• البداية
  • السابق
  • 345 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 5879 / تحميل: 4840
الحجم الحجم الحجم
المدرسة القرآنيّة

المدرسة القرآنيّة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

المرحلة الرابعة : محو الأنانيّة ، والفناء في مُقابل عظمة الحق.

وفي هذه المرحلة التي ينقطع الإنسان فيها عن التّعلقات المادية ، من الأهل والأموال والأولاد واللّذات ، تكون الشّهوات الماديّة والخياليّة قد تغيّرت وتبدّلت ، إلى تعلّقٍ وإرتباطٍ روحي ومعنوي ، والذي يبقى هو التّعلق بالذّات والنّفسٍ ، وهذا التعلّقً متجذّر وقويّ لدرجةٍ كبيرةٍ جدّاً ، ولشدّة ظهوره : خفي ، وتبقى ملاحظةٌ واحدةٌ وهي ، أنّ هدف السّالك في جميع هذه المراحل هو الوصول إلى لقاء الله ، وفي الواقع والباطن أنّ كلّ عمل يكون قد أدّاه هو له ولنفسه.

وبعبارة اخرى : كان يُريد الوصول إلى المقامات العليا ، والقُرب من الله تعالى ، والحصول على الكمالات المعنوية والروحية ، فكلّ ذلك كان بدافع النّفس والذّات ، وليس لِلهدف الأصلي ، ولذلك فهو عند وصوله لمثل هذا المقام يفرح غاية الفرح ، ولكن إذا وصل غيره إلى هذا المقام ، فسوف لن يكون فرحاً لهذا الحد ، وهنا يجب أن تُحذف «الأنا» وتُنسى ، ويكون المحبوب للسّالك هو تجلّي الله سبحانه ، لا من خلال حبّ الذّات ، أو بعبارةٍ أوضح ، يجب أن تُمحى «الأنا» ، وهي الحِجاب الأكبر والمانعُ الأقوى ، وآخر الحُجب للوصول إلى الله تعالى ولقائه.

ولإزالة هذا المانع ، توجد عدّة طرق :

١ ـ طريق التّوجه القلبي لله تعالى ، والتّوحيد الذّاتي والصّفاتي والأفعالي ، ومنه يفهم أنّ غيره لا شيء في مُقابله.

٢ ـ التّفكر والإستدلال للوقوف بوجه «الأنانية» وحجاب النفس ، بمعنى أن يرى أنّ الله تعالى غير محدودٍ بحدٍّ ، وهو الأزلي والحقّ المطلق ، والنفس هي الموجود المحدود في كلّ شيء ، وفي منتهى الضّعف والعجز والفقر والحاجة إلى الله تعالى ، ومن دون المدد الإلهي فإنّها لا تستطيع الصّمود ولا لِلِحظةٍ واحدةٍ.

٣ ـ المعالجة بالأضداد ، بمعنى أنّه كلّما أحسّ بوجود «الأنا» في وعيه ، يعالج هذا الموقف بالتّوجه لله والصّالحين من عباده ، لكي يعيش في الحضور الدّائم مع الباري تعالى.

المرحلة الخامسة : في هذه المرحلة يصبح السّالك إنساناً ملكوتياً ، ويدخل في عالم

١٢١

الجبروت!. والقصد من الدخول في مرحلة الجبروت ، هو أنّ الإنسان يصل إلى مرحلةٍ من الصّفاء والإخلاص ، يكون فيها مندّكاً في ذاتِ الله تعالى ، وله نفوذٌ وسلطةٌ على الامور ، فيتحرك في أداء وظائفه الإلهيّة ، وإرشاد الناس ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، من موقع المسؤولية والإنضباط في خط الرّسالة ، ويكون على بصيرةٍ كاملةٍ من أمره.

أو الأحرى ، ينسى نفسه ، ويكون على علمٍ بكلّ المسائل والوظائف والأحكام والآداب الشرعية ، وطرق السّير والسّلوك ، ويكون تشخيصه لِلأمراض والأدوية دقيق جدّاً ، كالطّبيب الحاذق الذي يعرف الدّاء والدّواء ويشخصه جيّداً(١) .

والجدير بالذّكر أنّه قد استدلّ لكلّ هذه المطالب في كتابه ، بالآيات والرّوايات الإسلاميّة ، كشاهدٍ على مُدّعاه.

خلاصة ما تقدم من مذاهب السّير والسّلوك :

يُستفاد ممّا تقدّم من تعليمات أرباب هذا الفن ، والطريق : (الذين مشوا في نهج الإسلام الأصيل وطريق أهل البيتعليهم‌السلام لا المتصوفة) ، اصولٌ مشتركةٌ في عمليّةِ السّيرِ والسّلوك إلى الله وهي :

١ ـ أنّ الهدف الأصلي ، هو لقاء الله وشهود ذاته المقدسة ، بالبصيرة والحُضور الروحي المعنوي عنده.

٢ ـ للوصول لهذا الهدف ، ينبغي التّحرك أولاً من موقع التوبة من جميع الذنوب والرذائل الأخلاقية ، والتّحلي بالفضائل.

٣ ـ في هذا الطريق يجب أن لا ينسى الآداب الأربعة : المشارطة ، والمراقبة ، والمحاسبة ، والمعاقبة ، يعني يُشترط في الصّباح على نفسه ، أن لا يذنب ولا يخالف رضا الباري تعالى ، ويراقب نفسه في طول النّهار وفي اللّيل وعند النوم ، يجلس للمحاسبة ، وإذا ما صدرت منه مخالفةٌ يعاقب نفسه بتركه لأنواع اللّذائذ.

٤ ـ التّصدي لهوى النفس من موقع المخالفة ، لأنّ الهوى هو من أكبر السّدود في هذا

__________________

١ ـ للإطّلاع ، يرجى الرجوع إلى كتاب : «لقاء الله» ، للعلّامة الكبير المُصطفوي.

١٢٢

الطّريق ، ومخالفته هي من أوجب الواجبات.

٥ ـ التّوجه لأذكارٍ وأورادٍ وردت في الشّرع المقدس ، وأمثال :«لا حَولَ وَلا قُوَّةَ بِالله» ، وذكر( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) ، وذكر«يا الله» و «يا حَيُّ» «يا قَيُّوم» وهي الزاد في هذا الطّريق والسبب للقوّة.

٦ ـ التوجه القلبي لحقيقة التّوحيد للذات والصّفات والأفعال لله تعالى ، والغرق في صفات كماله وجماله ، وهي زاد آخر لهذا الطريق الوعر المليء بالمطبّات والتّحديات الصعبة.

٧ ـ كسر أكبر الأصنام ، وهو صنم الأنانيّة والّذات الفرديّة ، وهو من أهم الشّروط للوصول للمقصود.

٨ ـ وقد إشترط البعض الإستعانة بالاستاذ ، والسّير في هذا الطريق تحت إشرافه ، فيكون كالطبيب الذي يعمل على معالجته ، والبعض لا يعتمدون على الاستاذ ، وحصل في كثير من الموارد ، وللأسف الشديد ، الوقوع في حبائل الشيطان ، وذلك بسبب الإعتماد على الاستاذ ، حيث يعتبرونه كالملاك ، فيذهب دينهم وإيمانهم وأخلاقهم إدراج الرّياح!.

ويرى البعض الآخر ، أنّ وظيفة الإرشاد والسير على هدي الأنبياء والأولياء ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هي آخر المراحل ، ولكن كثيراً منهم لم يذكروا شيئاً ، وتركوا السّالك بحاله.

والغرض من الإتيان بهذا البحث ، في المباحث الأخلاقية ، في هذا الكتاب ، هو :

أولاً : سرد عصارة من التّفكرات التي لها علاقة بالمباحث الأخلاقية ، حتى يتنور القاريء ويتحرك في طريق التّهذيب وإصلاح الذّات.

ثانياً : نحذّر طلاب الحقيقة ، أنّ الحدّ بين الحقّ والباطل ضيئل جدّاً ، فكثيرٌ من الشّباب من ذوي القلوب النّقية ، كان هدفهم الوصول إلى الحقّ والعين الصّافية ، ولكنّهم إنجرفوا في طريق الضّلالة ، وتركوا طريق العقل والشّرع ، ولذلك تاهوا في وادي الحيرة ، وغرقوا في مستنقع الخطيئة ، ولم يسلموا من مخالب الذّئاب الضّارية ، الذين يرتدون مسوح الزّهد والقداسة ، فأضاعوا وفقدوا كلّ ما لديهم.

١٢٣
١٢٤

١٠

هل يلزم وجود المُرشد في كلّ مرحلةٍ؟

يعتقد كثير من أرباب السّير والسّلوك ، أنّ السّائرين في طريق الكمال والفضيلة ، والتقوى والأخلاق ، والقرب إلى الله تعالى ، يجب أن يكونوا تحت إشراف الاستاذ والمرشد ، كما ذكر في رسالة السّير والسلوك للعلّامة بحر العلوم ، ورسالة لبّ الألباب للمرحوم العلّامة الطّباطبائي ، في الفصل الحادي والعشرون من وظائف السّائر إلى الله ، هو التّعليم والتعلم تحت نظر وإشراف الاستاذ ، سواء كان الاستاذ عالِم كالعلماء الذين مشوا في هذا الطريق ، أم الأساتذة الخصوصيين ، وهم الأنبياء الأئمة والمعصومينعليهم‌السلام .

ولكن المطّلعين من أهل الفن ، يُحذّرون السّائرين على طريق التّقوى والتّهذيب ، من عدم الإلتجاء بسهولة لأيٍّ كان ، وإذا لم يطمئنّوا إطمئناناً كافياً ، ولم يختبروا صلاحيتهم العلميّة والدينية ، فلا يسلّموهم أنفسهم ، ولا يكتفوا حتى بإخبارهم للمستقبليات ، ولا أعمالهم غير الطبيعيّة ، ولا حتى مرورهم على الماء والنار ، لأنّ صدور هذه الأعمال ممكن من المرتاضين غير المهذّبين أيضاً.

وقال البعض الآخر : إنّ الرّجوع للُاستاذ لازم في المراحل الأوليّة ، وأمّا بعد السّير وعبور عدّة مراحل ، فلا يحتاج إلى الاستاذ ، والرّجوع للُاستاذ الخصوصي وهو الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ، حتّى نهاية المراحل ، يكون لازماً وضرورياً.

١٢٥

وقد إستدلوا على لزوم الرّجوع للُاستاذ تارةٌ ، بهذه الآية الشّريفة ، التي تقول :( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١) .

فرغم أنّها تتناول التعليم لا التربية ، ولكن الحقيقة أنّ التربية تعتمد على التّعليم في كثير من الموارد ، فلذلك يجب الرّجوع للمطلعين في مثل هذه الموارد ، وهذا المعنى يختلف إختلافاً واضحاً عن إختيار شخصٍ خاص ليكون ناظراً على أعمال وأخلاق الإنسان.

ويستشهد القائلون بضرورةِ المرشد تارةٌ اخرى ؛ بحكاية موسى مع الخضرعليهما‌السلام ، فقد كان موسىعليه‌السلام بحاجةٍ للخضر ، مع ما أنّه كان من الأنبياء وأولي العزم ، وقطع قسماً من الطّريق بمساعدتهعليه‌السلام .

ولكن وبإلقاء نظرةٍ فاحصةٍ على قصّة موسى والخضرعليهما‌السلام ، نرى أنّ موسىعليه‌السلام عند ما تعلم من الخضرعليه‌السلام ، إنّما كان بأمر من الله تعالى لأجل الاطّلاع على أسرار الحكمة الإلهيّة بالنسبة للحوادث التي تحدث في هذا العالم ، والاخرى أنّ علم موسىعليه‌السلام كان عملاً ظاهرياً ، «ويتعلّق بدائرة التّكليف» ، وعلم الخضرعليه‌السلام علماً باطنياً ، (خارج عن دائرة التكليف)(٢) ، وهذا الأمر يختلف عن مسألة إختيار الاستاذ والمرشد ، في كل مراحل التّهذيب للنفس والسيّر في طريق التّقوى ، وإن كان يشير ولو بالإجمال إلى أهميّة كسب الفضيلة ، في محضر الاستاذ في خط التّكامل المعنوي.

