وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء ٢

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى13%

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى مؤلف:
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الناشر: دار الكتب العلميّة
تصنيف: مكتبة الحديث وعلومه
الصفحات: 282

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 282 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88815 / تحميل: 5590
الحجم الحجم الحجم
وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار الكتب العلميّة
العربية

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى

الجزء الثاني

تأليف

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

المحقق: خالد عبد الغني محفوظ

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي اختار رسوله محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أطيب الأرومات ، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على أشرف الكائنات ، وعلى آله وصحبه الذين فدوه بالأنفس والأموال وبالآباء والأمهات. وعلى من اتبعه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الفصل الرابع : الروايات في حنين الجذع

في خبر الجذع الذي كان يخطب إليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم واتخاذه المنبر ، وما اتفق فيه ، وما جعل بدله بعد الحريق ، واتخاذ الكسوة له.

روينا في صحيح البخاري عن ابن عمر قال : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب إلى جذع ، فلما اتخذ المنبر تحول إليه ، فحن الجذع ، فأتاه فمسح يده عليه. وفيه عن جابر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة ، فقالت امرأة من الأنصار ، أو رجل : يا رسول الله ، ألا نجعل لك منبرا؟ قال : إن شئتم ، فجعلوا له منبرا ، فلما كان يوم الجمعة رفع إلى المنبر ، فصاحت النخلة صياح الصبي ، ثم نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فضمّه إليه وهو يئن أنين الصبي الذي يسكن ، قال : كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها.

وفيه أيضا عنه : كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل ، فكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها ، فلما صنع له المنبر فكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت(١) العشار ، الحديث.

وعند النسائي في الكبرى عن جابر : اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج : أي التي انتزع ولدها منها. وعند ابن خزيمة عن أنس : فحنّت الخشبة حنين الواله(٢) . وفي روايته الأخرى عند الدارمي : خار ذلك الجذع كخوار الثور.

وفي حديث أبي بن كعب عند أحمد والدارمي وابن ماجه : فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشق. وفي حديثه : فأخذ أبيّ بن كعب ذلك الجذع لما هدم المسجد فلم يزل عنده حتى بلى وعاد رفاتا. وفي حديث أبي سعيد عند الدارمي : فأمر به أن يحفر له ويدفن ، وسيأتي أحاديث بذلك ، ولا تنافي بين ذلك ؛ لاحتمال أن يكون ظهر بعد الهدم عند التنظيف ، فأخذه أبيّ بن كعب.

__________________

(١) العشار : مفردها : العشراء ، من النّوق ونحوها : ما مضى على حملها عشرة أشهر. وفي التنزيل العزيز :( وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ ) [التكوير : ٤].

(٢) الواله : الذي اشتد حزنه حتى ذهب عقله.

٣

وقال أبو اليمن بن عساكر في تحفته : وفي رواية فلما جلس عليه أي المنبر حنت الخشبة حنين الناقة على ولدها ، حتى نزل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فوضع يده عليها ، فلما كان من الغد رأيتها قد حوّلت ، فقلنا : ما هذا؟ قال : جاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر فحولوها ، انتهى.

وفي مسند الدارمي من حديث بريدة : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خطب قام فأطال القيام ، فكان يشق عليه قيامه ، فأتى بجذع نخلة ، فحفر له وأقيم إلى جنبه قائما للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خطب فطال القيام عليه استند فاتكى عليه ، فبصر به رجل كان ورد المدينة فرآه قائما إلى جنب ذلك الجذع ، فقال لمن يليه من الناس : لو أعلم أن محمدا يحمدني في شيء يرفق به لصنعت له مجلسا يقوم عليه ، فإن شاء جلس ما شاء ، وإن شاء قام ، فبلغ ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ائتوني به ، فأتوه به ، فأمر أن يصنع له هذه المراقي الثلاث أو الأربع ، هي الآن في مسجد المدينة ؛ فوجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك راحة ، فلما فارق النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الجذع وعمد إلى هذه التي صنع له جزع الجذع فحنّ كما تحن الناقة ، حين فارقه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فزعم ابن بريدة عن أبيهرضي‌الله‌عنه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمع حنين الجذع رجع إليه فوضع يده عليه ، وقال : اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت ، وإن شئت أن أغرسك في الجنة ، فتشرب من أنهارها وعيونها فتحسن زينتك ، وتثمر ، فتأكل كل أولياء الله من ثمرتك وتخلد ؛ فعلت ؛ فزعم أنه سمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول له : نعم قد فعلت ، مرتين ، فسئل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : اختار أن أغرسه في الجنة.

ولفظه عند عياض : إن شئت أردك إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك ، ويكمل خلقك ، ويجدد لك خوص وثمرة ، وإن شئت أغرسك في الجنة فتأكل أولياء الله من ثمرك ، ثم أصغى له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمع ما يقول ، فقال : بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله وأكون في مكان لا أبلي فيه فسمعه من يليه ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد فعلت ، ثم قال : اختار دار البقاء على دار الفناء ، فكان الحسن إذا حدث بهذا بكى وقال : يا عباد الله ، الخشبة تحن إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم شوقا إليه لمكانه ، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه ، وهو في كتاب يحيى بنحوه ، وفي حديث سهل بن سعد عند أبي نعيم : فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا تعجبون من حنين هذه الخشبة ، فأقبل الناس عليها فسمعوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم.

وفي لفظ عند ابن عبد البر : فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشق ، فرجع إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فمسحه بيده حتى سكن ، ثم رجع إلى المنبر ، قال : فكان إذا صلّى صلى إليه ، فلما هدم المسجد أخذ ذلك الجذع أبي بن كعب فلم يزل عنده حتى أكلته الأرضة وعاد رفاتا.

وهذا يبعد ما قدمناه من التأويل ؛ إذا ظاهره أنه لم يدفن.

ويحتمل : أن ذلك كان بعد دفنه ، ومشى يصلي إليه قريبا منه ؛ لأنه كان عند مصلّاه كما سنحققه.

٤

وفي كتاب يحيى عن أبي سعيد : كانصلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب إلى جذع نخلة ، فأتاه رجل رومي ، فقال : أصنع لك منبرا تخطب عليه ، فصنع له منبره الذي ترون ، فلما قام عليه فخطب حنّ الجذع حنين الناقة إلى ولدها ، فنزل إليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فضمّه فسكن ، وأمر به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدفن ويحفر له.

وعن عائشةرضي‌الله‌عنها : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب إلى جذع يتساند إليه ، فمر رومي فقال : لو دعاني محمد لعملت له ما هو أرفق له من هذا ، فذكروا ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل إليه ، فدعاه ، فجعل له المنبر ، ثم ذكر حنين الجذع وتخيير النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم له ، قال:فقالت : فسمعنا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : فنعم ، فغار الجذع فذهب.

وعن أنس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب إلى الجذع ، فلما اتخذ المنبر وعدل إليه حن الجذع حتى أتاه فاحتضنه فسكن ، وقال : لو لم أفعل هذا لحنّ إلى يوم القيامة.

وذكر الأسفراييني أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاه إلى نفسه ، فجاء يخرق الأرض فالتزمه ، ثم أمره فعاد إلى مكانه.

صانع المنبر

وفي كتاب ابن زبالة عن خالد بن سعيد مرسلا أن تميما الداري كان يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يشتد عليه وجع كان يجده في فخذيه يقال له الزجر ، فقال له تميم : يا رسول الله ألا أصنع لك منبرا تقوم عليه ، فإنه أهون عليك إذا قمت وإذا قعدت؟ قال : وكيف المنبر؟ قال : أنا يا رسول الله أصنعه لك ، قال : فخرج إلى الغابة فقطع منها خشبات من أثل ، فعمل له درجتين : أي غير المقعد ، فتحول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخشبة التي كان يستند إليها إذا خطب ، ثم ذكر حنينها ، وقال : بلغنا أنها دفنت تحت المنبر.

وعن المطلب بن حنطب أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالجذع فحفر له تحت المنبر فدفن هنالك ، قال:والذي عمل المنبر غلام نصيبة المخزومي ، وكان المنبر من أثلة كانت قريبا من المسجد.

وعن سهل بن سعد الساعدي نحو ما في الصحيح أن رجالا أتوا سهلا وقد امتروا في المنبر مم عوده ، فسألوه عن ذلك ، فقال : والله إني لأعرف ممّ هو ، ولقد رأيته أول يوم وضع ، وأول يوم جلس عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى فلانة امرأة من الأنصار قد سماها سهل : مري غلامك النجار ، أن يعمل لي أعوادا أجلس عليها إذا كلمات الناس ، فأمرته فعملها من طرفاء الغابة ، ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمر بها فوضعت هاهنا ، ثم رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى عليها وكبر وهو عليها ، ثم ركع وهو عليها ، ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ، هذا لفظ الصحيح ، وزاد فيه ابن زبالة : وقطعت خشب المنبر بيدي مع الذي بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحملت إحدى الدرجات.

٥

ورواه يحيى بلفظ : عمل من أثل ، يعني المنبر ، وكنت ممن حمل درجته هذه ، ثم ذكر حنين الجذع ، وفي رواية للبخاري في كتاب الهبة «فجاءوا به ـ يعني المنبر ـ فاحتمله النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوضعه حيث ترون».

وقال الحافظ ابن حجر : صحف بعض الرواة قوله إلى فلانة امرأة من الأنصار فقال إلى علاثة (بالعين المهملة والمثلاثة) وهو خطأ ، والمرأة لا يعرف اسمها ، ونقل ابن التين عن مالك أن النجار كان مولى لسعد بن عبادة ؛ فيحتمل أنه كان في الأصل مولى امرأته ، ونسب إليه مجازا ، واسم امرأته فكيهة بنت عبيد بن دليم ، وهي ابنة عمه ؛ فيحتمل أن تكون هي المرأة ، لكن رواه ابن راهواه عن ابن عيينة وقال : مولى لبني بياضة ، ووقع عند الكرماني قيل : اسمها عائشة ، وأظنه صحّف المصحف ، ثم وجدت في الأوسط للطبراني من حديث جابر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي إلى سارية في المسجد ، ويخطب إليها ، ويعتمد عليها ، فأمرت عائشة ، فصنعت له منبره هذا ، فذكر الحديث ، وإسناده ضعيف ، ولو صح لما دل على أن عائشة هي المرادة في حديث سهل هذا إلا بتعسف ، والله أعلم.

وأسند ابن سعد في الطبقات من حديث أبي هريرة ، ورجاله ثقات إلا الواقدي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يخطب وهو مستند إلى جذع ، فقال : إن القيام قد شق علي ، فقال تميم الداري : ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين في ذلك ، فرأوا أن يتخذه ، فقال العباس بن عبد المطلب : إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس ، فقال : مره أن يعمل» الحديث.

موضع الجذع

وأسند يحيى منقطعا عن ابن أبي الزناد وغيره أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب يوم الجمعة إلى جذع في المسجد كان موضعه عند الأسطوانة المخلّقة التي تلي القبر التي عن يسار الأسطوانة المخلّقة التي كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي عندها التي هي عند الصندوق ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن القيام قد شق علي ، وشكاصلى‌الله‌عليه‌وسلم ضعفا في رجليه ، قالوا : فقال تميم الداري ـ وكان رجلا من لخم من أهل فلسطين ـ يا رسول الله أنا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام ، قالوا : فلما أجمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وذو الرأي من أصحابه على اتخاذه قال العباس بن عبد المطلب : إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : مره يعمل ، فأرسله إلى أثلة بالغابة فقطعها ثم عملها درجتين ومجلسا ، ثم جاء بالمنبر فوضعه في موضعه اليوم ، ثم راح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة ، فلما جاوز الجذع يريد المنبر حن الجذع ثلاث مرات كأنه خوار بقرة ، حتى ارتاع الناس ، وقام بعضهم على رجليه ، فأقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى مسه بيده ، فسكن ، فما سمع له صوت بعد ذلك ، ثم رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المنبر فقام عليه ،

٦

فلم يزل كذلك في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر ، فلما هدم عثمان المسجد اختلف في الجذع ، فمنهم من قال : أخذه أبي بن كعب ، فكان عنده حتى أكلته الأرضة ، ومنهم من قال : دفن في موضعه.

شهرة حديث حنين الجذع

وقال عياض : حديث حنين الجذع مشهور منتشر ، والخبر به متواتر ، أخرجه أهل الصحيح ، ورواه من الصحابة بضعة عشر.

وقال البيهقي : قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف ، ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكلف ، وفيه دليل على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكا كأشرف الحيوان.

وقد نقل ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعي قال : ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا ، فقلت : أعطى عيسى إحياء الموتى ، قال : أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته ؛ فهذا أكبر من ذلك.

الموضع الذي دفن فيه الجذع

ونقل ابن زبالة اختلافا في دفن خشبته ؛ فعن عثمان بن محمد : دفنت دوين المنبر عن يساره ، وقال بعضهم : دفنت شرقي المنبر إلى جنبه ، وقال بعضهم : دفنت تحت المنبر ، وتقدم في رواية أنه دفن في موضعه الذي كان فيه ، ومحصل الرواية المتقدمة في كلام يحيى أنه كان في جهة المشرق يسار المصلّى الشريف.

ونقل ابن زبالة عن عبد العزيز بن محمد أن الأسطوان الملطّخ بالخلوق ثلثاها أو نحو ذلك محرابها موضع الجذع الذي كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب إليه ، بينها وبين القبلة أسطوان ، وبينها وبين المنبر أسطوان.

بدعة اصطنعها الناس بسبب الجذع

قلت : وهذه الأسطوانة هي التي تقدم أنها علم المصلّى الشريف عن يمينه ، ولهذا روى عقبة ما قدمناه من القيام بمقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة لمن عدل عنها قليلا ، وهذا مستند المطري في قوله : وكان هذا الجذع عن يمين مصلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لاصقا بجدار المسجد القبلي في موضع كرسي الشمعة اليمنى التي توضع عن يمين الإمام المصلّي في مقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأسطوانة التي قبلي الكرسي متقدمة عن موضع الجذع ؛ فلا يعتمد على قول من جعلها في موضع الجذع ، قال : وفيها خشبة ظاهرة مثبتة بالرصاص سدادة لموضع كان في حجر من حجارة الأسطوانة مفتوح قد حوط عليه بالبياض والخشبة ظاهرة ، تقول العامة : هذا الجذع الذي حن إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس كذلك بل هو من جملة البدع التي يجب إزالتها

٧

لئلا يفتن بها الناس ، كما أزيلت الجزعة التي كانت في المحراب القبلي ، وذكر قصة الجزعة التي قدمناها.

