ليالي بيشاور

ليالي بيشاور6%

ليالي بيشاور مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 1205

ليالي بيشاور
  • البداية
  • السابق
  • 1205 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 235822 / تحميل: 3896
الحجم الحجم الحجم
ليالي بيشاور

ليالي بيشاور

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

قيل : لا يجوز أن يجعل القرآن بدلاً من كلامه ، وقد جاء : ( لا يُناظر(١) بكلام الله ) وهو أن لا يتكلّم عند الشي‌ء بالقرآن ، كما يقال لمن جاء في وقته :( جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى ) (٢) وما شابهه ؛ لأنّ احترام القرآن ينافي ذلك وقد استعمله في غير ما هو له ، فأشبه استعمال المصحف في التوسّد(٣) .

ويستحب دراسة القرآن والبحث في العلم والمجادلة فيه ودراسته وتعليمه وتعلّمه في الاعتكاف ، بل هو أفضل من الصلاة المندوبة - وبه قال الشافعي(٤) - لما فيه من القربة والطاعة.

وقال أحمد : لا يستحب له إقراء القرآن ولا دراسة العلم ، بل التشاغل بذكر الله والتسبيح والصلاة أفضل ؛ لأنّ الاعتكاف عبادة شُرّع لها المسجد ، فلا يستحب فيها إقراء القرآن وتدريس العلم ، كالصلاة والطواف(٥) .

والفرق : أنّ الصلاة شرّع [ لها ](٦) أذكار مخصوصة وخشوع ، واشتغاله بالعلم يقطعه عنها ، والطواف لا يكره فيه إقراء القرآن ولا تدريس العلم.

ولأنّ العلم أفضل العبادات ، ونفعه متعدٍّ(٧) ، فكان أولى من الصلاة.

مسألة ١٨٤ : وفي تحريم شم الطيب لعلمائنا قولان : أحدهما : التحريم ، وهو الأقوى ؛ لقول الباقرعليه‌السلام :

____________________

(١) في المصدر : لا تناظروا.

(٢) طه : ٤٠.

(٣) القائل هو ابنا قدامة في المغني ٣ : ١٤٨ ، والشرح الكبير ٣ : ١٦١.

(٤) المجموع ٦ : ٥٢٨ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٤ ، المغني ٣ : ١٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦١.

(٥) المغني ٣ : ١٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦١ ، المجموع ٦ : ٥٢٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦١.

(٦) زيادة يقتضيها السياق.

(٧) في « ط » : متعدّد.

٢٦١

« المعتكف لا يشمّ الطيب ولا يتلذّذ بالريحان »(١) .

ولأنّ الاعتكاف عبادة تختص مكاناً ، فكان ترك الطيب فيها مشروعاً ، كالحجّ.

والثاني : الكراهة - وبه قال أحمد(٢) - عملاً بأصالة الإِباحة.

والشافعي(٣) نفى الكراهة والتحريم معاً ؛ للأصل.

وليس بجيّد ؛ لأنّ الاعتماد على الرواية.

مسألة ١٨٥ : كلّ ما يبطل الصوم يبطل الاعتكاف‌ ، وهو ظاهر عندنا ؛ لأنّ الاعتكاف مشروط بالصوم ، فإذا بطل الشرط بطل المشروط.

وكلّ ما ذكرنا أنّه مُحرَّم على المعتكف نهاراً ، فإنّه يحرم ليلاً ، عدا الأكل والشرب ؛ فإنّهما يحرمان نهاراً لا ليلاً.

قال الشيخرحمه‌الله : السكر يفسد الاعتكاف ، والارتداد لا يفسده ، فإذا عاد بنى(٤) .

والوجه : الإِفساد بالارتداد.

وقال الشيخ أيضاً : لا يفسد الاعتكاف سباب ولا جدال ولا خصومة(٥) .

ولا بأس به ؛ لأنّها غير مفسدة للصوم ، فلا تفسد الاعتكاف.

وهل يبطل الاعتكاف بالبيع والشراء؟ قيل : نعم ؛ لأنّه منهي عنهما في‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ١٧٧ - ١٧٨ / ٤ ، الفقيه ٢ : ١٢١ / ٥٢٧ ، التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ / ٤٢٠.

(٢) حلية العلماء ٣ : ٢٢٦ ، وراجع : المغني ٣ : ١٤٩ ، والشرح الكبير ٣ : ١٦٢ ، والمجموع ٦ : ٥٢٨ ، وفتح العزيز ٦ : ٤٨٣.

(٣) المهذّب للشيرازي ١ : ٢٠١ ، المجموع ٦ : ٥٢٨ و ٥٣٦ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٦.

(٤) المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٤.

(٥) المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٥.

٢٦٢

هذه العبادة(١) .

وقيل : يأثم ولا يبطل الاعتكاف بهما(٢) .

مسألة ١٨٦ : قال بعض علمائنا : يحرم على المعتكف ما يحرم على المحرم(٣) .

وليس المراد بذلك العموم ؛ لأنّه لا يحرم عليه لبس المخيط إجماعاً ، ولا إزالة الشعر ، ولا أكل الصيد ، ولا عقد النكاح ، فله أن يتزوّج في المسجد ويشهد على العقد ؛ لأنّ النكاح طاعة ، وحضوره مندوب ، ومدّته لا تتطاول ، فيتشاغل به عن الاعتكاف ، فلم يكن مكروهاً ، كتسميت العاطس وردّ السلام. ويجوز له قصّ الشارب وحلق الرأس والأخذ من الأظفار ، ولا نعلم فيه خلافاً.

مسألة ١٨٧ : يجوز للمعتكف أن يتزيّن برفيع الثياب‌ - وبه قال الشافعي(٤) - عملاً بالأصل.

ولقوله تعالى( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ ) (٥) .

وقال أحمد : يستحب ترك التزيّن برفيع الثياب(٦) . وليس بجيّد.

ويجوز له أن يأمر بإصلاح معاشه وبتعهّد متاعه ، وأن يخيط ويكتب وما أشبه ذلك إذا اضطرّ إليه.

أمّا إذا لم يضطرّ فإنّه لا يجوز ، خلافاً للشافعية(٧) .

____________________

(١ و ٢ ) كما في شرائع الإِسلام ١ : ٢٢٠.

(٣) كما في المعتبر : ٣٢٥ نقلاً عن الشيخرحمه‌الله .

(٤) المجموع ٦ : ٥٢٨ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٦.

(٥) الأعراف : ٣٢.

(٦) المغني ٣ : ١٤٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦٢ ، المجموع ٦ : ٥٢٨ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٣ حلية العلماء ٣ : ٢٢٦.

(٧) فتح العزيز ٦ : ٤٨٣ ، المجموع ٦ : ٥٢٩ ، المغني ٣ : ١٤٥ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٩.

٢٦٣

وقال مالك : إذا قعد في المسجد واشتغل بحرفته ، بطل اعتكافه(١) . وهو كما قلناه.

ونُقل عن الشافعي في القديم مثله في الاعتكاف المنذور(٢) . ورواه بعضهم في مطلق الاعتكاف(٣) .

والمشهور عند الشافعية : الجواز مطلقاً ؛ لأنّ ما لا يبطل قليله الاعتكاف لا يبطل كثيره ، كسائر الأفعال(٤) . وهو ممنوع.

مسألة ١٨٨ : يجوز له الأكل في المسجد‌ ؛ للحاجة إليه ، وللأصل ، ولأنّه مأمور باللبث فيه، والأكل بدون الاعتكاف جائز في المسجد ، فمعه أولى ، لكن ينبغي أن يبسط سفرة وشبهها؛ لأنّه أبلغ في تنظيف المسجد.

وله غسل يده فيه ، لكن ينبغي أن يكون ماء الغسالة في طست وشبهه ؛ حذراً من ابتلال المسجد فيمنع غيره من الصلاة فيه والجلوس.

ولأنّه قد يستقذر ، فينبغي صيانة المسجد عنه.

وله أن يرشّ المسجد بالماء المطلق لا المستعمل إذا استقذرته النفس وإن كان طاهراً ؛ لأنّ النفس قد تَعافُهُ(٥) .

وكذا يجوز الفصد والحجامة في المسجد إذا لم يتلوّث ، والأولى الاحتراز عنه.

ولا يجوز أن يبول في المسجد في آنية - خلافاً للشافعية في بعض أقوالهم(٦) - لما فيه من القبح والاستهانة بالمسجد ، واللائق تعظيم المساجد وتنزيهها ، بخلاف الفصد والحجامة ، ولهذا لا يمنع من استقبال القبلة واستدبارها حالة الفصد والحجامة ، ويمنع منه حالة البول.

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٤٨٤ ، التفريع ١ : ٣١٤.

(٢ - ٤ ) فتح العزيز ٦ : ٤٨٣ و ٤٨٤.

(٥) عاف الشي‌ء يَعافُهُ : كرهه. لسان العرب ٩ : ٢٦٠.

(٦) حلية العلماء ٣ : ٢٢٦ ، المجموع ٦ : ٥٣٣.

٢٦٤

ولأنّ المساجد لم تُبْنَ لهذا ، وهو ممّا يستخفى(١) به ، فوجب صيانة المسجد عنه ، كما لو أراد أن يبول في أرضه ثم يغسله.

وقال بعض الحنابلة : يُمنع من الفصد والحجامة فيه ؛ لأنّه إراقة نجاسة في المسجد ، فلم يجز ، كما لو أراد أن يبول في أرضه ثم يغسله.

ولو دعت الحاجة الشديدة إليه ، خرج من المسجد وفَعَله ، وإن استغنى عنه ، لم يكن له الخروج الذي يمكن احتماله(٢) .

والوجه : جوازه ؛ لأنّ المستحاضة يجوز لها الاعتكاف ، ويكون تحتها شي‌ء يقع فيه الدم.

قالت عائشة : اعتكفَتْ مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، امرأة من أزواجه مستحاضة ، فكانت ترى الحمرة والصفرة ، وربما وَضَعْنا الطست تحتها وهي تصلّي(٣) .

مسألة ١٨٩ : السكر والردّة إن قارنا ابتداء الاعتكاف ، منعا صحّته‌ ؛ إذ لانيّة لهما. وكذا الإِغماء والجنون.

ولو ارتدّ في أثناء الاعتكاف ، فالوجه عندي بطلان الاعتكاف ؛ خلافاً للشيخ(٤) .

وقال الشافعي في الاُمّ : إنّه لا يبطل اعتكافه ، بل يبني إذا عاد إلى الإِسلام(٥) .

____________________

(١) في « ط ، ف » والطبعة الحجرية : يستخف.

(٢) المغني ٣ : ١٥٠ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦٣.

(٣) صحيح البخاري ٣ : ٦٤ - ٦٥ ، سنن أبي داود ٢ : ٣٣٤ / ٢٤٧٦ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٢٣.

(٤) المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٤.