وقد يستشهد لذلك أيضاً بحكاية لقمان الحكيم وإبنه ، فهو استاذ إلهي أخذ بيد إبنه وساعده في سلوك ذلك الطريق(٣) .

ونقل العلّامة المجلسي في بحار الانوار ، عن الإمام السجّادعليه‌السلام أنّه قال :«هَلَكَ مَنْ لَيسَ لَهُ حَكِيمٌ يَرشُدُهُ» (٤) .

ولكن ومن مجموع ما ذُكر ، لا يمكن إستفادة لزوم المرشد في دائرة السّلوك الأخلاقي و

__________________

١ ـ سورة الأنبياء ، الآية ٧.

٢ ـ يرجى مراجعة تفسير الأمثل ، ذيل الآية ٦٠ إلى ٨٢ من سورة الكهف.

٣ ـ يرجى الرجوع لتفسير الأمثل ، في تفسير سورة لقمان.

٤ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ١٥٩.

١٢٦

تهذيب النفس ، بحيث إذا لم يكن تحرك الإنسان في خطّ التّهذيب النّفسي والتّزكية الأخلاقية ، تحت إشراف المرشد ، فسوف يختل برنامج التربية والأخلاق والتّقوى ، ويتعطل السّير والسّلوك في حركة الواقع النفسي والمعنوي لدى الفرد ، لأنّ الكثير من الأشخاص إلتزموا بالرّوايات والآيات والأحاديث الإسلامية ، وعملوا بها ، ووصلوا إلى مقاماتٍ عالية ودرجاتٍ كبيرةٍ دون الإستعانة بمرشدٍ أو معلّمٍ خاصٍ على مستوى التّربية الأخلاقيّة ، وطبعاً لا يمكن إنكار فائدة الأساتذة والمرشدين وتوجيهاتهم القيّمة ، فهم عناصر جيّدة للوصول إلى المقصود من أقرب الطرّق ، ومعدّات فاعلةٌ لمواجهة المشاكل الأخلاقيّة لتحديات الواقع ، وحلّها وفق مستجدّات الواقع ومستلزمات العقيدة.

وجاء في نهج البلاغة أيضاً :«أيُّها النّاسُ استَصبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصبَاحٍ ، وَاعظٌ مُتَّعِظٌ» (١) .

ولكن وللأسف نجد في كثير من الموارد ، أنّ النّتيجة كانت عكسيّة ، فكثير من الأشخاص عرّفوا أنفسهم بأنّهم مرشدون للناس في سلوك سبيل التّربية والتّهذيب ، ولكن اتّضح بأنّهم قطّاع طُرق ، وكمْ من الأشخاص الطّاهرين الطالبين للحقّ إنخدعوا بهم ، وساروا في طريق التّصوف أو الإنحراف ، وسقطوا في منحدر الرّذيلة ، وارتكبوا مفاسد أخلاقية كبيرة ؛ وعليه فنحن بدورنا نحذّر السّائرين على هذا الطّريق ، إذا ما أرادوا الإستفادة من الحضور ، عند استاذ ومرشدٍ في المسائل الأخلاقيّة ، فيجب أن يتوخّوا جانب الحذر والإحتياط ، وليتأكدوا من حقيقة الأمر ، ولا يغترّوا بالمظاهر الخادعة ، بل ليتفحّصوا عن سوابقهم ، وليشاوروا أصحاب الفنّ في هذا المجال ، كي يصلوا إلى غايتهم المنشودة.

دور الواعظ الداخلي (الباطني):

تكلّمنا عن دور الواعظ الخارجي بصورةٍ كافيةٍ ، والآن جاء دور الواعظ الداخلي ؛ حيث يستفاد من بعض الأخبار والروايات الإسلامية أنّ الضّمير الحيّ هو الواعظ الداخلي والباطني للإنسان ، وله دور مهم في السّير على طريقِ التّكامل الأخلاقي والتّقوى ، وبالأحرى

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٥.

١٢٧

لا يمكن السّير بدونه ، في مواجهة التحديات الصّعبة وقوى الإنحراف.

فقد جاء في حديثٍ عن الإمام على بن الحسينعليهما‌السلام ، أنّه قال :

«يا إبنَ آدمَ إِنَّكَ لا تَزَالُ بِخَيرٍ ما كانَ لَكَ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِكَ ، وَما كانَتِ الُمحاسَبَةُ مِن هَمِّكَ» (١) .

ونُقل أيضاً عنهعليه‌السلام ، مشابهٌ لهذا المعنى ، مع قليلٍ من الإختلاف(٢) .

وجاء في نهج البلاغة أيضاً ، أنّ :

«وَاعَلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حتّى يَكُونَ لَهُ مِنْها وَاعِظٌ وَزَاجرٌ ، لَم يَكُن لَهُ مِنْ غَيرِها لا زَاجرٌ وَلا واعِظٌ» (٣) .

ومن البديهي أنّ الإنسان في هذا الطّريق يحتاج إلى واعظٍ قبل كلّ شيء ، ليكون معه في كلّ حال ، : ويعلم أسراره الداخلية ، ويكون رقيباً عليه ومعه دائماً ، وأيّ عاملٍ أفضل من الواعظ الداخلي وهو الوجدان ، يتولي القيام بهذا الدّور ، وينبّه الإنسان إلى منزلقات الطّريق ، وتعقيدات المسير ، ويصدّه عن الإنحراف والسّقوط في الهاوية.

ونقرأ في حديثٍ عن الإمام عليّعليه‌السلام :

«إِجْعَلْ مِنْ نَفْسِكَ عَلى نَفْسِكَ رَقِيباً» (٤) .

وجاء في حديثٍ آخر عنهعليه‌السلام :

«يَنبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُهَيمِناً عَلى نَفْسِهِ مُراقِباً قَلْبَهُ ، حافِظاً لِسانَهُ» (٥) .

__________________

١ ـ بحارالأنوار ، ح ٧٥ ، ص ١٣٧.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٩٠.

٤ ـ غرر الحكم.

٥ ـ المصدر السابق.

١٢٨

١١

العناصر اللّازمة لتربية الفضائل الأخلاقيّة

إضافةً لما ذكرنا من برنامج للصّعود بالإنسان في أجواء التربية الأخلاقيّة ، يوجد هناك عناصر اخرى ، لها أثرها الكبير في منح الإنسان قوّة التّصدي ، لحالات الضعف أمام الرّذائل الأخلاقيّة ، وتقوية اصول الفضائل في واقع الإنسان ، وحركته التّكاملية في الحياة ، ومنها :

١ ـ طهارة وصفاء المحيط

ممّا لا شك فيه أنّ المحيط الذي يعيش فيه الإنسان ، يعكس أثره الكبير على سلوكيّات وروحيّات ذلك الإنسان ، حيث يسترفد كثيراً من صفاته وأفعاله من المحيط الإجتماعي والثّقافي ، فالمحيط النّظيف والطّاهر غالباً ما يفرز اناساً طاهرين ، والعكس صحيح.

ورغم أنّ الإنسان يمكن أن يعيش نظيفاً وطاهراً في الوسط الملّوث ، وبالعكس يمكنه أن يسير في طريق الرّذيلة والإثم في المحيط الطّاهر ، وبعبارةٍ اخرى إنّ الظّروف الإجتماعيّة والثّقافية التي يعيش فيها الإنسان ، ليست العلّة التّامة في صلاح وإنحراف الإنسان ، ولكنّها يمكن أن تُهيىء الأرضية لذلك قطعاً ، وهذا ممّا لا يقبل الإنكار.

وقد يقول البعض ، بأنّ الإنسان يخضع لإجبار المحيط والمجتمع ، «فيبقى الإنسان كما هو الموجود فعلاً» ، ولكننا ننكره جملة وتفصيلاً ، من دون أن ننكر دور العوامل القويّة في عمليّة

١٢٩

إخضاع الفرد لمتطلبات الواقع وتحدياته ، في أجواء التّفاعل الإجتماعي.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم ، ونقرأ الآيات التي تؤيّد تأثير المحيط في شخصيّة الإنسان ، بالدّلالة الإلتزاميّة ، أو المطابقيّة للكلام ، لنستوحي منها المفهوم القُرآني في هذا الإطار :

١ ـ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) (١) .

٢ ـ( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) (٢) .

٣ ـ( وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) (٣) .

٤ ـ ( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) (٤) .

٥ ـ ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً ) (٥) .

تفسير وإستنتاج :

«الآية الاولى» تحدّثت عن تأثير المحيط في أعمال وأفعال الإنسان ، ببيانٍ لطيفٍ وجذّابٍ ، وقد إختلف المفسّرون في تفسير هذه الآية ، وذهب كلّ واحدٍ منهم إلى رأي

فبعضهم قال : إنّ المراد منها ، أنّ ماء الوحي الرّقراق كقطرات المطر ، ينزل على أرض

__________________

١ ـ سورة الاعراف ، الآية ٥٨.

٢ ـ سورة الأعراف ، الآية ١٣٨.

٣ ـ سورة نوح ، الآية ٢٦ و ٢٧.

٤ ـ سورة العنكبوت ، الآية ٥٦.

٥ ـ سورة النساء ، الآية ٩٧.

١٣٠

القلوب فترتوي منه القلوب الطاهرة ، وتنبتُ ورود المعرفة وفواكه التّقوى والطّاعة اللّذيذة ، ولكن القلوب السّوداء والملوثة ، لا تتأثر به من موقع الإستفادة في حركة الحياة ، وعند ما نرى أنّ ردود الفعل ، قبال دعوات الأنبياء ، وتعاليم الوحي ليست متساوية عند الجميع ، فهذا لا يدلّ على وجود النقص والخلل في فاعليّة الفاعل ، بل أنّ الإشكال إنّما هو في قابليّة القابل(١) .

والأمر الآخر أنّ الغرض من بيان هذا المثال ، هو أن يكون طلب الفضائل والمحاسن من محلّها المناسب ، لأنّ السّعي في المحل غير المناسب ليس هو إلّا إهدار وتضييع للطاقات(٢) .

الإحتمال الثالث ، في تفسير هذه الآية ويمكن الإستفادة منه هنا ، هو أنّ في هذا المثال شبّه الإنسان بالنبات ، ولكن الأرض التي تنبت فيها النباتات إمّا حلوة أو سبخة ، ممّا تنعكس تأثيراته على النّبات أيضاً ، وفي المحيط الملّوث ، لا يمكن تربية الإنسان في إطار التعاليم الإلهيّة والقيم الأخلاقيّة ، مهما كانت التعليمات وأساليب التربية قويّةٌ ومؤثرةٌ ، فكما أنّ قطرات المطر المُوجبة لبعث الحياة للأرض ، لا يمكن أن تؤثر في الأرض السّبخة ، فكذلك الحال في عناصر التربية في المحيط الملّوث ، وبناءً عليه ، يجب علينا أن نهتم بإصلاح المحيط الإجتماعي ، والثّقافي ، الذي نعيشه ونتفاعل معه دائماً ، للتوصل إلى تهذيب النفوس ، وتحكيم الأخلاق الصالحة ، في واقع الإنسان والحياة.

وبالطّبع لا يوجد تقاطع بين التفسيرات الثلاثة المتقدّمة ، والمثال الآنف الذّكر ، يمكن أن يكون ناظراً لهذه التفسيرات الثّلاثة على السّواء.

نعم ، فإنّ المحيط الإجتماعي الملّوث بالرذيلة ، هو عدوّ للفضائل الأخلاقيّة ، والحال أنّ المحيط السّالم والطّاهر ، يهيىء أحسن وأفضل الفرص ، لغرض تهذيب النّفوس ، في معارج الكمال الرّوحي والمعنوي.

