• البداية
  • السابق
  • 441 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14831 / تحميل: 3168
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق في القرآن

الأخلاق في القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

إزداد في علمه وعبادته وقوته وقدرته وثروته فعليه أن يسعى ليكون أكثر تواضعاً وخشية وخضوعاً للحقّ ، ويتفكر في أنّ هذه الكمالات والمواهب ليست ثابتة له بالذات وكلّها لا تعدّ شيئاً مقابل قدرة الله تعالى وصفاته وأسمائه الحسنى.

٥ ـ جذور التكبّر

إن حالة التكبّر الذميمة لها جذور كما هو الحال في سائر الرذائل الأخلاقية ، فينبغي البحث عنها بدقة ومعرفتها ، وفي غير هذه الصورة فإنّ قلع هذه الصفة من أعماق النفس وتطهير القلب منها يكون أمراً محالاً.

ويذكر بعض علماء الأخلاق مثل المرحوم (الفيض الكاشاني) في كتابه المحجّة البيضاء أربعة جذور واصول للتكبّر وهي :العجب ، الحقد ، الحسد ، الرياء.

ويرى الفيض الكاشاني أنّ جذور التكبّر الباطنية تتمثّل في (العجب) فهذه الحالة من رؤية الذات والإعجاب بها وتعظيمها هي السبب في أن يرى الإنسان نفسه أعلى من الآخرين وأفضل منهم وبالتالي يتحرّك في التعامل معهم من موقع التفاخر والتعالي ، وهناك أصل آخر وهو (الحقد) والكراهية الّتي يشعر بها الإنسان تجاه الشخص الآخر حيث يتسبب ذلك في أن يتظاهر بمواهبه وامتيازاته أمام ذلك الشخص ، والثالث (الحسد) الّذي يتسبّب في إيجاد هذه الرذيلة الأخلاقية ، والرابع (الرياء) الّذي يؤدي إلى أن يتظاهر الإنسان بامتيازاته أمام الآخرين فيورثه ذلك حالة من التكبّر عليهم.

هذه الجذور الأربع تشكل الاصول والاسس لصفة التكبّر ، ولكن حسب الظاهر أنّ جذور التكبّر لا تنحصر في هذه الصفات الأربع بل هناك امور اخرى يمكنها أن تكون منشئاً ومصدراً للتكبّر.

٦ ـ النتائج والعلائم

إنّ الأمراض الأخلاقية هي مثل الأمراض النفسية والبدنية تكون مصحوبة دائماً بآثار وعلائم ظاهرية ، فكما أنّ الإنسان إذا اشتكى مرضاً في الكبد ظهرت عليه آثار هذا المرض

٤١

بصور مختلفة على جلده ووجهه ولون عينه ولسانه وأمثال ذلك ، فهكذا إذا ابتلي الشخص بمرض أخلاقي مزمن فتظهر آثاره وعلائمه في أعماله وسلوكياته وكلماته.

وقد أورد الكبار من علماء الأخلاق آثار الكبر وعلائمه في كتبهم المفصّلة ، وهذه الآثار والعلائم قد تظهر على الوجه أحياناً مثل أن يقطب المتكبّر وجهه في مقابل الآخرين وينظر إليهم بنظرة الاستحقار والمهانة بل قد لا يكون مستعداً لأن يقابلهم بجميع وجهه.

وأحياناً اخرى تظهر علائم هذا الخلق الذميم على كلمات الشخص ، فيتحدّث بعبارات فيها نوع من المبالغة عن نفسه ويذكر نفسه بضمير الجمع بل قد يتغير لحن صوته لدى تحدّثه عن نفسه وعن الآخرين بما يحكي عن حالة الغرور والتكبّر الّتي تعتمل في نفسه.

فتارة يتجلّى الكبر في أن يُبيح لنفسه التحدّث وقطع كلام الآخرين حيثما شاء ولا يسمح للآخرين بالحديث ولا يُصغي لحديثهم ويتوقع منهم الاصغاء لحديثه وكلامه فقط ، ويرى أنّ كلام الآخرين طويلاً مهما قصر وكلامه الطويل والفارغ قصيراً وضرورياً.

وأحياناً يتجلّى التكبّر على حركاته وأعماله وسلوكياته فيحب أن يقف الآخرون تعظيماً له بينما يجلس هو أمامهم ولا يقوم لأحد عند ما يرد عليه.

ونقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قوله :«مَنْ ارَادَ انْ يَنْظُرَ الَى رَجُلٍ مِنْ اهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ الَى رَجُلٍ قَاعِدٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ قَوْمٌ قِيَامٌ» (١) .

وكذلك يحب أن لا يكون وحيداً عند ما يمشي في الشارع وأمام الناس بل يسير معه وخلفه جماعة ، فقد ورد في الحديث الشريف«كَانَ رَسُولُ اللهِ فِي بَعْضِ الْاوْقَاتِ يَمشِي مَعَ الْاصْحَابِ فَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّقَدُّمِ وَيَمْشِي فِي غِمَارِهِمْ» (٢) .

وكذلك يحب المتكبّر أن يأتي الآخرون لرؤيته دون أن يذهب هو لرؤية الآخرين ، ويجتنب الجلوس مع الفقراء والمحتاجين ومن يظهر عليه انه من أهل المستويات الدانية في المجتمع ، ولو انه اتفق له أن سار معه مثل هؤلاء الأشخاص فإنه يسعى جاهداً للتخلّص

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٢٠٦ طبعة الآخوندي.

(٢) مسند الفردوس للديلمي ، مطابق لنقل المحجّة البيضاء ، ج ٦ ، ص ٢٤٧.

٤٢

منهم في أقرب فرصة أو يوحي لهم بالإبتعاد عنه.

