وكانت صدّيقة

وكانت صدّيقة25%

وكانت صدّيقة مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 236

  • البداية
  • السابق
  • 236 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 8557 / تحميل: 4287
الحجم الحجم الحجم
وكانت صدّيقة

وكانت صدّيقة

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

١٨

كذئاب مجنونة راح المشركون يجوسون خلال الجثث الهامدة يمزّقون اكباداً وقلوباً كانت تنبض بالحياة؛ تحلم بعالم جميل؛ بدنيا آمنة مطمئنة.

جثمت « هند » على جسد كنسر متوحّش وبدا وجهها الحادّ كغراب شره كان صوتها يشبه فحيح الأفاعي :

ـ حمزة : صيّاد الاسود جثة هامدة انهض يا قاتل أبي وأخي :

استلت هند خنجراً وبقرت بطن أسد الله وأسد رسوله ثم انشبت يدها في بطنه. كانت المخالب تبحث عن كبد حرّى ولما عثرت عليها انتزعتها وحمزة ما يزال نائماً يعلو وجهه غبار خفيف.

مزّقت الذئبة كبد الانسان. تريد أن تلوكه أن تبتلعه.

وعلى تلال قريبة كانت نسوة في المدينة يرقبن المعركة ، وقد

١٠١

غاظهن فرار المسلمين ، صرخت « ام أيمن » وهي تحثو التراب في وجه « عثمان » :

ـ هاك المغزل فاغزل به وهلم سيفك.

أراد عثمان أن يخبرها بمقتل النبيّ وانّه سنع أحدهم يهتف وسط المعركة : قتلت محمّداً؛ ولكنه فضل الصمت فأمّ أيمن إمرأة في رجل. سوف تحثو في وجهه التراب مرّة اخرى.

لوى عثمان عنان فرسه وانطلق صوب جبل « الجلعب » في ناحية يثرب وتبعه المنهزمون فهو خبير في اكتشاف المخابئ وقد يجتاح أبو سفيان المدينة.

عاد النبيّ إلى المدينة ينوء بجراحاته ، واخفق عليّ وهو يغسل جراحه أن يوقف نزف الدماء؛ وكادت « فاطمة » أن تموت وهي ترى أباها والدماء تسيل من وجهه تدفقت الدموع غزيرة كسماء ممطرة واستيقظت في أعماقها كوامن الأمّ تحاول انقاذ وليدها بأي شيء؛ عمدت إلى حصير فاحرقته ، ولما صار رماداً لمّت الرماد وراحت ترش جراح النبي.

نجح الرماد في وقف اشتعال النار ، أطفأ الجراح بعد أن أخفق الماء.

كان عليّ يراقب زوجه تضمّد الجراح تمسّها ببلسم يوقف تدفق

١٠٢

الألم.

تأملت فاطمة سيف أبيها وسيف بعلها وقد جللتهما الدماء وأدركت هول الملحمة التي دارت في جبل احد.

قال علي وهو يناولها سيفه.

ـ خذيه فلقد صدقني اليوم.

فقال النبي :

ـ لقد أدّى بعلك ما عليه وقتل الله بسيفه صناديد قريش حتى نادى جبريل بين السماء والأرض : لا سيف إلا ذوالفقار ولا فتى إلاّ علي.

نظرت فاطمة الى زوجها تشكره بعينين تشعان رحمة الله وحده يعرف الأعماق وحده الذي يعرف روح هذا الفتى الشجاع الذي حمل روحه على كفّه يفدي رسول الله وقد غدا كل شيء في دنياه ، انه لا يعرف للحياة معنى إلاّ بمحمّد محمّد الذي منحه في زمن الرعب الطمأنينة والسلام.

عاد عثمان ومن معه الى المدينة بعد أن مكث في الجبل ثلاثة أيام وقال النبيّ عندما وقعت عيناه عليهم :

ـ لقد ذهبتم فيها عريضة‍‍!! وتمرّ الأيّام وتندمل آلاف الجراح وعادت الى المدينة روح

١٠٣

الأمل وانطلق المجتمع الجديد يزرع ويبني ويعمل ويشحذ السيوف وقد أدرك الذين آمنوا ان طاعة الله والرسول هي الطريق الى النصر الى المجد وإلى جنّة عرضها السماوات والأرض.

عادت فاطمة تدير الرحى وتهزّ المهد وتدير منزلها الصغير وتضمّد جراح النبي تعرف مواقعها في روحه العميقة؛ وربّما انطلت الى أحد تبكي حمزة سيّد الشهداء تعرف عمق الجرح الذي أحدثه رحيله في قلب أبيها.

وأطلّ عام جديد يحمل معه أفراح النصر ويقدّم الى رسول الله ريحانة اخرى في حنايا فاطمة؛ فلقد ولد الحسين وجيهاً في الدنيا وفي الآخرة ومن المقرّبين.

وهمس النبيّ في اذنيه بكلمات السماء وسمعه الكثير وهو يقبّله قائلاً :

ـ حسين مني وأنا من حسين.

وكان الحسن قريباً فدبّ كنملة وراح يداعب شعر أخيه وقد غمره فرح طفولي ، وتدفق نبع جديد؛ نبع في اسرة صغيرة؛ اسرة أسسها النبيّ وباركتها السماء.

وتمرّ الأيام والنبيّ يشمر عن ساعديه ويبني الانسان انسان الصحراء يروّض في أعماقه الوحش ويضيء في ظلماته شمعة.

١٠٤

وبدت يثرب في أرض الله الواسعة سراجاً في مهب إعصار فيه نار أو قارباً صغيراً وسط الأمواج العاتية ، والنبيّ والذين آمنوا يقاومون المدّ الجاهلي ويحبطون مؤامرات يهودية واليهود عجنوا بالغدر وتشرّبوا تعاليم التلمود نبذوا التوراة بعيداً الاّ ما حرّفوه عن مواضعه ، يبنون حصونهم وقلاعهم ، وظنوا انهم مانعتهم حصونهم. يخفون وراءها حقداً دفيناً للانسان تناقلته أجيالهم منذ السبي البابلي وإلى ان يقضي الله أمراً كان مفعولا. يباهون الامم بموسى بن عمران وقد عشعش قارون في نفوسهم. ترنّ في أعماقهم خشخشة الذهب والفضة ، فتوارثوا عجلاً صنعوه منذ أن سوّل لهم السامريّ ، وظلوا عاكفين عليه حتى اذا نصحهم هارون كادوا ان يفتكوا به ، أداروا ظهرهم للذي أنجاهم من البحر وعكفوا على عجل له خوار.

كان موسى غاضباً وهو يلقي الألواح ويأخذ بمخانق أخيه. هتف هارون :

ـ انّهم استضعفوني وكادوا يقتلونني.

واتجهت الأبصار الى السامري. كاد موسى يبطش به :

ـ فما خطبك يا سامري؟

ـ لا شيء لقد رأيت أثر الملاك وكذلك سوّلت لي نفسي.

ومضى السامري في التيه يشدّ عباءته الى كتفيه يعتصر وجهه

١٠٥

المخادع بكفيه وعواء ذئب جائع يضجّ في صدره اللاهث ضاع السامريّ بين آثار الجمال والحمير لا يعرف له وطناً سوى تلك البقعة التي خسفت بقارون وخزائنه الزاخرة بالذهب الأصفر في أعماقه امنيات لعجل جديد يعبده من دون الله؛ لا تكفيه بقعة واحدة. يريد أن يبتلع سينا وأرض كنعان ، وبابل ورمال جزيرة العرب.

وحطّ السامري رحله هنا وهناك من أرض الجزيرة وراح يبني الحصون والقلاع وينهب الذهب ، القبائل العربية تعبد أصناماً من حجارة تنحتها بأيديها أو أشجاراً ذات رقاع ، وابناء السامريّ يعبدون عجلاً من ذهب يخطف الأبصار ، يظلّون عليه عاكفين حتى جاء محمّد.

توقّف التاريخ يحبس أنفاسه عند حصون بني النضير فقد جاء محمّد ومعه جمع من أصحابه يطالبهم بالوفاء وهم جبلوا على الغدر؛ يبتسمون لمن يدعوهم فيكشرون عن أنياب تنزّ صديداً.