وقد ورد في الحديث المعروف عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله مُخاطباً أصحابه :

«إِيّاكُم وَخَضراءِ الدِّمَنِ» ، قِيلَ يا رَسُولَ اللهِ وَمَنْ خَضراءُ الدِّمَنِ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المَرأةُ

__________________

١ ـ هذا التفسير جاء به الفخر الرازي ، وأتى به بعنوان الإحتمال الأول في معنى الآية ، : (تفسير الفخر الرازي ، ج ١٤ ، ص ١١٤) ونقله جماعَة اخرى عن إبن عباس

٢ ـ جاء هذا التفسير في مجمع البيان ، في تفسيره لسورة الحديد في ذيل الآية الآنفة الذكر.

١٣١

الحَسناءِ فِي مَنْبَتِ السُّوءِ» (١) .

هذا التّشبيه البليغ ، يمكن أن يكون إشارةً ، لتأثير المحيط الصّالح والسّيء في شخصية الإنسان ، على المستوى الإيجابي والسّلبي ، أو هو إشارةٌ لمسألة الوراثة ، وتأثيرها على مُجمل الشّخصية ، أو إشارةٌ للإثنين معاً.

وفي«الآية الثانية» : إشارةٌ لقوم بني إسرائيل ، الّذين بقوا لسنواتٍ طويلةٍ ، تحت إشراف وتعليمات النّبي موسىعليه‌السلام ، في عمليّة الهداية الرّوحية والمعنويّة ، وفي مجال التوحيد وسائر الاصول الدينيّة ، ورأوا بامّ أعينهم المعجزات الإلهيّة ، كإنفلاق البحر لهم ، ونجاتهم من براثن فرعون وجنوده ، ولكن وبمجرد أن صادفوا في طريقهم للشام والأرض المقدسة ، قوماً يعبدون الأصنام ، تأثّروا بهم وبمحيطهم الملّوث ، وقالوا :( يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ) .

فتعجّب موسىعليه‌السلام من هذا الإنقلاب ، وغضب غضباً شديداً ، من قولهم هذا وقال لهم :( إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) .

وأخذ يبيّن لهم مفاسد عبادة الأصنام.

والعجيب أنّ قوم بني إسرائيل ، وبعد التّوضيحات الصّريحة والمكرّرة لموسىعليه‌السلام ، بقوا تحت تأثير هذا المحيط المسموم السّلبي ، بحيث إستطاع السّامري أن يتحرك من موقع إغوائهم ، وتفعيل عناصر الإنحراف لديهم في غيبة موسىعليه‌السلام ، والّتي إستغرقت عدّة أيّام ، حيث صنع لهم صنماً من ذهبٍ ، وتبعه الغالبيّة من هؤلاء القوم ، وتحوّلوا من أجواء التّوحيد إلى أجواء الشّرك.

فهذا الأمر يمثل علامةً واضحةً على تأثير المحيط السّلبي ، في صياغة السّلوك الإنساني ، من موقع الانحراف والزيغ في دائرة المسائل الأخلاقية ، بل وحتّى العقائديّة أيضاً ، ولا شك أنّ بني إسرائيل وقبل مرورهم باولئك القوم ، كانت لديهم الأرضيّة المساعدة لعبادة الأصنام ، وذلك إثر بقائهم مع الوثنييّن المصرييّن لمدةٍ طويلةٍ ، فعند ما رأوا ذلك المنظر ، عادوا في دائرة الذّاكرة إلى ذلك الماضي الأسود ، وعلى كل حال فإنّ كلّ هذه الامور ، هي دليل واضح على تأثير

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ١٩ ، ح ٧ ـ بحار الانوار ، ج ١٠٠ ، ص ٢٣٢ ، ح ١٠.

١٣٢

المحيط الإجتماعي ، في أخلاق وعقائد الإنسان في حركة الواقع النّفسي.

وفي«الآية الثالثة» : نجد شاهداً آخر على تأثير المحيط على أفكار وأفعال الإنسان ، وهو ما نراه في سلوك نوحعليه‌السلام ، ودعاؤه على قومه الكفّار بالفناء والَمحق.

إنّ نوحاًعليه‌السلام لم ينطلق في دعائه عليهم من موقع الذات والانفعال ، بل من موقع العقل والبرهان ، فقال الله تعالى في القرآن الكريم ، على لِسان نوحٍ :( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) .

فهم في الحال الحاضر كفّار ومنحرفون ، وفي حالة إستمرارهم في التّكاثر والتّناسل فسوف يؤثّرون على أولادهم في عمليّة الإيحاء لهم بالكفر ، ويربّوهم تربيةً منحرفةً.

ومن«الآيتين الرابعة والخامسة» ، نستوحي لزوم الهجرة من المجتمع والمحيط المنحرف ، حيث يخاطب الباري تعالى عباده في الآية الرابعة ، يقول :( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) .

وفي الآية الخامسة ، يحذّر المؤمنين من البقاء في المجتمع الغارق في الضّلالة ، ويؤكّد لهم لزوم الهجرة ، وأنّ عذرهم غير مقبول في حالة البقاء والتكاسل ، فقال :( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً ) .

وفي الحقيقة إنّ مسألة الهجرة هي من الاصول الأساسيّة في الإسلام ، وقد شيّد الإسلام دعائمه عليها ، حيث تتضمن عمليّة الهجرة ، حكمٌ وغاياتٌ عديدةٌ وأهمّها الهروب والفرار من المحيط الملّوث ، والنجاة من تأثيراته السيّئة على واقع الإنسان ومحتواه الداخلي.

وليست الهجرة مختصة بزمان صدر الإسلام ، كما يعتقد البعض ، بل هي جارية في كلّ عصرٍ وزمانٍ يتعرض فيها المسلمون لضغوط قوى الشرك والفساد والكفر ، التي تشكّل عناصر ضغطٍ على الرّوح المنفتحة على الله والخير ، وليفرّوا بدينهم وأخلاقهم وعقائدهم من أجواء المحيط الملّوث ، فجاء في الحديث عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ مِنْ أَرْضٍ إِلى أَرْضٍ وَإِنْ كانَ شِبراً مِنَ الأَرضِ إِستَوجَبَ الجَنَّةَ وَكانَ

١٣٣

رَفِيقَ مُحَمَّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله وَإِبراهِيمَ عليه‌السلام » (١) .

فالتأكيد على مقدار الشّبر ، إنّما يدلّ على أهميّة المسألة في دائرة الإحتفاظ بالإيمان ؛ فلو تسنّى للإنسان ذلك ، وبأيّ مقدارٍ وأيّ زمانٍ ومكانٍ ، فمعناه التوافق مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإبراهيمعليه‌السلام في خطّ الرّسالة والدّين.

والخلاصة ، أنّ المحيط والمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان ، كان ولا يزال عاملاً مهمّاً في تكوين وصياغة شخصية الإنسان ، وأخلاقه ومؤثّراً فيها ، وإن كان الأمر ليس على وجه الجَبر ، وبناءً على ذلك فإنّ تطهير أجواء المحيط الإجتماعي من أهم العوامل لتهذيب الأخلاق وتربية الملكات الفاضلة في المحتوى الداخلي للإنسان.

وإذا لم يستطع أنّ يغيّر الإنسان من أجواء المحيط شيئاً ، فيجب عليه أن يُهاجر ويترك ذلك المحيط الغارق في الزّيغ والضّلالة ، وكما أنّ الإنسان ، وعند ما تتعرض حياته المادية للخطر ، يتحرك من موقع الإبتعاد والهجرة من أرضه ، فكذلك عليه أن يُهاجر منها ، عند ما تتعرض قِيمَهُ الأخلاقيّة وحياته المعنويّة ، التي هي أهم من حياته الماديّة ، للخطر ، ولا ينبغي أن يتذرّع بأنواع الحجج والأعذار ، ليبقى فيها بحجّة أنّها أرضي وأرضَ آبائي ، وغير ذلك من الأعذار والتّبريرات الواهية ، ويستسلم لعناصر التّلوث والإنحراف التي تؤثر عليه وعلى أولاده ، في الدائرة السّلبية ولا يهاجر منها؟

فيتوجب على جميع علماء الأخلاق ، أن يتحركوا في عمليّة التربية ، لغرض إحياء الفضائل الأخلاقية ، وتفعيل عناصر الخير والإيمان ، من خلال إصلاح المحيط والمجتمع ، وبدون ذلك ، فإنّ السّعي الفردي والآني في هذا الخط ، سيكون أثره ضعيفاً في حركة التّربية والتّهذيب.

٢ ـ دور الأصدقاء والعِشرة

والموضوع الآخر ، الذي أثبتت التجربة تأثيره العميق على السلوك الأخلاقي ، وإتّفق عليه جميع علماء الأخلاق والتربية والتعليم ، هو عنصر الأصدقاء ودور المعاشرة معهم ، ففي

__________________

١ ـ نور الثقلين. ج ١ ، ص ٥٤١.

١٣٤

حال كون الصّديق فاسداً ومنحرفاً ، في دائرة السّلوك الأخلاقي ، فسيؤثّر على صديقه السليم ، من موقع الانحراف كذلك ، والعكس صحيح أيضاً ، فالكثير من المؤمنين ، والأقوياء الإرادة ، إستطاعوا أن يؤثّروا على زملائهم الفاسدين ، على مستوى الهداية والإصلاح ، بحيث جعلوا منهم اناساً أتقياء ، وملتزمين في دائرة السّلوك الدّيني والأخلاقي.

ونعود للقرآن الكريم ، والآيات الّتي تتناول هذ الموضوع :

١ ـ ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ* حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) (١) .

٢ ـ ( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ* يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ* أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ* قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ* فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ* قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ* وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) (٢) .

٣ ـ ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً ) (٣) .

تفسير وإستنتاج :

الآيات الاولى ، التي وردت في محلّ البحث ، تحدّثت عن جلوس الشّيطان ، مع الغافلين عن ذكر الله ، من منطق الغُواية ، وتوضح تأثير قرين السّوء ، في السّلوك الأخلاقي للإنسان ومستقبله ، فتقول أولاً :( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) (٤) .

__________________

١ ـ سورة الزخرف ، الإية ٣٦ إلى ٣٨.

٢ ـ سورة الصافات ، الآية ٥١ إلى ٥٧.

٣ ـ سوره الفرقان ، الآية ٢٧ إلى ٢٩.

٤ ـ ذكروا معانٍ مختلفة لكلمة «نُقيّض» ، والتي هي من مادة قيض ، فالبعض قال : إنّها بمعنى التسبيب ، والبعض الآخر : بمعنى التقدير ، والبعض الآخر : كالراغب قال : هي بمعنى إستيلاء القيض على البيض ، وهو القشر الأعلى.

١٣٥

وبعدها يُبيّن القرآن الكريم ، دور قرين السّوء في حركة الإنسان والحياة ، فإنّ الشّياطين يوصدون طريق الهداية والحركة إلى الله تعالى ، أمام الإنسان ، ويقفوا عقبةً في طريق الوصول إلى الهدف المقدس ، والأنكى من ذلك ، أنّ هؤلاء المنخدعين يحسبون أنّهم مهتدون :( وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) .

وبعدها يتطرّق القرآن الكريم إلى النتيجة ، فيقول : إنّ هذا الإنسان عند ما يرد في عرصات القيامة ، وعند حضور الجميع عند الله تبارك وتعالى ، وكشف الأسرار والحقائق ، يقول لقرينه الشّيطاني :( حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) .

حيث نستوحي من هذه التعبيرات ، بأنّ قرين السّوء ، يمكن أن يحرف الإنسان من موقع الأغواء ، عن طريق الباري تعالى ، ويصدّه عن سبيل الهداية والصّلاح ، فيهدم عليه دعائم الأخلاق ، ويشوّه الواقع النّفسي والفكري له ، فينخدع هذا المسكين ويحسب أنّه على هدىً ، فإرجاعه عن غيّه ، والعودة به إلى الصّراط المستقيم ، سيكون ضرباً من المحال ، ولن يستيقظ من أوهام الغفلة ، إلّا وقد فات الأوان ، وبعد غلق طريق العودة عليه.

وكذلك يُستفاد من الآية الشريفة ، أنّ قرين السّوء يبقى دائماً مع الإنسان في حياته الاخرويّة الأبديّة ، وكم هو مؤلم ، أن يرى الشّخص المسبّب في بؤسه وهلاكه ، يعيش معه دوماً ، ولن تنفع معه اليوم الأماني والآمال بالإنفصال عنه ومفارقته ، فيقول :( وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) (١) .

