فرسان الهيجاء في تراجم اصحاب سيد الشهداء عليه السلام

مؤلف: الشيخ ذبيح الله المحلاتي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 978-964-503-145-7
الصفحات: 496
مؤلف: الشيخ ذبيح الله المحلاتي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 978-964-503-145-7
الصفحات: 496
ثمّ حمل عليهم كالليث الضاري على قطيع الثعالب حتّى قتل منهم ثمانية عشر رجلاً ثمّ استشهد أمام الحسينعليهالسلام . ويقول الكميت في رثائه :
سوى عصبة فيها حبيب مرمّل |
قضى نحبه والكاهليّ معفَّر |
٢١ ـ أنيس بن معقل الأصبحي
عدّه ابن شهر آشوب في المناقب وابن أعثم الكوفي والعاملي في أعيان الشيعة ، والقمّي في نفس المهموم ، وصاحب الناسخ من شهداء كربلاء ، وذكر هؤلاء بأجمعهم أنّ أنيس بن معقل خرج إلى ميدان القتال وهو يرتجز بهذا الرجز :
أنا أنيس وأنا ابن معقل |
وفي يميني نصل سيف مصقل |
|
أعلو به الهامات وسقط القسطل |
عن الحسين الماجد المفضّل |
ابن رسول الله خير مرسل(١)
ثمّ انحدر عليهم كالسيل من علّ وكالنمر الشرس ، وأعمل السيف فيهم فرياً وبرياً حتّى قتل نيّفاً وعشرين رجلاً ثم استشهد بين يدي الحسينعليهالسلام .
أُديرت كؤوس للمنايا عليهم |
فأغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي سكر |
|
فأجسامهم في الأرضى قتلى بحبّهم |
وأرواحهم في الحجب نحو العلا تسري |
|
فما عرسوا إلّا بقرب حبيبهم |
ولا عرجوا من مسّ بؤس ولا ضرّ |
وقال الآخر :
قوم إذا فتحوا العجاج رأيتهم |
شمساً وخلت وجوههم أقمارا |
|
لا يعدلون برفدهم عن سائل |
عدل الزمان عليهم أو جارا |
|
وإذا الصريخ دعاهم لملمّة |
بذلوا النفوس وفارقوا الأعمارا |
* * *
__________________
(١) المناقب لابن شهرآشوب ، ج ٢ ص ٢٥٢.
حرف الباء
٢٢ ـ برير(١) بن خضير(٢) الهمداني التميمي الكوفي
من أشرف أصحاب سيّدالشهداء الحسينعليهالسلام ومن شيوخ التابعين ، ومقدّم ركب الزاهدين وسيّد العبّاد والناسكين ويسمّونه سيّد القرّاء ومن حواريّي أميرالمؤمنين وأشراف الكوفة ، وله كتاب في القضايا والأحكام رواه عن الإمامين أميرالمؤمنين والحسنعليهماالسلام ، وهو من أُصولنا المعتبرة.
__________________
(١) وزان زبير وكذا خضير بالخاء المعجمة والضاد المعجمة.
(٢) بطن من قبيلة همدان. وقال الصدوق في أماليه عن إبراهيم بن عبدالله بن موسى بن إسحاق السبيعي قاضي بلخ أنّه قال : برير خال أبي إسحاق السبيعي. [الأمالي ، ص ١٥٠ وليس في هذا القول ، ولعلّ المؤلّف استشعره من مجموع السند]
(قيل على وزن زبير ، وقيل بل على وزن شريف) من قبيلة همدان. وقال بعضهم : بل يزيد بن الحصين خال أبي إسحاق كما في الكني والألقاب. [وكان أبو إسحاق المذكور (السبيعي) ابن أُخت يزيد بن الحصين من أصحاب الحسينعليهالسلام . راجع : الكنى والألقاب ، ج ١ ، ص ٧]
وقال أيضاً ملّا خليل القزويني في شرح أُصول الكافي ، والعلّامة في إيضاح الاشتباه من أنّ أبا إسحاق عمر بن سعيد بن عليّ الهمداني السبيعي الكوفي التابعي وبرير بن خضير خاله. وفي مجمع البحرين ذكر في مادّة عمرو عن عمر بن عبدالله السبيعي : روى محمّد ابن جعفر المؤدّب أنّ أبا إسحاق واسمه عمرو بن عبدالله السبيعي صلّى أربعين سنة صلاة الغداة بوضوء العتمة
ولمّا علم بخروج الحسين إلى مكّة خرج بنفسه النفيسة إليه والتحق بركبه وصار ملازماً له لا يكاد يفارقه ، وأصبح واحداً من رجاله المجاهدين إلى أن بلغ الإمام الحسين ذا خشب في طريقة إلى العراق وكان الحرّ بن يزيد الرياحي قد اعترضه ، قام برير قائماً وقال : لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك تقطع فيك
__________________
" وكان يختم القرآن في كلّ ليلة ولم يكن في زمانه أعبد منه ولا أوثق في الحديث عند الخاصّ والعام (الخاصّة والعامّة ـ المؤلّف) وكان من ثقاة عليّ بن الحسينعليهالسلام وولد في الليلة التي قبض فيها أميرالمؤمنينعليهالسلام وله تسعون سنة ، انتهى. [مجمع البحرين ، ج ٣ ص ٢٥٠]
ولا يخفى معارضة هذا النقل مع ما ذكره ابن خلّكان في وفاة الأعيان ، قال : إنّه رأى عليّاً وابن عبّاس وغيرهم من الصحابة ، وروى عنه الأعمش وشعبة والثوري وغيرهم وكان كثير الرواية ولد لثلاث سنين بقين من خلافة عثمان وتوفّي سنة ١٢٧ ، أو مائة وثمان وعشرين أو مائة وتسعة وعشرين.
ويقول القمّي في تحفة الأحباب : عمرو بن عبدالله بن علي الهمداني أبو إسحاق السبيعي هو نفسه الذي قال عنه الشيخ المفيد في الاختصاص : صلّى أربعين سنة صلاة الغداة بوضوء العتمة ، وكان يختم القرآن في كلّ ليلة ولم يكن في زمانه أعبد منه ولا أوثق في الحديث عند الخاصّ والعامّ ، وكان من ثقات عليّ بن الحسينعليهماالسلام في الليلة التي قتل فيها أميرالمؤمنينعليهالسلام وقبض وله تسعون سنة ، انتهى. [الاختصاص للمفيد ، ص ٨٣]
وقد بلغك أنّ هذا النقل يخالف ما ورد عن ابن خلّكان وكذلك يخالف ما نقله الحسين بن هاشم عن أبي عثمان الدوري أنّه قال : سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول كذهبت مع أبي للجمعة وكان يحملي على منكبه ، ورأيت عليّاً بن أبي طالب يخطب في المسجد وكان يروح عن نفسه بكمّه ، فقلت لأبي : هل يؤلم الحرّ أميرالمؤمنين؟ فقال أبي : كلّا إنّ الحرّ والبرد لديه سواء ولكنّه غسل قميصه فهو يلوح به ليجفّ.
وكذلك نقل إبراهيم بن ميمون عن عليّ بن عابس عن أبي إسحاق السبيعي ، قال : كان أبي يرفعني حتّى أرى أميرالمؤمنينعليهالسلام وكان أبيض الرأس واللحية وكان واسع المنكبين ، هكذا يترائى لي. أقول : ما أشدّ الاختلاف بين هاذا وبين ما قاله محمّد بن جرير بن رستم الطبري في المسترشد والشيخ حسن بن عليّ بن محمّد الطبري في كامل البهائي من أنّ أبا إسحاق من مبغضي أميرالمؤمنين ، فما هو الدليل على هذا التعدد في الرأي.
أعضائنا حتّى يكون جدّك بين أيدينا يوم القيامة شفيعاً فلا أفلح قوم ضيّعوا ابن بنت نبيّهم وويل لهم ماذا يلقون به الله وافٍ لهم يوم ينادون بالويل والثبور في نار جهنّم(١) .
وروى أبو مخنف وغيره أنّ الحسينعليهالسلام في ليلة التاسع من المحرّم أو في يومه ، أمر الحسين بفسطاط فضرب ثمّ أمر بمسك فميث في جفنة عظيمة أو صحفة ، قال : دخل الحسينعليهالسلام ذلك الفسطاط فتطلّى بالنورة ، قال : ومولاي عبدالرحمن بن عبد ربّه وبرير بن حضير الهمداني على باب الفسطاط تحتك مناكبها فازدحهما أيّهما يطلي على أثره ، فجعل برير يهازل عبدالرحمن ، فقال عبدالرحمن : دعنا فوالله ما هذه بساعة باطل [فقال له برير : والله لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شابّاً ولا كهلاً ولكن والله لمستبشر بما نحن لاقون ، والله إنّ بيننا وبين الحور العين (ليس إلّا أن نحمل على هؤلاء ـ المؤلّف) إلّا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم ولوددت أنّهم قد مالوا بها الساعة ..](٢) .
وذكر محمّد بن جرير الطبري بسنده عن الضحّاك بن قيس المشرقي(٣)
، قال : فلمّا أمسى حسين وأصحابه قاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون. قال : فتمرّ بنا خيل تحرسنا ، وإنّ حسيناً ليقرأ :(
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ *
__________________
(١) هذا النصّ موجود في الهامش وترجمته في المتن ، ورأيت أنّ الترجمة لا أرب لي بها ، إنّما النصّ هو المقصود فاعتضت به عن الترجمة ولم أعربها إذ لا غرض يتعلّق بذلك. (المترجم)
(٢) ما كان بين الحاصرتين المؤلّف في الهامش وجاء بترجمته فألحقناه بموضعه. راجع المقتل ، ص ١١٥.
(٣) لهذا الرجل قصّة عجيبة تأتي في موضعها وقد كان حاضراً ليلة عاشوراء.
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (١) ، فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا ، فقال : نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم. قال : فقلت لبرير بن حضير تدري من هذا؟ قال : لا ، قلت : هذا أبو حرب السبيعي عبدالله بن شهر ، وكان مضحاكاً بطّالاً وكان شريفاً شجاعاً فاتكاً ، وكان سعيد بن قيس ربّما حبسه في جناية ، فقال له برير بن حضير : يا فاسق ، أنت يجعلك الله في الطيّبين ، فقال له : من أنت؟ قال : أنا برير من حضير ، قال : أنا لله عزّ عليَّ هلكت والله هلكت والله يا برير.