قالوا وقد رأوا النبيّ عند الحصن في قلّة ودونما سلاح.

ـ نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت.

وجلس النبيّ ينتظر الوفاء.

وخلف جدران الحصون والقلاع ولدت مؤامرة.

اجتمع ابناء السامريّ العيون تبرق بالغدر :

١٠٦

ـ هذه فرصتنا للقضاء على محمّد.

ـ أجلّ نتغدى به قبل أن يتعشى بنا.

ـ انطلق يا « عزوك » فتحدّث معه وأطل الكلام.

ـ وأنت يا « جحاش » اصعد فوق الحصن والق عليه( رحى الطاحون).

حاكت العناكب شباكها على عجل. غير أنّ النبيّ الأمّي الذي يجدون اسمه في التوراة يعرف ما يجول في خواطرهم فغادر الحصن وجاء المدينة يسعى.

وحوصرت حصون السامريّ عشرين يوماً حتى تهاوت جميعاً وقتل عليّ « عزوك » ولملم بنو النضير شباك العنكبوت ورحلوا رحلوا بعيداً وتنفس النبيّ والذين آمنوا الصعداء؛ وتمت كلمة ربّك بالحق وقيل بعداً للقوم الظالمين.

وعادت يثرب مدينة منوّرة يكاد سنا نورها يضيء التاريخ.

١٠٧
١٠٨

١٩

الحياة في يثرب ينابيع متدفقة ، والأمل ينمو يكبر غدا شجرة خضراء أصلها ثابت وفرعها في السماء ، والذين نصروا النبيّ يعملون دائبين في زروعهم ، يرعون ماشيتهم. والذين هاجروا وجدوا لهم متّسعاً من مكان في الأرض وفي القلوب وغدا الجميع اخوة على دين واحد كلّهم من آدم وآدم من تراب ، والرسول لا يفتأ يؤلّف بين القلوب يغسل عنها أدران الجاهلية.

عليّ يعمل يسقي الزرع أو يفجّر الأرض ينابيع ، فيحصل لقاء ذلك صاعاً من شعير أو تميرات من نخيل يثرب.

كانت شمس الأصيل تغمر مسجد النبيّ بأشعتها الذهبية ، ومساقط الضوء تتناثر من بين جريد النخل كدنانير ذهب نثرت فوق عروس.

جلس النبيّ في قبلته بعد ان انفتل من الصلاة وقد تحلّق حوله

١٠٩

أصحابه فبدا كقمر وسط النجوم ، والزمن نهر يتدفق تتدافع قطراته بانتظام أو وحى كبيرة تدور وتدور ، تهب السنين لمن يشاء ومن لا يشاء. تفتح عيون الاطفال وتغمض عيوناً متغضنة الأجفان ، تشدّ أعواد الشباب وتقوّس قامات الكهول ، فالجميع الى زوال ويبقى وجه الله الله وحده.

دخل المسجد شيخ عصف به الزمان. نحت وجهه ومزّق ثيابه ، يدبّ على الأرض دبيب نملة تبحث عن رزقها في يوم بارد.

هتف الشيخ وهو يتطلّع الى النبيّ كأنما يتطلّع إلى شمس تهب النور والدفء :

ـ يانبي الله أنا جائع عريان اشبعني واكسني.

أجاب النبيّ وقلبه يذوب تأثّراً :

ـ ما أجد لك شيئاً ولكن الدالّ على الخير كفاعله انطلق الى من يحب الله ورسوله ، ويحبّه الله رسوله ، يؤثر الله على نفسه انطلق الى فاطمة

التفت النبيّ الى بلال :

ـ قم يابلال فخذه الى منزل فاطمة.

وقف الشيخ عل باب يغضى الى عالم من أمل عالم يهب الخير للجياع.

١١٠

هتف الشيخ بصوت واهن ينوء بعبء السنين :

ـ شيخ عصف به الدهر وأضرّ به الفقر واسيني يا بنت محمّد.

نظرت فاطمة حواليها لم تجد شيئاً تسعف به انساناً ينتظر بأمل.

كان هناك في زاوية الحجرة جلد كبش مدبوغ ، فطوته وناولته الشيخ :

ـ خذه ، فعسى الله أن يختار لك ماهو خير منه.

دقّق الشيخ النظر وتمتم :

ـ وما أصنع بجلد كبش يا بنت محمّد!

وأصعب شيء أن تهب المرأة زينتها اساور من ذهب أو فضّة أو عقداً من لآلئ البحر ، ولكن هناك ما يضيء في نفس المرأة ويتألق في أعماقها تألق اللؤلؤ في الأصداف.

انتزعت فاطمة عقداً كان في عنقها وناولته الشيخ الملهوف :

ـ خذه يا شيخ عسى الله أن يعوضك به ماهو خير منه.

عاد الشيخ الهوينى الى المسجد كان النبي ما يزال جالساً بين أصحابه ، قال الشيخ :

ـ يا رسول الله أعطتني فاطمة هذا العقد وقالت بعه عسى الله أن يصنع لك به خيرا.

دمعت عينا النبيّ :

١١١

ـ كيف لا يصنع الله لك! وقد اعطتك ايّاه سيدة بنات آدم.

سأل عمّار وكان حاضراً :

ـ بكم تبيع العقد يا شيخ؟

ـ بشبعة من الخبز واللحم ، وبردة يمانية استر بها نفسي واصلّي بها لربي.

ملأ الشيخ كفيه دنانير من ذهب ودراهم من فضة فهتف جذلاً :

ـ ما أسخاك بالمال يا رجل!

غاب الشيخ برهة ثم عا وبريق أمل يشعّ من عينيه ، وكلمات الدعاء وتمتمات الثناء تنساب من بين شفتيه فقد أغناه الله بعد فقر وأشبعه بعد فقر وأشبعه بعد جوع وكساه بعد عري.

انطلق عمّار الى منزله فكسب عطراً غالياً على العقد ثم لفّه ببردة يمانية وقال لفتاه وكان اسمه سهم :

ـ انطلق الى فاطمة وسلّمها العقد وأنت لها.

وانطلق سهم كسهم يجتاز البيوت حتى اذا وقف على باب فاطمة :

ـ السلام عليك يا بنت رسول الله العقد وأنا لك يا بنت محمّد.

ـ العقد لي وأنت حرّ لوجه الله.

كاد الفتى يطير فرحاً كان يفكّر بالحرية يحلم بها وهاهي

١١٢

اللحظة التي كاد أن ينساها تتحقق فيدخل الدنيا حرّاً طليقاً انه لن ينسى أبداً فاطمة السيّدة التي أعادت اليه شيئاً غالياً فقده منذ زمن.

عاد مهرو لاً والفرحة تطفو فوق وجهه جبينه مشرق وفمه كهلال عيد الفطر. وجد نفسه يعود إلى عمّار ، هتف عمّار :

ـ ما يضحكك يا سهم؟

ـ أضحك لبركة هذا العقد اشبع جائعاً وكسى عرياناً وأغنى فقيراً واعتق عبداً ثم عاد الى صاحبه.

وعندما أوت الطيور الى أعشاشها وعاد المزارعون الى بيوتهم وساق الرعاة غنيماتهم في طريق العودة وقد غابت الشمس لتتألّق النجوم في صفحة السماء ويشرق القمر كانت حكايات السمر تتحدّث بقصّة عقد مبارك وهبته بنت محمّد ثم عاد اليها بعد أن مست بركته جياعاً وعراة وعبيداً وهبتهم الخبز والكساء والحريّة.