وقال المجد : إن الخشبة المذكورة كان يزدحم على زيارتها والتمسح بها ، ويعتقد الناس عامة أنها الجذع ، فظن بعض الفقهاء أن هذا من المنكر الذي يتعين إزالته ، وصرح بهذا في كتبه ، إلى أن وافق على ذلك شيخنا العز بن جماعة فأمر بإزالتها ، إلى آخر ما قدمناه عنه.

قال : وكان موضع الخشبة من الأسطوان المذكور على مقدار ذراعين من الأرض ارتفاعا ، وقد طلي عليه بالقصة ، ولا عين منه ولا أثر.

قلت : الذي يظهر ـ كما قدمته ـ أن هذه الخشبة كانت من العود الذي كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يضع يده عليه ويقول : عدلوا صفوفكم ، كما تقدم ، والله أعلم.

عود إلى الاختلاف في صانع المنبر

ونقل ابن زبالة الاختلاف في الذي عمل المنبر ، فقيل : غلام نصيبة المخزومي ، وقيل: غلام للعباس ، وقيل : غلام لسعيد بن العاص يقال له باقول (بموحدة وقاف مضمومة) وقيل : غلام لامرأة من الأنصار من بني ساعدة ، أو لامرأة لرجل منهم يقال له مينا ، وقوله «يقال له مينا» يحتمل المولى وزوج المرأة ، لكن عند يحيى قال إسماعيل بن عبد الله : الذي عمل المنبر غلام الأنصارية واسمه مينا ، وعند ابن بشكوال عن أبي بن أويس : عمل المنبر غلام لامرأة من الأنصار من بني سلمة أو بني ساعدة أو امرأة لرجل منهم يقال له مينا ، وهذا محتمل كالأول ، وقيل : عمله تميم الداري ، هذا حاصل ما ذكره ابن زبالة ، وفي رواية ليحيى : عمل المنبر صباح غلام العباس (بضم المهملة بعدها موحدة خفيفة) وتقدم تسميته كلابا ، ونقل المراغي عن بعض شيوخه أن الذي عمله باقوم (بالميم) باني الكعبة لقريش ، وفي الاستيعاب عن باقوم الرومي قال : صنعت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم منبرا من طرفاء له ثلاث درجات : المقعدة ، ودرجتيه ، قال ابن عبد البر : وإسناده ليس بالقائم.

وفي طبقات ابن سعد أن الصحابة قالوا : يا رسول الله إن الناس قد كثروا ، فلو اتخذت شيئا تقوم عليه إذا خطبت ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما شئتم ، قال سهلرضي‌الله‌عنه : ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد ، فذهبت أنا وذاك النجار إلى الغابة فقطعنا هذا المنبر من أثلة ، وفي لفظ : فحمل سهل منهن خشبة ، قال المجد : إسنادهما صحيح ، وعند قاسم بن أصبغ : وكان بالمدينة نجار واحد يقال له ميمون ، فذكر الحديث ، وعند الطبراني عن سهل : كنت جالسا مع خال لي من الأنصار ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : اخرج إلى الغابة وأتني من خشبها فاعمل لي

٨

منبرا ، الحديث. وأخرج الطبراني بإسناد فيه متروك أن اسم صانع المنبر إبراهيم ، وفي أسماء الصحابة لابن شبة مرسلا : اسمه قبيصة أو قصيبة بتقديم الصاد ، المخزومي ، مولاهم ، وعند أبي داود بإسناد جيد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بدّن قال تميم الداري : يا رسول الله ألا تتخذ لك منبرا يحمل ـ أو يجمع ـ عظامك ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : بلى ، فاتخذ له منبرا مرقاتين : أي غير المقعدة.

قال الحافظ ابن حجر : وليس في الروايات التي سمي فيها النجار قوي السند إلا هذا ، وليس فيه تصريح بأن الذي اتخذ المنبر تميم ، بل قد تبين من رواية ابن سعد المتقدمة أن تميما لم يعمله ، وأشبه الأقوال بالصواب أنه ميمون ؛ لكون الإسناد من طريق سهل ، ولا اعتداد بالأقوال الأخرى لكونها واهية.

قلت : ولا ينافيه قوله في مقدمة الشرح «باقوم أشهر الأقوال» فقد يشتهر الواهي.

وفي التحفة لابن عساكر : روينا من حديث أبي كبشة السلولي عن معاذرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أتّخذ منبرا فقد اتخذه أبي إبراهيم ، وإن اتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم ، صلى الله عليهما وسلم.

وأسند ابن النجار من حديث أنس : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة مسندا ظهره إليها ، فلما كثر الناس قال : ابنوا لي منبرا ، فبنوا له منبرا له عتبتان ، وهو يقتضي أن المنبر كان بناء ، ويحتمل أنه أطلق على تأليفه من الأخشاب اسم البناء ، لكن قال الحافظ ابن حجر : حكى بعض أهل السير أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب» ويعكر عليه ما تقدم في الأحاديث الصحيحة من أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب.

قلت : يحتمل أن ذلك المنبر المتخذ من الطين كان إلى جانب الجذع ، وكأنه كان بناء مرتفعا فقط ، وليس له درج ومقعدة بحيث يكمل الارتفاق به ؛ فلا ينافي ما تقدم في سبب اتخاذ المنبر من خشب ، ويؤيد ذلك ما ورد في حديث الإفك في الصحيحين عن عائشة قالت : فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر ، الحديث ، وهذه القصة متقدمة على اتخاذ المنبر من الخشب ؛ فقد جزم ابن النجار بأن عمله كان سنة ثمان ، وجزم ابن سعد بأنه كان في السنة السابعة ، على أن ذكر تميم والعباس في عمله كما تقدم يقتضي تأخره عن ذلك أيضا ؛ فقد كان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان ، وقدوم تميم سنة تسع ، وفي بعض طرق الحديث : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس بين أصحابه ، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو ، فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه ، فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه ، الحديث. وفي بعض طرقه أنه جاء والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب أي : على ذلك الدكان ، والله أعلم.

٩

وروى يحيى عن ابن أبي الزناد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يجلس على المجلس ، ويضع رجليه على الدرجة الثانية ، فلما ولي أبو بكر قام على الدرجة الثانية ، ووضع رجليه على الدرجة السفلى ، فلما ولي عمر قام على الدرجة السفلى ، ووضع رجليه على الأرض إذا قعد ، فلما ولي عثمان فعل ذلك ست سنين من خلافته ؛ ثم علا إلى موضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

ثم قال : قالوا فلما استخلف معاوية زاد في المنبر ، فجعل له ست درجات ، وكان عثمان أول من كسا المنبر قبطية.

أراد معاوية أن ينقل المنبر إلى الشام

قالوا : فلما قدم معاوية عام حج حرك المنبر ، وأراد أن يخرجه إلى الشام ، فكسفت الشمس يومئذ ، حتى بدت النجوم ، فاعتذر معاوية إلى الناس ، وقال : أردت أنظر إلى ما تحته ، وخشيت عليه من الأرضة. قال بعضهم : وكساه يومئذ قبطية أو لينة. ثم أسند عن سعيد ابن عمرو قصة تحريك معاوية للمنبر ، وأن الشمس كسفت ، واعتذاره بأن خشي عليه الأرضة ، وأنه كساه يومئذ قبطية يكون عليه أو لينة ، فكان يقال : هو أول من كساه ، قال يحيى : وأثبتهما عندنا أن عثمان هو أول من كساه ، وقد نقل ذلك ابن النجار عن الواقدي عن ابن أبي الزناد ، قال : فسرقت الكسوة امرأة ، فأتى بها عثمان ، فقال لها : هل سرقت؟ قولي لا ، فاعترفت ، فقطعها ، واتفق لامرأة مع ابن الزبير مثل ذلك.

وفي تاريخ الواقدي : أراد معاويةرضي‌الله‌عنه سنة خمسين تحويل منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى دمشق ، فكسفت الشمس يومئذ ، وكلمه أبو هريرةرضي‌الله‌عنه فيه ، فتركه ، فلما كان عبد الملك أراد ذلك فكلمه قبيصة فتركه ؛ فلما كان الوليد أراد ذلك فأرسل سعيد بن المسيب إلى عمر بن عبد العزيز فكلمه فيه فتركه ، فلما كان سليمان قيل له في تحويله قال : لا ؛ ها الله ، أخذنا الدنيا ونعمد إلى علم من أعلام الإسلام نريد تحويله؟ ذاك شيء لا أفعله ؛ وما كنت أحب أن يذكر هذا عن عبد الملك ولا عن الوليد! ما لنا ولهذا؟

رفع المنبر ست درجات

وأسند ابن زبالة عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال : بعث معاويةرضي‌الله‌عنه إلى مروان يأمره أن يحمل إليه منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمر به أن يقلع ، فأظلمت المدينة ، وأصابتهم ريح شديدة ، قال : فخرج عليهم مروان فخطبهم ، وقال : يا أهل المدينة إنكم تزعمون أن أمير المؤمنين بعث إلى منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمير المؤمنين أعلم بالله من أن يغير منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ما وضعه عليه ، إنما أمرني أن أكرمه وأرفعه ، قال : فدعا نجارا فزاد فيه الزيادة التي هو عليها اليوم ، ووضعه موضعه اليوم.

وفي رواية له عن ابن قطن : قلع مروان بن الحكم منبر رسول الله ، وكان درجتين

١٠

والمجلس ، وأراد أن يبعث به إلى معاوية ، قال : فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم ، قال : فزاد فيه ست درجات ، وخطب الناس فقال : إني إنما رفعته حين كثر الناس.

وعند يحيى في رواية أخرى : كتب معاويةرضي‌الله‌عنه إلى مروان وهو على المدينة أن أرسل لي بمنبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج مروان فقلعه ، فأصابتنا ريح مظلمة بدت فيها النجوم نهارا ، ويلقى الرجل الرجل يصكه فلا يعرفه ، وذكر اعتذار مروان المتقدم ، وقال : إنما كتب إلي يأمرني أن أرفعه من الأرض ، فدعا له النجاجرة ، فعمل هذه الدرجات ورفعوه عليها ، وهي ـ أي الدرجات التي زادها ـ ست درجات ، قال : ثم لم يزد فيه أحد قبله ولا بعده.

وقال ابن زبالة عقب حديث رواه من طريق سفيان عن كثير بن زيد عن المطلب ما لفظه : والذي زاد في درج المنبر معاوية بن أبي سفيان.

قال سفيان : قال كثير : فأخبرني الوليد بن رباح قال : كسفت الشمس يوم زاد معاوية في المنبر حتى رؤيت النجوم.

وروى ابن النجار زيادة مروان فيه ، وأنه صار تسع درجات بالمجلس ، عن ابن أبي الزناد ، ثم قال : ولما قدم المهدي المدينة سنة إحدى وستين ومائة ، فقال لمالك بن أنس : إني أريد أن أعيد منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على حاله ، فقال له مالك : إنما هو من طرفاء ، وقد سمّر إلى هذه العيدان وشد ، فمتى نزعته خفت أن يتهافت ويهلك ، فلا أرى أن تغيره ، فانصرف المهدي عن تغييره.

وروى ابن شبة قصة المهدي عن محمد بن يحيى عن محمد بن أبي فديك.

عدد درجات المنبر

قلت : وجميع ما قدمناه من كلام المؤرخين مقتض لاتفاقهم على أن منبرهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان درجتين غير المجلس ونقله ابن النجار عن الواقدي ، لكن سبق في رواية الدارمي «هذه المراقي(١) الثلاث أو الأربع» على الشك ، وفي صحيح مسلم «هذه الثلاث درجات» من غير شك ، وقال الكمال الدميري في شرح المنهاج : وكانصلى‌الله‌عليه‌وسلم منبره ثلاث درج غير الدرجة التي تسمى المستراح ، ولعل مأخذه ظاهر ذلك مع حديث أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم رقي المنبر فلما رقي الدرجة الأولى قال : آمين ، ثم رقي الدرجة الثانية فقال : آمين ، ثم رقي الدرجة الثالثة فقال : آمين ، فقالوا : يا رسول الله سمعناك قلت آمين ثلاث مرات ، قال : لما رقيت الدرجة الأولى جاء جبريلعليه‌السلام فقال : شقي عبد أدرك رمضان فانسلخ عنه فلم يغفر له ، قلت :

__________________

(١) المراقي : وسائل الرقي أو آلاته ، مفردها : مرقاة.

١١

آمين ، ثم قال : شقي عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك ، قلت : آمين ، ثم قال : شقي عبد أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة ، فقلت : آمين ، رواه يحيى بن الحسن عن جابر ، ورواه الحاكم عن كعب بن عجرة(١) وقال : صحيح الإسناد ، ولفظه : قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : احضروا المنبر ، فحضرنا ، فلما رقي درجة قال : آمين ، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال : آمين ، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال : آمين ، فلما نزل قلنا : يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه ، قال : إن جبريل عرض لي فقال : بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له ، قلت : آمين ؛ فلما رقيت الثانية قال : بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك ، فقلت : آمين ، فلما رقيت الثالثة قال : بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة ، قلت : آمين ، ويمكن حمله على أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتقى حينئذ على المجلس وهي الدرجة الثالثة.

مساحة المنبر

قال ابن زبالة : وطول منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ذراعان في السماء ، وعرضه ذراع في ذراع ، وتربيعه سواء ، وفيه مما كان يلي ظهره إذا قعد ثلاثة أعواد تدور ، ذهب إحداهن ، وانقلعت إحداهن سنة ثمان وتسعين ومائة ، وأمر به داود بن عيسى فأعيد ، وفيما عمل مروان في حائط المنبر الخشب عشرة أعواد لا يتحركن ، وطول منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتفع في السماء مع الخشب الذي عمله مروان ـ أي الأعواد المتقدمة ـ ثلاث أذرع ونصف.

