العام؟!

قال عمر : لا.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أقول مؤكّدا : ندخل مكّة إن شاء الله ، ورؤياي تتحقّق بإذن الله تعالى.

فنزل جبرئيل بالآية الكريمة مؤكّدا أيضا :( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ

٤٨٢

وَمُقَصِّرِينَ ، لا تَخافُونَ ) إلى آخرها(١) .

فهذا ملخّص صلح الحديبية وكيفيّة شكّ عمر بن الخطّاب بنبوّة خاتم النبيّين وسيّد المرسلين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وكان هذا الأمر امتحانا للمسلمين ليمتاز الثابت عن المتزلزل ، والمتيقّن عن الشاكّ والمرتاب.

هل يستمر الحوار؟

لمّا وصل الحديث إلى هنا ، نظر بعض العلماء إلى ساعته وقال : أخذنا الحديث كلّ مأخذ ، وانقضى من الليل نصفه أو أكثر ، لذا نترك متابعة الموضوع والحديث إلى الليلة القابلة إن شاء الله.

الحافظ : لقد سررنا بلقياكم ، وفرحنا بمجالسكم ، وانجذبنا إلى حديثكم ، فانقادت مسامعنا بل قلوبنا أيضا إلى كلامكم القويم ، وبيانكم الرصين ، وبقي عندنا كلام كثير ما أبديناه لضيق الوقت ، وعدم إفساح المجال ، فنؤجّله إلى وقت آخر ، وسفر آخر إن شاء الله ، فإنّنا نريد أن نرجع إلى الوطن [أفغانستان] فإنّ لنا هناك أعمالا وأشغالا كثيرة قد تعطّلت وأمورا تأخّرت ، وإنّ لنا هناك مهامّا تفوتنا إن لم نحضر.

لذا أرجو أن تتفضّل علينا وتأتي إلى بلادنا ، فنقوم بضيافتكم ، ونستمرّ في البحث والحوار معكم ، لعلّنا نصل إلى نتيجة فيها رضا الله سبحانه.

النوّاب ـ متوجها إلى الحافظ قائلا ـ : نحن لا ندعك أن ترجع

__________________

(١) سورة الفتح ، الآية ٢٧.

٤٨٣

إلى بلادك حتّى نصل إلى نتيجة قطعية مع السيد المبجّل ، لأنّكم كنتم تقولون لنا إنّ الرافضة [الشيعة] ليسوا أهل بحث ومناقشة ، ولا أهل عقل ومنطق ، لأنّهم لا يملكون أدلّة وبراهين في إثبات عقائدهم ، وإذا جلسوا معنا على طاولة النقاش والحوار سوف يتنازلون لدلائلنا وبراهيننا القاطعة.

ولكنّا على عكس ذلك ، رأيناكم خاضعين أمام براهين السيد ، مستسلمين لأدلته ، ونحن كلّنا شهود.

فالرجاء منكم ، أن تبقوا عندنا ، وتستمرّوا في المناظرة والحوار حتّى يتبين الحقّ وتظهر الحقيقة ، فحينئذ نختار لأنفسنا المذهب الحقّ الثابت بدلائل القرآن الحكيم والعقل السليم.

الحافظ : نحن ما خضعنا ولا استسلمنا لأدلّة السيد ، وإنّما سكتنا لنستفيد من بيانه العذب وحديثه الطيّب ، فإنّه خطيب عجيب ، ذو سحر في البيان ، وطلاقة في اللسان ، فاستمعنا إلى حلاوة كلامه ، وذهلنا لسحر بيانه ، وانجذبنا لعذوبة لسانه ، فقد راعينا الأدب في حقّه ، وما أردنا أن يتأذّى ضيفنا العزيز ، وإلاّ فإنّا بعد لم ندخل في صلب المواضيع الأساسية ، وإذا أردنا أن نقيم الدليل والبرهان ، لثبت لكم أنّ الحقّ معنا.

النوّاب : أمّا نحن فإلى هذه الساعة لم نسمع منكم كلاما مستدلا وحديثا مستندا إلى العقل السليم والقرآن الكريم.