ويحب أيضاً أن لا يعمل لأهل بيته شيئاً من السوق بيده ولا يقوم بعمل من أعمال البيت وتقوم زوجته وأولاده وخادمه بإظهار مراتب الخضوع أمامه والسعي لتلبية حوائجه وأطاعة أوامره.

وأحياناً تظهر آثار التكبّر على طريقة لباسه وكيفيّته وخاصّةً في الألبسة الغالية الّتي تجلب الإنتباه أو في مركبه وسيارته أو في ظاهر بيته ووسائل معيشته ، أو في مكان كسبه ومحله وتجارته بل حتّى في لباس أولاده وأقربائه والمنتسبين إليه وطريقة حياتهم حيث يكون هدفه من كلّ ذلك أن يتفاخر على الآخرين بثروته ويبرز إليهم بنقاط قوته ليثبت لهم انه أفضل منهم وأكثر امتيازاً وعنواناً.

وبالطبع فإنّ هذا الكلام لا يعني أن يمتنع الإنسان من لبس الجيّد من الثياب ويلبس الرث منها بل كما ورد في الحديث النبوي الشريف«كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبِسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ» (١) .

وخلاصة الكلام أنّ ظهور هذا الخلق الذميم أي(التكبّر) يمكن أن يستوعب جميع مناحي وشئون حياة الإنسان ولا يمكن أن يبتلي الإنسان بهذه الصفة الرذيلة مهما كانت طفيفة إلّا وظهرت على قسمات وجهه وفي طيّ كلماته وأعماله وسلوكياته.

٧ ـ مفاسد التكبّر وعواقبه الوخيمة

إن هذا الخلق الذميم كما سبقت الإشارة إليه له آثار مخربة جداً وعواقب وخيمة تعرض على روح الإنسان ومعتقداته وأفكاره ، وكذلك تعرض على المجتمع البشري أيضاً بحيث يمكن القول انه ليس هناك جهة من جهات حياة الإنسان الفردية والاجتماعية تقع في أمان من عواقب هذه الصفة الأخلاقية السلبية ، ويمكن الإشارة إلى عدّة موارد منها فيما يلي :

__________________

١ ـ سنن ابن ماجة ، ح ٣٦٠٥.

٤٣

١ ـ التلوث بالشرك والكفر

إنّ أوّل مفسدة وأخطرها هو أن يورث التكبّر صاحبه التلوث بالشرك والكفر ، فهل لكفر إبليس وانحرافه من مسير التوحيد بل حتّى اعتراضه على حكمة الله تعالى وأمره ، له أصل ومصدر غير الكبر في نفس إبليس؟

وهل أنّ الفراعنة والنمروديين وغيرهم من الأقوام الطاغية الّذين رفضوا دعوة الأنبياء كان لهم دافع غير التكبّر؟

أنّ التكبّر لا يبيح للإنسان أن يستسلم ويذعن أمام الحقّ ، لأن التكبّر والغرور هو في الحقيقة حجاب سميك على بصيرة الإنسان فيحجبه عن رؤية جمال الحقّ بل أحياناً يرى ملائكة الحقّ على شكل موجود مخيف وموحش ، وهذا من أعظم الضرر الّذي يلحق بالإنسان من جراء التكبّر ، ولعلّه لهذا السبب ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادقعليه‌السلام عند ما سأله الراوي عن أقل درجة الإلحاد فقال له الإمام«إنَّ الْكِبْرَ ادْنَاهُ» (١) .

٢ ـ الحرمان من العلم والمعرفة

وأحد العواقب المشؤومة للتكبّر هو أنّ الإنسان يحرم نفسه من العلم والمعرفة ويعيش حالة الجهل المركب دائماً لأن الإنسان إنّما يصل إلى حقيقة العلم والمعرفة فيما لو سعى لتحصيلها من أي شخص وأي طريق كما يبحث الشخص عن جوهرة ثمينة والحال أنّ المتكبّر لا يكون مستعداً لتحصيل العلوم والمعارف من الأشخاص الّذين يراهم دونه أو في مرتبته.

الأشخاص الّذين يتحرّكون في سبيل طلب العلم والمعرفة هم الّذي يعيشون التحرر في أفكارهم من القوالب النفسانية في حين أنّ صفة الكبر والغرور لا تسمح للإنسان أن يستوعب مطلباً مهماً.

ولهذا نقرأ في الحديث المعروف عن الإمام الكاظمعليه‌السلام في كلامه لهشام بن الحكم يقول :«إنَّ الزَّرْعَ يَنْبُتُ فِي السَّهْلِ وَلَا يَنْبُتُ فِي الصَّفَا فَكَذَلِكَ الْحِكْمَةُ تَعْمُرُ فِي قَلْبِ الْمُتوَاضِعِ

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ص ٣٠٩ ، باب الكبر ، ح ١.

٤٤

وَلَا تَعْمُرُ فِي قَلْبِ الْمُتَكَبِّرِ الْجَبَّارِ ، لِانَّ اللهَ جَعَلَ التَّوَاضُعَ آلَة الْعَقْلِ وَجَعَلَ التَّكَبُّرُ مِنْ آلَةِ الْجَهْلِ» (١) .

٣ ـ التكبّر المصدر الأساسي للكثير من الذنوب

لو تأملنا في حالات الأشخاص الّذين يعيشون الحسد ، الحرص ، بذاءة اللسان ، والذنوب الاخرى لرأينا أنّ الأصل ومصدر جميع هذه الرذائل الأخلاقية تنشأ من صفة التكبّر ، فهؤلاء لا يجدون في أنفسهم رغبة لرؤية من هو أفضل منهم ، ولهذا فإنّ أيّة نعمة وموهبة وموفقية تكون من نصيب الآخرين فسوف يتعاملون معهم من موقع الحسد.