(٥) المهذب للشيرازي ١ : ٢٠٠ ، المجموع ٦ : ٥١٨ ، فتح العزيز ٦ : ٤٩٤ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٤ ، وفي الجميع نقلاً عن الاُم.

٢٦٥

وقال : لو سكر في اعتكافه ثم أفاق ، استأنف(١) . وهذا حكم ببطلان الاعتكاف.

ولأصحابه طريقان :

أحدهما : تقرير القولين.

والفرق : أنّ السكران ممنوع من المسجد ؛ لقوله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) (٢) أي موضع الصلاة ، فإذا شرب المسكر وسكر ، فقد أخرج نفسه عن أهلية اللبث في المسجد ، فينزّل ذلك منزلة خروجه منه ، والمرتدّ غير ممنوع من المسجد ، بل يجوز استدامته(٣) فيه ، وتمكينه من الدخول لاستماع القرآن ونحوه ، فلم يجعل الارتداد متضمّناً بطلان الاعتكاف.

والثاني : التسوية بين الردّة والسكر ، وفي كيفيتها طريقان :

أحدهما : أنّهما على قولين :

أحدهما : أنّهما لا يبطلان الاعتكاف.

أمّا الردّة : فلما سبق.

وأمّا السكر : فلأنّه ليس فيه إلّا تناول محرّم ، وذلك لا ينافي الاعتكاف.

والثاني : أنّهما يبطلان.

أمّا السكر : فلما سبق.

وأمّا الردّة : فلخروج المرتدّ عن أهلية العبادة.

والأصحّ عندهم : الجزم في الصورتين ، وفي كيفيته طُرق :

أحدها : أنّه لا يبطل الاعتكاف بواحد منهما. وكلام الشافعي في‌

____________________

(١) الاُم ٢ : ١٠٦ ، والمجموع ٦ : ٥١٨ ، وفتح العزيز ٦ : ٤٩٤.

(٢) النساء : ٤٣.

(٣) في المصدر : استتابته.

٢٦٦

السكر محمول على ما إذا خرج من المسجد أو اُخرج لإِقامة الحدّ عليه.

وثانيها : أنّ السكر يبطله ؛ لامتداد زمانه ، والردّة كذلك إن طال زمانها.

وثالثها : أنّ الردّة تُبطل ؛ لأنّها تفوّت شرط العبادة ، والسكر لا يُبطله ، كالنوم والإِغماء.

ورابعها : أنّهما جميعاً مُبطلان ؛ فإنّ كلّ واحد منهما أشدّ من الخروج من المسجد ، فإذا كان ذلك مُبطلاً للاعتكاف ففيهما أولى.

وقوله(١) في الردّة مفروض فيما إذا لم يكن اعتكافه متتابعاً ، فإذا عاد إلى الإِسلام بنى على ما مضى ؛ لأنّ الردّة لا تُحبط العبادات السابقة.

وقوله(٢) في السكر مفروض في الاعتكاف المتتابع(٣) .

وهذا كلّه عندنا باطل ؛ لأنّ المرتدّ لا يمكّن من الدخول إلى المسجد ، وأنه مُنافٍ للعبادة ، وكذا السكر.

إذا عرفت هذا ، فالمفهوم من كلام الشافعي أنّ زمان الردّة والسكر لا اعتكاف فيه ؛ فإنّ الكلام في أنه يبني أو يستأنف إنّما ينتظم عند حصول الاختلال في الحال(٤) . والمشهور عند أصحابنا(٥) أنّ زمان الردّة غير محسوب من الاعتكاف ؛ إذ ليس للمرتدّ أهلية العبادة ، وأمّا زمان السكر ففي احتسابه لهم وجهان(٦) .

مسألة ١٩٠ : إذا عرض الجنون أو الإِغماء في أثناء الاعتكاف ، بطل اعتكافه‌ ؛ لفساد الشرط ، وخروجه عن أهلية العبادة ، سواء اُخرجا من‌

____________________

(١ و ٢) أي : قول الشافعي.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٤٩٤ - ٤٩٧ ، المجموع ٦ : ٥١٨ - ٥١٩.

(٤) فتح العزيز ٦ : ٤٩٧ - ٤٩٨.

(٥) كذا ، والظاهر أنّ الصحيح : أصحابه. أي : أصحاب الشافعي.

(٦) فتح العزيز ٦ : ٤٩٨ ، المجموع ٦ : ٥١٩.

٢٦٧

المسجد أو لا.

وقال الشافعي : إن لم يخرج من المسجد لم يبطل اعتكافه ؛ لأنّه معذور فيما عرض ، وإن اُخرج نظر ، فإن لم يمكن حفظه في المسجد ، فكذلك ؛ لأنّه لم يحصل الخروج باختياره ، فأشبه ما لو حُمل العاقل واُخرج مُكرَهاً ، وإن أمكن ذلك ، ففيه خلاف مخرَّج ممّا لو أغمي على الصائم(١) .

ولا تُحسب أيّام الجنون من الاعتكاف ؛ لأنّ العبادات البدنية لا تصحّ من المجنون.

وفي زمان الإِغماء للشافعية خلاف(٢) . وعندنا أنّه لا يحسب.

مسألة ١٩١ : الجنابة والحيض مانعان من الاعتكاف ابتداءً‌ - وبه قال الشافعي(٣) - لأنّهما ممنوعان من اللبث في المساجد. قال الله تعالى :( وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ ) (٤) وإذا مُنعا من اللبث مُنعا من الاعتكاف ؛ لأنّه أخصّ منه.

وإذا طرأ الحيض على المعتكفة ، وجب عليها الخروج من المسجد ، فإن لبثت فيه لم يُحسب من الاعتكاف ؛ لأنّه منهي عنه ، والنهي في العبادات يدلّ على الفساد.

ولأنّ الصوم شرط في الاعتكاف عندنا والحيض لا يجامعه ، ومنافي الشرط منافٍ للمشروط.

ولو طرأت الجنابة ، فإن كان ممّا يُبطل الاعتكاف أو الصوم ، بطل الاعتكاف قطعاً ، وإن طرأت بما لا يُبطله ، كالاحتلام والجماع ناسياً ، وجب عليه أن يبادر إلى الغسل ؛ لئلّا يبطل اعتكافه ، فإن لم يمكنه الغسل ، فهو‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٤٩٨ ، المجموع ٦ : ٥١٧.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٤٩٩ ، المجموع ٦ : ٥١٧.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٤٩٢ ، الوجيز ١ : ١٠٦ ، المجموع ٦ : ٤٧٦.

(٤) النساء : ٤٣.

٢٦٨

مضطر إلى الخروج ، وإن أمكنه ، عُذر في الخروج أيضاً ، ولا يكلّف الغسل في المسجد ؛ لأنّ الخروج أولى ، لما فيه من صيانة حرمة المسجد.

واعلم أنّ الجنابة الطارئة إذا لم تقتض بطلان الاعتكاف ، وبادَرَ إلى الاغتسال ، احتسب زمانها من الاعتكاف ، كما في وقت الخروج لقضاء الحاجة ، وإن أهمل ، بطل الاعتكاف من حين الإِهمال ، وقبله يُحسب من زمان الاعتكاف.

وللشافعية في احتساب زمان الجنابة من الاعتكاف مطلقاً وجهان(١) .

المطلب الرابع : في نذر الاعتكاف‌

مسألة ١٩٢ : قد بيّنّا أنّ الاعتكاف عبادة مستحبة في أصلها‌ غير واجبة وإنّما يجب بالنذر أو شبهه ، كاليمين والعهد ، فإذا نذر الاعتكاف ، وجب عليه.

ثمّ إمّا أن يُطلق أو يُعيّن ، والتعيين إمّا أن يحصل بوصف الفعل أو بخارج عنه ، كالمكان أو الزمان.

فإن أطلق ، وجب عليهاعتكاف ثلاثة أيام ، إذ لا يصحّ الاعتكاف أقلّ منها عند علمائنا أجمع ، ويتخيّر في أيّ وقت شاء - ممّا يصحّ صومه - أوقعه فيه.

ويجب أن يكون صائماً هذه الأيام الثلاثة ؛ لأنّ الاعتكاف عندنا لا يصحّ إلّا بالصوم ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به يكون واجباً. ويتخيّر أيضاً في أحد المساجد الأربعة أيّها شاء اعتكف فيه.

مسألة ١٩٣ : قد بيّنّا أنّ الصوم شرط في الاعتكاف‌ ، فلو نذر اعتكاف أيام لا يجب فيها الصوم ، وجب صومها عندنا وإن لم ينذر الصوم.

____________________

(١) المجموع ٦ : ٥٢٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٠٠.

٢٦٩

ولو نذر اعتكاف أيام يجب فيها الصوم ، كرمضان والنذر المعيّن ، أجزأ.

ومَنْ لم يشترط الصوم فيه من العامة إذا نذر الاعتكاف ، لم يجب الصوم.

ولو نذر أن يعتكف أياماً هو فيها صائم ، لزم الاعتكاف في أيام الصوم ، ووجب عليه الصوم إجماعاً ؛ لأنّ الاعتكاف بالصوم أفضل وإن لم يكن مشروطاً به ، فإذا التزمهم بالشرط ، لزم ، كما لو التزم التتابع فيه ، وليس له في هذه الصورة إفراد أحدهما عن الآخر إجماعاً.

ولو اعتكف في رمضان ، أجزأه ؛ لأنّه لم يلتزم بهذا النذر صوماً ، وإنّما نذر الاعتكاف على صفة وقد وُجِدَتْ.

ولو نذر أن يعتكف صائماً أو يعتكف بصوم ، لزمه الاعتكاف والصوم جميعاً بهذا النذر ، ولزمه الجمع بينهما عندنا.

وللشافعية وجهان :

أحدهما : أنّه لا يجب الجمع ؛ لأنّهما عبادتان مختلفتان ، فأشبه ما إذا نذر أن يصلّي صائماً.

وأصحّهما - وهو قول الشافعي في الاُم - : أنّه يجب ؛ لما تقدم من أنّ الاعتكاف بالصوم أفضل(١) .

ولو شرع في الاعتكاف صائماً ثم أفطر ، لزمه استئناف الصوم والاعتكاف عند الشافعية على الوجه الثاني ، ويكفيه استئناف الصوم على الأول(٢) .

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع وفتح العزيز ٦ : ٤٨٥ - ٤٨٦ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٩.

(٢) المجموع وفتح العزيز ٦ : ٤٨٦.

٢٧٠

ولو نذر اعتكاف أيام وليال متتابعة صائماً وجامع ليلاً ، ففيه للشافعية هذان الوجهان(١) .

ولو اعتكف عن نذره في رمضان ، أجزأه عن الاعتكاف في الوجه الأول ، وعليه الصوم ، وعلى الثاني لا يجوز الاعتكاف أيضاً(٢) .

ولو نذر أن يصوم معتكفاً ، انعقد نذره عندنا ؛ لأنّها عبادة منذورة فلزمته.