وفي مضمون الآيات الآنفة الذّكر ، الآية (٢٥) من سورة فصّلت ، فتقول :

( وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ ) .

«الآية الثانية» : من هذه الآيات محل البحث ، تتحدث عن الأشخاص الذين عاشوا مع

__________________

١ ـ سورة الزخرف ، الآية ٣٩.

١٣٦

أصحاب السّوء ، وكانوا يتحركون معهم في أجواء الضّلالة والإنحراف ، ولكن اللّطف الإلهي شملهم ، وإستطاعوا بسعيهم وجدّهم في التّحرك بعيداً عن وساوس الشّيطان ، وأنقذوا أنفسهم من الوقوع في براثنه ، بعد أن كانوا قد وصلوا إلى حافّة الهاوية ، فُهنا يتحدث القرآن الكريم عن تأثير قرين السّوء في تكوين عقائد الإنسان وأخلاقه ، ولكن ليس بالشّكل الذي يكون فيه الإنسان مجبوراً وغيرُ قادرٍ على إنقاذ نفسه من شراك الزيغ فقال :( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ* قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ* أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ) (١) .

وفي هذا الأثناء يذكر قرينه القديم ، ويشرع بالبحث عنه ، فينظر من أعالي الجنّة ، فإذا به يراه في أعماق الجحيم :( فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ ) .

فقال له :( قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ* وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) .

فنرى من هذه الآيات ، أنّ قرين السّوء بإمكانه أن يؤدي بالإنسان إلى الجحيم ، لو لا الإيمان والتّقوى ولطف الله تعالى في واقع الإنسان.

وفي«الآية الثالثة» : نرى التأسف الشّديد والتأثرّ العميق ، الذي يعيشه الظالمون في يوم القيامة ، بسبب إختيارهم ومصاحبتهم لأصدقاء السّوء ، لأنّهم كانوا العامل الأساس في محنتهم الفعلية :

( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً ) .

وبناءً على ذلك فإنّ الظّالم في يوم القيامة ، أول ما يتأسف على تركه الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقطعه للعلاقة معه ، وبعدها يتأسف على توثيق العلاقة مع أصدقاء السّوء ، وبعدها يصرّح ، أنّ

__________________

١ ـ سورة الصافات ، الآية ٥٠ إلى ٥٣.

١٣٧

العامل الأصلي لضلاله ، هو نفس هؤلاء الأصدقاء المنحرفين ، ومرضى القلوب ، وأن تأثيرهم عليه كان أشدّ من تأثير النداءات الإلهيّة : (طبعاً عند المنحرفين فقط).

وأمّا«الآية الأخيرة» : فقد تحدثت عن أصدقاء السوء ، وعبّرت عنهم بجنود الشيطان وأنّهم من شياطين الإنس ، والجدير بالذكر ، أنّ التعبير عن تأسّف هذه الجماعة ، ورد بجملة : «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ...» ، وهي أعلى مراحل التّأسف ، ففي البداية ، يعضّ الإنسان إصبعه بدافع الندم ، وفي مرحلةٍ أقوى يعضّ باطن كفّه ، وفي مرحلةٍ أشدّ يعضّ على يديه الإثنتين ، وهو في الحقيقة نوعٌ من الإنتقام من نفسه ، وأنّه لماذا قصّر في حقّ نفسه ورماها في التهلكة؟

فما يُستفاد من الآيات الآنفة الذّكر ، هو أنّ الأصدقاء والأصحاب ، لهم أثرهم الكبير في سعادة أو شقاء الإنسان ، ليس على مستوى التّأثير في السّلوك الأخلاقي فحسب ، بل وعلى مستوى العقائد أيضاً ، فهنا يجب على المرشد أن يهتم في عمليّة صيانة الأفراد من الزيغ والإنحراف ، ويرعاهم بتوجيهاته بعيداً عن أجواء التلوّث ، وخصوصاً في عصرنا الحاضر ، الذي إنتشرت فيه وسائل الفساد ، عن طريق رِفاق السّوء بصورةٍ مُخيفةٍ ، وأصبحت سبباً من أسباب الإنحراف والسّير في خطّ الباطل.

دور الأخلّاء في الرّوايات الإسلاميّة :

وردت روايات وأحاديث مستفيضة في هذا المضمار عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام ، تعكس أهميّة هذه المسألة ، ففي حديث الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال :«المَرءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ وَقَرِينِهِ» (١) .

وجاء هذا المعنى أيضاً في حديثٍ آخر ، نقل عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال :

«وَلا تَصحَبُوا أَهْلَ البِدَعِ وَلا تُجالِسُوهُم فَتَصيرُوا عِنْدَ النّاسِ كَواحِدٍ مِنْهُم».

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٧٥ : باب مجالسة أهل المعاصي ، ح ٣.

١٣٨

قالَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المَرءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ وَقَرِينِهِ» (١) .

ونفس هذا المعنى ورد عن الإمام عليعليه‌السلام أيضاً ، وفيه تصوير عن حالة التّأثير المُتقابل ، في دائرة التّفاعل المشترك بين الأفراد فقال :

«مُجالَسةِ الأخيارِ تَلحَقُ الأَشرارِ بالأخيارِ وَمُجالِسةِ الأَبرارِ لِلفُجَّارِ تَلحَقُ الأبرارِ بِالفُجَّارِ».

وجاء في ذيل هذا الحديث ، عبارةٌ في غاية الأهميّة ، حيث يقول :«مَنْ إِشتَبَهَ عَلَيكُمِ أَمرُهُ وَلَم تَعرِفُوا دِينَهُ فانظُرُوا إِلى خُلَطائِهِ» (٢) .

وفي بعض الروايات ، ورد هذا المعنى في دائرة الّتمثيل ، فقال :«صُحبَةُ الأَشرارِ تَكسِبُ الشَّرَّ كَالرِّيحِ إُذا مَرَّتْ بِالنَّتِنِ حَمَلَتْ نَتِناً» (٣) .

ويُستفاد من هذه التّعبيرات : أنّه وكما أنّ المعاشرة والصّحبة للأراذل ، تهيىء الأرضية لحركة الإنسان نحو الانزلاق في طريق الشر ، فإنّ المعاشرة مع الأَخيار تنير قلب الإنسان بضياء الهدى ، وتحُيي فيه عناصر الخير.

ونقرأ هذا المعنى في حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّه قال :«عَمارَةُ القُلُوبِ في مُعاشَرَةِ ذَوِي العُقُولِ» (٤) .

وجاء في حديثٍ آخر عنهعليه‌السلام ، أنّه قال :«مُعاشَرَةُ ذَوِي الفَضائِلِ حَياةُ القُلُوبِ» (٥) .

فتأثير الُمجالسة على قدرٍ من الأهميّة ، بحيث قال فيه النّبي سليمانعليه‌السلام :

«لا تَحْكُمُوا عَلى رَجُلٍ بِشيءٍ حَتّى تَنْظُرُوا إِلى مَنْ يُصاحِبُ فَإِنَّما يُعْرَفُ الرَّجُلُ بِأَشكَالِهِ وَأَقرَانِهِ ؛ ويُنْسَبُ إِلى أَصحابِهِ وَأَخدَانِهِ» (٦) .

ونقرأ في حديثٍ جاء عن لقمان الحكيم ، في نصائحه لإبنه ، فقال له :

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٧٥ : باب مجالسة أهل المعاصي ، ح ٣.

٢ ـ كتاب صفات الشيعة ، للصدوق ، (طبقاً لنقل بحار الانوار ، ج ٧١ ، ص ١٩٧).

٣ ـ غُرر الحِكم.

٤ ـ المصدر السابق.

٥ ـ المصدر السابق.

٦ ـ بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ١٨٨.

١٣٩

«يا بُنَيَّ صاحِبِ العُلَماءَ ، وأَقرِبْ مِنْهُم ، وَجالِسهُم وَزُرهُم فِي بِيُوتِهِم ، فَلَعَلَّكَ تَشْبَهُهُم فَتَكُونَ مَعَهُم» (١) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الرّوايات الشّريفة ، مليئة بمثل هذه النصائح ، في دائرة الإهتمام بالرّفقة وأثر الصّديق في أخلاق وسلوك الإنسان ، ولو جُمعت في إطارٍ واحدٍ لأمكن تأليف بحثٍ شاملٍ كاملٍ في هذا المضمار.

ونختم الكلام بحديث عن الإمام عليعليه‌السلام ، في وصاياه لإبنه الحسن الُمجتبىعليه‌السلام :

«قارِنْ أَهْلَ الخَيرِ ، تَكُن مِنْهُم ، وبايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ مِنْهُم» (٢) .

تأثير العِشرة في التحليلات المنطقيِّة :

يقولون : إنّ أحسن وأفضل دليلٍ لإمكان الشيء ، هو وقوعه ، وفي موضوع بحثنا ، فإنّ رؤية نماذج عينيّة من مُعاشرة بعض الأفراد للأراذل ، وكيف أنّها أصبحت مصدراً لأنواع المفاسد والإنحرافات الخُلقيّة لهم ، وبالعكس ، فإنّ مُصاحبة الأخيار ، ساهمت لدى البعض ، على تطهير أنفسهم ، من شوائب الرّذيلة والزّيغ ، وهذه الموارد هي خير دليلٍ على بحثنا هذا.

فالتشبيه القديم القائل : إنّ الأخلاق القبيحة ، مثل الأمراض السّارِيَة ، تنتشر بين الأصدقاء والأقارب بسرعةٍ فائقةٍ ، هو تشبيهٌ صحيحٌ ، خصوصاً في الموارد التي يكون فيها الشخص ، حَدث السّن أو ضعيف الإعتقاد والإيمان ، وتكون نفسه مستعدّةً لقبول أخلاق الآخرين ، فالمُعاشرة لمثل هؤلاء الأفراد ، مع أصدقاء السّوء ، تكون بمثابة سهمٍ مُهلكٍ وقاتلٍ في دائرةِ الإيمان ، وعناصر الخَير في الشّخصية ، وقد شاهدنا الكثير من الأفراد والأشخاص من الطيّبين ، الذين تغيّروا بالكامل بسبب معاشرتهم لرفقاء السوء ، وتحوّل مجرى حياتهم من أجواء الخير إلى أجواء الشّر ، وهُناك إثباتاتٌ وأدلّةٌ مختلفةٌ من تقرير هذه الحالةٌ في واقع الإنسان من النّاحية النّفسية والرّوحية :

__________________

١ ـ بحارالأنوار ، ج ٧١ ، ص ١٨٩.

٢ ـ نهج البلاغة ، وصيّة الإمام عليعليه‌السلام للإمام الحسنعليه‌السلام (رسالة ٣١).

١٤٠

١ ـ من جملة الامور الّتي توصل إليها علماء النّفس ، هو وجود روح الُمحاكاة في الإنسان ، يعني أنّ الأفراد ينطلقون في حركة الحياة ، من موقع الشّعور أو اللّأشعور ، بمُحاكاة أصدقائهم وأقاربهم ، فالأشخاص الّذين يعيشون حالة الفرح والسرور ، ينشدون الفرحة والحُبور من حواليهم ، والعكس صحيح.

فالأفراد المُتشائمين ، الذين يعيشون اليأس وسوء الظن ، يؤثرون على أصحابهم ، ويجعلونهم يعيشون حالة سوءِ الظّن ، وهذا الأمر يبين لنا السّبب في تأثير الأصدقاء بعضهم بالبعض الآخر بسرعةٍ.

٢ ـ مَشاهدة القبائح وتكرارها ، يُقلّل من قبحها في نظر المشاهد ، وبالتدريج تصبح أمراً عاديّاً ، ونحن نعلم أنّ إحدى العوامل المؤثّرة في ترك الذنوب والقبائح ، هو الإحساس بقبحها في الواقع النّفسي للإنسان.