إن هؤلاء ولغرض توطيد أركان حالة الفوقية لشخصياتهم فإنّهم يحرصون على جمع الأموال والثروات.

ولغرض إظهار العلو على الآخرين يبيحون لأنفسهم تحقيرهم ويلوثون ألسنتهم بأنواع البذاءة في الكلام والسبّ والشتم والهتك لإشباع هذه الحاجة والنقص في أنفسهم ولإطفاء هذه النار المستعرة في وجودهم.

ونقرأ في حديث عن أمير المؤمنين قوله«الْحِرْصُ وَالْكِبْرُ وَالْحَسَدُ دَوَاعٍ الَى تَقَحُّم الذُّنُوبِ» (٢) .

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام عليعليه‌السلام أيضاً أنّه قال :«التَّكَبُّرُ يُظْهِرُ الرَّذِيلَةَ» (٣) .

٤ ـ التكبّر مصدر النفرة والفرقة

إن من البلايا المهمة الّتي ترد على المتكبّرين هو الإنزواء الإجتماعي وتفرّق الناس من حولهم لأن شرف الإنسان وعزّته الذاتية لا تسمح له بالخضوع أمام الأشخاص المغرورين والمتكبّرين والانصياع لأوامرهم ، ولهذا السبب فإنّ الناس وحتّى المقرّبين سوف يتحرّكون بعيداً عن هؤلاء المتكبّرين ، وعلى فرض أنّ الآخرين يجدون أنفسهم مضطرين لمعاشرتهم

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ١ ص ١٥٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الحكمة ٣٧١.

٣ ـ غرر الحكم ، ح ٥٢٣.

٤٥

بسبب الروابط الإجتماعية وبعض الضرورات المعيشية فإنّهم يجدون في أنفسهم التنفر والكراهية لهؤلاء.

ونقرأ في حديث عن الإمام أمير المؤمنين أنّه قال :«مَنْ تَكَبَّرَ عَلَى النَّاسِ ذَلَّ» (١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال :«امْقَتُ النَّاسِ الْمُتَكَبِّرُ» (٢) .

وفي حديث آخر عن الإمام علي أنّه قال :«ثَمَرَةُ الْكِبْرُ الْمَسَبَّةُ» (٣) .

وهذا المضمون ورد أيضاً في حديث عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال :«لَيْسَ لِلْمُتَكَبِّرِ صَدِيقٌ» (٤) .

وقال أيضاً في حديث آخر :«مَا اجْتَلَبَ الْمَقْتَ بِمِثْلِ الْكِبْرِ» (٥) .

٥ ـ التكبّر سبب هدر المواهب الدنيوية

إن كلّ إنسان لا يكون موفقاً في حياته إلّا إذا استطاع جذب تعاون الآخرين وانسجامهم معه من موقع توطيد أواصر المحبة والتعاون المشترك بين الأفراد ، أما الشخص الّذي يعيش الإنزواء ويسلك في حياته ومعيشته الوحدة فإمّا أن يفشل في اطار المعيشة الكريمة أو يكون له نصيب قليل من الموفقية في حركة الحياة ، وبما أنّ التكبر يدفع بالإنسان إلى زاوية الإنزواء والعزلة فإنّ توفيقاته في حركة الحياة الإجتماعية ستكون قليلة بالتبع.

ونقرأ في حديث عن الإمام أمير المؤمنين أنّه قال«بِكَثْرَةِ التَّكَبُّرِ يَكُونَ التَّلَفُ» (٦) أي تلف وهدر عوامل التوفيق وعناصر النجاح في الحياة.

ويمكن تفسير هذا الحديث بشكل آخر وهو أن يقال بأن الكثير من الحروب الدامية والنزاعات المدمرة تنشأ من حالة التكبّر والاستكبار ، فالبعض يستلم زمام الامور في دول

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٢٣٥.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٢٣١.

٣ ـ غرر الحكم ، ح ٤٦١٤.

٤ ـ المصدر السابق ، ح ٧١٦٢.

٥ ـ المصدر السابق ، ح ٧١٦٧.

٦ ـ غرر الحكم ، ح ٧١٦٩.

٤٦

العالم ويريد أن يتحكم ويتسلط على الآخرين من موقع القوّة والقدرة وهذا بدوره يكون سبباً في حصول النزاعات الدموية الكثيرة فتهدر الطاقات وتُسفك الدماء الكثيرة في هذا الطريق وتتحول الديار إلى الخراب الشامل.

وأحياناً يتجلّى التكبّر من خلال القومية والعرقية حيث يرى البعض أنّهم أطهر عرقاً وأسمى قومية من الأقوام الاخرى وهذه النظرة المتعالية تمثل أحد الأسباب المهمة للحروب طيلة التاريخ البشري.

فالنظرة الفوقية والاستعلائية للجنس الآري هو أحد العلل المهمة في حدوث الحروب العالمية الّتي خلفت ملايين القتلى والمجروحين وأتلفت مليارات الثروات والأموال وخلّفت اضراراً لا تحصى.

وخلاصة الكلام أنّه : إذا درسنا الخسائر الّتي تتسبّب بواسطة التكبّر على روح وجسم الإنسان وفي حياته الفردية والاجتماعية لرأينا أنّه ليس هناك صفة من الصفات الذميمة تكون هدّامة ومخربة إلى هذه الدرجة الّتي تنتجها حالة التكبّر في الإنسان.

٨ ـ علاج التكبّر

لقد بحث علماء الأخلاق علاج التكبّر في دراسات مفصلة تدور أغلبها حول محور العلاج بطريقين : العلم والعمل.