قال : يا أبا حرب ، هل لك أن تتوب إلى الله من ذنوبك العظام ، فوالله إنّا لنحن الطيّبون ولكنّكم لأنتم الخبيثون. قال : وأنا (والله) على ذلك من الشاهدين. قلت : ويحك أفلا ينفعك معرفتك؟ قال : جعلت فداك ، فمن ينادم يزيد بن عذرة العنزي من عنز بن وائل؟ قال : ها هو ذا معي ، قال : قبّح الله رأيك على كلّ حال وأنت سفيه ، قال : ثمّ انصرف عنّا(٢) .
وفي مطالب السئول : ذكر محمّد بن طلحة في مطالب السئول وعليّ بن عيسى الأربلي في كشف الغمّة قصّة قدوم برير بن حضير على عمر بن سعد حين منع الماء عن الحسين وأهل بيتيه وأصحابه ، ونحن ذكرناها في ترجمة أنس بن الحرث الكاهلي ، وفي الكتابين المذكورين عزيت الحكاية إلى يزيد بن الحصين الهمداني(٣) ولكن المرحوم فرهاد ميرزا في القمقام ذكر أنّه
__________________
(١) آل عمران : ١٧٨ ـ ١٧٩.
(٢) تاريخ الطبري ، ج ٤ ص ٣١٩ و ٣٢٠.
(٣) أقول : لا أستبعد أن يكون جرى تصحيف للاسمين ، فما أشبه لفظ يزيد بلفظ برير ، والحصين بالحضير ، والمؤلّف ضبط حضير والد برير بالخاء المعجمة ، والأكثر على أنّها بالمهملة. (المترجم)
برير(١) وينبغي أن يكون الأمر كذلك لأنّ بريراً معروف في الأصحاب بجهورة الصوت ، وهو مدرة القوم وشريفهم ، ولا يبعد تعدّد الواقعة.
وكيف كان فقد أتى برير الحسينعليهالسلام وقال له : ائذن لي يابن رسول الله لآتي هذا ابن سعد فأُكلّمه في أمر الماء لعلّه يرتدع ، فقال له الحسينعليهالسلام : ذلك إليك ، فجاء برير الهمداني إلى عمر بن سعد فلم يسلّم عليه ، فقال : يا أخا همدان ، ما منعك من السلام عليَّ؟ ألست مسلماً أعرف الله ورسوله؟ فقال له الهمداني : لو كنت مسلماً كما تقول لما خرجت إلى عترة رسول اللهصلىاللهعليهوآله تريد قتالهم ، وبعد هذا ماء الفرات تشرب منه كلاب السواد وخنايرها ، وهذا الحسين بن عليّ وإخوته ونسائه وأهل بيته يموتون عطشاً قد حلت بينهم وبين ماء الفرات ، وأنت تزعم أنّك تعرف الله ورسوله!
فأطرق عمر بن سعد ثمّ قال : والله يا أخا همدان ، إنّي لأعلم حرمة أذاهم ولكن(٢) يا أخا همدان! ما أجد نفسي تجيبني إلى ترك الري لغيري!
فرجع برير ، فقال للحسينعليهالسلام : يابن رسول الله ، قد رضي أن يقتلك بولاية الري(٣) .
__________________
(١) منّ الله عليّ بمنّة جسيمة حيث وفّقني لترجمة هذا الكتاب النفيس وقد رأيت من بركته أشياء كثيرة والحمد لله. (المترجم) القمقام ، ج ١ ص ٥١٨.
(٢)
دعاني عبيدالله من دون قومه |
إلى خطّة فيها خرجت لحيني |
|
فوالله ما أدري وإنّي لواقف |
على خطر لا أرتضيه ومين |
|
أأترك ملك الريّ والريّ مُنيتي |
أم راجع مأثوماً بقتل حسين |
|
وفي قتله النار التي ليس دونها |
حجاب وملك الري قرّة عين |
لم يذكر المؤلّف هذه الأبيات وفي مذكورة في القمقام في سياق الحكاية. راجعه ج ١ ص ٥١٨ ترجمة محمّد شعاع فاخر.
(٣) كشف الغمّة ، ج ٢ ص ٢٥٨ و ٢٥٩ ؛ مطالب السئول ، ص ٢٦٣ و ٢٦٤.
وفي البحار نقلاً عن كتاب مقتل محمّد بن أبي طالب بن أحمد الحسيني الحائري : وقال محمّد بن أبي طالب : وركب عمر بن سعد فقرّب إلى الحسينعليهالسلام فرسه فاستوى عليه وتقدّم نحو القوم في نفر من أصحابه وبين يديه برير بن خضير ، فقال له الحسينعليهالسلام : كلّم القوم ، فتقدّم برير فقال : يا قوم ، اتّقوا الله فإنّ ثقل محمّد قد أصبح بين أظهركم ، هؤلاء ذرّيّته وعترته وبناته وحرمه فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم؟(١)
فقالوا : نريد أن نمكّن منهم الأمير ابن زياد فيرى رأيه فيهم.
فقال لهم برير : أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاؤوا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة! أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها؟! يا ويلكم! أدعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم حتّى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد وحلأتموهم عن ماء الفرات ، بئس ما خلّفتم نبيّكم في ذرّيّته ، مالكم لا سقاكم الله يوم القيامة فبئس القوم أنتم.
فقال له نفر منهم : يا هذا ، ما ندري ما تقول؟!
فقال برير : الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة ، اللهمّ إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم ، اللهمّ الق بأسم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان.
فجعل القوم يرمونه بالسهام ، فرجع برير إلى ورائه(٢) .
__________________
(١) وعند المؤلّف زيادة على ما في البحار ، فبعد قوله «بين أظهركم» ، قال : يا معشر الناس ، إنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّداً بالحقّبشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً الخ. واعلم بأنّ المؤلّف اتخذ طريقة خاصّة في نقل النصّ العربي يختلف بها عن إخوانه الفضلاء حيث لم يمزجه بالمتن وإنّما جعله في الهامش واقتصر في المتن على ترجمته ، لذلك رأيت أن أضعه موضعه من المتن لا الهامش. (المترجم)
(٢) بحار الأنوار ، ج ٤٥ ص ٥.
وقال العاملي في لواعج الأشجان بعد خطبة برير : فقالوا : يا يزيد (برير) قد أكثرت الكلام فاكفف ، والله ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله(١) . وغرضهم عثمان لعنه الله.
ولمّا بلغ الحديث إلى هذا الحدّ ، قال الحسينعليهالسلام : اقعد يا يزيد (برير) ، ثمّ وثب الحسين متوكّئاً على قائم سيفه ونادى بأعلى صوته الخ.
وقال الطبري : قال أبو مخنف : وحدّثني يوسف بن يزيد عن عفيف بن زهير ابن أبي الأخنس وكان قد شهد مقتل الحسينعليهالسلام ، قال : وخرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة وهو حليف لبني سليمة من عبد القيس ، فقال : يا برير بن حضير ، كيف ترى صنع الله بك؟ قال : صنع الله ـ والله ـ بي خيراً ، وصنع الله بك شرّاً.
قال : كذبت وقبل اليوم ما كنت كذّاباً ، هل تذكر وأنا أُماشيك في بني لواذن وأنت تقول : إنّ عثمان بن عفّان كان على نفسه مسرفاً وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضالّ مضلّ ، وإنّ إمام الهدى والحقّ عليّ بن أبي طالب؟! فقال له برير : أشهد أنّ هذا رأيي وقولي. فقال له يزيد بن معقل : فإنّي أشهد أنّك من الضالّين. فقال له برير بن حضير : هل لك فلأُباهلك(٢) ولندعُ الله أن يلعن الكاذب وأن يقتل المبطل ، ثمّ اخرج فلأُبارزك.
__________________
(١) لواعج الأشجان للسيّد الأمينرحمهالله ، ص ١١١.
(٢) لم يقتصر المؤلّف على نصّ الطبري وإنّما عمد إلى تعريف المباهلة أثناء النصّ ، قال : وصورة المباهلة كالتالي : يعمد رجلان إلى الدعاء والتضرّع والابتهال ، ويقرّان بعبوديّتهما لله تعالى ويسألانه أن يميز الصادق من الكاذب ، ثمّ يتبارزان أمام العسكرين وحينئذٍ تدور الدائرة على الكاذب لا محالة ولم نلحق هذه الإضافة بنصّ الطبري ليخلص الكلام للطبري ويقف عليه القاري ، ولا مانع من ذكر إضافات المؤلّف في الهوامش إذا تخلّلت النصوص ، ولم يضع المؤلّف عليها علامة. (المترجم)
قال : فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب وأن يقتل المحقّ المبطل ، ثمّ برز كلّ واحد منهما لصاحبه فاختلفا بضربتين فضرب يزيد بن معقل برير بن حضير ضربة خفيفة لم تضرّه شيئاً ، وضربه برير بن حضير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ فخرّ كأنّما هوى من حالق ، وإنّ سيف ابن حضير لثابت في رأسه ، فكأنّي أنظر إليه ينضنضه من رأسه ، وحمل عليه رضى بن منقذ العبدي فاعتنق بريراً فاعتركا ساعة ثمّ إنّ بريراً قعد على صدره ، فقال رضي : أين أهل المصاع والدفاع؟ قال : فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل عليه الخ(١) .