وأمّا كلام مولانا السيد فكلّه مستند إلى كتاب الله وأحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المرويّة في كتب علمائنا.

فإذا كانت عندكم أدلّة وبراهين تنقض كلام مولانا السيد فأتوا

٤٨٤

بها ، وإلاّ فإنّي أقول لكم بصراحة : إنّ هذه المحاورات والمناظرات قد انتشرت في الصحف والمجلاّت ، وأوقعت الشكّ والترديد في نفوس أكثر أهل السنّة والجماعة ، في هذا البلد.

فإذا لم تظهروا الحقّ ، ولم تعلنوا الحقيقة التي يريدها الله تعالى من عباده ، فإنّكم مسئولون أمام الله سبحانه وأمام صاحب الشريعة المقدّسة ، النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

على أثر هذا الكلام امتقع لون الحافظ وتغيّر وجهه ، وقد ظهر أثر الفشل والخجل على وجوه علماء القوم ، فكان الحافظ ينظر إليّ تارة وينظر إلى الأرض اخرى ، ثمّ توجّه إلى النوّاب قائلا :

أرجو أن تراعوا جانب الضيف الكريم فإنّه كان يريد السفر إلى خراسان لزيارة علي بن موسى الرضا ، ولكنّه تفضّل علينا بتأخير سفره ، فلا يجوز لنا أن نأخّره أكثر من هذا.

قلت : إنّني أشكر ألطافكم وأحساسكم ، صحيح أنّي كنت عازما على السفر والزيارة ، وأخّرت سفري لأجلكم ، ولكنّي فرحت بتأخير سفري ، إذ عملت بواجبي ، وخدمت الدين والمجتمع في كشف الحقيقة وإثبات الحقّ من خلال مناظراتي وحواري معكم ، وفي حضور هؤلاء الطيّبين الكرام ، فعرفوا الحقّ أحسن من ذي قبل.

وإنّني مستعدّ لأبقى معكم وأستفيد من مجالستكم سنة أو أكثر حتّى ينكشف الحقّ.

ولكنّي خجل من مضيّفي الكريم الاستاذ الميرزا يعقوب علي خان ، فقد أتعبته في هذه المدّة كثيرا.

وإذا بالميرزا يعقوب علي خان وإخوانه ـ ذو الفقار علي خان ،

٤٨٥

وعدالت علي خان ، وكلّهم من شخصيات قزلباش ـ أجابوا قائلين : يا مولانا السيد ما كنّا نتوقّع منكم هذا الكلام ، فإنّ بيوتنا كلّها بيوتك ، ونحن نفتخر بخدمتك ، ونتشرف بإقامتك عندنا.

ثمّ تقدّم السيد محمد شاه ـ وهو من أشراف «پيشاور» وأعيانها ـ وكذلك السيّد عديل أختر ـ وهو من علماء الشيعة في «پيشاور» ـ فقالوا : نحن نرجو من سماحتكم أن ينتقل هذا المجلس إلى بيوتنا حتّى نحظى بخدمتكم ونتشرّف ونفتخر بوجودكم عندنا.

فقال الميرزا يعقوب علي خان : لا يمكن ذلك أبدا ، بل ما دام مولانا في «پيشاور» ، وهذا المجلس مستمرّ في الانعقاد ، فبيتي محلّه ومستقره.

قلت : أشكر الجميع ، وبالأخصّ صاحب البيت الأستاذ الكريم الميرزا يعقوب علي خان المحترم.

الحافظ : ـ بعد ما هدأ المجلس ـ قال : وأنا أنزل عند رغبة الاستاذ النّواب والإخوة الحاضرين وأؤجّل سفري وإن كانت عندي مهامّ وأعمال معطّلة في أفغانستان ، ولكن أرجو أن ينتقل مجلسنا هذا في الليالي القابلة إلى البيت الذي نحن فيه ، مراعاة للعدالة ، ورعاية لأهل هذا البيت الكريم ، فإنّهم تعبوا كثيرا ، وأثقلنا عليهم كثيرا.