أمّا الطريق (العلمي) فيمكن تصويره بأن يتفكر الأشخاص المتكبّرين في أنفسهم أنّهم مَن هم وأين كانوا وإلى أين يذهبون وما هو مصيرهم في النهاية؟

ويتفكّرون كذلك في عظمة الله ويشاهدون أنفسهم أمام قدرة الله المطلقة ورحمته الواسعة.

إن التاريخ مليء بالعِبر والحوادث المثيرة عن مصير الفراعنة والنمروديين والجبابرة من الأكاسرة والقياصرة وأمثالهم بحيث لو أنّ الإنسان قرأ قليلاً من هذه الحوادث والوقائع التاريخية لعلم أنّ الانتصارات والملذات الدنيوية لا تعدّ شيئاً يمكن الاعتماد عليه على

٤٧

مستوى بيان عظمة الإنسان. عند ما يكون الإنسان في أوّله نطفة مهينة وفي آخره جيفة نتنة ويعيش بين هذين عدّة أيّام فلا يعدّ ذلك شيئاً يستحق الفخر والتكبّر والغرور.

إنّ الإنسان في بداية تولده ليس سوى طفل ضعيف جدّاً وعاجز عن كلّ شيء وحتّى انه لا يتمكن من حفظ الماء الملقّى في فمه بشفاهه ، وكذلك عند ما يبلغ سن الشيخوخة يكون ضعيفاً إلى درجة أنّه إذا أراد المسير عدّة خطوات وكان يتمتع بأقدام سالمة فإنه لا يتمكن من ذلك إلّا بأن يستريح كُلما قَطّعَ كلّ عدّة خطوات ويجدد طاقته ثمّ ينهض ليكمل مسيره متوكأً على عصاه وقد احنى الدهر قامته ، ولو لم يكن ذا أقدام سليمة فإمّا أن يكون قد ابتلي ببعض عوارض الشيخوخة الّتي يبتلي بها أكثر الأشخاص فيجب أن يُنقل من جهة إلى اخرى بواسطة الكرسي المتحرك.

ونقرأ في حديث عن الإمام الباقر أنّه قال«عَجَباً لِلْمُخْتَالِ الْفَخُورِ وَانَّمَا خُلِقَ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ يَعُودُ جِيفَةً وَهُوَ فِيَما بَيْنَ ذَلِكَ لَا يَدْرِي مَا يُصْنَعُ بِهِ» (١) .

إذا ذهبنا يوماً إلى المستشفيات ورأينا الكثير من الأقوياء والأصحّاء يرقدون على أسرّة المستشفى بسبب حادثة اصطدام أو مرض معيّن حيث لا قدرة لهم على الحراك ، فندرك حينذاك مقدار قوّة الإنسان وقدرته البدنية الّتي يفخر بها.

ولو نظرنا إلى الأثرياء المعروفين الّذين قد استولى عليهم حالة الإنهيار الاقتصادي والإفلاس المادي بتغير بسيط فتحوّل حالهم من أعلى المقامات إلى أسفل السافلين وحينئذٍ نعلم أنّ الثروة الطائلة ليست شيئاً يعتمد عليه الإنسان ويفتخر به.

ولو نظرنا إلى أصحاب القدرة والسلطة في العالم وكيف أنّهم مع حدوث التغير في الوضع السياسي يسقطون من كراسيهم وعروشهم ويفقدون قدرتهم أو يقبعون خلف قضبان السجن أو يحكم عليهم بالأعدام لرأينا القدرة الظاهرية ليست قابلة للاعتماد والفخر.

إذاً فبأي شيء يفخر الإنسان؟ وكيف يستولي عليه الغرور ويباهي الآخرين ويفتخر عليهم.

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٢٢٩.

٤٨

لقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام انه عند ما وقع نزاع بين سلمان الفارسي وبين شخص مغرور ومتكبّر ، فقال ذلك الشخص لسلمان : مَنْ أنت؟ فقال له سلمان : أما اولاي واولاك فنطفة قذرة ، وأما اخراي واخراك فجيفة منتنة ، فإذا كان يوم القيامة ، ووضعت الموازين ، فمن ثقل ميزانه فهو كريم ، ومن خف ميزانه فهو اللئيم»(١) .

والخلاصة أنّ الإنسان كلّما تفكر وتأمل في هذه الامور أكثر هبط من مركب الغرور والكبر ووجد نفسه من موقع الحقيقة الشاخصة وبعيداً عن الأوهام النفسانية والحالات الشيطانية.

وأما علاج التكبّر على المستوى (العملي) فهو أن يسعى الإنسان في دراسة سلوكيات المتواضعين ويتحرّك مثلهم في تعامله الاجتماعي حتّى تترسخ هذه الفضيلة في أعماق وجوده وتتجذر في واقعه النفساني فيكون متواضعاً أمام الله والناس فيسجد على التراب قائلاً :«لَا الَهَ إلَّا اللهُ حَقّاً حَقّاً سَجَدْتُ لَكَ تَعَبُّداً وَرِقّاً لَا مُسْتَنْكِفاً وَلَا مُسْتَكْبِراً».

وأمثال هذه العبارات.

وكذلك يلبس الملابس البسيطة ويأكل الأطمعة غير الممنوعة ويجلس مع عماله أو خدامه على مائدة واحدة ويتقدّم بالسلام على الآخرين ولا يجلس صدر المجلس ولا يتقدم على الغير في مشيه.

أن يتعامل في علاقاته مع الصغير والكبير من موقع العاطفة الجياشة والمحبّة الصميمية ويجتنب مجالسة المتكبّرين والمغرورين ولا يرى لنفسه أي امتياز على الآخرين ، والخلاصة أن يتحرّك في سلوكه بعلامات التواضع أو يسعى للتظاهر بمظاهر التواضع في البداية في عمله وكلامه وحالاته الاخرى حتّى تصير لديه عادة ثمّ ملكة التواضع.

