ليالي بيشاور

ليالي بيشاور4%

ليالي بيشاور مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 1205

ليالي بيشاور
  • البداية
  • السابق
  • 1205 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 235334 / تحميل: 3852
الحجم الحجم الحجم
ليالي بيشاور

ليالي بيشاور

مؤلف:
العربية

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة الناشر

الحمدلله وحده

والصلاة على من لا نبي بعده

وآله الأطهار.

بين مفردتين :

بين يدي هذا الكتاب لا بدأ أن نلقي بصيصاً من الضوء على قضية ربما خفيت على البعض وسببت الكثير من الخلط والإبهام في الأذهان

وهذه القضية هي : أنّ هنالك مفردتين :

«المفردة الأولى» : «الوحدة السياسية» في مواجهة العدو المشترك.

و «المفردة الأولى» : الوحدة الثانية : «الحوار الفكري الحر» في محاولة الوصول الى «الحق».

فهل يوجد هنالك تناقض بين هاتين المفردتين؟

وهل تلغي الوحدة السياسية : الحوار الفكري الحرّ؟

أم هل يفجر الحوار الفكري الحرّ : الوحدة السياسية؟

الجواب على هذه الأسئلة الثلاثة : كلا!

إذا لا يوجد هنالك أي تناقض بين الوحدة السياسية والحوار الفكري.

إن الوحدة السياسية بين أبناء الأمة الواحدة ضرروية في مواجهة العدو المشترك ولكن «الوصول الى الحق» هو الآخر أيضاً

فالحق هو محور الكون وبالحق قامت السموات والأرض وهدف كل إنسان ينبغي أن يكون هو «الوصول الى الحق».

وهل يمكن الوصول إلى الحق إلا عبر «الحوار الفكري الحر» و «النقاش العلمي البناء»؟

١

القرآن الكريم يدعو إلى الحوار :

ولعله من هنا نجد أن القرآن الكريم : يفتح جميع المناطق الفكرية للحوار الحرّ فلا توجد هنالك «منطقة محرمة» أمام الحوار والمناقشة.

وحتى مسألة «الألوهية» ـ وهي القاعدة التي يبتني علهيا الدين كله ـ يدعها القرآن الكريم مفتوحة للحوار والبحث والمناقشة.

فالقرآن الكريم يحاور «الرأي الآخر» في الألوهية

وفي التوحيد

وفي النبوة

وفي المعاد

وفي مسائل أخرى كثيرة كما يظهر لمن راجع آيات القرآن الكريم ويؤسس القرآن الكريم قاعدة الحوار في جميع المسائل بقوله :( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه )

وهذا الكتاب ـ الذي يرقد بين يديك أيها القاري الكريم ـ يتناول مسائل «الامامة» ومتفرعها و «شطراً من الأحكام الفقيه الخلافية» في حوار موضوعي بنّاء.

ونسأل الله تعالى : أن يكون هذا الكتاب خطوة في طريق اكتشاف الحق والعمل به والدعوة إليه والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الناشر

٢

مقدمة المترجم

جدير بنا أن نسمي عصرنا بعصر التفاهم والحوار الحرّ والتفاهم.

لقد حان الوقت ليتصارح المسلمون بأمورهم العقائدية حتى يظهر الحق وتتوحّد كلمتهم عليه فإن الوحدة الإسلامية، أمنية جميع المسلمين.

ولأننا لمسنا أن التفرقة هي بغية أعدائهم، وهي الوسيلة التي استعملها أعداء الدين والمستعمرون لفرض سيطرتهم على البلاد الإسلامية، ونهب خيراتها وبث مبادي الكفر والإلحاد والضلال والفساد بين أبناء الإسلام الحنيف.

وبما أن الوحدة الاسلامية ضرورة ملحّة، وهي لا تتم إلاّ بالصدق والحوار الايجابي البنّاء بلا تعصّب ولا عناد مع تحكيم القرآن والعقل والوجدان الحر، في اختيار أحسن القول، كما أمر بذلك ربّ العباد في قوله العزيز: فَبَشِّرْ عِبٰادِ اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ (الزمر آية ١٨).

فيلزم على المسلم الكامل والإنسان العاقل، أن يكون بصيرا في أمر دينه، عالما بقضايا مذهبه، لا يقبل قولا ولا يتمسّك به إلاّ عن دليل وبرهان، حتى يصبح في أمره على يقين وإيمان.

لأنّه إذا سلك طريقا وتمسّك بعقائد ومبادي بغير علم يسنده ولا دليل يعضده وبرهان يرشده، فسيكون كمن أغمض عينيه ولزم طريقا طويلا يمشي فيه على أمل أن يوصله إلى مقصده ومنزله، حتى إذا أصاب رأسه الحائط، فأبصر وفتح عينيه، فإنه سوف يرى نفسه بعيدا عن مقصده، تائها ضالا عن سواء الصراط.

فمن لم يحقق في الأمور الدينية ولم يدقّق في القضايا المذهبية، بل ذهب إلى مذهب آبائه ولزم سبيل أسلافه، فربما فتح عينيه بعد جهد طويل، فيرى نفسه تائها قد ضلّ السبيل.

٣

ولذا عبّر اللّه العزيز الحكيم سبحانه عن هكذا إنسان بالأعمى فقال:

( وَمَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (الإسراء ٧٢)

ولإنقاذ المسلمين من العناد والتعامي أقدمت على تعريب هذا الكتاب القيّم من اللغة الفارسية إلى العربية، لعلّه يحقّق شيئا من هذا الهدف السامي. راجيا أن يترك في المسلمين أثرا ايجابيا، فيقرّب قلوبهم ويوحّد صفوفهم وكلمتهم، ويجمعهم على كلمة اللّه سبحانه بالحق والصلاح، والسعادة والفلاح. ولقد أدركت مؤلّف هذا الكتاب المرحوم آية اللّه السيد محمد (سلطان الواعظين) وحضرت مجلسه وسمعت حديثه ومواعظه.

فلقد كان رحمة اللّه عليه رجلا ضخما في العلم والجسم، ذا شيبة وهيبة، وكان جسيما وسيما ذا وجه منير، قلّ أن رأيت مثله، وكان آنذاك يناهز التسعين عاما من عمره الشريف، ولقد شاركت في تشييع جثمانه الطاهر في مدينة طهران، حيث عطّلت أسواق عاصمة ايران لوفاته وخرجت حشود عظيمة في مواكب عزاء حزينة وكئيبة، ورفعت الرايات والأعلام السوداء معلنة ولائها وحبّها لذلك العالم الجليل والسيّد النبيل.

ولا أذكر تاريخ وفاته بالضبط، ولكن كان في العقد الأخير من القرن الرابع عشر الهجري، وأشهد اللّه العزيز أني لما بدأت بتعريب هذا الكتاب رأيت ذلك السيد العظيم مرتين في الرؤيا، وكان مقبلا عليّ متبسّما ضاحكا في وجهي، وكأنه كان يشكرني على هذا العمل.

فأسأل اللّه تبارك وتعالى أن يتغمّده برحمته الواسعة وأن يتقبّل هذا المجهود منه ومنّا ويجعله ذخيرة لآخرتنا ولكل من ساعد وسعى في نشر هذا الكتاب، إنه سميع الدعاء.

قم المقدسة حسين الموسوي

٢٨ شوال ١٤١٩ ه‍ الموافق ١٤ فبراير ١٩٩٩

٤

بسم اللّه الرحمن الرحيم

المقدّمة

الحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على محمّد رسوله المصطفى، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

وبعد:

إنّ هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم، هو الكتاب القيّم: «ليالي بيشاور» لمؤلّفه الكبير: سماحة آية اللّه السيّد محمد الموسوي، الملقّب ب‍: (سلطان الواعظين الشيرازي).

وقد كتب مقدّمة طويلة لكتابه استغرقت ما يقرب من مائة صفحة من كتابه القيّم هذا، تطرّق فيها إلى أهميّة التقارب بين المسلمين، وإلغاء الخلافات والخصومات التي بثّها الأعداء في أوساطهم.

وحثّ فيها على الوحدة الإسلامية والاخوّة الدينية التي ندب اللّه المسلمين إليها، وحرّض على الاعتصام بحبل اللّه الذي دعاهم القرآن للتمسّك به والالتفاف حوله.

وحذّرهم عواقب التشتّت والتفرّق، وذكّرهم اللّه من الوقوف بعيدا والاكتفاء بالتفرّج، أو الابتعاد والاشتغال ـ لا سمح اللّه ـ بقذف

٥

بعضهم بعضا بما يسخط الرحمن ويؤذي حبيبه المصطفى، الذي بعثه تعالى رحمة للعالمين، وأرسله ليتمّ به مكارم الأخلاق، ومعالي الشّيم والفضائل الإنسانية، وجمع الناس على التوحيد.

وندبهم إلى ما ندب إليه القرآن من التعارف فيما بينهم، قال تعالى:( لِتَعٰارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ ) ١ مرتئيا أنّ أفضل الطرق للتعارف هو: الحوار الحرّ، والنقاش العلمي البحت، والمناظرة المنطقية البعيدة عن كلّ تعصّب، والمجرّدة عن التقاليد والأهواء، ومن الخلفيات الشائنة.

وقد اشترك هو (قدّس سرّه) ـ بدعوة من أصدقائه ومعارفه في بيشاور٢ ـ في مجالس المناظرة التي عقدت له بهذا الشأن، والتي اشترك فيها كبار علماء السّنّة المعاصرين له آنذاك، وقد استمرّت المناظرة ليالي عديدة استغرقت عشرة مجالس، نشرتها في حينها جرائد الهند وصحفها، وتلقّاها الناس بالقبول والترحيب.

ثمّ وفّق المؤلّف ـ رحمه اللّه ـ إلى جمعها في هذا الكتاب: «ليالي بيشاور» وعرضها على الطالبين لتكميل الإفادة والاستفادة، كما وحرّض القرّاء الكرام على قراءة الكتاب بدقّة، وطلب منهم مواصلة قراءته من الصفحة الاولى حتّى الصفحة الأخيرة، وذلك لترابط البحث وتسلسله، حيث يؤدّي قطعه إلى ضياع الموضوع، وعدم الاستفادة الكاملة من البحث.

ولمّا كان الكتاب قد كتب باللغة الفارسية، وقد أجاز ـ قدّس سرّه ـ في

______________

(١) سورة الحجرات، الآية ١٣.

(٢) وهي على الحدود الباكستانية الأفغانية.

٦

المقدمة ترجمة الكتاب ـ ترجمة أمينة ـ إلى سائر اللغات، حاولنا ترجمته إلى اللّغة العربية، مساهمة منّا في هذه الخدمة الإنسانية النبيلة، بغية التوصّل إلى الحقّ، والتعرّف على الواقع والحقيقة، ومشاركة منّا في ما دعانا إليه كتاب اللّه وسنّة رسوله الكريم وسيرة أهل بيته الطاهرين، من: التعارف والتقارب، والتوحيد والتآخي، وأخيرا نيل العزّة والسعادة في الدنيا، والنجاة والفوز بالجنّة في الآخرة، إن شاء اللّه تعالى.

قال السيّد المؤلّف:

سافرت إلى العتبات المقدّسة في شهر ربيع الأوّل عام ١٣٤٥ ه‍، وكان لي من العمر ثلاثون سنة، فتشرّفت بزيارة مراقد الأئمّة الأطهار من آل النبي المختار (صلوات اللّه وسلامه عليه وعليهم) في العراق، ومنها عزمت على السفر إلى الهند وباكستان بغية السفر منهما إلى خراسان والتشرّف بزيارة الإمام الرضا عليه السّلام، فوصلت ـ كراتشي ـ وهي مدينة ساحلية تعدّ من أهمّ الموانئ في المنطقة ـ.

وما إن وصلت إليها حتّى انتشر خبر وصولي في أهمّ الصحف هناك، فجاءتني دعوات كثيرة من الإخوة المؤمنين الّذين كانت بيني وبينهم معرفة سابقة ومودّة قديمة، وكان لا بدّ لي من إجابة تلك الدعوات الكريمة، وإن كانت تستوجب منّي قطع مسافات بعيدة، وشدّ الرحال من مدينة إلى اخرى، ومن بلد إلى آخر.