وللشافعية طريقان ، أظهرهما : طرد الوجهين. والثاني : القطع بأنّه لا يجب الجمع.

والفرق : أنّ الاعتكاف لا يصلح وصفاً للصوم والصوم يصلح وصفاً للاعتكاف ، فإنّه من مندوباته(٣) .

ولو نذر أن يعتكف مصلّياً أو يصلّي معتكفاً ، لزمه الصلاة والاعتكاف ، ويلزمه الجمع عندنا.

وللشافعية طريقان :

أحدهما : طرد الوجهين في لزوم الجمع.

وأصحّهما عندهم : القطع بأنّه لا يجب.

والفرق : أنّ الصوم والاعتكاف متقاربان ، فإنّ كلّ واحد منهما كفٌّ وإمساك ، والصلاة أفعال مباشرة لا مناسبة بينها وبين الاعتكاف(٤) .

ويُخرَّج على هذين الطريقين : ما لو نذر أن يعتكف مُحْرماً ، فإن لم نوجب الجمع بين الاعتكاف والصلاة ، فالقدر الذي يلزمه من الصلاة هو القدر الذي يلزمه لو أفرد الصلاة بالنذر ، وإن أوجبنا الجمع ، لزمه ذلك القدر في يوم‌

____________________

(١ و ٢) المجموع وفتح العزيز ٦ : ٤٨٦.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٤٨٦ - ٤٨٧ ، المجموع ٦ : ٤٨٦.

(٤) المجموع ٦ : ٤٨٦ ، الوجيز ١ : ١٠٦ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٧ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٩.

٢٧١

اعتكافه ، ولا يلزمه استيعاب اليوم بالصلاة(١) .

وإن كان نذر اعتكاف أيام مصلّياً ، لزمه ذلك القدر كلّ يوم.

وقال بعضهم : ظاهر اللفظ يقتضي الاستيعاب ، فإنّه جعل كونه مصلّياً صفةً لاعتكافه(٢) .

وهذا هو الوجه عندي ؛ لأنّا لو تركنا هذا الظاهر ولم نعتبر تكرير القدر الواجب من الصلاة في كلّ يوم وليلة ، اكتفي به في جميع المدّة(٣) .

ولو نذر أن يصلّي صلاة يقرأ فيها سورة كذا ، لزم الجمع عندنا.

وللشافعية قولان ، أحدهما : أنّه على الخلاف(٤) .

مسألة ١٩٤ : كما أنّه ليس للعبد ولا للزوجة الابتداء بالاعتكاف المندوب إلّا بإذن السيد والزوج‌ ، كذلك ليس لهما نذر الاعتكاف إلّا بإذن المولى والزوج ، فإن نذر أحدهما ، لم ينعقد نذره.

وهل يقع باطلاً أو موقوفاً على الإِذن؟ إشكال ، أقربه : الثاني.

فإن أجازا نذرهما وأذنا في الشروع في الاعتكاف وكان الزمان معيّناً أو غير معيّن لكن شرطا التتابع ، لم يجز لهما الرجوع ، وإن لم يشترطا التتابع ، فالأقرب أنّ لهما الرجوع ، وهو أظهر وجهي الشافعية(٥) .

ولو نذرا بالإِذن ، فإن تعلّق بزمان معيّن ، فلهما الشروع فيه بغير إذن ، وإلّا لم يشرعا فيه إلّا بالإِذن ، وإذا شرعا بالإِذن ، لم يكن لهما المنع من‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٤٨٧ - ٤٨٨.

(٢) الرافعي في فتح العزيز ٦ : ٤٨٨ ، وكما في المجموع ٦ : ٤٨٧.

(٣) ورد في هامش « ط ، ن » : أي لو لم نعتبر التكرار في جميع أيام الاعتكاف ولياليه ، لاكتفي منه بمرّة واحدة في أول يوم منه.

قلت : وأيضاً كان يكتفي بإدخال ماهية الصلاة في العمر مرّة لو نذر اعتكاف عمره مصلّياً.

(٤) فتح العزيز ٦ : ٤٨٨ ، المجموع ٦ : ٤٨٧.

(٥) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٧ ، المجموع ٦ : ٤٧٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٧.

٢٧٢

الإِتمام. وهو مبني على أنّ النذر المطلق إذا شرع فيه ، لزم إتمامه.

وفيه إشكال. وللشافعية خلاف(١) .

مسألة ١٩٥ : لو نذر الاعتكاف في المسجد الحرام ، تعيّن بالنذر‌ ، سواء عقد عليهما في نذر واحد أو أطلق نَذْرَ الاعتكاف ثم نذر تعيين المطلق فيه.

ولا خلاف في تعيين المسجد الحرام لو عيّنه بالنذر ؛ لما فيه من زيادة الفضل على غيره ، وتعلّق النُّسُك به.

وإن عيّن مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بالمدينة ، أو المسجد الأقصى ، تعيّن أيضاً عندنا - وبه قال أحمد والشافعي في أحد قوليه(٢) - لأنّه نذر في طاعة ، فينعقد ولا يجوز له حلّه.

ولقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا تُشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا )(٣) فأشبها المسجد الحرام.

والثاني للشافعي : أنّه لا يتعيّن بالنذر ؛ لأنّه لا يتعلّق بهما نُسُك ، فأشبها سائر المساجد(٤) .

وليس بجيّد ؛ لأنّه لا يلزم من انتفاء تعلّق النُّسُك بهما مساواتهما لغيرهما من المساجد.

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٤٩٣ ، المجموع ٦ : ٤٧٨.

(٢) المغني ٣ : ١٦٠ و ١٦١ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٣ و ١٣٤ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٧ ، المجموع ٦ : ٤٨١ - ٤٨٢ ، الوجيز ١ : ١٠٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥٠٤ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٨.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ٧٦ ، صحيح مسلم ٢ : ١٠١٤ / ١٣٩٧ ، سنن أبي داود ٢ : ٢١٦ / ٢٠٣٣ ، سنن النسائي ٢ : ٣٨ - ٣٩.

(٤) المهذّب للشيرازي ١ : ١٩٧ ، المجموع ٦ : ٤٨١ - ٤٨٢ ، الوجيز ١ : ١٠٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥٠٤ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٨ ، المغني ٣ : ١٦١ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٤.

٢٧٣

ولو عيّن غير هذه المساجد بالنذر ، تعيّن عندنا ، لاشتماله على عبادة ، فانعقد نذره ، كغيره من العبادات.

وقال أحمد : لا يتعيّن بالنذر غير هذه المساجد الثلاثة ؛ لقولهعليه‌السلام : ( لا تُشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد )(١) .

ولو تعيّن غيرها بتعيينه ، لزمه المضيّ إليه ، واحتاج إلى شدّ الرحل لقضاء نذره فيه.

ولأنّ الله تعالى ، لم يعيّن لعبادته مكاناً فلم يتعيّن بتعيين غيره ، وإنّما تعيّنت هذه المساجد الثلاثة ؛ للخبر الوارد فيها.

ولأنّ العبادة فيها أفضل ، فإذا عيّن ما فيه فضيلة ، لزمه ، كأنواع العبادة(٢) . وهو أحد قولي الشافعي(٣) أيضاً.

وله قول آخر : إنّه لا يتعيّن المسجد الأقصى ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلّا المسجد الحرام )(٤) (٥) .

وهذا يدلّ على التسوية فيما عدا هذين المسجدين ؛ لأنّ المسجد الأقصى لو فُضّلت الصلاة فيه على غيره ، للزم أحد أمرين : إمّا خروجه من عموم هذا الحديث ، وإمّا كون فضيلته بألف مختصّاً بالمسجد الأقصى.

وليس بلازم ؛ فإنّه إذا فُضّل الفاضل بألف فقد فُضّل المفضول بها أيضاً.

وقد بيّنّا أنّ النذر عندنا يتعيّن به ما يعيّنه الناذر من المكان كالزمان ، والتعيين وإن كان بالنذر لكن لمـّا أوجب الله تعالى ، الوفاء بالنذر ، كان التعيين‌

____________________

(١) تقدّمت الإِشارة إلى مصادره في الصفحة السابقة الهامش (٣).

(٢ و ٣ ) المغني ٣ : ١٦٠ - ١٦١ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٣ - ١٣٤.

(٤) صحيح مسلم ٢ : ١٠١٢ / ١٣٩٤ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٥٠ / ١٤٠٤.

(٥) المغني ٣ : ١٦١ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٤.

٢٧٤

مستنداً إليه تعالى.

مسألة ١٩٦ : إذا نذر الاعتكاف في مسجد ، تعيّن ، وليس له العدول إلى مسجد أدون شرفاً.

وهل له العدول إلى مسجد أشرف؟ إشكال ، أقربه : الجواز.

فلو نذر أن يعتكف في المسجد الحرام ، لم يجز له أن يعتكف في غيره ؛ لأنّه أشرفها.

ولو نذر أن يعتكف في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام ؛ لأنّه أفضل منه ، ولم يجز أن يعتكف في المسجد الأقصى ؛ لأنّ مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أفضل منه.

وقال قوم : إنّ مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أفضل من المسجد الحرام ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّما دُفن في خير البقاع ، وقد نقله الله تعالى من مكّة إلى المدينة ، فدلّ على أنّها أفضل(١) .

والمشهور : أنّ المسجد الحرام أفضل ، لقولهعليه‌السلام : ( صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلّا المسجد الحرام )(٢) .

وفي خبر آخر أنّه قالعليه‌السلام : ( صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)(٣) فيدخل في عمومه مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتكون الصلاة فيه أفضل من مائة ألف صلاة فيما سوى مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولو نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى ، جاز له أن يعتكف في المسجدين الآخرين ؛ لأنّهما أفضل منه.

وقد روى العامّة أنّ رجلاً جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يوم الفتح‌

____________________

(١) كما في المغني ٣ : ١٦١ - ١٦٢ ، والشرح الكبير ٣ : ١٣٤.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ١٠١٢ / ١٣٩٤ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٥٠ / ١٤٠٤.

(٣) سنن ابن ماجة ١ : ٤٥١ / ١٤٠٦.

٢٧٥

والنبيعليه‌السلام في مجلس قريباً من المقام ، فسلّم على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم قال : يا نبي الله إنّي نذرت لئن فتح الله للنبي والمؤمنين مكّة لاُصلّينّ في بيت المقدس ، وإنّي وجدت رجلاً من أهل الشام ها هنا في قريش مُقبلاً معي ومُدبراً ؛ فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ها هنا فصلّ ) فقال الرجل قوله هذا ثلاث مرّات كلّ ذلك يقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ها هنا فصلّ ) ثم قال الرابعة مقالته هذه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( اذهب فصلّ فيه ، فو الذي بعث محمّداً بالحقّ لو صلّيت ها هنا لقضي عنك ذلك كلّ صلاة في بيت المقدس )(١) .