وجاء في حالات نبي الإسلام أنّه كان يجلس على الأرض ويأكل الطعام ويقول :«إنَّمَا

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ص ٢٣١ ، ح ٢٤.

٤٩

أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ» (١) .

وقد سمعنا الحديث المعروف عن الإمام علي أنّه كان لديه يوماً قميصان اشترى أحدهما بأربعة دراهم والآخر بثلاث دراهم ثمّ قال لغلامه قنبر : اختر أحدهما ، فاختار قنبر القميص الّذي قيمته أربعة دراهم وأختار الإمام ما كان بثلاث دراهم(٢) .

وجاء في خطبة ١٦٠ من نهج البلاغة أنّ الإمام كان يتحدّث عن نبي الإسلام ويقول :

«وَلَقَدْ كَانَ يَأْكُلُ عَلَى الْارْضِ وَيَجْلِسُ جَلْسَةَ الْعَبْدِ وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ وَيَرْكَبُ الْحِمارَ الْعَارِيَ وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ».

وطبعاً هذه الامور وبسبب تغير الظروف الزمانية والمكانية لا تُعتبر معمولاً بها في هذا العصر ولا يوصى باتباعها وسلوكها ، ولكن الهدف هو أننا بمطالعة حالات هؤلاء العظام والتوجّه إلى مقامهم السامي نتعلم التواضع من سلوكياتهم ونُبعد بذلك الكبر والغرور عن ذواتنا وأفعالنا.

هذا كلّه من جهة ، ومن جهة اخرى :

بما أنّ التكبّر له أسباب وعلل مختلفة تمت الإشارة سابقاً إلى سبع علل منها ذكرها علماء الأخلاق ، فلأجل إزالة كلّ واحدة من هذه العلل والأسباب هناك طرق وخطوات عملية وعلمية للتغلب عليها ومعالجتها منها :

الأشخاص الّذين يجدون في أنفسهم افتخاراً على الناس بسبب نسبهم وعراقتهم الاسرية يجب أن يتأمّلوا في هذه الحقيقة وهي أوّلاً : إن افتخارهم بكمالات الآخرين من الآباء والأجداد هو عين الجهل ، فلو أنّ الأب كان إنساناً فاضلاً ولكن الابن يفتقد إلى أدنى فضل وكمال فلا ينتقل كمال الأب وفضله إلى الابن ولا يوجد في الابن قيمة مشهودة ، وثانياً : إذا تأمل جيداً وجد أنّ أباه نطفة وجدّه الأعلى تراباً وهذه الامور ليست ذات قيمة

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٦ ص ٢٥٦.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٦ ص ٣١٠.

٥٠

يفتخر بها الإنسان ويرى لنفسه امتيازاً على الآخرين.

وقد ورد في الحديث الشريف أنّ لقمان الحكيم قال لابنه«يَا بُنَيَّ وَيْلٌ لِمَنْ تَجَبَّرَ وَتَكَبَّرَ ، كَيْفَ يَتَعَظَّمُ مَنْ خُلِقَ مِنْ طِينٍ ، وَالَى طِينٍ يَعُودُ؟ لَا يَدْري الَى مَاذَا يَصِيرُ؟ الَى الْجَنَّةِ فَقَدْ فَازَ أوْ الَى النَّارِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً».

وأمّا الأشخاص الّذين يتملكهم الغرور والتكبّر بسبب جمالهم الظاهري فيجب أن يتأملوا جيّداً أنّهم وبسبب مرض بسيط يصيب الجلد والوجه سيتحول جمالهم الباهر إلى وجه مشوّه وقبيح وحتّى لو لم يصبهم ذلك المرض فإنّهم بعد أعوام قليلة سيصلون إلى مرحلة الشيخوخة حيث يتراكم غبار السنين على وجوههم ويغيّر من ملامحه الجميلة ويحني قامتهم المستقيمة ويدبُ في مفاصلهم العجز والضعف فإذا كان ذلك الشيء المورث للفخر زائلاً بهذه السرعة ، فكيف يكون سبباً للغرور والتفوق والتكبّر على الآخرين؟

وإذا كان سبب التكبّر هو قوته البدنية وقدرته الجسمانية فيجب أن لا ينسى انه قد يصاب أحياناً بعارضة قلبية صغيرة أو سكتة دماغية تكون نتيجتها أن يصاب قسم من بدنه بالشلل والعجز عن الحركة تماماً بحيث لا يتمكن من دفع حتّى ويتوقف الذباب عن نفسه ولو أصابه شوكة أو وخزته ابرة لا يتمكن من إخراجها أو التخلص منها لوحده.

وأمّا لو كان سبب التكبّر هو الثروة وكثرة المال والأعوان والأنصار فيجب أن يعلم أوّلاً : أنّ هذه الامور خارجة عن وجود الإنسان ولا تمثل شيئاً من ذاته وحينئذٍ لا تكون من عناصر الفخر والمباهاة ، فكيف يفتخر الإنسان بشخصيته وعزّته الذاتية بامور من قبيل السيارة أو البيت أو الحصان وأمثال ذلك؟ وكيف يتصور شرفه وكرامته في مثل هذه الامور المادية والأجنبية عن ذاته؟ هذه الامور يمكنها أن يمتلكها اللئيم من الناس واوضعهم نسباً وشرفاً ، الامور الّتي يستطيع اللصوص بكلّ سهولة سرقتها منه فما أهون الشرف الّذي يستطيع اللصوص سرقته فيفتقده صاحبه بين عشية وضحاها.

