وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء ٢

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى20%

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى مؤلف:
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الناشر: دار الكتب العلميّة
تصنيف: مكتبة الحديث وعلومه
الصفحات: 282

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 282 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88756 / تحميل: 5566
الحجم الحجم الحجم
وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار الكتب العلميّة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

جاءت بخيلائها وفخرها يكذّبون رسولك، أللَّهمّ إنّي أسألك ما وعدتني. فأتاه جبرئيل وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها. فلمّا التقى الجمعان قال لعليّعليه‌السلام : أعطني قبضة من حصباء الوادي، فأعطاه فرمى بها في وجوههم، وقال: شاهت الوجوه. فلم يبق مشرك إلّا شغل بعينيه فانهزموا، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم.

ثمّ لـمّا انصرفوا أقبلوا على التفاخر، فيقول الرجل: قتلت وأسرت، فنزلت:( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ) الفاء جواب شرط محذوف، تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم بقوّتكم( وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ) بإنزال الملائكة وإلقاء الرعب في قلوبهم.

( وَما رَمَيْتَ ) يا محمّد رمية توصلها إلى أحداقهم، ولم تقدر عليه( إِذْ رَمَيْتَ ) أي: أتيت بصورة الرمي( وَلكِنَّ اللهَ رَمى ) أتى بما هو غاية الرمي، فأوصلها إلى أعينهم جميعا حتّى انهزموا، وتمكّنت من قطع دابرهم. وهذا من عجائب المعجزات. واللفظ كما يطلق على المسمّى، يطلق على ما هو كماله والمقصود منه.

وقيل: معناه: ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء، ولكنّ الله رمى بالرعب في قلوبهم.

وقيل: إنّه نزل في طعنة طعن بها أبيّ بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم، فجعل يخور حتّى مات. أو في رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على فراشه. وأكثر المفسّرين على القول الأوّل.

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: ولكن بالتخفيف ورفع ما بعده في الموضعين.

( وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ) ولينعم عليهم نعمة عظيمة من ذلك النصر والغنيمة ومشاهدة الآيات، أو من عنده تعالى.( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ ) لاستغاثتهم

٢١

ودعائهم( عَلِيمٌ ) بنيّاتهم وأحوالهم.

( ذلِكُمْ ) إشارة إلى البلاء الحسن، أو القتل، أو الرمي. ومحلّه الرفع، أي: الغرض أو الأمر ذلكم. وو قوله:( وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ ) معطوف عليه، أي: المقصود إبلاء المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين، وإبطال حيلهم.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: موهّن بالتشديد، وحفص: موهن كيد بالإضافة والتخفيف.

( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) )

ثمّ خاطب أهل مكّة على سبيل التهكّم بقوله:( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ) وذلك أنّهم حين أرادوا الخروج تعلّقوا بأستار الكعبة وقالوا: أللَّهمّ انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين. وبرواية أخرى: أللَّهمّ انصر أقرانا للضيف، وأوصلنا للرحم، وأفكّنا للعاني، إن كان محمّد على حقّ فانصره، وإن كنّا على حقّ فانصرنا.

٢٢

وروي أنّ أبا جهل قال يوم بدر: أللَّهمّ أيّنا كان أهجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم، أي: فأهلكه.

( وَإِنْ تَنْتَهُوا ) عن الكفر ومعاداة الرسول( فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) لتضمّنه سلامة الدارين وخير المنزلتين. وقيل:( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ) خطاب للمؤمنين، و( إِنْ تَنْتَهُوا ) للكافرين.( وَإِنْ تَعُودُوا ) لمحاربته( نَعُدْ ) لنصره( وَلَنْ تُغْنِيَ ) ولن تدفع( عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ ) جماعتكم( شَيْئاً ) من الإغناء أو المضارّ( وَلَوْ كَثُرَتْ ) فئتكم( وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ) بالنصر والمعونة.

وقرأ نافع وابن عامر وحفص: وأنّ بالفتح، على تقدير: ولأنّ الله مع المؤمنين كان ذلك.

وقيل: الآية خطاب للمؤمنين. والمعنى: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عمّا يستأثره الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو خير لكم، وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدوّ، ولن تغني حينئذ كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر، فإنّ الله مع الكاملين في إيمانهم.

ويؤيّد ذلك أمر الله سبحانه المؤمنين بالطاعة الّتي هي سبب النصرة، ونهيهم عن التولّي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تلك الآية، بقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ ) أي: لا تتولّوا عن الرسول، فإنّ المراد بالآية الأمر بطاعته والنهي عن الإعراض عنه. وذكر طاعة الله للتوطئة والتنبيه على أنّ طاعة الله تعالى في طاعة الرسول، لقوله:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) (١) .

وقيل: الضمير للجهاد، أو للأمر الّذي دلّ عليه الطاعة.

__________________

(١) النساء: ٨٠.

٢٣

( وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) القرآن والمواعظ سماع فهم وتصديق.

( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا ) كالكفرة أو المنافقين الذين ادّعوا السماع( وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) سماعا ينتفعون به، لأنّهم ليسوا بمصدّقين، فكأنّهم لا يسمعون رأسا.

والمعنى: أنّكم تصدّقون بالقرآن والنبوّة، فإذا تولّيتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور ـ من قسمة الغنائم وغيرها ـ كان تصديقكم كلا تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن به.

ثمّ قال ذمّا للمعرضين عن أمر الله ورسوله:( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ ) أي: شرّ ما يدبّ على الأرض، أو شرّ البهائم( الصُّمُ ) عن سماع الحقّ( الْبُكْمُ ) عن قراءته( الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) شيئا منه. عدّهم من البهائم أوّلا ثمّ جعلهم شرّها، لإبطالهم ما ميّزوا به وفضّلوا لأجله، وهو العقل.

( وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ ) في هؤلاء الصمّ البكم( خَيْراً ) انتفاعا باللطف( لَأَسْمَعَهُمْ ) للطف بهم حتّى يسمعوا سماع المصدّقين( وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ ) أي: ولو لطف بهم وقد علم أن لا خير فيهم( لَتَوَلَّوْا ) عنه ولم ينتفعوا به. أو ولو لطف بهم فصدّقوا لارتدّوا بعد التصديق والقبول، وكذّبوا فلم يستقيموا( وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) لعنادهم. وفي هذا دلالة على أنّه سبحانه لا يمنع أحدا اللطف، إذا علم أنّه ينتفع به.

وقال الباقرعليه‌السلام : «بنو عبد الدار لم يسلم منهم غير مصعب بن عمير وسويد بن حرملة». وكانوا يقولون: نحن صمّ بكم عمّا جاء به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قتلوا جميعا بأحد، وكانوا أصحاب اللواء.

وقيل: قالوا للنبيّ: أحي لنا قصيّا، فإنّه كان شيخا مباركا حتّى يشهد لك فنؤمن بك. فالمعنى: لأسمعهم كلام قصيّ.

وعن ابن جريج: هم المنافقون. وعن الحسن: هم أهل الكتاب.

٢٤

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) )

ثمّ أمر سبحانه عباده بطاعة رسوله، فقال:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) بالطاعة والامتثال( إِذا دَعاكُمْ ) وحّد الضمير فيه لـما سبق، ولأنّ دعوة الله تسمع من الرسول( لِما يُحْيِيكُمْ ) من العلوم الدينيّة والأحكام الشرعيّة، فإنّها حياة القلب، والجهل موته، قال :

لا تعجبنّ الجهول حلّته

فذاك ميت وثوبه كفن

أو ممّا يورثكم الحياة الأبديّة في النعيم الدائم، من العقائد الحسنة المرضيّة والأعمال السنيّة. أو من الجهاد، فإنّه سبب بقاء المؤمنين، إذ لو تركوه لغلبهم العدوّ وقتلهم. أو الشهادة، لقوله:( بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) .

( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) تمثيل لغاية قربه من العبد، كقوله:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (٢) ، فإنّ الحائل بين الشيء وغيره أقرب إلى ذلك الشيء من ذلك الغير. وتنبيه على أنّه مطّلع على مكنونات القلوب وضمائرها، ممّا عسى يغفل عنه صاحبها، فكأنّه بينه وبين قلبه.

أو حثّ على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله تعالى بينه وبين قلبه بالموت أو غيره، فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة.

أو تصوير وتخييل لتملّكه على العبد قلبه، فيفسخ عزائمه، ويغيّر مقاصده ،

__________________

(١) آل عمران: ١٦٩.

(٢) ق: ١٦.

٢٥

ويبدله بالخوف أمنا، وبالأمن خوفا، وبالذكر نسيانا، وبالنسيان ذكرا، وما أشبه ذلك ممّا هو جائز عليه تعالى. ومنه قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «عرفت الله بفسخ العزائم».

وما جاء في الدعاء: يا مقلّب القلوب.

وروى يونس بن عمّار عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «أنّ الله يحول بين المرء وقلبه» معناه: لا يستيقن القلب أنّ الحقّ باطل أبدا، ولا يستيقن القلب أنّ الباطل حقّ أبدا».

وروى هشام بن سالم عنه قال: «معناه: يحول بينه وبين أن يعلم أنّ الباطل حقّ». أوردهما العيّاشي في تفسيره(١) .

( وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) فيجازيكم بأعمالكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة.

( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) أي: اتّقوا ذنبا يعمّكم أثره، كترك النهي عن المنكر، والمداهنة في الأمر بالمعروف، وافتراق الكلمة، وإظهار البدع، والتكاسل في الجهاد. وقيل: الفتنة العذاب.

وقوله: «لا تصيبنّ» لا يخلو: إما أن يكون جوابا للأمر، أو نهيا بعد أمر معطوفا عليه بحذف الواو، أو صفة لـ «فتنة».

فإذا كان جوابا فالمعنى: إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصّة، بل تعمّكم. وإنّما جاز دخول النون في جواب الشرط، مع أنّه متردّد لا يليق به النون المؤكّدة، لأنّ فيه معنى النهي فساغ، كقوله:( ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ ) (٢) ، وكما تقول: انزل عن الدابّة لا تطرحك، ويجوز، لا تطرحنّك.

وإذا كانت نهيا ـ بعد أمر باتّقاء الذنب ـ عن التعرّض للظلم، فإنّ وباله يصيب الظالم خاصّة ويعود عليه. فكأنّه قيل: واحذروا ذنبا أو عقابا، ثمّ قيل: لا تتعرّضوا

__________________

(١) تفسير العيّاشي ٢: ٥٢ ح ٣٦ و ٣٩.

(٢) النمل: ١٨.

٢٦

للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصّة. وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنّه قيل: واتّقوا فتنة مقولا فيها: لا تصيبنّ. ونظيره قوله :

حتّى إذا جنّ الظلام واختلط

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط

والمذق اللبن المخلوط بالماء. والمعنى: بمذق مقول فيه هذا القول، لأنّ فيه لون الورقة(١) الّتي هي لون الذئب. ويعضده قراءة ابن مسعود: لتصيبنّ، على جواب القسم المحذوف. ويكون «من» للتبيين على هذا، لأنّ المعنى: لا تصيبنّكم خاصّة على ظلمكم، لأنّ الظلم أقبح منكم من سائر الناس، وللتبعيض على الوجه الأوّل.

وفي الكشّاف: «روي عن الحسن: أنّها نزلت في عليّ وعمّار وطلحة والزبير، وهو يوم الجمل خاصّة. قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زمانا، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيّون بها».