وقال عقب كلامه الآتي في ذرع ما عليه المنبر اليوم ، يعني زمنه ، ما لفظه : وطول المجلس ـ أي مجلسهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شبران وأربع أصابع في مثل ذلك. مربع ؛ فقوله أولا : «وعرضه ذراع في ذراع» إنما أراد به مقعد المنبر ؛ لما قاله هنا في وصف المقعد بدون درجتيه ؛ ولأنه قال هنا عقب ما تقدم : وما بين أسفل قوائم منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الأول إلى رمانته خمسة أشبار وشيء ؛ وعرض درجه شبران ، وطولها شبر ، وطوله من ورائه ـ يعني محل الاستناد ـ شبران وشيء ؛ فيؤخذ من ذلك أن امتداد المنبر النبوي من أوله ـ وهو ما يلي القبلة ـ إلى ما يلي آخره في الشام أربعة أشبار وشيء ؛ لقوله : إن عرض درجه شبران ، وإن المجلس شبران وأربع أصابع ، وقوله : «وما بين أسفل قوائم منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى آخره» معناه أن من طرف المنبر النبوي الذي يلي الأرض إلى طرف رمانته التي يضع عليها يده الكريمة خمسة أشبار وشيء ؛ وذلك نحو ذراعين ونصف ، وقد تقدم أن ارتفاع المنبر النبوي خاصة ذراعان ؛ فيكون ارتفاع الرمانة نحو نصف ذراع.

وقال ابن النجار : طول منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذراعان وشبر وثلاث أصابع ، وعرضه ذراع

__________________

(١) أبو محمد ، القضاعي ، البلوي ، المدني ، حليف القوافل ، مات سنة إحدى وخمسين روى عنه البخاري ومسلم.

١٢

راجح ، وطول صدره ـ وهو مستند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ذراع ، وطول رمانتي المنبر اللتين كان يمسكهما بيده الكريمتين إذا جلس شبر وأصبعان ، وعرضه ذراع في ذراع ، يريد وتربيعه سواء ، ولا يخفى ما فيه من المخالفة لكلام ابن زبالة.

وقال ابن زبالة في الكلام على فضل ما بين القبر والمنبر ، بعد ذكر المرمر الذي حول المنبر ، ما لفظه : وفي المنبر من أسفله إلى أعلاه سبع كوى(١) مستطيرة من جوانبه الثلاث ، وفي جنبه الذي عمل مروان من قبل المشرق ثماني عشرة كوة(١) مستديرة شبه المربعة ، ومن قبل المغرب ثماني عشرة كوة مثل ذلك ، وكان فيه خمسة أعواد تدور ، فذهب بعضها وبقي اثنان منها ، فسقط أحدهما في سلطان داود بن عيسى على المدينة في سنة ثمان وتسعين ومائة ، فأمر به فأعيد.

وقال في موضع آخر : وفيما عمل مروان في حائط المنبر الخشب عشرة أعواد لا يتحركن ، ثم قال : وفي منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة خمسة أعواد من جوانبه الثلاث ، فذهب بعضها.

وقال بعد ما تقدم عنه في ذرع منبرهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لفظه : وذرع طول المنبر اليوم أربع أذرع ، وعرضه ذراع وشيء يسير ، وما بين الرمانة المؤخرة والرمانة التي كانت في منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم القديم ذراع وشيء ، وما بين رمانة منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الرمانة المحدثة في مقدم المنبر ذراعان وعظم الذراع ، وما بين الرمانة والأرض ثلاث أذرع وشيء ، وطول المنبر اليوم من أسفل عتبته إلى مؤخره سبع أذرع ـ أي بتقديم السين ـ وشبر ، وطوله في الأرض إلى مؤخره ست أذرع ، هذه عبارته بحروفها ، ويتعين حمل كلامه على أن امتداد المنبر في الأرض من أسفل عتبته الرخام التي أمامه إلى مؤخر المنبر سبعة أذرع وشبر ، وطول امتداده وهو في الأرض إلى مؤخره مع إسقاط العتبة ست أذرع ، حتى يلتئم كلامه ، وقد ذكر فيما قدمناه عنه أن حول المنبر مرمر مرتفع قدر الذراع ، وفيه شيء محدث غير مرتفع زاده الحسن بن زيد.

وقال في موضع آخر : والمنبر مبني فوق رخام ، وهو في وسط الرخام ، فسمي المرمر رخاما ، وقال : إن هذا الرخام حده من الأسطوانتين اللتين في قبلة المنبر ـ أي خلفه ـ إلى الأسطوانتين اللتين تليانهما مما يلي الشام ـ أي أمام المنبر ـ وقد سمى ابن النجار هذا الرخام الذي عليه المنبر دكة ، وقال : إن طولها شبر وعقد ، يعني في الارتفاع ، وسمى ذلك أبو الحسين بن جبير في رحلته حوضا ، وكأنه أخذ هذه التسمية مما ورد في أن المنبر على الحوض ، وذكر في طول هذا الرخام وعرضه ما يقرب مما قدمناه في حدود المسجد النبوي ، قال : وارتفاعه شبر ونصف.

__________________

(١) الكوى جمع كوّة : الخرق في الحائط.

(١) الكوى جمع كوّة : الخرق في الحائط.

١٣

قلت : ولما حفر متولي العمارة في زماننا أرض المسجد الشريف وسواها بأرض المصلى الشريف وجد هذا الرخام المذكور ، وارتفاعه عن أرض المصلى الشريف نحو ما ذكره ابن النجار وابن جبير ؛ ثم لما أرادوا تأسيس المنبر الرخام الآتي ذكره حفروا حول الدكة المذكورة فظهر أنها منخفضة عن أرض المصلّى الشريف التي استقر عليها الحال اليوم يسيرا ، وخلفها من جهة القبلة إفريز نحو ثلث ذراع ، وطولها سبع أذرع ، بتقديم السين ، وشبر ، وهي مجوفة شبيهة بالحوض ، فصح ما ذكره ابن جبير في تسميتها حوضا ، وصح أيضا ما سيأتي عنه من أن سعة المنبر خمسة أشبار ؛ لأن جوف هذا الحوض الذي وجدناه بما دخل من عمودي المنبر في أحجاره خمسة أشبار ، وقول ابن زبالة أولا «وذرع طول المنبر اليوم أربع أذرع» مراده ارتفاعه في الهواء مع الدرج الست التي زادها مروان ؛ فيكون طول الدرج الست ذراعين ؛ فتكون كل درجة ثلث ذراع ، فيقرب مما قدمه ابن زبالة في طول درج منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الذي تقتضيه المناسبة.

ونقل الزين المراغي عن ابن زبالة أنه قال : طول منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بما زيد فيه أربعة أذرع ، ومن أسفل عتبته إلى أعلاه تسعة أذرع وشبر.

قلت : كذا رأيته بخط الزين ، وضبط قوله : «تسعة أذرع» بتقديم التاء الفوقية ، وهو غلط في النسخة التي وقعت له ؛ لأن الذي قدمناه عن ابن زبالة إنما هو من أسفل عتبته إلى مؤخره ، وقررناه بما تقدم ، وإنما قضينا على ذلك بالغلط لأنه حينئذ لا يلتئم أطراف كلامه ، ولأنه يقتضي أن يكون ارتفاع المنبر في الهواء تسعة أذرع ، بتقديم التاء ، وشبرا ، فإذا قام عليه القائم يقرب من سقف المسجد ، ويبعد كل البعد كون منبر في ذلك الزمان ارتفاعه هذا القدر ، وأيضا فابن زبالة قد صرح بأن الذي زاده مروان ست درج ، فيلزم أن يكون كل درجة ذراعا وشيئا ، وهو في غاية البعد ، وما نقلناه عن ابن زبالة يقرب مما ذكره ابن النجار ؛ فإنه قال عقب ما قدمناه عنه في وصف منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لفظه : وطول المنبر اليوم ثلاثة أذرع وشبر وثلاث أصابع ، والدكة التي عليها من رخام طولها شبر وعقد ، ومن رأسه ـ أي المنبر ـ دون دكته إلى عتبته خمسة أذرع وشبر وأربع أصابع ، وقد زيد فيه اليوم عتبتان وجعل عليه باب يفتح يوم الجمعة ، انتهى ؛ فهو قريب مما ذكره ابن زبالة من أن طول المنبر ـ يعني في الهواء ـ أربعة أذرع ، وامتداده هو خاصة في الأرض من عتبته إلى مؤخره ستة أذرع ، ويوافق أيضا ما ذكره الفقيه أبو الحسين محمد بن جبير من حديث القدر ، فإنه قال : رأيت منبر المدينة الشريف في عام ثمان وسبعين وخمسمائة ، وارتفاعه من الأرض نحو القامة أو أزيد ، وسعته خمسة أشبار ، وطوله خمس خطوات ، وأدراجه ثمانية ، وله باب على هيئة الشباك مقفل يفتح يوم الجمعة ، وطوله ـ أي الباب ـ أربعة أشبار ونصف شبر ، وهذا

١٤

المنبر هو الذي وصفه ابن النجار فيما يظهر ؛ لأنه وضع تاريخه سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة ، وتوفي قبل حريق المسجد سنة ثلاث وأربعين وستمائة ، وكان احتراق المسجد كما سيأتي سنة أربع وخمسين وستمائة ، وفيه احترق هذا المنبر ، وفقد الناس بركته.

وقد زاد ابن جبير على ابن النجار في وصف هذا المنبر فقال : وهو مغشّى بعود الآبنوس ، ومقعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أعلاه ظاهر قد طبق عليه لوح من الآبنوس غير متصل به يصونه من القعود عليه ؛ فيدخل الناس أيديهم إليه ويمسحونه بها تبركا بلمس ذلك المقعد الكريم ، وعلى رأس رجل المنبر الأيمن حيث يضع الخطيب يده إذا خطب حلقة فضة مجوفة مستطيلة تشبه حلقة الخياط التي يضعها في أصبعه إلا أنها أكبر منها ، وهي لاعبة تستدير في موضعها ، انتهى.

والظاهر : أن هذا المنبر غير الذي وصفه ابن زبالة لأنه لم يصفه بذلك ، ويوضح ذلك ما ذكره في الطراز لسند من المالكية حيث قال : إن منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل عليه منبر كالغلاف ، وجعل في المنبر الأعلى طاق مما يلي الروضة ، فيدخل الناس منها أيديهم يمسحون منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتبركون بذلك ، انتهى ؛ فهذا شيء حدث بعد ابن زبالة.

وقد قال المطري : حدثني يعقوب بن أبي بكر من أولاد المجاورين ، وكان أبوه أبو بكر فراشا من قوام المسجد ، وهو الذي كان حريق المسجد على يده ، أن المنبر الذي زاده معاوية ورفع منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تهافت على طول الزمان ، وأن بعض خلفاء بني العباس جدده ، واتخذ من بقايا أعواد منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمشاطا للتبرك ، وعمل المنبر الذي ذكره ابن النجار فيما تقدم.

قال يعقوب : سمعت ذلك من جماعة بالمدينة ممن يوثق بهم ، وأن المنبر المحترق هو الذي جدده الخليفة المذكور ، وهو الذي أدركه ابن النجار ؛ لأن وفاته قبل الحريق.

قلت : وظاهر كلام ابن عساكر في تحفته أنه كان قد بقي من المنبر الشريف بقايا فقط إلى احتراق المسجد ، وهو من أدرك حريقه ، وأورد في كتابه ما ذكره شيخه ابن النجار ، ولفظه : وقد احترقت بقايا منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم القديمة ، وفات الزائرين لمس رمانة المنبر التي كانصلى‌الله‌عليه‌وسلم يضع يده المقدسة المكرمة عليها عند جلوسه عليه ، ولمس موضع جلوسه منه بين الخطبتين وقبلهما ، ولمس موضع قدميه الشريفتين بركة عامة ونفع عائد ، وفيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عوض من كل ذاهب ودرك من كل فائت ، انتهى. وهو صريح في بقاء ما ذكره إلى حين الحريق ، ويؤيده ما تقدم عن رحلة ابن جبير وصاحب الطراز ، بل ظفرنا بما يشهد لصحة ذلك ؛ فإنه لما أراد متولي العمارة تأسيس المنبر الرخام الآتي ذكره حفروا على الدكة التي تقدم أن المنبر

١٥

كان عليها فوجدت مجوفة كالحوض ، وبه عبر ابن جبير عنها ، فوجدوا فيما يلي القبلة منها قطعا كثيرة من أخشاب المنبر المحترق ـ أعني الذي كان فيه بقايا منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فوضعها الأقدمون في جوف ذلك المحل حرصا على البركة ، وبنوا فوقها بالآجر بحيث سدوا جوف ذلك الحوض كله ، فصار دكة مستوية ، ووضعوا المنبر الآتي ذكره عليها ، وشاهدت آثار قائمتي المنبر الشريف اللتين كان بأعلاهما رمانتاه قد نحت لهما في الحجر المحيط بالحوض المذكور على نحو ذراع وثلث من طرف باطن الحوض المذكور مما يلي القبلة ، وسعة الحوض المذكور خمسة أشبار كما ذكره ابن جبير في سعة المنبر ، وعرض جدار الحوض المذكور خلف المنبر نحو نصف ذراع ، وقد حرصت على وضع ما وجد من تلك الأخشاب في محلها ، فوضع ما بقي منها في محله من الحوض المذكور ، وبنوا عليه كما سيأتي ، والله أعلم.

ولما احترق المنبر المذكور في جملة الحريق أرسل الملك المظفر صاحب اليمن في سنة ست وخمسين منبرا له رمانتان من الصندل ، فنصب في موضع منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ذكره المطري فمن بعده ، قال : ولم يزل يخطب عليه عشر سنين ، فلما كان في سنة ست وستين وستمائة أرسل الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري هذا المنبر الموجود اليوم أي : زمن المطري ، فقلع منبر صاحب اليمن ، وحمل إلى حاصل الحرم ، ونصب هذا المنبر مكانه ، وطوله أربع أذرع في السماء ، ومن رأسه إلى عتبته سبع أذرع يزيد قليلا ، وعدد درجاته تسع بالمقعد.

قال المجد : وله باب بمصراعين ، في كل مصراع رمانة من فضة ، ومكتوب على جانبه الأيسر اسم صانعه «أبو بكر بن يوسف النجار» وكان من أكابر الصالحين الأخيار ، وهو الذي قدم بالمنبر إلى المدينة ، فوضعه في موضعه ، فأحسن وضعه ، وأتقن نجارته وصنعته ، ثم انقطع في المدينة.

قال الزين المراغي : وبقي منبر الظاهر بيبرس يخطب عليه من سنة ست وستين وستمائة إلى سنة سبع وتسعين وسبعمائة ، فكانت مدة الخطبة عليه مائة سنة واثنتين وثلاثين سنة ، فبدأ فيه أكل الأرضة ؛ فأرسل الظاهر برقوق صاحب مصر هذا المنبر الموجود اليوم : أي زمن المراغي ، أرسله في آخر سنة سبع وتسعين وسبعمائة ، وقلع منبر الظاهر بيبرس ، انتهى.