مسألة ١٩٧ : قد بيّنّا أنّ الأقوى أنّ الاعتكاف إنّما يجوز في المسجد الحرام ومسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومسجد الكوفة ومسجد البصرة‌ ، فلو نذر أن يعتكف في غير هذه الأربعة لم يجز.

وعلى القول الآخر لعلمائنا بجواز الاعتكاف في غيرها لو نذر أن يعتكف في غيرها ، انعقد نذره ، وتعيّن ما عيّنه ، وهو أحد قولي الشافعي(٢) .

وعلى القول الآخر بعدم التعيين لو شرع في الاعتكاف في مسجد لم يكن له الخروج منه ، ولا الانتقال إلى مسجد آخر ، لكن لو كان ينتقل في خروجه لقضاء الحاجة إلى مسجد آخر على مثل تلك المسافة أو أقرب ، كان له ذلك في أصحّ وجهي الشافعية(٣) .

ولو أوجب على نفسه اعتكافاً في مسجد فانهدم ، اعتكف في موضع منه ، فإن لم يتمكّن ، خرج ، فإذا بُني المسجد ، رجع وبنى على اعتكافه.

ومَنْ لم يوجب التعيين بالنذر ، له أن يخرج إلى أين شاء من المساجد ليعتكف فيه.

____________________

(١) مسند أحمد ٥ : ٣٧٣.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٥٠٤ - ٥٠٥ ، المجموع ٦ : ٤٨١.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٥٠٧ ، المجموع ٦ : ٤٨٢.

٢٧٦

مسألة ١٩٨ : لو نذر أن يعتكف في زمان معيّن ، تعيّن عليه‌ حتى أنّه لا يجوز له التقديم عليه ولا التأخير(١) عنه(٢) ، فإن أخّر ، كان قضاءً ، وهو أصحّ وجهي الشافعية(٣) .

والثاني : لا يتعيّن الزمان بالتعيين ، كما لا يتعيّن في نذر الصلاة والصدقة(٤) .

والحكم في الأصل ممنوع.

والوجهان عندهم جاريان فيما إذا عيّن الزمان للصوم(٥) .

والحقّ عندنا أنّه يتعيّن أيضاً.

مسألة ١٩٩ : إذا نذر اعتكافاً مطلقاً‌ ، وجب عليه أن يعتكف ثلاثة أيام ؛ لأنّ الاعتكاف لا يصح في أقلّ من ثلاثة ، خلافاً للشافعي ؛ فإنّه جوّزه لحظةً ، ويبرأ بها من عُهدة النذر عنده ، لكن يستحب أن يعتكف يوماً(٦) .

وإن نذر الاعتكاف مدّةً من الزمان ، فإمّا أن يُطلق تلك المدّة أو يُعيّنها ، فإن أطلق تلك المدّة ، فإمّا أن يشترط فيها التتابع ، كأن يقول : لله عليَّ أن أعتكف ثلاثة أيام متتابعات ؛ أو لا يشترطه.

فإن شرطه ، لزم ؛ لأنه نذر في طاعة هي المسارعة إلى فعل الخير ، كما لو شرط التتابع في الصوم.

وإن لم يشترط التتابع ، لم يلزمه إلّا في ثلاثة ثلاثة ، فإذا نذر اعتكاف شهر أو عشرة أيام ، وجب عليه اعتكاف شهر بأن يعتكفه متتابعاً أو متفرّقاً ثلاثة ثلاثة ، ولا يجب عليه تتابع الشهر بأسره ، كما في الصوم ، لأنّه معنى يصح‌

____________________

(١) في النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق وفي الطبعة الحجرية : التأخّر. وما أثبتناه يقتضيه السياق.

(٢) كلمة « عنه » لم ترد في النسخ الخطية.

(٥-٣) المجموع ٦ : ٤٨٢ ، فتح العزيز ٦ : ٥٠٧.

(٦) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٠ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٠ - ٤٨١.

٢٧٧

فيه التفريق ، فلا يجب فيه التتابع بمطلق النذر ، كالصيام ، وهو أحد قولي الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد(١) .

والثاني: أنّه يلزمه التتابع - وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الاُخرى - لأنّه معنى يحصل في الليل والنهار ، فإذا أطلقه ، اقتضى التتابع ، كما لو حلف : لا يكلّم زيداً شهراً ، وكمدّة الإِيلاء والعدّة(٢) .

والوجه : الأول ؛ لأصالة براءة الذمة.

إذا عرفت هذا ، فإنّ التتابع وإن لم يلزمه إلّا في كلّ ثلاثة عندنا ، ولا يلزمه مطلقاً عند العامة ، فإنّ الأفضل التتابع ؛ لما فيه من المسابقة إلى فعل ما يوجب المغفرة.

ولو لم يتلفّظ بالتتابع في نذره ، لكن نواه في ضميره ، فإن قلنا : النذر ينعقد بالضمير ، لزمه ، وإلّا فلا.

ولو شرط في نذره التفريق ، لم يلزمه ، وخرج عن العهدة بالتتابع ؛ لأنّ الأولى التتابع ، فلا ينعقد نذر خلافه عندنا - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٣) - كما لو عيّن غير المسجد الحرام ، يخرج عن العهدة بالاعتكاف في المسجد الحرام.

مسألة ٢٠٠ : لو لم يقيّد بالتتابع ، جاز له التفريق عندنا ثلاثة ثلاثة‌.

وهل يجوز التفريق يوماً يوماً ، بأن يعتكف يوماً عن نذره ثم يضمّ إليه يومين مندوباً؟ الأقرب : الجواز ، كما لو نذر أن يعتكف يوماً وسكت عن الزيادة وعدمها ، فإنّه يجب عليه الإِتيان بذلك اليوم ، ويضمّ إليه يومين‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٥٠٨ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٠ ، المغني ٣ : ١٥٧ - ١٥٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٨.

(٢) المجموع ٦ : ٤٩٤ ، فتح العزيز ٦ : ٥٠٨ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢٠ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١١ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١١٩ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٧ ، المدونة الكبرى ١ : ٢٣٤ ، المغني ٣ : ١٥٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٨.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٣ ، فتح العزيز ٦ : ٥٠٨.

٢٧٨

آخرَيْن ، فحينئذٍ إذا نذر أن يعتكف ثلاثة أيام ، فاعتكف يوماً عن النذر ، وضمّ إليه آخرَيْن لا عَنْه ، بل تبرّع بهما ، ثم اعتكف يوماً آخر عن النذر ، وضمّ إليه آخرَيْن ثم اعتكف ثالثاً عن النذر وضمّ إليه آخرَيْن ، جاز ، سواء تابع التسعة أو فرّقها.

ولو نذر اعتكاف يوم ، لم يجز تفريق الساعات على الأيام ؛ لأنّ الاعتكاف يجب فيه الصوم ولا يصح صوم الساعة بمفردها - وهو أصحّ وجهي الشافعية(١) - لأنّ المفهوم من لفظ « اليوم » المتصل.

قال الخليل بن أحمد : إنّ اليوم اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس(٢) .

والثاني للشافعية : أنّه يجوز التفريق ؛ تنزيلاً للساعات من اليوم منزلة الأيام من الشهر(٣) .

ولو دخل المسجد في أثناء النهار ، وخرج بعد الغروب ثم عاد قبل طلوع الفجر ومكث إلى مثل ذلك الوقت ، فهو على هذين الوجهين(٤) .

ولو لم يخرج بالليل فعند أكثر الشافعية أنّه يجزئه ، سواء جوّزوا التفريق أو منعوه ، لحصول التواصل بالبيتوتة في المسجد.

وقال بعضهم : لا يجزئه ؛ تفريعاً على الوجه الأول ؛ لأنّه لم يأت بيوم متواصل الساعات ، والليلة ليست من اليوم ، فلا فرق بين أن يخرج فيها من المسجد أو لا يخرج(٥) .

____________________

(١) الوجيز ١ : ١٠٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥٠٨ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٤.

(٢) حكاه عنه النووي في المجموع ٦ : ٤٩٤ ، وكما في فتح العزيز للرافعي ٦ : ٥٠٨ ، وراجع : العين ٨ : ٤٣٣.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٥٠٨ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨.

(٤) فتح العزيز ٦ : ٥٠٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٤.

(٥) فتح العزيز ٦ : ٥٠٨ - ٥٠٩ ، المجموع ٦ : ٤٩٤.

٢٧٩

ولو قال في أثناء النهار : لله عليَّ أن أعتكف يوماً من هذا الوقت ؛ لم يصحّ عندنا إذا لم يكن صائماً من أوله ، وإن كان فإشكال.

وقالت الشافعية : إنّه يلزمه دخول المعتكف من ذلك الوقت إلى مثله من اليوم الثاني ، ولا يجوز أن يخرج بالليل ؛ ليتحقّق التتابع.

وقال بعضهم : إنّ الناذر التزم يوماً والبعضان يوم(١) ، والليلة المتخلّلة ليست من اليوم ، فلا يمنع التتابع بينهما ، كما أنّه لا يمنع وصف اليومين الكاملين بالتتابع(٢) .

ومَنْ جوّز تفريق الساعات من الشافعية في اليوم اكتفى بساعات أقصر الأيام ؛ لأنّه لو اعتكف أقصر الأيام ، أجزأه. وكذا لو فرّق على ساعات أقصر الأيام في سنين(٣) .

ولو اعتكف في أيام متباينة الطول والقصر ، فينبغي أن ينسب اعتكافه في كلّ يوم بالجزئية إليه إن كان ثُلْثاً فقد خرج عن ثُلْث ما عليه ؛ نظراً إلى اليوم الذي يوقع فيه الاعتكاف ، ولهذا لو اعتكف بقدر ساعات أقصر الأيام من يوم طويل ، لم يكفه.

مسألة ٢٠١ : إذا نذر أن يعتكف مدّة معيّنة مقدّرة‌ ، كما لو نذر أن يعتكف عشرة أيام من الآن ، أو نذر أن يعتكف هذه العشرة أو هذا الشهر ، وجب عليه الوفاء به.

فإن أفسد آخره إمّا بأن خرج لغير عذر أو بسبب غير ذلك ، فإمّا أن يقيّد بالتتابع أو لا ، فإنّ قيّد نذره بالتتابع بأن قال : أعتكف هذه العشرة أو هذا الشهر متتابعاً ، وجب عليه الاستئناف ؛ لأنّه لم يأت بما نذره فيجب القضاء ، ويكفّر‌

____________________

(١) أي : بعض هذا اليوم وبعض تاليه يقومان مقام يوم واحد.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٥٠٩ ، المجموع ٦ : ٤٩٥.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٥١٠ ، المجموع ٦ : ٤٩٥.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793

794

795

796

797

798

799

800

801

802

803

804

805

806

807

808

809

810

811

812

813

814

815

816

817

818

819

820

821

822

823

824

825

826

827

828

829

830

831

832

833

834

835

836

837

838

839

840

841

842

843

844

845

846

847

848

849

850

851

852

853

854

855

856

857

858

859

860

حربه حربي وسلمه سلمي ، ولكنّها أبت إلاّ إثارة الفتنة!!