قلت : لا مانع لديّ من ذلك ، ولا اصرّ على أن يكون المجلس في هذا البيت فقط ، إلاّ أنّ هذا البيت واسع بحيث يضم هذا الجمع الغفير الذي يحضر كلّ ليلة ، وإنّ وسائل الضيافة والتكريم متوفّرة عندهم ، فالاختيار إليكم ، وأمّا أنا فأينما ينعقد المجلس أحضر إن شاء الله تعالى.

٤٨٦

الميرزا يعقوب علي خان : أظنّ أنّ الحافظ لا يعرف عادات ورسوم قبيلة قزلباش ، ولكن أهل البلد يعرفون ويعلمون بأنّ قبيلتنا يحبّون الضيف ويفرحون به ، ويفتخرون بخدمته ، وخاصّة إذا كان الضيوف علماء ومشايخ وسادة ، مثل فضيلة مولانا السيد سلطان الواعظين ، ومثل سماحة الحافظ ، وحضرات العلماء الحاضرين ، والإخوة الأعزّة المحترمين من كلّ الطبقات والأصناف ، فأهلا بكم ومرحبا في كلّ يوم.

الحافظ : أشكركم جميعا وأستودعكم الله ، وإلى اللقاء في الليلة الآتية إن شاء الله تعالى.

٤٨٧
٤٨٨

المجلس السابع

ليلة الخميس ٢٩ / رجب / ١٣٤٥ هجرية

في أوّل الليل حضر القوم مع علمائهم ، وبعد السلام والترحيب استقرّوا في مجلسهم وشربوا الشاي. افتتح السيّد عبد الحيّ الحديث ، فقال : سيدنا الجليل! في مجلس سابق تحدّثت عن موضوع ، ولمّا طالبك فضيلة الحافظ محمد رشيد بالدليل ، ذهبت بالكلام إلى موضوع آخر وتناسيت طلب الحافظ.

قلت : أرجو أن تتفضّلوا بتوضيح الموضوع ، حتّى أبيّن لكم الدليل.

السيّد عبد الحيّ : لقد سبق أن قلتم بأنّ سيّدنا عليا (كرم الله وجهه) كان في اتّحاد نفسيّ مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا تعتقدون بأنّ الإمام عليّا أفضل من جميع الأنبياء سوى النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قلت : نعم ، هذا معتقدنا.

السيّد عبد الحيّ : ما هو دليلكم على هذا المعتقد؟

وكيف يمكن اتّحاد شخصين حتى يصبحا نفسا واحدة؟!!

٤٨٩

هذا ما طلبه منكم فضيلة الحافظ ، ولم تجيبوا عنه بشيء.

قلت : نحن لا نعتقد بشيء من غير دليل ، وقد قلت تكرارا : نحن أبناء الدليل حيثما مال نميل ، وسأبين لكم دلائلنا من القرآن والحديث الشريف.

ولكن قبل ذلك أودّ أن أصرّح بأنّ كلامكم (بأنّي تناسيت طلب الحافظ محمد رشيد ، وذهبت بالكلام إلى موضوع آخر) ما هو إلاّ سوء الظنّ منكم بالنسبة إليّ ، وإلاّ كلّنا يعلم بأنّ البحث أحيانا يأخذ بزمامنا ويجرّنا إلى موضوع آخر ، كما قيل قديما : الكلام يجرّ الكلام.

السيّد عبد الحيّ : إنّني أعتذر من سوء التعبير ، وأرجو العفو والسماح.

كيف يكون الإمام علي نفس رسول الله؟

قلت : اتّحاد شخصين بالمعنى الحقيقي غير ممكن ومحال عقلا ، ونحن إنّما نقول باتّحاد نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونفس الإمام عليّعليه‌السلام مجازا.

وبيان ذلك : إن المحبّة والمودّة بين شخصين إذا وصلت أعلى مراتبها بحيث تصبح رغبتاهما واحدة ، وجميع الأمور المتعلّقة بالنفس والصادرة عنها تصبح واحدة أو متشابهة ومتماثلة ؛ يعبّر عن النفسين بالنفس الواحدة مجازا(١) .