ومضافاً إلى ذلك فنحن نعلم أنّ الأموال والثروات الدنيوية تنتقل من يد إلى يد دائماً فالثروات الطائلة لدى الأغنياء قد تكون يوماً من نصيب الفقراء ويسكن أصحاب القصور

٥١

يوماً في الأكواخ.

فمثل هذا الشيء بمثل هذا القدر من التزلزل والاهتزاز كيف يمكنه أن يكون عنصر الافتخار للإنسان وسبباً لغفلته عن مصيره وكمالاته المعنوية في حركة الإنسان والحياة؟

وإذا كان سبب الكبر والغرور هو العلم الكثير ومع الأسف يُعتبر هذا من أقبح الآفات النفسانية الّتي تصيب الإنسان وبهذه النسبة يكون علاجه أصعب وأعقد من العلل الاخرى وخاصة مع ورود الكثير من الآيات والروايات في فضل العلم والتعلم حيث يمكن أن يصاب الإنسان بالغرور والكبر بعد قرائتها ومطالعتها ، فيجب أن يتفكر أصحاب العلم والمعرفة أنّ القرآن الكريم وفي الآية (٥) من سورة الجمعة قد شبّه العلماء الّذين لا يتحركون على مستوى تطبيق علمهم في ممارساتهم وسلوكياتهم ، شبّههم بالحمار الّذي يحمل الكتب والأسفار على ظهره( كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ) .

وأيضاً يتفكر في أنّ الشخص العالم ستكون مسؤوليته ثقيلة بنفس نسبة علمه إلى الآخرين ويمكن أن يغفر الله تعالى للجاهل سبعين ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد كما ورد في الروايات الشريفة.

ولا ينبغي أن ننسى أنّ حسابهم يوم القيامة أصعب وأشد من حساب الآخرين ، فكيف والحال هذه يكون العلم هذا سبباً للمباهات والافتخار على الغير؟

وأخيراً إذا كان سبب التكبّر هو العبادة وطاعة الله تعالى فيجب على هذا الإنسان أن يتفكر في أنّ الله لا يقبل من العبادة ما كان خليطاً بالعجب والكبر ويعلم أنّ الجاهل النادم أقرب إلى النجاة من العابد المغرور.

هذا ولا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ قبول العبادة مشروط بأن يرى الإنسان في نفسه الحقارة والدونية مقابل عظمة الله وقدرته وفضله على العباد ولو انه جاء بجميع عبادات الجن والأنس لوجد أنّ عليه أن يعيش الخوف والخشية من الله تعالى ولا يغفل عن ذلك طرفة عين.

٥٢

٩ ـ الاختبارات العلاجية

سبق وأن قلنا إن الأمراض الأخلاقية تشبه إلى حد كبير الأمراض البدنية وأنّ المقارنة بين هاتين الظاهرتين كفيل بحل الكثير من المشاكل ، ومنها أنّ الطبيب في الأمراض البدنية وبعد معالجة المريض يرسله مرّة اخرى إلى المختبر ليتأكد من شفائه الكامل ، ولو انه رأى بعض آثار المرض لا زالت في بدنه فإنه يستمر في علاجه حتّى يحصل المريض على الشفاء الكامل.

وقد استخدم علماء الأخلاق في مناهجهم وتعليماتهم الأخلاقية لعلاج الأمراض الخطرة مثل(التكبّر) هذا المنهج أيضاً بحيث إن الإنسان عند ما يتحرّك في سبيل علاج التكبّر ولأجل الاطمئنان من قلعه تماماً من وجوده ونفسه يجب أن يعرض على نفسه بعض الامور ويمتحنها لكي يطمئن إلى زوال جذور هذا المرض من أعماق نفسه.

وقد ذكر الفيض الكاشاني بالاستفادة من (احياء العلوم) للغزالي تجارب في هذا المجال ملفتة للنظر :

الامتحان الأوّل : أن يناظر في مسألة مع واحد من أقرانه فإنّ ظهر شيء من الحق على لسان صاحبه فثقل عليه قبوله والانقياد له والاعتراف به والشكر له على تنبيهه وتعريفه وإخراجه الحقّ فذلك يدل على أنّ فيه كبراً دفيناً.

الامتحان الثاني : أن يجتمع مع الأقران والامثال في المحافل ويقدمهم على نفسه ويمشي خلفهم ويجلس في الصدور تحتهم ، فإنّ ثقل ذلك عليه فهو متكبر فليواظب عليه تكلّفاً حتّى يسقط عنه ثقله فبذلك يزايله الكبر ، وهاهنا للشيطان مكيدة وهي أن يجلس في صف النعال أو يجعل بينه وبين الأقران بعض الاراذل فيظن أنّ ذلك تواضع وهو عين الكبر فإنّ ذلك يخف على نفوس المتكبرين إذ يوهمون أنّهم إنما تركوا مكانهم بالاستحقاق والتفضل فيكون قد تكبر ، وتكبر بإظهار التواضع أيضاً ، بل ينبغي أن يقدم أقرانه ويجلس تحتهم ولا ينحط عنهم إلى صف النعال فذلك هو الّذي يخرج خبث الكبر من الباطن.

الامتحان الثالث : أن يجيب دعوة الفقير ويمر إلى السوق في حاجة الرفقاء والأقارب فإنّ ثقل ذلك عليه فهو كبر فإنّ هذه الأفعال من مكارم الأخلاق والثواب عليها جزيل فنفور

٥٣

النفس عنها ليس إلّا لخبث في الباطن فليشتغل بإزالته بالمواظبة عليه مع تذكر جميع ما ذكرناه من المعارف الّتي تزيل داء الكبر.