وروي: أنّ الزبير كان يساير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما، إذا أقبل عليٌّعليه‌السلام ، فضحك إليه الزبير، فقال رسول الله: كيف حبّك لعليٍّ؟ فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي، إنّي أحبّه كحبّي لوالدي أو أشدّ حبّا. قال: فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟».(٢)

وقال في المجمع(٣) : «روى الثعلبي بإسناده عن حذيفة أنّه قال: أتتكم فتن كقطع الليل المظلم، يهلك فيها كلّ شجاع بطل، وكلّ راكب موضع، وكلّ خطيب مصقع(٤) ».

وفي حديث أبي أيّوب الأنصاري أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمّار: «إنّه سيكون بعدي هنات، حتّى يختلف السيف فيما بينهم، وحتّى يقتل بعضهم بعضا، وحتّى يبرأ بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني عليّ بن أبي طالب ،

__________________

(١) الورقة: سواد في غبرة، والأورق: الذي لونه لون الرماد.

(٢) الكشّاف ٢: ٢١٢.

(٣) مجمع البيان ٤: ٥٣٤.

(٤) راكب موضع أي: مسرع، والمصقع: البليغ.

٢٧

فإن سلك الناس كلّهم واديا وسلك عليّ واديا فاسلك وادي علي، وخلّ عن الناس.

يا عمّار إنّ عليّا لا يردّك عن هدى، ولا يدلّك على ردى. يا عمّار طاعة عليّ طاعتي، وطاعتي طاعة الله»(١) . رواه السيّد أبو طالب الهروي بإسناده عن علقمة والأسود عن أبي أيّوب الأنصاري.

وفي كتاب شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكاني رحمة الله، وحدّثنا عنه السيّد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني، حدّثني محمد بن القاسم ابن أحمد، قال: حدّثني أبو سعيد محمّد بن الفضيل بن محمّد، قال: حدّثنا محمّد ابن صالح العرزمي، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: حدّثنا أبو سعيد الأشجّ، عن أبي خلف الأحمر، عن إبراهيم بن طهمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، عن ابن عبّاس قال: « لـمّا نزلت هذه الآية:( وَاتَّقُوا فِتْنَةً ) قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ظلم عليّا مقعدي هذا بعد وفاتي، فكأنّما جحد نبوّتي ونبوّة الأنبياء قبلي»(٢) .

وعن ابن عبّاس: أنّه سئل عن هذه الفتنة فقال: أبهموا ما أبهم الله.

( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) لمن لم يتّق المعاصي والمظالم.

( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) )

ثمّ عاد سبحانه إلى وقعة بدر، وبيّن حالتهم السالفة في القلّة والضعف، وإنعامه عليهم بالنصر والتأييد والتكثير، فقال( وَاذْكُرُوا ) معشر المهاجرين( إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ) أي: وقت كونكم أقلّة أذلّة( مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ ) أرض مكّة ،

__________________

(١) مجمع البيان ٤: ٥٣٤.

(٢) شواهد التنزيل ١: ٢٧١ ح ٢٦٩.

٢٨

يستضعفكم قريش قبل الهجرة. و «إذ» هنا مفعول به، وليس بظرف لـ «مستضعفون».

وقيل: الخطاب للعرب، كانوا أذلّاء في أيدي الفرس والروم.

( تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ) يستلبكم كفّار قريش إن خرجتم من مكّة، أو من عداهم، فإنّهم كانوا جميعا معادين مضادّين لهم.

( فَآواكُمْ ) إلى المدينة، أو جعل لكم مأوى تتحصّنون به عن أعاديكم( وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ) وقوّاكم على الكفّار بمظاهرة الأنصار، أو بإمداد الملائكة يوم بدر( وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) من الغنائم( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) إرادة أن تشكروا هذه النعم.

وعن قتادة: كانت العرب أذلّ الناس وأشقاهم عيشا، وأعراهم جلدا، يؤكلون ولا يأكلون، فمكّن الله لهم في البلاد، ووسّع عليهم في الرزق والغنائم، وجعلهم ملوكا.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) )

روي عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير، على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام. فأبى أن يعطيهم ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ.

٢٩

فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة. وكان مناصحا لهم، لأنّ عياله وماله وولده كانت عندهم.

فبعثه رسول الله، فأتاهم. فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه أنّه الذبح فلا تفعلوا. فأتاه جبرئيلعليه‌السلام فأخبره بذلك.

قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله. فنزلت في شأنه:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ ) من الخون، وهو النقص، كما أنّ أصل الوفاء التمام. ومنه: تخوّنه، أي: تنقّصه، ثمّ استعمل في ضدّ الأمانة والوفاء، لأنّك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه.

والمعنى: لا تخونوا الله بترك أوامره، والرسول بترك سننه وشرائعه.

وعن الحسن: أنّ من ترك شيئا من الدين وضيّعه فقد خان الله ورسوله.

( وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ ) ولا تخونوا الأمانات فيما بينكم، بأن لا تحفظوها.

وهو مجزوم بالعطف على الأوّل، أو منصوب على الجواب بالواو.( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أنّكم تخونون. أو أنتم علماء تميّزون الحسن من القبيح. أو أنتم تعلمون ما في الخيانة من الذمّ والعقاب.

ولـمّا نزلت هذه الآية شدّ أبو لبابة نفسه على سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ، فمكث سبعة أيّام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا، حتّى خرّ مغشيّا عليه، ثمّ تاب الله عليه. فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك. فقال: لا والله لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول الله هو الّذي يحلّني، فحلّه بيده.

ثمّ قال أبو لبابة: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي الّتي أصبت فيها

٣٠

الذنب، وأن انخلع عن مالي. فقال النبيّ: يجزيك الثلث أن تتصدّق به.

وهذه الرواية مرويّة أيضا عن الكلبي والزهري.

وقال عطاء: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إنّ أبا سفيان خرج من مكّة، فأتى جبرئيلعليه‌السلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا. قال: فكتب إليه رجل من المنافقين: إنّ محمّدا يريدكم فخذوا حذركم.

فأنزل الله هذه الآية.

وقال السدّي: كانوا يسمعون الشيء من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيفشونه حتّى يبلغ المشركين، فنزلت.

وقيل: المراد بالخيانة الغلول في المغانم.

( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) لأنّهم سبب الوقوع في الإثم أو العقاب، أو محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم، فلا يحملنّكم حبّهم على الخيانة، كأبي لبابة( وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) لمن آثر رضا الله تعالى عليهم، وراعى حدوده فيهم، فعليكم أن تزهدوا في الدنيا، ولا تحرصوا على جمع المال وحبّ الأولاد، ولا تؤثروهما على نعيم الأبد.

قال في المجمع: «بيّن سبحانه بهذه الآية أنّه يختبر خلقه بالأموال والأولاد، ليتبيّن الراضي بقسمه ممّن لا يرضى به، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن ليظهر الأفعال الّتي بها يستحقّ الثواب والعقاب. وإلى هذا أشار أمير المؤمنينعليه‌السلام في قوله: «لا يقولنّ أحدكم: أللَّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، لأنّه ليس أحد إلّا وهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن، فإنّ الله سبحانه يقول:( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) . وقد روي هذا المعنى عن ابن مسعود أيضا»(١) .

__________________

(١) مجمع البيان ٤: ٥٣٦.

٣١

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) )

ولـمّا أمر الله سبحانه بالطاعة وترك الخيانة، بيّن بعده ما أعدّه لمن امتثل أمره في الدنيا والآخرة، فقال:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ ) إن تتّقوا عقابه باتّقاء معاصيه وأداء فرائضه( يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ) هداية ونورا في قلوبكم، وشرحا في صدوركم بوسيلة التوفيق واللطف، تفرّقون به بين الحقّ والباطل. أو نصرا وفتحا، كقوله تعالى( يَوْمَ الْفُرْقانِ ) (١) لأنّه يفرّق بين المحقّ والمبطل، بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين. أو مخرجا من الشبهات. أو نجاة عمّا تحذرون في الدارين. أو ظهورا يشهّر أمركم في أقطار الأرض ويبثّ صيتكم، من قوله: بتّ أفعل كذا حتّى سطع الفرقان، أي: الصبح.

( وَيُكَفِّرْ ) ويستر( عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) ذنوبكم بالتجاوز والعفو عنها. قيل: السيّئات الصغائر، والذنوب الكبائر. وقيل: المراد ما تقدّم وما تأخّر، لأنّها في أهل بدر، وقد غفرهما الله تعالى لهم.

( وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) على خلقه بما أنعم عليهم في الدنيا من أنواع النعم من غير سبق استحقاق منهم، وفي الآخرة بما زاد على قدر استحقاقهم.

( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) )

روي أنّ قريشا ـ لـمّا أسلمت الأنصار وبايعوه ـ خافوا أن يعلو أمره ويعظم

__________________

(١) الأنفال: ٤١.

٣٢

شأنه، فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ، وقال: أنا شيخ من نجد، ما أنا من تهامة، دخلت مكّة فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا منّي رأيا ونصحا.

فقال أبو البختري: رأيي أن تحبسوه في بيت، وتشدّوا وثاقه، وتسدّوا بابه غير كوّة، تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربّصوا به ريب المنون.

فقال إبليس: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلّصه من أيديكم.

فقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضرّكم ما صنع واسترحتم.

فقال إبليس: بئس الرأي، يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم.

فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كلّ بطن غلاما، وتعطوه سيفا صارما، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرّق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلّهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا.

فقال الشيخ: هذا الفتى هو أجودكم رأيا.

فتفرّقوا على رأي أبي جهل مجتمعين على قتله. فأخبر جبرئيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك، وأمره بالهجرة وأن يبيّت في مضجعه عليّا، فنام في مضجعه، وقال له: اتّشح ببردتي، فإنّه لن يصل إليك أمر تكرهه، وخرج مع أبي بكر إلى الغار.

وباتوا مترصّدين، فلمّا أصبحوا ساروا إلى مضجعه فأبصروا عليّا فبهتوا، وخيّب الله سعيهم، واقتصّوا أثره، وأرسلوا في طلبه، فلمّا بلغوا الجبل ومرّوا بالغار رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو كان ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه. فمكث فيه ثلاثا، ثمّ قدم المدينة، فأبطل الله تعالى مكرهم.

فذكّرعزوجل ها هنا رسوله إنجاءه إيّاه من مكرهم حين كان بمكّة، ليشكر الله على خلاصه من مكرهم واستيلائه عليهم، فقال:( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: اذكر إذ يحتال كفّار قريش في إبطال أمرك، ويدبّرون في هلاكك( لِيُثْبِتُوكَ ) بالوثاق أو الحبس أو الإثخان بالجرح، من قولهم: ضربه حتّى أثبته لا حراك به ولا

٣٣

براح(١) . والأوّل مرويّ عن ابن عبّاس.( أَوْ يَقْتُلُوكَ ) بسيوفهم وخناجرهم( أَوْ يُخْرِجُوكَ ) من مكّة.

( وَيَمْكُرُونَ ) ويخفون المكائد لك( وَيَمْكُرُ اللهُ ) ويخفي الله ما أعدّ لهم حتّى يأتيهم بغتة. أو المراد بمكر الله مجازاته إيّاهم على مكرهم، أو معاملته معهم معاملة الماكرين.( وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) أي: مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيرا.

أو لأنّه لا ينزل إلّا ما هو حقّ وعدل. وإسناد أمثال هذا ممّا يحسن للمزاوجة، أو لضرب من التأويل. ولا يجوز إطلاقها ابتداء، لتضمّنه القبح والذمّ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) )

ثمّ أخبر سبحانه عن عناد هؤلاء الكفّار في الحقّ، فقال:( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) ما سطره الأوّلون من القصص. قائله النضر بن الحارث بن كلدة، فإنّه حين سمع اقتصاص الله أحاديث القرون، قال: لو شئت لقلت مثل هذا. وهو الّذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وإسفنديار، فزعم أنّ هذا مثل ذلك، وأنّه من جملة الأساطير.

وإسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم، فإنّه كان قاصّهم.

وقيل: هو قول الّذين ائتمروا في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهذا غاية مكابرتهم وفرط عنادهم، إذ لو استطاعوا ذلك فما منعهم عن أن يقولوا مثله؟! وقد تحدّاهم وقرعهم

__________________

(١) أي: لم يبرح ولم يزل من مكانه.

٣٤

بالعجز عشر سنين، ثمّ قارعهم بالسيف فلم يعارضوا سورة، مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا، خصوصا في باب البلاغة والفصاحة.

( وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا ) القرآن( هُوَ الْحَقَ ) منزلا( مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ) أي: حجارة من سجّيل عقوبة على إنكاره، كما فعلت بأصحاب الفيل( أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) بنوع آخر من أنواع العذاب.

هذا أيضا من كلام النضر.

روي أنّه لـمّا قال:( إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) قال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ويلك إنّه كلام الله. فقال ذلك.

ومراده من هذا القول التهكّم وإظهار اليقين والجزم التامّ على كونه باطلا، فكان تعليق العذاب بكونه حقّا مع اعتقاد أنّه ليس بحقّ كتعليقه بالمحال عنده، كما في قولك: إن كان الباطل حقّا فأمطر علينا حجارة.

وفائدة تعريف الحقّ الدلالة على أنّ المعلّق به كونه حقّا بالوجه الّذي يدّعيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو تنزيله، لا الحقّ مطلقا، لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع غير منزل، كأساطير الأوّلين.

روي أنّ معاوية قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة!! قال: أجهل من قومي قومك، قالوا لرسول الله حين دعاهم إلى الحقّ: «إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة» ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحقّ فاهدنا له.

( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) )

ثمّ ذكر سبحانه سبب إمهالهم، وموجب التوقّف في إجابة دعائهم، مع فرط

٣٥

عنادهم وشقاهم، فقال:( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) اللّام لتأكيد النفي، والدلالة على أن تعذيبهم عذاب استئصال والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهرهم خارج عن عادة الله تعالى، غير مستقيم في قضائه، لفضله وحرمته. قال ابن عبّاس: إنّ الله تعالى لم يعذّب قومه حتّى أخرجوه من مكّة. وكذا لا يعذّبهم حين الاستغفار عن الذنوب، لقوله:( وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) .

والمراد باستغفارهم إما استغفار من بقي فيهم من المؤمنين بعد خروجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مكّة، كما روي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا خرج من مكّة بقيت فيها بقيّة من المؤمنين، ولم يهاجروا لعذر، وكانوا على عزم الهجرة، فرفع الله العذاب عن مشركي مكّة لحرمة استغفارهم، فلمّا خرجوا أذن الله في فتح مكّة.

وهذا منقول عن ابن عبّاس وعطيّة والضحّاك. واختاره الجبائي.

وقيل: معناه: وما كان الله ليعذّبهم بعذاب الاستئصال في الدنيا وهم يقولون: أللَّهمّ غفرانك، وإنّما يعذّبهم في الآخرة. أو المراد فرض الاستغفار على معنى: لو استغفروا لم يعذّبوا، كقوله تعالى:( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) (١) أي: لو أصلحوا.

( وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ ) وما يمنع تعذيبهم متى لم تكن فيهم، ولم يمكن الاستغفار؟ وكيف لا يعذّبون( وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) ؟ وحالهم صدّ الناس عنه، ومن صدّهم عنه إلجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين إلى الهجرة، وإحصارهم عام الحديبية. روي أنّهم قالوا: نحن ولاة البيت والحرم، فنصدّ من نشاء، وندخل من نشاء.

( وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ ) أي: مستحقّين ولاية أمره مع شركهم( إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ ) من الشرك، الّذين لا يعبدون فيه غير الله تعالى. أو إلّا المتّقون من

__________________

(١) هود: ١١٧.

٣٦

المسلمين، فليس كلّ مسلم أيضا ممّن يصلح لأن يلي أمره، بل إنّما يستأهل ولايته من كان برّا تقيّا، فكيف بالكفرة وعبدة الأصنام؟

( وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أن لا ولاية لهم عليه. كأنّه استثنى من كان يعلم ويعاند لطلب الرئاسة. أو أراد بالأكثر الجميع، كما يراد بالقلّة العدم.

( وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) )

روي أنّهم كانوا يطوفون عراة، الرجال والنساء، مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفّقون، فنزلت:( وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ ) أي: دعاؤهم، أو ما يسمّونه صلاة، أو ما يضعون موضعها( إِلَّا مُكاءً ) صفيرا، من: مكا يمكو إذا صفر( وَتَصْدِيَةً ) تصفيقا. وهو ضرب اليد على اليد. تفعلة من الصدى، أو من: صدّ يصدّ، كقوله تعالى:( إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) (١) أي: يصيحون، على إبدال أحد حرفي التضعيف بالياء.

واعلم أنّ مساق الكلام لتقرير استحقاقهم العذاب، أو عدم ولايتهم للمسجد، فإنها لا تليق ممّن هذه صلاته.

وقيل: كانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاته، لـما روي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا صلّى في المسجد الحرام قام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه فيصفران، ورجلان عن يساره يصفّقان بأيديهما، فيخلطان عليه صلاته، فقتلهم الله جميعا ببدر، كما قال:( فَذُوقُوا الْعَذابَ ) يعني: القتل والأسر يوم بدر. وقيل: عذاب الآخرة. واللّام يحتمل أن تكون للعهد، والمعهود: ائتنا بعذاب أليم( بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) اعتقادا وعملا.

__________________

(١) الزخرف: ٥٧.

٣٧

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) )

روي أنّ أبا سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش، وهم فرق مختلفون من قبائل شتّى، ومنه يقال: عندي أحبوش منهم، أي: جماعة منهم، سوى من استجاش(١) من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية، والأوقية اثنان وأربعون مثقالا، أو استأجرهم لأصحاب العير، فإنّه لـمّا أصيب قريش ببدر قيل لهم: أعينوا بهذا المال على حرب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لعلّنا ندرك منه ثأرنا، ففعلوا، فنزلت:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ) في قتال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين( لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) ليمنعوا بذلك الناس عن دين الله الّذي أتى به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقيل: نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا من قريش، يطعم كلّ واحد منهم كلّ يوم عشر جزر(٢) . وغرضهم في هذا الإنفاق الصدّ عن اتّباع محمّد، وهو سبيل الله.

وإنّما قال: ليصدّوا، وإن كانوا لم يقصدوا ذلك، من حيث لم يعلموا أنّ ذلك دين الله، لأنّ فعلهم ذلك كان صدّا عن دين الله وإن لم يقصدوا ذلك.

( فَسَيُنْفِقُونَها ) بتمامها. ويحتمل أن يكون الأوّل إخبارا عن إنفاقهم في تلك الحال، وهو إنفاق يوم بدر، والثاني إخبارا عن إنفاقهم فيما يستقبل، وهو الإنفاق في يوم أحد. أو يراد بهما واحد، على أنّ مساق الأوّل لبيان غرض الإنفاق ،

__________________

(١) أي: جمع الجيش منهم.

(٢) الجزر جمع الجزور، وهو من الإبل يقع على الذكر والأنثى.

٣٨

ومساق الثاني لبيان عاقبته، وأنّه لم يقع بعد.

( ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ) ندما وغمّا، لفواتها من غير مقصود. وجعل ذاتها حسرة ـ وهي عاقبة إنفاقها ـ مبالغة.( ثُمَّ يُغْلَبُونَ ) آخر الأمر، وإن كان الحرب بينهم وبين المؤمنين سجالا قبل ذلك، أي: مرّة تكون لهم ومرّة عليهم.

وفي هذا دلالة على صحّة نبوّة النبيّ، لأنّه أخبر بالشيء قبل كونه، فوجد على ما أخبر به.

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: ثبتوا على الكفر منهم، إذ أسلم بعضهم( إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) يساقون.

( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) أي: الفريق الخبيث ـ وهم الكافرون ـ من الفريق الطيّب، وهم المؤمنون. أو يميز الفساد من الصلاح. واللّام متعلّقة بـ «يحشرون» أو «يغلبون»، أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله ممّا أنفقه المسلمون في نصرته. وحينئذ اللّام متعلّقة بقوله:( ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ) .

وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: ليميّز من التمييز، وهو أبلغ من الميز.

( وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ ) ويجعل الفريق الخبيث من الكفّار( بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً ) فيجمعه ويضمّ بعضه إلى بعض حتّى يتراكبوا، لفرط ازدحامهم. أو يضمّ إلى الكافر ما أنفقه، ليزيد به عذابه، ليعاقبهم به، كما قال:( يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ ) (١) الآية.( فَيَجْعَلَهُ ) كلّه( فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ ) إشارة إلى الخبيث، لأنّه مقدّر بالفريق الخبيث، أو إلى المنفقين( هُمُ الْخاسِرُونَ ) الكاملون في الخسران، لأنّهم خسروا أنفسهم وأموالهم.

( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ

__________________

(١) التوبة: ٣٥.

٣٩

لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠) ) ثمّ أمر سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعائهم إلى التوبة والإيمان، فقال:( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) يعني: أبا سفيان وأصحابه. والمعنى: قل لأجلهم، لقوله:( إِنْ يَنْتَهُوا ) على صيغة الغائب، أي: ينتهوا عن معاداة الرسول بالدخول في الإسلام( يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) من الشرك وعداوة الرسول وسائر ذنوبهم. ومنه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإسلام يجبّ ما قبله».

( وَإِنْ يَعُودُوا ) إلى قتاله( فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ) الّذين تحزّبوا على الأنبياء بالتدمير، كما جرى على أهل بدر، فليتوقّعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا.

( وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) لا يوجد فيهم شرك( وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) ويضمحلّ كلّ دين، ويبقى دين الإسلام وحده.

عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: «لم يجيء تأويل هذه الآية، ولو قد قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، وليبلغنّ دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بلغ الليل، حتّى لا يكون مشرك على ظهر الأرض».

( فَإِنِ انْتَهَوْا ) عن الكفر( فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامهم. وعن يعقوب: تعملون بالتاء، على معنى: فإنّ الله بما تعملون من الجهاد والدعوة إلى الإسلام، والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان بصير، فيجازيكم عليه أحسن الجزاء. ويكون تعليقه بانتهائهم دلالة على أنّه كما يستدعي إثابتهم للمباشرة، يستدعي إثابة مقاتليهم للتسبّب.

( وَإِنْ تَوَلَّوْا ) وإن لم ينتهوا( فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ ) ناصركم فثقوا بولاية الله ونصرته، ولا تبالوا بمعاداتهم( نِعْمَ الْمَوْلى ) لا يضيع من تولّاه( وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) لا يغلب من نصره.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

غيرة على أهله من مؤذنيها ، فلم يوجد لذلك صحة ولا أثر البتة ، انتهى ما ذكره ابن فرحون.