١١٣
١١٤

٢٠

مضت خمسة أعوام على هجرة النبيّ والمدينة ما تزال تنعم ببركات السماء تبني وتزرع وتنتج وتقدّم الى العالم الكلمة الطيبة ولكنت قريشاً واليهود يفكّرون باجتثاث شجرة غرستها السماء ليعود الناس القهقرى الى زمان لا عودة اليه

دخل فصل الشتاء ورياح باردة تهبّ من ناحية الشمال ، الغيوم تتجمع في السماء ثم سرعان ما تتبدد تاركة الأرض عطشى والزروع أيدي متضرعة تنشد المطر. العواصف تشتدّ يوماً بعد آخر ولا قطرة مطر

وهناك رياح اخرى رياح جهلية تهبّ من ناحية الجنوب قريش تعدّ العدة لغزو المينة والسامريّ الذي حطّ رحله في خيبر يخطط لإطفاء النور في جزيرة العرب. اشتعلت في القبائل حمى السلب والنهب ويثرب لقمة دسمة وكذلك سوّل لهم السامريّ

١١٥

دقّت طبول الحرب بين مضارب القبائل وسيوف الغدر تشحذ ، تومض في بطون نجد وكنانة وقريش تطرب على رقصة الحرب وهند تلوك كبد حمزة ، وأبو سفيان يحلم بالمجد يهتف : اعل هبل.

رياح الشتاء ما تزال تعصف بالمدينة والغيوم تغبر السماء كسفن تائهة ، حلّ شهر رمضان ، القى رحله في الجزيرة غريباً لا يعرفه أحد إلا في أرض طيبة

صامت يثرب لله امتنع أهلها عن الأكل والشرب وصامت جوارحهم والمعدة توقفت عن الانبساط والتقلّص فانتفض القلب يخفق بقوّة واستيقظ العقل من سباته متوتراً يرى ما لا تراه العيون ويدرك ما لا تدركه الأبصار

جاء رمضان يعلّم الانسان كيف يجوع فينتصر. كيف يظمأ لتولد إرادته كيف يهزم الوحش القابع في داخله لينتصر الانسان المضطهد في الأعماق رمضان نهر يجري تتدافع أمواجه برفق. يغسل القلوب من الدرن يعيدها بيضاء بيضاء كحمائم بريّة تطير في الفضاء خفيفة حرّة تسبح في ملكوت الله.

الرياح الباردة ما تزال تهبّ من ناحية الشمال والغيوم ما تزال تفرّ مذعورة باتجاه الجنوب ولا قطرة مطر والعالم عام جفاف والرسول يشدّ على بطنه حجر المجاعة ، ويصغي الى انباء تأتي من

١١٦

ناحية الصحراء.

ـ انهم عشرة آلاف مقاتل قبائل غطفان وقريش وكنانة وقد نقض بنو قريظة العهد وهم داخل المدينة ألف خنجر في خاصرة يثرب.

ـ وهناك أعداء موجودون بيننا لا نعلمهم. الله يعلمهم.

ـ كفانا الله شرّ المنافقين.

ـ يثرب في خطر.

ـ انهم يزحفون باتجاه المدينة من فوقنا ومن أسفل منّا.

ـ لا تنسوا الله فينساكم واذكروه يذكر كم ويثبّت أقدامكم.

وفي المسجد كاد اليأس يعصف بالقلوب المؤمنة والقلق يزعزع شجرة غرسها النبيّ لتؤتي اكلها كل حين بإذن ربّها.

وبعد حيرة ووجوم نهض رجل من أهل فارس يلوّح بطوق نجاة ليثرب فالطوفان قادم :

ـ يا رسول الله إنّا كنّا بأرض فارس اذا خفنا العدوّ خندقنا.

فكرة لم تكن العرب لتعرفها. هتف الأنصار :

ـ سلمان منّا.

وردّد المهاجرون :

ـ سلمان منّا.

١١٧

وتنازع الفريقان رجلاً جاب الأرض بحثاً عن رجل يدعى محمّد.

هتف النبيّ وقد رنت اليه العيون :

ـ سلمان منا أهل البيت.

رياح الشتاء تعصف بعنف والعام جفاف والبطون خاوية ولكن الإرادة التي ايقظها رمضان تكاد تلوي التاريخ.

من الشمال ستهبّ عاصفة الأحزاب. ضرب النبي الأرض بمعول من حديد وببأس شديد؛ وهوت المعاول تفتت الأرض على طول خمسة آلاف ذراع وعرض تسعة أذرع وعمق سبعة أذرع.

ومرّت الأيام والرياح ما تزال تهبّ شديدة البرودة والأجساد تذوي لاتجد ما يسدّ رمقها ولكن الإرادة كانت تشتدّ تفتت الصخور وتغوص في أعماق الأرض ، فأسراب الجراد قادمة تريد أن تحيل كل ماهو أخضر إلى يباب لاشيء فيه إلاّ سراب يحسبه الظمآن ماء.

جلس النبي ليستريح قليلاً جفّف حبّات رق كانت تتألّق فوق جبينه وبدا معوله قطعة نادرة أو كنزاً منحته الأرض شدّ حجر المجاعة إلى بطنه أكثر ثلاثة أيام تمرّ وهو لايجد شيئاً يطعمه.

لم يذكره أحد الجوع والبرد والاعياء وهواجس الصحراء تنسي المرء أقرب الأشياء اليه ولكن فاطمة لم تنس الرجل الذي

١١٨

اختارته السماء رسولاً الى الأرض المنكوبة.

الرجل الذي اكتسبت يثرب مجدها به جائع يشدّ حجر المجاعة الى بطنه لا يجد شيئاً يأكله حتى ذكرته فاطمة على حين غفلة من أهل يثرب.

غابت الشمس ، وفاحت رائحة الخبز في فضاء المدينة توهجت المواقد في البيوت تمنح الصائمين الدفء والشبع والنبيّ في خندقه يصلّي لله :

ـ ربّ اني لما أنزلت إليّ من خير فقير.

وجاءت فاطمة من بعيد تحمل اليه قلبها وخبزاً انضجته قبل قليل.

شاعت البهجة في وجه النبيّ بهجة تشبه بهجة الحواريين يوم نزلت اليهم مائدة من السماء.

وفاطمة حوراء أنسية جاءت تحمل له الخبز والدفء والشبع. تمتم النبيّ :

ـ والله ما دخل جوفي طعام من ثلاث.

عادت فاطمة الى منزلها تكفكف دموعها تبكي الرجل الذي حمل مشعل السماء الى الأرض يريد له أن يبقى مضيئاً بوجه العاصفة القادمة.

١١٩
١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ما أراك إلّا قد جمعت خيانةً وغشّاً للمسلمين »(١) .

مسالة ٦٨٢ : إذا قال له إنسان : اشتر لي ، فلا يعطه(٢) من عنده وإن كان الذي عنده أجود ، لأنّه إنّما أمره بالشراء ، وهو ظاهر في الشراء من الغير.

قال الصادقعليه‌السلام : « إذا قال لك الرجل : اشتر لي ، فلا تعطه من عندك وإن كان الذي عندك خيراً منه »(٣) .

وسأل إسحاقُ الصادقَعليه‌السلام : عن الرجل يبعث إلى الرجل فيقول له : ابتع لي ثوبا ، فيطلب في السوق فيكون عنده مثل ما يجد له في السوق فيعطيه من عنده ، قال : « لا يقربن هذا ولا يدنس نفسه ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول ( إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً )(٤) وإن كان عنده خيرا ممّا يجد له في السوق فلا يعطيه من عنده »(٥) .

مسالة ٦٨٣ : إذا قال التاجر لغيره : هلمّ أحسن إليك‌ ، باعه من غير ربح استحبابا.

قال الصادقعليه‌السلام : « إذا قال الرجل للرجل : هلمّ أحسن بيعك ، يحرم عليه الربح »(٦) .

ويكره الربح على المؤمن ، فإن فعل فلا يكثر منه.

قال الصادقعليه‌السلام : « ربح المؤمن على المؤمن ربا إلاّ أن يشتري بأكثر‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٦١ / ٧ ، التهذيب ٧ : ١٣ ، ٥٥.

(٢) في الطبعة الحجريّة : « فلا يعطيه ».

(٣) الكافي ٥ : ١٥١ - ١٥٢ / ٦ ، التهذيب ٦ : ٣٥٢ / ٩٩٨ ، و ٧ : ٦ - ٧ / ١٩.

(٤) الأحزاب : ٧٢.

(٥) التهذيب ٦ : ٣٥٢ / ٩٩٩.

