وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء ١

مؤلف: نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الناشر: دار الكتب العلميّة
تصنيف: مكتبة الحديث وعلومه
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: 293
مؤلف: نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الناشر: دار الكتب العلميّة
تصنيف: مكتبة الحديث وعلومه
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: 293
وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى
الجزء الأول
تأليف
نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد ولد آدم محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمّا بعد.
فهذا كتاب في تاريخ المدينة المنوّرة مدينة الرسولصلىاللهعليهوسلم ، وهو كتاب اختصره مؤلّفه من كتاب آخر له بعنوان «اقتفاء الوفا بأخبار دار المصطفىصلىاللهعليهوسلم ».
اختصره مع توسّط غير مفرط كما يقول في مقدمة الكتاب.
وقد رتّبه على ثمانية أبواب مفصّلة في المقدمة.
وإذ نعيد ـ في دار الكتب العلمية ـ نشر هذا الكتاب ، نشير إلى أنّنا لم نثقل حواشيه إلا بما دعت الضرورة إليه ، كضبط الغريب وشرحه ، وتخريج الآيات الكريمة ، وبعض التعاليق الموجزة ، ووضع بعض العناوين الفرعية.
راجين من الله سبحانه وتعالى أن يجعل عملنا هذا في سجلّ حسناتنا ، وأن ينفع به القرّاء الكرام ، إنه على كل شيء قدير.
والحمد لله أولا وآخرا.
ترجمة المصنّف(١)
هو الإمام الحجّة نور الدين أبو الحسن علي بن عبد الله بن أحمد الحسني الشافعي السمهودي. مؤرخ المدينة المنوّرة ومفتيها.
ولد في سمهود (بصعيد مصر) سنة ٨٤٤ ه (١٤٤٠ م) ونشأ في القاهرة ، واستوطن المدينة سنة ٨٧٣ ه.
من مؤلفاته :
وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفىصلىاللهعليهوسلم : وهو الكتاب الذي بين أيدينا.
خلاصة الوفاء : اختصر به الأول.
جواهر العقدين : في فضل العلم والنسب.
الفتاوى : وهي مجموع فتاواه.
الغماز على اللماز : رسالة في الحديث.
درّ السموط : رسالة في شروط الوضوء.
الأنوار السنية في أجوبة الأسئلة اليمنية.
العقد الفريد في أحكام التقليد.
وغيرها.
توفي السمهودي في المدينة المنورة سنة ٩١١ ه (١٥٠٦ م).
__________________
(١) انظر الأعلام للزركلي ٤ / ٣٠٧.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وبه نستعين ، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.
خطبة المؤلف
أما بعد : حمد الله على آلائه(١) ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف أنبيائه ، وعلى آله وأصحابه وأصفيائه ؛ فقد سألني من طاعته غنم ، ومخالفته غرم ، أن أختصر تأليفي المسمى ب «اقتفاء الوفا ، بأخبار دار المصطفى» ـصلىاللهعليهوسلم ! وزاده شرفا وفضلا لديه! ـ اختصارا مع توسط غير مفرط ، هذا مع كونه بعد لم يقدّر إتمامه بتكامل أقسامه ؛ لسلوكي فيه طريقة الاستيعاب ، وجمع ما افترق من معاني تلك الأبواب ، وتلخيص مقاصد جميع تواريخ المدينة التي وقفت عليها ، وإضافة ما اقتضى الحال أن يضاف إليها ، مع عروض الموانع ، وترادف الشواغل والقواطع ، فأجبته إلى سؤاله ؛ لما رأيت من شغفه(٢) بذلك وإقباله ، مع ما رأيت في ذلك من الإتحاف بأمور لا توجد في غيره من المختصرات بل ولا المبسوطات ، سيما فيما يتعلق بأخبار الحجرة الشريفة ، ومعالمها المنيفة ، فإني قد استفدته عيانا ، وعلمت أخبارها إيقانا ، بسبب ما حدث في زماننا من العمارة التي سنشير إليها ، ونقف في محلها عليها ؛ لاشتمالها على تجديد ما كاد أن يهي(٣) في الحجرة الشريفة من الأركان ، وإحكام ما أحاط بها من البنيان. وتشرفت بالخدمة في إعادة بنيانها ، وتجنبت شهود نقض أركانها ، وحظيت بالوقوف على عرصتها ، وتمتعت بانتشاق(٤) تربتها ، ونعمت العين بالاكتحال بأرضها الشريفة ، ومحال الأجساد المنيفة ، فامتلأ القلب حياء ومهابة ، واكتسى من ثياب الذال أثوابه ، هذا وقد جبلت القلوب(٥) على الشغف بأخبار هذا المحل وأحواله ، كما هو دأب كل محب مغرم واله(٦) ، ولله درّ القائل :
__________________
(١) الآلاء : جمع الألى أي النعم.
(٢) شغف به : أحبه وأولع به».
(٣) يهي : يسقط.
(٤) انتشق تربتها : شم تربتها.
(٥) جبل الله الخلق : خلقهم وطبعهم. وفي الأثر : «جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها».
(٦) الواله : الذي اشتد حنينه حتى ذهب عقله.
أملياني حديث من سكن الجز |
ع ولا تكتباه إلا بدمعي |
|
فاتني أن أرى الدّيار بطرفي |
فلعلّي أرى الديار بسمعي |
ولعمري إن الاعتناء بذاك وضبطه وإفادته من مهمّات الدين ، وإن النظر فيه مما يزيد في الإيمان واليقين ؛ لما فيه من معرفة معاهد دار الإيمان ، ونشر أعلامها المرغمة للشيطان ، وتذكر آياتها الواضحة التبيان ، والمرجو من الله تعالى أن يكون كتابنا هذا تحفة لمحبّي دار الأبرار ، ومن سكن بها من الأخيار ، ووفد عليها من الوفّاد ، وقد بذلت الجهد في تهذيبه وتقريبه ، رجاء دعوة تمحو الأوزار(١) ، وتقيل العثار ، ونظرة قبول من المصطفى المختار ،صلىاللهعليهوسلم وعلى آله الأطهار ، وصحابته الأخيار!
وسميته «وفاء الوفا ، بأخبار دار المصطفى»صلىاللهعليهوسلم ، وشرف وعظم!
ورتّبته على أبواب :
أبواب الكتاب
الباب الأول : في أسماء هذه البلدة الشريفة.
الباب الثاني : في فضائلها ، وبدء شأنها ، وما يؤول إليه أمرها ، وما يتعلق بذلك ، وفيه ستة عشر فصلا : الأول : في تفضيلها على غيرها من البلاد ، الثاني : في الحث على الإقامة بها ، والصبر على لأوائها(٢) وشدتها ، وكونها تنفي الخبث والذنوب ، ووعيد من أرادها وأهلها بسوء أو أحدث بها حدثا أو آوى محدثا ، الثالث : في الحديث على حفظ أهلها وإكرامهم ، والتحريض على الموت بها ، واتخاذ الأصل ، الرابع : في بعض دعائهصلىاللهعليهوسلم لها ولأهلها ، وما كان بها من الوباء ، ودعائه بنقله ، الخامس : في عصمتها من الدجال والطاعون ، السادس : في الاستشفاء بترابها وتمرها ، السابع : في سرد خصائصها ، الثامن : في صحيح ما ورد في تحريمها ، التاسع : في بيان عير وثور اللذين وقع تحديد الحرم بهما ، العاشر : في أحاديث أخر تقتضي زيادة الحرم على ذلك التحديد وأنه مقدر ببريد ، الحادي عشر : في بيان ما في هذه الأحاديث من الألفاظ المتعلقة بالتحديد ، ومن ذهب إلى مقتضاها ، الثاني عشر : في حكمة تخصيص هذا المقدار المعين بالتحريم ، الثالث عشر : في أحكام هذا الحرم الكريم ، الرابع عشر : في بدء شأنها ، وما يؤول إليه أمرها ، الخامس عشر : فيما ذكر من وقوع ما ورد من خروج أهلها وتركهم لها ، السادس عشر :
__________________
(١) الأوزار : جمع وزر : الذنب. و ـ الحمل الثقيل.
(٢) اللأواء : ضيق المعيشة. و ـ شدة المرض.
في ظهور نار الحجاز التي أنذر بها النبيصلىاللهعليهوسلم فظهرت من أرضها ، وانطفائها عند وصولها إلى حرمها.
الباب الثالث : في أخبار سكانها في سالف الزمان ، ومقدمهصلىاللهعليهوسلم إليها ، وما كان من أمره بها في سني الهجرة ، وفيه اثنا عشر فصلا. الأول : في سكانها بعد الطوفان ، وما ذكر في سبب سكنى اليهود بها ، وبيان منازلهم ، الثاني : في سبب سكنى الأنصار بها ، الثالث : في نسبهم ، الرابع : في ظهورهم على اليهود ، وما اتفق لهم مع تبّع ، الخامس : في منازلهم بعد إذلال اليهود ، وشيء من آطامهم(١) وحروبهم ، السادس : في ما كان بينهم من حرب بغاث ، السابع : في مبدأ إكرام الله لهم بهذا النبي الكريم ، وذكر العقبة الصغرى ، الثامن : في العقبة الكبرى وما أفضت إليه(٢) ، التاسع : في مبدأ هجرتهصلىاللهعليهوسلم ، العاشر : في دخولهصلىاللهعليهوسلم أرض المدينة وتأسيس مسجد قباء ، الحادي عشر : في قدومه باطن المدينة المنيفة ، وسكناه بدار أبي أيوب الأنصاري ، وخبر هذه الدار ، ومؤاخاته بين المهاجرين والأنصار ، الثاني عشر : في ما كان من أمرهصلىاللهعليهوسلم في سنين الهجرة.
الباب الرابع : فيما يتعلق بأمور مسجدها الأعظم ، والحجرات المنيفات ، وما كان مطيفا بها من الدور والبلاط ، وسوق المدينة ، ومنازل المهاجرين ، واتخاذ السور ، وفيه سبعة وثلاثون فصلا : الأول : في أخذهصلىاللهعليهوسلم لموضع مسجده الشريف ، وكيفية بنائه ، الثاني : في ذرعه وحدوده التي يتميز بها عن سائر مسجده اليوم ، الثالث : في مقامه الذي كان يقوم به قبل تحويل القبلة وبعده ، وما جاء في تحويلها ، الرابع : في خبر الجذع ، واتخاذ المنبر ، وما اتفق فيه ، الخامس : في فضل المسجد الشريف ، السادس : في فضل المنبر المنيف والروضة الشريفة ، السابع : في الأساطين(٣) المنيفة ، الثامن : في الصّفّة وأهلها ، وتعليق الأقناء(٤) لهم بالمسجد ، التاسع : في حجرهصلىاللهعليهوسلم ، وبيان إحاطتها بمسجده إلا من جهة المغرب ، العاشر : في حجرة ابنته فاطمةرضياللهعنها ، الحادي عشر : في الأمر بسد الأبواب ، وبيان ما استثنى من ذلك ، الثاني عشر : في زيادة عمررضياللهعنه في المسجد ، الثالث عشر : في البطيحاء التي بناها بناحيته ، ومنعه من إنشاد الشعر ورفع الصوت فيه ، الرابع عشر : في زيادة عثمانرضياللهعنه ،
__________________
(١) الآطام جمع الأطم : الحصن.
(٢) أفضت إليه : النتائج التي ترتبت عليه.
(٣) الأساطين مفردها الأسطوانة : العمود. و ـ السارية.
(٤) الأقناء جمع قنو : العذق بما فيه من الرطب.