قلت : وجواب ما ذكره أخيرا أن تلك المنارة تحتمل أن تكون على باب المسجد وسطحه مما يلي دار مروان ، وليس لها في الأرض أساس ، ويدل على ذلك قوله في الرواية المتقدمة : وبابها على المسجد ، أو على باب المسجد ؛ فلا يلزم من عدم وجود أثرها عند الحفر عدم وجودها أصلا ورأسا في تلك الجهة ، ولم يتعرضوا لذرع هذه المنارة ، وكانت أطول منارات المسجد. وقد ذرعتا من أعلى هلالها إلى الأرض ، فكان ذلك خمسة وتسعين ذراعا ـ بتقديم التاء على السين ـ لكن صارت المنارة الرئيسية المجددة بعد الحريق أطول منها كما سبق ، والله أعلم.

ويظهر من سياق ما تقدم أن أول جعل المنارات في المسجد كان في زيادة الوليد ، ويشهد لذلك ما رواه ابن إسحاق وأبو داود والبيهقي أن امرأة من بني النجار قالت : كان بيتي من أطول بيت حول المسجد ، وكان بلال يؤذن عليه الفجر كل غداة ، فيأتي بسحر ، فيجلس على البيت لينظر إلى الفجر ، فإذا رآه تمطى ، ثم قال : اللهم إني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك ، قالت : ثم يؤذن.

وروى خالد بن عمرو عن أبي برزة الأسلمي قال : من السنة الأذان في المنارة والإقامة في المسجد.

وروى غيره أن الأذان في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على أسطوانة في دار عبد الله بن عمر التي في قبلة المسجد.

قال ابن زبالة : حدثني محمد بن إسماعيل وغيره قال : كان في دار عبد الله بن عمر أسطوان في قبلة المسجد يؤذن عليها بلال يرقى إليها بأقتاب(١) ، والأسطوان مربعة قائمة إلى اليوم يقال لها المطمار ، وهي في منزل عبيد الله بن عبد الله بن عمر.

قلت : والظاهر أنها المرادة بقوله في الرواية المتقدمة في قصة الخوخة التي جعلت بدل طريق بيت حفصة : ووسعها لهم حتى انتهى بها إلى الأسطوان.

وقال الأقشهري ، ومن خطه نقلت : عن عبد العزيز بن عمران قال : كان في دار عبد الله ابن عمر أسطوان في قبلة المسجد يؤذن عليها ، وهي مربعة قائمة إلى اليوم. قال الأقشهري : وهي باقية إلى يومنا هذا ، قال ، يعني عبد العزيز : وكان يقال لها المطمار.

وأسند يحيى من طريق عبد العزيز بن عمران عن قدامة العمري عن نافع عن ابن عمر ، قال : كان بلال يؤذن على منارة في دارة حفصة ابنة عمر التي تلي المسجد ، قال : وكان يرقى

__________________

(١) الأقتاب : مفردها (القتب) : الرّحل الصغير على قدر سنام البعير.

١٠١

على أقتاب فيها ، والأسطوان في البيت الذي كان بيد عبيد الله بن عمر الذي يقال له بيت عبد الله بن عمر ، وقد كانت خارجة من مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تكن فيه ، وليست فيه اليوم ، والظاهر أنه تجوّز في تسمية الأسطوان منارة ، وعبد العزيز بن عمران كان كثير الغلط ؛ لأن كتبه احترقت ؛ فكان يروي من حفظه ، فتركوه ، ثم الظاهر أن عمر وعثمانرضي‌الله‌عنهما لم يتخذا في المسجد منارة ، وإلا لنقل.

عثمان أول من خلق المسجد ورزق المؤذنين

وروى يحيى عن جابر بن عبد الله قال : كان أول من خلّق المسجد ، ورزق المؤذنين ، وجلس على الدرجة الثالثة من المنبر بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمانرضي‌الله‌عنه .

اتخاذ حرس للمسجد

وروى ابن زبالة عن موسى بن عبيدة أن عمر بن عبد العزيز استأجر حرسا للمسجد لا يحترف فيه أحد.

وعن كثير بن زيد قال : نظرت إلى حرس عمر بن عبد العزيز يطردون الناس من المسجد أن يصلّى على الجنائز فيه.

وعن عثمان بن أبي الوليد عن عروة بن الزبير أنه قال له : تضربون الناس في الصلاة في المسجد على الجنائز؟ قال : قلت : نعم ، قال : أما إن أبا بكر قد صلي عليه في المسجد.

قلت : وذكر يحيى ما يقتضي أن الحرس كانوا قبل زمن عمر بن عبد العزيز يمنعون الناس من الصلاة على الجنائز في المسجد ؛ فإنه روى عن ابن أبي ذئب عن المقبري أنه رأى حرس مروان بن الحكم يخرجون الناس من المسجد يمنعونهم أن يصلوا فيه على الجنائز.

قلت : وأما ما كان من ذلك في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد روى ابن شبة عن صحابي سقط اسمه من النسخة التي وقفت عليها حديثا محصله أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة كان إذا احتضر الميت آذنوه فحضره واستغفر له ، حتى إذا قبض انصرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ، وربما قعد ومن معه فربما طال حبس ذلك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فلما خشينا مشقة ذلك عليه قال بعض القوم لبعض : لو كنا لا نؤذن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأحد حتى يقبض ، فإذا قبض آذناه ، فلم يكن عليه في ذلك مشقة ولا حبس ، ففعلنا ذلك ، وكنا نؤذنه بالميت بعد أن يموت فيأتيه فيصلي عليه ، فربما انصرف ، وربما مكث حتى يدفن ، فكنا على ذلك حينا ، فقلنا : لو لم نشخص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وحملنا جنائزنا إليه حتى يصلي عليها عند بيته كان ذلك أرفق به ، ففعلنا ، فكان ذلك الأمر إلى اليوم.

الصلاة على الجنائز في المساجد

وعن ابن شهاب قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا هلك الهالك شهده يصلي عليه حيث

١٠٢

يدفن ، فلما ثقل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبدّن نقل إليه المؤمنون موتاهم فصلى عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجنائز عند بيته في موضع الجنائز اليوم ، ولم يزل ذلك جاريا.

قال ابن شبة : وحدثني محمد بن يحيى قال : حدثني من أثق به أنه كان في موضع الجنائز نخلتان إذا أتى بالموتى وضعوا عندهما فصلى عليهم ، فأراد عمر بن عبد العزيز حين بنى المسجد قطعهما ، فاقتتلت فيهما بنو النجار ، فابتاعهما عمر فقطعهما.

وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر في قصة اليهوديين «فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد» فدل ذلك على أن الموضع المذكور كان معروفا بذلك.

وفي صحيح مسلم من حديث عائشة أنها أمرت أن يمر بجنازة ابن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه ، فأنكر الناس ذلك عليها ، فقالت : ما أسرع ما نسي الناس! ما صلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد ، وفي رواية لها : والله لقد صلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه.

قلت : ويفهم منه أن ذلك نادر ، وأن الكثير من فعلهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تقدمت الإشارة إليه.

وروى يحيى بسند جيد عن عبد الله بن عمر أنه صلّى على عمر بن الخطاب في المسجد ، وفي رواية أخرى له عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب صلى على أبي بكر في المسجد ، وأن صهيبا صلّى على عمر بن الخطاب في المسجد ، وبين في رواية أخرى أن ذلك كان عند المنبر ، وقد روى ذلك ابن أبي شيبة ، وقال في رواية : وضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر.

قال الحافظ ابن حجر : وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك ، وقد تقررت المذاهب في ذلك.

وقال ابن النجار عقب ذكر ما تقدم عن عمر بن عبد العزيز في ذلك : والسنة في الجنائز باقية إلى يومنا هذا ، إلا في حق العلويين ومن أراد الأمراء من الأعيان وغيرهم ، والباقون يصلّى عليهم خلف الحائط الشرقي من المسجد ، إذا وقف الإمام على الجنائز هناك كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يمينه. انتهى.

الشيعة غير الأشراف

قلت : وقد انتسخ ما ذكره ابن النجار ، وصار يصلي على الجنائز كلها في المسجد ، ويخص الأعيان بالصلاة عليهم بالروضة الشريفة بين القبر والمنبر ، وغيرهم يصلي عليه أمام الروضة بعد أن يوقف بالجنازة بين يدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمام الوجه الشريف إلى عام اثنين وأربعين وثمانمائة في دولة السلطان الظاهر جقمق ، فوردت مراسيمه على شيخ الحرم فارس بالأمر بمنع جنائز الشيعة من المسجد ، فمنع المنسوبون للشيعة من إدخال جنائزهم إلى المسجد إلا

١٠٣

الأشراف العلويين ، وجرى الأمر على ذلك إلى يومنا هذا ، لا يدخل المسجد إلا جنائز الأشراف وأهل السنة ، وحاول بعض أهل المدينة إدخال بعض الشيعة غير الأشراف فقام في ذلك بعض أمراء الترك ومنع منه ، وكان صاحبنا العلامة أحد شيوخ المالكية الشيخ شهاب الدين أحمد بن يونس القسنطيني ينكر الصلاة على الموتى بالروضة الشريفة ومقدم المسجد ؛ لكون رجلي الميت تصيران إلى جهة الرأس الشريف ، حتى إنه أوصى أن يصلّى عليه خارج المسجد في موضع الجنائز ، وأكثر قبل وفاته من الاستفتاء في ذلك ، وأراني خطوط جماعة من علماء الشام وغيرها من الشافعية وغيرهم يتضمن موافقته على ذلك ، وفي كلام بعض الشافعية : ينبغي أن تكون الصلاة بالمسجد خلف الحجرة الشريفة أو شرقيها ، والتمس مني الكتابة في ذلك ، فكتبت بما حاصله أن الله تعالى قد أوجب على هذه الأمة تعظيم نبيهاصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوقيره وسلوك الأدب التام معه ، ولا شك أن الميت إذا وضع في مقدم الروضة أو المسجد كما يوضع اليوم وإن لم تكن رجلاه في محاذاة الرأس الشريف حقيقة ؛ لأن الرأس الشريف في محاذاة صف أسطوان التوبة والمخلقة : أي حذاء الأسطوانات التي تكون خلف المصلى على الميت ، لكن تكون رجلاه في محاذاة الجهة المذكورة ، وقد تصدق المحاذاة مع البعد ، ولو رأينا شخصا اضطجع بذلك المحل من الروضة وجعل رجليه لتلك الجهة الشريفة لأنكرنا ذلك عليه ، وما ننكره على الأحياء لا ينبغي أن نفعله بالأموات ، وقد تأملت كتب المذاهب الأربعة فلم أر فيها تعرضا لذكر السنة في جهة رجلي الميت ، بل ذكر الشافعية فيما إذا حضرت جنائز وصلّى عليها الإمام دفعة وجهين : أصحهما وضع الجميع صفا بين يدي الإمام في جهة القبلة ، زاد أبو زرعة العراقي في شرح البهجة : والأولى جعلها عن يمينه ، والثاني يوضع الجميع صفا واحدا رأس كل إنسان عند رجل الآخر ، ويجعل الإمام جميعهم عن يمينه ، ويقف في محاذاة الأخير ، هذا إذا اتحد النوع ، فإن اختلف النوع تعين الوجه الأول ، ذكره في أصل الروضة ، ويؤخذ منه استحباب جعل رجلي كل ميت عن يمين الإمام على الوجه الثاني ، وإلا فلا يكون الجميع صفا عن يمينه ، وأما على الوجه الأول فيؤخذ ذلك أيضا مما تقدم عن أبي زرعة ، ولعل مأخذه فيه ما ذكر في الثاني ، وإذا ثبت ذلك في الجماعة فالواحد كذلك ؛ فيكون الأولى جعل رجليه عن يمين الإمام ، ولكن الذي عليه الناس جعلهما على يساره.

ورأيت في كتب المالكية ما يقتضي أن ذلك هو الأولى ، وأن الناس مضوا على ذلك.