فواصلت سفري إلى مدينة بومبي، وهي ـ أيضا ـ من أكبر مدن الهند وأعظم الموانئ فيها، فاستقبلني المؤمنون الّذين دعوني إليها

٧

ومكثت فيها ضيفا معزّزا بين أهلها ليالي وأيّاما.

ثمّ تابعت السفر إلى مدينة (دهلي) ومنها إلى (آگره) و (لاهور) و (بنجاب) و (سيالكوت) و (كشمير) و (حيدرآباد) و (كويته) وغيرها

وقد استقبلني كثير من الناس وعامة المؤمنين في هذه المدن بحرارة فائقة، فكانوا يرحّبون بقدومي ويحيّوني بهتافات وتحيّات على العادات والرسوم الشعبية المتعارفة هناك.

وفي أيّام وجودي في تلك المدن المهمّة التي سافرت إليها، كان العلماء من مختلف المذاهب والأديان يزورونني في منزلي، وكنت أردّ لهم الزيارة في بيوتهم، وكان غالبا ما يدور بيني وبينهم محاورات دينية ومناظرات علمية مفيدة، كنت أتعرّف من خلالها على عقائدهم، وهم يتعرّفون على عقائدي.

ومن أهمّ تلك المناقشات والمحاورات، حوار ونقاش دار بيني وبين البراهمة والعلماء الهندوس في مدينة (دهلي) ، وكان ذلك بحضور قائد الهند ومحرّرها من الاستعمار الزعيم الوطني غاندي.

وكانت الصحف والمجلاّت تنشر ـ عبر مراسليها ـ كلّ ما يدور في المجلس من الحوار بالتفصيل، وبكلّ أمانة وصدق.

وكانت نتيجة تلك المناظرات أن ثبت الحقّ وزهق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقا، فقد خرجت من الحوار منتصرا على المناظرين، وذلك بالأدلّة العلمية والبراهين العقلية، حتّى ثبت للحاضرين في المجلس أنّ مذهب أهل البيت ـ الذي هو مذهب الشيعة الجعفرية الاثني عشرية ـ هو المذهب الحقّ، وأنّه أحقّ أن يتّبع، وأنا أقول مردّدا:

٨

( اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي هَدٰانٰا لِهٰذٰا وَمٰا كُنّٰا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لاٰ أَنْ هَدٰانَا اَللّٰهُ ) (١) .

السفر إلى سيالكوت

ثمّ سافرت إلى مدينة (سيالكوت) بدعوة خاصّة من «الجمعية الاثني عشرية» التي كان يرأسها صديقي الوفي الاستاذ أبو بشير السيّد علي شاه النقوي، مدير مجلّة «درّ النجف» الاسبوعية.

وعند ما دخلت هذه المدينة لقيت استقبالا حافلا وتجمّعا من مختلف الطبقات، ومن حسن الحظّ أنّي وجدت ضمن المستقبلين زميلا آخرا لي، كان وفيّا مشفقا، وهو الزعيم (محمّد سرورخان رسالدار) ابن المرحوم (رسالدار محمد أكرم خان) وأخ الكولونيل (محمد أفضل خان) وهو من كبار شخصيّات اسرة (قزلباش) في ولاية (البنجاب).

وتعود معرفتي بهذه الاسرة الكريمة إلى عام ١٣٣٩ ه‍ في مدينة كربلاء المقدّسة، حيث كانوا قد تشرّفوا آنذاك بزيارة مراقد الأئمّة الأطهار من آل النبي المختار (صلوات اللّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين) وسكنوا فيها، كما كانت لهم مناصب حكومية مرموقة في ولاية البنجاب.

وكان (محمد سرور خان) هذا رئيس شرطة (سيالكوت) وكان أهل البلد يحبّونه ويحترمونه لشجاعته وحسن سيرته وديانته.

فما أن رآني حتّى ضمّني إلى صدره، ورحّب بقدومي، وطلب منّي أن أحلّ ضيفا عنده وأنزل مدّة إقامتي ـ هناك ـ في بيته، فقبلت

____________

(١) سورة الاعراف، الآية ٤٣.

٩

دعوته وذهبت معه، وشيّعني المستقبلون إلى ذلك البيت الرفيع.

وفور نزولي ضيفا هناك نشرت صحف ولاية (البنجاب) خبر وصولي إلى (سيالكوت) فكانت الوفود والرسائل ـ رغم عزمي على السفر إلى إيران لزيارة الإمام الرضا عليه السّلام ـ تتسابق في دعوتي إلى زيارة بلادهم ومدنهم.

وأخصّ بالذكر سماحة حجّة الإسلام السيّد علي الرضوي اللاهوري، العالم الجليل، والمفسّر النبيل، صاحب تفسير «لوامع التنزيل» ذي الثلاثين مجلّدا، وكان يسكن مدينة لاهور، فدعاني بإلحاح منه وإصرار إلى هناك، فاستجبت لدعوته، وذهبت ملبّيا طلبه.

كما وتلقّيت فيها أيضا دعوة كريمة من إخواني المؤمنين من اسرة قزلباش، الّذين كانوا من شخصيّات ورجال الشيعة المعروفين في ولاية (البنجاب) ، وكانت دعوتهم لي لزيارة مدينة (بيشاور) وهي آخر مدينة حدودية مهمّة تربط ولاية البنجاب بأفغانستان.

ولمّا تلقّيت تلك الدعوة، ألحّ عليّ الزعيم (محمد سرور خان) ـ مضيّفي الكريم ـ بأن لا أردّ دعوة أفراد اسرته ورجال قومه من (بيشاور) ورجاني أن ألبّي دعوتهم وأذهب إليهم.

في بيشاور

ثمّ إنّي عزمت على الذهاب إلى بيشاور، فسافرت إليها في اليوم الرابع عشر من شهر رجب الحرام، وحين وردتها استقبلني أهلها استقبالا حافلا قلّ نظيره في تلك المدينة، وكان على رأس المستقبلين رجالات ووجهاء اسرة قزلباش.

١٠

ولمّا استقرّ بي المكان طلبوا منّي بإصرار أن أرتقي المنبر وأخطب فيهم ، ولمّا لم أكن اجيد اللّغة الهندية ، لم اوافق على ارتقاء المنبر ، ولم أخطب طول سفري في الهند ، رغم طلباتهم المتكرّرة.

ولكن لمّا كان أهالي مدينة بيشاور يجيدون اللغة الفارسية ، وكان أكثرهم يتكلّم بها ، حتّى كادت اللغة الفارسية أن تكون هي اللغة الدارجة فيها ، لبّيت طلبهم وقبلت أن أخطب فيهم بالفارسية.

فكنت أرتقي المنبر وقت العصر في الحسينية التي أسّسها المرحوم (عادل بيك رسالدار) وكانت مؤسّسة ضخمة تتّسع لضم الجماهير الغفيرة من الناس ، وكانت تمتلئ بالحاضرين ، وهم ليسوا من الشيعة فحسب ، بل فيهم كثير من أصحاب الأديان والمذاهب المختلفة ـ الإسلامية وغيرها ـ.

موضوع البحث

ولمّا كان أكثر أهالي بيشاور مسلمين ، ومن العامّة ، وكانوا يحضرون في المجلس مع كثير من علمائهم ومشايخهم ، جعلت موضوع البحث هو : الإمامة ، فكنت أتكلم حول : «عقائد الشيعة» وابيّن دلائل الشيعة العقلية والنقلية لإثباتها ، وأذكر النقاشات ، في المسائل الخلافية مع العامّة.

وعلى أثرها طلب منّي علماء السنّة وكبار شخصيّاتهم الّذين كانوا يحضرون البحث أن اجتمع بهم في لقاء خاصّ للإجابة عن إشكالاتهم ، فرحّبت بهم ولبّيت طلبهم.

فكانوا يأتون في كلّ ليلة إلى البيت ، ويدور البحث بيننا ساعات

١١

طويلة حول المواضيع الخلافية من بحث الإمامة وغيرها.

من بركات المنبر

وفي يوم من الأيّام عند نزولي من المنبر أخبرني بعض الحاضرين من أصدقائي بأنّ عالمين كبيرين من مشايخ العامة وهما : الحافظ محمد رشيد ، والشيخ عبد السّلام ، وكانا من أشهر علماء الدين في (كابل)(١) ـ ومن منطقة تدعى ضلع ملتان ـ قد قدما إلى بيشاور ليلتقيا بي ويشتركا مع بقية الحاضرين في الحوار الدائر فيما بيننا كلّ ليلة ، وطلبوا مني السماح لهما.

فأبديت سروري ورضاي بهذا النبأ ، واستقبلتهما بصدر منشرح وقلب منفتح ، ورحّبت بقدومهما وجالستهما مع جماعة كبيرة من أصحابهما في ساعات كثيرة.

فكانوا يأتون بعد صلاة المغرب إلى المنزل الذي نزلت فيه للمناظرة ، وذلك لمدة عشر ليال متتالية ، وكان الحوار والنقاش يدور حول المسائل الخلافية بيننا ، ويطول إلى ستّ أو سبع ساعات ، وربّما كان البحث والحوار يستمرّ بنا أحيانا إلى طلوع الفجر ، كلّ ذلك بحضور شخصيات ورجال الفريقين في بيشاور.

ولمّا انتهينا من المحاورة والمناظرة في آخر ليلة من المجلس ، أعلن ستّة من الحاضرين ـ من العامّة ـ تشيّعهم ، وكانوا من الأعيان والشخصيات المعروفة في المدينة.

ومن حسن التقدير أنّه كان يحضر مجلسنا ما يقرب من مائتي

__________________

(١) عاصمة أفغانستان.

١٢

كاتب من الفريقين ، إذ كانوا يشتركون مع الحاضرين في مجلس المناظرة للكتابة ، فكانوا يكتبون المواضيع المطروحة ، ويسجّلون الحوار والنقاش وما يجري من مسائل وأجوبة وردود وشبهات ، بأقلام أمينة وعبارات وافية وجميلة.

وكان بالإضافة إلى أولئك الكتّاب ، أربعة من الصحفيّين يكتبون أيضا ما يدور في المجلس بكلّ جزئيّاته ، ثمّ ينشرون ما يدوّنونه من المناظرات والمناقشات في اليوم الثاني في الصحف والمجلاّت الصادرة هناك.

ويضيف المؤلّف ـرحمه‌الله ـ بعد ذلك : بأنّه سيعرض على القارئ الكريم في هذا الكتاب الذي سمّاه : «ليالي بيشاور» ما نقلته تلك الصحف الرصينة ، وسجّلته تلك الأقلام الأمينة ، وما سجّله هو بنفسه من نقاط مهمّة عن تلك الليالي والمجالس التاريخية القيّمة.

ثمّ يدعو الله العليّ القدير أن ينفع به المسلمين ، ويجعله ذخيرة له في يوم الدين ، وكان قد كتبه وفرغ من تأليفه في طهران.

العبد الفاني

محمّد الموسوي

«سلطان الواعظين الشيرازي»

١٣
١٤

المجلس الأول

ليلة الجمعة ٢٣ / رجب / ١٣٤٥ هج

المكان : بيت المحسن الوجيه الميرزا يعقوب علي خان قزلباش(١) ، من الشخصيّات البارزة في بيشاور.

الابتداء : أوّل ساعة من الليل بعد صلاة المغرب.

افتتاحية المجلس : حضر المشايخ والعلماء ، وهم :

__________________

(١) كان البيت واسعا بحيث يسع للكثير من الناس ، وكان صاحبه قد استعدّ لاستضافة الوافدين ، ولذا كان المجلس ينعقد في كلّ ليلة وباستمرار في ذلك المكان ، وكان صاحب البيت أيضا يقوم بواجبه تجاه الضيوف من : حسن الضيافة ، وتكريم الحاضرين لترحيب بقدومهم ، وتقديم الشاي والفواكه والحلوى لهم ، وذلك على أحسن وجه.

وقزلباش يعني : أحمر الرأس ، ولقب «حمر الرءوس» كان يطلق على فوج خاصّ من جيش نادرشاه ، سكنوا أفغانستان لمّا فتحها نادرشاه ، ولمّا ضاقت الامور على الشيعة هناك هاجروا إلى الهند وانتشروا فيها ، وهم من الشيعة الأقوياء في تشيّعهم حتّى اليوم.

١٥

الحافظ(١) محمد رشيد ، والشيخ عبد السلام ، والسيّد عبد الحيّ ، وغيرهم من العلماء ، وعدد كبير من الشخصيّات والرجال من مختلف الطبقات والأصناف.

