مرآة العقول الجزء ٥

مرآة العقول15%

مرآة العقول مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 380

المقدمة الجزء ١ المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦
  • البداية
  • السابق
  • 380 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 5492 / تحميل: 5124
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء ٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون صواباً قلت ما تقولون إذا تكلمتم قال نمجّد ربّنا ونصلّي على نبيّنا ونشفع لشيعتنا فلا يردنا ربنا قلت «كَلاَّ أنّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ »(١) قال هم الذين فجروا في حقّ الأئمّة واعتدوا عليهم ،

________________________________________________________

إلّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحمن » وهم المؤمنون والملائكة «وَقالَ » في الدّنيا «صَواباً » أي شهد بالتوحيد وقال لا إله إلّا الله ، وقيل : أنّ الكلام هيهنا الشفاعة ، أي لا يشفعون إلّا من أذن له الرَّحمن أنّ يشفع عن الحسن والكلبي ، وروى معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : سئل عن هذه الآية فقال : نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون صواباً ، قلت : جعلت فداك ما تقولون؟ قال : نمجّد ربّنا ونصلّي على نبيّنا ونشفع لشيعتنا فلا يردنا ربنا ، رواه العيّاشي مرفوعاً ، انتهى.

وأقول : قد مضى أنّ الروح خلق أعظم من الملائكة وهو الّذي يسدد به الأئمّةعليهم‌السلام ، والأخبار الدالة على أنّ هذه الآية في شفاعة النبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم للشيعة كثيرة ، أوردتها في الكتاب الكبير ، وروى محمّد بن العبّاس بإسناده عن أبي خالد القماط عن الصادق عن أبيهعليهما‌السلام قال : إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلائق من الأولين والآخرين في صعيد واحد خلع قول لا إله إلّا الله من جميع الخلائق إلّا من أقر بولاية عليّعليه‌السلام ، وهو قوله تعالى : «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ » الآية.

«أنّ كِتابَ الفُجَّارِ » الآيات في المطففين وقد مرّ تفسيره في باب خلق أبدأنّ الأئمّة قال البيضاوي (ره) أي ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم «لَفِي سِجِّينٍ » كتاب جامع لإعمال الفجرة من الثقلين ، كما قال : «وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ، كِتابٌ مَرْقُومٌ » ، أي مسطور بين الكتابة أو معلم بعلم من رآه أنه لا خير فيه فعيل من السجن لقب به الكتاب لأنه سبب الحبس ، أو لأنه مطروح - كما قيل - تحت الأرضين في مكان وحش وقيل : هو اسم المكان والتقدير ما كتاب السجين أو محلّ كتاب مرقوم ، فحذف المضاف ، ثمّ قال سبحانه : «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ، وَما يُكَذِّبُ بِهِ إلّا كلّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ

__________________

(١) سورة المطففين : ٧.

١٦١

قلت : «ثمّ يقال هذَا الّذي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ »(١) قال يعني أمير المؤمنين قلت تنزيلٌ ؟ قال : نعم.

٩٢ - محمّد بن يحيى ، عن سلمة بن الخطّاب ، عن الحسين بن عبد الرَّحمن ، عن عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قول الله عزَّ وجلَّ : «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَأنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً »(٢) قال يعني به ولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام

________________________________________________________

كَلاَّ بَلْ رأنّ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ، كَلاَّ أنّهم عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ، ثمّ أنّهم لَصالُوا الْجَحِيمِ ، ثمّ يُقالُ هذَا الّذي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ » قالوا : يقول لهم الزبانية.

أقول : لا ريب أنّ الذين فجروا في حقّ الأئمّةعليهم‌السلام هم أشد الفجار والكفار « يعني أمير المؤمنين » الظاهر منه أنّ هذا إشارة إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو بطن الآية ، أو العذاب المشار إليه لترك الولاية ، أو القائل هوعليه‌السلام ، وكان في التنزيل هنا تأويلاً نحوا ممّا مرّ في أمثاله ، ويحتمل أنّ يكون في قراءتهمعليهم‌السلام : هذا أمير المؤمنين الّذي كنتم به تكذبون ، والله يعلم.

الحديث الثاني والتسعون : ضعيف وقد مرّ في التسعين الحسن بن عبد الرَّحمن والظاهر أنّ أحدهما تصحيف والحسين غير مذكور في كتب الرجال والحسن مذكور فيه لكن عدوه من رجال الصادقعليه‌السلام وكون هذا راوياً عنه في غاية البعد.

«وَمَنْ أَعْرَضَ » الآيات في سورة طه ، حيث قال عند ذكر آدم وحواءعليهما‌السلام ونزولهما من الجنّة «قالَ اهْبِطا مِنْها جميعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى » أي لا يضل في الدّنيا ولا يشقي في الآخرة «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي » قال البيضاوي : أي عن الهدى الذاكر لي والداعي إلى عبادتي «فَأنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً » ضيقاً مصدر وصف به ، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنّث ، وذلك لأنّ مجامع همه ومطامح نظره يكون إلى أغراض الدّنيا متهالكا على ازديادها خائفاً على انتقاصها بخلاف المؤمن الطالب للآخرة مع أنه تعالى قد يضيّق بشؤم الكفر

__________________

(١) سورة المطففين : ١٦.(٢) سورة الحجّ : ١٢٤.

١٦٢

قلت : «وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أَعْمى » قال يعني أعمى البصر في الآخرة أعمى القلب في الدّنيا عن ولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال : وهو متحيّر في القيامة يقول : «لِمَ

________________________________________________________

ويوسّع ببركة الإيمان كما قال : «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ »(١) «وَلَوْ أنّهم أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ »(٢) «وَلَوْ أنّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا »(٣) وقيل : هو الضريع والزقوم في النار ، وقيل : عذاب القبر.

«وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أَعْمى » أعمى البصر أو القلب ، ويؤيّد الأوّل «قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ » أي مثل ذلك فعلت ثمّ فسره فقال : «أَتَتْكَ آياتُنا » واضحة نيرة «فَنَسِيتَها » فعميت عنها وتركتها غير منظور إليها «وَكَذلِكَ » أي مثل تركك إياها «الْيَوْمَ تُنْسى » تترك في العمى والعذاب «وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ » بالانهماك في الشهوات والإعراض عن الآيات «وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ » بل كذبها وخالفها «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ » هو الحشر على العمى ، وقيل : عذاب النار أي وللنار بعد ذلك «أَشَدُّ وَأَبْقى » من ضنك العيش ، أو منه ومن العمى ولعله إذا دخل النار زال عماه ليرى محلّه وماله أو ممّا فعله من ترك الآيات والكفر بها ، انتهى.

وفسّرعليه‌السلام الذكر بالولاية لشموله لها وكونها عمدة أسباب التذكر والذكر المذكور في الآية شامل لجميع الأنبياء والأوصياء وولايتهم ومتابعتهم وشرائعهم وما أتوا به لكون الخطّاب إلى آدم وحواء وأولادهما ، لكن أشرف الأنبياء نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكرم الأوصياء وأفضل الشرائع شريعته فتخصيص أمير المؤمنينعليه‌السلام لكونه المتنازع فيه في هذه الأمة.