وقد ظهر لي أن السر في ذلك أن السلف ـ كما يؤخذ مما قدمناه ـ إنما كانوا يصلون على الجنائز خارج المسجد في شرقيه في الموضع المعروف بذلك ، والواقف هناك يكون القبر الشريف عن يمينه ، فرأوا ـ والله أعلم ـ أن الأدب جعل الرجلين عن يسار الإمام صرفا

١٠٤

لهما عن تلك الجهة الشريفة ، ثم توارثوا ذلك ، واستمر العمل عليه ، فلما ترك ذلك وصلوا على الجنائز في المسجد مشوا على ما اعتادوه من جعل رجلي الميت عن يسار الإمام مع الغافلة عن ذلك ، وإذا لم تثبت سنة في جعل رجلي الميت عن يسار الإمام فينبغي جعلهما عن يمينه في هذا المحل الشريف ، استعمالا لكمال الأدب.

وقد قال لي الشيخ فتح الدين بن تقي الدين الكازروني ـ وكان يعد من فضلاء الشافعية ـ وقد ذاكرته بذلك : إذا أنا مت فليجعل رجلاي عن يمين الإمام ، ففعل به ذلك رحمة الله ، على أن الموضع الذي يلي الأرجل الشريفة من المسجد هو من موضع الجنائز في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يظهر ، ويدل عليه ما اتفق لبني النجار لما أراد عمر بن عبد العزيز قطع النخلتين عند عمارته للمسجد ؛ فلو صلّى فيه اليوم على من يدخل به المسجد من الجنائز لكان أولى ؛ فإنه يتأتى فيه كون الرجلين عن يسار الإمام والرأس في جهة الأرجل الشريفة ، ويكون أفضل لما جرت به العادة من الخروج بالميت من باب جبريل ، وأوفق لفعل السلف في الصلاة على موتاهم هناك ، ولم يوافق على شيء من ذلك المتمسكون بالعادات ، وقد ذكرت نص ما أجبت به في ذلك مبسوطا استطرادا في كتابي «دفع التعرض والإنكار ، لبسط روضة المختار» والله أعلم.

الفصل الثامن عشر

في زيادة المهدي

نقل ابن زبالة ويحيى أن المسجد لم يزل على حالة ما زاد فيه الوليد إلى أن هم أبو جعفر المنصور بالزيادة فيه ، ثم توفي ولم يزد فيه ، حتى زاد فيه المهدي ، لكن ذكر يحيى في حكاية ما كان مكتوبا في جدار القبلة ما لفظه : ثم إلى جنب هذا الكتاب ـ أي ما كتب في زمن المهدي ـ كتاب كتب في ولاية أبي العباس ، يعني السفاح ، وصل هذا الكتاب أي كتاب المهدي إليه ، وهو : أمر عبد الله عبد الله أمير المؤمنين بزينة هذا المسجد وتزيينه وتوسعته مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، ابتغاء رضوان الله وثواب الله ، وإن الله عنده ثواب الدنيا والآخرة ، وكان الله سميعا بصيرا ، انتهى.

وهو يقتضي أن أبا العباس السفاح ـ وهو أول خلفاء بني العباس ـ زاد في المسجد أول ولايته ، وولايته سنة اثنتين وثلاثين ، ووفاته سنة ست وثلاثين ومائة ، وسنشير إلى محمل ذلك آخر الفصل.

ولفظ ما نقله ابن زبالة عن غير واحد من أهل العلم ـ منهم عبد العزيز بن محمد ومحمد ابن إسماعيل ـ قالوا : لم يزل المسجد على حال ما زاد فيه الوليد بن عبد الملك حتى ولي أبو جعفر عبد الله ـ يعني المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ـ فهمّ بالزيادة ،

١٠٥

وأراده ، وشاور فيه ، وكتب إليه الحسن بن زيد يصف له ناحية موضع الجنائز ، ويقول : إن زيد في المسجد من ناحيته الشرقية توسط قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد ، فكتب إليه أبو جعفر : إني قد عرفت الذي أردت ، فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفانرضي‌الله‌عنه ، فتوفي أبو جعفر ولم يزد فيه شيئا ، ثم حج المهدي ـ يعني ابن أبي جعفر ـ سنة ستين ومائة ، فقدم المدينة منصرفه عن الحج ، فاستعمل عليها جعفر بن سليمان سنة إحدى وستين ومائة ، وأمر بالزيادة فيه ، وولّى بناءه عبد الله بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز وعبد الملك ابن شبيب الغساني ، فمات ابن عاصم ، فولي مكانه عبد الله بن موسى الحمصي ، وزاد فيه مائة ذراع من ناحية الشام ، ولم يزد في القبلة ولا في المشرق والمغرب شيئا ، وذلك عشر أساطين في صحن المسجد إلى سقائف النساء ، وخمسا سقائف النساء الشامية.

وروى يحيى ذلك من طريق ابن زبالة وغيره ، وقال في رواية له عقب قوله واستعمل عليها جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس : وأمره بالزيادة في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وولاه بناءه هو وعبد الله بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز بن مروان وعبد الملك بن شبيب الغساني من أهل الشام ، فزيد في المسجد من جهة الشام إلى منتهاه اليوم ، وكانت زيادته مائة ذراع ، ولم يزد فيه من المشرق ولا المغرب ولا القبلة شيئا.

قلت : ما روياه من أنه زاد في مؤخر المسجد مائة ذراع يخالفه ما تقدم في زيادة الوليد أنه جعل طوله مائتي ذراع ؛ لأنه يقتضي أن يكون طول المسجد بعد زيادة المهدي ثلاثمائة ذراع ، وطول المسجد اليوم على ما صرح به ابن زبالة مائتا ذراع وأربعون ذراعا ، وقد اختبرته فزاد على ذلك ثلاثة عشر ذراعا كما سيأتي ، ومع ذلك فهو مؤيد لما قدمناه من الاحتمال المتبادر إلى الفهم في الرواية المتقدمة في زيادة الوليد المقتضي لأن نهاية المسجد من جهة الشام في زمنه كانت بعد أربع عشر أسطوانة من مربعة القبر ، ومنها إلى آخر المسجد أربع وعشرون أسطوانة فإذا أسقطنا من ذلك أربع عشرة للوليد بقي عشرة أساطين وقدرها نحو مائة ذراع ، وهذا معنى قوله في الرواية المتقدمة «وذلك عشر أساطين في صحن المسجد إلى سقائف النساء» أي إلى آخر سقائف النساء ، وهي المسقف الشامي ، وقوله «وخمس في السقائف» أي من العشرة المذكورة ، مع أنه يقتضي أن المهدي جعل المسقف المذكور خمس أساطين ، وهذا كان في ذلك الزمان كما سنوضحه ، وهو اليوم أربع فقط ، وقد قدمنا ترجيح أن المراد مما ذكر في زيادة الوليد أنه جعل أربع فقط ، وقد قدمنا ترجيح طأن المراد مما ذكر في زيادة الولدي أنه جعل أربع عشرة أسطوانة في الرحبة بما فيها من أربع أساطين في السقائف التي كانت أولا ، وأنه جعل السقائف الشامية في زمنه بعد الأربع عشرة المذكورة ؛ لموافقة ما ذكره في ذرع المسجد في زمنه ولما ذكر في زيادة عثمانرضي‌الله‌عنه من أنه

١٠٦

جعل المسجد مائة وستين ذراعا ، فإن ذلك يقتضي أن يكون نهايته في جهة الشام يقرب من أربعة عشر أسطوانة من المربعة المذكورة ، فيتحصل من ذلك أن زيادة الوليد على ما ذكر في زيادة عثمانرضي‌الله‌عنه أربعون ذراعا ، وأن زيادة المهدي نحو خمسة وخمسين ذراعا فقط ؛ فيكون للمهدي نحو ستة أساطين في مؤخر المسجد ، لكن سيأتي في ذكر أبواب المسجد ما يقتضي أن الباب الذي كان يواجه دار خالد بن الوليد كان مكتوبا عليه : زيادة المهدي ، وكذا الباب الذي بعده في الشام عليه ما يقتضي ذلك ، وكذا البابان المقابلان لهما في جهة المغرب ، دون ما قبل ذلك من الأبواب ، وذلك يقتضي ترجيح رواية أنه زاد في المسجد مائة ذراع ، وقد رأيت في المسقف الشرقي أسطوانة هي التاسعة من جدار المسجد الشامي مربع أسفلها مرتفع عن الأرض بقدر الجلسة ، وهي محاذية لما وصفوه من الباب المقابل لدار خالد بن الوليد ، فإن صحت هذه الرواية فهي علامة على ابتداء زيادة المهدي ، والله أعلم.

وقال ابن زبالة ويحيى في روايتهما المتقدمة أيضا : وكان ـ يعني المهدي ـ قبل بنيانه قد أمر به ، فقدّروا ما حوله ، فابتيع ، وكان مما أدخل في المسجد من الور دار مليكة.

قال ابن زبالة : وأخبرني إبراهيم بن محمد الزهري عن أبيه قال : كانت دار مليكة لعبد الرحمن بن عوف ، وإنما سميت دار مليكة لأن عبد الرحمن أنزلها مليكة ابنة خارجة بن سنان ، فغلب عليها اسمها ، ثم باعها بنو عبد الرحمن بن عوف من عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، فباعها عبد الله حين بناء المسجد ، فأدخل بعضها في المسجد ، وبعضها في رحبة المسارب ، وبعضها في الطريق ، قالوا : وأدخل دار شرحبيل بن حسنة وكانت صدقة ، فابتاعوا دورا ومنازل فأوقفوها صدقة وبقيت منها بقية ، فابتاعها منهم يحيى بن خالد بن برمك فدخلت في الحش حش طلحة.

قلت : وقد ذكر ابن شبة دار مليكة وقال : فباعها عبد الله من معاويةرضي‌الله‌عنه ، فصارت في الصوافي ؛ فأدخلها المهدي في المسجد ، وذكر دار شرحبيل هذه في ترجمة علم دور أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة : أي غير الحجر ، فقال : قال أبو غسان : اتخذت أم حبيبة بنت أبي سفيانرضي‌الله‌عنها الدار التي يقال لها دار آل شرحبيل ، فوهبتها لشرحبيل بن حسنة ، فلم تزل لبنيه حتى باعوا صدرها من المهدي فزادها في مؤخر مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة إحدى وستين ومائة ، ثم ذكر ما سنورده في ذكر الدور المطيفة بالمسجد.

وقال ابن زبالة عقب ما تقدم : وأدخل بقية دار عبد الله بن مسعود التي يقال لها دار القراء ، ودار المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة.

قلت : ذكر ابن شبة هذه الدار في دور بني زهرة ، فقال : واتخذ مخرمة بن أهيب بن نوفل دارا ، وهي في زاوية المسجد عند المنارة الشرقية اليمانية ، فاشترى المهدي بعضها

١٠٧

فأدخله في رحبة المسجد القصيا وفي الطريق ، وبيعت بقيتها فصارت لرجل من آل مطرف ثم صارت لبعض بني برمك ثم صارت صافية اليوم ، انتهى.

وقوله «المنارة الشرقية اليمانية» تحريف والصواب الشامية.

قال ابن زبالة ويحيى عقب ما تقدم : وفرغ من بنيان المسجد سنة خمس وستين ومائة ، وقد كان هم بسد خوخة آل عمر ، وأمر بالمقصورة فهدمت وخفضت إلى مستوى المسجد ، وكانت مرتفعة ذراعين عن وجه المسجد ، فأوطأها مع المسجد ، فكلمه آل عمر في خوختهم حتى كثر الكلام بينهم ، فأذن لهم ففتحوها وخفضوها في الأرض شبه السرب ؛ فصارت في المسجد أي : خارج المقصورة عليها شباك حديد ، وزاد في المسجد لتلك الخوخة ثلاث درجات ؛ فهي على ذلك إلى اليوم.