الامتحان الرابع : أن يحمل حاجة نفسه وحاجة أهله ورفقائه من السوق إلى البيت فإنّ أبت نفسه ذلك فهو كبر أو رياء فإنّ كان يثقل ذلك عليه مع خلو الطريق فهو كبر فإنّ كان يثقل إلّا عند مشاهدة الناس فهو رياء وكل ذلك من أمراض القلب وملله المهلكة له إن لم تتدارك.

أقول ليس كل رياء مذموماً بل قد يكون مستحباً بل واجباً إذ يجب على المؤمن صيانة عرضه وأن لا يفعل ما يعاب عليه فلا يليق بذوي المروات أن يرتكبوا الامور السيئة بأنفسهم عند مشاهدة الناس وإن جاز لهم في الخلوة إلّا أنّ ذلك يختلف باختلاف الأزمنة والبلاد والأشخاص فلا بدّ من مراعاة ذلك ، روي في الكافي عن الصادقعليه‌السلام : «أنّه نظر إلى رجل من أهل المدينة قد اشترى لعياله شيئاً وهو يحمله ، فلما رآه الرجل استحى منه ، فقالعليه‌السلام : اشتريته لعيالك وحملته إليهم أما والله لو لا أهل المدينة لأحببت أن أشتري لعيالي الشيء ثم أحمله إليهم». أرادعليه‌السلام لو لا مخافة أن يعيبوا على ذلك ، مع أنّ جدّه أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يفعل مثله إلّا أنّه لما لم يعيبوا عليه بمثله في زمانه وفي شأنه جاز له أن يرتكبه وكان منقبة له وتعليماً.

الامتحان الخامس : أن يلبس ثياباً بذلة فإنّ نفور النفس عن ذلك في الملأ رياء وفي الخلو كبر ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ومن اعتقل البعير ولبس الصوف فقد برئ من الكبر»(١) .

ولكن لا ينبغي أن يكون الدافع لذلك هو التظاهر بالتواضع فإنّ ذلك بنفسه نوع من الكبر المقترن مع الرياء والشرك الخفي.

ونكرر مرةً اخرى بأن هذه الامور تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والاشخاص. ولا بدّ من الأخذ بنظر الاعتبار جميع هذه الظروف والعمل طبق مقتضياتها وما يناسبها من دون التورط في حبائل النفس وخدع الشيطان ، ولذلك ينبغي الاستفادة أيضاً من حكم الآخرين وآرائهم.

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٦ ، ص ٢٦٨ ، ح ٢٧٠ بتلخيص.

٥٤

وهنا نثير هذا السؤال وهو أنّه لماذا يهتم الناس كثيراً بالصحة البدنية والطب الجسماني ويتحركون في طلب الدواء والعلاجات ليطمئنوا على سلامتهم البدنية. والحال أنّهم لا يعيشون ذلك الاهتمام بأمر الطب الروحاني والأخلاقي الّذي يضمن لهم سعادتهم الاخروية في الحياة الباقية كما هو مدلول الآية الشريفة : «إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم».

٥٥
٥٦

٢

التواضع

تنويه :

من الواضح أنّ التواضع يشكل النقطة المقابلة للتكبّر والغرور ، ومن العسير الفصل الكامل بين هذين البحثين ، ولذلك نجد أنّ هذين البحثين متلازمين في الآيات والروايات الإسلامية وكذلك في كلمات علماء الأخلاق ، فإنّ ذم أحدهما يلازم مدح الآخر ، وكذلك العكس فإنّ عملية التمجيد والثناء على التواضع يستلزم كذلك ذم التكبّر ، وهذا من قبيل مدح العلم والثناء على العالم والمتعلم الّذي يقترن دائماً مع ذمّ الجهل وتوبيخ الجاهل.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا الكلام لا يعني أنّ بحثنا المتعلق بالتواضع هذا سيكون في زاوية النسيان ونكتفي بذم التكبّر وبيان قبائح وعواقب هذه الصفة الذميمة لا سيّما أن بين التكبّر والتواضع نسبة الضدّين. لا النقيضين أي أنّ التكبّر كما انه صفة وجودية فكذلك التواضع صفة وجودية نفسانية أيضاً ويقعان على الضد من الآخر في واقع الإنسان ونفسه ، وليسا من قبيل الوجود والعدم الّذي يستلزم بالضرورة وجود أحدهما عدم الآخر بالتبع.

وفي الروايات الإسلامية نجد إشارة إلى هذا المعنى أيضاً ومن ذلك قول الإمام عليعليه‌السلام :«ضَادُّوا الْكِبْرَ بِالتَّواضُعِ» (١) .

__________________

١ ـ تصنيف غرر الحكم ، ح ٥١٤٨ ، ص ٢٤٩ ، وشرح غرر الحكم ، ص ٢٣٢ ، رقم ٥٩٢٠.

٥٧

مع هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته ما يتعلق بمسألة التواضع ونختار منها ما يُلقي الضوء على هذا البحث المهم رغم وجود آيات كثيرة تبحث هذا الموضوع بالكناية أو بالملازمة.

١ ـ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ) (١)

٢ ـ( وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) (٢) .

٣ ـ( وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (٣) .