(٦) الكافي ٥ : ١٥٢ / ٩ ، الفقيه ٣ : ١٧٣ / ٧٧٤ ، التهذيب ٧ : ٧ / ٢١.

١٨١

من مائة درهم فاربح عليه قوت يومك ، أو يشتريه للتجارة فاربحوا عليهم وارفقوا بهم »(١) .

وينبغي أن يكون الساكت عنده بمنزلة المماكس ، والجاهل بمنزلة البصير المذاقّ.

قال قيس : قلت للباقرعليه‌السلام : إنّ عامّة من يأتيني إخواني فحدّ لي من معاملتهم ما لا أجوزه إلى غيره ، فقال : « إن ولّيت أخاك فحسن ، وإلاّ فبع بيع البصير المذاق »(٢) .

وعن الصادقعليه‌السلام في رجل عنده بيع وسعّره سعرا معلوما ، فمن سكت عنه ممّن يشتري منه باعه بذلك السعر ، ومن ماكسه فأبى أن يبتاع منه زاده » قال : « لو كان يزيد الرجلين والثلاثة لم يكن بذلك بأس ، فأمّا أن يفعله لمن أبى عليه ويماكسه(٣) ويمنعه مَنْ لا يفعل فلا يعجبني إلّا أن يبيعه بيعاً واحداً »(٤) .

مسالة ٦٨٤ : يستحبّ إذا دخل السوق الدعاءُ وسؤال الله تعالى أن يبارك له فيما يشتريه ويخير له فيما يبيعه ، والتكبير والشهادتان عند الشراء.

قال الصادقعليه‌السلام : « إذا دخلت سوقك فقُلْ : اللّهمّ إنّي أسألك من خيرها وخير أهلها ، وأعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أظلم أو أظلم أو أبغي أو يبغى عليّ أو أعتدي أو يُعتدى عليَّ ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من شرّ إبليس وجنوده وشرّ فسقة العرب والعجم ، وحسبي الله‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٥٤ / ٢٢ ، التهذيب ٧ : ٧ / ٢٣ ، الاستبصار ٣ : ٦٩ / ٢٣٢.

(٢) التهذيب ٧ : ٧ / ٢٤ ، وفي الكافي ٥ : ١٥٣ - ١٥٤ / ١٩ عن ميسّر عن الإمام الصادقعليه‌السلام .

(٣) في المصدر : « كايسه » بدل « ماكسه ».

(٤) الكافي ٥ : ١٥٢ / ١٠ ، التهذيب ٧ : ٨ / ٢٥.

١٨٢

الذي لا إله إلّا هو عليه توكّلت ، وهو ربّ العرش العظيم »(١) .

وإذا اشترى المتاع ، قال ما روي عن الصادقعليه‌السلام ، قال : « إذا اشتريت شيئاً من متاع أو غيره فكبّر ، ثمّ قُلْ : اللّهمّ إنّي اشتريته ألتمس فيه من فضلك ، فاجعل فيه فضلاً ، اللّهمّ إنّي اشتريته ألتمس فيه رزقك ، فاجعل لي فيه رزقاً ، ثمّ أعد على(٢) كلّ واحدة ثلاث مرّات »(٣) .

قال الصادقعليه‌السلام : « وإذا أراد أن يشتري شيئاً قال : يا حيّ يا قيّوم يا دائم يا رؤوف يا رحيم ، أسألك بعزّتك وقدرتك وما أحاط به علمك أن تقسم لي من التجارة اليوم أعظمها رزقاً وأوسعها فضلاً وخيرها عاقبةً فإنّه لا خير فيما لا عاقبة له » قال الصادقعليه‌السلام : « إذا اشتريت دابّةً أو رأساً فقُلْ : اللّهمّ ارزقني أطولها حياةً وأكثرها منفعةً وخيرها عاقبةً »(٤) .

مسالة ٦٨٥ : ينبغي له إذا بُورك له في شي‌ء من أنواع التجارة أو الصناعة أن يلتزم به. وإذا تعسّر عليه فيه رزقه ، تحوّل إلى غيره.

قال الصادقعليه‌السلام : « إذا رزقت في(٥) شي‌ء فالزمه »(٦) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « إذا نظر الرجل في تجارة فلم ير فيها شيئاً فليتحوّل إلى غيرها »(٧) .

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٥٦ / ٢ ، التهذيب ٧ : ٩ / ٣٢.

(٢) كلمة « على » لم ترد في الكافي.

(٣) الكافي ٥ : ١٥٦ / ١ ، التهذيب ٧ : ٩ / ٣٣.

(٤) الكافي ٥ : ١٥٧ / ٣ ، التهذيب ٧ : ٩ - ١٠ / ٣٤.

(٥) في الفقيه والتهذيب : « من » بدل « في ».

(٦) الكافي ٥ : ١٦٨ ( باب لزوم ما ينفع من المعاملات ) الحديث ٣ ، الفقيه ٣ : ١٠٤ / ٤٢٣ ، التهذيب ٧ : ١٤ ، ٦٠.

(٧) الكافي ٥ : ١٦٨ / ٢ ، التهذيب ٧ : ١٤ / ٥٩.

١٨٣

وينبغي له التساهل والرفق في الأشياء.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بارك الله على سهل البيع ، سهل الشراء ، سهل القضاء ، سهل الاقتضاء »(١) .

مسالة ٦٨٦ : يجوز لوليّ اليتيم الناظر في أمره المصلح لمالِه أن يتناول اُجرة المثل‌ ؛ لأنّه عمل يستحقّ عليه اُجرة ، فيساوي(٢) اليتيم غيره.

وسأل هشامُ بن الحكم الصادقَعليه‌السلام فيمن تولّى مال اليتيم مالَه أن يأكل منه؟ قال : « ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم فليأكل بقدر ذلك »(٣) .

ويستحبّ له التعفّف مع الغنى ، قال الله تعالى :( وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ) (٤) .

مسالة ٦٨٧ : يجوز أن يواجر الإنسان نفسه.

سأل ابنُ سنان الكاظمَعليه‌السلام عن الإجارة ، فقال : « صالح لا بأس به إذا نصح قدر طاقته ، فقد آجر موسىعليه‌السلام نفسه واشترط فقال : إن شئت ثماني وإن شئت عشراً ، وأنزل الله عزّ وجلّ فيه( أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (٥) »(٦) .

قال الشيخرحمه‌الله : لا ينافي هذا ما رواه الساباطي عن الصادقعليه‌السلام ،

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٨ / ٧٩.

(٢) في « ي » وظاهر « س » : « فساوى ».

(٣) التهذيب ٦ : ٣٤٣ / ٩٦٠.

(٤) النساء : ٦٠.

(٥) القصص : ٢٧.

(٦) الكافي ٥ : ٩٠ / ٢ ، الفقيه ٣ : ١٠٦ / ٤٤٢ ، التهذيب ٦ : ٣٥٣ / ١٠٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٥٥ / ١٧٨.

١٨٤

قال : قلت له : الرجل يتّجر فإن هو آجر نفسه اُعطي ما يصيب في تجارته ، فقال : « لا يواجر نفسه ، ولكن يسترزق الله عزّ وجلّ ويتّجر فإنّه إذا آجر نفسه حظر على نفسه الرزق »(١) لأنّه محمول على الكراهة ، لعدم الوثوق بالنصح(٢) .

وأقول : لا استبعاد في نهيه عن الإجارة للإرشاد ، فإنّ التجارة أولى ؛ لما فيها من توسعة الرزق ، وقد نبّهعليه‌السلام في الخبر عليه. ولأنّه قد روي « أنّ الرزق قسّم عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء منها(٣) في التجارة ، والباقي في سائر الأجزاء(٤) »(٥) .

مسالة ٦٨٨ : يحرم بيع السلاح لأعداء الدين في وقت الحرب‌ ، ولا بأس به في الهدنة.

قال هند السرّاج : قلت للباقرعليه‌السلام : أصلحك الله ما تقول إنّي كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام فأبيعهم فلمـّا عرّفني الله هذا الأمر ضقت بذلك وقلت : لا أحمل إلى أعداء الله ، فقال : « احمل إليهم فإنّ الله عزّ وجلّ يدفع بهم عدوّنا وعدوّكم - يعني الروم - فإذا كانت الحرب بيننا فمَنْ حمل إلى عدوّنا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك »(٦) .