الخامس عشر : في المقصودة التي اتخذها به ، السادس عشر : في زيادة الوليد على يد عمر بن عبد العزيز ، السابع عشر : فيما اتخذه عمر فيها من المحراب والشرفات والمنارات والحرس ، ومنعهم من الصلاة على الجنائز فيه ، الثامن عشر : في زيادة المهدي ، التاسع عشر : فيما كانت عليه الحجرة المنيفة الحاوية للقبور الشريفة في مبدأ الأمر ، العشرون : في عمارتها بعد ذلك ، والحائز الذي أدير عليها ، الحادي والعشرون : فيما روي في صفة القبور الشريفة بها ، وأنه بقي هناك موضع قبر لعيسى عليه الصلاة والسلام ، وتنزل الملائكة حافين بالقبر الشريف ، وتعظيمه ، والاستسقاء به ، الثاني والعشرون : فيما ذكر من صفتها وصفة الحائز الدائر عليها ، وما شاهدناه مما يخالف ذلك ، الثالث والعشرون : في عمارة اتفقت بها بعد ما تقدم ، على ما نقله بعضهم ، وما نقل من الدخول إليها وتأزيرها بالرخام ، الرابع والعشرون : في الصندوق الذي في جهة الرأس الكريم والمسمار الفضة المواجه للوجه الشريف ، ومقام جبريلعليهالسلام ، وكسوة الحجرة وتحليتها ، الخامس والعشرون : في قناديلها ومعاليقها ، السادس والعشرون : في الحريق الأول القديم المستولي على تلك الزخارف المحدثة بها وبالمسجد وسقفها وما أعيد من ذلك ، السابع والعشرون : في اتخاذ القبة الزرقاء تمييزا للحجرة الشريفة والمقصورة الدائرة عليها ، الثامن والعشرون : في عمارتها المتجدّدة في زماننا ، على وجه لم يخطر قط بأذهاننا ، وما حصل من إزالة هدم الحريق من ذلك والمحل الشريف ، ومشاهد وضعه المنيف ، وتصوير ما استقر عليه أمر الحجرة ، التاسع والعشرون : في الحريق الحادث في زماننا بعد العمارة السابقة ، وما ترتب عليه ألحقته هنا مع إلحاق ما تقدمت الإشارة إليه في الفصول ؛ لحدوثه بعد الفراغ من مسوّدة كتابنا هذا ، وفي آخره خاتمة فيما نقل من عمل نور الدين الشهيد لخندق مملوء من الرصاص حول الحجرة ، الثلاثون : في تحصيب المسجد(١) ، وأمر البزاق فيه ، وتخليقه(٢) ، وإجماره ، وشيء من أحكامه ، الحادي والثلاثون : فيما احتوى عليه من الأروقة والأساطين والبلوعات والسقايات والحواصل ، وغير ذلك ، الثاني والثلاثون : في أبوابه وخوخاته ، وما يميّزها من الدور المحاذية لها ، الثالث والثلاثون : في خوخة آل عمررضياللهعنه ، الرابع والثلاثون : فيما كان مطيفا به من الدور ، الخامس والثلاثون : في البلاط وما حوله من منازل المهاجرين ، السادس والثلاثون : في سوق المدينة ، السابع والثلاثون : في منازل القبائل من المهاجرين ، وما حدث من اتخاذ السور.
__________________
(١) حصّب المسجد : فرشه بصغار الحصى.
(٢) الخلاق : ضرب من الطيب ، أعظم أجزائه الزعفران. إجماره : تبخيره بالمجمر.
الباب الخامس : في مصلّى النبيصلىاللهعليهوسلم في الأعياد ، وغير ذلك من مساجد المدينة التي صلى فيها النبيصلىاللهعليهوسلم أو جلس مما علمت عينه أو جهته ، وفضل مقابرها ، ومن سمي ممن دفن بها ، وفضل أحد والشهداء به ، وفيه سبعة فصول : الأول : في مصلّى الأعياد ، الثاني: في مسجد قباء ، وخبر مسجد الضرار ، الثالث : في بقية المساجد المعلومة العين في زماننا ، الرابع : فيما علمت جهته من ذلك ، ولم يعلم عينه ، الخامس : في فضل مقابرها ، السادس : في تعيين بعض من دفن بالبقيع من الصحابة وأهل البيت رضوان الله عليهم ، والمشاهد المعروفة بها ، السابع : في فضل أحد والشهداء به.
الباب السادس : في آبارها المباركات ، والعين والغراس والصدقات ، التي هي للنبيصلىاللهعليهوسلم منسوبات ، وما يعزى إليه(١) من المساجد التي صلّى فيها في الأسفار والغزوات ، وفيه خمسة فصول : الأول : في الآبار المباركات ، وفيه تتمة في العين المنسوبة للنبيصلىاللهعليهوسلم والعين الموجودة في زماننا ، الثاني : في صدقاتهصلىاللهعليهوسلم وما غرسه بيده الشريفة ، الثالث : فيما ينسب إليه من المساجد التي بين مكة والمدينة بالطريق التي كان يسلكهاصلىاللهعليهوسلم الرابع : في بقية المساجد التي بينهما بطريق ركب الحاج في زماننا ، وطريق المشيان ، وما قرب من ذلك ، الخامس : في بقية المساجد المتعلقة بغزواته وعمرهصلىاللهعليهوسلم .
الباب السابع : في أوديتها وأحمائها(٢) وبقاعها وجبالها وأعمالها ومضافاتها ، ومشهور ما في ذلك من المياه والأودية ، وضبط أسماء الأماكن المتعلقة بذلك ، وفيه ثمانية فصول : الأول : في فضل وادي العقيق وعرصته وحدوده ، الثاني : فيما جاء في إقطاعه وابتناء القصور به وطريق أخبارها ، الثالث : في العرصة وقصورها ، وشيء مما قيل فيها وفي العقيق من الشعر ، الرابع : في جماواته ، وأرض الشجرة ، وثنية الشريد ، وغيرها من جهاته ، وفيه خاتمة في سرد ما يدفع فيه من الأودية وما به من الغدران ، الخامس : في بقية أودية المدينة ، السادس : فيما سمي من الأحماء ومن حماها وشرح حال حمى النبيصلىاللهعليهوسلم بالنقيع ، السابع : في شرح بقية الأحماء ، وأخبارها ، الثامن : في بقاع المدينة وأعراضها وأعمالها ومضافاتها وأنديتها وجبالها وتلاعها(٣) ، ومشهور ما في ذلك من الآبار والمياه والأودية ، وضبط أسماء الأماكن المتعلقة بذلك وبالمساجد والآطام والغزوات ، وشرح حال ما يتعلق بجهات المدينة وأعمالها من ذلك ، على ترتيب حروف الهجاء.
__________________
(١) يعزى إليه : يسند إليه.
(٢) الأحماء : مواضع فيها كلأ يحمى من الناس أن يرعى.
(٣) التلاع : ما ارتفع من الأرض. و ـ مسيل الماء من أعلى إلى أسفل.
الباب الثامن : في زيارتهصلىاللهعليهوسلم ، وفيه أربعة فصول : الأول : في الأحاديث الواردة في الزيارة نصّا ، الثاني : في بقية أدلتها ، وبيان تأكد مشروعيتها ، وقربها من درجة الوجوب ، حتى أطلقه بعضهم عليها ، وبيان حياة النبيصلىاللهعليهوسلم في قبره ، وشدّ الرحال إليه ، وصحة نذر زيارته ، والاستئجار للسلام عليه ، الثالث : في توسّل الزائر ، وتشفّعه بهصلىاللهعليهوسلم إلى ربه تعالى ، واستقباله لهصلىاللهعليهوسلم في سلامه وتوسّله ودعائه ، الرابع : في آداب الزيارة والمجاورة ، والتبرك بتلك المساجد والآثار ، وهذا الباب وإن كان من حقه التقديم ، لكنه لما كان كنتيجة الكتاب ، ومقدماته ما تقدمه من الأبواب ، ختمت به أقسامه ؛ ليكون المسك ختامه ، وسر الوجود تمامه ، وتفاؤلا بأن يفتح لي به ثمانية أبواب الجنة ، ويعظم لي بسببه سوابغ المنة(١) ، وبالله لا سواه أعتصم ، وأسأله العصمة مما يصم(٢) ، فهو حسبي ونعم الوكيل.
__________________
(١) المنة : الإحسان والإنعام.
(٢) يصمه وصما : يعيبه.
الباب الأول
في أسماء هذه البلدة الشريفة
أعلم أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى ، ولم أجد أكثر من أسماء هذه البلدة الشريفة ، وقد استقصيتها بحسب القدرة حتى إني زدت على شيخ مشايخنا المجد الشيرازي اللغوي ـ وهو أعظم الناس في هذا الباب ـ نحو ثلاثين اسما ، فرقمت على ذلك صورة ليتميزوها ، وأنا أوردها مرتّبة على حروف المعجم.
أثرب
الأول : أثرب ـ كمسجد ، بفتح الهمزة وسكون المثلاثة وكسر الراء وباء موحدة ـ لغة في «يثرب» الآتي ، وأحد الأسماء كألملم ويلملم ، قيل : سميت بذلك لأنه اسم من سكنها عند تفرّق ذرية نوحعليهالسلام في البلاد ، وهل هو اسم للناحية التي منها مدينة الرسولصلىاللهعليهوسلم أو للمدينة نفسها ، أو لموضع مخصوص من أرضها؟ أقوال ، الأول لأبي عبيدة ، والثاني عن ابن عباسرضياللهعنهما ، ومشى عليه الزمخشري ، والثالث هو المعني بقول محمد بن الحسن أحد أصحاب مالك ويعرف بابن زبالة : وكانت يثرب أم قرى المدينة ، وهي ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف ، وما بين المال الذي يقال له البرني إلى زبالة ، وقد نقل ذلك الجمال المطري عنه ، وزاد في النقل أنه كان بها ثلاثمائة صائغ من اليهود ، وابن زبالة إنما ذكر أن ذلك كان بزهوة ، وقد غاير بينها وبين يثرب ، وكأن الجمال فهم اتحادهما ، وقد قال عقب نقله لذلك عنه : وهو يعني يثرب معروفة اليوم بهذا الاسم ، وفيها نخيل كثيرة ملك لأهل المدينة وأوقاف للفقراء وغيرهم ، وهي غربي مشهد سيدنا حمزة ، وشرقي الموضع المعروف بالبركة مصرف عين الأزرق ، ينزلها الحاج الشامي في وروده وصدوره ، وتسميها الحجاج عيون حمزة ، وهي إلى اليوم معروفة بهذا الاسم ، أعني يثرب ، وربما قالوا فيها «أثارب» بصيغة الجمع ، وبه عبر البرهان ابن فرحون في مناسكه ، فلك أن تعده اسما آخر ، وهذا الموضع يثرب قال المطري : كان به منازل بني حارثة بطن ضخم من الأوس ، قال : وفيهم نزل قوله تعالى في يوم الأحزاب :( وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ) [الأحزاب : ١٣] ورجح به القول الثالث ، وذلك أن قريشا
ومن معهم نزلوا يوم الأحزاب ويوم أحد أيضا على ما ذكره المطري برومة وما والاها بالقرب من منازل بني حارثة من الأوس ومنازل بني سلمة من الخزرج ، وكان الفريقان مع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في مركز الحرب ، ولذلك خافوا على ذراريهم وديارهم العدو يوم أحد ؛ فنزل فيها :( إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما ) [آل عمران : ١٢٢] قال عقلاؤهم : ما كرهنا نزولها لتولي الله إيانا ، ودفع الله عنهم ببركة النبيصلىاللهعليهوسلم وصدق نياتهم ، وقيل : إن القائل لبني حارثة : «يا أهل يثرب لا مقام لكم» هو أوس بن قيظي ومن معه ، وقيل : غير ذلك.