(فذكر الله بريرٌ وضرب يزيد بن معقل على أُمّ رأسه فشقّه نصفين وقذف رأسه من على بدنه فهوى عن ظهر فرسه وذهب إلى نار جهنّم)(٢) ولمّا أوصله إلى دار البوار حمل عليه كالبرق الخاطف ، ولقد أجاد شيخ العراقين :
برير بن خضير آن خضر پيمان |
سکندرسان روان شد سود حيوان |
|
سمند افکند در ظلمات پيکار |
دليلش گشت شمشير شرربار |
|
به تيغ تيز آن پرشور بى باک |
گروهى را فکند از باره بر خاک |
|
گذشت از خويش اين عيش مکدّر |
گرفت از دست خواجه خضر صاغر |
الترجمة :
وليس برير بن الخضير بال الخضر |
تجلّى كذي القرنين والعسكر المجر |
|
وفي ظلمات الحرب ألقى جواده |
ويهديه قرضاب به الشرر الثرّ |
|
وفي حدّه ألقى أخو العزم في الثرى |
أعاديه حتّى ضمّها اللهب الغمر |
__________________
(١) لم ينقل المؤلّف النصّ كلّه بل أنشأ كلاماً من عنده. راجع : تاريخ الطبري ، ج ٤ ص ٣٢٨.
(٢) عبارة المؤلّف ، ثمّ ساق عبارة أبي الأخنس حيث يقول : فكأنّي أنظر إليه ينضنضه الخ.
وطلّق عيشاً في الحياة مكدّراً |
لعيش رغيد دائم ما له حصر(١) |
وقال الخوارزمي في المقتل وابن شهرآشوب في المناقب وغيرهما : إنّ بريراً برز بعد مقتل الحر بن يزيد الرياحي بسيف أمضى حدّاً من أنياب الليث وهو يرتجز ويقول :
أنا برير وأبي خضير |
أضربكم ولا أرى من ضير |
|
يعرف فينا الخير أهل الخير |
كذاك فعل الخير من برير(٢) |
وفي الناسخ إضافة على ما تقدّم :
ليث يروع الأسد عند الزيري |
كذاك فعل الخير من برير |
والأسد الهصور كالصاعقة والأفعوان النافع ترتجف فرائصه من هول صيحتي ، ثمّ حمل عليهم فكان كالصاعقة المتحرّكة أينما اتجه لاذ الجيش منه بالفرار ، ولم يزل يحمل عليهم مع ضعف بدنه وظمأه وقلبه الجريح حتّى قتل منهم ثلاثين شخصاً وهو يصيح فيهم : اقتربوا منّي يا قتلة أولاد رسول (الله) ربّ العالمين وذرّيّة الباقين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد البدريّين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد رسول ربّ العالمين وذرّيّة الباقين.
قال أبو مخنف : وحمل عليه رضى بن منقذ العبدي (وهو أخو مرّة بن منقذ بن النعمان العبدي) فاعتنق بريراً فاعتركا ساعة ، ثمّ إنّ بريراً قعد على صدره فقال رضى : أين أهل المصاع والدفاع.
قال : فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل عليه (فقال عفيف) فقلت :
__________________
(١) ليست الترجمة بل هي إلمام بالمعنى وقد يكون بينها وبين الأصل فرق كبير ولكنّها في رأيي خير من ترجمة الشعر نثراً. (المترجم)
(٢) مناقب ابن شهرآشوب ، ج ٣ ص ٢٥٠.
إنّ هذا برير بن حضير القارئ الذي كان يقرئنا القرآن في المسجد (فلم يعبأ بقولي) فحمل عليه بالرمح حتّى وضعه في ظهره ، فلمّا وجد مسّ الرمح برك عليه فعضّ بوجهه وقطع طرف أنفه فطعنه كعب بن جابر حتّى ألقاه عنه وقد غيّب السنان في ظهره ثمّ أقبل عليه يضربه بسيفه حتّى قتله.
قال عفيف : كأنّي أنظر إلى العبدي الصريع قام ينفض التراب عن قبائه ويقول : أنعمت عليَّ يا أخا الأزد نعمة لن أنساها أبداً. قال : فقلت : أنت رأيت هذا؟ قال : نعم رأى عيني وسمع أُذني.
فلمّا رجع كعب بن جابر قالت له [امرأته] أو أُخته النوار بنت جابر : أعنت على ابن فاطمة وقتلت سيّد القرّاء ، لقد أتيت عظيماً من الأمر لا أُكلّمك من رأسي كلمة أبداً ، وقال كعب بن جابر (هذا الشعر يعتذر عمّا فعله إليها) :
سلي تخبري عنّي وأنت ذميمة |
غداة حسين والرماح شوارع |
|
ألم آت أقصى ما كرهت ولم يخل |
عليَّ غداة الروع ما أنا صانع |
|
معي يزنيٌّ لم تخنه كعوبه |
وأبيض مخشوب الغرارين قاطع |
|
فجرّدته في عصبة ليس دينهم |
بديني وإنّي يابن حرب لقانع |
|
ولم تر عيني مثلهم في زمانهم |
ولا قبلهم في الناس إذ انا يافع |
|
أشدّ قراعاً بالسيوف لدى الوغى |
ألا كلّ من يحمي الذمار مقارع |
|
وقد صبروا للطعن والضرب حُسّراً |
وقد نازلوا لو أنّ ذلك نافع |
|
فأبلغ عبيدالله إمّا لقيته |
بأنّي مطيع للخليفة سامع |
|
قتلت بريراً ثمّ حمّلت نعمة |
إلى منقذ لمّا دعى من يماصع(١) |
__________________
(١) أبو مخنف ، مقتل الحسين ، والأبيات الثلاثة الأخيرة من إضافات المؤلف وقد تخلّل الرواية كلام للمؤلّف شاعري قليل جدّاً أعرضنا عنه (ص ١٢٨).
قال أبو مخنف : وزعموا أنّ رضى بن منقذ العبدي ردّ على كعب بن جابر ، فقال :
فلو شاء ربّي ما شهدت قتالهم |
ولا جعل النعماء عند ابن جابر |
|
لقد كان ذاك اليوم عاراً وسبّة(١) |
يعيّره الأبناء بعد(٢) المعاشر |
|
فياليتني قد كنت من قبل قتله(٣) |
ويوم حسين كنت(٤) في رمس قابر |
|
(فيا سوأتا ماذا أقول لخالقي |
وما حجّتي يوم الحساب القماطر)(٥) |
ويظهر من أشعار هذا الخبيث أنّه على مذهب الجبريّة لأنّه يقول : لو لم يكن الله قد قدّر عليَّ الحضور لما حضرت قتالهم ولم تكن لابن جابر نعمة في عنقي ولقد أصبح يوم عاشوراء عاراً عليَّ ، ويعيّرنا الناس صاغراً عن كابرى في الأندية والمجامع العامّة وانقلب إلى ذمّ لي ومن قائل يقول : ليتك كنت حيضة وكنت تحت أطباق الثرى في ذلك اليوم فما هي حجّتك يوم تلاقي ربّك في المحشر ، فما هي حجّتي؟ وماذا عسى أن أقول؟ أقول : كسبت العار واللعنة الأبديّة والعذاب الأليم وخسرت خسراناً مبيناً(٦) .
٢٣ ـ بدر بن رقيط
اسمه في الزيارة الرجبيّة : «السلام على بدر بن لقيط». ولم يرد أكثر من هذا في
__________________
(١) عند المؤلّف بدل هذا المصراع : لقد كان ذا عاراً عليًّ وسبّة.
(٢) عند المؤلّف «عند» بدل «بعد».
(٣) عند المؤلّف بدل هذا المصراع : فياليتني قد كنت في الرحم حيضة.
(٤) عند المؤلّف : «ضمن» بدل «كنت».
(٥) مقتل أبي مخنف ، ص ١٢٧. وما بين القوسين ممّا انفرد المؤلّف بإيراده.
(٦) الظاهر أورد المؤلّف هذا الكلام ترجمة للشعر وما كان ينبغي عليَّ تعريبه ولكنّي عرّبته لارتباطه بمذهب الجبر الذي أشار إليه المؤلّف. (المترجم)
ترجمته ولا ذكرت كتب الرجال عنه شيئاً ، ويحتمل أن يكون اسمه وارداً على سبيل الخطأ
٢٤ ـ بشر بن عمرو الحضرمي
وردت ترجمته في الاستيعاب والإصابة وأُسد الغابة وأعيان الشعية وإبصار العين والرجال الكبير وغيرها. يقول في الاستيعاب : بشر بن عمر الحضرمي الكندي(١) .
ويقول في إبصار العين : كان بشر من حضرموت وعداده في كندة وكان تابعيّاً وله أولاد معروفون بالمغازي ، وكان بشر ممّن جاء إلى الحسينعليهالسلام أيّام المهادنة(٢) .
وقال في أعيان الشيعة : لمّا نشبت الحرب يوم العاشر بينما بشر يقاتل إذ جائه الخبر بأنّ ابنك أُسر في الري ، فقال بشر : أحتسبه عند الله ، وما كنت أُحبّ أن يؤسر ابني وأبقى بعد حيّاً ، ولمّا سمع الحسين مقالته قال له : أنت في حلّ من بيعتي فاعمل على فكاك ولدك ، فقال بشر : أكلتني السباع حيّاً إن أنا فارقتك ، فأعطاه الإمامعليهالسلام ثياباً قيمتها ألف دينار ليعطيها إلى ولده محمّد ليفتدي بها أخاه.
ويقول ابن شهرآشوب في المناقب : بشر بن عمرو استشهد في الحملة الأُولى
السابقون إلى المكارم والعلا |
والحائزون غداً حياض الكوثر |
|
لولا صوارمهم ووقع نبالهم |
لم يسمع الآذان صوت مكبّر |
__________________
(١) في زيارة الناحية : «السلام على بشر بن عمرو الحضرمي شكر الله لك قولك للحسين وقد أذن لك بالانصراف : أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك وأسأل عنك الركبان وأخذلك مع قلّة الأعوان ، لا يكون هذا أبداً».
(٢) إبصار العين ، ص ١٠٣.
أقول : لا يخفى أنّ السيّد بن طاووس في اللهوف ذكر محمّداً بن بشر مكان بشر بن عمرو وأعطاه خصائص أحواله ، واقتفى اثره صاحب نفس المهموم ولكنّه في منتهى الآمال عدّه من الشهداء وهو الأصحّ لأنّ الزيارة والمؤلّفون في الرجال جميعاً ذكروه باسم بشر مضافاً إلى أنّه في منتهى الآمال ذكر أبيات الفضل ابن العبّاس بن الحرث بن عبدالمطّلب التي ذكر فيها الشهداء في الحملة الأُولى كما يقول مخاطباً بني أُميّة ويذمّهم ويذمّ أفعالهم :
أرجعوا عامراً وردّوا زهيراً |
ثمّ عثمان فارجعوا غارمينا |
|
فارجعوا الحرّ وابن قين وقوماً |
قتلوا حين جاوزوا صفّينا |
|
أين عمرو وأن بشر وقتلى |
منهم بالعراء ما يدفنونا |
ومراده من ابن بشر ، بشر بن عمرو الحضرمي لأنّ هذا الاسم لا يشركه به أحد في أصحاب الحسينعليهالسلام ووجود محمّد بن بشر معه لا ينافيه. وظاهر أقوال الإمام أنّه كان في كربلاء ولذلك قال له : أعطه هذه الثياب الخ.