فرحّبت بهم واستقبلتهم بصدر منشرح ووجه منبسط ، كما ورحّب بهم صاحب البيت واستقبلهم استقبالا حارّا ، ثمّ أمر خدمه فقدّموا الشاي والفواكه والحلوى لجميع من حضر.

هذا ، ولكنّ مشايخ القوم كانوا على عكس ما كنّا معهم ، فقد رأينا الغضب في وجوههم ، إذ إنّهم واجهونا في البداية بوجوه مقطّبة مكفهرّة ، وكأنّهم جاءونا للمعاتبة لا للتفاهم والمناظرة.

أمّا أنا فكنت لا أبالي بهذه الامور ، لأنّي لم أبتغ من وراء هذا اللّقاء هدفا شخصيا ، ولم أحمل في نفسي عنادا ولا في صدري تعصّبا أعمى ضدّ أحد ، وإنّما كان هدفي أن أوضّح الحقّ وأبيّن الحقيقة.

ولذلك لم أتجاوز عما كان يجب عليّ من المعاملة الحسنة ، فقابلتهم بالبشر والابتسامة ، والترحيب والتكريم ، وطلبت منهم أن يبدءوا بالكلام بشرط أن يكون المتكلّم شخصا معيّنا عن الجماعة حتّى لا يضيع الوقت ، ولا يفوت الغرض الذي اجتمعنا من أجله.

فوافقني القوم على ذلك وعيّنوا من بينهم الحافظ محمد رشيد ليتكلّم نيابة عنهم ، وربّما خاض الآخرون ـ أحيانا ـ في البحث ولكن مع إذن مسبق.

__________________

(١) الحافظ : يطلق على من حفظ القرآن وحفظ سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علماء العامة ، أو الخاصة ، أو على من حفظ مائة ألف حديث متنا وإسنادا.

١٦

بدء المناظرة

بهذا أخذ المجلس طابعه الرسمي ، وبدأت المناظرات بيني وبينهم بكلّ جدّ وموضوعيّة ، فبدأ الحافظ محمد رشيد وخاطبني بلقب : (قبله صاحب)(١) قائلا :

منذ نزولكم هذا البلد ، شرّفتم مسامع الناس بمحاضراتكم ، وخطبكم ، ولكن بدل أن تكون محاضراتكم منشأ الالفة والإخاء فقد سبّبت الفرقة والعداء ، ونشرت الاختلاف بين أهالي البلد ، وبما أنّه يلزم علينا إصلاح المجتمع ورفع الاختلاف منه ، عزمت على السفر ، وقطعت مسافة بعيدة مع الشيخ عبد السّلام وجئنا إلى بيشاور لدفع الشبهات التي أثرتموها بين الناس.

وقد حضرت اليوم محاضرتكم في الحسينية ، واستمعت لحديثكم ، فوجدت في كلامكم سحر البيان وفصل الخطاب أكثر ممّا كنت أتوقّعه ، وقد اجتمعنا ـ الآن ـ بكم لننال من محضركم الشريف ما يكون مفيدا لعامة الناس إن شاء الله تعالى.

فإن كنتم موافقين على ذلك ، فإنّا نبدأ معكم الكلام بجدّ ، ونتحدّث حول المواضيع الأساسية التي تهمّنا وتهمّكم؟

قلت : على الرحب والسعة ، قولوا ما بدا لكم ، فاني استمع لكم

__________________

(١) هذه الكلمة من أهم الألقاب التي يخاطب بها المسلمون في الهند وباكستان ، علماء دينهم ومشايخهم ، وتعني عندهم : «الإمام والمقتدى» لذلك كانت الصحف التي تنشر تلك المناظرات تعبّر عن السيّد «سلطان الواعظين» بلقب : «قبله صاحب» «المترجم».

١٧

بلهفة ، وأصغي لكلامكم بكلّ شوق ورغبة ، ولكن أرجو من السادة الحاضرين جميعا ـ وأنا معكم ـ أن نترك التعصّب والتأثّر بعادات محيطنا وتقاليد آبائنا ، وأن لا تأخذنا حميّة الجاهلية ، فنرفض الحقّ بعد ما ظهر لنا ، ونقول ـ لا سمح الله ـ مثل ما قاله الجاهلون :( حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ) (١) أو نقول :( بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ) (٢) .

فالرجاء هو أن ننظر نحن وأنتم إلى المواضيع والمسائل التي نناقشها نظر الإنصاف والتحقيق ، حتّى نسير معا على طريق واحد ونصل إلى الحقّ والصّواب ، فنكون كما أراد الله تعالى لنا : إخوانا متعاضدين ومتحابّين في الله تبارك وتعالى.

فأجاب الحافظ : إنّ كلامكم مقبول على شرط أن يكون حديثكم مستندا إلى القرآن الكريم فقط.

قلت : إن شرطكم هذا غير مقبول في عرف العلماء والعقلاء ، بل يرفضه العقل والشرع معا ، وذلك لأنّ القرآن الكريم كتاب سماويّ مقدّس ، فيه تشريع كلّ الأحكام بإيجاز واختصار ممّا يحتاج في فهمه إلى من يبيّنه ، والسنّة الشريفة هي المبيّنة ، فلا بدّ لنا أن نرجع في فهم ذلك إلى الأخبار والأحاديث المعتبرة من السنّة الشريفة ونستدلّ بها على الموضوع المقصود.

الحافظ : كلامكم صحيح ومتين ، ولكن أرجو أن تستندوا في حديثكم إلى الأخبار الصحيحة المجمع عليها ، والأحاديث المقبولة عندنا وعندكم ، ولا تستندوا بكلام العوامّ والغثّ من عقائدهم.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ١٠٣.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٧٠.

١٨

وأرجو أيضا أن يكون الحوار هادئا ، بعيدا عن الضوضاء والتهريج حتّى لا نكون موضع سخرية الآخرين ومورد استهزائهم.

قلت : هذا كلام مقبول ، وأنا ملتزم بذلك من قبل أن ترجوه منّي ، فإنّه لا ينبغي لرجل الدين والعالم الروحي إثارة المشاعر والتهريج في الحوار العلمي والتفاهم الديني ، وبالأخصّ لمن كان مثلي ، إذ إنّ لي العزّ والفخر وشرف الانتساب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو صاحب الصفات الحسنة والخصال الحميدة والخلق العظيم ، الذي أنزل الله تعالى فيه :( إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) .

ومن المعلوم أنّي أولى بالالتزام بسنّة جدّي ، وأحرى بأن لا أخالف أمر الله (عزّ وجلّ) حيث يقول :( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٢) .

الحافظ : ذكرت أنّك منتسب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو المشهور أيضا بين الناس ـ فهل يمكنكم أن تبيّنوا لنا طريق انتسابكم إلى النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والشجرة التي تنتهي بكم إليه؟

قلت : نعم ، إنّ نسبي يصل عن طريق الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليه الصلاة والسلام إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك على النحو التالي :

شجرة المؤلّف

أنا محمد بن علي أكبر «أشرف الواعظين» بن قاسم «بحر العلوم»

__________________

(١) سورة القلم ، الآية ٤.

(٢) سورة النحل ، الآية ١٢٥.

١٩

ابن حسن بن إسماعيل «المجتهد الواعظ» بن إبراهيم بن صالح بن أبي علي محمد بن علي «المعروف بالمردان» بن أبي القاسم محمد تقي بن «مقبول الدين» حسين بن أبي علي حسن بن محمد بن فتح الله بن إسحاق بن هاشم بن أبي محمد بن إبراهيم بن أبي الفتيان بن عبد الله ابن الحسن بن أحمد «أبي الطيّب» بن أبي علي حسن بن أبي جعفر محمد الحائري «نزيل كرمان» بن إبراهيم الضرير المعروف ب «المجاب» ابن الأمير محمد العابد بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام عليّ السجّاد «زين العابدين» ابن الإمام أبي عبد الله الحسين «السبط الشهيد» بن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (سلام الله عليهم أجمعين).

الحافظ : جيّد ، لقد انتهى نسبك ـ حسب بيانك هذا ـ إلى عليّ بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) ، وهذا الانتساب يثبت أنّك من أقرباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا من أولاده ، لأنّ الأولاد إنّما هم من ذريّة الإنسان ونسله ، لا من ختنه وصهره ، فكيف ادّعيت مع ذلك بأنّك من أولاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

قلت : إنّ انتسابنا إلى النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما يكون عن طريق فاطمة الزهراءعليها‌السلام بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّها أمّ الإمام الحسين الشهيدعليه‌السلام .

الحافظ : العجب كلّ العجب منك ومن كلامك! إذ كيف تتفوّه بهذا الكلام وأنت من أهل العلم والأدب؟!

ألست تعلم أنّ نسل الإنسان وعقبه إنّما يكون عن طريق الأولاد الذكور لا الإناث؟! ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له عقب من أولاده

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

النقد الأدبي أو الفنّي

يمكن تعريف ( النقد ) بأنَّّه عملية ( كشف ) للنصوص، أي تبيين قيمها الفنية من حيث الجودة أو الرداءة، وذلك من خلال ( تحليل ) أجزائها و( تفسيرها ) و( الحكم ) عليها.

وهذا يعني أنَّ عملية ( الكشف ) تتضمن ثلاثة عناصر هي:

١ - التحليل : كما لو قمنا بتفكيك القصيدة - مثلاً - إلى أجزاء مختلفة تتصل بعناصرها، من ( فكر ) و( انفعال ) و( صورة ) و( إيقاع ) و( تخيّل )... إلخ، أو تفكيك ( الصورة ) وتحديد أطرافها، أو تفكيك إيقاعها من فرز لعناصر التفعيلة - مثلاً - إلى التجانس الصوتي للعبارة، إلى ( الجرس ) الخاص بها... إلخ. كلّ أولئك يجسّد عنصر ( التحليل ) لمركَّبات القصيدة.

٢ - التفسير : وهو تبيين أو شرح أو إلقاء الإنارة على الأجزاء المحللة المشار إليها، كما لو قمنا بعملية فكّ لرموزها وصورها الغامضة مثلاً.

٣ - الحكم : وهو إلقاء وجهة نظرنا الايجابية أو السلبية على النص، مشفوعة بعنصر ( التعليل ) للحكم المذكور، أي: تقديم الأسباب الفنية الكامنة وراء ( حكمنا ) على النص.

والجدير بالملاحظة أن هناك اتجاهاً يكتفي من عملية ( النقد ) بعنصري ( التحليل ) و( التفسير ) فحسب، دون أن يعنى بعنصر ( الحكم ) ؛ مستنداً في ذلك إلى وجهة النظر الذاهبة إلى أن ( المتلقِّي ) ينبغي أن ( يساهم ) في عملية الكشف للنص، لا أن نحصر الكشف في نشاط الناقد وحده، وذلك لجملة من الاعتبارات:

منها: أن مساهمة المتلقِّي في عملية ( الكشف ) سوف تزيد من إمتاعه لتذوّق النص، وتثرى تجربته في عملية التذوق، بدلاً من أن نقدّم له وصفة جاهزة تحتجزه من ممارسة الإبداع، وهذا يعني أن المتلقِّي يقوم بعملية فنية مكمّلة لمهمة الناقد.

ومنها: أن للمتلقّي وجهة نظره الخاصة في عملية التذوّق، ممّا يتنافى مع ( الحكم ) الذي يطلقه الناقد على النص، وهو أمر يجعل كون النقد منحصراً في عمليتي ( التحليل ) و( التفسير ) دون ( الحكم) له مسوغاته في هذا الميدان، مادامت معايير الفن وقوانينه ( نسبية ) وليست مطلقة.

ومنها: أن الأعمال الفنية ، بخاصة الأعمال الخالدة لكبار الفنانين، لا حاجة لإصدار ( الحكم )

٦١

عليها مادامت مستوفية لشرائط الفن.

ومنها: أن عمليتي التحليل والتفسير ذاتهما تكشفان عن ( قيمة ) النص دون الحاجة لإصدار الحكم.