__________________

(١) لقد نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢٢١ ط دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، نقل كلاما لأبي جعفر النقيب ، وقد رأيته مناسبا للمقام فأنقله هنا تعميما للفائدة :

٤٩٠

وجاء هذا المعنى في كلمات بعض الأولياء ، وفي أشعار بعض الفصحاء والبلغاء.

__________________

قال في تشابه أخلاق الإمام عليّ عليه‌السلام بأخلاق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : [انظروا إلى أخلاقهما وخصائصهما ، هذا شجاع وهذا شجاع ، هذا فصيح وهذا فصيح ، هذا سخي جواد وهذا سخي جواد ، هذا عالم بالشرائع والأمور الإلهية وهذا عالم بالفقه والشريعة والأمور الإلهية الدقيقة الغامضة ، هذا زاهد في الدنيا غير نهم ولا مستكثر منها ، وهذا زاهد في الدنيا تارك لها غير متمتّع بلذّاتها ، هذا مذيب نفسه في الصلاة والعبادة ، وهذا مثله ، وهذا غير محبّب إليه شيء من الأمور العاجلة إلاّ النساء وهذا مثله ، وهذا ابن عبد المطّلب بن هاشم وهذا في قعدده(١) وأبواهما أخوان لأمّ ولأب واحد دون غيرهما من بني عبد المطلّب.

وربّي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجر والد هذا ، وهذا أبو طالب فكان جاريا عنده مجرى أحد أولاده ، ثمّ لمّا شبّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكبر استخلصه من بني أبي طالب وهو غلام ، فربّاه في حجره مكافأة لصنيع أبي طالب به ، فامتزج الخلقان وتماثلت السجيّتان.

وإذا كان القرين مقتديا بالقرين ، فما ظنّك بالتربية والتثقيف الدائم؟!

فواجب أن تكون أخلاق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأخلاق أبي طالب ، وتكون أخلاق عليّ عليه‌السلام كأخلاق أبي طالب أبيه ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مربّيه ، وأن يكون الكلّ شيمة واحدة وسوسا (٢) واحدا وطينة مشتركة ، ونفسا غير منقسمة ولا متجزّئة ، وألاّ يكون بين بعض هؤلاء وبعض فرق ولا فضل ، لو لا أنّ الله تعالى اختصّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برسالته واصطفاه لوحيه ، لما يعلمه من مصالح البريّة في ذلك ، ومن أنّ اللطف به أكمل ، والنفع بمكانه أتمّ وأعمّ ، فامتاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك عمّن سواه وبقي ما عدا الرسالة على أمر الاتحاد ، وإلى هذا المعنى أشار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» فأبان نفسه منه بالنبوّة ، وأثبت له ما عداها من جميع الفضائل والخصائص مشتركا بينهما.] «المترجم».

__________________

(١) القعدد : القريب الآباء من الجدّ الأعلى.

(٢) سوسا واحدا : أصلا واحدا.

٤٩١

كما نجد في الديوان المنسوب إلى الإمام عليّعليه‌السلام :

هموم الرجال في أمور كثيرة

وهمّي في الدنيا صديق مساعد

يكون كروح بين جسمين قسّمت

فجسمهما جسمان والروح واحد

ولبعض الشعراء:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته

وإذا أبصرته كان أنا

روحه روحي وروحي روحه

من رأي روحين حلاّ بدنا؟!

فاتّحاد نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وتعبيرنا بذلك إنّما كان مجازا لا حقيقة ، والمراد أنّ رغباتهما كانت واحدة ونفسيّاتهما كانت متماثلة ، وكانا متشابهين في الفضائل النفسية والكمالات الروحية ، إلاّ ما خرج بالنصّ والدليل.

الحافظ : إذا أنتم تقولون بأنّ محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّا (كرم الله وجهه) كانا نبيّين ، ولعلّكم تعتقدون بأنّ الوحي نزل عليهما معا!!