٢٥ ـ بكر بن حي
يقول العلّامة السماوي في إبصار العين عن الحدائق الورديّة(١) : كان بكر ممّن خرج مع ابن سعد إلى حرب الحسينعليهالسلام حتّى إذا قامت الحرب على ساق مال مع الحسينعليهالسلام على ابن سعد فقتل بين يدي الحسينعليهالسلام في الحملة الأُولى(٢) .
وعدّه في منتهى الآمال من شهداء الحملة الأُولى ، وذكره المامقاني بهذا العنوان أيضاً.
__________________
(١) قال في الإصابة : بكر بن حي بن عليّ بن تيم الله بن ثعلبة له إدراك ، ولولده مسعود ذكره في الكوفة في زمن الحجّاج بن يوسف وكان فارساً شجاعاً ذكره ابن الكلبي. (منه)
(٢) إبصار العين ، ص ١١٣.
٢٦ ـ بكير بن الحرّ بن يزيد الرياحي
ذكر ملّا علي الخياباني التبريزي في الجلد الرابع من كتابه «وقايع الأيّام» وسيّد عبدالمجيد الحائري في ذخيرة الدارين عن كتاب الجوهر الثمين للشيخ حسين ابن علي البغدادي الذي كتبه سنة ١١١٩ عن الإمام الصادقعليهالسلام أنّه قال : سمعت من أبي قال : لمّا نزل الحسين وأصحابه بأرض كربلاء واستقبله ابن سعد بجحافل لا تعدّ ولا تحصى ، ونشبت الحرب بينهما ، أنزل الله النصر على الحسينعليهالسلام وتدلّى على رأسه وخيّره الله بين النصر على العدوّ وبين لقائه فاختار لقاء الله ونادى برفيع صوته : أما من مغيث يغيثنا لوجه الله؟ أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول اللهصلىاللهعليهوآله ؟ عند ذلك نظر الحرّ بن يزيد الرياحي إلى ابن سعد الخ ، ونرجأ ذكر ذلك إلى ترجمة الحرّعليهالسلام .
والتفت إلى ولده وقال : إن كنت معي فهلمّ إلى الحسينعليهالسلام ، فأجابه ولده ، فقال الحر : الحمد لله الذي خلّصنا من مرافقة الأشرار ، ثمّ أمر ولده أن يحمل عليهم ، فحمل ذلك الشابّ سعيد الجدّ عليهم كالأسد الضاري على قطيع الثعالب ، فكان يعقر ويقتل إلى أن قتل منهم سبعين وأرسلهم إلى جهنّم وبئس المصير.
وكتب ملّا صالح البرغاني في مخزن البكاء أنّ الحرّ قال لولده : لا طاقة لنا على حرّ جهنّم فهلمّ بنا نذهب إلى معسكر الحسين ، فقال الولد السعيد : أنا لا أعصيك ، وأطيع أمرك ، فأرسله عند ذلك إلى ميدان القتال حتّى قتل منهم خمساً وعشرين رجلاً وأدخلهم دار البوار جهنّم يصلونها وبئس القرار ، ورجع إلى أبيه يشكو العطش ويقول : هل من شربة ماء أتقوّى بها على الأعداء ، أعداء الله ورسوله؟! فقال الحر : يا بني ، ارجع إلى القتال واصبر ، فعاد إلى القتال حتّى قتل جماعة منهم
واستشهد أمام سيّدهعليهالسلام . فلما وقف الحرّ على جثمان ولده ، قال : الحمد لله الذي ختم لك بالشهادة بين يدي الإمامعليهالسلام .
وفي الناسخ : إنّ اسم ولد الحر «علي» ، ويقول : عند ذلك نظر الحر الى ولده علي وقال : أي ولدي ، قائل هؤلاء القوم الظالمين قتالاً شديداً ونادِ بالجهاد ما استطعت ، فغار عليهم ابن الحر وأقحم فرسه ميدان الحرب وحمل عليهم حملة منكرة ، فقاتله الكوفيّون وأوقعوه في حفرة وفي شرّ الشافية ، يقال : إنّه قتل أربعاً وعشرين رجلاً منهم ، وقال أبو مخنف : بل قتل سبعين رجلاً ، ثمّ قُتل رضوان الله عليه ، فسرّ الحرّ بشهادة ولده سروراً عظيماً ، وقال : الحمد لله الذي رزقك الشهادة بين يدي مولانا الحسينعليهالسلام
حرف التاء والثاء(١)
حرف الجيم
٢٧ ـ جابر بن الحجّاج
ذكره المامقاني في رجاله عن الحدائق الورديّة ولكنّه قال : ذكر أهل السير(٢) أنّه كان فارساً شجاعاً كوفيّاً بايع مسلماً بن عقيل ولمّا خذلوه اختفى عند قومه فلمّا سمع بمجيء الحسينعليهالسلام إلى كربلاء خرج من الكوفة في عسكر ابن سعد ، فلمّا وصل إلى كربلاء لحق بالحسين ولزمه إلى أن تقدّم يوم الطفّ وقاتل بين يديه حتّى استشهد.
وقال في الحدائق : قُتل في الحملة الأُولى.
وفي إبصار العين : جابر بن الحجّاج : كان جابر فارساً شجاعاً (قال صاحب الحدائق : حضر مع الحسينعليهالسلام في كربلاء وقتل بين يديه ، وكان قتله قبل الظهر في الحملة الأُولى ..)(٣) .
__________________
(١) ليس في هذين الحرفين اسم من الأنصار لذلك تركهما مهملين.
(٢) قال الذهبي في التجريد : هو جابر بن الحجّاج بن عبدالله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عدي مولى عامر بن نهشل التيمي من بني تيم الله بن ثعلبة.
(٣) إبصار العين ، ص ١١٢. ولم يذكر المؤلّف ما وضعناه بين قوسين. (المترجم)
جاء الزمان عليهم غير مكترث |
وأيّ حرّ عليه الدهر لم يجر |
|
وكم تلاعب بالأمجاد حادثه |
كما تلاعبت الغلمان بالأكر |
|
لا حبّذا فلك دارت دوائره |
على الكرام فلم تبق ولم تذر |
|
وإن ينل منك مقدار فلا عجب |
هل ابن آدم إلّا عرضة الخطر |
|
هي الحوادث لا تعدو ذوي شرف |
كالغيث يعشر قبل الأرض بالجدر |
|
وكيف تأمن من مكر الزمان يد |
خانت بآل عليّ خيرة الخير |
|
أفدى القروم الأُولى سارت ركائبهم |
والموت خلفهم يسري على الأثر |
٢٨ ـ جابر بن عروة الغفاري
في شرح الشافية عن مقتل الخوارزمي بهذه الألفاظ : ثمّ برز الجابر بن عروة الغفاري وكان شيخاً كبيراً وقد شهد مع رسول اللهصلىاللهعليهوآله بدراً وحنيناً ، فجعل يشدّ وسطه بعمامة ثمّ شدّ حاجبيه بعصابته حتّى رفعها عن عينيه ، والحسينعليهالسلام ينظر إليه وهو يقول : شكرالله سعيك يا شيخ ، فحمل فلم يزل يقاتل حتّى قتل ستّين رجلاً ثمّ استشهدرضياللهعنه .
وقال في الناسخ : وورد في الشافية ، وحدّث بذلك أبو مخنف أنّ جابر بن عروة الغفاري كان شيخاً كبيراً الخ ، وذكر نحواً ممّا تقدّم(١) فبزر الجابر وهو يرتجز ويقول :
قد علمت حقّاً بنو غفاري |
وخندف ثمّ بنو نزاري |
|
بنصرنا لأحمد المختار |
يا قوم حاموا عن بني الأطهار |
__________________
(١) ماذكره المؤلّف من قول صاحب الناسخ ترجمة لما تقدّم فلم تكن بنا حاجة إلى تكراره.
الطيّبين السادة الأخيار |
صلّى عليهم خالق الأبرار(١) |
أقول : نسب الخوارزمي في مقتله الذي انتشر في الآوانة الأخيرة وطبع في النجف ومنه نسخة بحيازتي هذا الرجز إلى عبدالرحمن بن عروة الغفاري مع اختلاف في الألفاظ ولم يرد ذكر لجابر بن عروة فيه ، والله العالم(٢) .
ومجمل القول : قال في الناسخ : ثمّ حمل جابر بن عروة وقتل من القوم ثمانين مقاتلاً ثمّ وقع على الغبراءرضياللهعنه .
جادوا بأنفسهم في حبّ سيّدهم |
والجود بالنفس أقصى غاية الجود |
|
لهم نفوس على الرمضاء مهملة |
وأنفس في جوار الله تقريها |
|
كأنّ قاصدها بالضرّ نافعها |
وإنّ قاتلها بالسيف يحييها |
٢٩ ـ جبلة بن عبدالله
جاء في الزيارة الرجبيّة ذكر جبلة على النحو التالي : «السلام على جبلة بن عبدالله» ولم يحصل من المتابعة والتنقيب شيء في يدي أكثر من هذا ، ويحتمل أن يكون جرى تصحيف في البين فجاء لفظ «جبلة بن عبدالله» مكان «جبلة بن علي».
__________________
(١) نسب أبو مخنف هذا الرجل إلى ابني عروة الغفاريين وفيه أشطر لم يذكرها المؤلّف ومثله أهملها أبو مخنف (ص ١٥١).