قلت : ويرجح القول الثالث أيضا قول الحافظ عمر بن شبّة النميري(١) : قال أبو غسان : وكان بالمدينة في الجاهلية سوق بزبالة في الناحية التي تدعى يثرب ، انتهى. ولا شك في إطلاق يثرب على المدينة نفسها ، كما ثبت في الصحيح ، وشواهده أشهر من أن تذكر ، وسيأتي في الفصل الرابع عشر من الباب الثاني ما يقتضي أن الله تعالى سماها قبل أن تعمر وتسكن ، فإما أن يكون موضوعا لها ، أو هو من باب إطلاق اسم البعض على الكل ، أو من باب عكسه على الخلاف المتقدم.
وروى ابن زبالة وابن شبة نهيهصلىاللهعليهوسلم عن تسمية المدينة يثرب ، وفي تاريخ البخاري حديث : من قال يثرب مرة فليقل المدينة عشر مرات» ، وروى أحمد وأبو يعلى حديثا : «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله ، وهي طابة» ورجاله ثقات ، وفي رواية «فليستغفر الله ثلاثا» ولهذا قال عيسى بن دينار : من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة ، وكره بعض العلماء تسميتها بذلك ، وما وقع في القرآن من تسميتها به إنما هو حكاية عن قول المنافقين ، ووجه كراهة ذلك إما لأنه مأخوذ من الثّرب ـ بالتحريك ـ وهو الفساد ، أو لكراهة التثريب وهو المؤاخذة بالذنب ، أو لتسميتها باسم كافر ، وقد ينازع في الكراهة بما في حديث الهجرة في الصحيحين من قولهصلىاللهعليهوسلم : «فذهب وهلي(٢) إلى اليمامة أو هجر ، فإذا هي المدينة يثرب» وحديث مسلم : «إنه وجهت إلى أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب» وكذا جاء في غيرهما من الأحاديث ، وقد يجاب بأن ذلك كان قبل النبي.
أرض الله
الثاني : «أرض الله» قال الله تعالى :( أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ) [النساء :
__________________
(١) عمر بن شبة النميري له ترجمة في تهذيب التهذيب (٧ / ٤٦٠) وفي خلاصة الخزرجي (٢٨٣ بولاق) وثّقه الدارقطني ، مات سنة ٢٦٢ من الهجرة.
(٢) ذهب وهلي : ذهب وهمي.
٩٧] ذكر مقاتل والثعلبي وغيرهما أن المراد به المدينة ، وفي هذه الإضافة من مزيد التعظيم ما لا يخفى.
الهجرة
الثالث : «أرض الهجرة» كما في حديث «المدينة قبّة الإسلام».
أكالة البلدان
الرابع : «أكالة البلدان» لتسلطها على جميع الأمصار ، وارتفاعها على سائر بلدان الأقطار ، وافتتاحها منها على أيدي أهلها فغنموها وأكلوها.
أكالة القرى
الخامس : «أكالة القرى» لحديث الصحيحين «أمرت بقرية تأكل القرى» وقد استدل به مثبتو الاسم قبله ، وهو أصرح في هذا ؛ للفرق بين البلدة والقرية.
الإيمان
السادس : «الإيمان» قال الله تعالى مثنيا على الأنصار( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ) [الحشر : ٩] وأسند ابن زبالة عن عثمان بن عبد الرحمن وعبد الله بن جعفر قالا : سمّى الله المدينة الدار والإيمان ، وأسند ابن شبة عن الثاني فقط. وقال البيضاوي في تفسيره ، قيل سمى الله المدينة بالإيمان لأنها مظهره ومصيره. وروى أحمد الدينوري في كتابه المجالسة في قصة طويلة عن أنس بن مالك «أن ملك الإيمان قال : أنا أسكن المدينة ، فقال ملك الحياء : وأنا معك» فأجمعت الأمة على أن الإيمان والحياء ببلد رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وسيأتي في حديث «الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها»(١) .
البارة والبرة
السابع : «البارة» ، الثامن «البرة» هما من قولك : امرأة بارة وبرة ، أي : كثيرة البر ، سميت بذلك لكثرة برها إلى أهلها خصوصا وإلى جميع العالم عموما ؛ إذ هي منبع الأسرار وإشراق الأنوار ، وبها العيشة الهنية ، والبركات النبوية.
البحرة والبحيرة
التاسع : «البحرة» بفتح أوله وسكون المهملة. العاشر : «البحيرة» تصغير ما قبله.
__________________
(١) أرز أرزا وأروزا : لجأ. و ـ لاذ.
الحادي عشر : «البحيرة» بفتح أوله ـ نقلت ثلاثتها عن منتخب كراع ، والأولان عن معظم ياقوت ، والاستبحار : السعة ، ويقال : هذه بحرتنا ، أي : أرضنا أو بلدتنا ، سميت بذلك لكونها في متسع من الأرض ، وفي الصحيح قول سعد في قصة ابن أبيّ(١) «ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه» رواه ابن شبة بلفظ «أهل هذه البحيرة» وقال عياض في المشارق : البحرة مدينة النبيصلىاللهعليهوسلم ويروى البحرة ، والبحيرة : بضم الباء مصغرا وبفتحها على غير التصغير ، وهي الرواية هنا ، ويقال «البحر» أيضا بغير تاء ساكن الحاء ، وأصله القرآن وكل قرية بحرة. انتهى.
الثاني عشر : «البلاط» بالفتح ـ نقل عن كتاب ليس لابن خالويه ، وهو لغة الحجارة التي تفرش على الأرض ، والأرض المفروش بها والمستوية الملساء ، فكأنها سميت به لكثرته فيها ، أو لاشتمالها على مواضع تعرف به كما سيأتي في الباب الرابع إن شاء الله تعالى.
البلد
الثالث عشر : «البلد» قال تعالى :( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) [البلد : ١] قال الواسطي فيما نقله عن عياض : أي : يحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حيا وببركتك ميتا ، يعني المدينة ، وقيل : المراد مكة ، ونقل عن ابن عباس ، وبه استدل من ذكره في أسمائها ، ورجّحه عياض لكون السورة مكية ، والبلد لغة صدر القرى.
بيت الرسول
الرابع عشر : «بيت الرسول»صلىاللهعليهوسلم قال تعالى :( كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ ) [الأنفال : ٥] ، قال المفسرون : أي : من المدينة لأنها مهاجره ومسكنه فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه ، أو المراد بيته بها.
ندد وتندر
الخامس عشر : «تندد» بالمثناة الفوقية والنون وإهمال الدالين.
السادس عشر : «تندر» براء بدل الدال الأخيرة مما قبله ، وسيأتي دليلهما في يندد ويندر بالمثناة التحتية ، وأن المجد صوّب حذف ما عدا يندر بالتحتية.
الجابرة
السابع عشر : «الجابرة» لعده في حديث «للمدينة عشرة أسماء» سميت به لأنها تجبر
__________________
(١) هو عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، أبوه أبيّ ، وسلول أمه ، وهو رأس المنافقين ، وكان أهل المدينة قد أجمعوا قبل هجرة الرسولصلىاللهعليهوسلم على أن يجعلوه ملكا عليهم.
الكسير ، وتغني الفقير ، وتجبر(١) على الإذعان لمطالعة بركاتها ، وشهود آياتها : وجبرت البلاد على الإسلام.
جبار
الثامن عشر : «جبار» كحذام ، رواه ابن شبة بدل الجابرة في الحديث المذكور.
الجبارة
التاسع عشر : «الجبارة» نقله صاحب كتاب أخبار النواحي مع الجابرة والمجبورة عن التوراة.
جزيرة العرب
العشرون : «جزيرة العرب» قال ابن زبالة : كان ابن شهاب يقول : جزيرة العرب المدينة ، وسيأتي في حديث ابن عباس : «خرجت مع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم من المدينة ، فالتفت إليها وقال : إن الله برّأ هذه الجزيرة من الشرك» ونقل الهروي عن مالك أن المراد من حديث «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» المدينة خاصة ، والصحيح عن مالك كقولنا أن المراد الحجاز.
الجنة الحصينة
الحادي والعشرون : «الجنة الحصينة» بضم الجيم ، وهي الوقاية ؛ لما حكاه بعضهم من قولهصلىاللهعليهوسلم في غزوة أحد «أنا في جنة حصينة ـ يعني المدينة ـ دعوهم يدخلون نقاتلهم» وروى أحمد برجال الصحيح حديث : «رأيت كأني في درع حصينة ، ورأيت بقرا تنحر ، فأولت الدرع الحصينة المدينة» وهذا هو المذكور في كتب السير.
الحبيبة
الثاني والعشرون : «الحبيبة» لحبه لهاصلىاللهعليهوسلم وقال : «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد» وسيأتي مزيد بيان لذلك في اسمها المحبوبة.
الحرم
الثالث والعشرون : «الحرم» بالفتح بمعنى الحرام ؛ لتحريمها ، وفي حديث مسلم «المدينة حرم» وفي رواية «إنها حرم آمن».
حرم رسول الله
الرابع والعشرون : «حرم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم » لأنه الذي حرمها ، وفي الحديث : «من
__________________
(١) تجبر على الإذعان : تكره على الخضوع.
أخاف أهل حرمي أخافه الله» ، وروى ابن زبالة حديث : «حرم إبراهيم مكة وحرمي المدينة».
حسنة
الخامس والعشرون : «حسنة» بلفظ مقابل السيئة ، قال تعالى :( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ) [النحل : ٤١] قال المفسرون : مباءة حسنة(١) ، وهي المدينة ، وقيل : حسنة اسم المدينة ، وقد اشتملت على الحسن الحسي والمعنوي.
الخيرة
السادس والعشرون : «الخيّرة» بتشديد المثناة التحتية كالنيرة.
السابع والعشرون : «الخيرة» كالذي قبله إلا أن الياء مخففة ، تقول : رجل خيّر وخير ، وامرأة خيّرة وخيرة ، بالتشديد والتخفيف ، بمعنى ، وهو الكثير الخير ، وإذا أردت التفضيل قلت : فلان خير الناس ، وفي الحديث : «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» وسيأتي حديث «المدينة خير من مكة».
الدار
الثامن والعشرون : «الدار» لقوله تعالى :( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ ) [الحشر : ٩] على ما سبق في الإيمان ، سميت به لأمنها والاستقرار بها وجمعها البناء والعرصة.
دار الأبرار
التاسع والعشرون : «دار الأبرار». الثلاثون «دار الأخيار» لأنها دار المصطفى المختار ، والمهاجرين والأنصار ، ولأنها تنفي شرارها ومن أقام بها منهم فليست في الحقيقة له بدار ، وربما نقل منها بعد الدفن على ما جاء في بعض الأخبار.
دار الإيمان
الحادي والثلاثون : «دار الإيمان» كما في حديث «المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان» إذ منها ظهوره وانتشاره ، وسيأتي في حديث «الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها».
دار السنة ونحوها
الثاني والثلاثون : «دار السنة». الثالث والثلاثون : «دار السلامة». الرابع والثلاثون: «دار الفتح». الخامس والثلاثون : «دار الهجرة» ؛ ففي صحيح البخاري قول عبد الرحمن لعمررضياللهعنهما «حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة» وفي رواية الكشميهني
__________________
(١) المباءة : المنزل. و ـ تبوأ المكان : نزله وأقام به.
«والسلامة» وقد فتحت منها مكة وسائر الأمصار ، وكانت بها عصابة الأنصار ، ومهاجرة النبي المختارصلىاللهعليهوسلم والمهاجرين الأبرار ، ومنها انتشرت السنة في الأقطار.