قلت : ولم يزل هذا المنبر موجودا إلى ما بعد العشرين وثمان مائة ، كما أخبرني به جماعة من مشايخ الحرم منهم الشيخ صالح المعمر الجمال عبد الله بن قاضي القضاة عبد الرحمن بن صالح ، قال : فأرسل سلطان مصر الملك «المؤيد شيخ» هذا المنبر الموجود اليوم عام اثنين وعشرين وثمان مائة.

ثم رأيت في كلام الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر أن المنبر الموجود اليوم أرسله المؤيد

١٦

سنة عشرين وثمان مائة ؛ فهذا هو المعتمد ، لكن لم يطلع ابن حجر على ما ذكره المراغي من منبر الظاهر برقوق ، وجعل إتيان منبر المؤيد هذا بدلا عن منبر الظاهر بيبرس ، وكلام المراغي أولى بالاعتماد في ذلك ؛ فإنه كان بالمدينة حينئذ ، وعلى هذا فمدة الخطبة على منبر الظاهر برقوق ثلاث أو أربع وعشرون سنة ، ثم وضع منبر المؤيد.

وأخبرني السراج النفطي أنه صنعه أهل الشام ، وجاءوا به المؤيد ليجعله بمدرسته المؤيدية ، فوجدوا أهل مصر قد صنعوا لها منبرا ، فجهز المؤيد منبر أهل الشام إلى المدينة الشريفة ، وقال لي الجمال عبد الله بن صالح : شاهدت وضعه موضع المنبر الذي كان قبله.

قلت : ويدل على صحة ذلك ما قدمناه من اختبار ذرع ما بينه وبين المصلى الشريف ؛ إذ المنقول أن بينهما أربعة عشر ذراعا وشبرا ، وقد اختبرته من ناحية المصلى الشريف إلى ما حاذاه من المنبر في المغرب فكان كذلك ؛ فوضعه من هذه الجهة صحيح لا شك فيه ، وأما من جهة القبلة فقد قال المطري : إن المنبر الذي أدركه بينه وبين الدرابزين الذي في قبلة الروضة مقدار أربعة أذرع وربع ذراع ، وقد ذكر الزين المراغي في كتابه ما ذكره المطري من الذرع ، ولم يتعقبه ؛ فاقتضى أن المنبر الذي تقدم وضعه في زمنه وضع موضع المنبر الذي كان في زمان المطري ، وأقر أيضا قول المطري في حدود المسجد أن المنبر لم يغير عن منصبه الأول.

وقد ذكر ابن جماعة أيضا ذرع ما بين المنبر والدرابزين ، وهو يعني المنبر الموجود زمن المطري ، فقال : إن بينهما ثلاثة أذرع بذراع العمل ، وهو أزيد مما ذكره المطري بربع ذراع راجح ؛ لأن ذراع العمل كما تقدم ذراع ونصف ، وكأن المطري يعني ذراع المدينة اليوم كما يؤخذ من كلام المراغي فيوافق كلام ابن جماعة ، والذي بين هذا المنبر الموجود اليوم وبين الدرابزين المذكور ذراعان وثلث بذراع العمل ، وذلك ثلاثة أذرع ونصف من الذراع الذي قدمنا أنه المراد عند الإطلاق ؛ فيحتمل أن يكون هذا المنبر مقدم الوضع لجهة القبلة على المنبر الذي كان قبله ، وهو مقتضى ما نقله الأثبات ، لكني أستبعده للأخبار ممن لقيناه بوضعه موضع ذاك.

ثم تبين عند انكشاف الدكة التي تقدم ذكرها من آثار المنبر المحترق قديما ما علمنا به صواب ما ذكره المطري وغيره أن هذا المنبر مقدم الوضع على الذي قبله من جهة القبلة بما يقرب من ذراع ، وكذا ظهر زيادته من جهة الشام أيضا على الدكة الأصلية المتقدم وصفها بقريب من ذراع ، ووجد محرفا عنها من طرفه الشامي نحو المغرب قدر شبر لما فيها من التيامن الذي تقدمت الإشارة إليه في التنبيه الثالث من الفصل قبله ، وكنت قد أيدت وضعه بكونه أقرب إلى ما ورد فيما كان بين المنبر والجدار القبلي كما سيأتي فانكشف الحق لذي

١٧

عينين ، والذي لقيناه وأخبر بوضعه موضع المنبر الذي كان قبله هو الجمال بن صالح في آخر عمره ، وكان غير تام الضبط حينئذ ، وكنت قد أيدت خبره بأنا قد قدمنا إلى الصندوق الذي في قبلة المصلى الشريف في عرض الجدار ، وأن المصلى الشريف لم يغير باتفاق ، وأن منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بينه وبين الجدار القبلي ممر الشاة أو ممر الرجل منحرفا ، وأقصى ما قيل فيه ذراع وشيء كما قدمناه ، فإذا أسقطت قدر ما بين طرف المصلى الشريف والدرابزين الذي أمامه مما بين المنبر اليوم والدرابزين المذكور وهو ثلاثة أذرع ونصف بقي ذراع ، وهو نحو القدر المنقول فيما بين المنبر القديم وجدار المسجد الشريف ، ثم تبين لنا مما سبق في حدود المسجد النبوي وبانكشاف المرمر الذي في قبلة المنبر تقدم الدرابزين المذكور عن ابتداء المسجد النبوي بأزيد من ذراع كما قدمناه في حدود المسجد النبوي ؛ فالصواب ما ذكره المطري ومن تبعه.

وطول هذا المنبر في السماء سوى قبته وقوائمها ، بل من الأرض إلى محل الجلوس ، ستة أذرع وثلث ، وارتفاع الخافقتين اللتين يمين المجلس وشماله ذراع وثلث ، وامتداد المنبر في الأرض من جهة بابه إلى مؤخره ثمانية أذرع ونصف راجحة ، وعدد درجه ثمانية ، وبعدها مجلس ارتفاعه نحو ذراع ونصف ، وقبته مرتفعة ، ولها هلال قائم عليها مرتفع أيضا ، وما أظن منبرا وضع قبله في موضعه أرفع منه ، وله باب بصرعتين.

وقد احترق هذا المنبر في حريق المسجد الثاني الحادث في رمضان عام ستة وثمانين وثمان مائة ، فكانت مدة الخطبة عليه نحو سبع وستين سنة.

ولما نظف أهل المدينة محله جعلوا في موضعه منبرا من آجر مطلي بالنورة ، واستمر يخطب عليه إلى أثناء شهر رجب سنة ثمان وثمانين ، فهدم رابع الشهر المذكور ، وحفروا لتأسيس المنبر الرخام الموجود اليوم ظاهر الدكة المتقدم ذكرها ، فوجدت على النحو المتقدم ، ونقضوا من بعضها قريب القامة فلم يبلغوا نهايتها ، ووجدوها محكمة التأسيس في الأرض ، فأعادوها كما كانت ، إلا ما كان فوقها من نحو أزيد من نصف ذراع من الآجر ، وسوّوا ما وجد مجوفا منها كالحوض بالبناء بعد وضع ما تقدم ذكره مما وجد بمقدمها من بقايا المنبر القديم المحترق في الحريق الأول بمقدمها أيضا ، وكانوا قد سألوني عن ابتداء حد المنبر القديم من جهة القبلة والروضة فأخبرتهم بذلك ، وأن ذلك الحوض وما به من محل قوائم المنبر الأصلي إمام يقتدى به لموافقته ما ذكره المؤرخون قديما وحديثا ، فشرعوا في وضع رخام المنبر عليها على سمت ما ظهر من الفرضة التي وجدوها في الحوض المذكور على الاستقامة من غير انحراف ، وبينها وبين طرف الدكة الشرقي خمسة أصابع ، لما ظهر من أن المنبر الأصلي كان بالحوض المذكور ، ومشاهدة محل قوائمه نقرا في الحجر وبقايا الرصاص

١٨

الذي كانت القوائم مثبتة به ، وما وصفه المؤرخون في أمر المنبر الأصلي شاهد لذلك ، ومعلوم أن الحوض الموجود في باطن تلك الدكة لا يمكن وضع المنبر فيه إلا على الاستقامة ، سيما وقد طابقت سعته ما ذكره ابن جبير في سعة المنبر الأصلي ، وإحكام تلك الدكة بحيث إنهم حفروا منها قرب القامة ، ولم يدركوا آخرها ، وإتقان فرضتي الحوض المذكور بالرصاص ، وترخيم تلك الدكة قديما ، كله قاض بجعل السلف لها من أجل وضع المنبر فيها ، كما صرح به المؤرخون ، ولم يكن السلف مع عظيم إتقانهم يجعلونها لوضع المنبر ويحرفونها عن وضعه ؛ لأن وضعها تابع لوضعه إذ جعلت من أجله ، وقد كان وضعه مشاهدا لهم ؛ لوجود المنبر النبوي بين أظهرهم وإتقانها وما سبق من المتقدمين في ذكر ترخيمها شاهد بعملها في عمارة عمر بن عبد العزيز للمسجد إن لم يكن من زمن معاويةرضي‌الله‌عنه عند تحريكه المنبر كما سبق ، ولم أرتب عند مشاهدتها في وضع المنبر بها كذلك ، وتيامن حوضها الذي كان المنبر به يسير جدا لا يخرج صدر المستقبل عن القبلة ، وقد أشار يحيى فيما قدمناه عنه في التنبيه الثالث إلى تصويب وضعه ، وأيضا فقد يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وضعه متيامنا لما أوضحناه في الرسالة الموسومة بالنصيحة ، والمنبر جماد ليس بمصل حتى يحرر أمره في الاستقبال ويترك ما وجد من حدوده الأصلية المجمع عليها في الأعصر الماضية المترتب عليها حدود الروضة الشريفة ، فشرعوا في وضع رخام المنبر المذكور على النحو الذي ذكرته ، غير أنهم جعلوا جداره من جهة القبلة على الأحجار التي خلف الحوض من جهة القبلة ؛ لاقتضاء نظرهم ذلك ، ولو كان لي من الأمر شيء ما وافقت عليه.

ثم وقع من بعض ذوي النفوس ما أوضحناه في الرسالة الموسومة (بالنصيحة الواجبة القبول ، في بيان وضع منبر الرسول)صلى‌الله‌عليه‌وسلم .

والحاصل : أنهم نقضوا ما سبق ، وزادوا خلف أحجار الحوض المذكور نحو ربع ذراع العمل حتى ساوى ذلك محل المنبر المحترق من جهة القبلة ، وحرفوه على تلك الدكة لجهة المغرب أزيد من تحريف المنبر المحترق ، وجعلوا هذا المنبر في محل المحترق من جهة القبلة ومساو لطرفها الشرقي مما يلي القبلة أيضا ، وزعموا أنه لا يعول على كلام من قدمناه من الأئمة ، ويتحرر مما سبق أنه مقدم على محل المنبر الأصلي لجهة القبلة بعشرين قيراطا من ذراع الحديد ، وهو نحو ذراع اليد ، وأن المنبر النبوي لم يقع في محله نغير إلا من تاريخ وضع المنبر المحترق في زماننا لأنه خفي على واضعه ما في جوف الدكة المذكورة ، ولم يدركه أحد من مؤرخي المدينة ، وكان مفرط الطول بحيث كان قاطعا للصف الباقي من الروضة ، وقد اقتدى به واضع هذا المنبر لكونه من آبائه ، ولم يبال ولي الأمر بتفويته المنقبة العظيمة في إعادة وضع منبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما كان عليه ، وهذا المنبر ـ أعني الرخام ـ أقصر من امتداد المنبر المحترق في الأرض بنحو ثلاثة أرباع ذراع ، وعدد درجه مع مجلسه كالمحترق ، ومحل عود

١٩

المنبر الأصلي منه مما يلي الروضة وهو الذي كان بأعلاه رمانة المنبر النبوي قبل عمود هذا المنبر بأزيد من قيراط ، وذلك على نحو ذراعين وشيء من طرف المنبر المذكور من القبلة.

وقد اشتهر محله من أحجار الدكة المذكورة بسبب تحريف المنبر المذكور بحيث تغيرت حدود الروضة الشريفة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

كسوة المنبر

وفي يوم الجمعة يجعل على باب المنبر ستر من حرير أسود مرقوم بحرير أبيض وقد قدمنا أول من كسا المنبر.

وأسند ابن زبالة عن هشام بن عروة أن ابن الزبير كان يلبس منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم القباطي فسرقت امرأة قبطية فقطعها ، وقال ابن النجار : ولم يزل الخلفاء إلى يومنا هذا يرسلون في كل سنة ثوبا من الحرير الأسود له علم ذهب يكسى به المنبر ، قال : ولما كثرت الكسوة عندهم أخذوها فجعلوها ستورا على أبواب الحرم.

ستور الأبواب كسوة الحجارة

قلت : قد استقر الأمر بعد قتل الخليفة المستعصم على حمل الكسوة من مصر كما قاله الزين المراغي قال : والأبواب مستقلة اليوم بستور ، قال : وإنما يظهرونها في أوقات المهمات كقدوم أمير المدينة ، وذكر ما سيأتي في كسوة الحجرة من وقف قرية بمصر على ذلك وعلى كسوة الكعبة الشريفة ؛ فالكعبة تكسي كل عام مرة ، والحجرة والمنبر في كل ست سنين مرة.

وقال المجد : والمنبر يحمل له في كل سبعة أعوام أو نحوها من الديار المصرية كسوة معظمة ملوكية يكساها من الجمعة إلى الجمعة ، ورايتان سوداوان ينسجان أبدع نسج يرفعان أمام وجه الخطيب في جانبي المنبر قريبا من الباب.

قلت : في زماننا تمضي السبع سنين والعشر وأكثر من ذلك ولا تصل كسوة ، والذي يجعل اليوم على المنبر إنما هو الستر المتقدم ذكره مع الرايتين اللتين ذكرهما المجد ، والله أعلم.

الفصل الخامس

في فضائل المسجد الشريف

قال الله تعالى :( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) [التوبة : ١٠٨].

المسجد الذي أسس على التقوى

روينا في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال : دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت لبعض نسائه ، فقلت : يا رسول الله ، أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال : فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض ، ثم قال : هو مسجدكم هذا ، لمسجد المدينة.

٢٠

ولأحمد والترمذي من وجه آخر عن أبي سعيد : اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألاه عن ذلك ، فقال : هو هذا ، وفي ذلك ـ يعني مسجد قباء ـ خير كثير ، وأخرجه أحمد من وجه آخر مرفوعا ، وفي العتبية عن مالك ما لفظه : وقال : المسجد الذي ذكر اللهعزوجل أنه أسس على التقوى من أول يوم الآية هو مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا ، أي مسجد المدينة ، ثم قال : أين كان يقوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؟ أليس في هذا؟ ويأتونه أولئك من هنالك.