وفي تصورنا، أن الركون إلى ( التقويم ) أو ( التفسير والتحليل )، يظل محكوماً بطبيعة الموقف. فقد يستدعي السياق مجرد عملية ( وصفية ) للنص، وقد يتطلّب الموقف ( أحكاماً ) عليه، إلاّ أن عملية ( الحكم ) بنحو عام تظل هي المهمة الرئيسة للنقد، مادمنا - إسلامياً - مطالبين بنصح الآخرين وإرشادهم، حيث يفيد صاحب النصّ من الملاحظات النقدية على نتاجه، كما يفيد الفنانون الآخرون من الملاحظات المذكورة، فضلاً عما يفيده ( المتلقِّي / القارئ ) من ذلك أيضاً.

* * *

إن عملية ( الكشف ) للنص تقترن بجملة من المبادئ، منها ما يثيره النقّاد حيال عمليات التفسير أو التحليل أو الحكم، من حيث تناولها للنص وشطره إلى ( شكل ) و( مضمون ). فيما يذهب النقاد الجماليون بخاصة ( وهم النقّاد الذين يعنون بالفن من حيث كونه تعبيراً ( جميلاً ) فحسب، بغض النظر عن دلالته ) إلى صعوبة عزل الشكل عن ( دلالة ) النص، حيث يترتب على مثل هذا الاتجاه غياب المضمون الفكري أساساً، وهو ما يتنافى مع العناية الإسلامية بالمضمون كما هو واضح.

الناقد الإسلامي بمقدوره أن يتجاوز هذا المبدأ ( المفتعل )، ويتجه إلى عزل الشكل القصصي أو الشعري - مثلاً - عن مضمونه، دون أن يترتب على ذلك: تضييع ل- ( قيمة ) النص.

صحيح أن الإمتاع الفني لا يتحقَّق إلاّ من خلال وحدة العمل الأدبي - وهو أمر يؤكّده الالتزام الإسلامي كما سبقت الإشارة إلى ذلك - إلاّ أن ذلك لا يحتجز الناقد من فكّ ( الوحدة ) أو ( المركب ) وإرجاعه إلى ( الأجزاء ) التي انتظمت فيه، بل يمكن القول إن الفارق بين العمل الفني وبين دراسته هو: قيام العمل الفني على شكل ( تركيبي )، وقيام الدراسة على شكل ( تحليلي )، أي أن تحليل المركبات هو الوظيفة الرئيسية لعملية النقد.

من هنا فإن إكساب المهمة النقدية نفس المهمة الفنية يظل أمراً مضاداً تماماً لطبيعة العمل النقدي.

يترتب على المبدأ المذكور، مبدأ آخر يتمثّل في ذهاب النقّاد الجماليين إلى ضرورة تناول النص من خلال ( الوحدة ) المشار إليها، دون التناول ( الجزئي ) لها. فإذا افترضنا أن القصيدة - مثلاً - تتركّب من ( تخيّل ) و( عاطفة ) و( إيقاع)، حينئذٍ يظل من الممتنع - في نظر الاتجاه الجمالي في النقد - تناول الجزئيات المذكورة منفصلة عن ( الشكل ) الكلّي لها.

هنا نكرّر نفس الكلام السابق من أن وظيفة الناقد هي تفكيك المركّب وتناول جزئياته منفصلة عنه حيناً، أو وصلها - من جديد - بالمركب المذكور، حسب ما يتطلبه الموقف.

٦٢

إن بعض المواقف تتطلّب رصد أفكار جزئية من النص، كما لو حاولنا - على سبيل المثال - أن ننتزع من السورة القرآنية (وهي أساساً تقوم على هيكل عماري محكَم ) العنصر القصصي، أو الصوري أو الإيقاعي أو الفكري ( ظاهرة الجهاد، الإنفاق،.. إلخ )، حينئذٍ فإن التناول الجزئي المذكور قد يفرض ضرورته، كما لو استهدفنا الحديث عن ( الجهاد ) أو (الإنفاق) - مثلاً - حيث تفرض المهمة العبادية على الناقد أن يعنى بهذا الجانب السياسي أو الاقتصادي من النص، لكن دون أن يحتجزه ذلك من التناول الفني للظاهرة كما لو وصل بين إحدى الصور الفنية للإنفاق مثلاً( كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ... ) وبين الأهمية العبادية للإنفاق ذاته، ويكون الناقد - بهذا التناول الجزئي - قد حقّق مهمته العبادية من خلال اللغة الفنية التي توفّر عليها، كما هو الأمر في المثال السابق.

وقد يستدعي الموقف إبراز الظاهرة الإعجازية للقرآن الكريم مثلاً، حينئذٍ بمقدوره أن يتحدّث عن السورة كاملة من حيث كونها عمارة محكمة تتلاحم أجزاؤها بعضا مع الآخر.

إذاً: في الحالات جميعاً، تظل تجزئة النص أو وحدته محكومة بمتطلّبات الموقف ( العبادي ) للناقد، دون أن يترتّب على ذلك أي إخلال بمهمته الفنية أيضاً، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

لغة النقد

والآن، بعد أن ألممنا عابراً بطبيعة النقد وقضاياه، يحسن بنا أن نعرض ل- ( لغة النقد ) من حيث التصور الإسلامي لهذا الجانب.

إن عملية ( النقد ) بنحو عام، وجدت لها نماذج ( شرعية ) لدى المعصومينعليهم‌السلام ، فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة ( ع ) طالما ثمّنوا مواقف الشعراء وأغدقوا عليهم الهدايا ؛ تعبيراً عن ( الحكم ) على نتاجهم، أي الحكم بالجودة على ذلك، ممّا يعين أن نقد النص من خلال إظهار محاسنه ( وهو أحد عناصر التقويم الثلاثة: إظهار المحاسن، إظهار المساوئ، الوقوف عند التحليل والتفسير فحسب ) يظل أمراً مشروعاً، بل يمكن القول بأنه يظل أمراً ( مندوباً )، طالما يقتاد التقويم الايجابي إلى تشجيع الفنان لمواصلة المزيد من وظيفته الإسلامية.

كما أن التقويم السلبي ( أي إظهار المعائب ) وجد له نماذج شرعية أيضاً، حيث إن المعصومينعليهم‌السلام كانوا يقترحون على الشاعر أن يستبدل بيتا بآخر مثلاً، أو يطالبونه بإلقاء الموضوعات الهادفة فحسب، وعدم قراءة مقدمة القصيدة التي تستهل، وفقا للتقاليد الفنية عصرئذٍ، بالغزل ونحوه.

إن أمثلة هذه الاقتراحات تفصح عن أن ملاحظة النص من حيث جوانبه السلبية، يظل أمراً له مشروعيته أيضاً، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن ملاحظة الجانب السلبي والتنبيه عليه في مطلق السلوك، يظل في الصميم من توصيات المشرّع الإسلامي، الذي يطالبنا جميعاً بنصح الآخرين وتنبيههم على أخطائهم، حيث يدخل ( العمل الفني ) ضمن مفردات ( السلوك ) العام أيضاً.

٦٣

إذاً، لا غبار على عملية النقد أساساً من حيث الحكم على النص بالجودة أو الرداءة، كلّ ما في الأمر أن لغة النقد - كما أشرنا - ينبغي أن تحكمها الموضوعية من جانب، وأن تتسم بالبعد الأخلاقي من جانب آخر. بمعنى أن التعامل بالحسنى ( في حالة النقد السلبي ) يظل غير منفصل عن السلوك العام الذي يطالبنا المشرّع الإسلامي بالصدور عنه.

ولعل التوصيات الإسلامية المطالبة بمفهومات من نحو: ( العدل ) ( قول الحقّ ) ( الإنصاف )... إلخ، ممّا تشكّل جوهر السلوك السوي، تظل منسحبةً على ( العمل النقدي ) أيضاً. بل يمكننا أن نستخلص هذه الحقيقة بوضوح حينما نقف على توصيات خاصة في هذا الميدان، أو حينما نقف على نماذج تطبيقية للمعصومينعليهم‌السلام تكشف عن أهمية ( البعد الموضوعي ) في النقد... من ذلك مثلاً: ما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنه لو ( احتكم ) طفلان مثلاً إلى أحد الأشخاص حيال أفضلهما خطاً أو كتابة، كان من الضروري على الشخص أن يحكم ب- ( العدل ) حيال هذه القضية.

فإذا كان مجرد الخط أو الكتابة لطفلين، وهو عمل عادى، يتطلّب - في التوصيات الإسلامية - ( موضوعية ) في الحكم، حينئذٍ فإن ( الموضوعية - الحياد ) في إصدار الحكم على العمل الفني، تفرض ضرورتها - دون أدنى شك - على الكاتب الإسلامي.

الاستشهاد بالنموذج المعروف الذي أصدره الإمام عليّعليه‌السلام حيال أحد شعراء الجاهلية، حينما حكم (ع) بجودة نتاجه ( من حيث الأداة الفنية )، مع أنهعليه‌السلام وسم النتاج المذكور، أو وسم صاحبه، بالطابع الانحرافي (الضلال)،... وهو أمر يكشف عن ( الموضوعية ) في أرفع مستوياتها، مما يعني أن الطابع الموضوعي في النقد، يظل في الحالات جميعاً، موضع عناية المشرع الإسلامي.

* * *

هذا كلّه فيما يتصل بالبعد ( الموضوعي ) في النقد.

أما ما يتصل بالبعد ( الأخلاقي ) منه، فإن لغة النقد، وفق التصور الإسلامي لها، ينبغي أن تتسم بنفس لغة التعامل الاجتماعي مع الآخرين، من حيث الالتزام بالآداب العامة من عمليات الإرشاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ حيث لا فارق البتة بين لغة منطوقة ولغة مكتوبة...، بين لغة تتناول السلوك الفردي والاجتماعي ولغة تتناول السلوك الفني.

إن كلاًّ من عمليتي ( التجريح ) و( الفضح ) اللذين نألفهما في النقد الأرضي، ينبغي أن يتنزّه الناقد الإسلامي عنهما.

صحيح أن إبراز المساوئ الفنية في النص تفضي إلى عملية ( فضح ) لصاحب النص، إلا أن هذا الأخير ينبغي أن يتقبّل ذلك برحابة صدر مادام النص الأدبي ملكا للآخرين وليس لكاتبه فحسب، وهو ما يفترق تماماً عن السلوك الشخصي فيما يتعين إرشاد الشخص مباشرة دون فضحه أمام الآخرين... وهذا يعني أن هناك فارقاً بين نقد السلوك الفردي وبين نقد نتاجه الفني، وهو أمر

٦٤

يتعيّن التشدد عليه في هذا الجانب. كما يترتب عليه جانب آخر يظل في غاية الأهمية بالنسبة للناقد الإسلامي... إننا نعرف - مثلاً - أن هناك اتجاهاً نفسياً في النقد ( حيث سنتحدّث عنه في حقل لاحق ) يحاول ربط النص الأدبي بنفسية كاتبه، حيث يُلاحظ أن روّاد هذا الاتجاه يجنحون في الغالب إلى ( فضح ) كاتب النص وإخضاع شخصيته للتحليل النفسي، وهو تحليل يُعنى بإبراز السمات الشاذة للكاتب.

إن الشاعر أو القاص مثلاً يظل - مثل سائر النماذج البشرية - محكوماً بعقده المختلفة، وإفرازاتها المتمثلة في سمات من نحو: الإحساس بالنقص أو العظمة الموهومة أو المخاوف أو الوساوس، بما يستتبعها من الصدور عن ( آليات ) مختلفة، مثل: الإسقاط، النكوص، التسويغ... إلخ. فإذا اتجه الناقد إلى إبراز هذه السمات، حينئذٍ تظل هذه العملية بمثابة ( تشهير ) و( فضح ) للقاص أو الشاعر، يتنافى أساساً مع ( أخلاقية ) الشخصية المسلمة.