(٢) قال الخوارزمي : ثمّ خرج من بعده قرّة بن أبي قرّة الغفاري وهو يقول :
قد علمت حقّاً بنو غفار |
وخندف بعد بني نزار |
|
بأنّني الليث الهزير الضاري |
لأضربنّ معشر الفجّار |
|
بحدّ عضب ذكر بتّار |
يشعّ لي في ظلمة الغبار |
|
دون الهداة السادة الأبرار |
وهط النبيّ أحمد المختار |
راجع : مقتل الخوارزمي ، ج ٢ ص ١٨ تحقيق العلّامة السماوي ، وكتبة المفيد ـ قم ايران.
٣٠ ـ جبلة بن علي الشيباني
في زيارة الناحية المقدّسة : «السلام على جبلة بن علي الشيباني».
ونقل المامقاني والمساوي والقمّي والعاملي وغيرهم أنّ جبلة من شيعة أميرالمؤمنينعليهالسلام (١) وكان ملازماً له وجاهد معه بصفّين وبايع مسلماً ، ولمّا قبض على مسلم فرّ جبلة واستخفى عند قومه إلى أن علم بنزول الحسينعليهالسلام في كربلاء التحق به.
وفي الحدائق الورديّة : إنّه قتل مبارزة.
وقال ابن شهرآشوب في المناقب : استشهد في الحملة الأُولى ، ومثله قال صاحب الناسخ.
وقال في منتهى الآمال : يجمل بنا ذكر أسماء من استشهد في الحملة الأُولى ، ثمّ شرع في عدّ أسمائهم حتّى بلغ جبلة بن علي الشيباني.
قال السماوي : جبلة بن علي بن سويد بن عمرو بن عرفطة بن الناقد بن تيم بن سعد بن كعب بن عمرو بن ربيعة الشيباني(٢) وذكر الطبراني وأبو نعيم وقال : كان من شجعان أهل الكوفة ، ولقد أجاد الشاعر المفلق الأُزري :
ولله حيّ ما هنالك أرقلوا |
إلى الموت إرقال الحماس المورد |
|
فأعظم بهم حيّاً تعاظم شأنهم |
وجلّ وجلّى في مدى كلّ سؤدد |
|
فوارس صدق كلّما جاشت الوغى |
بمرجلها جاشوا لظاها بمحمد |
|
من المنجدي الدين الحنيف ومحرزي |
مدى قصباب السبق في عهد أحمد |
__________________
(١) اقتصر صاحب إبصار العين على قوله : كان جبلة شجاعاً من شجعان أهل الكوفة ، قام مع مسلم أوّلاً ثمّ جاء إلى الحسينعليهالسلام ثانياً ، ذكره جملة أهل السير الخ. راجع : إبصار العين ، ص ١٢٤.
(٢) لم يرد في إبصار العين هذا النسب ولم يترجم إلّا لواحد اسمه جبلة ، راجع ص ١٢٤ ، ولعلّه مذكور فيك تبه الأُخرى.
يلتذّون إلّا بقرب الحقّ وذكره والثناء عليه على التفصيل الّذي قرّرناه.
ومنهم من لهم دون ذلك المقام وهم الأكثرون كما قال: أكثر أهل الجنّة البلهاء، فيتنعّمون بالمآكل والمشارب هو الصحيح الّذي نحن نقول به.
وأمّا ما ذكره المفيد رحمه الله من الحصر الّذي عرفته فناش عن الجهل بحقيقة الحال. كيف ويأباه العقل اللّامع اللاهوتي كمال الإباء، إذ هذه الأشياء ممّا لا يليق إلّا بالقوّة البهيميّة، ولا يليق بالرتبة الإنسانيّة، لأنّها من أعلى المراتب الإمكانيّة، وقد أعدّ الله لها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فلا ينبغي للعاقل أن يحصر اللذّات في الجنّة فيما يخصّ بالبهائم. كيف وهو نقص للرتبة الإنسانيّة.
وأمّا ذكره من الآيات القرآنيّة شاهدة على دعواه فممّا الجواب عنه سهل على كلّ من تدبّر هنيئة، إذ لتلك الآيات ظواهر يعرفها كلّ من له اطّلاع بلغة العرب، وحقائق قد علمها أهل التوحيد، وعرفها أرباب التجريد.
كيف لا وقد كشف عن بعضها الأئمّة الأطهار عليهم السّلام في بعض أخبارهم المرويّة عنهم في الكتب المعتبرة كما لا يخفى على من تتبّعها، ولا يبقى شكّ للمتتبّع في أنّ تلك الألفاظ الّتي تضمّنها القرآن، بل الأخبار الواردة في أمر الجنّة والنيران كما تكون عبارات عن اللذّات الجسمانيّة المحسوسة، والآلام الظاهرة العنصريّة كذلك تكون كنايات عن الدرجات الرفيعة القربيّة، والدركات البعديّة، وإنّي في مقامي هذا بين يدي الله لأشهدنّ بأنّ ما اشتمله القرآن والأخبار في أمر الجنّة والنار لحقّ صدق من
الله إلى رسول الله، ثمّ إلى خلق الله، ولا ريب فيه أصلا ولكن أقسم بعزّة الله صادقا بأنّ الأمر في كيفيّات ذلك ليس كما ذكره الظاهريّون القشريّون من العلماء، واعتقده الأدنون من أنّ أهل الجنّة كلّهم يلتذّون بالمطاعم الجسميّة كما يلتذّ البهائم، بل لذلك كيفيّة لم يعرفها إلّا من فاز بها.
فكذب من ادّعى عرفان تلك الكيفيّات قبل أن يدركها حقّ الدرك، فإنّه خاصّ بالأنبياء والأولياء والأصفياء المنقطعين عن تلك الحواسّ الظاهرة الحيوانيّة انقطاعا كلّيّا، فهيهات هيهات كيف يدركها المشتغل باللذّات الحسّيّة، والمتوجّه إلى الشؤونات الغيريّة.
ومن ذلك يكشف معنى ما روي من أنّ الحسين عليه السّلام قد أرى أصحابه مقاماتهم ودرجاتهم في الجنّة في أرض كربلا، فإنّ ذلك لقد كان عند انقطاعهم عن هذه الحياة الدنيا وشوقهم إلى الحياة الدائمة السرمديّة.
وبالجملة: لا يمكن الفوز بحقيقة تلك الكيفيّات لمن لم يذق من رحيق العرفان، والانقطاع عن كلّ ما في الإمكان، فإنّي إلى هذه الغاية في رتبة التوحيد، والانقطاع بمقام التجريد، لم يظهر لي حقيقة تلك الكيفيّات حقّ الظهور، فكيف لمن لم يكن له حظّ من مقام العرفان أصلا.
فيا أيّها المتعرّف الجاهل صه عن البحث في هذه الكيفيّات، فإنّه لا ينبغي إلّا لمن خلص دينه، وأتقن يقينه، فالحمد لله حقّ حمده، والصلاة على مظهر مجده.
السابعة: لقد ظهر ممّا سطرناه أنّ الله تعالى لقد عبّر عن الدرجات الروحانيّة، والمقامات العرفانيّة الّتي يفوز بها العارفون والواصلون كلّ
بحسب سعيهم وإمكانهم بالجنّة والحرير واتّكائهم على الأرائك إلى غير ذلك ممّا أشير إليه في الآيات، ولكن لا يدرك ذلك إلّا العارفون بأسرار القرآن وحقائقه، فإنّ لباطن القرآن أهل يفهمون الكنايات، ويدركون الإشارات، وهم المعصومون من آل محمّد عليهم السّلام والّذين علّمهم هؤلاء وهم الراسخون في العلم الّذين يعلمون تأويل القرآن، كما قال:( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (١) إلى آخره.
لا الّذين ما استعدّوا إلّا للقشور، فإنّهم لا يعرفون إلّا ظواهر الأمور، لما في استعدادهم من القصور، عن درك حقائق النور، فما عثروا على الكنوز، وما اطّلعوا على الرموز، واقتصروا على الصورة وما تحسّسوا عن يوسف الحقيقة، كلّا إنّهم عن حقائق الحقّ لمحجوبون.
ثمّ لا يخفى أنّ في اختلاف تعبيره سبحانه إشارة إلى أنّ معارفهم ليست من صنف واحد، بل مختلفة باختلاف متعلّقها، وكذلك مقاماتهم ليست متّحدة حتّى يكون مقام واحد، بل متفاوتة بعضها فوق بعض، ولكن نحن لاشتغالنا بالحياة العنصريّة لا ندرك حقيقة مقام هؤلاء المنقطعين، بل كيفيّته، فضلا عن اختلافه وتفاوته.
كيف ولسنا في ذلك المقام حتّى ندركه، إذ قد عرفت أنّ الخارج عن مقام لا يمكن له اكتناه ذلك المقام كيفوفيّة وحيثوثيّة إلّا على طريق الإجمال، وهو غير مفيد للحال إلّا إثبات بعض الأحوال.
هذا فإنّه غاية ما يمكن تقريره في نحو المقال، فالحمد لله على كلّ حال.
__________________
(١) آل عمران: ٧.
الأوّل: قال بعض العارفين: الجنّة في الآية إشارة إلى المقاصد الكلّيّة، والمطالع الجليلة.
وأمّا الحرير فلمّا كان من اللباس الكامل المكمّل حسّا عبّر به عمّا يطابقه من الكمالات العقليّة من التسربل بسرابيل الإفاضات الروحانيّة، والتسرول بسراويل الكرامات الرحمانيّة، والتعمّم بعموم عمائم العناية الربّانيّة، المحيطة بالكلّ حياط الحاوي للمحوي، وإن كان تفاوت ما بين الحريرين.
والأرائك جمع الأريكة وهي السرير.
وقيل: هي الفرش فوق الأسرّة.
ومتّكئين منصوب على المدح أو حال من الضمير.
وفي الآية إشارة إلى حسن المنزل، وطيب هوائه، وتلويح إلى دوام هذا الطيب وعدم تغيّره.
وعدم الشمس والزمهرير كناية عن الخلوّ عن الحرّ والبرد، والزمهرير في لغة طيّ: القمر.
وعلى الوجهين تلميح إلى أنّ هذا الطيب والاعتدال ليس من أمور خارجة كاعتدال هواء الدنيا. ثمّ في الآية دلالة على إثبات اللذّة ونفي الألم، فإنّ الاتّكاء على السرير في هواء طيّب جامع في البدن وفي النفس حالات مناسبة مشابهة، والشمس يتبعها حرّ وكرب يلزم الشوق، والزمهرير برودة وجمود يلزم البلادة والغفلة.