وإنّ أعلام مؤرّخيكم الذين أرّخوا واقعة الجمل وكبار محدثيكم ذكروا أنّ رسول الله (ص) حذّرها أن تكون صاحبة الجمل الأحمر التي تنبحها كلاب حوأب ، وحين خرجت إلى البصرة مرّت بمنطقة تسمّى الحوأب فنبحتها الكلاب ، فسألت عن اسم المكان ، فقالوا : تسمّى الحوأب. فذكرت حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتحذيره لها ، فأرادت الرجوع ، ولكن طلحة والزبير وابناهما غرّوها وغيروا إرادتها وثبّتوها على عزمها الأول وهو الخروج والفتنة ، فتابعت طريقها حتى وصلت البصرة وألّبت الجيوش لقتال الإمام عليّعليه‌السلام وأجّجت نار الحرب وقتل بسببها آلاف المسلمين ، فهل تعذروها بعد هذا ، وتقبلون قولها بأنّها نسيت؟! فأيّ نسيان هذا بعد التذكر؟!(١) .

__________________

(١) لكي يسمع القارئ الكريم شكوى إمامه أمير المؤمنينعليه‌السلام ويعرف حقيقة واقعة الجمل ، اختطفت بعض النكات والجمل من نهج البلاغة وانقلها في هذا المجال :قال في الخطبة المرقّمة / ٢٢ ـ حين بلغه خبر الناكثين طلحة والزبير وأصحابهما ، ومطالبتهم بدم عثمان ـ «ألا وإنّ الشيطان قد ذمّر حزبه ، واستجلب جلبه ، ليعود الجور إلى أوطانه ، ويرجع الباطل إلى نصابه والله ما أنكروا عليّ منكرا ، ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا ، وإنّهم ليطلبون دما هم سفكوه!!». الخ.

وقال عليه‌السلام في كلام له في الخطبة رقم ١٤٨ من نهج البلاغة ـ يصف طلحة والزبير ـ «كلّ واحد منهما يرجو الامر له ، ويعطفه عليه دون صاحبه ، لا يمنّان إلى الله بحبل ولا يمدّان إليه بسبب ، كلّ واحد منهما حامل ضبّ لصاحبه ، وعمّا قليل يكشف قناعه به!».

«والله لئن أصابوا الذي يريدون لينتزعنّ هذا نفس هذا!

وليأتينّ هذا على هذا! قد قامت الفئة الباغية ، فأين المحتسبون». وقال عليه‌السلام في

٨٦١

__________________

خطبة له من نهج البلاغة رقمها ١٧٢ ، في ذكر أصحاب الجمل «فخرجوا يجرّون حرمة رسول الله (ص) كما تجرّ الامة عند شرائها ، متوجّهين بها الى البصرة ، فحبسا نساءهما في بيوتهما وأبرزا حبيس رسول الله (ص) لهما ولغيرهما في جيش ما منهم رجل الاّ وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة ، طائعا غير مكره ، فقدموا على عاملي بها ـ بالبصرة ـ وخزّان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها ، فقتلوا طائفة صبرا ، وطائفة غدرا ، فو الله لو لم يصيبوا من المسلمين إلاّ رجلا واحدا متعمدين لقتله بلا جرم جرّه لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه ، إذ حضروه فلم ينكروا ، ولم يدفعوا عنه بلسان ولا بيد ، دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة التي دخلوا بها عليهم!».

وقال عليه‌السلام في كلام له خاطب به أهل البصرة / نهج البلاغة الخطبة رقم ١٥٦ / قال عليه‌السلام «وأمّا فلانة ـ عائشة ـ فأدركها رأي النساء ، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين ، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ ، لم تفعل. ولها بعد حرمتها الأولى ، والحساب على الله تعالى».

والآن ، لكي يطمئنّ قلب القارئ الكريم إلى واقع الأمر ويعرف عائشة ونفسيّتها أكثر من ذي قبل ، فأترك القلم بيد ابن قتيبة وهو من أعلام أهل السنّة والمتوفّى سنة ٢٧٠ هجرية ، فإنه كتب في كتابه الإمامة والسياسة / ٤٨ ، ط مطبعة الأمّة بمصر / تحت عنوان : خلاف عائشة (رض) على عليّ قال [وذكروا أنّ عائشة لما أتاها أنّه بويع لعليّ ، وكانت خارجة عن المدينة ، فقيل لها قتل عثمان وبايع الناس عليا ، فقالت : ما كنت أبالي أن تقع السماء على الأرض ، قتل والله مظلوما! وأنا طالبة بدمه!!

فقال لها عبيد : إنّ أول من طعن عليه وأطمع الناس فيه لانت ولقد قلت : اقتلوا نعثلا فقد فجر!!

٨٦٢

__________________

فقالت : قد والله قلت وقال الناس ، وآخر قولي خير من أوله!

فقال عبيد : عذر والله ضعيف يا أمّ المؤمنين! ثم قال :

منك البداء ومنك الغير

ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإما

م وقلت لنا أنّه قد فجر «كفر»

فهبنا أطعناك في قتله

وقاتله عندنا من أمر

قال : فلما أتى عائشة خبر أهل الشام أنّهم ردّوا بيعة عليّ وأبو أن يبايعوه ، أمرت فعمل لها هودج من حديد وجعل فيه موضع عينيها ، ثم خرجت ومعها الزبير وطلحة وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة.]

أقول : وذكر ابن قتيبة في صفحة ٥٢ تحت عنوان : كتاب أم سلمة إلى عائشة.

[قال : وذكروا أنّه لما تحدّث الناس بالمدينة بمسير عائشة مع طلحة والزبير ونصبهم الحرب لعليّ وتألّبهم الناس ، كتبت أمّ سلمة إلى عائشة : أما بعد فإنك سدة بين رسول الله وبين أمّته ، وحجابك مضروب على حرمته ، قد جمع القرآن الكريم ذيلك فلا تبذليه ، وسكّن عقيرتك فلا تضيّعيه ، الله من وراء هذه الأمة ، قد علم رسول الله مكانك ، لو أراد أن يعهد إليك ، وقد علمت أنّ عمود الدين لا يثيب بالنساء ان مال ، ولا يرأب بهنّ إن انصدع ، خمرات النساء غضّ الأبصار وضم الذيول ، ما كنت قائلة لرسول الله (ص) لو عارضك بأطراف الجبال والفلوات ، على قعود من الإبل من منهل الى منهل. إن بعين الله مهواك ، وعلى رسول الله (ص) تردين وقد هتكت حجابه الذي ضرب الله عليك عهيداه ، ولو اتيت الذي تريدين ثم قيل لي أدخلي الجنة ، لاستحييت أن ألقى الله هاتكة حجابا قد ضربه عليّ ، فاجعلي حجابك الذي ضرب عليك حصنك ، فابغيه منزلا. لك حتى تلقيه ، فإنّ أطوع ما تكونين إذا ما لزمته ، وأنصح ما تكونين إذا ما قعدت فيه ، ولو ذكّرتك كلاما قاله رسول الله (ص) لنهشتني نهش الحيّة والسلام.

٨٦٣

__________________

فكتبت إليها عائشة : ما أقبلني لوعظك ، وأعلمني بنصحك ، وليس مسيري على ما تظنّين ، ولنعم المطلع مطلع فرقت فيه بين فئتين متناجزتين ، فإن أقدر ففي غير حرج وإن أحرج فلا غنى بي عن الازدياد منه والسلام!!]

أقول : وذكر ابن ابن قتيبة في كتابه صفحة ٥٧ قال [ولما نزل طلحة والزبير وعائشة بأوطاس من أرض خيبر ، أقبل عليهم سعيد بن العاصي على نجيب له ، فأشرف على الناس ومعه المغيرة بن شعبة ، فنزل وتوكّأ على قوس له سوداء ، فأتى عائشة فقال لها : أين تريدين يا أم المؤمنين؟ قالت : أريد البصرة ، قال : وما تصنعين بالبصرة؟ قالت : أطلب بدم عثمان! فقال : هؤلاء قتلة عثمان معك!!

ثم أقبل على مروان فقال له : وأين تريد أيضا؟ قال : البصرة.

قال : وما تصنع بها؟ قال : أطلب قتلة عثمان قال : فهؤلاء قتلة عثمان معك ، إنّ هذين الرجلين ـ طلحة والزبير ـ قتلا عثمان وهما يريدان الأمر لأنفسهما ، فلمّا غلبا عليه قالا : نغسل الدم بالدم والحوبة بالتوبة!!

ثم قال المغيرة بن شعبة : أيها الناس إن كنتم إنّما خرجتم مع أمكم فارجعوا بها خيرا لكم ، وإن كنتم غضبتم لعثمان فرؤساؤكم قتلوا عثمان!! وان كنتم نقمتم على عليّ شيئا فبيّنوا ما نقمتم عليه.

انشدكم الله فتنتين في عام واحد!! فأبوا إلاّ أن يمضوا بالناس ، فلما انتهوا إلى ماء الحوأب في بعض الطريق ومعهم عائشة ، نبحها كلاب الحوأب ، فقالت لمحمد ابن طلحة : أي ماء هذا؟ قال : هذا ماء الحوأب. فقالت : ما أراني إلاّ راجعة! قال : ولم؟ قالت : سمعت رسول الله (ص) يقول لنسائه : كأنّي بإحداكنّ قد نبحها كلاب الحوأب ، وإيّاك أن تكوني أنت يا حميراء!!

فقال لها محمد بن طلحة : تقدّمي رحمك الله ودعي هذا القول!

وأتى عبد الله بن الزبير فحلف لها بالله لقد خلفتيه أوّل الليل!!

٨٦٤

__________________

أتاها ببيّنة زور من الأعراب فشهدوا بذلك!!

فزعموا أنّها أوّل شهادة زور شهد بها في الاسلام!!

أقول : هكذا عارضوا الحق بالباطل ، هؤلاء الضّلال الذين ضلّوا وأضلّوا ، فخالفوا كتاب الله عزّ وجلّ إذ يقول : ( وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) البقرة : ٢٢٤.

فكيف إذا جعلوا الله سبحانه عرضة لأيمانهم ليشعلوا الفتنة ويشبّوا القتال بين المسلمين ، لينالوا أمانيهم الفاسدة؟!]

أقول : وذكر ابن قتيبة في صفحة ٦٣ و ٦٤ تحت عنوان تعبئة الفئتين : [.. ثم كتب عليّ إلى طلحة والزبير «أما بعد فقد علمتما أنّي لم أرد الناس حتى أرادوني ولم أبايعهم حتى بايعوني وزعمتما أنّي آويت قتلة عثمان ، فهؤلاء بنو عثمان فليدخلوا في طاعتي ثم يخاصموا إليّ قتلة أبيهم.

وما أنتما وعثمان ، إن كان قتل ظالما أو مظلوما!!