إن الناقد نفسه من الممكن أن تطبعه نفس السمات المرضية التي خلعها على كاتب النص، بل إن ( التشهير ) نفسه يجسد ( نزعة عدوانية ) تفصح عن شذوذ صاحبه،... وحينئذٍ ما فائدة أن يشخّص الناقد ( حالة مرضية ) تطبع شخصه بمثل ما تطبع شخصية كاتب النص... إن أمثلة هذا النقد دفعت الكثير من روّاده إلى الوقوع في أحكام لا تقف عند مجرد التشهير أو الفضح لعيوب خفية، بل تجاوزت ذلك إلى محاولة ( افتعال ) التهم وإلصاقها بكاتب النص، من نحو ما نلحظه من تفسيرات تتحدث عن شعراء وقصَّصين أخضعوا نتاجهم لتقاليد فنية لا علاقة لها بسلوكهم الشخصي، أو لوحظ أنهم - في السلوك الشخصي - قد طبعهم بعض الشذوذ، فالتمسوا لنتاجهم تفسيرات متعسّفة في ضوء وقوفهم على الشذوذ المذكور. فضلاً عن محاولتهم تفسير ما هو إيجابي عند بعض الفنانين - كما لو كانوا إسلاميين أو زهّاداً مثلاً - بأنه عملية ( تعويض ) لفشل، أو ( قناع ) لنزعة عدوانية، أو ( تصعيد ) لرغبة جنسية... إلخ.

أمثلة هذا النقد تظل غير متوافقة أساساً مع الاتجاه الإسلامي الذي لا يصدر ( الحكم ) إلاّ بعد اليقين بوجود الصلة بين نتاج الكاتب وشخصيته، وحتى بعد يقينه بذلك، لا يحقّ له - كما قلنا - فضح الشخصية، بل يجب أن يتستر عليها كما هو صريح التوصيات الإسلامية المطالبة بذلك، وبعدم الجهر بالسوء مادام الأمر غير مرتبط بالجانب الفنّي من النتاج، بل بالجانب الشخصي الصرف.

لكن تستثنى من ذلك - بطبيعة الحال - النماذج المنحرفة التي تجهر بممارسة الرذيلة، أو النماذج المنحرفة التي ( تتقنّع ) بما هو ايجابي من السلوك بغية تمرير نزعتها الشريرة على الآخرين، حيث يتطلّب مثل هذا الموقف عملية فضح وإدانة للنماذج المشار إليها.

٦٥

النقد واتجاهاته

بعد أن وقفنا على طبيعة النقد الفني ولغته، يحسن بنا أن نقف على تياراته أو اتجاهاته الأرضية، لملاحظة الموقف الإسلامي منها.

لا شك أن الناقد - أيَّاً كان اتجاهه - يتوسّل عبر تقويمه للنصوص بالأداة الرئيسة للفن. فإذا كان في صدد دراسة القصيدة الفنية التي تنتظم هذا الشكل الأدبي أو ذاك، فللقصيدة مثلاً لغتها الخاصة، وعناصرها التخيلية والعاطفية، وللمسرحية: لغتها وشكلها وبناؤها الخاص... وهكذا.

والأصل في الممارسة النقدية أن يعتمد الباحث الأداة الفنية الخاصة بذلك النص الذي يعتزم دراسته، بَيْد أن النص - في الآن ذاته - يرتبط بمقومات اجتماعية أو دلالات نفسية أو دلالات فكرية، مما يفرض على الناقد لقاء الإنارات المذكورة عليه، فيتجه إلى ( خارجه ) أيضاً، وهو أمر يجعل عملية ( النقد ) مقترنة بمبادئ أخرى قد يتفاوت الباحثون حيالها، بخاصة أن ذلك يظل خاضعاً لنسبية هذه الإنارة الخارجية، كما يخضع لوجهة النظر العقائدية للناقد. كلّ أولئك يقتادنا إلى عرض المبادئ ( الخارجة ) عن النص، وملاحظة التيارات أو الاتجاهات النقدية في هذا الصدد، ثم عرض التصور الإسلامي لهذا الجانب.

ونبدأ - أولاً - ب-:

الاتجاه العقائدي:

يقصد ب- ( الاتجاه العقائدي أو الأيدلوجي): دراسة النص في ضوء الموقف الفلسفي الذي يصدر الكاتب عنه. والملاحظ أن الكتّاب - قديماً وحديثاً - أثاروا هذه الظاهرة في حقل الدراسات العلمية، حيث انشطروا حيال ذلك إلى اتجاه رافض لإقحام ( الموقف الفلسفي ) في دراسة النص، واتجاه ملتزم بأهمية مثل هذا الإقحام.

أما إسلامياً، فإننا في غنى عن أثاره هذه الظاهرة ؛ مادمنا مقتنعين تماماً أن الشخصية الإسلامية ( موظّفة ) أساساً في كلّ تصرفاتها، بما في ذلك السلوك العلمي.

٦٦

الشخصية الإسلامية مدركة تماماً بأن ( السماء ) أبدعتنا لهدف خاص هو ( الخلافة في الأرض )، بمعنى أننا نمارس هذا السلوك أو ذاك، تبعاً لإحساسنا بمسئولية ( الخلافة )، بما في ذلك السلوك الحيوي الذي لا مناص من إشباعه، مثل: الطعام والنوم ونحوهما. وقد وردت التوصيات الإسلامية بضرورة أن تضع الشخصية الإسلامية في اعتبارها ( هدفاً ) عبادياً بالنسبة لكل تصرف يصدر عنها بما في ذلك الأكل والنوم، مطالبة إيانا أن تكون لنا ( نية ) حيالهما، وحيال سائر أنماط سلوكنا.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن السلوك العلمي يجيء في مقدمة الوظائف الخلافية التي أوكلتها ( السماء ) إلينا، مما يعني أن ( المنهج العقائدي ) في دراسة النصوص، يظل ( هدفاً أوحد ) بالنسبة للباحث ؛ إذ بدون وضع الهدف المذكور في حسبانها، يظل البحث عقيماً لا جدوى فيه، وهو أمر تطالبنا السماء بالتنزّه عنه.

لذلك، لا نجد أي معنى لطرح التساؤلات عن مشروعية دراسة النص في ضوء ( العقيدة ) أو عدمها، مادام هدفنا أساساً هو ( العقيدة ) ذاتها، من حيث إشاعتها في النفوس ونشرها بين الجمهور.

بَيْد أن الباحث الإسلامي عبر ممارسته لهذه المهمة ( العقائدية )، ينبغي - كما أشرنا سابقاً - ألاَّ يغيب عن ذهنه بأن البحث العلمي لابد أن يتسم بطابع ( الموضوعية ) أو ( الحياء ) من حيث دراسته للظواهر التي يتناولها، ليس بمعنى عدم تصوير ( هدفه العقائدي )، بل بمعنى أن الدراسة ينبغي ألاّ تتأثر ( عاطفياً ) بالموقف الفلسفي، بحيث يخرجها من دائرة المعالجة الموضوعية، بل تتناول النص بروح خالية من آثار العاطفة وانفعالاتها، ملتزمة بالحياد العلمي، مجادلة بالتي هي أحسن.

بكلمة جديدة: الكاتب الإسلامي مدعو إلى أن يدرس الموضوع بشكل ( محايد ) أولاً، ثم يتجه إلى تقويمه ( عقائدياً ). فإذا افترضنا أن الكاتب كان في صدد دراسة قصيدة مثلاً، حينئذٍ يتعيّن عليه أن يعالج القصيدة المذكورة من حيث قيمتها الفنية، بما تنطوي عليه من صياغة الصورة والإيقاع واللغة ونحوها، ثم يتّجه إلى تقويها ( عقائدياً ). فإذا كانت القصيدة - على سبيل المثال - رديئة الصياغة، بالرغم من كونها ( إسلامية ) المنحى، ينبغي ألاّ يتعصّب لها فيحكم بجودتها ( فنياً ) مع أنها رديئة، بل يتعيّن عليه أن يقر بكونها غير جيدة، من الزاوية الفنية.

بالمقابل، ينبغي على الباحث أيضاً إذا كان في صدد دراسة إحدى القصائد ( غير الإسلامية ) مثلاً، ألاَّ يتعصب ضدها من الزاوية الفنية، إذا كانت مستجمعة لشروط ( الفن )، بل يقوّمها بنحو ( موضوعي )، ثم يتجه إلى إسقاط قيمتها ( عقائدياً ). وهذا ما نلحظه لدى أئمة أهل البيت ( ع ) فيما كانوا يصدرون في أحكامهم عن هذا التناول الموضوعي للظواهر، حيث يطالبون الشاعر ( العقائدي ) مثلاً، بإسقاط أو تعديل العبارة أو البيت الشعري ( من الزاوية الفنية )، كما يقرّون الشاعر ( غير العقائدي ) بجودته فنياً، إلاّ أنهم يحكمون بضلالة أفكاره.

٦٧

إذن، ليس ثَمَّة منافاة البتة بين أن يجمع الباحث بين ( الحياد ) العلمي وبين معالجته للنص ( من الزاوية العقائدية )، بل يتعيّن عليه أن يتوفّر على مثل هذا المنهج الذي يزاوج بين الحياد العلمي والالتزام العقائدي، مادام عدم التحامهما يفضى إما إلى الوقوع في هاوية ( العبث )، في حالة معالجته للنص ( فنياً ) فحسب، دون إقحام البُعد العقائدي فيه، وهذا ما يتنافي أساساً مع وظيفته العبادية الهادفة. وإما أن يقع في تشويه الحقائق وتحريفها، في حالة عدم تقويمه للنص فنياً.

طبيعياً، ينبغي أن يضع الكاتب الإسلامي في حسبانه بأن دراسة النص أو الموضوع غير المتسم بطابع إسلامي يظل عملاً عابثاً، بل محظوراً من الزاوية العبادية، إلاَّ في حالة اعتزامه الرد عليه وتبيين انحرافاته. ولذلك لا يرد على الكاتب الإسلامي ما يورد اعتيادياً على الباحثين غير الإسلاميين أو غير الملتزمين، طالما يتنزه الباحث الإسلامي عن دراسة النصوص المنحرفة فكرياً، ولا يجد ثَمَّة حاجة إلى تناولها إلاّ في حالة الرد عليها، كما أشرنا، نظراً إلى أن ممارساته ( ومنها الممارسة العلمية ) تتسم بكونها ( هادفة ) لا مجال للعبث فيها.

نخلص من ذلك إلى أن ( المنهج الأيدلوجي ) يظل بالنسبة إلى الباحث الإسلامي هدفاً رئيسياً في ممارسته العلمية، أي أن هدفه أساساً هو ( المنهج الأيدلوجي ). وأما سائر المناهج ( الفنية والنفسية والتاريخية )، فتجيء ( موظَّفة ) لإنارة ( عقائده )، أي تجيء ثانوية الأهمية بالقياس إلى أهمية ( المنهج العقائدي ) ؛ لبداهة أن أية ممارسة علمية ينبغي أن ( توظَّف ) من أجل ( العقيدة ).

٦٨

الاتجاه الجمالي:

يقصد ب- ( الاتجاه الجمالي ) في النقد: دراسة النص في ضوء المبادئ الفنية له، دون تسليط أي ضوء خارجي عليه. بمعنى أن الناقد إذا كان في صدد دراسة القصيدة أو القصة مثلاً، حينئذ فإن دراسته تنحصر في معالجتهما من حيث عناصر النص وأدواته ولغته، مثل: الإيقاع، الصورة، الحوار، السرد... إلخ.

وهذا الاتجاه قد تفرضه سياقات خاصة من التناول، كما لو افترضنا أن ناقداً كان في صدد دراسة البناء الفني للسورة القرآنية، من حيث كونها ذات موضوعات يرتبط أحدها مع الآخر بسببية محكمة، وتتنامى أجزاؤها وفق تماسك عضوي، بحيث تبدأ السورة بموضوع، وتتدرّج إلى آخر، وتنتهي إلى الخاتمة، وفق ترتيب منطقي ( زمني أو نفسي ). بَيْد أن كثيراً من النصوص تتطلب الاستعانة بضروب أخرى من المعرفة ( التاريخية ) أو ( النفسية ) مثلاً، وحينئذٍ فإن التوسّل بالمعرفة المذكورة يظل أمراً لا مناص منه.

ومن الممكن أن يثير بعض المعنيين بشئون الدراسات الفنية تشكيكاً بقيمة الدراسات التي تتجاوز نطاق المنهج الفني إلى ( المعرفة ) الخارجة عنه، مدّعين في ذلك أن إخضاع الدراسة إلى المعرفة الخارجية يحوّلها من نطاق الدراسة الفنية إلى دراسة تاريخية أو نفسية أو علمية بعامة، مما يفقدها السمة الأصلية لها، وهو الفنّ أو الأدب.