٣ ـ تأثير التّلقين في الإنسان غير قابل للإنكار ، وأصدقاء السّوء يؤثرون دائماً على رفقائهم في دائرة الفكر والسّلوك من خلال عمليّة التلقين والايحاء ، فيقلبون عناصر الشرّ في إعتقادهم إلى عناصر الخير ، ويغيّرون حسّ التّشخيص لديهم لعناصر الخير والشرّ في منظومة القيم ، فتختلط عليهم الامور ، في خطّ المستقبل وكيفيّة التعامل مع الغير.

٤ ـ المُعاشرة لرفاق السّوء ، يشدّد سوء الظن في الإنسان مع الجميع ، وتفضي به هذه الحالة النّفسية السلبيّة إلى السّقوط في وادي الذّنوب والفساد الأخلاقي ، فنقرأ في حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :«مُجالَسَةُ الأَشرارِ تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بالأَخيارِ» (١) .

وجاء في حديث آخر عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّ معاشرة رفاق السّوء تميت القلب ، فقال :

«أَربَعٌ يُمِتنَ القَلبَ وَمُجالَسَةُ المَوتى ؛ فَقِيلَ لَهُ يا رَسُولَ اللهِ وَمَا المَوتى؟ ، قَالَ صلى‌الله‌عليه‌وآله : كُلُّ غَنِيٍّ مُسْرِفٍ» (٢) .

وهذا الموضوع ، يعني سريان الحُسن والقُبح الأخلاقي بين الأصدقاء ، في أجواء المُعاشرة إلى درجةٍ من الوضوح ، ممّا حدى بالشّعراء إلى نظم الشعر في هذا المضمار ، من قبيل قولهم :

__________________

١ ـ صفات الشيعة ، الصدوق نقلاً عن بحارالأنوار ، ج ٧١ ، ص ١٩٧.

٢ ـ الخصال ، (طبقاً لنقل بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ١٩٥).

١٤١

عن المرء لا تسلْ وسلْ عن قرينه

فكلّ قرينٍ بالمقارن يقتدي

٣ ـ تأثير الاسرة والوراثة في الأخلاق

من المعلوم أنّ أوّل مدرسةٍ لتعليم القيم الأخلاقيّة ، يدخلها الإنسان هي الاسرة ، فكثيرٌ من اسس الأخلاق ، تنمو في واقع الإنسان هناك ، فالمحيط السّليم أو الملّوث للُاسرة ، له الأثر العميق في صياغة السّلوك الأخلاقي ، لأفراد الاسرة ، إنّ على مستوى الأخلاق الحسنة أو السيئة ، فالحجر الأساس للأخلاق في واقع الإنسان يوضع هناك.

وتتبيّن أهميّة الموضوع ، عند ما يتّضح أنّ الطفل في حركته التكامليّة ، ومسيرته في خط التّربية :

أولاً : يتقبّل ويتأثر بالمحيط بسرعةٍ كبيرةٍ.

ثانياً : إنّ ما يتعلمه الطّفل في صغره ، سوف ينفذ إلى أعماق نفسه وروحه ، وقد سمعنا الحديث الشريف عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، يقول فيه :

«العِلمُ فِي الصِّغَرِ كالنَّقشِ فِي الحَجَرِ» (١) .

فالطفل يستلهم كثيراً من سجايا أبيه وامّه واخوته وأخواته ، فالشّجاعة والسّخاء والصّدق والوفاء ، وغيرها من الصّفات والسّجايا الأخلاقيّة الحميدة ، يأخذها ويكسبها الطّفل من الكبار بسهولةٍ ، وكذلك الحال في الرّذائل ، حيث يكسبها الطّفل من الكبار بسهولةٍ أيضاً.

وبالإضافة إلى ذلك ، فإنّ الطّفل يكسب الصّفات من أبويه عن طريقٍ آخر ، وهو الوراثة ، فالكر وموسومات لا تنقل الصفات الجسمانية فحسب ، بل تنقل الصفات الأخلاقيّة أيضاً ، ولكن من دون تدخل عنصر الإجبار ، حيث تكون هذه الصّفات قابلةٌ للتغيير ، ولا تسلب المسؤوليّة من الأولاد أيضاً.

وبعبارةٍ اخرى ، أنّ الأبوين يؤثران على الطّفل أخلاقياً من طريقين ، طريق التّكوين ، و

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ٢٢٤.

١٤٢

طريق التّشريع ، والمراد من التّكوين هو الصفات والسّجايا المزاجيّة والأخلاقيّة المتوفرة في الكروموسومات والجينات ، والّتي تنتقل لا إرادياً للطفل في عمليّة الوراثة.

والطريق التشريعي يتمثل في إرشاد الأبناء ، من خلال أساليب التّعليم والتّربية للصفات الأخلاقيّة ، التي يكتسبها الطفل من الأبوين بوعي وشعور.

ومن المعلوم أنّ أيّاً من هذين الطّريقين ، لا يكون على مستوى الإجبار ، بل كلّ منهما يُهيّىء الأرضيّة لنمو ورشد الأخلاق في واقع الإنسان ، ورأينا في كثيرٍ من الحالات أفراداً صالحين وطاهرين ، لأنّ بيئتهم كانت طاهرةً وسليمةً ، والعكس صحيح أيضاً. ولا شك من وجود إستثناءات في الحالتين تبيّن أنّ تأثير هذين العاملين ، وهي : «التربية والوراثة» ، لا يكون تأثيراً على مستوى جَبر ، بل يخضع لأدوات التّغيير وعنصر الإختيار.

ونعود بعد هذه الإشارة إلى أجواء القرآن الكريم ، لنستوحي من آياته الكريمة ما يرشدنا إلى الحقيقة :

١ ـ «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً»(١) .

٢ ـ ( فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا ) (٢) .

٣ ـ ( إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٣) .

٤ ـ ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) (٤) .

٥ ـ ( يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) (٥)

تفسير واستنتاج :

«الآية الاولى» : تتحدث عن نوح ودعائه على قومه بالهلاك ، حيث إستدلّ على ذلك

__________________

١ ـ سورة نوح ، الآية ٢٧.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية ٣٧.

٣ ـ سورة آل عمران ، الآية ٣٣ و ٣٤.

٤ ـ سورة التحريم ، الآية ٦.

٥ ـ سورة مريم ، الآية ٢٨.

١٤٣

بقوله :( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) .

فهذا الكلام يدلّ على أنّ الفجار والمنحرفين ، لا يلدون إلّا الفجّار والمنحرفين ، ولا يستحقون الحياة الكريمة من موقع الرّحمة ، بل يجب أن ينزل عليهم العذاب أينما وجدوا وحلّوا ، والحقيقة أنّ البيئة ، وتربية الاسرة وكذلك الوراثة ، كلّها عوامل تؤثر في الأخلاق والعقيدة ، في حركة الحياة والإنسان ، والمهم في الأمر أنّ نوحاًعليه‌السلام ، قطع بكفر وفساد أولادهم اللّاحقين ، لأنّ الفساد إنتشر في المجتمع بصورةٍ كبيرةٍ جدّاً ، فلا يمكن لأحدٍ أن يفلت منه بسهولةٍ ، وطبعاً وجود مثل هذه العوامل ، لا يعني سلب الإرادة من الإنسان ، وقد ذهب البعض إلى أنّ نوحعليه‌السلام ، توجّه لهذه الملاحظة عن طريق الوحي الإلهي ، عند ما قال له الباري تعالى :( أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ) (١) .

ومن الواضح ، أنّ هذه الآية لا تشمل الأجيال القادمة ، لكنّه لا يُستبعد أنّهعليه‌السلام حكم عليهم بالإعتماد على الامور الثلاثة السّابقة الذّكر ، وهي : (البيئة ، وتربية الاسرة ، وعامل الوراثة).

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّ الكفّار من القوم ، كانوا يأتون بصبيانهم المميزين عند نوحعليه‌السلام ، ويقول الأب لإبنه ؛ أترى هذا الشّيخ يا بُني؟ إنّه شيخٌ كذّاب ، فلا تقترب منه ، هكذا أوصاني أبي ، «وافعل أنت ذلك مع إبنك أيضاً».

وظلّ الأمر على هذا المنوال على تعاقب الأجيال(٢) .

وفي«الآية الثانية» : يحدثنا القرآن الكريم عن السيّدة مريمعليها‌السلام ، والتي تعتبر من أهم وأبرز الشخصيات النسائية في العالم ، وقد ورد في النّصوص الدينيّة ، ما يبيّن أنّ مسألة التربية والوراثة والبيئة ، لها أهميّة كبيرةٌ في رسم وصياغة شخصيّة الإنسان ، في خطّ الحقّ أو الباطل ، ولأجل تربية أفرادٍ صالحين ، يجب علينا التّوجه لتلك الامور.

ومن جملتها ، حالة الام في زمان الحَمل ، فترى أنّ امّ مريم كانت تستعيذ بالله تعالى من

__________________

١ ـ سورة هود ، الآية ٣٦.

٢ ـ تفسير الفَخر الرازي ، والمُراغي ، للآية مَورد بحثنا.

١٤٤

الشّيطان الرجيم ، وكانت تتمنى دائماً أن يكون من خُدّام بيت الله ، بل نذرت أن يكون وليدها كذلك.

فتقول الآية الكريمة :( فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ) .

تشبيه الإنسان الطّاهر بالنبات الحَسن ، هو في الحقيقة إشارةٌ إلى أنّ الإنسان كالنبات ، يجب ملاحظته ملاحظةً دقيقةً ، فالنبات ولأجل أن ينبت نباتاً حسناً مثمراً ، يجب في بادىء الأمر الإستفادة من البذور الصّالحة ، والإعتناء به من قبل الفلّاح في كل مراحل رشده ، إلى أن يصبح شجرةً مثمرةً ، فكذلك الطفل في عَمليّة التربية ، حيث ينبغي التّعامل معه من منطلق الرّعاية والعناية ، وتربيته تربيةً صحيحةً ، لأنّ عامل الوراثة يؤثر في نفسه وروحه ، والاسرة التي يعيش فيها ، وكذلك البيئة والمحيط الذي يَتعايش معه ، كلّها تمثل عناصر ضاغطة في واقعه النّفساني والمزاجي.

والجدير بالذّكر ، أنّ الله سبحانه جاء بجملة :( وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا ) في ذيل الآية ، وهي الكفالة لمريمعليها‌السلام (١) ، ومعلوم حال من يتربى على يد نبيٍّ من أنبياء الله تعالى ، بل الله تعالى هو الذي إختاره لكفالتها ورعايتها.

فلا غرابة والحال هذه ، أن تصل مريمعليها‌السلام لدرجاتٍ ساميةٍ ، من الإيمان والتّقوى ، والأخلاق والتربية ، ففي ذيل هذه الآية ، يقول القرآن الكريم :

( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) .

نعم فإنّ التربية الإلهيّة : تُثمر الأخلاق الإلهيّة ، والرزق من الله في طريق التّكامل المعنوي للإنسان.

وقد ورد في«الآية الثالثة» : مقدّمةٌ لقضية مريمعليها‌السلام ، وكفالة زكريّاعليه‌السلام لها ، وفيها الكلام عن تأثير العامل الوراثي ، وعامل التربية في تكريس الطهارة والتقوى والفضيلة ، في مضمون

__________________

١ ـ يجب التنويه إلى أنّ «كفل» ، إذا قُرىء بدون التّشديد ، يعنى : التّعهد بالإدارة والكفالة ، وا ذا قُرىء بالتّشديد بمعنى : إختيار الكفيل لآخر ، وبناءً على ذلك فإنّ الله تعالى إختار زكريّاعليه‌السلام لتربية مريمعليها‌السلام ، «وكفّل» : أخذ مفعولين ، أحدهما : (هاء) ، يعود إلى مريمعليها‌السلام ، والآخر إلى : زكرياعليه‌السلام .

١٤٥

الإنسان ومحتواه الداخلي ، فقال تعالى :( إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

فالذرّية التي بعضها من بعضٍ ، إشارة لعامل الوراثة أو التربية الاسريّة ، أو كلاهما وهو شاهد حيٌّ يؤيد مُدّعانا من تأثير عناصر الوراثة والتربية ، في الشّخصيّة ومعطياتها في خط التّقوى والفضيلة.