قلت : هذا مغالطة بيّنة منكم ، ونحن الشيعة لا نعتقد بهذا ، وما كنت أتوقّع منكم أن تكرّروا ما طرحتم من قبل ، حتّى أكرّر جوابي ، فيصبح مجلس التفاهم والحوار مجلس جدل وتكرار ، فيضيع وقت الحاضرين الّذين جاءوا ليستفيدوا من حديثنا وحوارنا ، ويعرفوا الحقّ فيتّبعوه.

وقد قلت : بأنّا نعتقد أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليّاعليه‌السلام متّحدان ، أي متشابهان في جميع الفضائل النفسية ، ومتماثلان في الكمالات

٤٩٢

الروحيّة إلاّ ما خرج بالنصّ والدليل ، وهو مقام النبوّة الخاصّة وشرائطها ، التي منها نزول الوحي عليه ، فإنّ الوحي النبويّ خاصّ بمحمّد المصطفى دون عليّ المرتضى ؛ وقد بيّنا ذلك بالتفصيل ضمن حديثنا في الليالي الماضية ، وإذا كنتم قد نسيتم ذلك فراجعوا الصحف التي نشرت تلك المحاورات!

لقد أثبتنا ضمن تفسير حديث المنزلة ، أنّ الإمام عليّاعليه‌السلام كان في مقام النبوّة [وليس بنبي] لكن كان تابعا لشريعة سيّد المرسلين ، ومطيعا لخاتم النبيّين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذا لم ينزل عليه وحي بل نزل على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّ هارون كان نبيّا في زمن موسى بن عمران إلاّ أنّه كان تابعا ومطيعا لأخيه موسى عليهما السّلام.

الحافظ : لما كنتم تعتقدون بأنّ عليّا يساوي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع الفضائل والكمالات ، فالنبوّة وشرائطها لازمة لتلك المساواة؟!

قلت : ربّما يتصوّر الإنسان ذلك من معنى المساواة ؛ ولكن إذا فكّر بدقّة في التوضيح الذي قلناه يعرف أنّ الحق غير ما تصوّره بادئ الأمر ، وقد أوضحنا الموضوع في الليالي السابقة وبرهنّا عليه من القرآن الحكيم ، فإنّ الله سبحانه يقول :( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) (١) .

ولا شكّ أنّ أفضلهم هو أكملهم وخاتمهم الذي قال تعالى في شأنه :( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ) (٢) .

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٥٣.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية ٤٠.

٤٩٣

فالكمال الخاصّ بنبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان السبب في أنّ الله سبحانه يختم به النبوّة ورسالة السماء ، وهذا الكمال خاصّ بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يشاركه ولا يساويه فيه أحد ، إلاّ أنّ سائر كمالاته النفسية وفضائله الروحية قابلة للمشاركة والمشابهة ، وكان عليّعليه‌السلام يشاركه ويماثله فيها.

السيّد عبد الحيّ : هل لكم دليل على ذلك من القرآن الكريم؟

الاستدلال بآية المباهلة

قلت : دليلنا من القرآن الكريم قوله تعالى :( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (١) .

إنّ كبار علمائكم ، وأعلامكم من المحدّثين والمفسّرين ، أمثال :

الإمام الفخر الرازي ، في «التفسير الكبير».

والإمام أبي إسحاق الثعلبي ، في تفسير «كشف البيان».

وجلال الدين السيوطي ، في «الدر المنثور».

والقاضي البيضاوي ، في «أنوار التنزيل».

وجار الله الزمخشري ، في تفسير «الكشّاف».

ومسلم بن الحجّاج ، في صحيحه.

وأبي الحسن ، الفقيه الشافعي ، المعروف بابن المغازلي ، في المناقب.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٦١.

٤٩٤

والحافظ أبي نعيم ، في «حلية الأولياء».

ونور الدين ابن الصبّاغ المالكي ، في «الفصول المهمّة».

وشيخ الإسلام الحمويني ، في «فرائد السمطين».

وأبي المؤيّد الموفّق الخوارزمي ، في المناقب.

والشيخ سليمان الحنفي القندوزي ، في «ينابيع المودة».

وسبط ابن الجوزي ، في التذكرة.

ومحمد بن طلحة في «مطالب السئول».

ومحمّد بن يوسف الكنجي القرشي الشافعي ، في «كفاية الطالب».