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٥٣ / ١٠٠٢ ، الاستبصار ٣ : ٥٥ / ١٧٧.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٥٣ ، ذيل الحديث ١٠٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٥٥ ، ذيل الحديث ١٧٨.

(٣) في « س ، ي » : « منه ».

(٤) كذا قوله : « في سائر الأجزاء ». ونصّ الرواية في المصدر هكذا : « الرزق عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء في التجارة وواحدة في غيرها ».

(٥) الكافي ٥ : ٣١٨ - ٣١٩ / ٥٩ ، الفقيه ٣ : ١٢٠ / ٥١٠.

(٦) الكافي ٥ : ١١٢ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٥٣ / ١٠٠٤ ، الاستبصار ٣ : ٥٨ / ١٨٩.

١٨٥

وقال حكم السرّاج للصادقعليه‌السلام : ما ترى فيما يحمل إلى الشام من السروج وأداتها؟ فقال : « لا بأس أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّكم في هدنة ، فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السلاح والسروج »(١) .

وقال السرّاد للصادقعليه‌السلام : إنّي أبيع السلاح ، قال : « لا تبعه في فتنة »(٢) .

ويجوز بيع ما يُكنّ من النبل لأعداء الدين ؛ لأنّ محمّد بن قيس سأل الصادقَعليه‌السلام عن الفئتين تلتقيان من أهل الباطل أبيعهما السلاح؟ فقال : « بِعْهما ما يكنّهما ، الدرع والخُفّين ونحو هذا»(٣) .

مسالة ٦٨٩ : يجوز الأجر على الختان وخفض الجواري.

قال الصادقعليه‌السلام : « لمـّا هاجرن النساء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هاجرت فيهنّ امرأة يقال لها : أمّ حبيب وكانت خافضة تخفض الجواري ، فلمـّا رآها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لها : يا اُمّ حبيب ، العمل الذي كان في يدك هو في يدك اليوم؟ قالت : نعم يا رسول الله إلّا أن يكون حراماً فتنهاني عنه ، قال : لا ، بل حلال فاُدْني منّي حتى اُعلّمك ، فدنت منه ، فقال : يا اُمّ حبيب إذا أنت فعلت فلا تَنْهكي ، أي لا تستأصلي ، وأشمّي فإنّه أشرق للوجه وأحظى عند الزوج ».

قال : « وكانت لاُمّ حبيب اُخت يقال لها : اُمّ عطيّة ماشطة ، فلمـّا‌

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٥٤ / ١٠٠٥ ، الاستبصار ٣ : ٥٧ / ١٨٧ ، وفي الكافي ٥ : ١١٢ / ١ بتفاوت يسير.

(٢) الكافي ٥ : ١١٣ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٥٤ / ١٠٠٧ ، الاستبصار ٣ : ٥٧ / ١٨٦.

(٣) الكافي ٥ : ١١٣ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٥٤ / ١٠٠٦ ، الاستبصار ٣ : ٥٧ - ٥٨ / ١٨٨.

١٨٦

انصرفت اُمّ حبيب إلى اُختها أخبرتها بما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأقبلت اُمّ عطيّة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبرته بما قالت لها اُختها ، فقال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : اُدني منّي يا اُمّ عطيّة إذا أنت قيّنت الجارية فلا تغسلي وجهها بالخرقة ، فإنّ الخرقة تذهب بماء الوجه »(١) .

مسالة ٦٩٠ : يكره كسب الإماء والصبيان.

قال الصادقعليه‌السلام : « نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن كسب الإماء فإنّها إن لم تجده زنت إلّا أمة قد عُرفت بصنعة يد ، ونهى عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة فإنّه إن لم يجد سرق»(٢) .

ويكره للصانع سهر الليل كلّه في عمل صنعته ؛ لما فيه من كثرة الحرص على الدنيا وترك الالتفات إلى اُمور الآخرة.

قال الصادقعليه‌السلام : « مَنْ بات ساهراً في كسب ولم يعط العين حظَّها من النوم فكسبه ذلك حرام »(٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « الصنّاع إذا سهروا الليل كلّه فهو سحت »(٤) .

وهو محمول على الكراهة الشديدة ، أو على التحريم إذا منع من الواجبات أو منع القسم بين الزوجات.

مسالة ٦٩١ : يجوز بيع عظام الفيل واتّخاذ الأمشاط وغيرها منها‌ ؛ لأنّها طاهرة ينتفع بها ، فجاز بيعها ؛ للمقتضي للجواز ، السالم عن المانع.

ولأنّ عبد الحميد بن سعد سأل الكاظمَعليه‌السلام عن عظام الفيل يحلّ بيعه‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١١٨ / ١ ، التهذيب ٦ : ٣٦٠ - ٣٦١ / ١٠٣٥.

(٢) الكافي ٥ : ١٢٨ / ٨ ، التهذيب ٦ : ٣٦٧ / ١٠٥٧.

(٣) الكافي ٥ : ١٢٧ / ٦ ، التهذيب ٦ : ٣٦٧ / ١٠٥٩.

(٤) الكافي ٥ : ١٢٧ / ٧ ، التهذيب ٦ : ٣٦٧ / ١٠٥٨.

١٨٧

أو شراؤه للذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال : « لا بأس قد كان لأبي منه مشط أو أمشاط »(١) .

وكذا يجوز بيع الفهود وسباع الطير.

سأل عيصُ بن القاسم - في الصحيح - الصادقَعليه‌السلام عن الفهود وسباع الطير هل يلتمس التجارة فيها؟ قال : « نعم »(٢) .

أمّا القرد فقد روي النهي عن بيعه.

قال الصادقعليه‌السلام : « إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن القرد أن يشترى أو يباع »(٣) .

وفي الطريق قول ، فالأولى الكراهة.

ودخل إلى الصادقعليه‌السلام رجل فقال له : إنّي سرّاج أبيع جلود النمر ، فقال : « مدبوغة هي؟» قال : نعم ، قال : « ليس به بأس »(٤) .

مسالة ٦٩٢ : لا بأس بأخذ الهديّة.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الهديّة على ثلاثة وجوه : هديّة مكافأة ، وهديّة مصانعة ، وهديّة لله عزّ وجلّ »(٥) .

وروى إسحاق بن عمّار قال : قلت له : الرجل الفقير يهدي الهديّة يتعرّض لما عندي فآخذها ولا اُعطيه شيئاً أتحلّ لي؟ قال : « نعم ، هي لك حلال ولكن لا تدع أن تعطيه »(٦) .

____________________

(١) الكافي ٥ : ٢٢٦ / ١ ، التهذيب ٦ : ٣٧٣ / ١٠٨٣.

(٢) الكافي ٥ : ٢٢٦ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٧٣ / ١٠٨٥.

(٣) الكافي ٥ : ٢٢٧ / ٧ ، التهذيب ٦ : ٣٧٤ / ١٠٨٦ ، و ٧ : ١٣٤ / ٥٩٤.

(٤) الكافي ٥ : ٢٢٧ / ٩ ، التهذيب ٧ : ١٣٥ / ٥٩٥.

(٥) الكافي ٥ : ١٤١ / ١ ، التهذيب ٦ : ٣٧٨ / ١١٠٧.

(٦) الكافي ٥ : ١٤٣ / ٦ ، الفقيه ٣ : ١٩٢ / ٨٧٢ ، التهذيب ٦ : ٣٧٩ / ١١١٢.

١٨٨

وقال محمّد بن مسلم : « جلساء الرجل شركاؤه في الهديّة »(١) .

وهي مستحبّة مرغَّبٌ فيها ؛ لما فيها من التودّد.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « لأن أهدي لأخي المسلم هديّة تنفعه أحبّ إليّ من أن أتصدّق بمثلها »(٢) .

وقبولها مستحبّ ؛ اقتداءً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه قال : « لو اُهدي إليَّ كراع لقبلت »(٣) .