ذات الحجر
السادس والثلاثون : «ذات الحجر» لاشتمالها عليها ، قال أبو بكررضياللهعنه مثنيا على الأنصار : ما وجدت لنا ولهذا الحيّ من الأنصار مثلا إلا ما قال طفيل الغنوي :
أبوا أن يملّونا ولو أنّ أمّنا |
تلاقي الّذي يلقون منّا لملّت |
|
هم خلطونا بالنّفوس وأولجوا |
إلى حجرات أدفأت وأظلّت |
ذات الحرار
السابع والثلاثون : «ذات الحرار» لكثرة الحرار بها ، وفي قصة خنافر بن التوأم الحميري الكاهن عن رئيه من الجن وقد وصف له دين الإسلام ، فقال له خنافر : من أين أبغى هذا الدين؟ قال : من ذات الأحرين ، والنفر الميامين ، أهل الماء والطين ، قلت : أوضح ، قال : الحق بيثرب ذات النخل والحرة ذات النعل ، قال الأصمعي : أحرون وحرار جمع حرة.
ذات النخل
الثامن والثلاثون : «ذات النخل» وهو وذات الحجر مما استعمله المتأخرون في أشعارهم ، وقد نسجت على منوالهم حيث قلت في مطلع قصيدة :
أشجان قلبي بذات النّخل والحجر |
وأختها تلك ذات الحجر والحجر |
|
تقسّم القلب بين البلدتين ؛ فلا |
أنفك من لهب الأشواق في سعر |
وفي أحاديث الهجرة «أريت دار هجرتي ذات نخل وحرة»(١) ، وقال عمران بن عامر الكاهن يصف البلاد لقومه : ومن كان منكم يريد الراسخات في الوحل ، المطعمات في المحل(٢) ، فليلحق بالحرة ذات النخل. وروي كما سيأتي بيثرب ذات النخل
السلقة
التاسع والثلاثون : «السلقة» ذكره أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أمين الأقشهري في أسمائها المنقولة عن التوراة ، ولم نضبطه ، وهو محتمل لفتح اللام وكسرها ، والسّلق بالتحريك : القاع الصفصف(٣) ، وسلقت البيض : أغليته بالنار ، والمسلاق : الخطيب البليغ ،
__________________
(١) الحرّة : أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت (ج) حرار.
(٢) المحل : انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلإ.
(٣) الصفصف : المستوي من الأرض لا نبات فيه. و ـ الأرض المنبسطة بين الجبال.
وربما قيل للمرأة السليطة : سلقة ـ بكسر اللام ـ فتسميتها بذلك لاتساعها وبعدها عن جبالها ، أو للأوائها ، أو لشدة حرها وما كان بها من الحمى الشديدة ، أو لأن الله تعالى سلط أهلها على سائر البلاد فافتتحوها.
سيدة البلدان
الأربعون : «سيدة البلدان» لما أسنده الديلمي من الحلية لأبي نعيم عن ابن عمر مرفوعا «يا طيبة يا سيدة البلدان».
الشافية
الحادي والأربعون : «الشافية» لحديث «ترابها شفاء من كل داء» وذكر الجذام والبرص ، ولقد شاهدنا من استشفى بترابها من الجذام فنفعه الله به ، والاستشفاء بتربة صعيب من الحمى مشهور ، كما سيأتي ، ولما صح في الاستشفاء بتمرها ، وذكر ابن مسدي الاستشفاء من الحمى بكتابة أسمائها وتعليقها على المحموم ، وسيأتي أنها تنفي الذنوب فتشفى من دائها.
طابة وطيبة
الثاني والأربعون : «طابة» بتخفيف الموحدة. الثالث والأربعون : «طيبة» بسكون المثناة التحتية.
الرابع والأربعون : «طيّبة» بتشديدها. الخامس والأربعون : «طائب» ككاتب ، وهذه الأربعة مع اسمها المطيبة أخوات لفظا ومعنى ، مختلفات صيغة ومبنى ، وقد صح حديث «إن الله سمى المدينة طابة» وفي رواية «إن الله أمرني أن أسمي المدينة طابة» وروى ابن شبة وغيره : كانوا يسمون يثرب ، فسماها رسول اللهصلىاللهعليهوسلم طيبة ، وفي حديث «للمدينة عشرة أسماء هي المدينة وطيبة وطابة» ورواه صاحب النواحي بلفظ طابت بدل طيبة ، وعن وهب بن منبه : والله إن اسمها في كتاب الله ـ يعني التوراة ـ طيبة وطابة ، ونقل عن التوراة تسميتها بالمطيبة أيضا ، وكذا بطابة والطيبة ، وتسميتها بهذه الأسماء إما من الطيب بتشديد المثناة ، وهو الطاهر ؛ لطهارتها من أدناس الشرك ، أو لموافقتها من قوله تعالى :( بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) [يونس : ٢٢] أو لحلول الطيب بهاصلىاللهعليهوسلم أو لكونها كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها ، وإما من الطيب ـ بسكون المثناة ـ لطيب أمورها كلها ، وطيب رائحتها ، ووجود ريح الطيب بها ، قال ابن بطّال : من سكنها يجد من ترتبها وحيطانها رائحة حسنة ، وقال الإشبيلي : لتربة المدينة نفحة ، ليس طيبها كما عهد من الطيب ، بل هو عجب من الأعاجيب ، وقال ياقوت :
من خصائصها طيب ريحها ، وللمطر فيها رائحة لا توجد في غيرها ، وما أحسن قول أبي عبد الله العطار :
بطيب رسول الله طاب نسيمها |
فما المسك ما الكافور ما المندل الرّطب |
ظباب
السادس والأربعون : «ظباب» ذكره ياقوت ، ولم يضبطه ، وهو إما بكسر المهملة أو بفتح المعجمة ؛ فالأول بمعنى القطعة المستطيلة من الأرض ، والثاني من ظبب وظبظب إذا حمّ ؛ لأنها كانت لا يدخلها أحد إلا حمّ ، قاله المجد.
العاصمة
السابع والأربعون : «العاصمة» لأنها عصمت المهاجرين ووقتهم أذى المشركين ، ولما تقدم في «الجنة الحصينة» ويحتمل : أن يكون بمعنى المعصومة لعصمتها قديما بجيوش موسى وداودعليهماالسلام المبعوث إلى من كان بها من الجبابرة ، وحفظها حديثا نبي الرحمةصلىاللهعليهوسلم حتى صارت حرما آمنا ، لا يدخلها الدجال ولا الطاعون ، ومن أرادها بسوء أذابه الله.
العذراء
الثامن والأربعون : «العذراء» بإهمال أوله وإعجام ثانيه ، منقول عن التوراة ، سميت به لحفظها من وطء العدو القاهر في سالف الزمان ، إلى أن تسلمها مالكها الحقيقي سيد الأنام ، مع صعوبتها وامتناعها على الأعداء ، ولذلك سميت البكر بالعذراء.
العرّاء
التاسع والأربعون : «العرّاء» بإهمال أوله وثانيه وتشديده ، بمعنى الذي قبله ، قال أئمة اللغة : العراء الجارية العذراء ، كأنها شبهت بالناقة العراء التي لا سنام لها وصغر سنامها كصغر نهد العذراء أو عدمه ؛ فيجوز أن يكون تسمية المدينة بذلك لعدم ارتفاع أبنيتها في السماء.
العروض
الخمسون : «العروض» كصبور ، وقيل : هو اسم لها ولما حولها ؛ لانخفاض مواضع منها ومسائل أودية فيها ، وقال الخليل : العروض : طريق في عرض الجبل ، وعرض الرجل إذا أتى المدينة ؛ فإن المدينة سميت عروضا لأنها من بلاد نجد ، ونجد كلها على خط مستقيم طولاني والمدينة معترضة عنها ناحية على أنها نجدية.
الغرّاء
الحادي والخمسون : «الغرّاء» بالغين المعجمة ـ تأنيث الأغر ، وهو ذو الغرة من الخيل : أي : البياض في مقدم وجهه ، والغرة أيضا : خيار كل شيء ، وغرة الإنسان : وجهه ، والأغر : الأبيض من كل شيء ، والذي أخذت اللحية جميع وجهه إلا القليل ، ومن الأيام الشديد الحر ، والرجل الكريم ، والغراء : نبت طيب الرائحة ، والسيدة الكبيرة في قبيلتها ؛ فسميت المدينة بذلك لشرف معالمها ، ووضوح مكارمها ، واشتهارها ، وسطوع نورها ، وبياض نورها ، وطيب رائحتها ، وكثرة نخلها ، وسيادتها على القرى ، وكرم أهلها ، ورفعة محلها.
غلبة
الثاني والخمسون : «غلبة» محركة بمعنى الغلب ؛ لظهورها واستيلائها على سائر البلاد ، وهو اسم قديم جاهلي ، قال ابن زبالة : حدثني داود بن مسكين الأنصاري عن مشيخته قالوا : كانت يثرب في الجاهلية تدعى غلبة ، نزلت اليهود على العماليق فغلبتهم عليها ، ونزلت الأوس والخزرج على اليهود فغلبوهم عليها ، ونزل الأعاجم على المهاجرين فغلبوهم عليها ، كذا في النسخة التي وقفت عليها من كتاب ابن زبالة ، ونقله المجد عن الزبير بن بكار راوي كتاب ابن زبالة ، وقال فيه بدل قوله ونزل الأعاجم : ونزل المهاجرون على الأوس والخزرج فغلبوهم عليها.
الفاضحة
الثالث والخمسون : «الفاضحة» بالفاء والضاد المعجمة والحاء المهملة ـ نقله بعضهم عن كراع ، ومأخذها ما سيأتي في معنى كونها تنفي خبثها من أنها تميزه وتظهره فلا يبطن بها أحد عقيدة فاسدة أو يضمر أمرا إلا ظهر عليه ، وافتضح به ، بخلاف غيرها من البلاد ، وقد شاهدنا ذلك كثيرا بها.
القاصمة
الرابع والخمسون : «القاصمة» بالقاف والصاد المهملة ـ نقل عن التوراة سميت به لقصمها كل جبار عناها(١) ، وكسر كل متمرد أتاها ، ومن أرادها بسوء أذابه الله.
قبة الإسلام
الخامس والخمسون : «قبة الإسلام» لحديث «المدينة قبة الإسلام».
قرية الأنصار
السادس والخمسون : «قرية الأنصار» قال ابن سيدة : القرية ـ بفتح القاف وكسرها ـ
__________________
(١) عناها : أرادها. و ـ قصدها بسوء.
المصر الجامع ، من قريت الماء في الحوض ، إذا جمعته ، وقال أبو هلال العسكري : العرب تسمي كل مدينة صغرت أو كبرت قرية ، قلت : وسيأتي في معنى «المدينة» ما يقتضي أنه يعتبر في مسماها زيادتها على القرية ونقصها على المصر ، وقيل : يطلق عليه ، والأنصار : واحدهم ناصر ، سموا بذلك لنصرهم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وإيوائهم له وللمهاجرين ، فمدحهم الله بقوله :( وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا ) [الأنفال : ٧٢] فسماهم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم الأنصار ، وكان يقال لهم قبل ذلك الأوس والخزرج ، وفي الحديث عن غيلان بن جرير قال : قلت لأنس بن مالك : أرأيتم اسم الأنصار ، كنتم تسمون به أم سماكم الله؟ قال : بل سمانا الله. وسيأتي في حديث «إن الله قد طهر هذه القرية من الشرك» فلك أن تعده اسما آخر.