وابن حجر المكّي ، في «الصواعق المحرقة».

هؤلاء وغيرهم ذكروا مع اختلاف يسير في الألفاظ ، والمعنى واحد ، قالوا : إنّ الآية الكريمة نزلت يوم المباهلة ، وهو ٢٤ أو ٢٥ من ذي الحجّة الحرام.

تفصيل المباهلة

قالوا : دعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصارى نجران إلى الإسلام ، فأقبلت شخصيّاتهم وأعلامهم وعلماؤهم ، وكان عددهم يربو على السبعين ، ولمّا وصلوا المدينة المنوّرة التقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجالسوه مرارا وتناظروا معه ، فسمعوا حديثه ودلائله على ما يدعو إليه من التوحيد والنبوّة وسائر أحكام الإسلام ، وما كان عندهم ردّ وجواب ، لكن حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها ، وخافوا إن أسلموا أن يفقدوا مقامهم ورئاستهم على قومهم.

٤٩٥

فلما رأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجاجهم وعنادهم ، دعاهم إلى المباهلة حتّى يحكم الله بينهم ويفضح المعاند الكاذب ، فقبلوا ولما جاءوا إلى الميعاد ، وهو مكان في سفح جبل ، وكان النصارى أكثر من سبعين ، من علمائهم وساداتهم وكبرائهم ، فنظروا وإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أقبل مع رجل وامرأة وطفلين ، فسألوا عنهم بعض الحاضرين ، فلمّا عرفوا أنّ الرجل الذي مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صهره وابن عمّه علي بن أبي طالب ، وهو وزيره ، وأحبّ أهله إليه ، والمرأة ابنته فاطمة الزهراء ، والطفلين هما سبطاه الحسن والحسين.

قال لهم أكبر علمائهم : انظروا إلى محمّد! لقد جاء بصفوة أهله وأعزّهم عليه ليباهلنا بهم ، وهذا إنّما يدلّ على يقينه واطمئنانه بحقّانيّته ورسالته السماوية ، فليس من صالحنا أن نباهله ، بل نصالحه بما يريد من الأموال ، ولو لا خوفنا من قومنا ومن قيصر الروم ، لآمنّا بمحمّد وبدينه.

فوافقه قومه وقالوا : أنت سيّدنا المطاع.

فبعثوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم لا يباهلونه ، بل يريدون المصالحة معه ، فرضي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمصالحة وأمر عليّاعليه‌السلام فكتب كتاب الصلح بإملاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فصالحهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ألفي حلّة فاخرة ، ثمن الواحدة أربعون درهما ، وألف مثقال ذهب ، وذكر بنودا اخرى.

فوقّع الطرفان على كتاب الصلح.

ولما اعترض النصارى على الأسقف الأعظم ومصالحته مع نبيّ الإسلام ، أجابهم قائلا : والله ما باهل نبيّ أهل ملّة إلاّ نزل عليهم

٤٩٦

العذاب وماتوا عن آخرهم ، وإنّي نظرت إلى وجوه أولئك الخمسة : محمّد وأهل بيته ، فوجدت وجوها لو دعوا الله عز وجلّ باقتلاع الجبال وزوالها لانقلعت وزالت.

الحافظ : هذا الخبر صحيح ، ومنقول في كتبنا المعتبرة ، ولا منكر له بين علمائنا ، ولكن ما هو ارتباطه بسؤالنا عن دليل اتّحاد نفس عليّ (كرم الله وجهه) مع نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

قلت : ارتباط الخبر بالسؤال كلمة( أَنْفُسَنا ) في الآية الكريمة.

أولا : الآية تدلّ على أنّ عليا وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام هم أفضل الخلق وأشرفهم بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

عند الله تبارك وتعالى ، وهذا ما وصل إليه وصرّح به كثير من علمائكم ، حتّى المتعصّبين منهم ، مثل الزمخشري في تفسيره لآية المباهلة ، فقد ذكر شرحا وافيا عن الخمسة الطيّبين وكشف حقائق ودقائق مفيدة عن فضلهم ومقامهم عند الله سبحانه ، حتى قال : إنّ هذه الآية الكريمة أكبر دليل وأقوى برهان على أفضليّة أصحاب الكساء على من سواهم.