أقول: وفي الآية إشعار أيضا بكمال البينونة والتفاوت بين اللذّات
الدنيويّة الفانية، واللذّات الأخرويّة الباقية، كما لا يخفى على المتأمّل.
الثاني: القراءة المشهورة في «ودانية عليهم» النصب، وله وجوه ذكروها في كتب التفسير، منها: أن يكون عطفا على «متّكئين» فيكون حالا بعد الحال بواسطة الحرف، أي في حال اتّكائهم على الأسرّة وقرب أفياء الجنّة منهم.
ومنها: أن يكون صفة الجنّة المذكورة، أي: وجزاهم جنّة دانية. ذكره بعض، ولكنّه أخطأ لعدم جواز الفصل بين الصفة والموصوف بالواو، ولا محلّ لزيادتها هنا، كما لا يخفى فليتأمّل.
ومنها: أن يكون صفة لموصوف محذوف، فالنصب على المفعوليّة، أي: وجزاهم بما صبروا جنّة وحريرا وجنّة أخرى دانية عليهم، وذلك إنّهم وعدوا جنّتين لخوفهم من مقام ربّهم على ما سبق كما قال:( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) (١) ومن قرأ بالرفع فقد جعله خبرا مقدّما والمبتدأ قوله ظلالها، والجملة في محلّ النصب على الحالية.
ثمّ المراد بدنوّ الظلال هو قرب أفياء أشجار الجنّة.
وقيل: المراد إنّ ظلال الجنّة لا تنسخها الشمس كما تنسخ ظلال الدنيا، والاستشكال بأنّ الظلّ لا يكون إلّا حيث يكون الشمس مجاب عنه تارة بأنّ المراد لو كان هناك شمس لوقع ظلّ فتأمّل.
وتارة بأنّ الظلّ لا يلزم أن يكون بالشمس، بل الضوء كاف في إيقاع الظلّ كما لا يخفى.
__________________
(١) الرحمن: ٤٦.
وقوله: «وذلّلت قطوفها» معناه: وسهل أخذ ثمارها إن قام ارتفعت بقدره، وإن قعد نزلت عليه حتّى ينالها، وكذلك إن اضطجع.
وقيل: أي لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شرك والمال واحد كما لا يخفى.
وفي ذلك إشارة إلى أنّ هؤلاء الأبرار المستكملين لقد فازوا باللذّات الدائمة بحيث هيّأت لهم جميع المعارف بحسب استعدادهم في بساط القرب، فلا يريدون لذّة إلّا وهم واجدوها، ولا يتمنّون علما وحكمة إلّا وهم عالموها، فلا يحتاجون في مقام العلم والعرفان إلى غيرهم.
كيف وهم الكاملون الّذين أمر الناس بأن يرجعوا إليهم في أمورهم جميعا، ورغّبوا في أن يسألوهم ممّا لا يعلمون، كما قال:( فَسْئَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١) أي الذاكرين للحقّ خاصّة، الذاهلين عن جميع ما في الإمكان، فمن أمر الناس بسؤاله لا يجهل شيئا ممّا يحتاجون إليه لا محالة، فعلم الكاملين بمحاوج السائلين حضوريّ لا فكريّ كما زعمه جماعة.
وقد دلّ على دعوانا بعض الأخبار الواردة في باب علم الإمام عليه السلام، والمتتبّع لاحظه لا محالة، فلا حاجة إلى تطويل الرسالة في تلك المقالة. هذا ما ألهمنا به في الحال.
وقال بعض أهل الحال: لا يبعد أن يكون دنوّ الظلال إشارة إلى قرب الظلّ دون المظلّ، وتذلّل القطوف إلى تقارب المظلّ. وفي هذا إشارة إلى شمول العناية الإلهيّة وتقاربها وإحاطتها مانعة عن الآلام العقليّة والحسّيّة.
__________________
(١) النحل: ٤٣، الأنبياء: ٧.
والقطوف إشارة إلى اللذّات وتعقّل المعقولات، وتذليلها إلى تقاربها بمفيضها.
ويمكن أن يقال: إنّ دنوّ الظلال لـمـّا كان من اللذّات البدنيّة الّتي توجد للمتّكئين بمثل تلك الجنان من الجنان الدنيويّة المحسوسة عبّر به عمّا يحصل لهؤلاء في الجنّة من إحاطة العناية الإلهيّة عليهم، ودنوّ النعمة الربّانيّة بهم أن لا يصيبهم ألم أو يجري عليهم شيء من عذاب الناقصين.
وأمّا تذليل قطوفها فعبارة عن تعقّلاتهم لتلك المعقولات المجرّدة، وافتياضهم من تلك الجواهر العقليّة بحسب إمكاناتهم، وتذليل قطوفها تناولها بسرعة.
وفيه إشارة لطيفة إلى أنّ المبدأ الأوّل جلّ ذكره لا تتوقّف إفاضة وجوده على شيء من ذاته، وإنّما هو بحسب استعدادات القوابل، فهؤلاء لـمـّا كانوا على غاية من كمال استعداداتهم وقبولهم لكمالاتهم، لا جرم كانت قطوفها على غاية سرعة الإفاضة، وذلك معنى تذلّلها.
الثالث: الطواف والآنية معلوم، والأكواب جمع الكوب وهو القدح الّذي لا عروة له، والقوارير: الزجاجات، وانصرافه بالتنوين في بعض القراءات، إنّما هو لرعاية السجع.
وقوارير الثانية بدل من الأولى، والفائدة معلومة أي يطاف على هؤلاء الكمّل بآنية أصلها فضّة وأقداح أصلها القوارير الّتي مثل الفضّة في الصفاء والبياض بحيث يقال إنّها منها لشدّة ملابستها لها.
وبذلك يجاب عمّا استشكل بأنّه كيف تكون القوارير من فضّة وأمّا
القوارير من الرمل دونها. وقد يجاب أيضا بأنّ المضاف محذوف أي من صفاء الفضّة، قال الصادق عليه السلام: ينفذ البصر في فضّة الجنّة كما ينفذ في الزجاج(١) .
أقول: وفي الآية إشعار بكمال لطافة ما يحصل لهم من المقامات والمعارج بحيث لا يلتذّ بها سواهم، فإنّه لا مناسبة بين غير هؤلاء من المشتغلين بالشؤون الغيريّة وبين تلك المدركات العقليّة حتّى يدركوها، إذ الالتذاذ من الشيء وإدراكه فرع المناسبة والرابطة ولو في الجملة.
قال بعض العارفين: المراد أنّ الفضّة لـمـّا كانت من الجواهر العزيزة بما يتّخذ منه الملوك الأواني من آلات الشرب وغيرها وكان مع ذلك لها البياض الّذي هو أشرف الألوان المشرقة عبّر بها عمّا ناسبها من الجواهر المعقولة.
واعلم أنّه عبّر بالطواف عمّا يحصل للنفوس الكاملة من تلك المشاهدة والمقابلة الّتي تجري مجرى مقابلة المرايا العالية للمرايا السافلة، وعبّر بالآنية والأكواب عن المبادي العالية الّتي هي مقرّ العلوم والمعارف تنبيها على ذلك. انتهى.
وقال: نبّه بقوله قوارير على وصفين :
أحدهما: أنّ تلك الجواهر العقليّة وإن كان لها لون الفضّة فإنّها مع ذلك في صفاء القوارير وشفّافها، وهو إشارة إلى براءتها عن كدورات العلائق الجسمانيّة.
__________________
(١) بحار الأنوار ٨: ١١١.
والثاني: إنّها مقرّ العلوم الحقيقيّة قرارا لا يتبدّل ولا يتغيّر بحسب تغيّر المعلومات.
وقال: المبادئ العالية أنوار متعدّدة متكثّرة مترتّبة لها أظلال، فإشراقها على النفوس إظلالها، واستفاضة النفوس منها اقتطافها.
الرابع: في قوله «قدّروها» قراءتان :
الأولى: الفتح وهي المشهورة، أي قدّروها في أنفسهم فجاءت مقاديرها وأشكالها كما تمنّوه، أو قدّروها بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها، فالضمير عائد إلى الأبرار الموصوفين قبل.
وقيل: أي قدّروا الكأس على قدر ريّهم لا يزيد ولا ينقص من الريّ.
وقيل: قدّروها على قدر ملاء الكفّ، أي كانت الأكواب على قدر ما اشتهوا، فالضمير على القولين عائد إلى الطائفين الّذين يسقون، فإنّهم يقدّرونها ثمّ يسقون.
وفيه إشارة إلى أنّ كلّا منهم ينال من الفضل والمقام بحسب استعداده وعمله في الدنيا، بمعنى أنّهم ليسوا سواء في جميع المقامات، بل مقاماتهم مختلفة، ومراتبهم متفاوتة باختلاف إمكاناتهم، وتفاوت استعدادتهم، فلكلّ درجات ممّا عملوا والله عليم بما يعملون.
هذا معنى ما قيل من أنّ المراد أنّه حصل لكلّ منهم من المعارف والمشاهدات لتلك الصور البهيّة، والمطالع العليّة حصّته بحسب ما انتهى إليه طرق إمكانه، أي قدّر لهم الطائفون ذلك التقدير المختلف بحسب اختلاف إمكاناتهم.
الثانية: ضمّ القاف، فالضمير للأبرار، والتقدير: قدّروا عليها، فحذف الجار ووصل الفعل بالمجرور، وهو الشائع.
الخامس: قال بعض العارفين: لا يخفى على أولي النّهى أنّ في الآية أمورا ينبغي الاستكشاف عنها :
منها: كيفيّة كون هذه الأكواب من الفضّة والقارورة وهما جوهران متباينان.
ومنها: من فاعل التقدير.
ومنها: وجه التأكيد.
ومنها: وجه إعادة المصدر.