قرية رسول الله
السابع والخمسون : «قرية رسول اللهصلىاللهعليهوسلم » لما سيأتي في عصمتها من الدجال من قولهصلىاللهعليهوسلم : «ثم يسير حتى يأتي المدينة ، ولا يأذن له فيها ؛ فيقول : هذه قرية ذاك الرجل» يعني النبيصلىاللهعليهوسلم .
قلب الإيمان
الثامن والخمسون : «قلب الإيمان» أورده ابن الجوزي في الوفاء في حديث «المدينة قبة الإسلام».
المؤمنة
التاسع والخمسون : «المؤمنة» إما لتصديقها بالله حقيقة كذوي العقول ؛ إذ لا بعد في خلق الله تعالى قوة في الجماد قابلة للتصديق والتكذيب ، وقد سمع تسبيح الحصى في كفهصلىاللهعليهوسلم أو مجازا لاتصاف أهلها بذلك ، ولانتشار الإيمان منها ، واشتمالها على أوصاف المؤمن من النفع والبركة وعدم الضرر والمسكنة ، وإما لإدخالها أهلها في الأمان من الأعداء ، وأمنهم من الدجال والطاعون ، وروى ابن زبالة في حديث «والذي نفسي بيده إن ترتبها لمؤمنة» وروى «أنها مكتوبة في التوراة مؤمنة».
المباركة
الستون : «المباركة» ؛ لأن الله تعالى بارك فيها بدعائهصلىاللهعليهوسلم لحديث «اللهم اجعل
بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة» وغيره من الأحاديث الصحيحة الكثيرة ، وآثار تلك الدعوات من الأمور الظاهرات.
مبوأ الحلال والحرام
الحادي والستون : «مبوّأ الحلال والحرام» رواه الطبراني في حديث «المدينة قبة الإسلام» والتبوؤ : التمكن والاستقرار ، سميت به لأنها محل تمكن هذين الحكمين واستقرارهما ، وفي بعض النسخ «مثوى» بالمثلاثة الساكنة بدل الموحدة ، والأول هو الذي رأيته بخط الحافظ أبي الفتح المراغي.
مبين الحلال والحرام
الثاني والستون : «مبين الحلال والحرام» رواه ابن الجوزي والسيد أبو العباس القرافي في حديث «المدينة قبة الإسلام» بدل الذي قبله ، سميت به لأنها المحل الذي ابتدأ فيه ببيان الحلال والحرام.
المجبورة
الثالث والستون : «المجبورة» بالجيم ـ ذكره في حديث «للمدينة عشرة أسماء» ونقل عن الكتب المتقدمة ، وسميت به لأن الله تعالى جبرها بسكنى نبيه وصفيهصلىاللهعليهوسلم حيا وضمها لأعضائه الشريفة ميتا بعد نقل حمّاها ، وتطييب مغناها ، والحث على سكناها ، وتنزل البركات بمدها وصاعها ؛ فهي بهذا السر الشريف مسرورة ، وبهذه المنح العظيمة محبورة ، تسحب ذيل الفخار ، على سائر الأقطار.
المحبة
الرابع والستون : «المحبة» بضم الميم وبالحاء المهملة وتشديد الموحدة ـ نقل عن الكتب المتقدمة.
المحبّبة
الخامس والستون : «المحببة» بزيادة موحدة على ما قبله.
المحبوبة
السادس والستون : «المحبوبة» نقل عن الكتب المتقدمة أيضا ، وهذه ثلاثة مع ما تقدم من اسمها الحبيبة من مادة واحدة ، سميت بذلك لما تقدم من حبهصلىاللهعليهوسلم لها ودعائه بذلك ، وجاء ما يقتضي أنها أحب البقاع إلى الله تعالى ، ويؤيده أنه تعالى اختارها لحبيبهصلىاللهعليهوسلم حيّا وميتا ؛ فهي محبوبة إلى الله تعالى ورسوله وسائر المؤمنين ، ولهذا ترتاح النفوس لذكرها ، وتهيم القلوب لشهود سرها.
المحبورة
السابع والستون : «المحبورة» من الحبر ، وهو السرور ، وكذلك الحبر والحبور والحبرة ، لما تقدم في الحبورة ، أو هو من الحبرة بمعنى النعمة ، والحبرة أيضا المبالغة فيما وصف بجميل ، والمحبار من الأرض : السريعة النبات الكثيرة الخيرات.
المحرمة
الثامن والستون : «المحرمة» لما سيأتي في تحريمها.
المحفوفة
التاسع والستون : «المحفوفة» لأنها محفوفة بالبركات ، وملائكة السموات ، محفوظة من المخاوف والأوجال ، وعلى أبوابها وأنقابها(١) الملائكة يحرسونها من الطاعون والدجال ، وسيأتي حديث «المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة ، على كل نقب منها ملك ، لا يدخلها الدجال ولا الطاعون».
المحفوظة
السبعون : «المحفوظة» لأن الله تعالى حفظها من الدجال والطاعون وغيرهما ، وفي حديث «القرى المحفوظة أربع» وذكر المدينة منها ، وفي حديث آخر رويناه في فضائل المدينة للمفضل الجندي «المدينة مشتبكة بالملائكة ، على كل نقب منها ملك يحرسها» فلك أن تسميها المحروسة أيضا.
المختارة
الحادي والسبعون : «المختارة» لأن الله تعالى اختارها للمختار من خلقه في حياته ومماته.
مدخل صدق
الثاني والسبعون : «مدخل صدق» قال الله تعالى :( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) [الإسراء : ٨٠] ، قال بعض المفسرين : مدخل صدق : المدينة ، ومخرج صدق : مكة،
__________________
(١) الأنقاب : جمع نقب. الطريق الضيق في الجبل.
وسلطانا نصيرا : الأنصار ، وروي ذلك عن زيد بن أسلم ، ويدل له ما رواه الترمذي وصححه في سبب نزول الآية.
المدينة
الثالث والسبعون : «المدينة». الرابع والسبعون : «مدينة الرسولصلىاللهعليهوسلم » من مدن بالمكان إذا أقام ، أو من دان إذا أطاع ، فالميم زائدة ؛ لأن السلطان يسكن المدن فتقام له طاعة فيها ، أو لأن الله تعالى يطاع فيها ، والمدينة : أبيات مجتمعة كثيرة تجاوز حد القرى كثرة وعمارة ، ولم تبلغ حد الأمصار ، وقيل : يقال لكل مصر. والمدينة وإن أطلق على أماكن كثيرة فهو علم مدينة الرسولصلىاللهعليهوسلم وهجر كونه علما في غيرها ، بحيث إذا أطلق لا يتبادر إلى الفهم غيرها ؛ ولا يستعمل فيها إلا معرفة ، قيل : لأنهصلىاللهعليهوسلم سكنها ، وله دانت الأمم ولأمته ، والنكرة اسم لكل مدينة ، وقد نسبوا للكل مديني ، وإلى مدينة الرسولصلىاللهعليهوسلم مدني ، للفرق ، وتسميتها بذلك متكررة في القرآن العظيم ، ونقل عن التوراة.
المرحومة
الخامس والسبعون : «المرحومة» نقل عن التوراة ، سميت به لأنها دار المبعوث رحمة للعالمين ، ومحل تنزيل الرحمة من أرحم الراحمين ، وأول بلد رحمت بسيد المرسلينصلىاللهعليهوسلم .
المرزوقة
السادس والسبعون : «المرزوقة» لأن الله تعالى رزقها أفضل الخلق فسكنها ، أو المرزوق أهلها أرزاقا حسية ومعنوية ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه كما جاء في الحديث.
مسجد الأقصى
السابع والسبعون : «مسجد الأقصى» نقله التادلي في منسكه عن صاحب المطالع.
المسكينة
الثامن والسبعون : «المسكينة» نقل عن التوراة ، وذكر في حديث «للمدينة عشرة أسماء» وروي عن علي يرفعه «إن الله تعالى قال للمدينة : يا طيبة ، يا طابة ، يا مسكينة ، لا تقبلي الكنوز ، أرفع أجاجيرك على أجاجير(١) القرى» عن كعب أنه وجد ذلك في التوراة ،
__________________
(١) الأجاجير : السطوح التي لا سترة عليها.
والأجاجير : السطوح ، وأصل المسكنة الخضوع ، فسميت بذلك إما لأن الله تعالى خلق فيها الخضوع والخشوع له ، وإما لأنها مسكن المساكين ، سكنها كل خاضع وخاشع ، وفي الحديث «اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين».
المسلمة
التاسع والسبعون : «المسلمة» كالمؤمنة ، وقد قدمناه ، والإسلام يطلق على الانقياد والانقطاع إلى الله تعالى ، فسميت بذلك إما لأن الله تعالى خلق فيها الانقياد والانقطاع إليه ، وإما لانقياد أهلها بالطاعة والاستسلام ، وفتح بلدهم بالقرآن ، لا بالسيف والسهام ، وانقطاعهم إلى الله ورسوله ، وتبتلهم لنصره وتحصيل سوله(١) .
مضجع الرسول
الثمانون : «مضجع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم » لما سيأتي في حفظ أهلها وإكرامهم من قولهصلىاللهعليهوسلم «المدينة مهاجري ومضجعي في الأرض».
المطيبة
الحادي والثمانون : «المطيّبة» بضم أوله وفتح ثانيه ـ تقدم مع أخواته في الطيبة.
المقدسة
الثاني والثمانون : «المقدسة» لتنزّهها ولطهارتها من الشرك والخبائث ، ولأنها يتبرك بها ويتطهر عن أرجاس الذنوب والآثام.
المقر
الثالث والثمانون : «المقرّ» بالقاف : من القرار كما رأيته في بعض كتب اللغة وسيأتي في دعائهصلىاللهعليهوسلم لها قوله : «اللهم اجعل لنا بها قرارا ورزقا حسنا».
المكتان
الرابع والثمانون : «المكّتان» قال سعد بن أبي سرح في حصار عثمان :
أرى الأمر لا يزداد إلّا تفاقما |
وأنصارنا بالمكّتين قليل |
وقال نصر بن حجاج فيما كتب به إلى عمررضياللهعنه بعد نفيه إياه من المدينة لما سمع امرأة تترنم به في شعرها لجماله :
حقّقت بي الظّنّ الذي ليس بعده |
مقام ؛ فما لي بالنّديّ كلام |
__________________
(١) سوله : سؤاله. وفي التنزيل الكريم :( قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ) [سورة طه : الآية ٣٦].
فأصبحت منفيّا على غير ريبة |
وقد كان لي بالمكّتين مقام |
والظاهر : أن المراد المدينة ؛ لأن قصة عثمان ونصر بن حجاج كانتا بها ، وأطلق ذلك لانتقال أهل مكة أو غالبهم إليها وانضمامهم إلى أهلها ، وقد ذكر البرهان القيراطي المكتين في أسماء مكة ، قال التقي الفاسي : ولعله أخذه من قول ورقة بن نوفل :
ببطن المكتين على رجائي
قال السهيلي : ثنّى مكة ـ وهي واحدة ـ لأن لها بطاحا وظواهر(١) ، وإنما مقصد العرب في هذه الإشارة إلى جانبي كل بلدة ، أو أعلى البلد وأسفلها ، فيجعلونها اثنين على هذا المعنى ، انتهى. ويحتمل أن تكون التثنية فيما استشهدنا به من قبيل التغليب وأن المراد مكة والمدينة ، فيسقط الاستشهاد به.
المكينة
الخامس والثمانون : «المكينة» لتمكنها في المكانة والمنزلة عند الله تعالى.
مهاجر الرسول
السادس والثمانون : «مهاجر رسول اللهصلىاللهعليهوسلم » ؛ لقوله : «المدينة مهاجري».