وقد قال الله سبحانه وتعالى :( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ) [الجمعة : ١١] فإنما هو مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

وقد قال عمر بن الخطاب : لو لا أني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو سمعته يريد أن يقدم القبلة ، وقال عمر بيده هكذا ، ما قدمتها ، ثم قدمها عمر موضع المقصورة الآن ، انتهى.

قال ابن رشد في بيانه : ما ذهب إليه مالك مروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذهب قوم إلى أنه مسجد قباء ، فاستدلوا بما روي أن الآية لما نزلت قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا معشر الأنصار ، إن الله قد أثنى عليكم خيرا ، الحديث ، قال : ولا دليل فيه ؛ لأن أولئك كانوا في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه كان معمورا بالمهاجرين والأنصار ومن سواهم ، قال : واستدلال مالك بقول عمر المتقدم ظاهر ؛ لأن الله تعالى لما ذكر فيه أنه أسس على التقوى لم يستجز نقض بنائه وتبديل قبلته ، إلا بما سمع من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ورآه قد أراد أن يفعله.

قلت : ما ذكره مالك من كون مسجد المدينة هو المراد هو ظاهر ما قدمناه ، لكن قوله تعالى( مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ) يقضي أنه مسجد قباء ؛ لأنه ليس المراد أول أيام الدنيا ، بل أول أيام حلولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بدار الهجرة ، وذلك هو مسجد قباء إلا أن يدعى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شرع في تأسيس مسجد المدينة أيضا من أول يوم قدومه لها ، أو يقال : المراد من أول يوم تأسيسه ، وسيأتي في مسجد قباء أشياء صريحة في أنه المراد ؛ فتعين الجمع بأن كلا منهما يصدق عليه أنه أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه كما هو معلوم ، وأنهما المراد من الآية ، لكن يشكل عليه كون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أجاب عند السؤال عن ذلك بتعيين مسجد المدينة ، وجوابه أن السر في ذلك أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد به رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء كما هو ظاهر ما فهمه السائل ، وتنويها بمزية مسجده الشريف لمزيد فضله ، والله أعلم.

فضل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

وفي الصحيحين حديث أبي هريرة «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى».

وعند مسلم : «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد : الكعبة ، ومسجدي ، ومسجد إيلياء».

٢١

وعند أبي داود بلفظ : «ومسجدي هذا».

وفي الكبير والأوسط للطبراني برجال ثقات عن ابن عمر ، وبرجال الصحيح عن أبي الجعد الضّمري «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ، وذكر نحو رواية الصحيحين.

وفي صحيح ابن حبان ومسند أحمد والأوسط للطبراني وإسناده حسن من حديث جابر : «خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق».

وهو عند البزار بلفظ : «خير ما ركبت إليه الرواحل مسجد إبراهيم ومسجد محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم » ورجاله رجال الصحيح إلا عبد الرحمن بن أبي الزناد وقد وثقه غير واحد.

فضل الصلاة في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرةرضي‌الله‌عنه : «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في ما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» هذا لفظ البخاري ، زاد مسلم : «فإني آخر الأنبياء ، وإن مسجدي آخر المساجد».

قلت : يريد آخر مساجد الأنبياء كما نقله المحب الطبري عن أبي حاتم ، وإلا فهو من أول مساجد هذه الأمة ، وإذا كانت الألف واللام هنا لمعهود ـ وهو مساجد الأنبياء ـ فالألف واللام أيضا في قوله «فيما سواه من المساجد» للعهد ، والمراد مساجد الأنبياء ؛ فيتحصل من معناه أن الصلاة في مسجده أفضل من الصلاة في سائر مساجد الأنبياء بألف صلاة إلا المسجد الحرام ؛ فيقتضي ذلك أن تكون الصلاة بمسجده أفضل من ألف صلاة في بيت المقدس ؛ لأنه من جملة مساجد الأنبياء ، ولم يستثن ، ويدل على ذلك ما رواه البزار عن أبي سعيد قال : ودّع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل فقال له : أين تريد؟ قال : أريد بيت المقدس ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام ، وأسنده يحيى بزيادة تسمية الرجل فقال : عن الأرقم أنه تجهز يريد بيت المقدس ، فلما فرغ من جهازه جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يودعه ، وقال فيه : فجلس الأرقم ولم يخرج ، وأسنده ابن النجار عن الأرقم بلفظه : إنني أريد الخروج إلى بيت المقدس ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ولم؟ قلت : للصلاة فيه ، قال : هاهنا أفضل من الصلاة هناك ألف مرة ، ورواه الطبراني برجال ثقات عن الأرقم بلفظ : صلاة هاهنا خير من ألف صلاة ثم.

وقد روى أبو يعلى برجال ثقات عن ميمونة قالت : يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس ، قال : أرض المحشر ، وأرض المنشر ، ائتوه فصلوا فيه ، فإن صلاة فيه كألف صلاة ـ أي في غيره من مساجد الأنبياء قبله ، ومساجد غير الأنبياء ما عدا المسجدين ـ لقيام الدليل على ذلك ؛ فتكون الصلاة بمسجد المدينة خيرا من ألف ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، فأما المسجد الأقصى فإنها أفضل من ألف صلاة فيه

٢٢

فقط ، ولا يعلم قدر زيادتها في الفضل على ذلك إلا الله تعالى ، ولمثل هذا تضرب آباط الإبل ، وتستحق الرحلة ، ولا يعكر على ذلك ما رواه أحمد برجال الصحيح عن أبي هريرة وعائشة قالا : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الأقصى» لأن المحفوظ إنما هو استثناء المسجد الحرام ، وحديث أبي هريرة في الصحيح خلا قوله : «إلا المسجد الأقصى» وهو معارض بما تقدم ، ولأن الهيثمي أورده في مجمع الزوائد ثم قال : رواه أحمد ، وأعاده بعد هذا بسنده فقال : إلا المسجد الحرام ، فاتضح بذلك ما قلناه.

وأما المسجد الحرام فاختلف الناس في معنى استثنائه ، فذهب مالك في رواية أشهب عنه ـ وقاله ابن نافع صاحبه وجماعة من أصحابه ـ إلى أن معنى الاستثناء أن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة ، إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من الصلاة فيه بدون الألف ، وذهب بعضهم إلى أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بمائة صلاة ، وحمل على ذلك الاستثناء في الحديث المتقدم ، واحتجوا برواية سليمان بن عتيق عن ابن الزبير عن عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه : «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة في ما سواه» فيأتي فضيلة مسجد الرسول عليه بتسعمائة ، وعلى غيره بألف ، وتعقّب بأن المحفوظ بالإسناد المتقدم «صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، إلا مسجد الرسول فإنما فضله عليه بمائة صلاة».

قلت : وروى الطبراني في الأوسط عن عائشة مرفوعا : «صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في غيره» لكن فيه سويد بن عبد العزيز ، قال البخاري : في حديثه نظر لا يحتمل ، وقد صح ما يقتضي رد ما ذهب إليه هؤلاء ؛ فقد روى أحمد والبزار وابن خزيمة برجال الصحيح من طريق حبيب المعلم عن عطاء عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد ، إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا» زاد ابن خزيمة : «يعني في مسجد المدينة» لكن لفظ البزار : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام فإنه يزيد عليه بمائة» وهي محتملة لأن يكون الضمير في «فإنه يزيد» لمسجده أو للمسجد الحرام ، وقد صحح ابن عبد البر حديث أحمد ، وقال : هو الحجة عند التنازع ، نص في موضع الخلاف ، قاطع له عند من ألهم رشده ، ولم تمل به العصبية ، قال : ولا مطعن فيه إلا لمتعسف لا يعرج على قوله في حبيب ، وقد كان الإمام أحمد يمدحه ، ويوثقه ، ويثنى عليه ، وكان عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه ، ولم يرو عنه القطان ، وروى عنه أئمة ثقات يقتدى بهم ، ومنهم من أعله باختلاف على عطاء ؛ لأن قوما يروونه عنه عن ابن

٢٣

الزبير ، وآخرين يروونه عنه عن ابن عمر ، وآخرين عنه عن جابر ، ومن العلماء من يجعل مثل هذا علة في الحديث ، وليس كذلك ؛ لأنه يمكن أن يكون عن عطاء عنهم ، والواجب أن لا يدفع خبر نقله العدول إلا بحجة.

قال البزار : هذا الحديث قد روى عن عطاء ، واختلف على عطاء فيه ، ولا نعلم أحدا قال بأنه يزيد على مسجد المدينة مائة إلا ابن الزبير ، وقد تابع حبيبا المعلم الربيع بن صبيح ؛ فرواه عن عطاء عن ابن الزبير ، ورواه عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عمر ، ورواه ابن جريح عن عطاء بن أبي سلمة عن أبي هريرة أو عائشة ، ورواه ابن أبي ليلى عن عطاء عن أبي هريرة ، انتهى.

وقال الذهبي في مختصر سنن البيهقي : إسناده صالح ، ولم يخرجه أصحاب السنن.

قلت : هذا أمر آخر ، وهو أن الحديث المذكور لما اختلف لفظه على وجهين أحدهما ليس نصا في الدلالة كما قدمناه احتمل أن تكون الرواية في الواقع به ، ومن رواه بالوجه الآخر رواه بالمعنى بحسب فهمه ، إلا أن وروده من الطرق الأخرى بذلك اللفظ توهن هذا الاحتمال ، وعلى تقدير ثبوته فهو من ابن الزبير ، وهو أعرف بفهم مرويه ؛ لأن عبد الرزاق روى عن ابن جريج قال : أخبرني سليمان بن عتيق وعطاء عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول : «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيه» ويشير إلى مسجد المدينة ، وقد قال ابن عبد البر : إن رجال إسناد حديث ابن عمر علماء أجلاء ، ورواه ابن وضاح عن ابن الزبير من كلام عمر بن الخطاب بنفسه ، قال ابن حزم : وسنده كالشمس في الصحة ، وروى ابن أبي خيثمة عن أبيه حدثنا مسلم عن الحجاج عن عطاء عن عبد الله بن الزبير قال : الصلاة في المسجد الحرام تفضل على مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بمائة ضعف ، قال : فنظرنا فإذا هي تفضل على سائر المساجد بمائة ألف صلاة ، قال ابن عبد البر وابن حزم : فهذان صحابيان جليلان يقولان بفضل المسجد الحرام على مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا مخالف لهما من الصحابة ؛ فصار كالإجماع منهم على ذلك.

وفي ابن ماجه من حديث جابر مرفوعا : «صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه» وفي بعض النسخ : «من مائة صلاة فيما سواه» فعلى الأول معناه فيما سواه إلا مسجد المدينة ، وعلى الثاني معناه من مائة صلاة في مسجد المدينة لما تقدم عن جابر.

قلت : وقد روى يحيى حديث الصحيحين المتقدم عن جبير بن مطعم بلفظ : «إن صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد غير الكعبة» وفي رواية النسائي وغيره «إلا مسجد الكعبة» ولهذا ذهب بعضهم إلى أن المراد من المسجد الحرام

٢٤

الكعبة ، وبه قال العمراني من أصحابنا وغيره ، وروى البزار عن عائشة حديث : «أنا خاتم الأنبياء ، ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء ، أحق المساجد أن يزار وتشد إليه الرواحل المسجد الحرام ومسجدي ، وصلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام».

وروى ابن ماجه مرفوعا برجال ثقات إلا أبا الخطاب الدمشقي فهو مجهول : «صلاة الرجل في بيته بصلاة ، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة ، وصلاته في المسجد الذي تجمع فيه بخمس مائة صلاة ، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة ، وصلاة في مسجدي بخمسين ألف صلاة ، وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة» وهو يقتضي أن الصلاة بمسجد المدينة مساوية لمسجد بيت المقدس ، وأنهما معا على النصف من الصلاة بالمسجد الحرام ، وهو مخالف لما في الصحيح ، مع أن مفهوم العدد ليس بحجة ؛ فلا ينفي ما ثبت من الزيادة لمسجد المدينة على مسجد بيت المقدس سيما بالطريقة التي قدمناها.

وفي الطبراني ـ وهو حسن ، وفي بعض رجاله كلام ـ عن أبي الدرداء مرفوعا : «الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، والصلاة في مسجدي بألف صلاة ، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة» ورواه ابن خزيمة في صحيحه بنحوه ، والبزار وحسنه ، وقال المجد : أخرجه الترمذي وقال : حسن غريب ، قال : ولا نعلم حديثا يشتمل على فضيلة الصلاة بالمساجد الثلاثة خصوصا(١) سواه مما يصح عند الاعتبار معناه.

قلت : لم أره في الترمذي ، وقد ساقه ابن عبد البر محتجا به ، وهو غير مانع مما قدمناه من كون الصلاة بمسجد المدينة أفضل من ألف صلاة بمسجد بيت المقدس ؛ لأن العدد لا ينفي الزائد ، وكذا حديث الأوسط للطبراني برجال الصحيح عن أبي ذر : تذاكرنا ونحن عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أيما أفضل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بيت المقدس؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه ، ولنعم المصلى هو» وقد يقال في ذلك كما قيل في نظائره من احتمال أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أولا ببعض ذلك بحسب ما أوحى إليه ، ثم أعلم بالزيادة ، ويكون حديث الأقل قبل حديث الأكثر ، ثم تفضل الله بالأكثر شيئا بعد شيء ، ومحصله ما قررناه من الأخذ بالزائد ، ويحتمل أن ينزل تلك الأعداد على اختلاف الأحوال ؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى غير نهاية.

__________________

(١) المساجد الثلاثة : هي الأقصى ، ومسجد المدينة ، والمسجد الحرام.

٢٥

هل فضل الصلاة في المساجد الثلاثة يختص بالفرض؟

ونقل الزركشي في أعلام المساجد عن الكبير للطبراني بسند فيه مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا بعشرة آلاف صلاة ، وصلاة في المسجد الحرام بعشرة أمثالها مائة ألف صلاة ، وصلاة الرجل في بيت المقدس بألف صلاة ، وصلاة الرجل في بيته حيث لا يراه أحد أفضل من ذلك كله».

قلت : وهو ضعيف ، ولم يورده الهيثمي في مجمعه في فضل الصلاة في المساجد الثلاث.

وهذه المضاعفة المذكورة في هذه المساجد لا تختص بالفريضة ، بل تعم الفرض والنفل ، كما قال النووي في شرح مسلم إنه المذهب.