لكن، من الممكن أن نجيب أمثلة هؤلاء الباحثين، بأن الفارق بين الأدب والفن وبين دراستهما، لابد أن يؤخذ أولاً بنظر الاعتبار من حيث كونهما - أي الأدب والفن - عملاً إنشائياً أو إبداعياً، ومن حيث كون ( البحث العلمي ) عملاً وصفياً يستهدف تحليل النص وتفسيره وتقويمه، مما يتطلّب معالجته في ضوء المعلومات التاريخية التي ولد النص في نطاقها، وفي ضوء المعلومات النفسية التي تُسعِف القاري - فضلاً عن الباحث - في فهم أسرار العمل الفني أو الأدبي. فنحن لا يمكننا تقويم النص من خلال مجرد تحليل الصورة الفنية - كالتشبيه مثلاً - ما لم نُخضِع الدراسة للمعرفة النفسية التي تُلقي الضوء على أسرار ( التشبيه ) الجيد وفرزه عن التشبيه الرديء.

إن عملية ( الإبداع الفني ) ذاتها، تعد في الصميم من مهمات العالم النفسي، كما أن عملية ( التوصيل الفني ) تعد في الصميم أيضاً من وظائف العالم المذكور، من حيث دراسة ( الاستجابة )

٦٩

البشرية وطرائقها في هذا الصدد.

والأمر ذاته يمكننا أن نلحظه في سائر الموضوعات أو النصوص التي نتناولها بالدراسة... سواء أكانت أدباً أم تاريخاً أم اجتماعاً أم اقتصاداً أم تشريعاً أم سياسة... إلخ... طالما نعرف بأن ( العلوم ) ( إنسانية ) كانت أم ( بحتة )، تتداخل فيما بينها بشكل أو بآخر، مما تستلي بالضرورة تسليط أحدها على الآخر، ولكن وفق ( نسبية ) محدّدة وليس بالنحو المطلق.

فضلاً عن ذلك، فإن كلاًّ من المعرفة ( التاريخية والنفسية ) تكاد تنفرد عن سواها من ضروب المعرفة الأخرى، بكونها تشكل ( أداة ) لا مناص من استخدامها في أية دراسة علمية، إنسانية كانت أم بحتة، طالما ندرك بأن كل ( معرفة ) لابد أن تولّد وتنمو وتتطوّر في ( إطار تاريخي ) لها، كما أنها لابد أن تفسر في ( إطار نفسي ) لها، إذ لا يمكن أن يحيا الشيء خارجاً من ( الزمن ) - ونعني به التاريخ - ولا يمكن أن تتمثّله البشرية خارجاً عن ( استجابة النفس ) له.

إذن: ما يطلق عليه مصطلح ( المنهج الموضوعي ) لا يتاح للناقد الأدبي أن يقتصر عليه إلاَّ في نطاق ضئيل بنحو ما سبقت الإشارة إليه. وخارجاً عن ذلك، فإن الضرورة العلمية تفرض على الباحث بتجاوزه إلى تخوم المعرفة التاريخية والنفسية، وسواهما من أدوات البحث العلمي، شريطة أن يتم في سياقات خاصة تظل بمثابة ( إنارة ) لا أكثر... وإلاّ فإن البحث لو تجاوز دائرة ( الإنارة )، فَقَد أصالته العلمية... كما أنه يفتقد أصالته في حالة جمود الباحث على ( المنهج الفني أو الموضوعي) دون توشيحه بالإنارة المشار إليها.

٧٠

الاتجاه الاجتماعي:

هذا الاتجاه، يحاول دراسة النص الفني في ضوء الظروف الاجتماعية التي ولد النص فيها، بصفة أن النص ظاهرة اجتماعية لها أسسها ومكوّناتها وصلاتها بمختلف الصُّعد التي تفرزها.

إن القصيدة أو القصة أو الخطبة، مجموعة من أفكار وأشخاص ومواقف وأحداث في ( بيئة ) معينة، تتميّز من مكانٍ لآخر وزمانٍ لآخر، ولكل منهما طابع يختلف بالضرورة عن سواه، حينئذٍ فإن سلخ النص من دائرته الاجتماعية يجعل عملية ( التقويم الفني ) بتراء، لا تحقق الفائدة المستهدفة في النصّ.

وبعامة يمكن للناقد الأدبي أن يتوكأ على البعد الاجتماعي في دراسته للنص وفق مستويات متنوعة، منها: استثمار البعد الاجتماعي فكرياً، بمعنى أن الناقد حينما يتناول نصاً فنياً قديماً - على سبيل المثال - فإن الضرورة تفرض عليه أن يعتمد البعد الاجتماعي بمستويين من التناول:

أولاً : وضع النص في بيئته الاجتماعية التي عكست تأثيرها عليه، كما لو افترضنا أننا حيال ( خطبة ) سياسية، حيث يتطلّب الموقف عرض المناخ السياسي عصرئذٍ بما يواكب ذلك من ظواهر اجتماعية مرتبطة بالمناخ المذكور.

ثانياً : محاولة ربط الأفكار التي انتظمت الخطبة، بالواقع الاجتماعي الحديث الذي يحياه الناقد ؛ بصفة أن الكاتب الملتزم لا يمارس نشاطه النقدي المتمثّل في ( نصٍ قديمٍ ) لمجرد تزجية الوقت أو الإمتاع الفنّي، بل يختار النشاط النقدي وظيفة عبادية له. فإذا كانت دراسته للخطبة المذكورة تمثِّل فترة ( زمنية ) مندثرة، لا صلة لها بالواقع المعاصر، حينئذٍ يكون الناقد الإسلامي قد تخلّى عن مهمته العبادية. ولكنه حينما يصل بين دراسة الخطبة المشار إليها وبين واقعه الاجتماعي، مستثمراً ذلك لتوجيه مجتمعه وإصلاحه، يكون حينئذٍ قد أدّى مهمّته العبادية.

أما ما يتصل بدراسة النص من حيث صلته بالبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها، فضرورة ذلك من الوضوح بمكان، مادامت الدلالة الفكرية التي يستهدفها الناقد الإسلامي تتطلب الوقوف على طبيعة الظواهر السياسية التي عالجتها الخطبة، حتى يمكن الإفادة من ذلك ( إيجاباً أو سلباً ) في

٧١

تعديل السلوك.

طبيعياً، الإفادة المذكورة تحقَّق - بطريق أولى - حينما يدرس الناقد الإسلامي نصاً معاصراً خلال طرحه في البيئة الاجتماعية التي أفرزته.

المهم، أن وضع النص في إطاره الاجتماعي أو التاريخي، يتمّ من خلال مستويات متنوعة - كما قلنا. فإذا تجاوزنا قضية استثمار البعد الاجتماعي وتوظيفه عبادياً، أمكننا أن نقرّر بأن ذلك يتطلّب التوفّر على مختلف المستويات الاجتماعية بالقدر الذي تستلزمه، وهو أمر يستتلي:

١ - تحقيق النص من حيث تصحيح نسبته إلى قائله، ومن حيث سلامته من التحريف أو الخطأ ونحوهما.

إن انتحال النص أو تحريف بعض فقراته، أو زيادته أو نقصانه.. يستتلي الوقوع في عملية ( تشويه ) للحقيقة، وهو أمر يتنافى مع الأمانة التي تطبع الشخصية الإسلامية.

٢ - وضع النص في جميع الأطر التي يشّع بها: ثقافياً، سياسياً، اقتصادياً، وجغرافياً... إلخ ؛ بصفة أن إهمال بعض الجوانب يدع الدراسة بتراء، حيث ينعكس ذلك على طبيعة التفسير الذي يستخلصه الناقد.

٣ - عرض النص على البيئة الاجتماعية، وعرضها عليه أيضاً حتى يضاء أحدهما بالآخر ؛ استكمالاً لصحة التفسير الذي يقدّمه الناقد الأدبي.

هذا فيما يتصل بالتفسير الاجتماعي.

أما ما يتصل بالتفسير الفنّي، فينبغي إخضاع النص ل- ( النسبية ) في التقويم ؛ بصفة أننا لا يمكننا أن نطالب الشاعر الذي يكتب القصيدة قبل ألف عام مثلاً، أو في حقبة تاريخية سابقة لعصرنا الحديث: لا يمكننا أن نطالبه بتصوراتنا الفنية المعاصرة، بل نتعامل مع النص بأدواته ومبادئه التي خبرها مجتمعُه. لكن لا يعني هذا أن يتخلّى الناقد عن معاييره الفنية الحديثة، وإلاَّ انتفت الحاجة إلى النقد أساساً، وأصبحت الدراسة مكرورة، تتحدّث بنفس المستوى الذي تحدّثت عنه دراسات متزامنة لعصر الشاعر، بل لا مناص للناقد من أن يستخدم المعايير الحديثة أيضاً، لكن من خلال اكتشافه للقيم الفنية والفكرية التي عجز القدماء من النقاد عن اكتشافها بحكم القصور الثقافي لديهم.

٤ - ( مقارنة ) النص المدروس مع نصوص أخرى سابقة أو متزامنة أو لاحقة عليه.

إن ( المقارنة ) بين النصوص المختلفة التي تحوم على ( الموضوع ) الذي نعتزم دراسته، من أهم عناصر البحث التاريخي ؛ بصفة أن مقارنة الشيء بما يماثله من جانب، وبما يضاده من جانب آخر، إنما تساهم في بلورة الموضوع وإنارة جوانبه بنحو تام. فعن طريق ( التماثل ) أو ( التشابه ) بين الأشياء، يمكننا أن نرصد الظواهر المشتركة بين ( موضوع ) الدراسة والموضوعات الأخرى، كما يمكننا عن طريق ( التضاد ) رصد الظواهر غير المشتركة فيها، طالما نعرف أن كثيراً من الموضوعات لا تبرز قيمتها إلاَّ

٧٢

من خلال ( الضد ) لها.

فلو أردنا أن نتناول إحدى قصص القرآن الكريم مثلاً، ولتكن قصة ( أهل الكهف ) ؛ لملاحظة قيمتها الفكرية والفنية، للاحظنا أن مقارنتها بالقصص التي ( تماثلها ) وبالقصص التي ( تضادها )، سوف تساهم بتجلية المزيد من قيمتها. فمثلاً هناك في سورة الكهف أكثر من قصة تنتظم السورة المذكورة، منها: قصة صاحب الجنَّتين، وقصة ذي القرنين... القصة الأولى تتحدّث عن مُزارع يمتلك مزرعتين معيَّنتين، إلاَّ أن صاحبها لم يتسم بطابع الشخصية الواعية لمبادئ الإيمان، فنجدها قد ركبت رأسها، وخيَّل إليها أن المزرعتين سوف تحتفظان بحيويتهما ولن تبيدا أبداً، حتى حملها هذا الغرور على أن تشرك بالله.

بينا نجد أن القصة الأخرى ( قصة ذي القرنين ) تتحدّث عن بطلٍ مَلَكَ مشرق الدنيا ومغربها ( لا أنه مَلَكَ مجرد مزرعتين صغيرتين ) لكنه لم يحتجزه هذا المُلك عن السلوك العبادي المفترض عليه بقدر ما عمّق يقينه بالله، على العكس تماماً من صاحب الجنتين الذي ساقه مجرد الإشباع الضئيل إلى أن يستجيب حيال الله استجابة مرضية.

والآن، حينما نقوم بعملية ( مقارنة ) بين قصة أهل ( الكهف ) وبين هاتين القصتين، نجد أن ( المقارنة ) ستساهم بتجلية القصة الأولى وتعميق مفهومها للقارئ:

مثلاً أبطال الكهف يشكّلون نموذجاً للشخصية التي نبذت زينة الحياة الدنيا، بحيث تركوا كل أنماط المتاع الدنيوي واتجهوا إلى الله، من خلال اللجوء إلى أشد المواقع بعداً عن الحياة، وهو ( الكهف )، حيث هتفوا قائلين:( رَبّنَا آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ) . لكننا حينما نقارن هؤلاء الأبطال - من خلال ( الضد ) - بصاحب الجنتين، نجد أن هذا الأخير يمارس سلوكاً مضاداً لأبطال الكهف، فإذا به يهتف:( مَا أَظُنّ أَن تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً ) أي أنه بدلاً من أن يتجه إلى الله كما فعل أصحاب الكهف، اتجه بدلاً من ذلك إلى ( الشيطان )، تشبثاً بزينة الحياة الدنيا، بينما نبذ أصحاب الكهف الزينة المذكورة كما لحظنا.