الموفية
السابع والثمانون : «الموفّية» بتشديد الفاء ـ من التوفية ، ويجوز تخفيفها ، إذ التوفية والإيفاء بمعنى ؛ سميت به لتوفيتها حق الواردين ، وإحسانها نزل الوافدين حسّا ومعنى ، أو لأن سكانها من الصحابة الموفون بما عاهدوا الله عليه.
الناجية
الثامن والثمانون : «الناجية» بالجيم من نجا إذا خلص أو أسرع ، أو من نجاه وناجاه سارّه ، أو من النّجوة للأرض العالية ، سميت بذلك لنجاتها من العتاة والطاعون والدجال ، ولإسراعها في الخيرات ، وسبقها إلى حيازة السبق بأشرف المخلوقات ، ولارتفاع شأنها بين الورى ، ورفع أجاجيرها على أجاجير القرى.
نبلاء
التاسع والثمانون : «نبلاء» نقل من كراع ، وأظنه بفتح النون وسكون الموحدة ممدودا ، من النبل ـ بالضم والسكون ـ وهو الفضل والنجابة ، ويقال : امرأة نبيلة في الحسن ، بينة النبالة ، وأنبل النخل : أرطب ، والنّبلة ـ بالضم ـ الثواب والجزاء والعطية.
__________________
(١) البطاح : الباطن. الظواهر : الظاهر.
النحر
التسعون : «النحر» بفتح النون وسكون الحاء المهملة ـ سميت به إما لشدة حرها ، كما يقال : نحر الظهيرة ، ولذا شاركتها مكة فيه ، وإما لإطلاق النحر على الأصل ، وهما أساس بلاد الإسلام وأصلها.
الهذراء
الحادي والتسعون : «الهذراء» ذكره ابن النجار بدل العذراء نقلا عن التوراة ، وتبعه جماعة كالمطري ؛ فلذلك أثبتناه ، وإن كان الصواب إسقاطه كما بيناه في الأصل ، وقد رويناه في كلام من أثبته بالذال المعجمة ، فالتسمية به لشدة حرها ، يقال : يوم هاذر شديد الحر ، أو لكثرة مياهها وسوانيها المصوّتة عند سوقها ، يقال : هذر في كلامه ، إذا أكثره ، والهذر ـ محركا ـ الكثير الرديء ، ويحتمل أن يكون بالمهملة من «هدر الحمام» إذا صوّت ، والماء انصب وانهمر ، والعشب طال ، وأرض هادرة : كثيرة النبات.
يثرب
الثاني والتسعون : «يثرب» لغة في أثرب ، وقد تقدم الكلام عليه فيه ، وليست المذكورة في قول الشاعر :
وعدت وكان الخلف منك سجيّة |
مواعيد عرقوب أخاه بيترب(١) |
لأن المجد قال : أجمعوا فيه على تثنية التاء وفتح الراء ، وقال : هي مدينة بحضرموت ، قيل : كان بها عرقوب صاحب المواعيد ، مع أن المجد صحّح أنه من قدماء يهود مدينة النبيصلىاللهعليهوسلم وفي مشارق عياض قيل : إن يثرب المذكورة في البيت مثل يثرب المدينة النبوية ، وقيل : قرية باليمامة ، وقيل : إنما هي يترب بمثناة فوقية وراء مفتوحة اسم تلك القرية ، وقيل : اسم قرية من بلاد بني سعد من تميم ، كما اختلف في عرقوب هذا ؛ فقيل : رجل من الأوس من أهل المدينة ، وقيل : من العماليق أهل اليمامة ، وقيل : من بني سعد المذكورين اه. وأما قول هند بنت عتبة :
لنهبطنّ يثربه |
بغارة منشعبه |
فالظاهر أن الهاء فيه للسكت ، فلس اسما آخر.
يندد
الثالث والتسعون : «يندد» ذكره كراع هكذا بالمثناة التحتية ودالين ، وهو إما من النّدّ
__________________
(١) السجيّة : الخلق والطبيعة. (ج) سجايا.
وهو الطيب المعروف ، وقيل : العنبر ، أو من النّد للتل المرتفع ، أو من الناد وهو الرزق.
يندر
الرابع والتسعون : «يندر» بإبدال الدال الأخيرة من الاسم قبله راء ، ذكره المجد عند سرد الأسماء ، ولم يتكلم عليه بعد ، لما سنذكره ، وإنباته لوقوعه كذلك في حديث «للمدينة عشرة أسماء» في بعض الكتب ، وفي بعضها بمثناة فوقية ودالين ، وفي بعضها كذلك مع إبدال الدال الأخيرة راء ؛ فتحرر من مجموع ذلك أربعة أسماء : اثنان بالمثناة التحتية ، واثنان بالفوقية ، وذلك المستند في تقديمها في محلها ، وقال المجد : إن ذلك كله تصحيف ، وإن الصواب يندد بالمثناة التحتية ودالين ، وفيه نظر ؛ لأن الزركشي عند ذكر أسماء المدينة جمع بين اثنين من هذه الأربعة وقال : ذكرهما البكري ؛ فيحتمل ثبوت الأخيرين ، وحديث «للمدينة عشرة أسماء» رواه ابن شبة من طريق عبد العزيز بن عمران ، وسردها فيه ثمانية فقط ، ثم روى من طريقه أيضا عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب سمى الله المدينة الدار والإيمان ، قال : وجاء في الحديث الأول ثمانية أسماء ، وجاء في هذا اسمان ، فالله أعلم أهما تمام العشرة أم لا اه. ورواه ابن زبالة كذلك إلا أنه سرد تسعة فزاد اسم الدار ، وأسقط العاشر ، ونقل ابن زبالة أن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال : بلغني أن للمدينة في التوراة أربعين اسما ، والله أعلم.
الباب الثاني
في فضائلها ، وبدء شأنها وما يؤول إليه أمرها ، وظهور النار المنذر بها من أرضها ، وانطفائها عند الوصول إلى حرمها ، وفيه ستة عشر فصلا.
الفصل الأول في تفضيلها على غيرها من البلاد
مكة أفضل أم المدينة
قد انعقد الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة ، حتى على الكعبة المنيفة ، وأجمعوا بعد على تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد ، واختلفوا أيهما أفضل ؛ فذهب عمر بن الخطاب وابنه عبد الله ومالك بن أنس وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة ، وأحسن بعضهم فقال : محل الخلاف في غير الكعبة الشريفة ، فهي أفضل من المدينة ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة إجماعا ، وحكاية الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة نقله القاضي عياض ، وكذا القاضي أبو الوليد الباجي قبله كما قال الخطيب ابن جملة ، وكذا نقله أبو اليمن ابن عساكر وغيرهم ، مع التصريح بالتفضيل على الكعبة الشريفة ، بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أن تلك البقعة أفضل من العرش.
وقال التاج الفاكهي : قالوا : لا خلاف أن البقعة التي ضمت الأعضاء الشريفة أفضل بقاع الأرض على الإطلاق حتى موضع الكعبة ، ثم قال : وأقول أنا : أفضل بقاع السموات أيضا ، ولم أر من تعرض لذلك ، والذي أعتقده أن ذلك لو عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه ، وقد جاء أن السموات تشرفت بمواطئ قدميهصلىاللهعليهوسلم بل لو قال قائل : إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء شرفها لكون النبيصلىاللهعليهوسلم حالّا فيها لم يبعد ، بل هو عندي الظاهر المتعين.
الأرض أفضل أم السماء؟
قلت : وقد صرح بما بحثه من تفضيل الأرض على السماء ابن العماد نقلا عن الشيخ تاج الدين إمام الفاضلية.
قال : وقالوا : إن الأكثرين عليه ؛ لأن الأنبياء خلقوا من الأرض وعبدوا الله فيها ، ودفنوا بها اه.
وقال النووي : المختار الذي عليه الجمهور أن السموات أفضل من الأرض ، وقيل : إن الأرض أشرف ؛ لأنها مستقر(١) الأنبياء ومدفنهم ، وهو ضعيف.
قلت : وكأن وجه تضعيفه للثاني أن الكلام عن مطلق الأرض ، ولا يلزم من تفضيل بعضها لكونها مدفن الأنبياء تفضيل كلها ، وضعف أيضا بأن أرواح الأنبياء في السموات والأرواح أفضل من الأجساد ، وجوابه ما سنحققه إن شاء الله تعالى من حياة الأنبياء في قبورهم ، صلوات الله وسلامه عليهم.
وقال شيخنا المحقق ابن إمام الكاملية في تفسير سورة الصف : والحق أن مواضع الأنبياء وأرواحهم أشرف من كل ما سواها من الأرض والسماء ، ومحل الخلاف في غير ذلك كما كان يقرره شيخ الإسلام البلقيني.
قال الزركشي : وتفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة للمجاورة ، ولهذا يحرم للمحدث مس جلد المصحف.
عود لتفضيل مكة أو المدينة
قال القرافي : ولما خفي هذا المعنى على بعض الفضلاء أنكر حكاية الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة ، وقال : التفضيل إنما هو بكثرة الثواب على الأعمال ، والعمل على قبر رسول اللهصلىاللهعليهوسلم محرم ، قال : ولم يعلم أن أسباب التفضيل أعم من الثواب ، والإجماع منعقد على التفضيل بهذا الوجه لا بكثرة الثواب ، ويلزمه أن لا يكون جلد المصحف ـ بل ولا المصحف نفسه ـ أفضل من غيره لتعذر العمل فيه ، وهو خرق للإجماع.
قلت : وما ذكره من التفضيل بالمجاورة مسلّم ، لكن ما اقتضاه من عدم التفضيل لكثرة الثواب في ذلك ممنوع لما سنحققه.
كلام للعز بن عبد السلام
وأصل الإشكال لابن عبد السلام فإنه قال في أماليه : تفضيل مكة على المدينة أو عكسه معناه أن الله يرتب على العمل في إحداهما من الثواب أكثر مما يرتبه على العمل في الأخرى ؛ فيشكل قول القاضي عياض : أجمعت الأمة على أن موضع القبر الشريف أفضل ؛ إذ لا يمكن أحد أن يعبد الله فيه.
__________________
(١) مستقر الأنبياء : موطن دعوتهم في حياتهم ، ومدفنهم بها بعد وفاتهم.
كلام للتقي السبكي
قال التقي السبكي : وقد رأيت جماعة يستشكلون نقل هذا الإجماع ، وقال لي قاضي القضاة السروجي الحنفي : طالعت في مذهبنا خمسين تصنيفا فلم أجد فيها تعرضا لذلك ، قال السبكي : وقد وقفت على ما ذكره ابن عبد السلام من أن الأزمان والأماكن كلها متساوية ، ويفضلان بما يقع فيهما ، لا بصفات قائمة بها ، ويرجع تفضيلها إلى ما ينيل الله العباد فيهما ، وأن التفضيل الذي فيهما أن الله يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما ، قال السبكي : وأنا أقول : قد يكون التفضيل لذلك ، وقد يكون لأمر آخر فيهما ، وإن لم يكن عمل ؛ فإن القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة ، وله عند الله من المحبة ، ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه ، وليس ذلك لمكان غيره ، فكيف لا يكون أفضل الأماكن؟ وليس محل عمل لنا ، فهذا معنى غير تضعيف الأعمال فيه ، وأيضا فباعتبار ما قيل : إن كل أحد يدفن بالموضع الذي خلق منه ، وأيضا فقد تكون الأعمال مضاعفة فيها باعتبار أن النبيصلىاللهعليهوسلم حي ، وأن أعماله مضاعفة أكثر من كل أحد ؛ فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن.