ولو أهدي إليه هديّة طلباً لثوابها فلم يثبه ، كان له الرجوع فيها إذا كانت العين باقيةً ؛ لما رواه عيسى بن أعين قال : سألت الصادقَعليه‌السلام عن رجل أهدى إلى رجل هديّة وهو يرجو ثوابها فلم يثبه صاحبها حتى هلك وأصاب الرجل هديّته بعينها ، أله أن يرتجعها إن قدر على ذلك؟ قال : « لا بأس أن يأخذه »(٤) .

مسالة ٦٩٣ : لا يجوز عمل التماثيل والصور المجسّمة. ولا بأس بها فيما يوطأ بالأرجل ، كالفراش وشبهه ؛ لما رواه أبو بصير عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : إنّما(٥) نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل ونفرشها ، قال : « لا بأس بما يبسط منها ويفرش ويوطأ ، وإنّما يكره منها ما نُصب على الحائط وعلى السرير »(٦) .

مسالة ٦٩٤ : يجوز لمن أمره غيره بشراء شي‌ء أن يأخذ منه على ذلك‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٤٣ / ١٠ ، التهذيب ٦ : ٣٧٩ / ١١١٣.

(٢) الكافي ٥ : ١٤٤ / ١٢ ، التهذيب ٦ : ٣٨٠ / ١١١٥.

(٣) الكافي ٥ : ١٤١ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٧٨ / ١١٠٨.

(٤) الفقيه ٣ : ١٩٢ / ٨٧١ ، التهذيب ٦ : ٣٨٠ / ١١١٦.

(٥) كذا في المصدر والطبعة الحجريّة ، وفي « س ، ي » : « إنّا » بدل « إنّما ».

(٦) التهذيب ٦ : ٣٨١ / ١١٢٢.

١٨٩

الجُعْل ؛ لأنّه فعل مباح.

ولما رواه ابن سنان عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سأله أبي وأنا حاضر ، فقال : ربما أمرنا الرجل يشتري لنا الأرض أو الدار أو الغلام أو الخادم ونجعل له جُعْلاً ، فقال الصادقعليه‌السلام : « لا بأس به »(١) .

مسالة ٦٩٥ : لا بأس بالزراعة ، بل هي مستحبّة.

روى سيابة أنّ رجلاً سأل الصادقعليه‌السلام : أسمع قوماً يقولون : إنّ الزراعة مكروهة ، فقال : « ازرعوا واغرسوا ، فلا والله ما عمل الناس عملاً أحلّ ولا أطيب منه ، والله لنزرعنّ الزرع ولنغرسنّ(٢) غرس النخل بعد خروج الدجّال »(٣) .

وسأل هارون بن يزيد الواسطي الباقرَعليه‌السلام (٤) عن الفلّاحين ، فقال : « هُم الزارعون كنوز الله في أرضه ، وما في الأعمال شي‌ء أحبّ إلى الله من الزراعة ، وما بعث الله نبيّاً إلّا زارعاً ، إلّا إدريسعليه‌السلام فإنّه كان خيّاطاً »(٥) .

مسالة ٦٩٦ : يجوز أخذ أجر البذرقة من القوافل إذا رضوا بذلك‌ ، وإلّا حرم.

كتب محمّد بن الحسن الصفّار إليه : رجل يبذرق القوافل من غير أمر السلطان في موضع مخيف ، ويشارطونه على شي‌ء مسمّى أن يأخذ منهم إذا صاروا إلى الأمن ، هل يحلّ له أن يأخذ منهم؟ فوقّععليه‌السلام « إذا واجر(٦)

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٨١ / ١١٢٤.

(٢) في « ي » والطبعة الحجريّة والكافي : « ليزرعنّ ليغرسنّ ».

(٣) الكافي ٥ : ٢٦٠ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٨٤ - ٣٨٥ / ١١٣٩.

(٤) كذا في « س ، ي » والطبعة الحجريّة. وفي المصدر : « يزيد بن هارون الواسطي عن جعفر بن محمّدعليهما‌السلام ».

(٥) التهذيب ٦ : ٣٨٤ / ١١٣٨.

(٦) في المصدر : « آجر ».

١٩٠

نفسه بشي‌ء معروف أخذ حقّه إن شاء الله »(١) .

مسالة ٦٩٧ : يكره بيع العقار إلّا لضرورة.

قال أبان بن عثمان : دعاني الصادقعليه‌السلام فقال : « باع فلان أرضه؟ » فقلت : نعم ، فقال: « مكتوب في التوراة أنّه مَنْ باع أرضاً أو ماءً ولم يضعه في أرض وماء ذهب ثمنه محقاً »(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « مشتري العقدة مرزوق وبائعها ممحوق »(٣) .

وقال مسمع للصادقعليه‌السلام : إنّ لي أرضاً تُطلب منّي ويرغّبوني ، فقال لي : « يا أبا سيّار أما علمت أنّه مَنْ باع الماء والطين ولم يجعل ماله في الماء والطين ذهب ماله هباءً » قلت : جعلت فداك إنّي أبيع بالثمن الكثير فأشتري ما هو أوسع ممّا بعت ، فقال : « لا بأس »(٤) .

مسالة ٦٩٨ : يكره الاستحطاط من الثمن بعد العقد‌ ؛ لأنّه قد صار ملكاً للبائع بالعقد ، فيندرج تحت قوله تعالى :( وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ ) (٥) .

وروى إبراهيم الكرخي عن الصادقعليه‌السلام ، قال : اشتريت للصادقعليه‌السلام جاريةً فلمـّا ذهبت أنقدهم قلت : أستحطّهم ، قال : « لا ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن الاستحطاط بعد الصفقة»(٦) .

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٨٥ / ١١٤١.

(٢) الكافي ٥ : ٩١ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٨٧ - ٣٨٨ / ١١٥٥.

(٣) الكافي ٥ : ٩٢ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٨٨ / ١١٥٦.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٨٨ / ١١٥٧ ، وبتفاوت في الكافي ٥ : ٩٢ / ٨.

(٥) هود : ٨٥.

(٦) الكافي ٥ : ٢٨٦ ( باب الاستحطاط بعد الصفقة ) الحديث ١ ، التهذيب ٧ : ٢٣٣ / ١٠١٧ ، الاستبصار ٣ : ٧٣ / ٢٤٣.

١٩١

قال الشيخ : إنّه محمول على الكراهة(١) ؛ لما روى معلّى بن خنيس عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يشتري المتاع ثمّ يستوضع ، قال : « لا بأس به » وأمرني فكلّمت له رجلاً في ذلك(٢) .

وعن يونس بن يعقوب عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : الرجل يستوهب من الرجل الشي‌ء بعد ما يشتري فيهب له ، أيصلح له؟ قال : « نعم »(٣) .

وكذا في الإجارة. روى عليّ أبو الأكراد عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : إنّي أتقبّل العمل فيه الصناعة وفيه النقش فاُشارط النقاش على شي‌ء فيما بيني وبينه العشرة أزواج بخمسة دراهم أو العشرين بعشرة ، فإذا بلغ الحساب قلت له : أحسن ، فأستوضعه من الشرط الذي شارطته عليه ، قال : « بطيب نفسه؟ » قلت : نعم ، قال : « لا بأس »(٤) .

مسالة ٦٩٩ : أصل الأشياء الإباحة إلّا أن يُعلم التحريم في بعضها.

روي عن الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - قال : « كلّ شي‌ء يكون منه حرام وحلال فهو حلال لك أبداً حتى تعرف أنّه حرام بعينه فتدعه »(٥) .

وقالعليه‌السلام : « كلّ شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قِبَل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حُرٌّ قد باع نفسه أو خُدع فبِيع أو قُهر ، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير‌

____________________

(١) التهذيب ٧ : ٢٣٣ ، ذيل الحديث ١٠١٧ ، الاستبصار ٣ : ٧٤ ، ذيل الحديث ٢٤٥.

(٢) التهذيب ٧ : ٢٣٣ / ١٠١٨ ، الاستبصار ٣ : ٧٣ / ٢٤٤.

(٣) التهذيب ٧ : ٢٣٣ - ٢٣٤ / ١٠١٩ ، الاستبصار ٣ : ٧٤ / ٢٤٥.