وأما لو قمنا بعملية ( المقارنة ) من خلال ( التماثل )، فحينئذٍ يمكننا أن نوازن بين أبطال الكهف وبين ذي القرنين، في تماثلهما من حيث الوعي العبادي. فهذا الأخير بعد أن هيمن على مشرق الأرض ومغربها، هتف قائلاً:( هذَا رَحْمَةٌ مِن رّبّي ) ، وأبطال الكهف حينما قرّروا اللجوء إلى الكهف هتفوا:( رَبّنَا آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً ) أي أن كليهما تعامل مع ( رحمة ) الله: ذلك من خلال التقرير، وهؤلاء من خلال الطلب.

إذن: حينما يتجه الدارس إلى عنصر ( المقارنة )، فيتوكّأ على الظواهر ( المتماثلة ) أو ( المتخالفة ) مع موضوع بحثه، إنما يسعف القارئ على تعميق إدراكه للموضوع، بالنحو الذي لحظناه في نموذج ( المقارنة ) القصصية.

والمقارنة يمكننا أن نتصورها على جملة أنحاء ، منها:

١ - المقارنة الموضعية.

٧٣

٢ - المقارنة الشاملة.

٣ - الدراسة المقارنة المستقلة.

ويقصد بالأولى: المقارنة الجزئية التي تحوم على النص وعلاقته بالنصوص الأخرى لموضوع محدد، كما لو قارنا بين ديوان أحد الشعراء مثلاً بدواوينه الأخرى.

وأما المقارنة الشاملة، فتجاوز ذلك إلى الشعراء الآخرين، سواء أكانوا معاصرين للشاعر أم سابقين عليه أم لاحقين له.

وأما ( البحث المقارن ) فيشكل موضوعا نقديا مستقلا بذاته وليس عنصرا من عناصر النقد، وهذا من نحو ما إذا افترضتنا مثلاً قيام أحد النقاد بدراسة مقارنة بين الشعراء الإسلاميين في صدر الرسالة وبين الشعراء الإسلاميين المعاصرين... والفارق بين هذا النمط الأخير من المقارنة وبين النمطين الأولين - كما أشرنا - هو أن المقارنة فيهما تشكل واحدا من عناصر العمل النقدي، وأما النمط الثالث فيشكل موضوعا مستقلا...

إن ما نستهدف التشدد عليه هو: أن ( المقارنة ) بأنماطها التي عرضنا لها تشكل واحدا من عناصر النقد التاريخي أو الاجتماعي: له أهميته الكبيرة في ميدان التقويم للنص من خلال عرضه على البيئات الفنية المختلفة، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

٧٤

الاتجاه النفسي:

يقصد ب- ( الاتجاه النفسي): الطريقة التي يستخدمها الباحث في دراسته لأحد الموضوعات في ضوء الظواهر النفسية له، أي: إخضاع البحث للتفسير النفسي، متمثِّلاً في الركون إلى مختلف المبادئ التي يطرحها ( علم النفس ) في هذا الميدان.

وإذا أدركنا أن ( علم النفس ) يعنى بدراسة السلوك الإنساني من حيث ( استجاباته ) حيال ( المثيرات ) المختلفة التي يواجهها الشخص، أدركنا حينئذٍ أهمية هذا الضرب من المعرفة من حيث انعكاساته على النص المدروس.

ولعل أهم ما يميّز البحوث المعاصرة هو: توسّلها بهذا الفرع من ( المعرفة ) التي وجدت طريقها إلى الظهور مع إطلالة القرن الحديث. طبيعياً، لا يعنينا أن هذا النمط من المعرفة مصحوب - مثل سائر الضروب المعرفة الإنسانية المنعزلة عن مبادئ السماء - بمفارقات علمية لا يمكن الركون إليها في تفسير الظواهر، إلاَّ أن ذلك لا يحتجز الباحث الإسلامي من الإفادة منه واستثمار الكثير من معطياته العلمية التي واكبها جانب من الصواب دون أدنى شك.

المهم، أن الكاتب الإسلامي - في ضوء وعيه العبادي - يمكنه أن يفرز بوضوح بين ما يمكن أن يفيد منه في دراساته العلمية ونبذ ما سواه... والمهم أيضاً أن يكون توسله بهذا الضرب من المعرفة، مفضياً إلى إلقاء مزيد من الإنارة على النص، واكتشاف مختلف دلالاته التي تظل غائمة - دون أدنى شك - لو اقتصر الباحث على البعد الفني والتاريخي لها فحسب... فلو افترضنا أن الباحث الإسلامي قد اعتزم أن يدرس ظاهرة ( الغناء ) ومعرفة الأسباب الكامنة - بعضاً أو كلاًّ - وراء حظر الشريعة الإسلامية لهذا النمط من الظواهر، حينئذٍ يمكنه أن يقصر بحثه على الدلالة الفقهية لها - أي يحصر البحث في صعيد المبادئ الفنية للموضوع -، كما لو استدل على ذلك بمجموعة من الروايات الحاكمة بتحريم ( الغناء)... كما يمكنه - مثلاً - أن يتجاوز ذلك إلى ( المنهج التاريخي ) فيعرض لظاهرة ( الغناء ) من حيث المناخ الاجتماعي الذي ألِفَ هذه الظاهرة، واقترانها بمجالس الشرب أو الاختلاط بين الجنسين ونحوهما. ثم تطوّر ذلك

٧٥

من خلال تأثره بالتيارات الوافدة عصرئذٍ - أي القرنين الأولين من بزوغ الإسلام - وانعكاساتها على المجتمع المذكور، وصلة ذلك بنمط من الأشكال الصوتية التي لم يرد نهي إسلامي عنها أو ندب إليها مثل... الحدر والترتيل وسواهما.

أقول: من الممكن أن يقتصر الباحث في دراسته المذكورة على استخلاص الحكم الشرعي لظاهرة ( الغناء)، ويمكنه أيضاً أن يتوسّل بالبعد التاريخي له، فيقدّم حينئذٍ مزيداً من الإنارة على الموضوع. ولكن لو اتجه الباحث بعدئذٍ إلى ( المعرفة النفسية)، لأمكنه أن يلقي الأضواء الكاملة على الظاهرة، معمِّقاً بذلك إدراك القارئ لأهمية التحريم الإسلامي ( الغناء).

فمثلاً يمكنه أن يوضح طبيعة البناء العصبي للشخصية، وصلة ذلك باستجابتها حيال ( المنبِّهات ) الصوتية التي تنتظم في طبقات مركبة من هذا الإيقاع أو ذلك. كما يمكنه أن يستعين بالدراسات التجريبية التي انتهت إلى تحديد صلة ( الغناء ) أو ( الموسيقي ) بعامة بجملة من الأمراض النفسية والعقلية والجسمية مثلاً. وحينئذٍ ستتَّسم دراسته بمزيد من الأهمية التي لا يمكن الظفر بها لو كان الباحث مقتصراً في دراسته للغناء على مجرد البعد الموضوعي والتاريخي له.

والامر ذاته فيما يتصل بظاهرة القمار مثلاً، حيث يمكن للباحث أن يستعين ب- ( المعرفة النفسية ) لتفسير سلوك ( المقامر )، من حيث كونه شخصية شاذة منحرفة، عدوانية متصارعة، متمزِّقة متوترة... إلخ.

إذن: الاستعانة بالمعرفة النفسية تظل أشد الأبعاد أهمية في إنارة الموضوع وتعميق دلالاته المختلفة... فضلاً عما تنطوى عليه من إثارة وتشويق يسهمان في دفع القارئ إلى متابعة الموضوع وتمثُّله.

ويمكننا أن نفيد من البُعد النفسي في جملة من الميادين ، منها:

١ - دراسة الموضوع - أو النص - في ضوء صلته بكاتبه . ويقصد بذلك: أن الناقد الأدبي يتعيّن عليه - في سياقات خاصة - أن يربط بين النص المدروس وسلوك كاتبه، من حيث انعكاسات سلوكه على النص، حتى تتضح دلالاته بنحو أشد عمقاً في هذا الصدد.

بَيْد أن أمثلة هذا الاستعانة بالبعد النفسي تنطوى على مزالق كثيرة ينبغي أن يظل الباحث على حذر شديد منها، بخاصة إذا عرفنا - أولاً - أن النصوص لا تعدّ في الحالات جميعاً ( وثيقة ) مفصِحة عن نفسية كاتبها، بقدر ما تعد عملاً (موضوعياً) ينفصم فيه الشخص عن نتاجه الفنّي. فقد نقرأ قصيدة - مثلاً - تتحدّث عن ( الشجاعة ) إلاَّ أن صاحبها موسوم بالجبن، وقد يتحدّث ( الخطيب ) عن أهمية الصدق إلاَّ أنه يمارس ( الكذب)... إلخ، مما يعني أن الباحث ليس بمقدوره أن يستخلص عن النص المدروس حقيقة السلوك الذي يصدر عن كاتبه، مادام النص غير مفصح بالضرورة عن كونه وثيقة عن نفسية صاحبه.

أما المفارقة الأخرى التي تترتّب على ربط الصلة بين النص وسلوك كاتبه، فتتمثّل في صعوبة

٧٦

تشخيص الدلالة النفسية ذاتها... فمثلاً إذا افترضنا أن أحد الأشخاص كان معتزماً لأن يكتب أو يتلفّظ بعبارة ( العلماء )، فكتبها أو تلفّظ بها بعبارة ( العملاء )، حينئذٍ لا يمكننا أن نرتّب أثراً نفسياً على هذه العبارة من النص المدروس، مادمنا غير واثقين بأن العبارة المذكورة قد عبّرت بالفعل عن ( سلوك لاشعوري ) حيال العلماء. من الممكن أن يكون صاحب النص ذا تركيب نفسي شاذ بالنسبة لنظرته عن ( العلماء )، بحيث قفزت عن لاشعوره، العبارة التي تختزنه أعماقه بالفعل، ونعني بها ( العملاء)، إلاَّ أن اليقين بذلك أمر لا سبيل إليه ؛ نظراً لتماثل مخارج الأصوات في العبارتين المذكورتين، بحيث نتوقّع أن يكون الخطأ المذكور ناجماً من الحقيقة الصوتية المذكورة وليس من اللاشعور.

إذن، وصل النص بنفسية كاتبه لا يعد من الحالات جميعاً عملاً ذا قيمة، مادمنا نعرف أن تشخيص ذلك لا يتم بسهولة، بل لابد من أن يمتلك الباحث مقدرة علمية متنوّعة، تتصل ليس بثقافته النفسية فحسب، بل بسائر أدوات الفن التي انطوى عليها النص المدروس.

هذا، إلى أن الباحث الإسلامي حينما يتوسل بالأداة ( النفسية ) في دراسة النص، يضع في اعتباره جانباً من الأهمية بمكان كبير، هو: أن كثيراً من النصوص لا يمكن البتة دراستها في ضوء الصلة بمبدعها، وهذا من نحو دراسته للنصوص القرآنية الكريمة مثلاً، أو دراسته للنصوص الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ؛ نظر لتنزّه الله تعالى عن ذلك، وعصمة أهل البيت عن الخطأ وسائر الفعاليات التي تصدر عن البشر العادي.

إنه من الممكن - فيما يتصل بالنصوص الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام - أن يصل الباحث بينها وبين نفسيتهمعليه‌السلام من حيث استخلاص السلوك السوي الصادر عنهم وانعكاساته على النص، إلاَّ أن ذلك يظل في مجالات محددة، بخاصة إذا عرفنا أن وصل النص بكاتبه يقترن - في غالبية الدراسات - باستخلاص الظواهر السلبية، وهمعليه‌السلام معصومون من ذلك دون أدنى شك.

على أية حال، خارجاً عن المزالق الثلاثة التي أشرنا إليها، من المفيد جداً أن يتوكأ الباحث العلمي على هذا النمط من الوصل بين الموضوعات وأصحابها ؛ نظراً للأهمية الكبيرة التي ينطوي عليها مثل هذه الاستعانة بالبعد النفسي... فإذا افترضنا أن أحد الشعراء - مثلاً - طالبَ في قصيدة له بتمزيق جثة الميت والتمثيل بها، أو أن أحد الأشخاص مارس عملية ( التمثيل ) بعدُوِّه... حينئذٍ فإن وصل القصيدة بنفسية صاحبها أو عملية التمثيل بممارسها، يظل من الأهمية بمكان، حيث يستخلص الباحث من ذلك أن الشاعر أو القاتل يحمل نزعة عدوانية يتلذّذ بتعذيب الآخرين، وإلاَّ فإن مجرد القتل كافٍ بتحقيق الغرض الذي استهدفه الشاعر أو القاتل، وهو التخلّص من العدو. أما أن يصحب ذلك ( تمثيل ) بجثته أيضاً، فيعد مؤشراً لمرض الشخصية وشذوذها ومعاناتها لمختلف الاضطرابات النفسية.