وأشارت الرّوايات التي نُقلت في ذيل هذه الآية ، لذلك المعنى(١) أيضاً ، وعلى كل حال ، فإنّ الآيات الآنفة الذّكر ، تدلّ على مدى تأثير معطيات التربية والبيئة والوراثة ، في نفسية الإنسان ، وأثرها العميق في صياغة قابليّاته ، والإرتفاع به للتّصدي لمقام الرئاسة المعنويّة على الخلق ، ولا يمكن إنكار تلك المَعطيات ، ولا يمكن أبداً مُقايسة هؤلاء الأطهار الذين عاشوا أجواءَ الفضيلة ، بالّذين ورثوا الكفر والفساد والنّفاق من آبائهم وأجدادهم.

وفي«الآية الرابعة» : خاطب الباري تعالى المؤمنين وقال لهم :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) .

وقد تَلت هذه الآية ، الآيات الّتي جاءت في بداية سورة التّحريم ، والتي حذّرت فيها نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أعمالهنّ ، وبعدها ذكر المطلب بصورة حكمٍ عامٍّ شمل كلّ المؤمنين.

ومن المعلوم أنّ المقصود من هذه النار ، هي نار الآخرة ، ولا يمكن الإتقاء من تلك النار ، إلّا بالإهتمام بعمليّة التعليم والتربية السّليمة في واقع الاسرة ، والتي بدورها توجب ترك المعاصي ، والإقبال على الطّاعة وتقوى الله تعالى. وبناءً على ذلك فإنّ هذه الآية تعيّن وتبيّن وظيفة ربّ الاسرة ، ودوره في التّربية والتعليم ، وكذلك تبيّن أهميّة وتأثير عنصر التربية والتعليم ، في ترشيد الفضائل والأخلاق الحميدة ، والسيّرة الحسنة.

ويجب الإهتمام في ترجمة هذا البرنامج ، إلى عالم الممارسة والتطبيق ، من أوّل لبنةٍ توضع في بناء الاسرة ، أي منذ إجراء عقد الزّواج والرّباط المُقدس ، ويجب الإهتمام بإسلوب التربية ، من أوّل لحظةٍ يولد فيها الطّفل ، ويستمر البرنامج التّربوي في كلّ المراحل التي تعقبها.

__________________

١ ـ يرجى الرجوع إلى نور الثقلين : (ج ١ ، ص ٣٣١).

١٤٦

فنقرأ في حديثٍ عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه عند ما نزلت هذه الآية الشّريفة ، سأله أحد أصحابه ، عن كيفيّة الوقاية من النار ، له ولعياله ، فقال له الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«تَأمُرُهُم بِما أَمَرَ اللهُ وَتَنهاهُم عَمّا نَهاهُم اللهُ إنْ أَطاعُوكَ كنْتَ قَدْ وَقَيتَهُم وَإِنْ عَصَوكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيتَ ما عَلَيكَ» (١) .

ويجب أن يكون معلوماً ، أنّ الأمر بالمعروف يعدّ من الوسائل الناجعة لوقاية الاسرة من الإنحراف والسّقوط في هاوية الجحيم ، ولأجل الوصول إلى هذا الهدف ، علينا الإستعانة بكلّ الوسائل المتاحة لدينا ، وكذلك الإستعانة بالجوانب العملية والنفسية والكلامية ، ولا يُستبعد شمول الآية لمسألة الوارثة ، فمثلاً أكل لقمة الحلال عند إنعقاد النّطفة وذكر الله ، يُؤثر إيجابياً في تكوين النّطفة ، وتنشئة الطّفل وحركته في المستقبل في خطّ الإيمان.

«الآية الخامسة والأخيرة» : تشير إلى قصّة مريمعليها‌السلام وولادتها للمسيحعليه‌السلام ، الذي وُلد من دون أب ، وتعجّب قومها من ذلك الأمر الفظيع بنظرهم! ، فقال الباري تعالى على لسان قومها :( يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) .

فهذا التعبير ، (وخصوصاً نقل القرآن الكريم من موقع الإمضاء والتأييد) ، إن دل على شيء فهو يدلّ على معطيات عوامل الوراثة من الأب والام ، وكذلك تربية الاسرة وتأثيرها في أخلاق الطفل ، وكلّ الناس لمسوا هذه الأمر بالتجربة ، فإذا شاهدوا أمراً مُخالفاً للمعهود ، إستغربوا وتعجّبوا.

ومن مجموع ما تقدم ، يمكننا أن نستوحي هذه الحقيقة ، وهي أنّ الوراثة والتربية ، من العوامل المهمّة ، في رسم وغرس القيم الأخلاقيّة في حركة الواقع النفسي للإنسان ، إن على مستوى الأخلاق الحسنة أو السيئة.

__________________

١ ـ نور الثقلين : (ج ٥ ، ص ٣٧٢).

١٤٧

الأخلاق والتربية في الأحاديث الإسلاميّة :

لا شكّ أنّ المدرسة الأولى للإنسان ، هي واقع الاسرة ، فمنها يتعلم الإنسان الدّروس الاولى للفضيلة أو الرذيلة. وإذا ما تناولنا مفهوم التربية بشكله العام : «التكوين والتشريع» ، فإنّ أوّل مدرسةٍ يدخلها الإنسان ، هي رحم الام وصلب الأب ، والّتي تؤتي معطيّاتها بصورةٍ غير مباشرةٍ على الطفل ، وتهيىء الأرضيّة للفضيلة ، أو الرّذيلة في حركته المستقبليّة.

وقد ورد في الأحاديث الإسلاميّة ، تعبيراتٌ لطيفةٌ ودقيقةٌ جدّاً في هذا المجال ، نشير إلى قسم منها :

١ ـ قال عليٌّعليه‌السلام :«حُسْنُ الأَخلاق بُرهانُ كَرَمِ الأَعراقِ» (١) .

وبناءً عليه فإنّ الاسر الفاضلة ، غالباً ما تقدّم للمجتمع أفراداً متمّيزين على مستوى الأخلاق الحسنة ، وبالعكس فإنّ الأفراد الطالحين ، ينشؤون غالباً من عوائل فاسدة.

٢ ـ ورد في حديث آخر عن الإمام عليعليه‌السلام أنّه قال :

«عَلَيكُم فِي طَلبِ الحَوائِجِ بأشراف النُّفُوسِ وَذَوي الاصُولِ الطَّيِّبَةِ ، فإِنَّها عِنْدَهُم أَقضى ، وَهِي لَدَيهِم أَزكَى» (٢) .

٣ ـ وفي عهد الإمام عليعليه‌السلام لمالك الأشتررحمه‌الله ، ووصاياه له في إختيار الضّباط للجيش الإسلامي ، قال له :

«ثُمَّ الصَقْ بِذَوي المُروُءاتِ والأَحسابِ وَأَهلِ البُيُوتاتِ الصَّالِحَةِ والسَّوابِقِ الحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجدَةِ وَالشَّجَاعَةِ والسَّخاءِ وَالسَّمَاحَةِ فإِنَّهُم جِماعُ مِنَ الكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ العُرفِ» (٣) .

٤ ـ وورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، حديث يُبيّن تأثير الآباء الفاسدين على شخصية الأطفالِ وسلوكهم الأخلاقي ، فقال :«أَيَّما إِمرَأَةٍ أَطاعَتْ زَوجَها وَهُوَ شارِبٌ لِلخَمْرِ ، كَانَ لَها مِنَ الخَطايا بِعَدَدِ نُجُومِ السَّماءِ وَكُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ مِنْهُ فَهُوَ نَجِسٌ» (٤) .

__________________

١ ـ غُرر الحِكم.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ نهج البلاغة.

٤ ـ لئالي الأخبار.

١٤٨

وقد ورد النّهي الأكيد ، في رواياتٍ اخرى كثيرةٍ عن تزويج الشّارب للخمر ، والسّيء الأخلاق(١) .

٥ ـ وقد ورد في الحديث النبوي المشهور ، بالنّسبة إلى تأثير تربية الأب والام على الأولاد ، أنّه قال :

«كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ حتى يَكُونَ أَبواهُ هُمَا اللَّذانِ يُهِوِّدانِهِ وَيُنَصِّرانِهِ» (٢) .

فالتربية التي تعمل على تغيير إيمان وعقيدة الطّفل ، كيف لا تعمل على تغيير سلوكه الأخلاقي في الدّائرة الإجتماعية؟

٦ ـ وهذا الأمر جعل مسألة التربية الصّالحة ، من أهم حقوق الطّفل على الوالدين ، فنقرأ في الحديث النبوي الشّريف :

«حَقُّ الوَلَدِ عَلى الوَالِدِ أَنْ يُحْسِنَ إسمَهُ وَيُحْسِنَ أَدَبَهُ» (٣) .

فمن الواضح أنّ مداليل الأسماء ، لها أثرها الأكيد على نفسيّة وروحيّة الطّفل ، فأسماء الشّخصيات الكبيرة من أهل التّقوى والفضيلة ، تجذب الإنسان المُسمّى بأسمائهم إليهم ، وتدعوه للتّقرب إليهم ، وبالعكس ، فإنّ أسماء الفسقة والكفّار ، تقرّب من يتسمى بأسمائهم منهم أيضاً(٤) .

٧ ـ ونقرأ في النبوي الشريف أيضاً :«ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ أَفضَلَ مِنْ أَدبٍ حَسَنٍ» (٥) .

٨ ـ وقال الإمام السجّادعليه‌السلام ، بتعبيرٍ أوضح :

«وَإِنَّكَ مَسؤولٌ عَمَّا وَلِّيتَهُ بِهِ مِنْ حَسَنِ الأَدبِ وَالدَّلالَةِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالمَعُونَةَ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ»(٦) .

٩ ـ وقال الإمام عليعليه‌السلام ، بأنّ أخلاق الأبوين ، هي عبارةٌ عن ميراث الأبناء منهما ،

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٣ و ٥٤.

٢ ـ تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية ٣٠ من سورة الروم.

٣ ـ كنز العمّال ، ٤٥١٩٢.

٤ ـ وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ١٢٢ و ١٣٢.

٥ ـ كنز العمّال ، ح ٤٥٤١١.

٦ ـ بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ٦ (جوامع الحقوق).

١٤٩

فيقولعليه‌السلام :«خَيرُ ما وَرَّثَ الآباءُ الأَبناءَ الأَدَبَ» (١) .

١٠ ـ ونختم هذا البحث بحديثٍ آخر عن الإمام علىعليه‌السلام ، حيث بيّن الإمامعليه‌السلام ، شخصيته للجهّال الذين يقيسونه بغيره ، فقال :

«وَقَدْ عَلِمْتُم مَوضِعي مِنْ رَسُولِ اللهِ بِالقَرابَةِ القَريبَةِ وَالمَنزِلَةِ الخَصِيَّةِ ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدرِهِ يَرفَعُ لِي كُلَّ يَومٍ عَلَماً مِنْ أَخلاقِهِ وَيَأَمُرُنِي بِالإِقتِداءِ ..».

واللطيف في الأمر ، أنّ الإمامعليه‌السلام وفي أثناء حديثه ، بيّن قسماً من أخلاق الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال :

«وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله مِن لَدُنْ أَن كانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مَنْ مَلائِكَتِهِ يَسلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخلاقِ العالَمِ لَيلَهُ ونَهارَهُ» (٢) .

وصحيح أنّ الصفات النفسية والأخلاقيّة ، سواء كانت سيئة أم حسنة ، فهي تنبع من باطن الإنسان وإرادته ، ولكن لا يمكن إنكار معطيات البيئة وأجواء المحيط ، في تكوين وترشيد الأخلاق الحسنة والسّيئة ، وكذلك عنصر الوراثة من الوالدين والاسرة بصورة أعم ، وتوجد شواهد عينيّة كثيرة ، وأدلة قطعيّة على ذلك ، ترفع الشّك والترديد في المسألة.