(٤) التهذيب ٧ : ٢٣٤ / ١٠٢٠.

(٥) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٨.

١٩٢

ذلك أو تقوم به البيّنة »(١) .

مسالة ٧٠٠ : لا ينبغي التهوين في تحصيل قليل الرزق‌ ، فإنّ علي بن بلال روى عن الحسين الجمّال قال : شهدت إسحاق بن عمّار وقد شدّ كيسه وهو يريد أن يقوم فجاء إنسان يطلب دراهم بدينار ، فحلّ الكيس وأعطاه دراهم بدينار ، فقلت له : سبحان الله ما كان فضل هذا الدينار ، فقال إسحاق بن عمّار : ما فعلت هذا رغبة في الدينار ، ولكن سمعت الصادقَعليه‌السلام يقول : « من استقلّ قليل الرزق حرم الكثير »(٢) .

مسألة ٧٠١ : ينبغي الاقتصاد في المعيشة وترك الإسراف.

قال الباقرعليه‌السلام : « من علامات المؤمن ثلاث : حسن التقدير في المعيشة ، والصبر على النائبة ، والتفقّه في الدين » وقال : « ما خير في رجل لا يقتصد في معيشته ما يصلح [ لا ](٣) لدنياه ولا لآخرته »(٤) .

وقال الصادقعليه‌السلام في قوله عزّ وجلّ :( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ) (٥) قال : « ضمّ يده » فقال : « هكذا »( وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) (٦) قال : « وبسط راحته » وقال : « هكذا »(٧) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « ثلاثة من السعادة : الزوجة الموافقة(٨) ، والأولاد البارّون ، والرجل يرزق معيشته ببلده يغدو إليه ويروح »(٩) .

____________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ - ٣١٤ / ٤٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ، ٩٨٩.

(٢) الكافي ٥ : ٣١١ / ٣٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٧ / ٩٩٣.

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) التهذيب ٧ : ٢٣٦ / ١٠٢٨.

(٥ و ٦ ) الإسراء : ٢٩.

(٧) التهذيب ٧ : ٢٣٦ / ١٠٣١.

(٨) في المصدر : « المؤاتية » بدل « الموافقة ».

(٩) التهذيب ٧ : ٢٣٦ / ١٠٣٢ ، وفي الكافي ٥ : ٢٥٨ ( باب أنّ من السعادة ) الحديث ٢ بتفاوت يسير.

١٩٣

الفصل الثاني : في الشفعة

الشفعة مأخوذة من قولك : شفعت كذا بكذا ، إذا جعلته شفعاً به كأنّ الشفيع يجعل نصيبه شفعاً بنصيب صاحبه.

وأصلها التقوية والإعانة ، ومنه الشفاعة والشفيع ؛ لأنّ كلّ واحد من الموترين(١) يتقوّى بالآخَر.

وفي الشرع عبارة عن استحقاق الشريك انتزاع حصّة شريكه ، المنتقلة عنه بالبيع ، أو حقّ تملّك قهري يثبت(٢) للشريك القديم على الحادث ، وليست بيعاً ، فلا يثبت فيها خيار المجلس.

ولا بدّ في الشفعة من مشفوع - وهو المأخوذ بالشفعة ، وهو محلّها - ومن آخذٍ له ، ومن مأخوذ منه ، فهُنا مباحث :

البحث الأوّل : المحلّ.

محلّ الشفعة كلّ عقار ثابت مشترك بين اثنين قابل للقسمة.

واعلم أنّ أعيان الأموال على أقسام ثلاثة :

الأوّل : الأراضي. وتثبت فيها الشفعة أيّ أرض كانت بلا خلاف - إلّا من الأصمّ(٣) - لما رواه العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « الشفعة فيما‌

____________________

(١) كذا في « س ، ي » والطبعة الحجريّة.

(٢) في « س ، ي » : « ثبت ».

(٣) حلية العلماء ٥ : ٢٦٣ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٤٦٠.

١٩٤

لم يقسم ، فإذا وقعت(١) الحدود فلا شفعة »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « الشفعة لا تكون إلّا لشريكٍ »(٣) .

احتجّ الأصمّ على قوله بنفي الشفعة في كلّ شي‌ء : بأنّ في إثباتها إضراراً بأرباب الأملاك ، فإنّه إذا علم المشتري أنّه يؤخذ منه ما يبتاعه ، لم يبتعه ، ويتقاعد الشريك بالشريك ، ويستضرّ المالك(٤) .

وهو غلط ؛ لما تقدّم من الأخبار. وما ذكره غلط ؛ لأنّا نشاهد البيع يقع كثيراً ولا يمتنع المشتري - باعتبار استحقاق الشفعة - من الشراء. وأيضاً فإنّ له مدفعاً إذا علم التضرّر بذلك بأن يقاسم الشريك ، فتسقط الشفعة إذا باع بعد القسمة.

وتثبت الشفعة في الأراضي سواء بيعت وحدها أو مع شي‌ء من المنقولات ، ويوزّع الثمن عليهما بالنسبة ، ويأخذ الشفيع الشقص بالقسط.

الثاني : المنقولات‌ ، كالأقمشة والأمتعة والحيوانات ، وفيها لعلمائنا قولان :

أحدهما - وهو المشهور - : أنّه لا شفعة فيها - وبه قال الشافعي(٥) -

____________________

(١) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « وضعت » بدل « وقعت ». وما أثبتناه هو الموافق لما في المصادر ، وكذا تأتي الرواية أيضاً بعنوان « وقعت » في ص ٢٠٧ - ٢٠٨.

(٢) الموطّأ ٢ : ٧١٣ / ١ ، التمهيد ٧ : ٣٧ - ٤٤ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٥ / ٣٥١٤ ، سنن البيهقي ٦ : ١٠٣ و ١٠٥ ، معرفة السنن والآثار ٨ : ٣٠٨ / ١١٩٨٦.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٥.

(٤) المغني والشرح الكبير ٥ : ٤٦٠.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٣ ، التنبيه في الفقه الشافعي : ١١٦ ، الوجيز ١ : ٢١٥ ، الوسيط ٤ : ٦٩ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٣٧ ، =

١٩٥

لما رواه العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا شفعة إلّا في رَبْعٍ أو حائط »(١) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، ثمّ قال : لا ضرر ولا إضرار »(٢) .

وقول الصادقعليه‌السلام : « ليس في الحيوان شفعة »(٣) .

ولأنّ الأصل عدم الشفعة ، ثبت في الأراضي بالإجماع ، فيبقى الباقي على المنع.

والثاني لعلمائنا : تثبت الشفعة في كلّ المنقولات - وبه قال مالك في إحدى الروايات عنه(٤) - لما رواه العامّة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « الشفعة في كلّ شي‌ء »(٥) .

ومن طريق الخاصّة : رواية يونس عن بعض رجاله عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن الشفعة لمن هي؟ وفي أيّ شي‌ء هي؟ ولمن تصلح؟ وهل تكون في الحيوان شفعة؟ وكيف هي؟ فقال : « الشفعة جائزة في كلّ شي‌ء من حيوان أو أرض أو متاع إذا كان الشي‌ء بين شريكين لا غيرهما ، فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحقّ به من غيره ، وإن زاد على‌

____________________

= العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٢ و ٤٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٥ ، منهاج الطالبين : ١٥١.

(١) نصب الراية ٤ : ١٧٨ نقلاً عن البزار في مسنده.

(٢) الكافي ٥ : ٢٨٠ / ٤ ، الفقيه ٣ : ٤٥ / ١٥٤ ، التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٧.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٥ / ٧٣٣ ، الاستبصار ٣ : ١١٧ - ١١٨ / ٤١٩.

(٤) حلية العلماء ٥ : ٢٦٣ - ٢٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٣ ، المغني ٥ : ٤٦٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٧٢.

(٥) سنن الترمذي ٣ : ٦٥٤ / ١٣٧١ ، سنن البيهقي ٦ : ١٠٩ ، المعجم الكبير - للطبراني - ١١ : ١٢٣ / ١١٢٤٤ ، شرح معاني الآثار ٤ : ١٢٥.