ويؤخذ مما ذكره ابن زبالة من الكتابة على أبواب المسجد في زمن المهدي أنه زخرفه بالفسيفساء كما فعل الوليد ، ويشهد لذلك بقية من الفسيفساء كانت فيما زاده في مؤخر المسجد عند المنارة الغربية الشامية ، وفيما يقرب منها من الحائط الغربي ، ولم أر في كلام أحد من مؤرخي المدينة أن المسجد الشريف زيد فيه بعد المهدي ، لكن قال الزين المراغي ما لفظه : وقيل : إن المأمون زاد فيه ، وأتقن بنيانه أيضا في سنة اثنتين ومائتين.

قال السهيلي : وهو على حاله ، ورزين ينكر ذلك ، ويمكن الجمع بأنه جدده ولم يزد ، انتهى.

قلت : ولم أر في كلام رزين تعرضا لحكاية ذلك حتى ينكره ، وهذا بعيد جدّا ؛ لأن من أدرك زمن المأمون من مؤرخي المدينة لم يتعرض لشيء من ذلك ، نعم رأيت في المعارف لابن قتيبة بعد ذكر زيادة المهدي ما لفظه : وزاد فيه المأمون زيادة كثيرة ووسعه ، وقرأت على موضع زيادة المأمون : أمر عبد الله بعمارة مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة اثنتين ومائتين ، وذكر أشياء من الأمر بالعدل وتقوى الله ، وهذا لا دلالة فيه على زيادة المأمون في المسجد لاحتمال أنه وقع في زمنه عمارة من غير أن يزيد فيه ، على أن في كلام يحيى وغيره في حكاية ما كان مكتوبا في المسجد ما يدل على كتابة مثل ذلك لمن تجددت ولايته من الخلفاء فقط ، والله أعلم.

الفصل التاسع عشر

فيما كانت عليه الحجرة الشريفة الحاوية للقبور المنيفة في مبدأ الأمر

قد قدمنا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بنى المسجد بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودةرضي‌الله‌عنهما على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النخل ، قال ابن النجار : وكان لبيت عائشةرضي‌الله‌عنها مصراع واحد من عرعر أو ساج ، وتقدم أيضا في الفصل التاسع عن جماعة ممن أدرك

١٠٨

بيوت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أدخلت في المسجد أنها كانت من جريد مستورة بمسوح الشعر ، وأن عمران بن أبي أنس قال : كان فيها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد ، الخبر المتقدم.

أول من بنى جدارا على بيت عائشة

قلت : وكان بيت عائشةرضي‌الله‌عنها أحد الأربعة المذكورة. لكن سيأتي من رواية ابن سعد أنه لم يكن عليه حائط زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن أول من بنى عليه جدارا عمر بن الخطاب ، وليحمل على أن حجرة الجريد التي كانت مضافة له ، أبدلها عمر بجدار ، جمعا بين الروايات ، وتقدم أيضا قول عبد الله بن يزيد الهذلي : ورأيت حجر أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز مبنية باللبن حولها حجر من جريد ممدودة ، إلا حجرة أم سلمة ، وقول الحسن البصري : كنت أدخل بيوت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا غلام مراهق ، وأنال السقف بيدي ، وكان لكل بيت حجرة ، وكانت حجره من أكسية من شعر مربوطة في خشب عرعر.

قلت : والظاهر أن ما يستر به الحجر المذكورة هو المراد في حديث كشفهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لسجف حجرته ، كما في الصحيح ، والسجف لغة : الستر.

وفي التحفة لابن عساكر عن داود بن قيس أنه قال : أظن عرض البيت من الحجرة إلى باب البيت نحو من ست أو سبع أذرع ، وأظن سمكه بين الثمان والتسع نحو ذلك ، ووقفت عند باب عائشة فإذا هو مستقبل المغرب ، وهو صريح في أن الباب كان في جهة المغرب ، وسيأتي ما يؤيده.

وكذا ما روى في الصحيح من كشفهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سجف الباب في مرضه وأبو بكررضي‌الله‌عنه يؤم الناس ، وترجيل عائشةرضي‌الله‌عنها شعره وهو في معتكفه وهي في بيتها كما تقدم في حديث : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ، وفي رواية النسائي : يأتيني وهو معتكف في المسجد ، فيتكئ على عتبة باب حجرتي ، فأغسل رأسه وأنا في حجرتي وسائره في المسجد ، لكن سبق أيضا ما يقتضي أن الباب كان مستقبل الشام ، وهو ضعيف أو مؤول ، أما ضعفه فلما تقدم من أن بيت فاطمةرضي‌الله‌عنها كان ملاصقا له من جهة الشام وأن مربعة القبر كانت باب علي ، ويحتمل أن بعضه من جهة الشام كان ملاصقا بيت فاطمة دون بعضه ، فيتأتى ذلك ، ويدل له ما قدمناه في بيت فاطمةرضي‌الله‌عنها من أن الموضع المزور في بناء عمر بن عبد العزيز كان مخرجا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما تأويله فبأحد أمرين كما أشار إليه الزين المراغي : أحدهما حمله على أنه باب شرعته عائشةرضي‌الله‌عنها لما ضربت حائطا بينها وبين القبور المقدسة بعد دفن عمررضي‌الله‌عنه ، لا أنه الباب

١٠٩

الذي كان في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه بعد ؛ لأنه سيأتي ما يؤخذ منه أن الحائط الذي ضربته كان في جهة المشرق ، ثانيهما لأنه كان له بابان ؛ إذ لا مانع من ذلك ، وهذا محمل ما رواه ابن عساكر عن محمد بن أبي فديك عن محمد بن هلال أنه رأى حجر أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من جريد مستورة بمسوح الشعر ، فسألته عن بيت عائشة ، فقال : كان بابه من جهة الشام ، قلت : مصراعا كان أو مصراعين؟ قال : كان باب واحد ، قلت : من أي شيء كان؟ قال : من عرعر أو ساج ، وهذا مستند ابن عساكر في قوله : وباب البيت شامي ، ولم يكن على الباب غلق مدة حياة عائشة ، اه.

ثم ظفرت في طبقات ابن سعد بما يصرح بأن الحجرة الشريفة كان لها بابان ؛ فإنه روي من طرق أنهم صلوا على النبي «بحجرته ، وروى في أثناء ذلك عن أبي عسيم قال : لما قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : كيف نصلي عليه؟ قالوا : ادخلوا من ذا الباب أرسالا أرسالا فصلوا عليه ، واخرجوا من الباب الآخر ، والله أعلم.

وكان بيت حفصة بنت عمررضي‌الله‌عنها ملاصقا لبيت عائشةرضي‌الله‌عنها من جهة القبلة.

ونقل ابن زبالة فيما رواه عن عبد الرحمن بن حميد وعبيد الله بن عمر بن حفص وأبي سبرة وغيرهم أنه كان بين بيت حفصة وبين منزل عائشة الذي فيه قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم طريق ، وكانتا يتهاديان الكلام وهما في منزليهما ، من قرب ما بينهما ، وكان بيت حفصة عن يمين الخوخة.

قلت : فهو موقف الزائرين اليوم داخل المقصورة وخارجها ، كما ذكره المطري ، وتقدم في حدود المسجد النبوي أن جدار الحجرة مما يلي المسجد كان في حد القناديل التي بين الأساطين اللاصقة بجدار القبر ، وبين الأساطين المقابلة لها ، وهي التي إليها المقصورة الدائرة على الحجرة من جهة المغرب ، وأن المسجد زيد فيه من تلك الجهة شيء من الحجرة ، وأن الظاهر أن ما ترك في المسجد من الحجرة كان من مرافقها كالدهليز للباب ، وأن ما بني عليه من ذلك هو صفة بيت عائشةرضي‌الله‌عنها التي وقع الدفن بها.

هذا ما تحصل لي من كلام متقدمي المؤرخين ، خلاف ما اقتضاه كلام متأخريهم ، من أن جدار الحجرة الذي [في] جوف الحائز الدائر عليها اليوم هو جدارها الأول ، وإليه ينتهي حد المسجد ، وأن جدار الحائز الذي جعله عمر بن عبد العزيز إنما جعله فيما يلي الحجرة من المسجد ، وقد قدمنا من كلام ابن زبالة والمحاسبي نقلا عن مالك ما يرد ذلك ، والله أعلم.

١١٠

الفصل العشرون

فيما حدث من عمارة الحجرة بعد ذلك ، والحائز الذي أدير عليها

روى ابن زبالة عن عائشةرضي‌الله‌عنها أنها قالت : ما زلت أضع خماري وأتفضل في ثيابي(١) حتى دفن عمر ؛ فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارا.

وعن المطلب قال : كانوا يأخذون من تراب القبر ، فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم ، وكانت في الجدار كوة فكانوا يأخذون منها ، فأمرت بالكوت فسدت.

وقال ابن سعد في طبقاته : أخبرني موسى بن داود قال : سمعت مالك بن أنس يقول : قسم بيت عائشة باثنين : قسم كان فيه القبر ، وقسم كان تكون فيه عائشة وبينهما حائط ؛ فكانت عائشة ربما دخلت حيث القبر فضلا ، فلما دفن عمر لم تدخله إلا وهي جامعة عليها ثيابها.

وقال ابن سعد أيضا : أخبرنا يحيى بن عباد قال : حدثنا حماد بن زيد قال : سمعت عمرو بن دينار وعبيد الله بن أبي يزيد قالا : لم يكن على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حائط ، وكان أول من بنى عليه جدارا عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه .

قال عبيد الله بن أبي يزيد : كان جداره قصيرا ، ثم بناه عبد الله بن الزبير.

وقال الأقشهري : قال أبو زيد بن شبة : قال أبو غسان بن يحيى بن علي بن عبد الحميد وكان عالما بأخبار المدينة ومن بيت كتابة وعلم ـ : لم يزل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي دفن فيه هو وأبو بكر وعمررضي‌الله‌عنهما ظاهرا حتى بنى عمر بن عبد العزيز عليه الحظار(٢) المزور الذي هو عليه اليوم حين بنى المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك ، وإنما جعله مزورا كراهة أن يشبه تربيعه تربيع الكعبة ، وأن يتخذ قبلة فيصلي إليه.

قال أبو زيد : قال أبو غسان : وقد سمعت غير واحد من أهل العلم يزعم أن عمر بنى البيت غير بنائه الذي كان عليه ، وسمعت من يقول : بنى علي بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أجدر ، فدور القبر ثلاثة أجدر : جدار بناء بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجدار البيت الذي يزعم أنه بنى عليه يعني عمر بن عبد العزيز ، وجدار الحظار الظاهر ، انتهى ما نقله الأقشهري.

قلت : ولم يوجد على الحجرة الشريفة عند انكشافها في العمارة التي أدركناها غير جدار واحد جوف الحظار الظاهر.

وقال ابن سعد : أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي المكي قال : حدثنا مسلم بن

__________________

(١) الفضل : المرأة إذا لبست ثياب مهنتها وكانت في ثوب واحد. ويقال : امرأة فضل : مختالة تفضل في ذيل ثيابها.

(٢) الحظار : كل شيء حجز بين شيئين كحائط البستان. و ـ الأرض المحوطة.