وبناءً على ذلك ، ولأجل بناء مجتمعٍ صالحٍ وأفرادٍ سالمين ، علينا الإهتمام بتربية الطّفل تربيةً سليمةً ، والإنتباه لعوامل الوراثة وأخذها بنظر الإعتبار ، في واقع الحياة الفرديّة والإجتماعيّة.

٤ ـ معطيّات العلم والمعرفة في التربية

ومن العوامل الاخرى ، في عمليّة تهذيب الأخلاق وترشيدها ، هو الصعود بالمستوى

__________________

١ ـ غُرر الحِكم.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢ ، (الخطبة القاصعة).

١٥٠

العلمي والمعرفي للأفراد ، فإنّ التجربة أثبتت أنّ الإنسان ، كلّما إرتقى مستواه في دائرة العلوم والمعارف الإلهيّة ، أينعت سجاياه الإنسانيّة ، وتفتحت فضائله الأخلاقيّة ، والعكس صحيح ، فإنّ الجهل وفقدان المعارف الإلهيّة ، يؤثر تأثيراً شديداً على دعامات واسس الفضيلة ، ويهبط بالمستوى الأخلاقي للفرد ، في خطّ الإنحراف والباطل.

وفي بداية هذا الكتاب ، في مبحث علاقة العلم بالإخلاق ، ذكرنا أبحاثاً مختصرةً عن الأواصر الحاكمة بين هذين العاملين ، وأشرنا إلى أنّ بعض الفلاسفة والعلماء ، بالغوا في الأمر وإدعوا أنّ : «العلم يساوي الأخلاق».

وبعبارة اخرى : أنّ العلم أو الحكمة والمعرفة ، هي المنبع الرّئيسي للأخلاق ، «كما نُقل عن سقراط الحكيم» ، وأنّ الرّذائل الأخلاقيّة سببها الجهل.

فمثلاً المتكبّر والحاسد ، إنّما إبتلى بهذين الرذيلتين ، بسبب عدم علمه بواقع الحال ، فلا توجد عنده صورةٌ واضحةٌ عن أضرارهما وتبعاتهما السلبيّة ، على واقع الإنسان الدّاخلي ، ويقولون أنّه لا يوجد إنسان يخطو خطوةً نحو القبائح عن وعيٍ وعلمٍ بها.

وبناءً على ذلك ، إذا تمّ الصّعود بالمستوى العلمي لدى أفراد المجتمع ، فإنّ ذلك بإمكانه ، أن يكون عاملاً مساعداً ، لتشييد صرح الهيكل الأخلاقي السّليم في المجتمع.

وبالطّبع فإنّ هذا الكلام فيه نوع من المُغالاة والمُبالغة ، ويُنظر للمسألة من زوايةٍ خاصّةٍ ، رغم أننا لا ننكر أنّ العلم يُعدّ من العوامل المهمّة لتهيئة الأرضيّة ، وخَلقِ الأجواء الملائمة لِسيادة الأخلاق ، بناءً على ذلك فإنّ الأفراد الاميّين والجهلة ، يكونون أقرب إلى منحدر الضّلالة والخطيئة ، وأمّا العلماء الواعون ، فيكونون على بصيرةٍ من أمرهم ويبتعدون عن الرّذيلة ، من موقع الوضوح في الرّؤية ، ولا ننسى أنّ لكلّ قاعدةٍ شَواذ.

وقد ورد في القرآن الكريم هذا المعنى ، في بيان الهدف من البعثة :( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (١) .

__________________

١ ـ سورة الجمعة ، الآية ٢.

١٥١

وبناءً على ذلك ، فإنّ النّجاة من الضّلال المبين ، والطّهارة من الأخلاق الرّذيلة والذنوب ، تأتي بعد تلاوة الكتاب المجيد ، وتعليم الكتاب والحكمة ، وهو دليلٌ واضحٌ على وجود العلاقة والإرتباط بين الإثنين.

وقد أوردنا في الجزء الأوّل من الدّورة الاولى من نفحات القرآن الكريم ، شواهد حيّةً وكثيرةً من الآيات القرآنية ، حول علاقة العِلم والمعرفة بالفضائل الأخلاقيّة ، وكذلك علاقة الجهل بالرذائل الأخلاقيّة ، ونشير هنا بشكل مختصرٌ إلى عشرة نماذج منها :

١ ـ الجهل مصدرٌ للفساد والإنحراف

نقرأ في الآية (٥٥) من سورة الّنمل :

( أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) .

فقرن هنا الجهل ، بالإنحراف الجنسي والفساد الأخلاقي.

٢ ـ الجهل سبب للإنفلات والتّحلل الجنسي

ورد في الآية (٣٣) من سورة يوسف على لسان يوسفعليه‌السلام ، في أنّ الجهل قرينٌ للتحلل الجنسي ، فقال تعالى :( قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) .

٣ ـ الجهل أحد عوامل الحسد

ورد في الآية (٨٩) من سورة يوسفعليه‌السلام ، أنّه عند ما جلس يوسفعليه‌السلام على عرش مصر ، وتحدّث مع إخوانه الذين جاءوا من كنعان إلى مصر ، لإستلام الحنطة منه ، فقال :

( قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) .

أي أنّ جهلكم هو السبب في وقوعكم في أسر الحسد ، الذي دفعكم إلى تعذيبه ، والسّعي لقتله ، والقائه في البئر.

١٥٢

٤ ـ الجهل مصدر التّعصب والعناد واللؤم

في الآية (٢٦) من سورة الفتح ، نرى أنّ تعصّب مشركي العرب في الجاهلية ، كان بسبب جهلهم وضلالهم :

( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ) .

٥ ـ علاقة الجهل بالذرائع

تاريخ الأنبياء مليءٌ بمظاهر التبرير ، وخلق الذّرائع من قبل الأقوام السّالفة ، في مواجهة أنبيائهم ، وقد أشار القرآن الكريم مراراً إلى هذه الظاهرة ، ومرًّة اخرى يشير إلى علاقة الجهل بها ، فنقرأ في الآية (١١٨) من سورة البقرة :

( وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) .

فالتأكيد هنا على أنّ عدم العلم أو الجهل ، هو الذي يتولى خلق الأرضيّة للتذرع ، وتبيّن الآية الكريمة ، العلاقة الوثيقة بين هذا الإنحراف الأخلاقي مع الجهل ، وكما أثبتته التجارب أيضاً.

٦ ـ علاقة سوء الظنّ مع الجهل

ورد في الآية (١٥٤) من سورة آل عمران ، الكلام عن مُقاتلي احد :

( ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ». )

ولا شك في أنّ سوء الظّن ، هو من المفاسد الأخلاقيّة ، ومصدر لكثير من الرذائل الفردية والإجتماعيّة في حركة الواقع والحياة ، وهذه الآية تبيّن علاقة الظّن بالجهل بصورةٍ واضحةٍ.

٧ ـ الجهل مصدر لسوء الأدب

ورد في الآية (٤) من سورة الحجرات ، إشارةً للّذين لا يحترمون مقام النبوة ، وقال إنّهم قوم لا يعقلون :

١٥٣

( إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) .

فقد كانوا يزاحمون الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في أوقات الرّاحة ، وفي بيوت أزواجه ، ويُنادونه بأعلى أصواتهم قائلين :يا مُحَمِّد! يا مُحَمِّد! اخرُجُ إلَينا.

فكان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ينزعج كثيراً من سوء أدبهم وقلّة حيائهم ، ولكن حياؤه يمنعه من البوح لهم ، وبقي كذلك يتعامل معهم من موقع الحياء ، حتى نزلت الآية ، ونبّهتهم لضرورة التأدّب أمام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشرحت لهم كيف يتعاملون معهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، من موقع الأدب والإحترام.

وفي تعبير :( أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ، إشارة لطيفة للسّبب الكامن وراء سوء تعاملهم ، وقلّة أدبهم وجسارتهم ، وهو في الغالب عبارةٌ عن هُبوط المستوى العلمي ، والوعي الثقافي لدى الأفراد.

٨ ـ أصحاب النّار لا يفقهون

لا شك أنّ أصحاب النّار هم أصحاب الرذائل ، والملوّثين بألوان القبائح ، وقد نوّه إليهم القرآن الكريم ، وعرّفهم بالجُهّال ، وعدم التّفقه ، ويتّضح منه العلاقة بين الجهل وإرتكاب القبائح ، فنقرأ في الآية (١٧٩) من سورة الأعراف :

( وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) .

فقد بيّنت هذه الآية وآيات كثيرةٌ اخرى ، العلاقة الوطيدة بين الجهل ، وبين أعمال السوء وإرتكاب الرذائل.

٩ ـ الصبر من معطيات العلم

الآية (٦٥) من سورة الأنفال ، تنبّه المسلمين على أنّ الصّبر الذي يقوم على أساس الإيمان والمعرفة ، بإمكانه أن يمنح المسلمين قوّة للوقوف بوجه الكفّار ، الذين يفوقون المسلمين عدداً وعدّةً ، تقول الآية :

١٥٤

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) .

نعم فإنّ جهل الكافرين ، هو السبب في عدم إستطاعتهم في الصّمود بوجه المؤمنين ، وفي مقابل ذلك فإنّ وعي المؤمنين هو السّبب في صمودهم ، بحيث يُعادل كلّ واحدٍ منهم عشرة أنفارٍ من جيش الكفّار.

١٠ ـ النّفاق والفرقة ينشآن من الجهل

أشار القرآن الكريم في الآية (١٤) من سورة الحشر إلى يهود (بني النضير) ، الذين عجزوا عن مُقاومة المسلمين ، لأنّهم كانوا مُختلفين ومُتفرقين ، رغم أنّ ظاهرهم يحكي الوحدة والإتفاق ، فقال :

( لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) .

وبناءً على ذلك فإنّ النّفاق والفرقة والتشتت ، وغيرها من الرذايل الأخلاقيّة ، الناشئة من جهلهم وعدم إطّلاعهم على حقائق الامور.

النتيجة :

تبيّن ممّا جاء في أجواء تلك العناوين العشرة السّابقة ، التي وردت في سياق بعض الآيات القرآنية ، علاقة الفضيلة بالعلم من جهة وعلاقة الرذيلة بالجهل ، من جهةٍ اخرى ، وقد ثبت لنا بالتجربة ومن خلال المشاهدة ، أنّ أشخاصاً كانوا منحرفين بسبب جهلهم ، وكانوا يرتكبون القبيح ويمارسون الرّذيلة في السّابق ، ولكنّهم إستقاموا بعد أن وقفوا على خطئهم ، وتنبّهوا إلى جهلهم ، وأقلعوا عن فعل القبائح والرذائل ، أو قلّلوها إلى أدنى حدٍّ.

والدّليل المنطقي لهذا الأمر واضح جدّاً ، وذلك لأنّ حركة الإنسان نحو التّحلي بالصّفات والكمالات الإلهيّة ، يحتاج إلى دافعٍ وقصدٍ ، وأفضل الدّوافع هو العلم بفوائد الأعمال الصّالحة ومضار القبائح ، وكذلك الإطّلاع والتعرّف على المبدأ والمعاد ، وسلوكيات الأنبياء والأولياء

١٥٥

ومذاهبهم الأخلاقية ، فكلّ ذلك بإمكانه أن يكون عاملاً مساعداً ، يسوق الإنسان للصّلاح والفلاح ، والإبتعاد عن الفساد والباطل في حركة الحياة والواقع.

وبالطّبع المراد من العلم هنا ، ليس هو الفنون والعلوم الماديّة ، لأنّه يوجد الكثير من العلماء في دائرة العلوم الدنيويّة ، ولكنّهم فاسدين ومفسدين ويتحركون في خط الباطل والإنحراف ، ولكن المقصود هو العلم والاطّلاع على القيم الإنسانية ، والتعاليم والمعارف الإلهيّة العالية ، التي تصعد بالإنسان في مدارج الكمال المعنوي والأخلاقي ، في مسيرته المعنوية.