٧٧

ومن البيّن أن اكتشاف الباحث العلمي للحقيقة النفسية المذكورة، تلقي مزيداً من الضوء على دقائق الموضوع وتفصيلاته التي لم تكن لتتضح بجلاء، لو لم يسلّط عليها الضوء النفسي المذكور.

٢ - دراسة النص وعلاقته بالجمهور . ثَمَّة فرع من العلوم النفسية يسمّى ب- ( علم نفس الجمهور )، وهدف هذا الضرب من المعرفة هو، دراسة الأساليب النفسية التي ينبغي أن تصاغ بنحو تترك تأثيرها في المتلقّي، مادمنا نعرف بأن التركيبة البشرية ذات استعداد معين لمختلف الاستجابات، تبعاً للطريقة التي ينتخبها الباحث أو المصلح أو الخطيب مثلاً.

من هنا نجد أن علماء النفس طالما يخطّطون هذا الأسلوب أو ذاك، بغية التأثير على نفسية الجمهور، سواء أكان ذلك في ميدان الصحة النفسية، أو الميادين الأخرى المتصلة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع، وسواء أكان ذلك مقترنا بهدف ايجابي أو سلبي. ولعل ما يصطلح عليه ب- ( الحرب النفسية ) مثلاً، يعد نموذجاً واحداً من أشكال هذا الضرب من المعرفة، التي تعنى بتحديد العلاقة بين المنبّه والاستجابة، وصياغتها وفقاً لِما ينطوي عليه هذا الهدف أو ذاك من انعكاسات سلبية على الجمهور.

وبالمقابل، فإن الانعكاسات الايجابية تأخذ طريقها أيضاً في هذا الميدان، من نحو دراسة مختلف الأساليب التي تساهم في تعميق دلالة الخير في النفس الإنسانية، أو في توصيل دلالة النص الفني أو العلمي إلى المتلقّي... وهذا المنحى الأخير من الدراسة، أي: دراسة عملية التوصيل الفني والعلمي، يظل في الصميم من مهمة الباحث، مادام الباحث معنياً بدراسة النصوص أو الموضوعات وفقاً لانعكاساتها على الآخرين.

ولنأخذ مثلاً على ذلك:

لقد استهدف القرآن الكريم في إشارته للإبداع الكوني تعميق الدلالة المذكورة فنِّياً، فبدأ في سورة الملك - مثلاً - بلفت أنظارنا إلى خلق السماوات:( الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى‏ فِي خَلْقِ الرّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى‏ مِن فُطُورٍ ) . هذه الآية لو دقّقنا النظر فيها، للحظنا أن دراستها في ضوء قوانين التفكير البشرى، أي: طبيعة الآلية الذهنية من حيث استجابتها لعملية ( التعلّم ) مطلقاً، سوف تسعفنا على فهم الكثير من أسرارها... فمن الواضح أن عملية التفكير تبدأ ( في بعض قوانينها ) من ( المجمل ) إلى ( المفصّل)، أو من ( الكل ) إلى ( الجزء )، فأنت حينما تفتح صفحة من الكتاب مثلاً، إنما تتصورها ( كلاّ )، ثم تبدأ بتشخيص سطورها، ثم العبارات، ثم، الحروف... وقد يحدث العكس، تبعاً للموقف، فتبدأ من الحروف إلى الأسطر إلى الصفحة.

ولو عدنا إلى الآية الكريمة، للحظناها بادئة بمجمل الإبداع المذكور، وهو( سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً ) . ثم يفرز هذه السماوات من حيث علاقتها واحدة بالأخرى، متمثّلة في ( عدم التفاوت ) بينها:( مَا تَرَى‏ فِي خَلْقِ الرّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ ) . ثم بفرز السماء الواحدة من حيث عدم مشاهدة ( الشقوق )

٧٨

فيها:( هَلْ تَرَى‏ مِن فُطُورٍ ) ، وهذا يعني أن الآية الكريمة أخذت بنظر الاعتبار قوانين التفكير أو الاستجابة التي تبدأ من المجمل أو الكل ( مطلق السماوات)، إلى تفصيلاتها الأولية ( عدم التفاوت )، إلى تفصيلاتها الثانوية ( عدم الفطور ).

ومن الواضح أن الناقد حينما يدرس النص في ضوء الحقيقة التي أشرنا إليها، إنما يكشف عن جوانب أخرى من الإعجاز الفني في القرآن الكريم، مثلما يكشف عن حقائق ( الاستجابة الذهنية ) وقوانينها.

والامر ذاته فيما يتصل بالكشف عن قوانين ( الاستجابة النفسية ) من حيث عناصر ( التشويق ) و( الإثارة ) وغيرها، ممّا نلحظه في القصص القرآني الكريم مثلاً، أو ما نلحظه في بناء السورة القرآنية الكريمة من حيث مقدمتها وخاتمتها، حيث تبدأ السور الكريمة بطرح دلالات معينة بنحو تجعلنا نتهيَّأ نفسياً لتقبّل ومعرفة ما تتضمّنه من أهداف وأفكار متنوّعة.

٣ - دراسة النص الأدبي في ضوء الظواهر النفسية العامة . يقصد ب- ( الظواهر النفسية العامة ): دراسة النص من حيث انطوائه على دلالات نفسية محدّدة، بغض النظر عن ارتباطها بسلوك الفنان أو المتلقّي، بل بما هي ظواهر يمكن إخضاعها لقوانين عامة. فإذا اعتزم الناقد دراسة عنصر فنّي، مثل ( التشبيه ) في الأعمال الشعرية، ومثل ( الحوار ) في الأعمال القصصية، حينئذٍ يمكن دراسة هذه الجوانب في ضوء ما ينطوي ( التشبيه ) أو ( الحوار ) عليه من دلالات نفسية، مثل انتقاء عنصر مشترك بين طرفي الصورة وكون ذلك أما حسيِّاً أو تجريدياً، ومثل كون ( الحوار الداخلي ) - مثلاً - أشد صدقاً من غيره في التعبير عن أسرار النفس... وهكذا.

المهم أن دراسة النص في ضوء دلالاته النفسية، يظل من أشد مستويات البحث النقدي بالقياس إلى غيره من المعرفة الإنسانية، بخاصة إذا أدركنا بأن المنهج القائم على ربط الصلة بين النص وصاحبه لا يمكن الاطمئنان إليه. وأما المنهج القائم على ربط الصلة بين النص والجمهور، فمن الممكن أن يندرج ضمن دراسة النص في دلالاته النفسية، ممّا يعني - في نهاية المطاف - أن المنهج المذكور يظل أشد فاعلية من سواه، بالنحو الذي فصلّنا الحديث عنه.

٧٩

البلاغة والنقد

البلاغة: مصطلح يطلق على أحد ضروب المعرفة المنتسبة إلى الموروث الأدبي القديم ( عربياً وأعجمياً)، وهو يتضمّن مجموعة من القواعد أو المبادئ التي ينبغي توفّرها في التعبير الأدبي ليكتسب جماليته الخاصة.. بَيْد أنّ هذا الضرب من المعرفة الذي اكتسب طابعاً استقلالياً في الموروث الأدبي، بدأ يضمر أو يختفي إلى حدٍ كبير في الأدب المعاصر، وبدأ ( النقد الأدبي ) يحتفظ لنفسه بهذه المهمة، ونعني بها: صياغة المبادئ أو القواعد التي ينبغي توفُّرها في التعبير الجميل، حيث يضطلع ما يُطلق عليه اسم ( النقد النظري ) بالمهمة المشار إليها، وهي مهمة تندرج ضمن عنوان عام هو ( نظرية الأدب )، الشاملة لعمليات (التنظير ) للظواهر الأدبية. مقابل ( دراسة الأدب وتاريخه )، الشاملة لعمليات ( التطبيق ) للظواهر المشار إليها.

إن ما نعتزم توضيحه في هذا الحقل هو: أن ( البلاغة ) في طابعها الموروث، تظل مثل غالبية ضروب المعرفة، محكومة بسمة العصر الذي ولدت في نطاقه، حيث ترتد بجذورها إلى أكثر من ألف عام، شهدت الأجيال الأدبية من خلالها تطوُّرات ملحوظةً في حقل الأدب وقواعده الفنية، بحيث لم تعد ( البلاغة ) منسجمةً مع التطورات التي أشرنا إليها. بل يمكن القول بأن الجمود والقصور والتكلّف تظل من أبرز سمات ( البلاغة ) القديمة بالقياس إلى أدوات النقد الأدبي المعاصر.

فالبلاغة - من جانب - تظل محدودة القواعد، لا تتجاوز صعيد الأشكال الأدبية التي خبرتها القرون الأُولى، مثل الشعر العمودي والخطبة والرسالة وما إليها، في حين أن الأشكال الأدبية المعاصرة - وفي مقدمتها القصة والمسرحية بكل مستوياتها - لا تخبر البلاغة أي شيء من مبادئهما: مع أن هذين الشكلين الأدبيين، يُعدّان من أكثر الفنون التعبيرية إثارةً وانتشاراً وتأثيراً في النفوس، ويكفينا أن نجد أن القرآن الكريم يعتمد الشكل القصصي بنحو ملفِت للنظر ،مما يفصح عن أهمية وخطورة الشكل الأدبي المذكور.

والغريب أن البلاغة الموروثة

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793

794

795

796

797

798

799

800

801

802

803

804

805

806

807

808

809

810

811

812

813

814

815

816

817

818

819

820

821

822

823

824

825

826

827

828

829

830

831

832

833

834

835

836

837

838

839

840

841

842

843

844

845

846

847

848

849

850

851

852

853

854

855

856

857

858

859

860

861

862

863

864

865

866

867

868

869

870

871

872

873

874

875

876

877

878

879

880

881

882

883

884

885

886

887

888

889

890

891

892

893

894

895

896

897

898

899

900

901

902

903

904

905

906

907

908

909

910

911

912

913

914

915

916

917

918

919

920

921

922

923

924

925

926

927

928

929

930

931

932

933

934

935

936

937

938

939

940

941

942

943

944

945

946

947

948

949

950

951

952

953

954

955

956

957

958

959

960

961

962

963

964

965

966

967

968

969

970

971

972

973

974

975

976

977

978

979

980

981

982

983

984

985

986

987

988

989

990

991

992

993

994

995

996

997

998

999

1000

1001

1002

1003

1004

1005

1006

1007

1008

1009

1010

1011

1012

1013

1014

1015

1016

1017

1018

1019

1020

1021

1022

1023

1024

1025

1026

1027

1028

1029

1030

1031

1032

1033

1034

1035

1036

1037

1038

1039

1040

1041

1042

1043

1044

1045

1046

1047

1048

1049

1050

1051

1052

1053

1054

1055

1056

1057

1058

1059

1060

1061

1062

1063

1064

1065

1066

1067

1068

1069

1070

1071

1072

1073

1074

1075

1076

1077

1078

1079

1080

1081

1082

1083

1084

1085

1086

1087

1088

1089

1090

1091

1092

1093

1094

1095

1096

1097

1098

1099

1100

1101

1102

1103

1104

1105

1106

1107

1108

1109

1110

1111

1112

1113

1114

1115

1116

1117

1118

1119

1120

1121

1122

1123

1124

1125

1126

1127

1128

1129

1130

1131

1132

1133

1134

1135

1136

1137

1138

1139

1140

1141

1142

1143

1144

1145

1146

1147

1148

1149

1150

1151

1152

1153

1154

1155

1156

1157

1158

1159

1160

1161

1162

1163

1164

1165

1166

1167

1168

1169

1170

1171

1172

1173

1174

1175

1176

1177

1178

1179

1180

1181

1182

1183

1184

1185

1186

1187

1188

1189

1190

1191

1192

1193

1194

1195

1196

1197

1198

1199

1200

1201

1202

1203

1204

1205