قال الزركشي : وهو لازم تعليل الأصحاب استثناء النفل بمكة في الأوقات المكروهة بمزيد الفضيلة.

وقال الطحاوي من الحنفية : هو مختص بالفرض ، وفعل النوافل بالبيت أفضل ، وإليه ذهب ابن أبي زيد من المالكية ، وهو المرجح عندهم ، وفرق بعضهم بين أن يكون المسجد خاليا أم لا.

فإن قيل : كيف تقولون إن المضاعفة تعم الفرض والنفل وقد تطابقت الأصحاب ونص الحديث الصحيح على أن فعل النافلة في بيت الإنسان أفضل؟

قلنا : لا يلزم من المضاعفة في المسجد أن يكون أفضل من البيت كما قاله الزركشي وغيره ، وغاية الأمر أن يكون في المفضول مزية ليست في الفاضل ، ولا يلزم من ذلك جعله أفضل ؛ فإن للأفضل مزايا إن كان للمفضول مزية ، ولهذا بحث التاج السبكي مع أبيه في صلاة الظهر بمنى يوم النحر إذا جعلنا منى خارجة عن محل المضاعفة : هل يكون أفضل من صلاتها في المسجد لأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلها بمعنى يومئذ أو في المسجد للمضاعفة؟ فقال والده : بل في منى وإن لم يحصل بها المضاعفة ؛ فإن في الاقتداء بأفعال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يربو على المضاعفة ، على أن الحافظ ابن حجر ذكر ما يقتضي إثبات المضاعفة للتنفل في البيوت بالمدينة ومكة ، عملا بعموم قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» فقال : وقد تقدم النقل عن الطحاوي وغيره أن ذلك ـ يعني التضعيف ـ مختص بالفرائض ؛ لحديث : «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» ويمكن أن يقال : لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه ؛ فتكون النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما ، وكذا في المسجدين ، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقا.

٢٦

مرجع مضاعفة فضل الصلاة

ثم إن التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب بتلك الأعداد ، لا إلى الإجزاء ، باتفاق العلماء كما نقله النووي وغيره ؛ فلو كانت صلوات فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة ، وقد أوهم كلام أبي بكر النقاش في تفسيره خلاف ذلك ؛ فإنه قال : حسبت الصلاة في المسجد الحرام فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام عمر خمسة وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة ، اه. وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة والسواك ونحوه ، لكن هل تجمع التضعيفات أولا؟ محل بحث.

هل يختص التضعيف بالصلاة؟

قلت : وينبغي أن لا يختص هذا التضعيف بالصلاة ، بل سائر أنواع الطاعات كذلك قياسا على ما ثبت في الصلاة ، كما صرحوا به في مسجد مكة المشرفة ، وصرح به فيما يتعلق بالمدينة صاحب الانتصار أبو سليمان داود من المالكية ، ثم رأيته في كلام الغزالي في الإحياء كما قدمناه في فضل الخصائص ، ويشهد له ما في الكبير للطبراني عن بلال بن الحارث قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان ، وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان» ونقل المجد عن أبي الفرج الأموي أنه أخرجه بسنده عن ابن عمر.

قلت : ورواه ابن الجوزي في شرف المصطفى عن ابن عمر أيضا بلفظ : «صيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواها ، وصلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها».

وروى البيهقي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، والجمعة في مسجدي هذا أفضل من ألف جمعة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وشهر رمضان في مسجدي هذا أفضل من ألف شهر رمضان فيما سواه إلا المسجد الحرام» ورواه أيضا عن ابن عمر بنحوه.

وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة فإذا ضمت إلى ما قدمناه من القياس على الصلاة ثم الاستدلال ، وقد قدمنا في حدود مسجدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الخلاف المذكور في المراد بقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا» ، وترجيح أن ذلك يتناول ما زيد فيه.

وروى أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات عن أنس بن مالك حديث : «من صلى

٢٧

في مسجدي أربعين صلاة» زاد الطبراني : «لا تفوته صلاة كتب له براءة من النار ، وبراءة من العذاب ، وبرئ من النفاق». تقدم هذا الحديث بدون زيادة الطبراني ، وهو عند الترمذي بغير هذا اللفظ.

وروى ابن المنذر وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن من حين يخرج أحدكم من منزله إلى مسجدي فرجل تكتب حسنة ورجل تحط عنه خطيئة».

وقال البيهقي بعد ذكر حديث فضل مسجد قباء ما لفظه : ورواه يوسف بن طهمان عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزاد : «ومن خرج على طهر لا يريد إلا مسجدي هذا ـ يريد مسجد المدينة ـ ليصلي فيه كانت بمنزلة حجة» وقد أسند ذلك ابن زبالة ومن طريقه ابن النجار عن سهل أيضا ، وفي إسناده طهمان أيضا ، وهو ضعيف عند البخاري وابن عدي ، وذكره ابن حبان في الثقات ، ولفظ ابن زبالة : «من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة» وأسند هو ويحيى عن سهل بن سعد حديث : «من دخل مسجدي هذا يتعلم فيه خيرا أو يعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان كالذي يرى ما يعجبه وهو لغيره» وفي رواية لهما عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه : «من دخل مسجدي هذا لا يدخله إلا ليعمل خيرا أو يتعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان بمنزلة من يرى ما يعجبه وهو في يدي غيره».

وروى ابن ماجه عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره» ورواه الطبراني من حديث سعد مرفوعا بمعناه ، إلا أنه قال : «من دخل مسجدي ليتعلم خيرا أو ليعلمه» ورواه ابن حبان في صحيحه بلفظ الطبراني لكن من حديث أبي هريرة.

وأسند ابن زبالة عن زيد بن أسلم قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من دخل مسجدى هذا لصلاة أو لذكر الله أو يتعلم خيرا أو يعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله» ولم يجعل ذلك لمسجد غيره ، وعند يحيى أيضا عن كعب أنه قال : «ما من مؤمن يغدو أو يروح إلى المسجد لا يغدو أو لا يروح إلا ليتعلم خيرا أو يعلمه أو يذكر الله أو يذكّر به إلا كان مثله في كتاب الله كمثل الجهاد في سبيل الله ، وما من رجل يغدو أو يروح إلى المسجد لا يغدو ولا يروح إلا لأخبار الناس وأحاديثهم إلا كان مثله في كتاب الله كمثل الرجل يرى الشيء يعجبه ويرى المصلين وليس منهم ، ويرى الذاكرين وليس منهم» ، وعنده أيضا عن أبي سعيد المقبري عن الثقة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا إخال إلا أن لكل رجل منكم

٢٨

مسجدا في بيته» قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : «فو الله لو صليتم في بيوتكم لتركتم مسجد نبيكم ، ولو تركتم مسجد نبيكم لتركتم سننه ، ولو تركتم سننه إذا لضللتم».

وفي الصحيح من حديث ابن عمر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في غزوة خيبر : «من أكل من هذه الشجرة ـ يعني : الثوم ـ فلا يقربن مسجدنا».

قال الكرماني : قال التيمي : قال بعضهم : النهي إنما هو عن مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، من أجل ملائكة الوحي ، والأكثر على أنه عام ، انتهى. وقد حكى ابن بطال القول بالاختصاص عن بعض أهل العلم ووهّاه ، والله أعلم.

الفصل السادس في فضل المنبر المنيف ، والروضة الشريفة

روينا في الصحيحين حديث عبد الله بن زيد المازنيرضي‌الله‌عنه : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» زاد البخاري من حديث أبي هريرة : «ومنبري على حوضي».

وروى أحمد وأبو يعلى والبزار وفيه علي بن زيد وقد وثق عن جابر بن عبد الله مرفوعا : «ما بين بيتي إلى منبري روضة من رياض الجنة ، وإن منبري على ترعة من ترع الجنة».

وروى أحمد برجال الصحيح عن سهل بن سعد مرفوعا : «منبري على ترعة من ترع الجنة» وفيه تفسير الترعة بالباب ، وقيل : الترعة الروضة تكون على المكان المرتفع خاصة ، وقيل : الدرجة.

ورواه يحيى عن أبي هريرة وغيره بلفظ : «على رتعة من رتع الجنة» وكذا هو في رواية لرزين ، وظنه بعضهم تصحيفا فكتب في هامشه «صوابه ترعة» وليس كذلك ، بل معناه صحيح ؛ إذ الرتع الاتساع في الخصب ، والرّتعة ـ بسكون التاء وفتحها ـ الاتساع في الخصب ، وكل مخصب مرتع.

وفي الحديث : «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» ، وروى البزار عن معاذ بن الحارث نحوه.

وفي الكبير للطبراني من طريق يحيى الحماني وهو ضعيف عن أبي واقد الليثي مرفوعا : «قوائم منبري رواتب في الجنة» ورواه ابن عساكر وابن النجار ويحيى عن أم سلمة ، وقال المجد : أخرجه عنها النسائي ، وفي رواية لابن عساكر : «وضعت منبري هذا على ترعة من ترع الجنة».

وأسند يحيى عن أبي المعلى الأنصاري وكانت له صحبة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وهو على المنبر : «إن قدمي على ترعة من ترع الجنة».

٢٩

وعن أبي سعيد الخدري : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو قائم على منبره : «أنا قائم الساعة على عقر حوضي» وفي رواية له : «إني على الحوض الآن».

وأسند ابن زبالة عن نافع بن جبير عن أبيه حديث : «أحد شقي المنبر على عقر الحوض ، فمن حلف عنده على يمين فاجرة يقتطع بها حق امرئ مسلم فليتبوأ مقعده من النار» قال : وعقر الحوض من حيث يصب الماء في الحوض.

وفي سنن أبي داود من حديث جابر مرفوعا : «لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار ، أو وجبت له النار» ، ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححوه.

وروى النسائي برجال ثقات عن أبي أمامة بن ثعلبة مرفوعا : «من حلف عند منبري هذا يمينا كاذبة استحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا».

وفي الأوسط للطبراني وفيه ابن لهيعة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا : «منبري على ترعة من ترع الجنة ، وما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة».

وفي الصحيحين حديث ابن عمر : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة».

وروى أحمد برجال الصحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد حديث : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على حوضي».

وروى البزار برجال ثقات عن سعد بن أبي وقاص حديث : «ما بين بيتي ومنبري ، أو قبري ومنبري ، روضة من رياض الجنة» وفي الأوسط للطبراني وفيه متروك عن أنس بن مالك حديث : «ما بين حجرتي ومصلاي روضة من رياض الجنة» وفي رواية لابن زبالة من طريق عائشة بنت سعد عن أبيها «ما بين منبري والمصلى» وفي رواية «ما بين مسجدي إلى المصلى روضة من رياض الجنة» ورواه أبو طاهر بن المخلص في انتقائه ويحيى في أخبار المدينة بلفظ : «ما بين بيتي ومصلاي روضة من رياض الجنة» قال جماعة : المراد به مصلى العيد ، وقال آخرون : مصلاه الذي يصلي فيه في المسجد ، كذا قاله الخطابي.

قلت : ويؤيد الأول أن في النسخة التي رواها طاهر بن يحيى عن أبيه يحيى عقب الحديث المذكور ما لفظه : قال أبي : سمعت غير واحد يقولون : إن سعدا لما سمع هذا الحديث من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى داره فيما بين المسجد والمصلى ، وكذا ما سيأتي في مصلى العيد من رواية ابن شبة عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص.

قلت : وهو شاهد لما سيأتي من عموم الروضة لجميع مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما زيد فيه من جهة المغرب.

٣٠

وروى عبد الله بن أحمد في زوائد المسند برجال الصحيح إلا أن فيهم فليحا ـ وقد روى له الجماعة ، وقال الحاكم : اتفاق الشيخين عليه يقوي أمره ، وقال الساجي : ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الدارقطني : فليح يختلفون فيه ، وقال بعضهم : إنه كثير الخطأ ـ عن عبد الله بن زيد المازني قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بين هذه البيوت ـ يعني بيوته ـ إلى منبري روضة من رياض الجنة ، والمنبر على ترعة من ترع الجنة».

معنى كون المنبر على الحوض

وقد اختلف في معنى ذلك ؛ فقال الخطابي : معنى قوله : «ومنبري على حوضي» أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد الحوض ويوجب الشرب منه ، وهذا قول الباقي ، والثاني : أن منبره الذي كان يقوم عليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يعيده الله كما يعيد سائر الخلائق ، ويكون على حوضه في ذلك اليوم ، واعتمد ذلك ابن النجار ، وحكى ابن عساكر القول بأن المراد منبره بعينه الذي كان في الدنيا ، ثم قال : وهو أظهر ، وعليه أكثر الناس ، فتبع شيخه ابن النجار في ذلك ، والثالث أن المراد منبر يخلقه الله تعالى له في ذلك اليوم ، ويجعله على حوضه.

قلت : ويظهر لي معنى رابع ، وهو أن البقعة التي عليها المنبر تعاد بعينها في الجنة ، ويعاد منبره ذلك على هيئة تناسب ما في الجنة ؛ فيجعل المنبر عليها عند عقر الحوض ، وهو مؤخره ، وعن ذلك عبر بترعة من ترع الجنة ، وذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك لأمته للترغيب في العمل في هذا المحل الشريف ليفضي بصاحبه إلى ذلك ، وهذا في الحقيقة جمع بين القولين الأولين ، وسيأتي في الزيارة ما ذكره ابن عساكر من أن الزائر يأتي المنبر الشريف ، ويقف عنده ، ويدعو.

معنى أن الروضة من رياض الجنة

واختلفوا أيضا في معنى ما جاء في الروضة الشريفة ، قال الحافظ ابن حجر : محصل ما أول به العلماء ذلك أن تلك البقعة كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل فيها من ملازمة حلق الذكر ، لا سيما في عهدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فيكون مجازا ، أو المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة ، فيكون مجازا أيضا ، أو هو على ظاهره ، وأن المراد أنها روضة حقيقة بأن ينقل ذلك الموضع إلى الجنة ؛ ثم قال : وهذه الأقوال على ترتيبها هذا في القوة ، وهو محتمل لتقوية الأول أو الأخير ، والأخير أقواها عندي ، وهو الذي ذهب إليه ابن النجار ، ونقله البرهان ابن فرحون في منسكه عن ابن الجوزي وغيره عن مالك ، فقال : وقوله : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» حمله مالكرحمه‌الله على ظاهره ، فنقل عنه ابن الجوزي وغيره أنها روضة من رياض الجنة تنقل إلى الجنة ، وأنها ليست كسائر

٣١

الأرض تذهب وتفنى ، ووافقه على ذلك جماعة من العلماء ، انتهى ونقله الحطيب ابن حملة عن الداروردي ، وصححه ابن الحاج في مدخله ؛ لأن العلماء فهموا من ذلك مزية عظيمة لهذا المحل.