قلت : وهذا من النفاسة بمكان ، على أني أقول : الرحمات والبركات النازلة بذلك المحل يعم فيضها الأمة ، وهي غير متناهية ؛ لدوام ترقياته عليه الصلاة والسلام ، وما تناله الأمة بسبب نبيها هو الغاية في الفضل ، ولذا كانت خير أمة بسبب كون نبيها خير الأنبياء ، فكيف لا يكون القبر الشريف أفضل البقاع مع كونه منبع فيض الخيرات؟ ألا ترى أن الكعبة على رأي من منع الصلاة فيها ليست محل عملنا ، أفيقول عاقل بتفضيل المسجد حولها عليها لأنه محل العمل مع أن الكعبة هي السبب في إنالة تلك الخيرات؟ وأيضا فاهتمامهصلىاللهعليهوسلم بأمر أمته معلوم ، وإقبال الله عليه دائم ، وهو بهذا المحل الشريف ، فتكثر شفاعته فيه لأمته وأمداده إياهم ، وقد ورد في حديث «وفاتي خير لكم» وجاء بيان ذلك بأن «أعمالكم تعرض عليّ ؛ فإن رأيت خيرا حمدت الله ، وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم» وفي رواية «استوهبت الله ذنوبكم» وله شواهد تقويه ، وسيأتي في الباب الثامن أن المجيء المذكور في قوله تعالى :( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ ) [النساء : ٦٤] الآية حاصل بالمجيء إلى قبره الشريف أيضا ، فزيارته والمجاورة عنده من أفضل القربات ، وعنده تجاب الدعوات ، وتحصل الطلبات ، فقد جعله الله تعالى سببا في ذلك أيضا ، فهو روضة من رياض الجنة ، بل أفضل رياضها ، وقد قالصلىاللهعليهوسلم : «لقاب قوس
أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» بل لو تعلق متعلق بما قررناه من كون القبر الشريف منبع جميع الخيرات وهو بالمدينة فتكون هي أفضل لكان له وجه.
وقد قال الحكيم الترمذي في نوادره : سمعت الزبير بن بكار يقول : صنّف بعض أهل المدينة في المدينة كتابا ، وصنف بعض أهل مكة في مكة كتابا ، فلم يزل كل واحد منهما يذكر بقعته بفضيلة ، يريد كل واحد منهما أن يبرز على صاحبه بها ، حتى برز المدني على المكي في خلّة واحدة عجز عنها المكي ، وأن المدني قال : إذ كل نفس إنما خلقت من تربته التي يدفن فيها بعد الموت ، وكان نفس الرسول إنما خلقت من تربة المدينة ؛ فحينئذ تلك التربة لها فضيلة بارزة على سائر الأرض.
يخلق الإنسان من تربة الأرض التي يدفن فيها
قلت : ويدل لما ذكر من أن النفس تخلق من تربة الدفن ما رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح وله شواهد صحيحة عن أبي سعيد ، قال : «مرّ النبيصلىاللهعليهوسلم عند قبر ، فقال : قبر من هذا؟ فقالوا : فلان الحبشي يا رسول الله ، فقال : لا إله إلا الله ، سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي منها خلق» ورواه الحكيم الترمذي بنحوه عن أبي هريرة ، ورواه البزار عن أبي سعيد بنحوه ، وفيه عبد الله والد ابن المديني وهو ضعيف ، وروى الطبراني في الأوسط نحوه عن أبي الدرداء ، وفيه الأحوص بن حكيم ، وثّقه العجلي ، وضعفه الجمهور ، وروي في الكبير أيضا نحوه عن ابن عمر ، وقال الذهبي في بعض رواته :ضعفوه ، وأسند ابن الجوزي في الوفاء عن كعب الأحبار : لما أراد اللهعزوجل أن يخلق محمداصلىاللهعليهوسلم أمر جبريل فأتاه بالقبضة البيضاء التي هي موضع قبرهصلىاللهعليهوسلم فعجنت بماء التسنيم ، ثم غمست في أنهار الجنة ، وطيف بها في السموات والأرض ، فعرفت الملائكة محمدا وفضله قبل أن تعرف آدمعليهالسلام ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سرد خصائصها.
وقال الحكيم الترمذي في حديث : «إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة" : إنما صار أجله هناك لأنه خلق من تلك البقعة ، وقد قال الله تعالى :( مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ ) [طه : ٥٥] الآية ، قال : فإنما يعاد المرء من حيث بدئ منه ، قال : وروي أن الأرض عجّت(١) إلى ربها لما أخذت تربة آدمعليهالسلام ، فقال لها : سأردها إليك ، فإذا مات دفن في البقعة التي منها تربته.
وعن يزيد الجريري قال : سمعت ابن سيرين يقول : لو حلفت حلفت صادقا بارّا غير شاك ولا مستثن أن الله تعالى ما خلق نبيهصلىاللهعليهوسلم ولا أبا بكر ولا عمر إلا من طينة واحدة ثم ردهم إلى تلك الطينة.
__________________
(١) عجّ ، عجا وعجّة : رفع صوته وصاح. ويقال : عجّ إلى الله بالدعاء.
وروى ابن الجوزي في الوفاء عن عائشة قالت : لما قبض النبيصلىاللهعليهوسلم اختلفوا في دفنه ؛ فقالوا : أين يدفن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ؟ فقال علي : إنه ليس في الأرض بقعة أكرم على الله من بقعة قبض فيها نفس نبيهصلىاللهعليهوسلم وروى يحيى أن عليا قال لما اختلفوا : لا يدفن إلا حيث توفاه اللهعزوجل ، وأنهم رضوا بذلك.
قلت : ويؤخذ مما قاله على مستند نقل الإجماع السابق على تفضيل القبر الشريف ؛ لسكوتهم عليه ، ورجوعهم إلى الدفن به.
ولما قال الناس لأبي بكررضياللهعنه : يا صاحب رسول الله ، أين يدفن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ؟ قال : في المكان الذي قبض الله تعالى روحه فيه ؛ فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب ، رواه الترمذي في شمائله ، والنسائي في الكبرى ، وإسناده صحيح ، ورواه أبو يعلى الموصلي ، ولفظه : سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «لا يقبض النبي إلا في أحب الأمكنة إليه».
قلت : وأحبها إليه أحبها إلى ربه ؛ لأن حبه تابع لحب ربه إلا أن يكون حبه عن هوى نفس ، وما كان أحب إلى الله ورسوله كيف لا يكون أفضل ، ولهذا أخذت تفضيل المدينة على مكة من قولهصلىاللهعليهوسلم كما في الصحيح : «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد» أي بل أشد ، أو وأشد ، كما روي به ، ومن إجابة دعوتهصلىاللهعليهوسلم كان يحرك دابته إذا رآها من حبها.
وقد روى الحاكم في مستدركه حديث : «اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي ، فأسكنّي في أحب البقاع إليك» وفي بعض طرقه أنهصلىاللهعليهوسلم قاله حين خرج من مكة ، وفي بعضها أنه وقف بالحزورة(١) ، وفي بعضها بالحجون(٢) فقاله ، وقد ضعفه ابن عبد البر.
قيل : ولو سلمت صحته فالمراد أحب البقاع إليك بعد مكة ؛ لحديث : «إن مكة خير بلاد الله» وفي رواية : «أحب أرض الله إلى الله» ولأنه قد صح لمسجد مكة من المضاعفة زيادة على ما صح لمسجد المدينة كما سيأتي.
قلت : فيما قدمناه من دعائهصلىاللهعليهوسلم بحبها أشد من حب مكة مع ما أشرنا إليه من إجابة دعائهصلىاللهعليهوسلم ومن أنه تعالى لا يجعلها أحب إلى نبيه إلا بعد جعلها أحب إليه تعالى غنية عن صحة هذا الحديث ، وكون المراد منه ما ذكر خلاف الظاهر ، وما ذكر لا يصلح مستندا في
__________________
(١) الحزورة : الرابية الصغيرة.
(٢) الحجون : جبل بمكة.
الصرف عن الظاهر ؛ لأنهصلىاللهعليهوسلم قصد به الدعاء للدار التي تكون هجرته إليها ، فطلب من الله أن يصيرها أحب البقاع إليه تعالى ، والحب من الله تعالى إنالة الخير والتعظيم للمحبوب ، وهذا يمكن تجدده بعد أن لم يكن ، وقوله : «إن مكة خير بلاد الله وأحبها إليه» محمول على أنهصلىاللهعليهوسلم قاله في بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة ، فلما طالت إقامتهصلىاللهعليهوسلم بالمدينة وأظهر الله دينه ، وتجدد لها ما سيأتي من الفضائل حتى عاد نفعها على مكة ، فافتتحها الله وسائر بلاد الإسلام منها ؛ فقد أنالها الله تعالى وأنال بها من الخير ما لم ينله غيرها من البلاد ، وظهر إجابة الدعوة الكريمة ، وأنها صارت خير أرض الله وأحبها إليه بعد ذلك ، ولهذا لم يعد النبيصلىاللهعليهوسلم إلى مكة بعد فتحها.
فإن قيل : إنما لم يعد إليها لأن الله افترض عليه المقام بدار هجرته.
قلنا : لم يكن الله ليفترض عليه المقام بها إلا وهي أفضل ؛ لكرامته عنده ، وقد حثّصلىاللهعليهوسلم على الاقتداء به في سكناها والإقامة بها ، وقال : «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون».
فإن قيل : قال التقي الفاسي : ظن بعض أهل عصرنا أن النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «إن مكة خير بلاد الله» حين خرج من مكة للهجرة ، وليس كذلك ؛ لأن في بعض طرق الحديث أن النبيصلىاللهعليهوسلم قال ذلك وهو على راحلته بالحزورة ، وهو لم يكن بهذه الصفة حين هاجر ؛ لأن الأخبار تقتضي أنه خرج من مكة مستخفيا ، ولو ركب بالموضع المشار إليه ـ وهو الذي يقول له عوام مكة عزوة ـ لأشعر ذلك بسفره.
قلنا : جاء في رواية لابن زبالة أن النبيصلىاللهعليهوسلم حين أمره الله بالخروج قال : «اللهم إنك أخرجتني» الحديث ، وقد وقع في رواية لابن حبان في حديث الهجرة «فركبا ـ يعني هو وأبو بكر ـ حتى أتيا الغار ـ وهو ثور ـ فتواريا فيه» وسيأتي في أحاديث الهجرة ما يقتضي أنهما توجها إلى الغار ليلا بعد أن ذرّصلىاللهعليهوسلم ترابا على رءوس جماعة من الكفار كانوا يرصدونه ، وقرأ أوائل يس يستتر بها منهم ، فلم يروه ، فلا يمتنع أن يكون راكبا في هذا الموضع.
وأما أمر مزيد المضاعفة لمسجد مكة ، فجوابه أن أسباب التفضيل لا تنحصر في المضاعفة ، ألا ترى أن فعل الصلوات الخمسة للمتوجه إلى عرفات وظهر يوم النحر بمنى أفضل من فعلها بمسجد مكة ، وإن اشتمل فعلها بالمسجد على المضاعفة إذ في الاتّباع ما يربو عليها ، ولهذا قال عمررضياللهعنه بمزيد المضاعفة لمسجد مكة كما سيأتي مع قوله بتفضيل المدينة ، وغايته أن للمفضول مزية ليست للفاضل ، ويؤيد ذلك ما سيأتي مع أن المضاعفة تعم الفرض والنفل ، وأن النفل بالبيت أفضل ، على أنه إن أريد بالمسجد الحرام في حديث المضاعفة الكعبة فقط كما ستأتي الإشارة إليه ، فالجواب أن الكلام فيما
عداها ، مع أن دعاءهصلىاللهعليهوسلم للمدينة بضعفي ما بمكة من البركة ، ومع البركة بركتين شامل للأمور الدينية والدنيوية ، وقد يبارك في العدد القليل فيربو نفعه على الكثير ، ولهذا استدل به على تفضيل المدينة لأكثرية المدعو به لها من البركة الشاملة.