وروى عليّ بن إبراهيم بإسناده عن معاوية بن عمّار [ الدهني ] قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : عن قول الله : «فَأنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً » قال : هي والله للنصاب ، قلت : جعلت فداك قد رأيتهم دهرهم الأطول في كفاية حتّى ماتوا؟ قال : ذلك والله في الرجعة يأكلون العذرة.

__________________

(١) سورة البقرة : ٦١.(٢) سورة المائدة : ٦٦.

(٣) سورة الأعراف : ٩٦.

١٦٣

حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها » قال الآيات الأئمّةعليهم‌السلام : «فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى » يعني تركتها وكذلك اليوم تترك في النار كما تركت الأئمّةعليهم‌السلام فلم تطع أمرهم ولم تسمع قولهم قلت «وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى » قال يعني من أشرك بولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام غيره ولم يؤمن بآيات ربه وترك الأئمّة معاندة فلم يتّبع آثارهم ولم يتولهم قلت «اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ »(١) قال ولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام قلت «مَنْ كان يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ » قال معرفة أمير المؤمنين

________________________________________________________

وروى محمّد بن العبّاس في تفسيره بإسناده عن عيسى بن داود النجار عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام أنه سأل أباه عن قول الله عزَّ وجلَّ : «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى »(٢) قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أيها الناس اتبعوا هدى الله تهدوا وترشدوا وهو هداي وهداي بعدي عليّ بن أبي طالب ، فمن اتبع هداي في حياتي وبعد موتي فقد اتبع هداي ، ومن اتبع هداي فقد اتبع هدى الله ومن اتبع هدى الله فلا يضل ولا يشقي «وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ » في عداوة آل محمد.

قولهعليه‌السلام : الآيات الأئمّة ، قد مرّ مراراً أو المراد الآيات النازلة فيهم أو هي عمدتها ، وفسّر أكثر المفسرين الإسراف بالشرك بالله وفسّرعليه‌السلام بالشرك في الولاية فإنه يتضمن الشرك بالله كما مر.

«اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ » الآيات في حم عسق ، قال البيضاوي : بربهم ، بصنوف من البر الّتي لا تبلغها الأفهام «يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ » أي يرزقه كما يشاء ، فيخص كلا من عباده بنوع من البر على ما اقتضته حكمته ، وهو القوي الباهر القدرة العزيز المنيع الّذي لا يغلب «مَنْ كان يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ » ثوابها ، شبهه بالزرع من حيث أنه فائدة تحصل بعمل الدّنيا ولذلك قيل : الدّنيا مزرعة الآخرة ، والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض ، ويقال : للزرع الحاصل منه ( نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) فنعطه بالواحد عشرا إلى سبعمائة فما فوقها «وَمَنْ كان يُرِيدُ حَرْثَ الدّنيا نُؤْتِهِ مِنْها » شيئاً منها على

__________________

(١) سورة فصلت : ١٨. (٢) سورة طه : ١٢٣.

١٦٤

عليه‌السلام والأئمّة «نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ » قال نزيده منها قال يستوفي نصيبه من دولتهم «وَمَنْ كان يُرِيدُ حَرْثَ الدّنيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ » قال ليس له في دولة الحقّ مع القائم نصيب.

( باب )

( فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية )

١ - محمّد بن يعقوب الكلينيّ ، عن محمّد بن الحسن وعليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب ، عن بكير بن أعين قال كان أبو جعفرعليه‌السلام يقول أنّ الله أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية وهم ذر يوم أخذ الميثاق على الذرّ والإقرار

________________________________________________________

ما قسمنا له «وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ » إذ الأعمال بالنيات ولكلّ امرئ ما نوى ، انتهى.

وأقول : تفسير الرزق بالولاية تفسير للرزق بالرزق الروحاني أو بما يعمه وخص أشرفه وهو الولاية بالذكر لأنّها الأصل والمادة لسائر العلوم والمعارف ، ولا يحصل شيء منها إلّا بها ، وفسّر زيادة الحرث بالمنافع الدنيوية أو الأعمّ منها ومن العلوم والمعارف الّتي يلقونها إليهم ، وفسّر الآخرة بالرجعة ودولة القائمعليه‌السلام لـمّا مرّ من أنّ أكثر آيات البعث والقيامة مؤولة بدولة القائمعليه‌السلام والرجعة فإنّها من مباديها.

باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية

الحديث الأوّل :ضعيف على المشهور.

« ميثاق شيعتنا » إنّما خصّ بالشيعة لأنّهم قبلوها إذ ظاهر الأخبار أنّ الميثاق أخذ من جميع الخلق ، وقبلها الشيعة ولم يقبلها غيرهم « وهم ذرّ » قال الجوهري : الذرّ جمع ذرّة وهي أصغر النمل ، انتهى.

وشبههم بالذرّ لصغر الأجزاء الّتي تعلقت بها الأرواح عند الميثاق ، وذلك عند

١٦٥

له بالرُّبوبيّة ولمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوَّة.

٢ - محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن

________________________________________________________

كونهم في صلب آدم أو بعد إخراجهم منه كما سيأتي تفصيله في كتاب الإيمان والكفر قال المحدّث الأسترآبادي (ره) : أنّ الأرواح تعلّقت ذلك اليوم بأجساد صغيرة مثل النمل ، فأخذ منهم الميثاق بالولاية وغيرها ، انتهى.

وقيل : أنّهم لـمّا غفلوا إلّا من شاء الله عن تذكره في عالم الأبدأنّ إما لعدم شرط التذكّر أو وجود مانع منه ، بعث الأنبياء تكليفاً لهم ثانياً لدفع الغفلة وتكميل الحجّة.

قوله : والإقرار ، كأنه كان بالإقرار كما سيأتي في آخر الباب عن هذا الراوي بعينه مع اختلاف في أوّل السند ، وعلى تقدير صحته يمكن عطفه على الذرّ عطف تفسير أو على الولاية أو هو منصوب على أنه مفعول معه وعامله أخذ ، وقيل : كان فيه إشعاراً بأنّ الإقرار لله بالربوبية حقيقة لم يصدر عن غير الشيعة فأنّ إقرار غيرهم بها من قبيل الإقرار بالشيء مع إنكار لازمه البين وهو الولاية ، ولذا يسلب عنهم هذا الإقرار اليوم القيامة.

وقال بعض الأفاضل : إنّما أخذ الله المواثيق الثلاثة عن الناس أجمعين إلّا أنّهم أقروا بالربوبية جميعاً وأنكر النبوّة والولاية بقلبه من كان ينكره بعد خلقه في هذا العالم.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم عن ابن مسكان عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : قلت له : معاينة كان هذا؟ قال : نعمّ ، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه ، ولو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه ، فمنهم من أقر بلسانه في الذرّ ولم يؤمن بقلبه ، فقال الله : «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ».