أمّا الأوّل، فيمكن أن يبيّن بوجوه :
أوّلها: إنّ قوارير الدنيا مأخوذة من الرمل والحجر، وقارورة الجنّة من الفضّة، فكما أنّ الله قادر على تقليب الرمل الكثيف زجاجة لطيفة صافية كذلك قادر على تقليب الفضّة قارورة لطيفة، ففي الآية إشارة إلى أنّ نسبة قارورة الجنّة إلى قارورة الدنيا كنسبة فضّة الجنّة إلى حجارة الدنيا، وبهذا يتفطّن بصفاء قارورة الجنّة ولطافتها.
وثانيها: إنّ كمال الفضّة في بقائها ونقائها وصفائها وشرفها إلّا أنّها كثيفة الجوهر، وكمال القارورة في شفّافها وصفائها إلّا أنّها سريعة الانكسار، ففي الآية إشارة إلى أنّ آنية الجنّة جامعة بين صفاء الفضّة وبقائها ونقائها وصفاء الزجاجة وشفّافها.
وثالثها: أن يكون إشارة إلى أنّ تلك الآنية من الفضّة، ولكن يكون لها صفاء الزجاجة.
ورابعها: أنّ القارورة في الآية ليست بمعنى الزجاجة، بل العرب تسمّي كلّما صفى من الأواني قارورة.
وأمّا الثاني وهو بيان المقدّر ففيه وجهان :
الأوّل: أنّه هو الطائف.
والثاني: أنّه هو الشارب، ولكلّ وجه، بل وجوه وجيهة.
وأمّا الثالث فلا يخفى على من تفطّن بالأوّل، كما أنّ الرابع ظاهر لمن تأمّل في الثاني إلى آخره.
السادس: في بناء الفعل للمفعول في قوله «ويطاف عليهم» إشعار بتعظيم الطائف، فإنّه هو المبدأ الأوّل جلّ جلاله.
وكذلك القول في قوله «ويسقون فيها كاسا ...» إلى آخره، إذ الساقي للأولياء من شراب المحبّة والصفاء في مجلس الشهود هو الله تعالى، كما قال: «وسقاهم ربّهم شرابا طهورا».
والزنجبيل معروف، وهو ممّا كانت العرب تستطيبه وتستلذّه وتضرب به المثل في أشعارها للملذوذات، فوعدهم أنّهم يسقون في الجنّة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنّة، فإنّهم كانوا يمزجون شرابهم بالزنجبيل في الدنيا لزيادة اللذّة.
وفيه إشارة إلى أنّ اللذّة الروحانيّة ألذّ اللذّات الّتي يتصوّرونها ويتوهّمونها.
ولا يخفى أنّ الزنجبيل الممزوج بشراب الأبرار ليس مناسبة بينه وبين زنجبيل الدنيا أصلا في الأثر واللذّة إلّا فيما ذكر من أنّهم يستلذّون به في
الدنيا، فجرى كلام الحقّ على قدر إفهامهم ليعرفوا أنّ ما يمزجه الحقّ بشرابهم ألذّ ممّا يمزجونه، فذكر الزنجبيل إنّما هو من باب التمثيل لا التحقيق، فإنّ حقيقة اللذّات الأخرويّة لا يدركها المشتغلون بالنشأة الدنيويّة حقّ الدرك.
نعم ربّما يعرفونها إجمالا، ألا ترى إلى الصبيّ كيف لا يدرك لذّة الجماع الّتي يدركها البالغ، إلّا أنّه قد يقطع بأنّ الجماع فيه لذّة، ولكن لا يعرف حقيقته.
نعم يتمثّل تلك اللذّة له بلذّة القند والسكّر، فكما أنّ بين لذّة الجماع ولذّة السكّر فرقان فاحش، كذلك يكون بين لذّة الدنيا ولذّة الآخرة فرقان كثير غاية الفرقان، بل لا مناسبة بينهما إلّا في الاسم.
كيف واللذّة الروحانيّة الّتي أعدّها للأبرار ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إلى آخره، وهي دائمة باقية لا تتصرّم أبدا فهي أحقّ بذلك الاسم من اللذّة الفانية المتصرّمة.
وهكذا الأمر في جميع الألفاظ الّتي عبّر الله بها في القرآن عن اللذّات، فإنّ حقيقتها ما يلتذّ به العارفون ويستطيبه الصافّون.
وأمّا ما يسمّيه الناقصون باللذّة ويستطيبونه فليس في نفس الأمر لذّة وطيبا، وإنّما زعموا ذلك لعدم فوزهم بما هو الألذّ والأطيب.
كيف فلو كانوا فائزين به لما كانوا راضين بتلك التسمية أبدا، بل كانوا لا يتوجّهون إلى ذلك المقام أصلا، فحرمانهم عن المقام الأعلى حملهم على أن سمّوا تلك الأمور الفانية الزائلة لذّة وطيبا، وأنسوا بها حتّى لم يتبادر إلى
أذهانهم من الألفاظ المألوفة الرسميّة المشيرة إلى المعاني الروحانيّة الملكوتيّة سوى تلك اللذّات المألوفة الّتي لا تستحقّ اسم اللذّة، وذلك لعدم إدراكهم الملذّات الروحانيّة، وعدم فوزهم بها.
ويدلّك على ذلك أنّ الكاملين لا يتبادر إلى أذهانهم من تلك الألفاظ إلّا المقامات الملكوتيّة واللذّات الروحانيّة وإن ذلك إلّا لتوجّههم إلى جهة الملكوت وانقطاعهم عن سلسلة الناسوت.
وقد أجاد محمّد بن محمّد الغزاليّ قدّس سرّه في بيان ما أشرنا إليه من أنّ لتلك الألفاظ حقائق أحقّ في كتابه المسمّى بجواهر القرآن حيث قال :
إعلم أنّ الكبريت الأحمر عند الخلق في عالم الشهادة عبارة عن الكيمياء الّذي يتوصّل به إلى قلب الأعيان من الصفات الخسيسة إلى الصفات النفيسة حتّى ينقلب به الحجر ياقوتا، والنحاس ذهبا إبريزا، ليتوصّل به إلى لذّات في الدنيا مكدّرة منغّصة في الحال، متصرّمة على قرب في الاستقبال، أفترى أنّ ما يقلب جوهر القلب من رذالة البهيميّة، وضلالة الجهل إلى صفاء الملكيّة وروحانيّتها ليترقّى من أسفل السافلين إلى أعلى علّيّين، وينال به لذّة القرب من ربّ العالمين، والنظر إلى وجهه الكريم أبدا دائما سرمدا هل هو أولى باسم الكبريت الأحمر أم لا، فلهذا سمّيناه بالكبريت الأحمر، فتأمّل وراجع نفسك، وأنصف لتعلم أنّ هذا الاسم بهذا المعنى أحقّ، وعليه أصدق.
ثمّ أنفس النفائس الّتي يستفاد من الكيمياء اليواقيت، وأعلاها الياقوت الأحمر، فلذلك سمّينا به معرفة الذات.
وأمّا الترياق الأكبر فهو عند الخلق عبارة عمّا يشفي من السموم المهلكة
الواقعة في المعدة مع أنّ الهلاك الحاصل بها ليس إلّا هلاكا في حقّ الدنيا الهالكة الفانية، فانظر إن كان سموم البدع والأهواء والضلالات الواقعة في القلب مهلكة هلاكا يحول بين المسموم بها وبين عالم القدس ومعدن الروح والراحة حيلولة دائمة أبديّة سرمديّة وكانت المحاجّات البرهانية تشفي عن تلك السموم وتدفع ضررها هل هي أولى بأن يسمّى بالترياق الأكبر أم لا.
وأمّا المسك الأذفر فهو عبارة في عالم الشهادة عن شيء يستصحبه الإنسان، يثور منه رائحة طيّبة حتّى لو أراد إخفاءه لم يختف، لكن يستظهر وينتشر.
فانظر إن كان في المطالب العلميّة ما ينشر منه الاسم الطيّب في العالم ويشتهر به صاحبه اشتهارا لو أراد الاختفاء وإيثار الخمول لم يقدر عليه، بل يشهره ويظهره فاسم المسك الأذفر عليه أحقّ وأصدق أم لا. انتهى.
وأنا أقول: الجنّة عند الخلق في عالم الشهادة عبارة عن البستان المحفوف بالأشجار والأنهار بحيث يفرح بدخوله المغتمّ المهموم، ويزول عن قلبه الهموم والغموم، أفترى أنّ مقام قرب الحقّ الّذي من دخله كان مسرورا فرحا بالوصال، مجتنيا من أطايب ثمرات الجلال، زائلا عن قلبه شؤونات الجهل والضلال ليس أولى باسم الجنّة.
كيف وهو أولى بذلك الاسم، وهو عليه أحقّ وأصدق.
وكذا الشراب عند الخلق في ذلك العالم عبارة عمّا يشربونه فيطفئون به حرارات القلب، ويتوجّدون ويتطرّبون كمال التوجّد والتطرّب.
أفترى أنّ ما يطفأ به حرارة الجهل والغفلة ويتوجّد به العارفون
فيتطرّبون في عرش الحقّ واصلين متّصلين ليس أحقّ بذلك الاسم.
وكذا الزنجبيل عندهم عبارة عن ضرب من القرفة طيّب الطعم يمزجونه بالشراب فيلتذّون به على ما عرفت.
أفترى أنّ ما يلتذّ به الأبرار من الحقائق الروحانيّة الملكوتيّة، واللذّات الدائمة الحقيقيّة ليس أولى بذلك الاسم.