ورأي البيضاوي والفخر الرازي في تفسير الآية قريب من رأي الزمخشري.

ثانيا : نستنبط من الآية الكريمة أنّ مولانا عليّ بن أبي طالب هو أفضل الخلق وأشرفهم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ الله تعالى جعله نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا إنّ كلمة( أَنْفُسَنا ) لا تعني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ الدعوة منه لا تصحّ لنفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّما الدعوة من الإنسان لغيره ، فالمقصود من( أَنْفُسَنا ) في الآية الكريمة هو سيّدنا وإمامنا عليّعليه‌السلام ، فكان بمنزلة نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذا دعاه وجاء به إلى المباهلة ، وذلك بأمر الله سبحانه.

٤٩٧

هذا جواب سؤالكم وارتباط الآية الكريمة بالموضوع.

فعليّعليه‌السلام هو نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتعبير القرآن الحكيم ، وهو تعبير مجازي واتّحاد اعتباري لا حقيقي.

وقد قال الأصوليّون : حمل اللفظ على المعنى المجازي الأقرب أولى من حمله على الأبعد.

وفي ما نحن فيه ، أقرب المعاني المجازيّة لاتّحاد النفسين تساويهما في جميع الأمور النفسية ، وتماثلهما في جميع الصفات الكمالية اللازمة لها إلاّ ما خرج بالدليل.

وقلنا : إنّ الخارج بالدليل والإجماع ، عدم نزول الوحي على الإمام عليّعليه‌السلام ، وعدم تساويه مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النبوّة الخاصة بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الحافظ : لنا أن نقول بأنّ تعبير الآية :( نَدْعُ وَأَنْفُسَنا ) تعبير مجازي ، وادّعاؤكم في الاتّحاد النفسي المجازي لم يكن أولى وأقوى ممّا نقول نحن!

قلت : أرجوكم أن تتركوا المراء والجدال ، ولا تضيّعوا وقت المجلس بالقيل والقال ، فإنّ العلماء والعقلاء اتّفقوا على أنّ الأخذ بالمجاز الشائع أولى وأقوى من الأخذ بالمجاز غير الشائع.

والمجاز الذي نقوله في الموضوع هو من المعنى الشائع له عند العرب والعجم ، وكم له نظائر! وقد ذكرنا بعضها ضمن الحديث قبل ساعة ، فكم من قائل لصاحبه : أنت روحي وأنت كنفسي! ولكي تطمئنّ قلوبكم لهذا المعنى ، فإنّي أنقل لكم بعض الأحاديث النبويّة فيه

٤٩٨

شواهد من الأحاديث

الأخبار المرويّة والأحاديث النبويّة في هذا المعنى المجازي كثيرة ننقل نماذج منها :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ منّي وأنا منه ، من أحبّه فقد أحبّني ، ومن أحبّني فقد أحبّ الله».

أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في «المسند» وابن المغازلي في المناقب ، والموفّق بن أحمد الخوارزمي في المناقب ، وآخرون غيرهم.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ منّي وأنا من عليّ ، ولا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو عليّ».

أخرجه جماعة ، منهم : ابن ماجة في السنن ١ / ٩٢ ، والترمذي في صحيحه ، وابن حجر في الحديث السادس من الأربعين حديثا التي رواها في مناقب عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام في كتابه (الصواعق) وقال : رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة.

والإمام أحمد في المسند ٤ / ١٦٤ ، ومحمد بن يوسف الكنجي في الباب ٦٧ من «كفاية الطالب» نقله عن مسند ابن سماك ، و «المعجم الكبير» للطبراني.

وأخرجه الإمام عبد الرحمن النسائي في كتابه «خصائص الإمام عليّعليه‌السلام ».

وأخرجه الشيخ سليمان القندوزي في الباب السابع من «ينابيع المودّة».