الحديث الثاني : ضعيف والظاهر الجعفي مكان الجعفري ، فإنه الموجود في كتب الرجال ، وسيأتي الخبر بعينه في أوائل الإيمان والكفر وفيه الجعفي.

١٦٦

صالح بن عقبة ، عن عبد الله بن محمّد الجعفري ، عن أبي جعفرعليه‌السلام وعن عقبة ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال أنّ الله خلق الخلق فخلق ما أحبّ ممّا أحبّ وكان ما أحبّ أنّ خلقه من طينة الجنّة ، وخلق ما أبغض ممّا أبغض وكان ما أبغض أنّ خلقه من طينة النار ثمّ بعثهم في الظلال فقلت وأي شيء الظلال قال ألم تر إلى

________________________________________________________

« فخلق ما أحبّ » قيل : « ما » في الأوّل موصولة وكذا في الثاني ، وفي الثالث مصدرية ، أقول : فيما سيأتي : فخلق من أحبّ ، وهو أظهر ، ويمكن أنّ يقدر مضاف أي وكان خلق ما أحب.

واعلم أنه ذهب المحدثون إلى أنه تعالى لـمّا علم أعمال العباد وعقائدهم في الأعيأنّ من الخير والشر خلق أبدان أهل الخير من طينة الجنّة وخلق أبدأنّ أهل الشر من طينة النار ، ليرجع كلّ إلى ما هو أهل له ولائق به ، فأعمالهم سبب لخلق الأبدأنّ على الوجه المذكور دون العكس ، قال المحدث الأسترآبادي (ره) : المراد خلق التقدير على الوجه المذكور دون العكس ، قال المحدث الأسترآبادي (ره) : المراد خلق التقدير لا خلق التكوين ، ومحصول المقام أنه تعالى قدر أبدانا مخصوصة من الطينتين ثمّ كلف الأرواح فظهر منها ما ظهر ، ثمّ قدر لكلّ روح ما يليق بها من تلك الأبدأنّ المقدرة.

« ثمّ بعثهم في الظلال » الضمير للمخلوقين معا والمراد بالظلال عالم المثال أو عالم الأرواح أو عالم الذرّ ، وإنّما سمي عالم المثال بالظلال لأنه بمنزلة الظل لهذا العالم ، تابع وموافق له ، والتشبيه في الوجهين الآخرين أيضاً قريب من ذلك ، أو لـمّا ذكرهعليه‌السلام من شباهتها بالظلال في أنه شيء وليس بشيء والمعنى أنه بالنسبة إلى الوجود العيني ليس بشيء أو كناية عن أنها أجسام لطيفة على الأوّل ، وعلى الثاني إيماء إلى تجردها على القول بالتجرد أو إلى لطافتها على القول بعدمه ، وعلى الثالث كناية عن صغر تلك الذرات الّتي تعلقت بها الأرواح كأنّها ليست بشيء أو عن أنّها ليست شيئاً معتداً به بل هي حكاية لشيء معتد به.

قال المحدث الأسترآبادي (ره) : يفهم من الروايات أنّ التكليف الأول وقع

١٦٧

ظلّك في الشمس شيء وليس بشيء ، ثمّ بعث الله فيهم النبييّن يدعونهم إلى الإقرار بالله وهو قوله «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ »(١) ثمّ دعاهم إلى الإقرار بالنبييّن فأقر بعضهم وأنكر بعضهم ثمّ دعاهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحبّ وأنكرها من أبغض وهو قوله «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ »(٢) ثمّ قال أبو جعفر

________________________________________________________

مرّتين مرّة في عالم المجرد الصرف ، ومرّة في عالم الذرّ بأنّ تعلقت الأرواح فيه بجسد صغير مثل النمل ، ولـمّا لم يكن تصل أذهان أكثر الناس إلى إدراك الجوهر المجرد عبرواعليهم‌السلام عن المجردات بالظلال لتفهيم الناس وقصدهم من ذلك أنّ موجودات ذلك العالم مجردة عن الكثافة الجسمانيّة كما أنّ الظل مجرد أنها ، فهي شيء وليست كالأشياء المحسوسة الكثيفة ، وهذا نظير قولهمعليهم‌السلام في معرفة الله تعالى : شيء بخلاف الأشياء الممكنة.

« ثمّ بعث الله فيهم النبييّن » وفيما سيأتي « منهم » يدعوهم(٣) حال عن الله ، والمستكن عائد إليه والبارز للخلق ، أو هو علة للبعث فالمستكن للنبيين والبارز لغيرهم ، والتقدير لأنّ يدعوهم وفي بعض النسخ يدعونهم ، فهو حال عن النبييّن ومؤيد للمعنى الثاني ، وفيما سيأتي فدعوهم وهو أظهر ، وهو قوله : أي جبل النفوس على الإقرار بالصانع بعد الإعراض عن الدواعي الخارجية بالضرورة الفطرية من أجل تلقينهم المعرفة في ذلك اليوم ، وإقرارهم بها ولو لم يكن ذلك لم يكن هذا ، وقيل : المعنى أنّ إقرارهم بذلك عند السؤال في أي وقت كان دل على إقرارهم بذلك في ذلك اليوم والأوّل أظهر « من أحبّ » أي من أحبّ الإقرار بها ومن أحبها أو من أحبنا أو من أحبه الله ، وكذا قوله : من أبغض.

« وهو » أي إنكار من أبغض « قوله » أي مدلول قوله والآية في الأعراف « فَما كانُوا » وكان التغيير من النساخ أو نقل بالمعنى ، وفيما سيأتي : ما كانوا ، بدون الواو

__________________

(١) سورة الزخرف : ٨٧. (٢) سورة يونس : ٧٥.

(٣) وفي المتن « يدعونهم » وسيأتي في كلام الشارح (ره) أيضاً.

١٦٨

عليه‌السلام كان التكذيب ثمَّ.

٣ - محمّد بن يحيى ، عن سلمة بن الخطّاب ، عن عليّ بن سيف ، عن العبّاس بن عأمر ، عن أحمد بن رزق الغمشاني ، عن محمّد بن عبد الرَّحمن ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال ولايتنا ولاية الله الّتي لم يبعث نبيّاً قطّ إلّا بها.

٤ - محمّد بن يحيى ، عن عبد الله بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن عبد الحميد ، عن يونس بن يعقوب ، عن عبد الأعلى قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول ما من نبي جاء قط إلّا بمعرفة حقّنا وتفضيلنا على من سوانا.

٥ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن محمّد بن الفضيل ، عن أبي الصباح الكناني ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال سمعته يقول والله أنّ في السماء لسبعين صفّاً من الملائكة لو اجتمع أهل الأرض كلهم

________________________________________________________

أيضاً وهو أقرب «لِيُؤْمِنُوا » أي في التكليف الثاني «بِما كَذَّبُوا بِهِ » أي عن النبوة.

والولاية «مِنْ قَبْلُ » أي في التكليف الأوّل في الميثاق « كان التكذيب ثمّ » أي كان تكذيب المكذّبين من ذلك اليوم وليس بمتجدد أو مناط التكذيب الثاني والعمدة فيه هو الأوّل ، وكذا الإقرار.