ثم رأيت في كلام الحافظ ابن حجر ترجيحه في موضع آخر ، فقال في الكلام على الحوض : والمراد بتسمية ذلك الموضع روضة أن تلك البقعة تنقل إلى الجنة فتكون روضة من رياضها ، أو أنها على المجاز لكون العبادة فيه تؤول إلى دخول العابد روضة الجنة ، ثم قال : وهذا فيه نظر ؛ إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة ، والخبر مسوق لمزيد شرف تلك البقعة على غيرها ، انتهى.

قلت : وأحسن من ذلك ما ذهب إليه ابن أبي جمرة من الجمع بين هذا وما قبله ، ومنه استنبطنا ما قدمناه في أمر المنبر ، فإنه لم يعول على ذكر المعنى الأول وقال بعد ذكر المعنيين الأخيرين : الأظهر ـ والله أعلم ـ الجمع بين الوجهين ؛ لأن لكل منهما دليلا يعضده ، أما الدليل على أن العمل فيها يوجب الجنة فلما جاء في فضل مسجدها من المضاعفة ، ولهذه البقعة زيادة على باقي بقعه ، وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة فلإخبارهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن المنبر على الحوض ، لم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره ؛ وأنه حق محسوس موجود على حوضه.

قلت : وفيه نظر ؛ لما قدمناه.

قال : وقد تقرر في قواعد الشرع أن الشرع أن البقع المباركة ما فائدة بركتها لنا والإخبار بذلك إلا تعميرها بالطاعات ؛ قال : ويحتمل وجها ثالثا ؛ وهو أن تلك البقعة نفسها روضة من رياض الجنة كما أن الحجر الأسود من الجنة ؛ فيكون الموضع المذكور روضة من رياض الجنة الآن ؛ ويعود روضة في الجنة كما كان ؛ ويكون للعامل بالعمل فيه روضة في الجنة ؛ قال : وهو الأظهر ؛ لعلو مكانتهعليه‌السلام ؛ وليكون بينه وبين الأبوة الإبراهيمية في هذا شبه ، وهو أنه لما خص الخليل بالحجر من الجنة خص الحبيب بالروضة منها.

قلت : وهو من النّفاسة بمكان ، وفيه حمل اللفظ على ظاهره ، إذ لا مقتضى لصرفه عنه ، ولا يقدح في ذلك كونها تشاهد على نسبة رياض الدنيا فإنه ما دام الإنسان في هذا العالم لا ينكشف له حقائق ذلك العالم لوجود الحجب الكثيفة والله أعلم.

وتخصيص ما أحاطت به البينية المذكورة بذلك إما تعبد وإما لكثرة ترددهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين بيته ومنبره وقرب ذلك من قبره الشريف الذي هو الروضة العظمى كما أشار إليه ابن أبي جمرة أيضا.

وقال الجمال محمد الراساني الريمي : اتفقوا على أن هذا اللفظ معقول المعنى ، مفهوم

٣٢

الحكمة ، وإنما اختلفوا في ذلك المعنى ما هو ، فقيل : اللفظ على حقيقته ، وإن ذلك روضة من رياض الجنة بمعنى أنه بعينه نقل من الجنة ، أو أنه سينقل إليها ، وقيل : مجاز معناه أن العبادة فيه تؤدّي إلى الجنة ، أو لما ينزل فيه من الرحمة وحصول المغفرة ، كما سمي مجالس الذكر رياض الجنة في حديث : «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا»(١) وفي رواية لأبي هريرة : «قلت : ما رياض الجنة؟ قال : المساجد ، قلت : وما الرتع؟ قال : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله والله أكبر».

وقال ابن عبد البر : لما كانصلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس في ذلك الموضع ويجلس الناس إليه للتعلم شبّهه بالروضة ؛ لكريم ما يجتنى فيه ، وأضافها إلى الجنة لأنها تؤول إلى الجنة ، كقوله : «الجنة تحت ظلال السيوف» أي أنه عمل يدخل الجنة.

وقال الخطابي : روضة من رياض الجنة بالطاعة فيه ، كقوله : «عائد المريض في مخرفة الجنة»(٢) أي يرجى له بذلك مخرفة الجنة ؛ فأطلق اسم المسبب على سببه كقوله : «الجنة تحت أقدام الأمهات».

هذا ما نقله الخطيب ابن حملة من المعاني ، ثم تعقب الأخير بأنه لا يبقى حينئذ لهذه الروضة مزية ، وقد فهم الناس من ذلك المزية العظيمة التي بسببها فضلها مالك على سائر البقاع.

وقد تعقب الجمال الريمي الخطيب في ذلك ، وقال : أظهر المعاني تضعيف أجر الطاعات ، وتعليم الناس وجوه الخير ؛ لاتفاق الخطابي وابن عبد البر عليه ، وهما عمدة الأمة في فقه الحديث ، ولأن النظائر تؤيده ، وأما المعنيان الآخران فلم يعزهما الخطيب إلى أحد ، فدل على ضعفهما ، ولم يذكر عياض القول بأن هذا الموضع بعينه نقل من الجنة ، وذكر ما عداه ، فدل على شذوذه ؛ لأن مثل هذا طريقه التوقيف كما جاء في الركن والمقام ، على أن القول به يؤدي إلى إنكار المحسوسات أو الضروريات ، وجواب ما ذكره الخطيب أن المزية ظاهرة ، وهو أن العمل في النظائر المتقدمة يؤدي إلى رياض الجنة ، والعمل في هذا المحل يؤدي إلى روضة أعلى من تلك الرياض.

قلت : إنما حمله على هذا ذهابه إلى أن اسم الروضة يعم جميع مسجدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه إذا

__________________

(١) ارتعوا أي انعموا في خصب وسعة.

(٢) المخرفة : البستان ، والسّكة بين صفين من نخيل ، والطريق الواضح ، جمع مخاريف.

٣٣

ثبت لما زيد فيه حكم المضاعفة تعدى ذلك إليه ، فاختار كون التسمية بذلك مجازية ، ووضع في ذلك كتابا سماه «دلالات المسترشد ، على أن الروضة هي المسجد» وقد صنف الشيخ صفي الدين الكازروني المدني مصنفا في الرد عليه ، وقد لخصتهما مع سلوك طريق الإنصاف بينهما في كتابي الموسوم : «بدفع التعرض والإنكار ، لبسط روضة المختار» وسنذكر الصواب في ذلك ، واستدلاله على ضعف القول بأن ذلك الموضع بعينه نقل من الجنة بأن عياضا لم يذكره عجيب لاحتمال أنه لم يطلع عليه ، وقوله : «إن ذلك طريقه التوقيف كما جاء في الركن» فنقول : أي توقيف أعظم من إخبار الصادق المصدوق بذلك؟ وهو المخبر بأمر الركن والمقام ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فكيف سلمه في الركن والمقام ولم يسلمه هنا؟ والذي فهمه العلماء من الحديث أن هذا الموضع روضة ، سواء كان به ذاكرون ومصلون أم لم يكن ، بخلاف حلق الذكر مثلا ، فإن ذلك يزول عنها بقيامهم ، فالروضة ما هم فيه بخلاف هذه ، ولهذا فسر الرتع هناك بالذكر ، والمراد في حديث : «الجنة تحت أقدام الأمهات» أن لزوم خدمتهن تؤدي إليها ، وقوله : «إن القول بذلك يؤدي إلى ما ذكره» عجيب ، وقد قدمنا السبب المانع من شهود ذلك على حقيقته ، وأي حسن أحسن من القول بأن ذلك روضة من الجنة أكرم الله به نبيه؟ ويؤيده أحاديث المنبر المتقدمة وما سيأتي في أحد وعير ؛ إذ لم يقل أحد إن المراد أن المتعبد عند أحد يفضي به ذلك إلى الجنة ، والمتعبد عند عير يفضي به ذلك إلى النار ، وأما قوله في بيان المزية : «إن العمل في ذلك المحل يؤدي إلى روضة أعلى» فليس في الحديث وصفه بأنه أعلى الرياض ، بل أطلق ذلك ، فإذا ثبت ذلك لغيره فلا خصوصية ، بل قد يقول الذاهب إلى تفضيل مكة : إن العمل فيها يؤدي إلى روضة أعلى وأفضل ، ولظهور مزية تلك البقعة على غيرها بذلك استدل به بعض الأئمة على تفضيل المدينة على مكة بإضافة حديث «لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» وتعقبه ابن حزم بأن جعلها من الجنة إنما هو على سبيل المجاز ، إذ لو كانت حقيقة لكانت كما وصف الله الجنة :( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ) [طه : ١١٨] قال : وإنما المراد أن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة كما يقال في اليوم الطيب : هذا يوم من أيام الجنة.

قلت : لا يلزم من ثبوت عدم الجوع والعري لمن حل في الجنة ثبوته لمن حل في شيء أخرج منها ؛ إذ يلزمه أن ينفي بذلك عن حجر المقام كونه من الجنة حقيقة ، ولا قائل به ، ومسألة عموم الروضة لجميع مسجدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات خلاف ؛ فقد قال الأقشهري : سئل أبو جعفر بن نصر الداودي المالكي عن قوله : «ما بين بيتي ومنبري روضة» فقال : هو روضة كله ، ونقل الريمي عن الخطيب ابن حملة أنه قال : قوله «ما بين بيتي» مفرد مضاف قد يفيد العموم في بيوته ، ثم ذكر بيان مكان بيوته ، ثم قال : ولهذا قال السمعاني في أماليه : لما فضّل الله مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرفه وبارك في العمل فيه وضعفه سماه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٤

روضة من رياض الجنة ، فتراه جعل المسجد كله روضة ، والمشهور أن المراد بيت خاص ، وهو بيت عائشةرضي‌الله‌عنها ؛ للرواية الأخرى «ما بين قبري ومنبري» قال ابن خزيمة : أراد بقوله ما بين بيتي الذي أقبر فيه ؛ إذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبر في بيته الذي كانت تسكنه عائشة ، قال الخطيب : فعلى هذا تسامت ـ يعني الروضة ـ حائط الحجرة من القبلة والشمال من جهة الحجرة ، ولا تزال تقصر إلى جهة المنبر ، أو توجد المسامتة مستوية فلينظر ، هذا كله كلام الخطيب.

قلت : فتلخص من ذلك ثلاثة آراء : الأول : أنها المسجد الموجود في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الثاني : أنها ما سامت المنبر والحجرة فقط ، فتتسع من جهة الحجرة وتضيق من جهة المنبر لما تقدم في مقداره ، وتكون منحرفة الأضلاع لتقدم المنبر في جهة القبلة وتأخر الحجرة في جهة الشام ، فتكون كشكل مثلث ينطبق ضلعاه على قدر المنبر ، الثالث : أنها ما سامت كلا من طرفي الحدين ، فتشمل ما سامت المنبر من مقدم المسجد في جهة القبلة وإن لم يسامت الحجرة ، ويشمل ما سامت الحجرة من جهة الشمال ، وإن لم يسامت المنبر ، فتكون مربعة ، وهي الأروقة الثلاثة : رواق المصلى الشريف ، والرواقان بعده ، وذلك هو مسقف مقدم المسجد في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه قد تحرر لنا في هذه العمارة التي أدركناها أن صف أسطوان الوفود ـ وهي التي كانت إلى رحبة المسجد كما سيأتي ـ واقع خلف الحجرة سواء ، حتى إن الأسطوانة التي تلي مربعة القبر في صفها الداخلة في الزور بعضها داخل في جدار الحجرة الشامي كما سيأتي بيانه.

وأما أدلة هذه الأقوال فقد استدل الريمي للأول بأشياء غالبها ضعيف مبناه على أن إطلاق الروضة من قبيل المجاز لما في ذلك من المضاعفة ونحوه ، وأحسنها ما أشار إليه الخطيب ابن حملة وأيده الريمي بأشياء ، فقال : قوله «بيتي» من قوله «ما بين بيتي» مفرد مضاف ، فيفيد العموم في سائر بيوتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كانت بيوته مطيفة بالمسجد من القبلة والمشرق ـ وفيه بيت عائشة ـ والشام كما سيأتي عن ابن النجار وغيره ، ولم يكن منها في جهة المغرب شيء ، فعرف الحد من تلك الجهة بالمنبر الشريف ، فإنه كان في آخر جهة المغرب بينه وبين الجدار يسير ؛ لأن آخره من تلك الجهة الأسطوانة التي تلي المنبر ، والمنبر على ترعة من ترع الجنة ، فقد حدد الروضة بحدود المسجد كلها.

قلت : وهو مفرع على ما ذكره ابن النجار في تحديد المسجد من جهة المغرب ، وقد مشيت عليه في تواليفي قبل أن أقف على ما قدمته في حد المسجد ، وقد مشى على ذلك الزين المراغي فقال : ينبغي اعتقاد كون الروضة لا تختص بما هو معروف الآن ، بل تتسع إلى حد بيوتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ناحية الشام ، وهو آخر المسجد في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فيكون كله روضة ، وهذا

٣٥

إذا فرعنا على المفرد المضاف للعموم ، وقد رجحه في كتب الأصول جماعة ، ثم ذكر ما تقدم.

قلت : وفاتهم الجميع الاستدلال بحديث زوائد مسند أحمد المتقدم بلفظ «ما بين هذه البيوت» يعني بيوته «إلى منبري روضة من رياض الجنة» والعجب أن المعتنين بأمر الروضة لم يذكروه ، مع أن فيه غنية عن التمسك بكون المفرد المضاف يفيد العموم ، فقد ناقش الصفي الكازروني في ذلك بأشياء : منها أن رواية «ما بين قبري ومنبري» بينت المراد من البيت المضاف. قلت : ليته قال رواية : «ما بين المنبر وبيت عائشة» لأنه يلزم عليه أن يكون الروضة بعرض القبر فقط ، والتخصيص بذلك بعيد ، ومن قال : «إن المراد من البيت القبر» ليس مراده والله أعلم إلا أن رواية القبر لعدم إبهامها تعين البيت ، ولعله مراد الصفي ، ولهذا قال الطبري : وإذا كان قبرهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيته اتفقت معاني الروايات ، ولم يكن بينها خلاف ، انتهى ، ولك أن تقول : رواية «قبري» ورواية «حجرة عائشة» من قبيل إفراد فرد من العام ، وذكره بحكم العام ، وهو لا يقتضي التخصيص على الأصح ، بل يقتضي الاهتمام بشأن ذلك الفرد ، على أن القرطبي قال : الرواية الصحيحة «بيتي» ويروى «قبري» وكأنه بالمعنى ، والله أعلم.