ولقد بايعتماني ، وأنتما بين خصلتين قبيحتين ، نكث بيعتكما وإخراجكما أمكما.

وكتب إلى عائشة : أما بعد فإنّك خرجت غاضبة لله ولرسوله ، تطلبين أمرا كان عنك موضوعا ، ما بال النساء والحرب والإصلاح بين الناس؟! تطلبين بدم عثمان!! ولعمري لمن عرّضك للبلاء وحملك على المعصية ، أعظم إليك ذنبا من قتلة عثمان ، وما غضبت حتى أغضبت ، وما هجت حتى هيجت ، فاتقي الله وارجعي إلى بيتك».

فأجابه طلحة والزبير : إنك سرت مسيرا له ما بعده ولست راجعا وفي نفسك منه حاجة فامض لأمرك ، أما أنت فلست راضيا دون دخولنا في طاعتك ، ولسنا بداخلين فيها أبدا ، فاقض ما أنت قاض. وكتبت عائشة : جلّ الأمر عن العتاب والسلام.] فانصف أيها القارئ هل تعذر بالنسيان بعد هذا التذكير والتحذير؟! وهل لطلحة والزبير عذر في عصيانهما وخروجهم؟! «المترجم»

٨٦٥

ألم تكن هذه المخالفات منها للقرآن الحكيم وللنبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصمات عار في تاريخها؟!

هل أنّ خروجها على الإمام عليّعليه‌السلام ، وقتالها له كان حقا أم باطلا؟ فإذا كان باطلا فكل باطل وصمة عار لفاعله ، وإن تقولوا كان حقا ، ولستم بقائلين ، فكيف التوفيق بينه وبين الأحاديث الشريفة التي مرّت عن طرق محدثيكم وكبار علمائكم ، أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال «من آذى عليا فقد آذاني». وقال «حربه حربي ، وسلمه سلمي ، ولا يبغضه إلاّ منافق». وما إلى ذلك.

بالله عليكم أنصفوا!! هل حرب عائشة وطلحة والزبير لعليّعليه‌السلام وقتالهم لهعليه‌السلام كان عن حبّهم لعليّ أم عن بغضهم لهعليه‌السلام ؟!

لم لا تنتقدوهم ولا تأخذون عليهم هذه الخطايا الكبرى والمعاصي العظمى؟! لما ذا تمرّون على هذه الحوادث مرور الجاهلين والغافلين ، ولكن تأخذون على الشيعة بأشدّ ما يكون ، لأنهم ينتقدون أعمال الصحابة ويميزون بين الحق والباطل فيمدحون أهل الحق ويفضحون أهل الباطل أيّا كانوا؟ والجدير بالذّكر أنّنا لا نروي في الصحابة وأفعالهم القبيحة إلاّ ما رواه محدثوكم وعلماؤكم ، فلما ذا لا تنقمون عليهم ولا ترفضون رواياتهم ولا تنفون كتبهم ولا تردّونها؟! بل هذه الكتب التي ننقل عنها كلها عندكم معتبرة ومقبولة وتطبع في البلاد السنيّة وعواصمهم ، مثل مصر وبغداد ولبنان وغيرها ، من باب المثال يقول العلاّمة المسعودي في كتابه مروج الذهب ج ٢ / ٧ ، وهو يتحدّث عن وقعة الجمل ، وهجوم أصحاب عائشة على أصحاب عثمان بن حنيف بعد المعاهدة كما ذكرنا فقال [فقتل منهم سبعون رجلا غير من جرح ،

٨٦٦

وخمسون من السبعين ضربت رقابهم صبرا من بعد الأسر ، وهؤلاء أول من قتلوا ظلما في الإسلام.]

هذا الخبر إذا نقله مؤرخوكم لا يحزّ في نفوسكم ولكن إذا نقله أحد الشيعة وقال إنّ هذا العمل كان ظلما قبيحا من عائشة وأصحابها ، تثور نفوسكم وتنفجر غيرتكم وتشتعل نيران التعصّب فيكم ، فترموننا بالكفر والضلالة وتبيحون لأتباعكم دماء الشيعة وأموالهم!!

الشيخ عبد السلام : لا يجوز عندنا التدخل في الحوادث التي جرت بين صحابة رسول الله (ص) ، فإنّا ننظر إليهم جميعا بعين الإكبار والاحترام ، فإنهم وإن اختلفوا بينهم ولكن الكل كانوا يدعون إلى الله ، ومن توجّه منهم إلى خطئه وانحراف مسيره عن الحق ، فقد تاب واستغفر مثل الزبير (رض) في البصرة ، وكذلك أم المؤمنين عائشة (رض) فإنها تبعت طلحة والزبير وأخذت بقولهما ، ولكنّها بعد ذلك عرفت بطلان كلامهما وأنهما أغرياها وحملاها معهما إلى البصرة ، فاستغفرت وتابت ، والله خير الغافرين ، وهو يقبل التوبة من عباده وهو أرحم الراحمين.

قلت : أولا : قولك : فإنّهم وإن اختلفوا بينهم ولكن الكلّ كانوا يدعون إلى الله. فهو مغالطة وكلام باطل ، لأنّ سبيل الله عزّ وجلّ واضح واحد وصراط الحق واحد كما قال تعالى :( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) .

وقال سبحانه :( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية ١٥٣.

٨٦٧

اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (١) .

ثانيا

وأما قولك : بأنّ الزبير بعد ما توجّه إلى خطئه وانحرافه عن الحق تاب واستغفر. فأقول : نعم تاب ولكن لم يعمل بشرائط التوبة ، فقد كان الواجب عليه أن يسعى في ردّ ممن اغراهم فيهديهم إلى الحق الذي عرفه في جانب الامام عليعليه‌السلام ، وكان يلزم أن ينضمّ هو أيضا تحت راية الحق وجيش أمير المؤمنينعليه‌السلام ولا ينعزل عن الميدان والمجاهدة.

وأما عائشة فإنّ عصيانها وذنبها معلوم لكل الناس ، ولكنّ توبتها غير معلومة ، وهي كذلك ما عملت بشرائط التوبة بل ارتكبت بعد ذلك أيضا أشياء تكشف عن حقدها وبغضها لآل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم انّ قولك : والله خير الغافرين وهو يقبل التوبة من عباده وهو أرحم الراحمين.

كل ذلك صحيح ومقبول ولكن حفظت شيئا وغابت عنك أشياء ، فقد قال الله سبحانه :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) (٢)

وكلّنا نعلم أن عائشة كانت عالمة غير جاهلة وكانت في خروجها على الإمام وقتالها لعليعليه‌السلام عامدة غير ساهية ، وقد نصحتها أم سلمة قرينتها ، ونصحها الإمام عليعليه‌السلام ، وكثير من الصحابة ، أن لا تخرج من بيتها ولا تغترّ بطلحة والزبير ومروان وأمثالهم ، وقد حذّرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبلهم ، وأمرها الله عزّ وجلّ في كتابه بقوله :( وَقَرْنَ فِي

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ١٠٨.

(٢) سورة النساء ، الآية ١٧.

٨٦٨

بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) (١) فما اعتنت بكل ذلك وخرجت وأحدثت ما أحدثت!! فكيف نحتّم بأنّ الله سبحانه قبل توبتها وهي عالمة عامدة في المعصية؟!

ثالثا : قولك : بأن طلحة والزبير أغرياها وحملاها إلى البصرة ، وأنّها عرفت بطلان كلامهما بعد ذلك الخ فإنّ قولك هذا يكشف بأنّ الحديث الذي تروونه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» كذب وافتراء على رسول الله وهو حديث موضوع مجعول ، لأنّ عائشة وآلاف من المسلمين اقتدوا بطلحة والزبير وهما من كبار الصحابة وما اهتدوا بل ضلّوا وخسروا أنفسهم ، خسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين!!!

النواب : سيدنا المكرّم! قلتم خلال كلامكم أنّ أم المؤمنين (رض) بعد توبتها من حرب الجمل أيضا ارتكبت أشياء تكشف عن حقدها وبغضها لآل النبي (ص) فلو سمحت ، بيّن لنا تلك الأشياء بشكل واضح حتى نعرف واقع الأمر.

يوما على جمل ويوما على بغل

قلت : مما لا شك فيه أنّ عائشة كانت امرأة غير هادئة وغير رزينة فقد قامت بحركات لا يقبلها الدين القويم ولا العقل السليم ، وإن كل حركة من تلك الحركات تكفي في تسويد تاريخها بوصمات الذنب والمعصية ، منها واقعة الجمل ، وكلكم تقبلون أنها بعملها في البصرة خالفت الله ورسوله ، وهي أيضا قد اعترفت بخطئها ، ولكن تقولون

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية ٣٣.

٨٦٩

أنها تابت واستغفرت ، فإذا هي ندمت وتابت ، كان اللازم عليها أن توالي عليا وتوالي آل البيت النبوي ، ولكنها خرجت مرّة أخرى وكشفت عن ضميرها الممتلئ عداوة لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك يوم تشييع جنازة الامام الحسن بن عليعليه‌السلام سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنعت من دفنه عند جدّه كما روى ذلك كثير من مؤرخيكم وأعلامكم ، منهم العلاّمة سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص ١٩٣ ، ط بيروت ، والعلاّمة ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ١٦ / ١٤ ، عن المدائني عن أبي هريرة ، وابو الفرج المرواني الأصبهاني في مقاتل الطالبيين / ٧٤ ، وفي روضة الصفا لمحمد خاوند / ج ٢ ، قسم وفاة الحسن [عليه‌السلام ] ، وتاريخ ابن الأعثم الكوفي ، وفي روضة المناظر للعلاّمة ابن شحنة ، وأبو الفداء إسماعيل في كتابه المختصر في أخبار البشر ج ١ / ١٨٣ ط مصر ، والعلاّمة المسعودي صاحب مروج الذهب ، نقل في كتابه إثبات الوصية ١٣٦ : أنّ ابن عباس قال لها ـ أي لعائشة ـ : [أما كفاك أن يقال يوم الجمل حتى يقال يوم البغل ، يوما على جمل ويوما على بغل بارزة عن حجاب رسول الله (ص) تريدين إطفاء نور الله والله متمّ نوره ولو كره المشركون ـ إنّا لله وإنّا إليه راجعون.]

ونقل بعض المحدثين أنه قال لها :

تجمّلت تبغّلت ، وإن عشت تفيّلت

لك التسع من الثمن ، وفي الكلّ تصرّفت

وأراد الهاشميون أن يجرّدوا السلاح لأن بني أمية تسلّحوا أيضا ليمنعوا من دفن الحسن المجتبىعليه‌السلام عند جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر عائشة ، ولكنّ الحسينعليه‌السلام تدارك الموقف فقال «الله الله يا بني هاشم

٨٧٠

لا تضيّعوا وصيّة أخي واعدلوا به إلى البقيع ، والله لو لا عهد إليّ أن لا أهريق في أمره محجمة دم لدفنته عند جدّنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهما بلغ الأمر!». فدفنوه في البقيع(١) .