أقول : سيأتي الكلام في هذه الأخبار الموهمة للجبر في كتاب الإيمان والكفر.

الحديث الثالث : كالسابق « ولاية الله » أي ولاية واجبة من قبل الله ، ولا يختصّ هذه الأمّة بل كان أوجب الله سبحانه في كلّ شريعة ولايتنا أو الحمل على المبالغة.

لبيان أنّ ولاية الله لا تقبل إلّا بولايتنا.

الحديث الرابع : مجهول « إلّا بمعرفة حقنا » أي بواجب معرفة حقّ أهل البيت أو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام « على من سوانا » من الأنبياء السابقين والأوصياء وسائر الخلق ، وهذا ممّا يدلّ على فضلهم على جميع الخلق.

الحديث الخامس : كالسابق.

١٦٩

يحصون عدد كلّ صف منهم ما أحصوهم وأنّهم ليدينون بولايتنا.

٦ - محمّد ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن محمّد بن الفضيل ، عن أبي الحسنعليه‌السلام قال ولاية عليّعليه‌السلام مكتوبة في جميع صحف الأنبياء ولن يبعث الله رسولا إلّا بنبوة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ووصيّه عليّعليه‌السلام .

٧ - الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن محمّد بن جمهور قال حدثنا يونس ، عن حمّاد بن عثمان ، عن الفضيل بن يسار ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال أنّ الله عزَّ وجلَّ نصب عليّاًعليه‌السلام علـمّا بينه وبين خلقه فمن عرفه كان مؤمناً ومن أنكره كان كافراً ومن جهله كان ضالا ومن نصب معه شيئاً كان مشركاً ومن جاء بولايته دخل الجنّة.

________________________________________________________

« يحصون » جملة حالية « عدد كلّ صف » أي جميع الصفوف أو واحد منها ، وفي البصائر لسبعين صنفا يحصون عدد صنف منهم وكأنه أظهر ، وما قيل : من أنّ ضمير منهم راجع إلى أهل الأرض فلا يخفى بعده « ليدينون بولايتنا » أي يعتقدون بها أو يعبدون الله بها أو متلبسا بها.

الحديث السادس : كالسابق « ولن » هنا لتأكيد النفي كما جوزه الزمخشري إذ لا معنى للتأبيد هنا ، وكأنه كان « لم » لكن في البصائر أيضاً كذلك.

الحديث السابع : ضعيف.

« علـمّا » بالتحريك وهو ما ينصب في الطريق ليهتدي به ، وقيل : علأمّة الرشد والغي بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « فمن عرفه» أي عرف ولايته وأقر بها « ومن أنكره » أي أنكر إمامته بعد العلم أو التمكن منه « ومن جهله » أي لم يتمّ عليه الحجة من المستضعفين فهو ضال ولله فيه المشية ، أو المراد بالجاهل الشاك الّذي لا ينكر ولا يقر « ومن نصب معه شيئاً » بأنّ يعتقد إمامته ويقدم عليه أهل الضلال كأكثر الخلق من المخالفين فهو في حكم المشرك ومخلد في النار « ومن جاء بولاية » بلا فصل بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع سائر الأئمّة إذ يستلزم ولايته والعلم بإمامته كما حقّه ، العلم بإمأمّة أوصيائه « دخل الجنّة » وظاهره أنّ غير هؤلاء لا يدخلون الجنّة ، فالضالون أنّ لم يدخلوا النار فهم أهل الأعراف.

١٧٠

٨ - الحسينُ بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن الوشّاء ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي حمزة قال سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول أنّ عليّاًعليه‌السلام باب فتحه الله فمن دخله كان مؤمناً ومن خرج منه كان كافراً ومن لم يدخل فيه ولم يخرج منه كان في الطبقة الذين قال الله تبارك وتعالى لي فيهم المشيئة.

٩ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب ، عن بكير بن أعين قال كان أبو جعفرعليه‌السلام يقول أنّ الله أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية لنا وهم ذر يوم أخذ الميثاق على الذرّ بالإقرار له بالربوبية ولمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوّة وعرض الله جل وعزَّ على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله أمته في الطين وهم أظلة وخلقهم من الطينة الّتي خلق منها آدم وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدأنّهم بألفي عام وعرضهم عليه وعرفهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعرفهم عليّاً ونحن نعرفهم «فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ».

________________________________________________________

الحديث الثامن : ضعيف على المشهور.

« أنّ عليّاًعليه‌السلام » أي ولايته« باب » ، أي باب رحمة الله وإسراره ومعارفه وباب علم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكمه كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا مدينة العلم وعلى بابها ، وكلّ ذلك على الاستعارة والتمثيل « فمن دخله » أي قبل ولايته وقال بإمامته وإنّما قسمعليه‌السلام في هذا الخبر ثلاثة أقسام لأنّ الخروج أعمّ من الإنكار مطلقاً أو التشريك في الإمأمّة فعد هنا قسمين قسما واحداً « قال الله » أي في قوله : «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأمر اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وأمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ »(١) .

الحديث التاسع : حسن.

« في الطين » أي حين كان الرسول في الطين أو أمته أو هما معا ، أي قبل خلق أجسادهم « وهم أظلة » أي أرواح بلا أجساد أو أجساد مثالية « وعرضهم عليه » أي على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا هو العرض الأوّل أو عرض آخر قبله كما مرّ « وعرفهم رسول الله » أي جعلهم عارفين بالرسول وبأمير المؤمنين صلوات الله عليهما أو جعلهما عارفين بهم وهو أظهر.

قوله : في لحن القول ، إشارة إلى قوله تعالى : «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ

__________________

(١) سورة التوبة. ١٠٦.

١٧١

( باب )

( في معرفتهم أولياءهم والتفويض إليهم )

١ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن صالح بن سهل ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنَّ رجلا جاء إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو مع أصحابه فسلم عليه ثمّ قال له أنا والله أحبك وأتولاك فقال له أمير المؤمنينعليه‌السلام كذبت قال بلى والله إني أحّبك وأتولاك فكرر ثلاثاً فقال له أمير المؤمنينعليه‌السلام كذبت ما أنت كما قلت أنّ الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ثمّ عرض علينا المحبّ لنا فو الله ما رأيت روحك فيمن عرض فأين كنت فسكت الرجل عند ذلك ولم يراجعه.

وفي رواية أخرى قال أبو عبد اللهعليه‌السلام كان في النار.

٢ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد ، عن عمرو بن ميمون ، عن عمّار بن مروان ، عن جابر ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال إنا لنعرف الرجل

________________________________________________________

أنّ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغأنّهم ، وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ »(١) قال البيضاوي لحن القول أسلوبه أو إمالته إلى جهة تعريض وتورية ومنه قيل : للمخطئ لاحن لأنه يعدل الكلام عن الصواب.

باب في معرفتهم أولياءهم والتفويض إليهم

الحديث الأول :ضعيف.