ومنها : أن القرافي حمل إطلاق عموم اسم الجنس على ما يقع منه على القليل والكثير كالماء والمال ، بخلاف ما لا يصدق إلا على الواحد كالعبد والبيت والزوجة فلا يعم ، ولهذا لو قال عبدي حر أو امرأتي طالق لا يعم سائر عبيده ونسائه ، قال : ولم أره منقولا. قلت : قال التاج السبكي : خالف بعض الأئمة في تعميم اسم الجنس المعرف(١) والمضاف ، والصحيح خلافه ، وفصل قوم بين أن يصدق على القليل والكثير فيعم ، أو [لا](٢) فلا ، واختاره ابن دقيق العيد ، انتهى.

فقد جعل ما بحثه القرافي وجها ثالثا مفصلا ، وذلك يأبى حمل إطلاق المطلقين عليه ، فما بحثه منقول ، لكن الصحيح خلافه ، وما استدل به من عدم عموم عبدي حر وامرأتي طالق جوابه من أوجه ذكرناها في دفع التعرض ، وأحسنها ما أشار إليه الأسنوي من أن عدم العموم في ذلك لكونه من باب الأيمان ، والأيمان يسلك فيها مسلك العرف ، انتهى. ونقل

__________________

(١) في جميع المطبوعات «المعروف».

(٢) ما بين [] زيادة يقتضيها السياق.

٣٦

الأزرقي في نفائسه عن ابن عبد السلام أنه قال : الذي تبين لي طلاق الجميع وعتق الجميع ، وفي كتب الحنابلة نص أحمد على أنه لو قال من له زوجتان أو عبيد «زوجتي طالق ، أو عبدي حر» ولم ينو معيّنا ، وقع الطلاق والعتق على الجميع ، تمسكا بالقاعدة المذكورة ، فقد جرى ابن عبد السلام والحنابلة على مقتضى ذلك ؛ فهذه الطرق من أحسن الأدلة ، ولكن على شمول الروضة لما بين المنبر والبيوت الشريفة فهو رأي آخر ، وقد قدمنا من الحديث ما يصرح به ، ويؤيده ما أشار إليه الريمي من أن المقتضى لكون ذلك روضة كثرة ترددهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، وكان يصلي قبل تحويل القبلة في طرفه الذي يلي الشام ، ومتهجّده كما سيأتي في جهة المشرق إلى الشام أيضا ، ومنبره الشريف في نهاية هذا الموضع المحدود من جهة المغرب ، ومصلاه الشريف بمقدمه وبه الأساطين الآتية ذوات الفضل.

وأما الرأي الثاني فدليله التمسك بظاهر لفظ البينية الحقيقية ، وحمل البيت على حجرة عائشةرضي‌الله‌عنها ، ويضعفه أن مقدم المصلى الشريف يلزم خروجه عن اسم الروضة حينئذ ؛ لخروجه عن موازاة طرفي المنبر والحجرة ، مع أن الظاهر أن معظم السبب في كون ذلك روضة تشرفه بجبهته الشريفة ، على أني لم أر هذا القول لأحد ، وإنما أخذته من تردد الخطيب ابن حملة المتقدم.

وأما الرأي الثالث فهو ظاهر ما عليه غالب العلماء وعامة الناس ، ووجهه حمل البيت على ما في الرواية الأخرى من ذكر حجرة عائشة ، وجعل ما تقدم في أمر خروج مقدم المصلى الشريف دليلا على أن المراد من البينية ما حاذى واحدا من الطرفين ، وأن المراد مقدم المسجد المنتهي من جهة مؤخر الحجرة الشريفة لصف أسطوان الوفود كما قدمناه ، وفي كلام الأقشهري إشارة له ، وهذا إنما علمناه في العمارة التي سنذكرها ، ولم يكن معلوما قبل ذلك ، ولهذا قال المجد في الباب الأول في فصل الزيارة من كتابه ما لفظه : ثم يأتي ـ يعني الزائر ـ إلى الروضة المقدسة ، وهي ما بين القبر والمنبر طولا ، ولم أر من تعرض له عرضا ، والذي عليه غلبة الظنون أنه من المحراب إلى الأسطوانة التي تجاهه ، وأنا لا أوافق على ذلك ، وقد بينته في موضعه من هذا الكتاب ، وذكرت أن الظاهر من لفظ الحديث يقتضي أن يكون أكثر من ذلك ؛ لأن بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بجميع مرافق الدار كان أكثر من هذا المقدار ، انتهى.

ولم يذكر في الموضع الذي أحال عليه شيئا ، وقوله «من المحراب إلى الأسطوانة التي تجاهه» كأنه يريد به الأسطوان المخلق وما حاذاها ؛ فتكون الروضة على ذلك التقدير الرواق الأول منها فقط ، وهو غلط ؛ لأن الحجرة الشريفة متأخرة عن ذلك لجهة الشام ؛ وصف

٣٧

الأسطوان المذكور محاذ لطرف جدارها القبلي. وقال ابن جماعة : قد تحرر لي طول الروضة ، ولم يتحرر لي عرضها ، يريد أن طولها من المنبر إلى الحجرة ، وهو كما قال ابن زبالة ثلاثة وخمسون ذراعا وشبرا ، وقال في موضع آخر : أربعة وخمسون ذراعا وسدس.

قلت : وما ذكره أولا أقرب إلى الصواب كما اختبرناه ، فإني ذرعت بحبل من صفحة المنبر القبلية إلى طرف الحجرة القبلية فكان ثلاثة وخمسين ذراعا.

وذكر ابن جماعة ذراعا أقل من هذا ، وكأنه ذرع على الاستقامة ، ولم يعتبر الذرع من الطرفين المذكورين ، فقال : وذرعت ما بين الجدار الذي حول الحجرة الشريفة وبين المنبر فكان أربعا وثلاثين ذراعا وقيراطا بذراع العمل. قلت : وذلك نحو اثنين وخمسين ذراعا بذراع اليد الذي قدمنا تحريره ، وأما قول من قال : «إن طول الروضة اليوم ينقص عن خمسين ذراعا بثلثي ذراع» فلا وجه له إلا أن يكون اعتبر بذراع اليد المفرط الطول ، والله أعلم.

وأما نهاية الحجرة فلم تكن معلومة لابن جماعة وغيره ، وعليها يتوقف بيان العرض ، ولهذا قال الريمي : لا ندري الحجرة في وسط البناء المحيط بها أم لا؟ ولا ندري إلى أين ينتهي امتدادها؟ وغالب الناس يعتقدون أن نهايتها في محاذاة أسطوان عليرضي‌الله‌عنه ، ولهذا جعلوا الدرابزين الذي بين الأساطين ينتهي إلى صفها ، واتخذوا الفرش لذلك فقط ، والصواب ما قدمناه ؛ فقد انجلى الأمر ولله الحمد.

الفصل السابع

في الأساطين المنيفة

الأسطوان المخلق

منها الأسطوان الذي هو علم على المصلى الشريف ، ويعرف بالمخلق ، وقد قدمنا قول ابن زبالة «المخلق نحو من ثلثيها» وقول ابن القاسم «إن المصلى الشريف حيث الأسطوان المخلق» وبينا أن المراد أنها أقرب أسطوان إليه ، وأن الجذع الذي كان يخطب إليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتكئ عليه كان هناك ، وأن الأسطوان الموجود اليوم متقدم على المحل الأول ، وأن المحل الأصلي هو موضع كرسي الشمعة التي عن يمين الإمام الواقف في المصلى الشريف ، فمن أراد التبرك بذلك فليصل هناك.

وروى ابن زبالة عن يزيد بن عبيد أنه كان يأتي مع سلمة بن الأكوع إلى سبحة الضحى ، فيعمد إلى الأسطوان دون المصحف فيصلي قريبا منهما ، فأقول : ألا تصلي هاهنا؟ وأشير له إلى بعض نواحي المسجد ، فيقول : إني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحرى هذا المقام ، وهذا الحديث في الصحيحين ، ولفظ البخاري «كنت آتي مع سلمة بن الأكوع ، فيصلي عند الأسطوان التي عند المصحف ، فقلت : يا أبا سلمة أراك تتحرى الصلاة عند هذه

٣٨

الأسطوانة ، قال : فإني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحرى الصلاة عندها» ولفظ مسلم عن سلمة أنه كان يتحرى موضع المصحف يسبح(١) فيه ، وذكر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتحرى ذلك ، وقد قدمنا في الكلام على المصلى الشريف ما يبين أن المراد هذه الأسطوانة.

أسطوان القرعة

ومنها أسطوان القرعة ، وتعرف بأسطوان عائشةرضي‌الله‌عنها ، وبالأسطوان المخلق أيضا ، وبأسطوان المهاجرين.

روينا في كتاب ابن زبالة عن إسماعيل بن عبد الله عن أبيه أن عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وثالثا كان معهما دخلوا على عائشةرضي‌الله‌عنها فتذاكروا المسجد ، فقالت عائشة : إني لأعلم سارية من سواري المسجد لو يعلم الناس ما في الصلاة إليها لاضطربوا عليها بالسهمان(٢) ، فخرج الرجلان وبقي ابن الزبير عند عائشة ، فقال الرجلان : ما تخلف إلا ليسألها عن السارية ، ولئن سألها لتخبرنه ، ولئن أخبرته لا يعلمنا ، وإن أخبرته عمد لها إذا خرج فصلى إليها ، فاجلس بنا مكانا نراه ولا يرانا ، ففعلا ، فلم ينشب أن خرج مسرعا فقام إلى هذه السارية فصلى إليها متيامنا إلى الشق الأيمن منها ، فعلم أنها هي ، وسميت أسطوانة عائشة بذلك ، وبلغنا أن الدعاء عندها مستجاب ، هذا لفظ ابن زبالة.

وفي الأوسط للطبراني عن عائشةرضي‌الله‌عنها قالت : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن في مسجدي لبقعة قبل هذه الأسطوانة لو يعلم الناس ما صلوا فيها إلا أن تطير لهم قرعة ، وعند عائشة جماعة من أبناء الصحابة فقالوا : يا أم المؤمنين وأين هي؟ فاستعجمت عليهم ، فمكثوا عندها ساعة ثم خرجوا وثبت عبد الله بن الزبير فقالوا : إنها ستخبره بذلك المكان ، فارقبوه في المسجد حتى تنظروا حيث يصلي ، فخرج بعد ساعة فصلى عند الأسطوانة التي صلى إليها عامر بن عبد الله بن الزبير ، فقيل لها : أسطوانة القرعة.

قال عتيق : وهي الأسطوانة التي هي واسطة بين القبر والمنبر : عن يمينها إلى المنبر أسطوانتان ، وبينها وبين القبر أسطوانتان ، وبينها وبين الرحبة أسطوانتان ، وهي واسطة بين ذلك ، وهي تسمى أسطوانة القرعة ، هذا لفظ الأوسط.

__________________

(١) السّبحة : صلاة التطوع وهي مواضع السجود.

(٢) السهم : القدح يقارع به أو يلعب به في الميسر ، أي الحظ والنصيب ، وما يفوز به الظافر بالقرعة.

٣٩

وقال ابن زبالة : حدثني غير واحد من أهل العلم منهم الزبير بن حبيب أن الأسطوان التي تدعى أسطوان عائشة هي الثالثة من المنبر ، والثالثة من القبر ، والثالثة من القبلة ، والثالثة من الرحبة ، أي قبل زيادة الرواقين الآتي ذكرهما المتوسطة للروضة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى إليها بضع عشرة المكتوبة ثم تقدم إلى مصلاه الذي وجاه المحراب في الصف الأوسط ، أي الرواق الأوسط ، وأن أبا بكر وعمر والزبير بن العوام وعامر بن عبد الله كانوا يصلون إليها ، وأن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها ، وكان يقال لذلك المجلس مجلس المهاجرين ، انتهى.

وقد ذكر ابن النجار هذه الرواية عن الزبير بن حبيب ، وزاد : وقالت عائشة فيها : لو عرفها الناس لاضطربوا على الصلاة عندها بالسهمان ، فسألوها عنها فأبت أن تسميها ، فأصغى إليها ابن الزبير فسارّته بشيء ، ثم قام فصلى إلى التي يقال لها أسطوان عائشة ، قال : فظن من معه أن عائشة أخبرته أنها تلك الأسطوانة ، فسميت أسطوان عائشة ، قال : وأخبرني بعض أصحابنا عن زيد بن أسلم قال : رأيت عند تلك الأسطوانة موضع جبهة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رأيت دونه موضع جبهة أبي بكر ، ثم رأيت دون موضع جبهة أبي بكر موضع جبهة عمر ، ويقال : الدعاء عندها مستجاب ، هذا لفظ رواية ابن النجار عقب ما قدمناه من رواية ابن زبالة. وزاد فيما ذكره ابن زبالة عقب قوله : «إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى إليها المكتوبة بضع عشرة ، ثم تقدم إلى مصلاه اليوم» ما لفظه : وكان يجعلها خلف ظهره ، قلت : ولم أره في كلام غيره ، والظاهر أن مراده أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستند إليها إذا جلس هناك ، لا أنه يجعلها خلف ظهره إذا صلى ؛ لما ذكره عن زيد بن أسلم من أنه رأى موضع جبهة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عندها ، ووصف هذه الأسطوانة بالمخلقة يؤخذ مما تقدم عن ابن زبالة من قول أبي هريرة «وكان مصلاهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يصلي فيه بالناس إلى الشام من مسجده أن تضع موضع الأسطوان المخلقة خلف ظهرك ثم تمشي إلى الشام» إلى آخر ما تقدم قلت : وهذه الأسطوان بصف الأساطين التي خلف الإمام الواقف بالمصلى الشريف ، وهي الثالثة من القبلة وكانت الثالثة أيضا من رحبة المسجد كما تقدم ، وذلك قبل أن يزاد في مسقف مقدم المسجد الرواقان الآتي بيانهما في رحبته ، وبهما صارت خامسة من الرحبة.

أسطوان التوبة

ومنها أسطوان التوبة ، وتعرف بأسطوان أبي لبابة بن عبد المنذر أخي بني عمرو بن عوف الأوسي أحد النقباء ، واسمه رفاعة ، وقيل غير ذلك ، سميت به لأنه ارتبط إليها حتى أنزل الله توبته كما قدمناه في غزوة بني قريظة.

وقال الأقشهري : اختلف أهل السير والتفسير في ذنب أبي لبابة ، فقال قوم : كان من

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282