ولا يرد على ما قررناه ما جاء في فضل الكعبة الشريفة ؛ إذ الكلام فيما عداها ، ولهذا روى مالك في الموطأ أن عمررضياللهعنه قال لعبد الله بن عياش المخزومي : أنت القائل لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله : هي حرم الله وأمنه ، وفيها بيته ، فقال عمر : لا أقول في حرم الله ولا في بيت الله شيئا ، ثم قال عمر : أنت القائل لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله : هي حرم الله وأمنه ، وفيها بيته ، فقال عمر : لا أقول في حرم الله ولا في بيت الله شيئا ، ثم انصرف ، وفي رواية لرزين : فاشتد على ابن عياش ، فانصرف.
ولا يرد أيضا ما بمكة من مواضع النسك ؛ لتعلق النسك بالكعبة ، وأيضا فقد عوّض الله المدينة عن العمرة ما سيأتي في مسجد قباء ، وعن الحج ما سيأتي مرفوعا : «من خرج لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة» ، وهذا أعظم ؛ لكونه أيسر ، ويتكرر في اليوم والليلة مرارا ، والحج لا يتكرر ، ويؤخذ منه أنه يضاف إلى ما جاء في المضاعفة بمسجدها الحجة لمن أخلص قصده للصلاة.
ولا يرد أيضا كونهصلىاللهعليهوسلم أقام بمكة بعد النبوة أكثر من إقامته بالمدينة ، على الخلاف فيه ؛ لأن إقامته بالمدينة كان سببا في إعزاز دين الله وإظهاره ، وبها تقررت الشرائع ، وفرضت غالب الفرائض ، وأكمل الله الدين ، واستقر بهاصلىاللهعليهوسلم إلى قيام الساعة.
وقد ثبت في محبتهصلىاللهعليهوسلم للمدينة ما لم يثبت مثله لمكة ، وحثّ على الإقامة والموت بها ، والصبر على لأوائها وشدتها ، كما ستقف عليه ، وسيأتي حديث : «اللهم لا تجعل منايانا بمكة» وحديث : «ما على الأرض بقعة أحب إلي من أن يكون قبري بها منها» يعني المدينة ، قالها ثلاث مرات.
وقد شرع الله لنا أن نحب ما كان رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يحبه ، وأن نعظم ما كان يعظمه ، وإذا ثبت تفضيل الموت بالمدينة ثبت تفضيل سكناها ، لأنه طريقه هذا ، وقد روى الطبراني في الكبير والمفضل الجندي في فضائل المدينة وغيرهما عن رافع بن خديجرضياللهعنه قال : أشهد سمعت ـ وفي رواية «لسمعت» ـ رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «المدينة خير من مكة» ، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن الرداد ، وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : كان يخطئ ، وقال أبو حاتم : ليس بقوي ، وقال أبو زرعة : ليّن ، وقال الأزدي : لا يكتب حديثه ، وقال ابن عدي : روايته ليست محفوظة ، ولهذا قال ابن عبد البر : هو حديث ضعيف ، وفيما قدمناه غنية عنه.
وفي الصحيحين حديث : «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» ويأرز كمسجد أي : ينقبض ويجتمع وينضم ويلتجئ ، وقد رأينا كل مؤمن له من نفسه سائق إلى المدينة لحبه في النبيصلىاللهعليهوسلم فيشمل ذلك جميع الأزمنة ؛ لأنه في زمنهصلىاللهعليهوسلم للتعلم منه ، وفي زمن الصحابة والتابعين للاقتداء بهم ، ومن بعد ذلك لزيارته ، وفضل بلده ، والتبرك بمشاهدة آثاره ، والاتباع له في سكناها.
وروينا في فضائل المدينة للجندي حديث : «يوشك الإيمان أن يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» يعني : يرجع إليها الإيمان.
وأسند ابن زبالة حديث : «لا تقوم الساعة حتى يحاز الإيمان إلى المدينة كما يحوز السيل الدّمن».
وقد تقدم في الأسماء حديث الصحيحين : «أمرت بقرية تأكل القرى ، يقولون يثرب وهي المدينة» قال ابن المنذر : يحتمل أن يكون المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها ؛ فمعناه أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكاد تكون عدما ، وهذا أبلغ من تسمية مكة «أم القرى» ؛ لأن الأمومة لا تنمحي معها ما هي له أم ، لكن يكون لها حق الأمومة ، انتهى.
وجزم القاضي عبد الوهاب بهذا الاحتمال.
وروى البزار عن عليرضياللهعنه حديث : «إن الشياطين قد يئست أن تعبد ببلدي هذا» يعني : المدينة «وبجزيرة العرب ، ولكن التحريش بينهم» وله أصل في صحيح مسلم من حديث جابر.
وروى أبو يعلى بسند فيه من اختلف في توثيقه وبقية رجاله ثقات عن العباسرضياللهعنه قال : خرجت مع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم من المدينة فالتفت إليها وقال : «إن الله قد برأ هذه الجزيرة من الشرك» وفي رواية : «إن الله قد طهّر هذه القرية من الشرك ، إن لم تضلّهم النجوم ، قال : ينزل الله الغيث ، فيقولون : مطرنا بنوء(١) كذا وكذا» وقد تقدم في الأسماء تسميتها بالمؤمنة والمسلمة ، وأنه لا مانع من إجرائه على ظاهره فهو مقتض للتفضيل ، سيما وسببه ما سبق من كونهصلىاللهعليهوسلم خلق من تربتها.
وقد استدل أبو بكر الأبهري من المالكية على تفضيلها على مكة بما سبقت الإشارة إليه من أن النبيصلىاللهعليهوسلم مخلوق من تراب المدينة ، وهو أفضل البشر ، فكانت تربته أفضل الترب. قال الحافظ ابن حجر : وكون تربته أفضل الترب لا نزاع فيه ، وإنما النزاع هل يلزم من ذلك أن تكون المدينة أفضل من مكة؟ لأن المجاور للشيء لو ثبت له جميع مزاياه
__________________
(١) النوء : المطر الشديد. و ـ النجم إذا مال للغروب.
لكان لجار ذلك المجاور نحو ذلك ؛ فيلزم أن يكون ما جاور المدينة أفضل من مكة ، وليس كذلك اتفاقا ، كذا أجاب به بعض المتقدمين ، وفيه نظر ، انتهى.
قلت : لم يبين وجه النظر ، ولعل وجهه أن الأفضل لقوة أصالته في الفضل يفيد مجاوره الأفضلية لمزية هذه المجاورة الخاصة ، وهي منتفية عن مجاور المجاور ، ألا ترى أن جلد المصحف قد ثبت له مزية التعظيم للمجاورة ، ولم يلزم من ذلك ثبوت نحوها لمجاوره ، وأيضا فالمقتضى لتفضيل المدينة خلقهصلىاللهعليهوسلم من تربتها ، وهذا لا يوجد لمجاورها ، والله أعلم.
الفصل الثاني
وعد من صبر على شدها
في الحث على الإقامة بها ، والصبر على لأوائها وشدتها ، وكونها تنفي الخبث والذنوب ، ووعيد من أرادها وأهلها بسوء أو أحدث بها حدثا أو آوى محدثا.
روينا في الصحيحين حديث «من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة».
وفي صحيح مسلم عن سعيد مولى المهري أنه جاء إلى أبي سعيد الخدري ليالي الحرة ، فاستشاره في الجلاء من المدينة ، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله ، وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها ، فقال : ويحك! لا آمرك بذلك ، إني سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «لا يصبر» وفي رواية «لا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» وفي رواية «فقال أبو سعيد : لا تفعل ، الزم المدينة» وذكر الحديث بزيادة قصة.
وفي مسلم وفي الموطأ والترمذي عن يحنّس مولى مصعب بن الزبير أنه كان جالسا عند ابن عمر في الفتنة ، فأتته مولاة له تسلم عليه ، فقالت : إني أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن ، اشتد علينا الزمان ، فقال لها عبد الله : اقعدي لكاع(١) ، ولفظ الترمذي : اصبري لكاع. فإني سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة».
فإن قيل : ما معنى التردد في قوله : «شفيعا أو شهيدا»؟ وما معنى هذه الشفاعة مع عموم شفاعتهصلىاللهعليهوسلم ؟
__________________
(١) لكاع : يقال في سبّ المرأة بالحمق : يا لكاع.
قلنا : ذكر عياض ما ملخصه أن بعض مشايخه جعل «أو» للشك من الراوي ، وأن الظاهر خلافه لكثرة رواته بذلك ، بل الظاهر أنه من لفظهصلىاللهعليهوسلم فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا ، وإما أن تكون «أو» للتقسيم ، ويكون شفيعا للعاصين وشهيدا للمطيعين ، أو شهيدا لمن مات في حياته وشفيعا لمن مات بعده ، قال : وهذه الشفاعة أو الشهادة زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعاملين في القيامة وعلى شهادته على جميع الأمم ، فيكون لتخصيصهم بذلك مزية وزيادة منزلة وحظوة قال : ويحتمل أن يكون «أو» بمعنى الواو. قلت : ويدل له ما رواه البزار برجال الصحيح عن عمررضياللهعنه بلفظ : «فمن صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة» وأسنده ابن النجار بلفظ : «كنت له شفيعا وكنت له شهيدا يوم القيامة» وأسنده المفضل الجندي في فضائل المدينة عن أبي هريرة أيضا بلفظ : «لا يصبر أحد على لأواء المدينة» وفي نسخة : «وحرها إلا كنت له شفيعا وشهيدا» قال القاضي : وإذا جعلنا «أو» للشك فإن كانت اللفظة شهيدا فالشهادة أمر زائد على الشفاعة المجردة المدخرة لغيرهم من الأمة ، وإن كانت اللفظة شفيعا فهذه شفاعة غير العامة تكون لأهل المدينة بزيادة الدرجات أو تخفيف الحساب أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامات كإيوائهم في ظل العرش أو كونهم في روح(١) وعلى منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات. قلت : ويحتمل : أن يجمع لهم ببركة شفاعتهصلىاللهعليهوسلم أو شهادته الخاصة بين ذلك كله ؛ فالجاه عظيم ، والكرم واسع ، وتأيد الوصية بالجار يؤيد ذلك ، ويحتمل أيضا : أن يكون المراد مع ذلك البشرى بموتهم على الإسلام ؛ لأن شفاعته وشهادتهصلىاللهعليهوسلم المذكورة خاصة بالمسلمين ، وكفى بذلك نعمة ومزية ، وسيأتي الإشارة إلى نحو ذلك في أول الباب الثامن.
وفي الموطأ والصحيحين حديث : «تفتح اليمن فيأتي قوم يبسّون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» الحديث.
وقوله «يبسون» بفتح المثناة التحتية أوله وضم الباء الموحدة وكسرها ، ويقال أيضا بضم المثناة وكسر الموحدة ـ يسوقون بهائمهم سوقا شديدا ، وقيل : البسّ : سرعة الذهاب.
المدينة تنفي الخبث
وفي مسلم حديث «يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه أو قريبه : هلم إلى الرخاء ، هلم إلى الرخاء ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، والذي نفسي بيده لا يخرج
__________________
(١) كونهم في روح : في راحة.