__________________

(١) ذكر كثير من المؤرخين منع عائشة لدفن الإمام الحسنعليه‌السلام بجوار جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم أبو الفرج الأصبهاني في كتابه [مقاتل الطالبيين] ٧٤ قال [فأمّا يحيى بن الحسن صاحب كتاب «النسب» فإنه روى أنّ عائشة ركبت ذلك اليوم بغلا.

واستنفرت بني أميّة مروان بن الحكم ومن كان هناك منهم ومن حشمهم] وهو قول القائل فيوما على بغل ويوما على جمل.

ومنهم ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج ١٦ / ١٤ ، ط دار إحياء التراث العربي نقل عن المدائني عن أبي هريرة : [فلما رأت عائشة السلاح والرجال وخافت أن يعظم الشر بينهم وتسفك الدماء ـ هذا كله توجيه منه ـ قالت : البيت بيتي ولا آذن لأحد أن يدفن فيه!]

ومنهم العلاّمة سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص / ١٩٣ ، طبع بيروت وهذا نصّه : وقال ابن سعد عن الواقدي «لما احتضر الحسن قال : ادفنوني عند أبي يعني رسول الله» فأراد الحسين أن يدفنه في حجرة رسول الله (ص) ، فقامت بنو أميّة ومروان وسعيد بن العاص وكان واليا على المدينة فمنعوه!! قال ابن سعد : ومنهم أيضا عائشة وقالت : لا يدفن مع رسول الله (ص) أحد!!

ومنهم أبو الفداء في «المختصر في أخبار البشر» ج ١ / ١٨٣ طبع مصر قال [وكان الحسن قد أوصى أن يدفن عند جده رسول الله (ص) ، فقالت عائشة : البيت بيتي ولا آذن أن يدفن فيه.]

ومنهم اليعقوبي في تاريخه وهو من أعلام القرن الثالث الهجري قال : وقيل : إنّ عائشة ركبت بغلة شهباء وقالت : بيتي لا آذن فيه لأحد! فأتاها القاسم بن محمد ابن أبي بكر فقال لها : يا عمة ما غسّلنا رءوسنا من يوم الجمل الأحمر ، أتريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء؟! فرجعت.]

٨٧١

فرحة عائشة لشهادة الإمام عليعليه‌السلام

وإذا كانت عائشة نادمة على خروجها وتابت من قتالها وحربها

__________________

ومنهم النيسابوري في روضة الواعظين / ١٤٣ ، ذكر أنّ ابن عباس خاطبها قائلا [وا سوأتاه يوما على بغل ويوما على جمل! تريدين أن تطفئي نور الله ، وتقابلين أولياءه؟!]

ولنا أن نتساءل : من أين جاء لها البيت الذي دفن فيه نبي الرحمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ أما روى أبوها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ، ولا دارا ولا عقارا ، وبناء عليها منع سيدة النساء فاطمة إرثها وحقّها من أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو فرضنا أن عائشة ردّت رواية أبيها وكذّبته فكم حصّتها من الإرث؟ فقد قيل لها :

لك التسع من الثمن

وفي الكل تصرّفت؟!

لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات عن تسع زوجات وحصّة الزوجة من الإرث ثمن ٨ / ١ ما ترك الزوج من العمارات والأموال المنقولة فأمّا من الأرض فلا ترث ، وعائشة تصرّفت في الأرض خلافا لحكم الله فدفنت أباها في بيت رسول الله (ص) وسكتت عن دفن عمر أيضا.

ونصّ بعض المؤرخين كما في كتاب «الدرّة الثمينة في تاريخ المدينة» : / ٤٠٤ أنّ عائشة سمحت بدفن عبد الرحمن بن عوف في حجرة النبي (ص).

فلنا أن نتساءل : هل أنّ عبد الرحمن أولى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سبطه الأكبر الإمام الحسن الذي كان يقبّله في الملأ العام ويشمّه ويضمّه إلى صدره ويقول «الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا». ويقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اللهم إنّي أحبه وأحب من يحبه؟».

فلا أدري لأي سبب تسمح عائشة لابن عوف أن يدفن عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتبعد ريحانته وفلذة كبده عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! أكان ذلك استجابة منها لرغبة الأمويين!! أم للحقد الدفين؟

«المترجم»

٨٧٢

للامام عليعليه‌السلام ، فلما ذا أظهرت الفرح حين وصلها خبر شهادة أمير المؤمنينعليه‌السلام وسجدت شكرا لله تعالى؟!

كما أن أبا الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني ، روى في كتابه مقاتل الطالبيين / ٥٤ ـ ٥٥ / بإسناده إلى إسماعيل بن راشد وهو روى بالإسناد أيضا فقال : [لمّا أتى عائشة نعي عليّ أمير المؤمنين ـعليه‌السلام ـ تمثّلت :

فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى

كما قرّ عينا بالإياب المسافر

ثم قالت : من قتله؟ فقيل : رجل من مراد ، فقالت :

فإن يك نائيا فلقد بغاه

غلام ليس في فيه التراب

فقالت لها زينب بنت أم سلمة : ألعليّ تقولين هذا؟!

فقالت : إذا نسيت فذكّروني!!]

ثم روى أبو الفرج بإسناده عن أبي البختري قال : [لمّا أن جاء عائشة قتل عليّعليه‌السلام سجدت!!(١) .]

أيها الحاضرون! وأيها العلماء! هل بعد هذا الخبر ، تصدّقون توبتها؟ أم تقبلون أنّها كانت خفيفة العقل ، وغير رزينة ولا متوازنة في سلوكها ومعاشرتها مع آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

__________________

(١) نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج ٩ / ١٩٨ ، ط دار إحياء التراث العربي عن الشيخ أبي يعقوب وقال فيه : انه لم يكن يتشيّع. قال : ماتت فاطمة ، فجاء نساء رسول الله (ص) كلهنّ الى بني هاشم في العزاء الاّ عائشة فانها لم تأت ، واظهرت مرضا ، ونقل الى عليّعليه‌السلام عنها كلام يدلّ على السرور!! «المترجم»

٨٧٣

تناقضات عائشة في عثمان

والغريب أنكم لا تنتقدون أم المؤمنين عائشة لموقفها السلبي تجاه عثمان ، ولا تأخذون عليها جملاتها وكلماتها الشنيعة في حقه حتى رمته بالكفر ، ولكن تصبّون جام غضبكم على الشيعة وترمونهم بالكفر والضلال إذا نسبوا عثمان إلى سوء التدبير والإجحاف ، أو نسبوه إلى إتلاف بيت المال وسوء التصرّف ، وهم ينقلون كلّ ذلك من كتب أعلامكم وروى أكثر محدثيكم وأكبر مؤرخيكم أنّ عائشة كانت تؤلّب الناس وتحرّضهم على قتل عثمان ، منهم المسعودي في كتابه أخبار الزمان ، وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص / ٦٤ ، ط بيروت ، وأعلام المؤرخين : مثل ابن جرير وابن عساكر وابن الأثير وغيرهم ، ذكروا في أحداث قتل عثمان أن عائشة كانت تحرّض على قتله بالجملة المشهورة عنها : [اقتلوا نعثلا فقد كفر!]

وذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج ٦ / ٢١٥ ، ط إحياء التراث قال : قال كلّ من صنّف في السّير والأخبار : [انّ عائشة كانت من أشد الناس على عثمان ، حتى أنها أخرجت ثوبا من ثياب رسول الله (ص) ، فنصبته في منزلها ، وكانت تقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول الله (ص) لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنته! قالوا : أوّل من سمّى عثمان نعثلا ، عائشة ؛ والنعثل : الكثير شعر اللحية والجسد ، وكانت تقول : اقتلوا نعثلا ، قتل الله نعثلا!!]

قال : وروى المدائني في كتاب «الجمل» قال : لما قتل عثمان ، كانت عائشة بمكة وبلغ قتله إليها وهي بشراف ، قالت : [بعد النعثل وسحقا!!]

٨٧٤

ونقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج ٦ صفحة ٢١٦ قال : وقد روي من طرق مختلفة أنّ عائشة لما بلغها قتل عثمان وهي بمكة ، قالت : [أبعده الله! ذلك بما قدّمت يداه وما الله بظلاّم للعبيد!!]

حينما تقرءون في التاريخ أنّ أم المؤمنين كانت تتفوّه وتتكلّم بهذه الجمّل على عثمان ، لا تحكمون بكفرها وضلالتها!! ولكن اذا سمعتم من شيعي يتكلّم بأقلّ من هذا في عثمان ، تكفرونه وتأمرون بقتله!!

والجدير بالذكر أن أقوال عائشة في شأن عثمان متناقضة ، فقد ذكر المؤرّخون أنّها لمّا سمعت بأنّ الناس بايعوا عليّا بعد عثمان ، غيّرت كلامها وأظهرت بغضها وحقدها لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام فقالت : [لوددت أنّ السماء انطبقت على الأرض إن تمّ هذا قتلوا ابن عفّان مظلوما!!]

بالله عليكم فكّروا في هذا التناقض البيّن ، والتضارب الفاحش في كلام عائشة! أما يدلّ هذا التناقض والتضارب على عدم استقامتها؟ بل هو دليل ظاهر على تلوّنها وميولها مع أهوائها وتلبيتها لأغراضها النفسيّة ، وإنّ النفس لأمّارة بالسوء!

الشيخ عبد السلام : نعم ذكر المؤرخون هذه التناقضات في سيرة أم المؤمنين (رض) ، وهم ذكروا أيضا أنها ندمت وتابت واستغفرت ، والله سبحانه وعد التائبين بقبول التوبة والجنة ، ولذا نحن نعتقد أنّها في أعلى درجات الجنان عند رسول الله (ص).

قلت : إنّ كلامك تكرار لمقالك السابق ، وأنا لا أكرّر كلامي وجوابي لك ، ولكن هل من المعقول أنّ الدماء التي سفكت في الجمل

٨٧٥

بسببها ، والأموال التي نهبت بأمرها ، والحرمات التي هتكت بنظرها تذهب أدراج الرياح ، ولا يحاكمها الله على أعمالها؟!

أين إذا قول الله سبحانه :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (١) ؟!

صحيح أن الله عزّ وجلّ أرحم الراحمين ، ولكن في موضع العفو والرحمة ، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة.