١١١

خالد قال : حدثني إبراهيم بن نوفل بن سعيد بن المغيرة الهاشمي عن أبيه قال : انهدم الجدار الذي على قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في زمان عمر بن عبد العزيز ، فأمر بعمارته ، قال : فإنه لجالس وهو يا بني إذ قال لعلي بن حسين : قم يا علي فقمّ البيت(١) ، يعني بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام إليه القاسم ابن محمد قال : وأنا أصلحك الله ، قال : نعم وأنت فقم ؛ ثم قال له سالم بن عبد الله : وأنا أصلحك الله ، قال : اجلسوا جميعا ، وقم يا مزاحم ، فقمّه ، فقام مزاحم فقمه ، قال مسلم : وقد أثبت لي بالمدينة أن البيت الذي فيه قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت عائشة ، وأن بابه وباب حجرته تجاه الشام. وأن البيت كما هو سقفه على حاله ، وأن في البيت جرة وخلق رخالة ، انتهى.

وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن غير واحد منهم إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري عن أبيه قال : جاف(٢) بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من شرقيه ، فجاء عمر بن عبد العزيز ومعه عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، فأمر ابن وردان أن يكشف عن الأساس ، فبينا هو يكشفه إلى أن رفع يده وتنحّى واجما ، فقام عمر بن عبد العزيز فزعا ، فقال عبد الله ابن عبيد الله : أيها الأمير لا يروعنّك فتانك قدما جدك عمر بن الخطاب ضاق البيت عنه فحفر له في الأساس ، فقال : يا ابن وردان غطّ ما رأيت ، ففعل.

وروى أيضا عن المطلب أنه لما سقط الجدار من شق الجنائز أمر عمر بقباطيّ فخيطت(٣) ، ثم ستر بها ، وأمر أبا حفصة مولى عائشة وناسا معه فبنوا الجدار ، فجعلوا فيه كوة ، فلما فرغوا منه ورفعوه دخل مزاحم مولى عمر فقمّ ما سقط على القبر من التراب والطين ، ونزع القباطي ، وكان عمر يقول : لأن أكون وليت ما ولي مزاحم من قمّ القبور أحب إلي من أن يكون لي من الدنيا كذا وكذا ، وذكر مرغوبا من الدنيا.

وروى يحيى من طريقه أيضا عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال : كنت أخرج كل ليلة من آخر الليل حتى آتي المسجد ، فأبدأ بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأسلم عليه ، ثم آتي مصلاي فأجلس به حتى أصلي الصبح ، فخرجت في ليلة مطيرة حتى إذا كنت عند دار المغيرة بن شعبة لقيتني رائحة لا والله ما وجدت مثلها قط ، فجئت المسجد فبدأت بقبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا جداره قد انهدم ، فدخلت فسلمت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومكثت فيه مليا ، وذكر صفة القبور كما سيأتي عنه ، قال : فلم ألبث أن سمعت الحس ، فإذا عمر بن عبد العزيز قد أخبر فجاء ، فأمر به فستر بالقباطي ، فلما أصبح دعا وردان البناء فقال له : ادخل فدخل فكشف فقال : لا بد لي

__________________

(١) قمّ البيت : كنسه. و ـ الشاة ونحوها : تناولت بشفتيها ما وجدت على وجه الأرض لتأكله.

(٢) جاف : نتن ، ظهرت له رائحة كريهة.

(٣) القباطي : (ج) القبطية : ثياب من كتان بيض رقاق ، كانت تنسج في مصر.

١١٢

من رجل يناولني ، فكشف عمر بن عبد العزيز ساقيه يريد يدخل ، فكشف القاسم بن محمد ، فكشف سالم بن عبد الله ، فقال عمر : مالكم؟ فقالوا : ندخل والله معك ، قال : فلبث عمر هنيهة ثم قال : والله لا نؤذيهم بكثرتنا اليوم ، ادخل يا مزاحم فناوله ، فقال عمر : يا مزاحم كيف ترى قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؟ قال : متطأطئا ، قال : فكيف ترى قبر الرجلين؟ قال : مرتفعين. قال : أشهد أنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورواه رزين عن عبد الله المذكور باختصار ، وخالف سياق يحيى في وصف القبور كما سيأتي التنبيه عليه ، وقال فيه : فأخبرت بذلك عمر ، فجاء فأمر به فستر بالقباطي ، وذكره بنحوه.

وفي العتبية : قال مالك : انهدم حائط بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي فيه قبره ، فخرج عمر بن عبد العزيز واجتمعت رجالات قريش ، فأمر عمر بن عبد العزيز فستر بثوب ، فلما رأى ذلك عمر بن عبد العزيز من اجتماعهم أمر مزاحما أن يدخل ليخرج ما كان فيه ، فدخل فقمّ ما كان فيه من لبن أو طين ، وأصلح في القبر شيئا كان أصابه حين انهدم الحائط ، ثم خرج وستر القبر ثم بنى ، انتهى.

وروى البخاري في الصحيح من حديث هشام بن عروة عن أبيه ، قال : لما سقط عنهم الحائط زمان الوليد بن عبد الملك أخذوا في بنائه ، فبدت لهم قدم ، ففزعوا وظنوا أنها قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما وجدوا أحدا يعلم ذلك ، حتى قال لهم عروة : لا والله ما هي قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما هي إلا قدم عمر.

ويستفاد مما تقدم أن السبب في هذا البناء سقوط الجدار المذكور بنفسه ، ولعله بسبب المطر المشار إليه في الرواية المتقدمة.

ويخالفه ما رواه أبو بكر الآجرى من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة قال : أخبرني أبي قال : كان الناس يصلون إلى القبر ، فأمر به عمر ابن عبد العزيز فرفع حتى لا يصل إليه أحد ، فلما هدم بدت قدم بساق وركبة ، ففزع عمر بن عبد العزيز ، فأتاه عروة فقال : ساق عمر وركبته! فسرّي(١) عن عمر بن عبد العزيز.

ومن طريق مالك بن مغول عن رجاء بن حيوة قال : كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز ، وكان قد اشترى حجر أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن اهدمها ووسع بها المسجد ، فقعد عمر في ناحية ، ثم أمر بهدمها ، فما رأيت باكيا أكثر من يومه ، ثم بناها كما أراد ، فلما أن بنى البيت على القبر وهدم البيت الأول ظهرت القبور الثلاثة ، وكان الرمل الذي عليها قد انهار ، ففزع عمر بن عبد العزيز ، وأراد أن يقوم فيسويها بنفسه ، فقلت له :

__________________

(١) سرّي عنه : زال ما به من هم وفزع.

١١٣

أصلحك الله! إنك إن قمت قام الناس معك ، فلو أمرت رجلا أن يصلحها ، ورجوت أن يأمرني بذلك ، فقال : يا مزاحم ـ يعني مولاه ـ قم فأصلحها.

ونقل الأقشهري عن الرشيد أبي المظفر الكازروني شارح المصابيح أنه قال : سألت جمعا من العلماء عن سبب ستر القبور عن أعين الناس : أي باتخاذ جدار لا باب له ، فذكر بعضهم أنه لما مات الحسن بن علي أوصى أن تحمل جنازته ويحضر بها قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يرفع ويقبر في البقيع ، فلما أراد الحسين أن يجيز وصيته ظن طائفة أنه يدفن في الحضرة ، فمنعوه وقاتلوه ، فلما كان عبد الملك أو غيره سدوا وستروا.

وقال أبو غسان فيما حكام الأقشهري : أخبرني الثقة عن عبد الرحمن بن مهدي عن منصور بن ربيعة عن عثمان بن عروة قال : قال عروة : نازلت عمر بن عبد العزيز في قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يجعل في المسجد أشد المنازلة ، فأبى ، وقال : كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه ، قال : فقلت : فإن كان لا بد فاجعل له حوجوا (أي : وهو الموضع المزور خلف الحجرة).

وروى ابن زبالة عن محمد بن هلال وعن غير واحد من أهل العلم أن بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي فيه قبرهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي فيه قبره ، وهو بيت عائشة الذي كانت تسكن ، وأنه مربع مبني بحجارة سود وقصة الذي يلي القبلة منه أطوله ، والشرقي والغربي سواء ، والشامي أنقصها ، وباب البيت مما يلي الشام ، وهو مسدود بحجارة سود وقصة ، ثم بنى عمر بن عبد العزيز على ذلك البيت هذا البناء الظاهر ، وعمر بن عبد العزيز زوّاه لأن يتخذه الناس قبلة تخص فيه الصلاة من بين مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وقال : «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ـ الحديث» قالوا : والبناء الذي حول البيت بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بينه وبين البناء الظاهر اليوم مما يلي المشرق ذراعان ، ومما يلي المغرب ذراع ، ومما يلي القبلة شبر ، ومما يلي الشام فضاء كله ، وفي الفضاء الذي يلي الشام مركن مكسور(١) ومكيل خشب ، قال عبد العزيز بن محمد : يقال إن البنائين نسوه هناك ، انتهى.

وروى يحيى عن أبي غسان محمد بن يحيى قال : سمعت من يقول في الحظار الذي على قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مركن وخشبة وحديدة مسندة ، قال محمد بن يحيى : وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد : هو مركن تركه العمال هناك ، وقال محمد بن يحيى ـ يعني أبا غسان ـ فأما أنا فإني أطلعت في الحظار فلم أر شيئا ، فزعم لي زاعم أنه قد رأى ثم المركن وشيئا موضوعا مع

__________________

(١) المركن : وعاء تغسل فيه الثياب (ج) مراكن.

١١٤

المركن ، وأما أنا فلم أره ، ولم أعلم أحدا يدري من أخذه ، ولم أر للبيت الذي في الحظار بابا ولا موضع بابه ، وقد أخبرني ابن أبي فديك أنه رأى باب بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يلي الشام ، انتهى. وقد حكى الأقشهري عن أبي غسان أيضا نحو ذلك.

قلت : ولم نر للبيت عند انكشافه في العمارة التي أدركناها بابا ولا موضع باب ، ولم يوجد في الفضاء الذي يلي الشام من الحظار المذكور مركن ولا غيره مما ذكر ، وسيأتي في الفصل الثالث والعشرين أن ابن عاث ذكر أنهم وجدوا عند عمارة حائط سقط بالحجرة قعبا انكسر عند سقوط الحائط ، وأنه حمل إلى بغداد ، فإن صح فلعله المراد ، وفيما قدمناه إشعار بأن موضع القبور الشريفة كان مسقفا تحت سقف المسجد كما سيأتي التصريح به ، ولهذا لما انكشف سقف المسجد رأوا ما بين الحظار الظاهر والحجرة ، ولم يروا جوف الحجرة ، ويدل له ما سيأتي عن أبي الجزاء قال : قحط أهل المدينة قحطا شديدا ، فشكوا إلى عائشة ، فقالت : فانظروا قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف ، ففعلوا ، فمطروا ، الخبر الآتي ، لكن سيأتي في الفصل الرابع والعشرين عن ابن رشد أنه قال في بيانه : إن الثقة أخبرني أنه لا سقف له في زمنه تحت سقف المسجد ، وكنت أظن أن ذلك بعد حريق المسجد ، فإن كلام المؤرخين الآتي متطابق على أنه لا سقف للحجرة بعد الحريق إلا سقف المسجد ، ثم تبين أن زمن ابن رشد كان قبل الحريق بمدة مديدة ؛ لأن وفاته سنة عشرين وخمسمائة ، ثم اطلعنا في العمارة التي أدركناها على وجود سقف جعل بعد الحريق وعلى آثار السقف الذي كان قبله كما سيأتي بيانه ، والله أعلم.