تفسير واستنتاج :

«الآية الاولى» من الآيات مورد البحث تتحدّث عن مجموعة من المؤمنين الّذين شملتهم رعاية الله وعنايته فكانوا يحبون الله ويحبهم ، وإحدى الصفات البارزة لهؤلاء أنّهم يتعاملون مع أخوانهم المؤمنين من موقع التواضع والمودّة( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) وكذلك في المقابل( أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

(اذِلَّةٍ) جمع«ذلول» و«ذليل» ، ومن مادة«ذُل» على وزن حُر ، وهي في الأصل بمعنى الملائمة والتسليم والليونة والانعطاف في حين أنّ كلمة«اعِزَّة» جمع«عزيز» ومن مادّة«عزة» وتأتي بمعنى الشدّة والصلابة ، ويقال للحيوانات المطيعة«ذلول» لأنها ملائمة ومسلّمة للإنسان ، و«تذليل» في الآية الشريفة«ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً» إشارة إلى هذا المعنى ، وهو سهولة اقتطاف ثمارها ثمار الجنّة ، وأحياناً تُستخدم كلمة«ذِلّة» في موارد سلبية وذلك إذا واجه الإنسان موقفاً يُجبر فيه على شيء من غيره ، وإلّا فإنّ المعنى السلبي لهذه الكلمة لا

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية ٥٤.

٢ ـ سورة الفرقان ، الآية ٦٣.

٣ ـ سورة الشعراء ، الآية ٢١٥.

٥٨

يوجد في بطنها ومفهومها في الأصل.

وعلى أيّة حال فإنّ الآية الشريفة تدل بوضوح على أهمية التواضع وسمو مقام المتواضعين ، ذلك التواضع الّذي ينبع من أعماق الإنسان ويمتد إلى وجدانه ليذيع في النفس احترام الطرف الآخر المؤمن ويتحرّك معه من موقع المودّة والتسليم والانعطاف مع الطرف الآخر.

في«الآية الثانية» نجد إشارة أيضاً إلى الصفات البارزة والفضائل الأخلاقية لجماعة من عباد الله تعالى الّذين وصلوا في سلوكهم المعنوي إلى مرتبة عالية من الكمال الإنساني والإلهي ، حيث نقرأ في آيات سورة الفرقان من الآية ٦٣ إلى الآية ٧٤ اثنا عشر فضيلة مهمة وكبيرة لهؤلاء الأشخاص ، والملفت للنظر أنّ أول صفة تذكرها الآية لهؤلاء هي صفة التواضع ، وهذا يدلّ على أنّ التكبّر كما يمثل أخطر الرذائل الأخلاقية فكذلك التواضع يمثل أهم الفضائل الأخلاقية في واقع الإنسان وحركته الإجتماعية والمعنوية حيث تقول الآية( وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) .

(هون) مصدر بمعنى الهدوء والليونة والتواضع ، واستعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل هنا لغرض التأكيد ، أي أنّهم يعيشون التواضع والهدوء إلى درجة وكأنهم عين التواضع ، ولهذا السبب تستمر الآية في سياقها بالقول( وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) ؛ أي لو واجههم الجهلاء والأراذل من الناس من موقع الشتيمة والكلام الباطل فإنّ جوابهم لا يكون إلّا بعدم الاعتناء وغض الطرف من موقع عظمة شخصيتهم وكِبَر نفوسهم.

وفي الآية الّتي تليها وبعد أن يتم الحديث عن التواضع مع الآخرين من الناس يتحدّث القرآن الكريم عن تواضعهم أمام الله تعالى ويقول( وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً ) .

ويقول الراغب في كتابه«مفردات القرآن» : الهوان على وجهين ،أحدهما : تذلل الإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة ، فيمدح به (ثم يورد الآية محل البحث) ونحو ما روي عن

٥٩

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«المؤمن هيّن ليّن» (١) . الثاني : أن يكون عن جهة متسلِّط مستخف به فيذمّ به(٢) .

ولا يخفى أنّ المقصود بقوله :( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) ليس هو المشي في حالة التواضع فحسب ، بل المقصود نفي كلَّ نوع من التكبّر والأنانية والسلوكيات السلبية النابعة من حالة التكبّر السلبية والّتي تتجلّى في أعمال الإنسان وأفعاله الاخرى ، وذكرت الآية المشي باعتباره نموذج عملي للدلالة على وجود التواضع كملكة نفسانية لدى هؤلاء ، لأن الملكات الأخلاقية تتجلّى دائماً على كلمات الإنسان وحركاته الخارجية إلى درجة أنّه في الكثير من الحالات يُستدل على وجود أنواع من الصفات الأخلاقية في الشخص بواسطة المشي.

أجل فإنّ أول صفة لعباد الرحمن هي التواضع الّذي يملأ وجودهم وينفذ إلى أعمال نفوسهم فيتجلّى ويظهر على حركاتهم وسكناتهم وكلماتهم ، وعند ما نرى أنّ الله تعالى في الآية ٣٧ من سورة الإسراء يأمر نبيه الكريم بالقول «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً » فالمقصود ليس هو النهي عن حالة المشي بصورة معينة ، فحسب بل الهدف هو غرس التواضع في جميع الحالات والسلوكيات الاخرى والّذي يُعد علامة على عبودية الله تعالى.

«الآية الثالثة» تخاطب النبي الأكرم وتقول( وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

«خفض» على وزن«كرب» هو في الأصل بمعنى السحب إلى الاسفل ، وعليه فجملة( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ ) كناية عن التواضع المقرون بالمحبة والحنان كما هو حال الطائر الّذي يفتح جناحه ويضم إليه فراخه إظهاراً للمحبّة وبدافع الحنان ولصونهم من الأخطار المحتملة وحفظهم من التفرّق ، وعلى هذا الأساس فإنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مأمور بأن يتحرّك من هذا الموقع ليحفظ المؤمنين تحت جناحه وظلّه.

وهذا التعبير جميل جدّاً ومليء بالمعاني والنكات الدقيقة الّتي جُمعت في جملة واحدة.

__________________

١ ـ كنز العمال ، ح ٦٩٠.

٢ ـ مفردات الراغب ، مادة (هون).

٦٠