ولا يخفى أنّ من شروط قبول التوبة ، ردّ حقوق الناس وإرضائهم ، فإنّ الله تعالى ربما يعفو عن حقه ، ولكن لا يعفو عن حقوق الناس. وعائشة تابت بالقول واللسان ، لا بالفعل والجنان ، ولذلك ما كانت مطمئنّة من قبول توبتها وغفران الله سبحانه لها وهي أعرف بنفسها ، ولذا ذكر أكابر علمائكم مثل الحاكم في المستدرك ، وابن قتيبة في المعارف ، والعلاّمة الزرندي في الأعلام بسيرة النبي (ص) ، وكذلك ابن البيّع النيسابوري ، وغيرهم ذكروا أنّ عائشة أوصت إلى عبد الله بن الزبير وسائر محارمها فقالت : [ادفنوني مع أخواتي بالبقيع فإنّي قد أحدثت أمورا بعد النبي (ص)!]

أمّا قولكم بأنّها نسيت بعض أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن الإمام عليعليه‌السلام وفضله ومناقبه ، ونسيت تحذير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها من خروجها على أمير المؤمنين ومحاربتها لهعليه‌السلام ، وبعد ما وضعت الحرب أوزارها وانتهت المعركة بانتصار عليعليه‌السلام وجيشه وانكسار عائشة وجيشها ، تذكّرت أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما سمعته من فمه المبارك في ذلك فتابت واستغفرت!!

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآية ٧ و ٨.

٨٧٦

أم سلمة تذكّر عائشة

فقد روى كثير من أعلام محدثيكم وكبار علمائكم خلاف ذلك ، منهم :

ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج ٦ / ٢١٧ ، ط دار إحياء التراث العربي روى عن أبي مخنف ـ لوط بن يحيى الأزدي ـ قال : [جاءت عائشة إلى أم سلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان

فقالت أم سلمة : إنك كنت بالأمس تحرّضين على عثمان وتقولين فيه أخبث القول ، وما كان اسمه عندك إلاّ نعثلا ، وإنّك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أفأذكّرك؟

قالت : نعم ، قالت : أتذكرين يوم أقبلعليه‌السلام ونحن معه ؛ حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال ، خلا بعليّ يناجيه فأطال ، فأردت أن تهجمي عليهما ، فنهيتك فعصيتني ، فهجمت عليهما ، فما لبثت أن رجعت باكية ، فقلت : ما شأنك؟ فقلت : إنّي هجمت عليهما وهما يتناجيان فقلت لعليّ : ليس لي من رسول الله إلاّ يوم من تسعة أيّام ، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي!

فأقبل رسول الله (ص) عليّ وهو غضبان محمّر الوجه ، فقال : ارجعي وراءك! والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلاّ وهو خارج من الإيمان!

فرجعت نادمة ساقطة! قالت عائشة : نعم أذكر ذلك.]

ويتابع ابن أبي الحديد رواية أبي مخنف في تذكير أم سلمة لعائشة

٨٧٧

قالت : واذكّرك أيضا [كنت أنا وأنت مع رسول الله (ص) ، وأنت تغسلين رأسه ، وأنا أحيس له حيسا ، وكان الحيس يعجبه ، فرفع (ص) رأسه وقال : يا ليت شعري ، أيّتكنّ صاحبة الجمل الأذنب ، تنبحها كلاب الحوأب ، فتكون ناكبة عن الصراط؟! فرفعت يدي من الحيس ، فقلت : أعوذ بالله وبرسوله من ذلك. ثم ضرب (ص) على ظهرك وقال : ايّاك أن تكونيها!! إيّاك أن تكونيها يا حميراء! أمّا أنا فقد انذرتك!

قالت عائشة : نعم أذكر هذا.

قالت : وأذكّرك أيضا كنت أنا وأنت مع رسول الله (ص) في سفر له ، وكان عليّ يتعاهد نعلي رسول الله (ص) فيخصفها ، ويتعاهد أثوابه فيغسلها ، فنقبت له نعل ، فأخذها يومئذ يخصفها ، وقعد في ظلّ سمرة. وجاء أبوك ومعه عمر ، فاستأذنا عليه (ص) فقمنا إلى الحجاب ، ودخلا يحادثانه فيما أراد ، ثم قالا : يا رسول الله! إنّا لا ندري قدر ما تصحبنا ، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ، ليكون لنا بعدك مفزعا.

فقال (ص) لهما : أما إنّي قد أرى مكانه ، ولو فعلت لتفرّقتم عنه ، كما تفرّقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران.

فسكتا ثم خرجا ، فلمّا خرجنا إلى رسول الله (ص) ، قلت له ، وكنت أجرا عليه (ص) منّا : من كنت يا رسول الله ، مستخلفا عليهم؟

فقال (ص) : خاصف النعل ، فنظرنا فلم نر أحدا إلاّ عليّا ، فقلت : يا رسول الله ، ما أرى إلاّ عليّا. فقال (ص) : هو ذاك. فقالت عائشة : نعم أذكر ذلك.

٨٧٨

فقالت أم سلمة : فأيّ خروج تخرجين بعد هذا؟!

فقالت : إنّما أخرج للإصلاح بين الناس ، وأرجو فيه الأجر إن شاء الله.

فقالت : أنت ورأيك ، فانصرفت عائشة عنها.]

أقول : فاعلموا أيها الحاضرون! إنّ عائشة ما كانت ناسية مكانة الإمام عليّعليه‌السلام عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنزلته منه ، بل خرجت عالمة عامدة ، ناكرة للحق ، داعية للباطل ، عازمة على الحرب والفتنة. وهدفها وغرضها إفساد الأمر على أبي الحسن أمير المؤمنين (سلام الله عليه) ، وهي تعلم أنّه أحقّ الناس بالأمر وأولادهم بالخلافة للنصّ الأخير الذي ذكّرتها به أم سلمة (سلام الله عليها).

فإنّ حديث خاصف النعل الذي رواه كثير من أعلامكم بطرق عديدة صريح في تعيين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا للخلافة والإمامة.

لذلك نحن نعتقد بدليل هذا الحديث وعشرات الأحاديث الصحيحة من نوعه وبأدلّة ثابتة من الكتاب الحكيم ، بأنّ علياعليه‌السلام هو الإمام المفترض الطاعة بعد رسول الله ، وهو خليفته بلا فصل ، ولكن مناوئيه وحاسديه غصبوا مقامه وأخّروه بدسائس سياسية ومؤامرة شيطانية وعينوا أبا بكر للخلافة من غير نصّ ولا إجماع ، فإنّ النزاع كان قائما في السقيفة من جراء ذاك الانتصاب ، وكلّنا نعلم بأنّ سيّد الخزرج سعد بن عبادة كان مخالفا لخلافة أبي بكر إلى آخر عمره وتبعه كثير من قومه. وكذلك الهاشميون كانوا مخالفين ، وبعد خلافة أبي بكر جاء عمر بن الخطاب بانتصاب وتعيين من أبي بكر ، فلا إجماع ولا شورى! وقد سبق أن بيّنّا مخالفة طلحة وجمع آخر من الصحابة

٨٧٩

لتعيين عمر وانتصابه للخلافة ، وأما عمر فقد أبدع طريقا آخر لتعيين خليفته ، إذ عيّن ستة نفرا من الصحابة فيهم عليّعليه‌السلام وعثمان ، وأمر أن يختاروا من بينهم أحدهم ، فاذا لم يتمّ الوفاق على أحد منهم خلال ثلاثة أيّام ، أصدر حكم إعدامهم وقتلهم!! وقد آل الأمر بمكيدة عمر إلى عثمان.

فنحن نعتقد أنّ هذه الطرق المتناقضة في تعيين الخلفاء الثلاثة ، قبل الإمام عليعليه‌السلام ، كلها طرق غير مشروعة ما سنّها الله ولا رسوله لأنّا لو فرضنا بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تجتمع أمتي على خطأ» فلم يلحظ إجماع الأمّة في هذه الطرق الثلاثة ، ولكن خلافة الإمام عليعليه‌السلام امتازت بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنّة.

الشيخ عبد السلام : لا شك أنّ الإجماع حصل على خلافة أبي بكر بالتدريج ، ونحن نقبل بأن الإجماع ما حصل في السقيفة ولكن بعدها دخل الناس كلهم في طاعة أبي بكر (رض) وحتى الهاشميين بما فيهم عليّ والعباس بايعوا بعد وفاة فاطمة الزهراء (رضي الله عنها).

قلت : أوّلا فاطمة الزهراءعليها‌السلام وهي سيّدة نساء العالمين والمسلمين بإجماع الأمة ، ما بايعت لأبي بكر بل ماتت وهي ساخطة وناقمة عليه كما مرّ في المجالس السابقة ، كما وقد مرّ أيضا في المجالس السابقة بأن سيد الخزرج سعد بن عبادة ما بايع أبا بكر إلى أن قتل غيلة. وهذا يكفي لبطلان الإجماع الذي تدّعونه.

ثانيا : لقد أثبتنا في المجالس السالفة أنّ بيعة كثير من المسلمين في المدينة كانت بالجبر والإكراه لا عن الطوع والرضا ، وهذا خلاف شرط صحة الاجماع.

٨٨٠

881

882

883

884

885

886

887

888

889

890

891

892

893

894

895

896

897

898

899

900

901

902

903

904

905

906

907

908

909

910

911

912

913

914

915

916

917

918

919

920

921

922

923

924

925

926

927

928

929

930

931

932

933

934

935

936

937

938

939

940

941

942

943

944

945

946

947

948

949

950

951

952

953

954

955

956

957

958

959

960

961

962

963

964

965

966

967

968

969

970

971

972

973

974

975

976

977

978

979

980

981

982

983

984

985

986

987

988

989

990

991

992

993

994

995

996

997

998

999

1000

1001

1002

1003

1004

1005

1006

1007

1008

1009

1010

1011

1012

1013

1014

1015

1016

1017

1018

1019

1020

1021

1022

1023

1024

1025

1026

1027

1028

1029

1030

1031

1032

1033

1034

1035

1036

1037

1038

1039

1040

1041

1042

1043

1044

1045

1046

1047

1048

1049

1050

1051

1052

1053

1054

1055

1056

1057

1058

1059

1060

1061

1062

1063

1064

1065

1066

1067

1068

1069

1070

1071

1072

1073

1074

1075

1076

1077

1078

1079

1080

1081

1082

1083

1084

1085

1086

1087

1088

1089

1090

1091

1092

1093

1094

1095

1096

1097

1098

1099

1100

1101

1102

1103

1104

1105

1106

1107

1108

1109

1110

1111

1112

1113

1114

1115

1116

1117

1118

1119

1120

1121

1122

1123

1124

1125

1126

1127

1128

1129

1130

1131

1132

1133

1134

1135

1136

1137

1138

1139

1140

1141

1142

1143

1144

1145

1146

1147

1148

1149

1150

1151

1152

1153

1154

1155

1156

1157

1158

1159

1160

1161

1162

1163

1164

1165

1166

1167

1168

1169

1170

1171

1172

1173

1174

1175

1176

1177

1178

1179

1180

1181

1182

1183

1184

1185

1186

1187

1188

1189

1190

1191

1192

1193

1194

1195

1196

1197

1198

1199

1200

1201

1202

1203

1204

1205