« خلق الأرواح » المشهور بين المتكلمين عدم تقدّم خلق الأرواح على الأبدأنّ والأخبار المستفيضة تدلّ على تقدّمها ولا مانع منه عقلاً والدلائل النافية مدخولة وسيأتي القول في ذلك في كتاب الإيمان والكفر إنشاء الله « كان في النار » أي في أهل النار وكانت طينته في طينتهم.

الحديث الثاني : مختلف فيه.

__________________

(١) سورة محمد : ٢٩ - ٣٠.

١٧٢

إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق.

٣ - أحمد بن إدريس ومحمّد بن يحيى ، عن الحسن بن عليّ الكوفي ، عن عبيس بن هشام ، عن عبد الله بن سليمان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال سألته عن الإمام فوض الله إليه كما فوض إلى سليمأنّ بن داود فقال نعم وذلك أنّ رجلا سأله عن مسألة فأجابه فيها وسأله آخر عن تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأوّل ثمّ سأله آخر فأجابه بغير جواب الأولين ثمّ قال هذا عطاؤنا فامنن أو أعط بغير حساب وهكذا هي في قراءة عليّعليه‌السلام قال قلت أصلحك الله فحين أجابهم بهذا الجواب يعرفهم الإمام قال سبحان الله أما تسمع الله يقول : «أنّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ »(١)

________________________________________________________

« بحقيقة الإيمان » أي الإيمان الواقعي الحقّ الّذي لا يشوبه نفاق وذلك الّذي يحقّ أنّ يسمى إيمانا أو كناية عن أنّ الإيمان كأنه حقيقة المؤمن وماهيته أو بالحقيقة والطينة الّتي تدعو إلى الإيمان وكذا الكلام في حقيقة النفاق.

الحديث الثالث : مجهول كالحسن.

« وذلك أنّ رجلاً » الظاهر أنه كلام عبد الله لبيان سبب سؤاله السابق ، والتقدير ذلك السؤال لأنّ رجلاً سأله ويحتمل أنّ يكون من كلام الإمام ، فضمير سأله لسليمانعليه‌السلام لكنّه بعيد.

قولهعليه‌السلام : وهكذا هي ، أقول : لم تذكر هذه القراءة في القراءات الشاذة وكأنه على هذه القراءة المن بمعنى القطع أو النقض وحمله على أنّ الترديد بين العطاء مع المنة وبدونها بعيد عن سياق الخبر ، وعلى القراءة المشهورة المن بمعنى الإعطاء ، وقد مضى في باب أنّ المتوسميّن هم الأئمّةعليهم‌السلام تأويل قوله تعالى : «أنّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ » وقد مضى في باب التفويض أنّ أحد معانيه تفويض بيان العلوم والأحكام بما أرادوا ورأوا المصلحة فيها بسبب اختلاف عقول الخلق

__________________

(١) سورة الحجر. ٧٥.

١٧٣

وهم الأئمّة «وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ » لا يخرج منها أبدا ثمّ قال لي نعمّ أنّ الإمام إذا أبصر إلى الرجل عرفه وعرف لونه وأنّ سمع كلامه من خلف حائط عرفه وعرف ما هو أنّ الله يقول : «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ أنّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ »(١) وهم العلماء فليس يسمع شيئاً من الأمر ينطق به إلّا عرفه ناج أو هالك فلذلك يجيبهم بالّذي يجيبهم.

________________________________________________________

وإفهامهم ، أو بسبب التقية فيفتون بعض النّاس بالحكم الواقعي وبعضهم بالتقية ويبينون تفسير الآيات وتأويلها ويبدلون المعارف بحسب ما يحتمل عقل كلّ سائل ، وأيضاً لهم أنّ يجيبوا ولهم أنّ يسكتوا بحسب المصالح.

« وعرف لونه » أي ما يدلّ عليه لونه أو اللون بمعنى النوع من المؤمن والمنافق وكذا قوله : وعرف ما هو ، أي نوع هو ، وعلى أي صفة «أنّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ » على تأويلهعليه‌السلام المعنى أنّ في الألسن المختلفة والألوأنّ المتنوعة آيات وعلامات للعلماء الربانيين وهم الأئمّةعليهم‌السلام يستدلون بها على إيمانهم ونفاقهم ونجاتهم وهلاكهم.

__________________

(١) سورة الروم : ٢١.

١٧٤

(أبواب التاريخ )

(باب )

( باب مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووفاته )

ولد النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوّل في عام الفيل يوم الجمعة مع الزّوال ، وروي أيضاً عند طلوع الفجر قبل أنّ يبعث بأربعين سنّة وحملت به أمه في أيام التشريق عند الجمرّة الوسطى وكانت في منزل عبد الله بن

________________________________________________________

باب(١) التار يخ

تاريخ مولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ووفاته

« لاثنتي عشرة » اعلم أنه اتفقت الإمامية إلّا من شذ منهم على أنّ ولادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت في سابع عشر شهر ربيع الأوّل ، وذهب أكثر المخالفين إلى أنها كانت في الثاني عشر منه ، واختاره المصنفرحمه‌الله إمّا اختياراً أو تقية والأخير أظهر ، لكن الدلائل الحسابية على الأوّل أدل كما سنشير إليه ، وذهب بعضهم إلى الثامن وبعضهم إلى العاشر من الشهر المزبور ، وذهب شاذ منهم إلى أنه ولد في شهر رمضان فأما يوم الولادة فالمشهور بين علمائنا أنه كان يوم الجمعة ، والمشهور بين المخالفين يوم الاثنين ، ثمّ الأشهر بيننا وبينهم أنه ولد بعد طلوع الفجر ، وقيل : عند الزوال وقيل : آخر النهار ، وقال صاحب العدد القوية كانت خمس وخمسين يوما من هلاك أصحاب الفيل بسبع بقين من ملك أنوشيروأنّ ، ويقال : في ملك هرمز بن أنوشيروان وذكر الطبرسي أنّ مولده كان لاثنتي وأربعين سنّة من ملك أنوشيروأنّ ، وهو الصحيح لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولدت في زمن الملك العادل أنوشيروان.

قوله : عند طلوع الفجر ، أي بعده بقليل « قبل أنّ يبعث » متعلق بولد.

قوله : وحملت به أمه ، اعلم أنّ هيهنا إشكالاً مشهوراً أورده الشهيد الثاني

__________________

(١) كذا في النسخ وفي المتن « أبواب » بلفظ الجمع.