علاقة «العلم» و «الأخلاق» في الأحاديث الإسلاميّة :

الأحاديث الإسلاميّة من جهتها ، مشحونة بالعبارات الحكيمة الّتي تبيّن العلاقة الوثيقة بين العلم والمعرفة من جهةٍ ، وبين الفضائل الأخلاقيّة من جهةٍ اخرى ، وكذلك علاقة الجهل بالرّذائل أيضاً. وهنا نستعرض بعضاً منها :

١ ـ بيّن الإمام عليعليه‌السلام علاقة المعرفة بالزهد ، الذي يُعدّ من أهمّ الفضائل الأخلاقيّة ، فقال :

«ثَمَرةُ المَعرِفَةِ العُزُوفُ عِنْ الدُّنيا» (١) .

٢ ـ وَوَرد في حديثٍ آخر عنهعليه‌السلام ، قال :

«يَسيرُ المَعرِفةِ يُوجِبُ الزُّهدَ فِي الدُّنيا» (٢) .

والمعرفة هنا يمكن أن تكون إشارةً لمعرفة الباري تعالى ، فكلّ شيء في مقابل ذاته المقدّسة لا قيمة له ، فما قيمة القَطرة بالنسبة للبحر ، ونفس هذا المعنى يمثّل أحد أسباب الزهد في الدنيا وزبرجها ، أو هو إشارةٌ لعدم ثبات الحياة في الدّنيا ، وفناء الأقوام السّابقة ، وهذا المعنى أيضاً يحثّ الإنسان على التّحرك في سلوكه وأفكاره ، من موقع الزّهد ، ويوجّهه نحو الآخرة والنّعيم المقيم ، أو هو إشارةٌ لجميع ما ذُكر آنفاً.

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ المصدر السابق.

١٥٦

٣ ـ وَوَرد عنهعليه‌السلام في حديث آخر ، بيان علاقة الغِنى الذّاتي ، وترك الحرص على الامور الدنيوية ، بالعلم والمعرفة ، فقال :

«مَنْ سَكَنَ قلْبَهُ العِلْمُ بِاللهِ سُبحانَهُ سَكَنَهُ الغِنى عَنْ الخَلْقِ» (١) .

ومن الواضح أنّ الذي يعيش المعرفة ، بالصّفات الجماليّة والجلاليّة للباري تعالى ، ويرى أنّ العالم كلّه ، هو إنعكاسةٌ أو ومضةٌ ، من شمس ذاته الأزليّة الغنيّة بالذات ، فيتوكل عليه فقط ، ويرى نفسه غنيّاً عن الناس أجمعين ، في إطار هذا التوكّل والاعتماد المطلق على الله تعالى.

٤ ـ وجاء في حديث عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حول معرفة الله وعلاقتها بحفظ اللّسان من الكلام البذيء ، والبطن من الحرام ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«مَنْ عَرَفَ اللهَ وَعَظَمَتَهُ مَنَعَ فاهُ مِنْ الكَلامِ وَبَطْنَهُ مِنَ الحَرامِ» (٢) .

٥ ـ وَرَد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام ، علاقة المعرفة بالخوف منه تبارك وتعالى ، الذي هو بدوره مصدر لكلّ أنواع الفضائل ، فقال :

«مَنْ عَرَفَ اللهَ خافَ اللهَ وَمَنْ خافَ اللهَ سَخَتَ نَفْسَهُ عَنِ الدُّنيا» (٣) .

٦ ـ بالنّسبة للعفو وقبول العذر من الناس ، قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :«أَعْرَفُ النَّاسِ بِاللهِ أَعْذَرَهُم لِلنّاسِ وإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُم عُذراً» (٤) . (ومن البديهي أنّ هذا الحديث ناظرٌ إلى المسائل الشخصيّة ، لا المسائل الإجتماعيّة).

٧ ـ حول معرفة الله وترك التكبّر ، قالعليه‌السلام :

«وَإِنَّهُ لا يَنبَغِي لَمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللهِ أنْ يَتَعَظَّمُ» (٥) .

٨ ـ حول العلم والعمل ، قالعليه‌السلام :

«لَن يُزَّكى العَمَلُ حتّى يُقارِنَهُ العِلْمُ» (٦) .

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٣٧.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ٦٨ ، ح ٤.

٤ ـ غُرر الحِكم.

٥ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٤٧.

٦ ـ غُرر الحِكم.

١٥٧

ومن المعلوم أنّ طهارة العمل لا تنفكّ عن طهارة الأخلاق.

٩ ـ ونقرأ في حديثٍ آخر عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حول هذا الموضوع :

«بِالعِلمِ يُطاعُ اللهُ وَيُعبَدُ وَبالعِلمِ يُعْرَفُ اللهُ وَيُوَحَّدُ وَبِهِ تُوصَلُ الأَرحامُ وَيُعْرَفُ الحَلالُ وَالحَرامُ وَالعِلمُ إِمامُ العَمَلِ». (١)

ففي هذا الحديث ، إعتبر كثيراً من السّلوكيّات الأخلاقيّة الإيجابيّة ، هي ثمرةٌ من ثمار العلم والمعرفة.

١٠ ـ ورد نفس هذا المعنى بصراحةٍ أقوى عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّه قال :

«ثَمَرَةُ العَقلِ مُداراةُ النَّاسِ» (٢) .

وفي مقابل الأحاديث التي تتحدث عن العلم والمعرفة ، وعلاقتها بالفضائل الأخلاقيّة توجد أحاديث شريفة اخرى ، وردت في المصادر الإسلاميّة حول علاقة الجهل بالرذائل ، وهي تأكيد آخر لموضوع بحثنا هذا ومنها :

١ ـ في حديثٍ عن عليعليه‌السلام قال :«الجَهلُ أَصلُ كُلِّ شرٍّ» (٣) .

٢ ـ وورد أيضاً عنهعليه‌السلام :«الحِرصُ وَالشَّرَهُ والبُخلُ نَتِيجَةُ الجَهلِ» (٤) .

لأنّ الحريص أو الطّماع ، غالباً ما يتحرك في طلب امورٍ زائدةٍ عن إحتياجه ، وفي الحقيقة فإنّ ولعه بالمال والثّروة والمواهب الماديّة ، ولعٌ غير منطقي وغير عقلائي ، وهكذا حال البخيل أيضاً فبِبُخله يحرص ، ويحافظ على أشياء لن يستفيد منها في حياته ، بل يتركها لغيره بعد موته.

٣ ـ ونقل عنهعليه‌السلام في تعبيرٍ جميلٍ :

«الجَاهِلُ صَخْرَةٌ لا يَنْفَجِرُ مائُها! وَشَجَرَةٌ لا يَخْضَرُّ عُودُها! وَأَرْضٌ لا يَظهَرُ عُشْبُها!» (٥) .

__________________

١ ـ تحف العقول ، ص ٢١.

٢ ـ غُرر الحِكم.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ المصدر السابق.

٥ ـ المصدر السابق.

١٥٨

٤ ـ وَوَرد عنهعليه‌السلام أيضاً ، في إشارةٍ إلى أنّ الجاهل يعيش دائماً في حالة إفراطٍ أو تفريطٍ ، فقال :

«لا تَرى الجَاهِلَ إلّا مُفْرِطاً أو مُفَرِّطاً» (١) .

فطبقاً للرأي المعروف عن علماء الأخلاق ، أنّ الفضائل الأخلاقيّة هي الحد الأوسط بين الإفراط والتفريط ، الذي ينتهي إلى السّقوط في الرذائل ، ويُستفاد من الحديث أعلاه ، أنّ العلاقة بين الجهل من جهة والرذائل الأخلاقيّة ، من جهةٍ اخرى ، هي علاقةٌ وطيدةٌ جدّاً.

٥ ـ يقول كثير من علماء الأخلاق ، أنّ الخُطوة الاولى لإصلاح الأخلاق ، وتهذيب النّفس ، هي المحافظة على اللّسان والإهتمام بإصلاحه ، وقد ورد في الأحاديث الإسلاميّة ، تأكيد على علاقة الجهل ببذاءة اللّسان ، فنقرأ في حديثٍ عن الإمام الهاديعليه‌السلام :«الجَاهِلُ أَسِيرُ لِسانِهِ» (٢) .

وخُلاصة القول ، أنّ الرّوايات الإسلاميّة الكثيرة أكدت على علاقة العلم بالأخلاق الحسنة ، والجهل بالأخلاق السيّئة ، وكلّها تؤيد هذه الحقيقة ، وهي أنّ إحدى الطّرق المؤثرة لتهذيب النّفوس ، هو الصّعود بالمستوى العلمي والمعرفي لِلأفراد ، ومعرفة المبدأ والمعاد ، والعلم بمعطيات الفضائل والرذائل الأخلاقية ، في واقع الإنسان والمجتمع.

هذا الصعود بالمستوى العلمي للأفراد على نحوين :

النحو الأول : زيادة المعرفة بسلبيات السّلوك المنحرف ، والإطّلاع على أضرار الرذائل الأخلاقية بالنسبة للفرد والمجتمع ، فمثلاً عند ما يُحيط الإنسان علماً ، بأضرار المواد المخدّرة أو المشروبات الكحولية ، وأنّ أضرارها لا يمكن اصلاحها على المستوى القريب ، فذلك العلم سيهيّىء الأرضيّة في روح الإنسان ، للإقلاع عن تلك السلوكيّات المضرّة ، وبناءً عليه فكما أنّه يجب تعريف النّاس بمضرّات المخدرات ، والمشروبات الكحولية ، وعلينا تعريف النّاس بطرق مُحاربة الرّذائل وإحصاء عُيوبها ، وأساليب تنمية الفضائل ، وإستجلاء محاسنها ، ورغم أنّ ذلك لا يُمثّل العلّة التّامة لإحداث حالة التغيير ، والتّحول في الإنسان ، ولكّنه بلا شك يمهّد

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الرقم ٧٠.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ٣٦٨.

١٥٩

ويهيّئ الأرضيّة المساعدة لذلك.

القسم الثاني : الصّعود بالمستوى العلمي بصورةٍ عامّةٍ ، فعند ما يطّلع الإنسان على المعارف الإلهيّة ، ومنها المبدأ والمعاد ، وأقوال الأنبياء والأولياء ، وما شابه ذلك ، فإنّ الإنسان سيجد في نفسه ميلاً نحو الفضائل ، ورغبةً في الإبتعاد عن الرّذائل.

وبعبارةٍ اخرى : إنّ تدنّي المستوى العلمي بالامور العقائدية ، كفيل بخلق محيطٍ مناسب لنمو الرذائل ، والعكس صحيحٌ فإنّ زيادة المعرفة تبعث في روح الإنسان الرّغبة والشّوق نحو ممارسة الفضيلة.

٥ ـ دور الثّقافة الإجتماعيّة في تربية الفضائل والرذائل :

الثّقافة عبارة عن مجموعةٍ من الامور ، التي تبني فكر وروح الإنسان ، وتمنحه الدّافع الأصلي للتحرك نحو المسائل المختلفة.

وعلى مستوى المِصداق ، تمثّل الثّقافة مجموعةً من العقائد ، والتاريخ والأدب والفن ، والآداب والرّسوم لمجتمعٍ ما.

وقد تكلمنا في السّابق عن بعض معطيات البيئة والمحيط والمعرفة ، ودورها في إيجاد الفضائل والرّذائل ، ونتطرّق الآن لباقي أقسام الثّقافة الإجتماعيّة ، ودورها في تحكيم وتقوية عناصر الخير ، ودعامات الفضائل في واقع النّفس ، أو تعميق عناصر الرّذيلة فيها.

وأحد هذه الامور ، العادات والتقاليد والسّنن لقومٍ من الأقوام ، فإذا إستوحت مقوّماتها من الفضائل ، فستكون مؤثّرة في خلق الأجواء المناسبة لتربية وتهذيب النّفوس ، وأمّا لو إسترفدت قوتها وحياتها من الرّذائل الأخلاقيّة ، فستكون البيئة مهيّئة لتقبل أنواع القبائح أيضاً.

وَوَرد في القرآن الكريم إشاراتٌ واضحةٌ في هذا المجال ، تبيّن كيفيّة إنحراف الأقوام السّابقة ، بسبب الثّقافة المنحرفة والتقاليد والأعراف المنحطة لديهم ، والّتي أدّت بهم إلى السّقوط في

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345