الفصل الحادي والعشرون

فيما روي من الاختلاف في صفة القبور الشريفة ، بالحجرة المنيفة

وما جاء من أنه بقي بها موضع قبر ، وأن عيسى بن مريمعليه‌السلام يدفن بها ، وما جاء في تنزل الملائكة حافين بالقبر الشريف ، وتعظيمه والاستسقاء به.

اعلم أن ابن عساكر ذكر في تحفته الاختلاف في صفة القبور الشريفة ، فذكر في ذلك سبع روايات ، وسبقه إلى ذلك شيخه ابن النجار ، لكنه ذكر ستا فقط.

رواية نافع في وضع القبور

الأولى : ما رواه عن نافع بن أبي نعيم أن صفة قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبر أبي بكر وقبر عمر ، قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمامها إلى القبلة مقدما ، ثم قبر أبي بكر حذاء منكبي(١) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقبر عمر حذاء منكبي أبي بكر ، وهذه صفته :

__________________

(١) المنكب : مجتمع رأس العضد والكتف.

١١٥

قلت : وهذه الرواية هي التي عليها الأكثر ونقل الزين المراغي أن رزينا ويحيى جزما بها ، وهو كذلك في كلام رزين ، ورواها عن عبد الله بن محمد بن عقيل فقال عقب خبره المتقدم في قصة سقوط جدار الحجرة : ورأيت القبور ، فإذا قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمام ، وقبر أبي بكر خلفه ، وقبر عمر خلف قبر أبي بكر ، ورأس أبي بكر عند منكبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأس عمر عند منكبي أبي بكر ، وأما يحيى فلم أر في كلامه الجزم بذلك ، بل رأيته حكى اختلاف الروايات كغيره ، ولفظه في حكاية هذه الرواية : حدثنا هارون بن موسى قال : سمعت أبي يذكر عن نافع بن أبي نعيم وغيره من المشايخ ممن له سنّ وثقة أن صفة قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر ما تقدم ، ورأيت في نسخة من كتاب يحيى تصوير القبور الشريفة على هذه الصفة ، وقال : إنها صفة القبور الشريفة فيما وصف بعض أهل الحديث عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي‌الله‌عنها ، ثم ذكر ما سيأتي في الصفة السادسة.

وروى ابن سعد في طبقاته في ذكر أبي بكررضي‌الله‌عنه من طريق الواقدي عن أبي بكر ابن عبد الله بن أبي سبرة عن عمر بن عبد الله بن عروة أنه سمع عروة والقاسم بن محمد يقولان : أوصى أبو بكر عائشة أن يدفن إلى جنب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما توفي حفر له ، وجعل رأسه عند كتفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وألصق اللحد بقبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقبر هناك.

ثم روى من طريق الواقدي أيضا عن ربيعة بن عثمان عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال : رأس أبي بكر عند كتفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأس عمر عند حقوي أبي بكر.

قلت : وفي هذه مخالفة يسيرة لما تقدم بالنسبة إلى عمررضي‌الله‌عنه .

رواية القاسم بن محمد

الثانية : روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال : دخلت على عائشةرضي‌الله‌عنها فقلت لها : يا أمة اكشفي لي عن قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه ، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطية ، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. زاد الحاكم : فرأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مقدما ، وأبا بكر رأسه بين كتفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعمر رأسه عند رجلي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم . قال ابن عساكر : وهذه صفته.

١١٦

وقد صحح الحاكم إسناد هذه الرواية ، والله أعلم.

رواية عثمان بن نسطاس

الثالثة : ما رواه الزبير بن بكار عن ابن زبالة قال : حدثني إسحاق بن عيسى عن عثمان بن نسطاس قال : رأيت قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هدم عمر بن عبد العزيز عنه البيت مرتفعا نحوا من أربع أصابع عليه حصباء إلى الحمرة ما هي ، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأيت قبر عمر أسفل منه ، وصوّره لنا كما صوره له عثمان.

قلت : ولم يكن في النسخة التي وقفت عليها من ابن زبالة تصوير ، وصوّر ذلك ابن عساكر هذا :

قلت : وابن زبالة ضعيف ، وإسحاق بن عيسى هو ابن بنت داود بن أبي هند ، صدوق يخطئ ، وعثمان بن نسطاس عن عثيم مصغر بن نسطاس بكسر النون المدني أخو عبيد مولى آل كثير بن الصلت ، مقبول حيث يتابع ، وإلا فليّن الحديث. وقد ذكر الحافظ بن حجر أن أبا بكر الآجري روى هذا الخبر في كتاب صفة قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق إسحاق بن عيسى المذكور عن ابن نسطاس ، وليس فيه ذكر تصوير ، ولم يذكر الحافظ ابن حجر الواسطة بين الآجري وإسحاق بن عيسى ، وهذه الرواية مع ما فيها من الضعف قابلة للتأويل بردها إلى الرواية التي قبلها ، وإن كان التصوير يأباه ؛ لجواز حمله على التقريب ، والله أعلم.

رواية المنكدر بن محمد

الرابعة : روى ابن زبالة عن المنكدر بن محمد عن أبيه قال : قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هكذا ، وقبر أبي بكر خلفه ، وقبر عمر خلفه عند رجلي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصوره ابن عساكر هكذا :

١١٧

قلت : ويمكن رد هذه الرواية مع ضعفها إلى الثانية ؛ لأن قوله «وأبو بكر خلفه» صادق بأن يكون رأسه عند منكبي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

رواية عمرة عن عائشة

الخامسة : روى يحيى بإسناد فيه إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس عن أبيه ـ وإسماعيل صدوق ، لكن أخطأ في أحاديث من قبل حفظه ، وأبوه صدوق يهم ، وبقية رجاله ثقات ـ عن عمرة عن عائشةرضي‌الله‌عنها وصفت لنا قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبر أبي بكر وقبر عمر ، وهذه القبور في سهوة في بيت عائشة ، رأس النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يلي المغرب ، وقبر أبي بكر رأسه عند رجلي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقبر عمر خلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبقي موضع قبر ، وهذه صفة قبورهم على ما وصف ابن أبي أويس عن يحيى بن سعيد وعبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة ، ولم يصور يحيى لذلك شيئا.

وروى ابن زبالة نحو ذلك وقد ذكره من طريق ابن عساكر ، ثم قال : وهذه صفته :

قلت : ويردها ما روى من أن رجلي عمررضي‌الله‌عنه ضاق عنها الحائط فحفر لهما في الأساس.

وفي الصحيح كما سبق قول عروة «ما هي إلا قدم عمر».

رواية أخرى عن القاسم بن محمد

السادسة : روى ابن زبالة عن القاسم بن محمد قال : دخلت على عائشة فقلت : يا أمه أريني قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه ، فكشفت لي عن قبورهم ، فإذا هي لا مرتفعة ولا لاطية ، مبطوحة ببطحاء حمراء من بطحاء العرصة ، فإذا قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمامهما ، ورجلا أبي بكر عند رأس النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأس عمر عند رجليه.

١١٨

قال ابن عساكر : وهذه صفتها :

قلت : وهذه الرواية مع ضعفها معارضة بما تقدم في الرواية الثانية عن القاسم بن محمد المذكور ، وتلك أصح ، وما سيأتي في صفة الحجرة الشريفة يأبى ذلك أيضا ، وقد رأيتها في نسخة من كتاب يحيى رواه ابنه طاهر عنه على هذه الصورة :

وقال : إنها عن القاسم بن محمد عن عائشةرضي‌الله‌عنها ، ثم قال ابن فراس أحد رواة النسخة المذكورة عن طاهر بن يحيى : سألت طاهر بن يحيى أن يصور لي بخطه صفة قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبر أبي بكر وعمررضي‌الله‌عنهما ، فصور لي بيده هذه الصورة ، انتهى.

رواية عبد الله بن محمد بن عقيل

السابعة : ما روى يحيى من طريق ابن زبالة في الخبر المتقدم في الفصل قبله في قصة سقوط جدار الحجرة الشريفة في تلك الليلة المطيرة عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، قال عقب قوله فيما تقدم : «فدخلت فسلمت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومكثت فيه مليا ، ورأيت القبور فإذا قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقبر أبي بكر عند رجليه ، وقبر عمر عند رجلي أبي بكر ، وعليهما حصىّ من حصباء العرصة» قال ابن عساكر : وهذه صفته :

١١٩

قلت : وهذه الرواية نقلها رزين عن عبد الله بن عقيل ، وساقها باللفظ السابق ، إلا أنه قال : ورأيت القبور ، فإذا قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمام ، وذكر ما قدمنا عنه في الرواية الأولى ، وهو مخالف لما في هذه الرواية ، وهو أولى بالاعتماد ؛ لأن هذه الرواية ضعيفة مع بعدها مما سيأتي في وصف الحجرة الشريفة ، سيما على ما سبق من قسم عائشةرضي‌الله‌عنها الحجرة باثنين ، ولها شاهد لكنه ضعيف أيضا ، وهو ما في طبقات ابن سعد عن مالك بن إسماعيل ـ أظنه مولى لآل الزبير ـ قال : دخلت مع مصعب بن الزبير البيت الذي فيه يعني قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمررضي‌الله‌عنهما ، فرأيت قبورهم مستطيلة ، انتهى.

وفي رواية للآجري ما يوهم صفة ثامنة ؛ فإنه ذكر عقب الخبر المتقدم عن رجاء بن حيوة في إدخال الحجرة في المسجد ما لفظه : قال رجاء : فكان قبر أبي بكر وسطه ، ولم يذكر فيه عمررضي‌الله‌عنه ، فإن الضمير في قوله «وسطه» إن كان للبيت فواضح ، وإن كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذه صفة أخرى ، لكن ينبغي تأويلها أيضا على التجوز في لفظ الوسط ليوافق رواية غيره.

وأما ما أخرجه أبو يعلى عن عائشة : أبو بكر عن يمينه ، وعمر عن يساره ؛ فسنده ضعيف أيضا ، ويمكن تأويله كما قاله الحافظ ابن حجر.

وحينئذ فلم يبق إلا الروايتان الأوليان فهما اللتان يتردد بينهما في الترجيح ، والأولى هي المشهورة ، ومقتضى تصحيح الحاكم لإسناد الثانية ترجيحها ، وهي أصح الروايات ، وقد اشتملت على أن القبور لم تكن مسنّمة(١) وقد قال يحيى : حدثني هارون بن موسى ـ قلت : ولا بأس به ـ قال : حدثني غير واحد من مشايخ أهل المدينة أن صفات القبور الشريفة مسطوحة عليها بطحاء من بطحاء العرصة حمراء.

وروى ابن زبالة من طريق عمرة عن عائشة قالت : ربّع قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل رأسه مما يلي المغرب.

وأما ما في صحيح البخاري عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مسنما ، زاد أبو نعيم في المستخرج : وقبر أبي بكر وعمررضي‌الله‌عنهما كذلك ، ورواه ابن سعد عنه بلفظ : رأيت قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر مسنّمة ، فلا يعارض ما قدمناه ؛ لأن سفيان ولد في زمان معاوية فلم ير القبر الشريف إلا في آخر الأمر ، فيحتمل ـ كما قال البيهقي ـ أن القبر لم يكن في الأول مسنما ، ثم سنم لما سقط عن الجدار ؛ فقد روى يحيى عن عبد الله ابن الحسين قال : رأيت قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مسنما في زمن الوليد بن هشام. وفي رواية أخرى

__________________

(١) سنّم القبر : رفعه وعلّاه عن وجه الأرض كالسنام ولم يسطحه.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282