١٩٦

الاثنين فلا شفعة لأحدٍ منهم »(١) .

ولأنّ الشفعة تثبت لأجل ضرر القسمة ، وذلك حاصل فيما يُنقل.

والجواب : أنّ خبر العامّة وخبر الخاصّة معاً مرسلان ، وأخبارنا أشهر ، فيتعيّن العمل بها وطرح أخبارهم. والضرر بالقسمة إنّما هو لما يحتاج إليه من إحداث المرافق ، وذلك يختصّ بالأرض دون غيرها ، فافترقا.

وقد وردت رواية تقتضي ثبوت الشفعة في المملوك دون باقي الحيوانات :

روى الحلبي - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال في المملوك بين شركاء فيبيع أحدهم نصيبه ، فيقول صاحبه : أنا أحقّ به ، أله ذلك؟

قال : « نعم إذا كان واحدا » فقيل : في الحيوان شفعة؟ فقال : « لا »(٢) .

وعن عبد الله بن سنان قال : قلت للصادقعليه‌السلام : المملوك يكون بين شركاء فباع أحدهم نصيبه ، فقال أحدهم : أنا أحقّ به ، إله ذلك؟ قال : « نعم إذا كان واحداً »(٣) .

وعن مالك رواية اُخرى : أنّ الشفعة تثبت في السفن خاصّة(٤) .

الثالث : الأعيان التي كانت منقولةً في الأصل ثمّ اُثبتت في الأرض للدوام‌ ، كالحيطان والأشجار ، وإن بيعت منفردةً ، فلا شفعة فيها على المختار ؛ لأنّها في حكم المنقولات ، وكانت في الأصل منقولةً ، وستنتهي‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ٢٨١ / ٨ ، التهذيب ٧ : ١٦٤ - ١٦٥ / ٧٣٠ ، الاستبصار ٣ : ١١٦ / ٤١٣.

(٢) الكافي ٥ : ٢١٠ / ٥ ، التهذيب ٧ : ١٦٦ / ٧٣٥ ، الاستبصار ٣ : ١١٦ / ٤١٥.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٥ - ١٦٦ / ٧٣٤ ، الاستبصار ١ : ١١٦ / ٤١٤.

(٤) حلية العلماء ٥ : ٢٦٣ - ٢٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٣ ، بدائع الصنائع ٥ : ١٢.

١٩٧

إليه وإن طال أمدها ، وليس معها ما تجعل تابعةً له ، وبه قال الشافعي(١) .

وحكى بعض أصحابه قولاً آخَر : أنّه تثبت فيها الشفعة كثبوتها في الأرض(٢) .

ولو بِيعت الأرض وحدها ، ثبتت الشفعة فيها ، ويكون الشفيع معه كالمشتري.

وإن بِيعت الأبنية والأشجار مع الأرض ، ثبتت الشفعة فيها تبعا للأرض ، لأنّ في بعض أخبار العامّة لفظ « الرّبع »(٣) وهو يتناول الأبنية ، وفي بعض أخبار الخاصّة : « والمساكن »(٤) وهو يتناول الأبنية أيضاً ، وفي بعضها : « الدار »(٥) وهو يتناول الجدران والسقوف والأبواب.

مسالة ٧٠٢ : الأثمار على الأشجار - سواء كانت مؤبَّرةً أو لا - إذا بِيعت معها ومع الأرض ، لا تثبت فيها الشفعة - وبه قال الشافعي(٦) - وكذا إذا شرط إدخال الثمرة في البيع ؛ لأنّها لا تدوم في الأرض.

وكذا الزروع الثابتة في الأرض ؛ لأنّ ما لا يدخل في بيع الأرض بالإطلاق لا يثبت له حكم الشفعة ، كالفدان(٧) الذي يعمل فيها ، وعكسه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في ص ١٩٥ ، الهامش (١).

(٤) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في ص ١٩٥ ، الهامش (٢).

(٥) راجع : الكافي ٥ : ٢٨٠ / ٢ ، والتهذيب ٧ : ١٦٥ / ٧٣١ ، والاستبصار ٣ : ١١٧ / ٤١٧.

(٦) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٤ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٩ ، ١٩٦٧ ، المغني ٥ : ٤٦٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٧١.

(٧) الفَدان : الذي يجمع أداة الثورين في القِران للحرث. لسان العرب ١٣ : ٣٢١ « فدن ».

١٩٨

البناء والشجر.

وقال الشيخ وأبو حنيفة ومالك : تدخل الثمار والزروع مع اُصولها ومع الأرض التي نبت الزرع بها(١) ؛ لأنّها متّصلة بما فيه الشفعة ، فتثبت الشفعة فيها ، كالبناء والغراس(٢) .

ويمنع الاتّصال ، بل هي بمنزلة الوتد المثبت في الحائط.

وفي الدولاب الغرّاف والناعورة نظر من حيث عدم جريان العادة بنقله ، فكان كالبناء.

والأقرب : عدم الدخول.

ولا تدخل الحبال التي تركب عليها الدلاء.

مسالة ٧٠٣ : قد بيّنّا أنّه لا تثبت الشفعة في المنقولات‌ ، ولا فرق بين أن تباع منفردةً أو مع الأرض التي تثبت فيها الشفعة ، بل يأخذ الشفيع الشقص من الأرض خاصّة بحصّته من الثمن.

وعن مالك رواية ثالثة أنّها : إن بِيعت وحدها ، فلا شفعة فيها. وإن بيعت مع الأرض ، ففيها الشفعة ؛ لئلّا تتفرّق الصفقة(٣) .

والجواب : المعارضة بالنصوص.

ولو كانت الثمرة غير مؤبَّرة ، دخلت في المبيع شرعاً ، ولا يأخذها الشفيع ؛ لأنّها منقولة. ولأنّ المؤبَّرة لا تدخل في الشفعة فكذا غيرها ، وهو‌

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « يثبت الزرع فيها » بدل « نبت الزرع بها ».

(٢) الخلاف ٣ : ٤٤٠ ، المسألة ١٥ ، المبسوط - للطوسي - ٣ : ١١٩ ، المبسوط - للسرخسي - ١٤ : ١٣٤ ، بدائع الصنائع ٥ : ٢٧ - ٢٨ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٩ / ١٩٦٧ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ٤٢٧ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، المغني ٥ : ٤٦٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٧١.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٣.

١٩٩

أحد قولي الشافعي. والآخَر : أنّها تدخل في الشفعة ؛ لدخولها في مطلق البيع(١) .

وعلى هذا فلو لم يتّفق الأخذ حتى تأبّرت ، فوجهان للشافعيّة :

أظهرهما : الأخذ ؛ لأنّ حقّه تعلّق بها ، وزيادتها كالزيادة الحاصلة في الشجرة.

والثاني : المنع ؛ لخروجها عن كونها تابعةً للنخل.

وعلى هذا فبِمَ يأخذ الأرض والنخيل؟ وجهان :

أشبههما : بحصّتهما من الثمن كما في المؤبَّرة ، وهو مذهبنا.

والثاني : بجميع الثمن تنزيلاً له منزلة عيبٍ يحدث بالشقص(٢) .

ولو كانت النخيل حائلةً عند البيع ثمّ حدثت الثمرة قبل أخذ الشفيع ، فإن كانت مؤبَّرةً ، لم يأخذها. وإن كانت غير مؤبَّرة ، فعلى قولين(٣) .

وعندنا لا يأخذها ؛ لاختصاص الأخذ عندنا بالبيع ، والشفعة ليست بيعاً.

وإذا بقيت الثمرة للمشتري ، فعلى الشفيع إبقاؤها إلى الإدراك مجّاناً.

وهذا إذا بِيعت الأشجار مع الأرض أو مع البياض الذي يتخلّلها ، أمّا إذا بيعت الأشجار ومغارسها لا غير ، فوجهان للشافعي ، وكذا لو باع الجدار مع الاُسّ :

أحدهما : أنّه تثبت الشفعة ؛ لأنّها أصل ثابت.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٤ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٤ - ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٥ ، روضة الطالبين ٣ : ١٥٦.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236