١٧٥

________________________________________________________

رحمه‌الله وجماعة وهو أنّه يلزم على ما ذكره الكلينيرحمه‌الله من كون الحمل بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أيام التشريق وولادته في ربيع الأوّل أنّ يكون مدة حملهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إما ثلاثة أشهر أو سنّة وثلاثة أشهر ، مع أنّ الأصحاب اتفقوا على أنه لا يكون الحمل أقل من ستّة أشهر ، ولا أكثر من سنّة ، ولم يذكر أحد من العلماء أنّ ذلك من خصائصهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والجواب أنّ ذلك مبني على النسيء الّذي كانوا يفعلونه في الجاهلية وقد نهى الله تعالى عنه ، وقال : «إنّما النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ » قال الشيخ الطوسيرحمه‌الله في تفسير هذه الآية نقلا عن مجاهد : كان المشركين يحجون في كلّ شهر عامين يحجوا في ذي الحجة عامين ثمّ حجوا في المحرم عامين وكذلك في المشهور حتّى وافقت الحجة الّتي قبل حجة الوداع في ذي القعدّة ، ثمّ حج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العام القابل حجة الوداع فوافقت ذا الحجة ، فقال في خطبته : إلّا وأنّ الزمأنّ قد استدار كهيأته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنّة اثنتي عشر شهراً ، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ، ذو القعدّة وذو الحجة ومحرم ورجب مضربين جمادى وشعبأنّ أراد بذلك أنّ الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها ، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء ، انتهى.

إذا عرفت هذا فقيل : إنه على هذا يلزم أنّ يكون الحج عام مولدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جمادى الأولى لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنّة ، ودورة النسيء أربعة وعشرون سنّة ضعف عدد الشهور ، فإذا أخذنا من السنّة الثانية والستين ورجعنا تصير السنّة الخامس عشر ابتداء الدورة لأنه إذا نقص من اثنين وستين ثمانية وأربعون يبقى أربعة عشر ، الاثنتان الأخيرتان منها لذي القعدّة ، واثنتان قبلهما الشوال وهكذا ، فتكون الأوليأنّ منها لجمادى الأولى ، فكان الحج عام مولد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عام الفيل في جمادى الأولى ، فإذا فرض أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حملت به أمه في الثاني عشر

١٧٦

________________________________________________________

منه ، ووضعت في الثاني عشر من ربيع الأوّل ، تكون مدّة الحمل عشرة أشهر بلا مزيدة ولا نقيصة.

أقول : ويرد عليه أنه قد أخطأرحمه‌الله في حساب الدورة وجعلها أربعة وعشرين سنّة ، إذ الدورة على ما ذكر إنّما تتم في خمسة وعشرين سنّة ، إذ في كلّ سنتين يسقط شهر من شهور السنّة باعتبار النسيء ، وفي كلّ خمسة وعشرين سنّة تحصل أربعة وعشرون حجة تمام الدورة ، وأيضاً على ما ذكره يكون مدة الحمل أحد عشر شهرا إذ لـمّا كان عام مولده أوّل حج في جمادى الأولى يكون في عام الحمل الحج في ربيع الثاني ، فالصواب أنّ يقال : كان في عام حملهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحج في جمادى الأولى ، وفي عام مولده في جمادى الثانية ، فعلى ما ذكرنا تتم من عام مولده إلى خمسين سنّة من عمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دورتان في الحادية والخمسين تبتدئ الدورة الثالثة من جمادى الثانية وتكون للشهر حجتان إلى أنّ ينتهي إلى الحادية والستين والثانية. والستين ، فيكون الحج فيهما في ذي القعدّة ويكون في حجة الوداع الحج في ذي الحجة فتكون مدة الحمل عشرة أشهر.

فأنّ قلت : على ما قررت من أنّ في كلّ دورة تتأخر سنّة ففي نصف الدورة تتأخر ستّة أشهر ومن ربيع الأوّل الّذي هو شهر المولد إلى جمادى الثانية الّتي هي شهر الحج نحو من ثلاثة أشهر فكيف يستقيم الحساب على ما ذكرت؟ قلت : تاريخ السنّة محسوبة من شهر الولادة فمن ربيع الأوّل من سنّة الولادة إلى مثله من سنّة ثلاث وستين تتم اثنان وستون ، ويكون السابع عشر منه ابتداء سنّة الثالث والستين وفي شهر العاشر من تلك السنّة أعني ذا الحجة وقع الحج الحادي والستون وتوفيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل إتمام السنّة على ما ذهبت إليه الشيعة بتسعة عشر يوماً ، فصار عمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثاً وستين إلّا تلك الأيام المعدودة.

وأمّا ما رواه سيّد بن طاوس في كتاب الإقبال نقلا من كتاب النبوّة للصدوق

١٧٧

عبد المطّلب وولدته في شعب أبي طالب في دار محمّد بن يوسف في الزاوية القصوى عن يسارك وأنت داخل الدّار ؛وقد أخرجت الخيزرأنّ ذلك البيت فصيرته مسجدا

________________________________________________________

رضي الله عنهما ، أنّ الحمل بسيدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة فيمكن أنّ يكون الحمل في أوّل سنّة وقع الحج في جمادى الثانية ومن سنّة الحمل إلى سنّة حجة الوداع أربع وستون سنّة ، وفي الخمسين تمام الدورتين وتبتدئ الثالثة من جمادى الثانية ، ويكون في حجة الوداع ، والّتي قبلها الحج في ذي الحجة ولا يخالف شيئاً إلّا ما مرّ عن مجاهد أنّ حجة الوداع كانت مسبوقة بالحج في ذي القعدّة ، وقوله غير معتمد في مقابلة الخبر أنّ ثبت أنه رواه خبرا ، وتكون مدة الحمل على هذا تسعة أشهر إلّا يوما فيوافق ما هو المشهور في مدة حملهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند المخالفين.

وقوله : عند الجمرّة الوسطى أي في بيت كان قريبا منها ، وكان البيت لعبد الله أو موضع نزوله إذ كانت لأهل مكّة في منى منازل وبيوت ينزلونه في الموسم ، ويحتمل أنّ يكون المراد بالمنزل الخيمة المضروبة له هناك ، وقال بعض الأفاضل في دفع الإشكال المتقدَّم : التشريق الخروج إلى ناحية المشرق ، وكانت أشراف قريش يخرجون من مكّة مع أهاليهم في الصيف إلى الطائف ، وهو في ناحية المشرق وكانوا يسمون تلك الأيام أيام التشريق وينزلون منى في بعض تلك الأيام ، والقرينة على أنه ليس المراد بأيام التشريق ما في موسم الحج أنّ المكان الّذي هو عند الجمرّة الوسطى لا يخلو في موسم الحج.« وكانت » أي حين إقامتها بمكّة ، ولو كان المراد حين كونها في منى لم يحتج إلى زيادة لفظ : وكانت ، انتهى.

ولا يخفى غرابته ولا أدري من أين أخذرحمه‌الله هذا الاصطلاح لأيام التشريق ، وأي مناسبة لمني مع الطائف.

والشعب بالكسر : ما انفرج بين جبلين ، وشعب أبي طالب معروف بمكّة وهو

١٧٨

يصلّي الناس فيه وبقي بمكّة بعد مبعثه ثلاث عشرة سنّة ثمّ هاجر إلى المدينة ومكث بها عشر سنين ،ثمّ قبضعليه‌السلام لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأوّل يوم الإثنين

________________________________________________________

الموضع الّذي كان فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو طالب وسائر بني هاشم فيه عند إخراج قريش إيّاهم من بينهم ، وكتب الكتاب بينهم في مهاجرتهم ومعاندتهم.