وكذا الحرير عندهم عبارة عمّا يلبسه الملوك ويتزيّنون به ويزيدون به الجمال والجلال عند الناس، فإنّه أبهى الألبسة، أفترى أنّ ما يستكمل به الواصلون ويستحملون به من لباس التوحيد وثياب التجريد بحيث يتميّزون بذلك عن سائر أصناف الخلق، ويتزيّنون به في سرير الملكوت ليس أحقّ بذلك الاسم؟
وكذلك الكافور الحسّيّ من صفاته البياض المشرق، ومن خواصّه إزالة الحرارة الراسخة المهلكة المتمكّنة في جوهر ذات الشخص. أفترى أنّ ما يفوز به الأبرار من الإفاضات العالية الّتي هي في غاية الإشراق والصفاء ومزيلة للجهالات وسائر المهلكات ليس أحقّ وأولى بذلك الاسم؟
وكذلك سائر الألفاظ الّتي اشتمل عليها القرآن لها حقائق تتبادر إلى أذهان العارفين كما تتبادر ظواهرها إلى أذهان الناقصين، فكما أنّ التبادر عندهم علامة للحقيقة كذلك هواية للحقيقة عند هؤلاء فكم من حقيقة عند أهل الظاهر هو أحقّ باسم المجاز عند أهل الباطن، فلكلّ اصطلاح يحاورون به في محلّ التخاطب لا يتكلّم به الآخرون، ولا يتبادر إلى أذهانهم كيف، فكما أنّ الناقصين القاصرين عن درك المقامات الروحانيّة لا ينتقش
في أذهانهم عند استماع تلك الألفاظ إلّا الصور الجسمانيّة المحسوسة الّتي كانوا ألفوها وأنسوا بها في عالم الشهادة، كذلك الكاملون العارفون بحقائق الحكمة والعرفان إذا استمعوا تلك الألفاظ لا يتوجّهون إلّا إلى المقامات الروحانيّة، واللذّات الملكوتيّة، ولا ينتقش في ألواح أذهانهم إلّا هذه المعاني العلويّة اللاهوتيّة، والحقائق العالية الهاهوتيّة. كيف ولا يتمنّون لرفعة همّتهم إلّا تلك المقامات القربيّة، ولا يرجون إلّا الفوز بهذه المعاني الملكوتيّة، والالتذاذ بالإفاضات الإلهيّة والعنايات الرحمانيّة الأزليّة، وذلك لما ركز في هويّتهم من الشوق إلى الحقّ الّذي هو المبدأ الأوّل لكلّ ما في الإمكان.
وأمّا الناقصون فليس فيهم ذلك الشوق، ولذا كانت منيتهم الالتذاذ بالمشارب والمآكل والمناكح الّتي هي لائقة بمقام البهيمة، وهؤلاء لقد استبدلوا الّذي هو أدنى بالّذي هو خير، وضلّوا عن مقام الوجد والحال.
ولقد أجاد الغزاليّ رحمه الله في ذلك المقام، حيث قال :
إعلم أنّه لو خلق فيك شهوة شوق إلى الله، وشهوة لمعرفة جلاله أصدق وأقوى من شوقك للأكل والنكاح لكنت تؤثر جنّة المعارف ورياضها وبساتينها على الجنّة الّتي فيها قضاء الشهوات المحسوسة.
واعلم أنّ هذه الشهوة خلقت للعارفين ولم يخلق لك كما خلقت لك شهوة الجاه ولم يخلق للصبيان، وإنّما للصبيان شهوة اللعب، فأنت معجب من الصبيان في عكوفهم على لذّة اللعب وخلوّهم عن لذّة الرياسة، والعارف يتعجّب منك في عكوفك على لذّة الجاه والرياسة، فإنّ الدنيا بحذافيرها عند العارف لهو ولعب.
ولـمّا خلقت هذه الشهوة للعارفين كان التذاذهم بالمعرفة بقدر شهوتهم، ولا نسبة لتلك اللّذة إلى لذّة الشهوات الحسّيّة، فإنّها لذّة لا يعتريها الزوال، ولا يغيّرها الملال، بل لا يزال يتضاعف ويترادف ويزداد بزيادة المعرفة والإعراق فيها بخلاف سائر الشهوات، إلّا أنّ هذه الشهوة لا تخلق في الإنسان إلّا بعد البلوغ إلى حدّ الرجال، ومن لا تخلق فيه فهو إمّا صبيّ بعد لم تكمل فطرته لقبول هذه الشهوات، أو عنّين أفسد كدورة الدنيا وشهواتها فطرته الأصليّة.
فالعارفون لـمـّا رزقوا شهوة المعرفة ولذّة النظر إلى جلال الله فهم من مطالعتهم جمال الحضرة الربوبيّة في جنّة عرضها السماوات والأرض، بل أكثر ، وهي جنّة عالية قطوفها دانية، فإنّ فواكهها صفة ذاتهم وليست مقطوعة ولا ممنوعة، إذ لا مضايقة في المعارف.
والعارفون ينظرون إلى العاكفين في حضيض الشهوات نظر العقلاء إلى الصبيان عند عكوفهم على لذّات اللعب، ولذلك تراهم يستوحشون من أكثر الخلق، ويؤثرون العزلة والخلوة، فهي أحبّ الأشياء إليهم، ويهربون من المال والجاه، فإنّه يشغلهم عن لذّة المناجاة، ويعرضون عن الأهل والولد ترفّعا عن الاشتغال بهم عن الله تعالى.
فترى الناس يضحكون منهم، فيقولون موسوس ظهر عليه مبادئ الجنون، وهم يضحكون على الناس لقناعتهم بمتاع الدنيا، ويقولون إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون إلى آخره.
السابع: قال بعض العارفين: الكأس هاهنا هي الأولى بعينها، وإنّما أورد
هاهنا بصفة المزج بالزنجبيل، وكذا المراد من العين في قوله:( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ) هي العين السابقة، إلّا أنّه أورده هاهنا بصفة السلاسة، وسرعة الفيض الإلهيّ في حقّهم، وسهولة افتياض المعقولات عليهم، إذ كانوا على غاية من الإمكان.
ثمّ لـمـّا وصف الكأس بطعم الزنجبيل وكانت الكأس من تلك العين نبّه في وصف العين بسلاسة الجريان في الخلق على أنّها مع استلزامها لطعم الزنجبيل ليس فيها قوّة اللذاعة الّتي فيه، فسبحان الملهم لتلك الاستعارة، والهادي إلى تلك العبارة. انتهى.
أقول: ما ذكره من أنّ المراد بالكأس هاهنا هي الكأس فيما قبل، وكذا العين، يتوجّه عليه أنّ ذلك مستلزم للتكرار والتأكيد، وهو في المقام غير مفيد، فالأحقّ أن يقال: إنّ في ذلك إشارة إلى ما مرّ من أنّ لكلّ من الأبرار مقامات مختلفة بحسب الحقيقة عن اختلافات الإفاضات العالية، إذ ليس للعارف مقام واحد واقف هو فيه في جميع الأوقات والحالات، بل يفوز في كلّ وقت وحالة بمقام وإفاضة ليس له في الوقت السابق والحالة السابقة.
كيف ولا نهاية لترقّي الإنسان يقف فيها، بل يترقّى آنا فآنا بحسب سعيه وجهده، كما قال:( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) (١) .
وهذا هو السرّ في كونه أفضل من الملك، فإنّ له مقاما معلوما لا يجاوزه ولو أكثر في سعيه واجتهاده، كما يدلّ عليه بعض الأخبار المرويّة.
ويؤيّده ما حكي عن أبي الحسين الخرقانيّ أنّه قال: صعدت ظهيرة
__________________
(١) النجم: ٣٩.
على العرش لأطوف به فطفت عليه ألف طوفة، كما قال: ورأيت حواليه قوما ساكنين مطمئنّين، فتعجّبوا من سرعة طوافي، وما أعجبني طوافهم، فقلت: من أنتم؟ وما هذه البرودة في الطواف؟ فقالوا: نحن ملائكة، ونحن أنوار، وهذا طبعنا لا نقدر أن نجاوزه، فقالوا: ومن أنت؟ وما هذة السرعة في الطواف؟ فقلت: آدميّ وفيّ نور ونار، وهذه السرعة من نتائج نور الشوق. انتهى.
فما اختاره المعتزلة من أنّ الملك أفضل من الإنسان لوجوه غير وجيه، والوجوه الّتي استدلّوا بها غير وجيهة، وما قاله محيي الدين من أنّه سألت عن ذلك رسول الله في الواقعة، فقال لي: إنّ الملائكة أفضل، فقلت له: يا رسول الله، فإن سئلت ما الدليل على ذلك فما أقول؟ فأشار إليّ أن علمتم أنّي أفضل الناس، وقد صحّ وثبت عندكم وهو صحيح أنّي قلت عن الله أنّه قال: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وكم ذاكر لله ذكره في ملأ أنا فيهم، فذكر الله في ملأ خير من ذلك الملأ الّذي أنا فيهم إلى آخره. يشمّ منه رائحة الكذب، ولو صحّ وصدق لا يعارض الصحاح من الأخبار الدالّة على أفضليّة الإنسان مطلقا، فضلا عن الأنبياء سيّما نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله الّذي كان أفضل من كلّ شيء في الإمكان.
كيف والكلّ مخلوق به، وهو العلّة لوجود كلّ شيء، وهذا في الظهور كالنور على شاهق الطور، فلا حاجة إلى إسطار السطور، في تحقيق ما هو المشهور، بين الجمهور:
ملك در سجده آدم زمين بوس تو نيّت كرد |
كه در حسن تو چيزى يافت بيش از حدّانسانى |
وبالجملة: فلا يخفى أنّ المراد بالكأس هاهنا إفاضة خاصّة غير الإفاضة السابقة الّتي عبّر عنها بالكأس فيما سبق.
وفي التعبير بالشرب ونسبته إليهم فيما سبق حيث قال:( يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ ) إلى آخره.
وبالسقي ونسبته إلى المجهول وهو الحقّ تعالى هنا إشارة إلى أنّ للسالك العارف لذّتين:
لذّة يتسبّب لها ذاتيّته بحسب الإمكان والاستعداد، فيلتذّ بها لجهده وعمله.
ولذّة يتسبّب لها جذبة الحقّ من غير أن تكون ناشئة عن عمل العبد وسعيه، بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من أوليائه وأحبّائه، ونعم ما قيل: جذبة من جذبات الحقّ توازي عمل الثقلين.
وفي المقام مطالب يمنعني ضيق الوقت عن تفاصيلها، ولكنّ القول المجمل منها: أنّ السالك في سبيل المحبّة: إمّا سالك محض، وهو مجزيّ بعمله، ملتذّ بعاقبة سعيه.
أو مجذوب محض من غير أن يكون له سعي، وإنّما يجذبه الحقّ بلطفه وفضله إلى عرش الصفاء، ومقام البهاء، وهو غافل عن ذلك قبل ذلك، كما قال:( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (١) إلى آخره، ولكن لا بدّ له من استعداد
__________________
(١) الطلاق: ٣.