٤٩٩

وروى الأخير أيضا في الباب السابع عن عبد الله بن أحمد بن حنبل مسندا ، عن ابن عبّاس : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأمّ سلمة رضي الله عنها : «عليّ منّي وأنا من عليّ ، لحمه من لحمي ، ودمه من دمي ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى ، يا أمّ سلمة اسمعي واشهدي! هذا عليّ سيّد المسلمين».

وأخرج الحميدي في الجمع بين الصحيحين ، وابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «عليّ منّي وأنا منه ، وعليّ منّي بمنزلة الرأس من البدن ، من أطاعه فقد أطاعني ، ومن أطاعني فقد أطاع الله».

وأخرج الطبري في تفسيره ، والمير السيّد علي الهمداني الفقيه الشافعي في المودّة الثامنة من كتابه «مودّة القربى» إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الله تبارك وتعالى أيد هذا الدين بعليّ ، وإنّه منّي وأنا منه ، وفيه أنزل :( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) (١) ».

وخصّص الشيخ سليمان القندوزي في كتابه «ينابيع المودّة» بابا بعنوان :

الباب السابع : في بيان أنّ عليّا (كرّم الله وجهه) كنفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحديث : «علي منّي وأنا منه».

وأخرج فيه أربعة وعشرين حديثا مسندا ـ بطرق شتّى وألفاظ مختلفة لكن متّحدة المعنى ـ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «عليّ منّي بمنزلة نفسي».

وفي أواخر الباب ينقل عن (المناقب) حديثا يرويه عن جابر ، أنّه

__________________

(١) سورة هود ، الآية ١٧.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793

794

795

796

797

798

799

800

801

802

803

804

805

806

807

808

809

810

811

812

813

814

815

816

817

818

819

820

821

822

823

824

825

826

827

828

829

830

831

832

833

834

835

836

837

838

839

840

841

842

843

844

845

846

847

848

849

850

851

852

853

854

855

856

857

858

859

860

861

862

863

864

865

866

867

868

869

870

871

872

873

874

875

876

877

878

879

880

881

882

883

884

885

886

887

888

889

890

891

892

893

894

895

896

897

898

899

900

901

902

903

904

905

906

907

908

909

910

911

912

913

914

915

916

917

918

919

920

921

922

923

924

925

926

927

928

929

930

931

932

933

934

935

936

937

938

939

940

941

942

943

944

945

946

947

948

949

950

951

952

953

954

955

956

957

958

959

960

961

962

963

964

965

966

967

968

969

970

971

972

973

974

975

976

977

978

979

980

981

982

983

984

985

986

987

988

989

990

991

992

993

994

995

996

997

998

999

1000

1001

1002

1003

1004

1005

1006

1007

1008

1009

1010

1011

1012

1013

1014

1015

1016

1017

1018

1019

1020

1021

1022

1023

1024

1025

1026

1027

1028

1029

1030

1031

1032

1033

1034

1035

1036

1037

1038

1039

1040

1041

1042

1043

1044

1045

1046

1047

1048

1049

1050

1051

1052

1053

1054

1055

1056

1057

1058

1059

1060

1061

1062

1063

1064

1065

1066

1067

1068

1069

1070

1071

1072

1073

1074

1075

1076

1077

1078

1079

1080

1081

1082

1083

1084

1085

1086

1087

1088

1089

1090

1091

1092

1093

1094

1095

1096

1097

1098

1099

1100

1101

1102

1103

1104

1105

1106

1107

1108

1109

1110

1111

1112

1113

1114

1115

1116

1117

1118

1119

1120

1121

1122

1123

1124

1125

1126

1127

1128

1129

1130

1131

1132

1133

1134

1135

1136

1137

1138

1139

1140

1141

1142

1143

1144

1145

1146

1147

1148

1149

1150

1151

1152

1153

1154

1155

1156

1157

1158

1159

1160

1161

1162

1163

1164

1165

1166

1167

1168

1169

1170

1171

1172

1173

1174

1175

1176

1177

1178

1179

1180

1181

1182

1183

1184

1185

1186

1187

1188

1189

1190

1191

1192

1193

1194

1195

1196

1197

1198

1199

1200

1201

1202

1203

1204

1205