قوله : في دار محمّد بن يوسف ، المشهور في السير أنّ هذه الدار كانت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالميراث ، ووهبها عقيل بن أبي طالب ثمّ باعها أولاد عقيل بعد أبيهم محمّد بن يوسف أخا الحجّاج فاشتهرت بدار محمّد بن يوسف فأدخلها محمّد في قصره الّذي يسمونه بالبيضاء ثمّ بعد انقضاء دولة بني أمية حجت خيزران أم الهادي والرشيد من خلفاء بني العبّاس فأفزرها عن القصر وجعلها مسجداً ، والقصوى مؤنث أقصى أي الأبعد ، والمكان بهذا الوصف موجود الأنّ يزوره الناس.

وأمّا إقامتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة بعد البعثة فالمشهور أنه ثلاثة عشرة سنّة كما ذكره المصنف ، وقيل : خمس عشرة سنّة ، وقيل : ثمأنّ سنين وهما متروكان ، ولا خلاف في أنّ مدة إقامتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة كانت عشر سنين.

وأمّا ما ذكره من يوم وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد بناه على ما هو المشهور بين المخالفين أيضاً ، والمشهور بيننا ما ذكره الشيخ في التهذيب وغيره في كتبهم أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبض مسموماً يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنّة عشر من الهجرة ، والأصوب أنّ وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت سنّة إحدى عشرة من الهجرة ليتمّ عشر سنين منها كما ذكره المسعودي وغيره ، لكن لـمّا ذكره الشيخ أيضاً وجه ، إذ لو حوسب التاريخ من المحرم الّذي هو مبدء التواريخ بعد الهجرة ، فالوفاة في الحادية عشرة ، وأنّ حوسب من وقت الهجرة فالوفاة قبل تمام العشرة على المشهور ، وعنده على قول الكليني ، قال في جامع الأصول : مات سنّة إحدى عشرة ، فقيل : كان يوم الاثنين مستهل ربيع الأوّل ، وقيل : لليلتين خلتا ، وقيل : لاثنتي عشرة وهو الأكثر ، انتهى.

وقال صاحب كشف الغمة من تاريخ أحمد بن أحمد الخشاب عن أبي جعفر الباقر

١٧٩

________________________________________________________

عليه‌السلام قال قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنّة في سنّة عشر من الهجرة ، فكان مقامه بمكّة أربعين سنّة ، ثمّ نزل عليه الوحي في تمام أربعين ، وكان بمكّة ثلاث عشرة سنّة ، ثمّ هاجر إلى المدينة وهو ابن ثلاث وخمسين سنّة ، فأقام بالمدينة عشر سنين ، وقبضعليه‌السلام في شهر ربيع الأوّل يوم الاثنين لليلتين خلتا منه ، وروي لثماني عشرة ليلة منه ، رواه البغوي ، وقيل : لعشر خلون منه ، وقيل : لثمان بقين رواه ابن الجوزي والحافظ أبو محمّد بن حزم وقيل : لثمان خلون من ربيع الأوّل ، انتهى.

واعلم أنّ الّذي يدلّ على صحّة ما ذهب إليه الكلينيقدس‌سره من تاريخ الولادة هو أنه من أوّل ربيع الأوّل الّذي ولد فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أوّل ربيع الأوّل الّذي هاجر فيه إلى المدينة ثلاث وخمسون سنّة تأمّة قمرية ، لأنّ مدة مكثهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها بعد الهجرة كانت عشر سنين كما عرفت ، ومدة حياته ثلاث وستين سنّة أو أقل منها بعشرين يوما ، على رواية أنه ولد في السابع عشر من ربيع الأوّل ، وقبض في آخر صفر ولا اختلاف في ولادته باعتبار الشهر بين الشيعة ، فمن أوّل المحرم المقدم على ميلاده الشريف الّذي هو رأس سنّة عام الفيل إلى أوّل المحرم المقدم على هجرته الّذي هو مبدء التاريخ الهجري أيضاً ثلاث وخمسون سنّة تأمّة قمرية ، فلـمّا ضربنا عدد السنين التأمّة القمرية المذكورة في ثلاثمائة وأربعة وخمسين عدد أيام سنّة تأمّة قمرية وحصلنا الكبائس وزدناها عليها على القانون المقرر عندهم ، حصل ثمانية عشر آلاف وسبعمائة وأحد وثمانون وكان أوّل محرم سنّة هجرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الخميس بالأمر الأوسط كما ذكروه في الزيجات ، وعليه مدار عملهم.

قال العلامة الرازي وأولها وهو أوّل المحرم يوم الخميس بالأمر الأوسط وقول أهل الحديث يوم الجمعة بالرؤية وحساب الاجتماعات نعمل عليه ، وأرخ منهما في مستأنف الزمان ، انتهى.

١٨٠

فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين ، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة :

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطا واسعا لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أن القوابل [من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل].

ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسىعليه‌السلام «وكان الحمل خفيّا لم يظهر أثره على أم موسى» وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع ، وأنّها تحمل جنينا في بطنها وتوشك أن تضعه ، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.

وحين ولد موسىعليه‌السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطبع حبّه في قلبها ، وأنار جميع زوايا قلبها.

فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها : كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه «وأنال بذلك جائزتي» ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي ، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه ، فاهتمي بالمحافظة عليه ، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيرا.

ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت ، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر ، فارتبكت ولم تدر ما ذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الارتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار ، فلم يجدوا شيئا إلّا التنور المشتعل نارا فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت : إنّها صديقتي وقد

١٨١

جاءت زائرة فحسب ، فخرجواءايسين.

ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت «أخت موسى» عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه ، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور ، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالما وقد جعل الله النّار عليه بردا وسلاما «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالما من التنور.

لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة ، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.

وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد ، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر ، ولكن مع ذلك أحسّت بالاطمئنان أيضا.

كان ذلك من الله ولا بدّ أن يتحقق ، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.

فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضا» فطلبت منه أن يصنع صندوقا صغيرا.

فسألها النجار قائلا : ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الأمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع ، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.

فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلّادين ، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع ، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة ، فظن أولئك أنّه يستهزئ بهم فضربوه وطردوه ، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي ، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأولى من الارتجاج والعيّ ، وأخيرا فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي ، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.

ولعلّ الوقت كان فجرا والناس ـ بعد ـ نيام ، وفي هذه الحال خرجت أم

١٨٢

موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى ، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى ، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل ، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج ، فلو لا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولانكشف الأمر واتضح كل شيء.

ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأم بدقّة.

لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة «پروين اعتصامي» ـ بتصرف ـ تحكي صورة «تقريبية» عن ذلك الموقف :

أمّ موسى حين ألقت طفلها

للذي رب السما أوحى لها

نظرت للنيل يمضي مسرعا

آه لو تعرف حقا حالها

ودوي الموج فيه صاخب

وفتاها شاغل بلبالها

* * *

وتناغيه بصمت : ولدي

كيف يمضي بك هذا الزورق

دون ربان ، وإن ينسك من

هو ذو لطف فمن ذا يشفق

فأتاها الوحي : مهلا ، ودعي

باطل الفكر ووهما يزهق

* * *

إن موسى قد مضى للمنزل

فاتق الله ولا تستعجلي

قد تلقينا الذي ألقيته

بيد ترعى الفتى لا تجهلي

وخرير الماء أضحى مهده

في اهتزاز مؤنس إن تسألي

* * *

وله الموج رؤوما حدبا

فاق من يحدب أمّا وأبا

١٨٣

كل نهر ليس يطغى عبثا

إن أمر الله كان السببا

* * *

يأمر البحر فيغدو هائجا

وله الطوفان طوعا مائجا

عالم الإيجاد من آثاره

كل شيء لعلاه عارجا

* * *

أين تمضين دعيه فله

خير ربّ يرتضيه لا هجا

كل هذا من جهة!

ولكن تعالوا لنرى ما يجري في قصر فرعون؟!

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة ، ولم يكن له من الأبناء سواها ، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء ، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له : نتكهّن ونتوقع أن إنسانا يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها ، وكان فرعون وزوجه «آسية» في انتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيّام فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار ، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثل الصندوق «المجهول» الخفيّ أمام فرعون ، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.

بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه ، وفتح الصندوق على يده فعلا!.

فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها ، ودخل حبّه في قلوب الجميع ، ولا سيما قلب امرأة فرعون «آسية» وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(١) .

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن

__________________

(١) ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير «أبو الفتوح» و «مجمع البيان».

١٨٤

في هذا الصدد :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) .

كلمة «التقط» مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي ، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضا

وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدوا لدودا ، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة كان ما كان وحدث ما حدث وكما يقول علماء الأدب : إنّ اللام في الآية هنا( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ) هي «لا العاقبة» ليست «لام العلة» ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته ، وكيف أن هذه الجماعة «الفراعنة» عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل ، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ أبنائهم.

والتعبير ـ ضمنا ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحدا ، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون ، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول :( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) .

كانوا خاطئين في كل شيء ، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسىعليه‌السلام ، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم : خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(١)

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : إن الفرق بين «الخاطئ» «والمخطئ» هو أنّ الخاطئ هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته ، إلّا أنّه يخطئ في الأثناء صدفة ، فيتلف العمل.

١٨٥

ويستفاد من الآية التالية أن شجارا حدث ما بين فرعون وامرأته ، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه ، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) .

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت «الصندوق» وإلقاءه بين أمواج النيل ، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل ، وأن زوال ملكه على يده ، فجثم كابوس ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة ، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة ، وقالوا : ينبغي أن يذبح هذا الطفل ، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولدا ذكرا ، ولم يكن قلبها منسوجا من قماش عمال قصر فرعون ، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا :( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ! ) .

أجل ، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر ، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطرا ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة ، ولا يمكن مخالفتها أبدا

* * *

١٨٦

ملاحظة

تخطيط الله العجيب

إظهار القدرة ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوما جبارين ، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض ، فيهلكهم ويدمرهم تدميرا.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم ، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم ، وأن يصنعوا لأنفسهم سجنا يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا ، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّا.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيرا فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) )

التّفسير

عودة موسى إلى حضن أمّه :

في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة فأمّ موسى التي قلنا عنها : إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل ، بحسب ما فصّلنا آنفا اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها ، فقد أصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خاليا وفارغا منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها ، لكن لطف الله تداركها ، وكما يعبّر القرآن الكريم( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

١٨٨

«الفارغ» معناه الخالي ، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خاليا من كل شيء إلّا من ذكر موسى وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أم موسى من قبل ، ولكن مع الالتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماما أنّ أمّا تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلّا ولدها الرضيع ، ويبلغ بها الذهول درجة لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله ، ولتعلم أنّه بعين الله ، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّا.

كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظا في مكانه ، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ «الرباط» ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط : الحفظ والتقوية والاستحكام ، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته أي تثبيت قلب أم موسى ، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالاطمئنان ، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها ، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره( وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) .

كلمة «قصّيه» مأخوذة من مادة «قصّ» على زنة «نصّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء ، وإنّما سميّت القصّة قصّة لأنّها تحمل في طياتها أخبارا مختلفة يتبع بعضها بعضا.

فاستجابت «أخت موسى» لأمر أمّها ، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة ، حتى بصرت به من مكان بعيد ، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه

١٨٩

آل فرعون ويقول القرآن في هذا الصدد :( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) .

ولكن أولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

قال البعض : إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثا عن مرضعة له ، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر ، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه ، فرأت ـ من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أخرى لجملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أيضا.

فالعلامة «الطبرسي» لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن فرعون جاهل بالأمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تقهر!؟.

وعلى كل حال ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أمّه عاجلا ليطمئن قلبها ، لذلك يقول القرآن الكريم :( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

وطبيعي أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع ، فيجب البحث عن مرضع له ، ولا سيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون» تعلق قلبها به بشدّة ، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثا عن مرضع له ، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات ، أو أنّه لم يكن يتذوق

__________________

(١) «المراضع» جمع «مرضع» على زنة «مخبر» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها ، وقال البعض : (المراضع) جمع (مرضع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع ، أي ، «الأثداء» وقال البعض : يحتمل أن تكون الكلمة جمعا للمصدر الميمي «مرضع» بمعنى الرضاع ، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو

١٩٠

ألبانهن ، إذ يبدو لبن كلّ منهن مرّا في فمه ، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع ، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعا.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثا عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاء وضجيجا ، وما زال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتا أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل ، فقالت :( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) .

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبنا ، وقلب طافح بالمحبّة ، وقد فقدت وليدها ، وهي مستعدة أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسّر بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون ، فلمّا شمّ الطفل رائحة أمّه التقم ثديها بشغف كبير ، وأشرقت عيناه سرورا ، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم ، وامرأة فرعون هي الأخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضا.

ولعلهم قالوا للمرضع : أين كنت حتى الآن ، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّة فليتك جئت قبل الآن ، فمرحبا بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات : حين استقبل موسى ثدي أمّه ، قال هامان وزير فرعون لأم موسى : لعلك أمّه الحقيقية ، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك ، فقالت : أيّها الملك ، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب ، لم يأتي طفل رضيع إلّا قبل بي ، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(١) .

ونقرأ في هذا الصدد حديثا قال الراوي : فقلت للإمام الباقرعليه‌السلام ؛ فكم مكث موسى غائبا من أمّه حتى ردّه الله؟ قال «ثلاثة أيّام»(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٤ ، ص ٢٣١.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٦.

١٩١

وقال بعضهم : هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام الملوّثة بأموال السرقة ، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين ، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله( فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

هنا ينقدح سؤال مهم وهو : هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليل قوي لأيّ من الاحتمالين ، إلّا أن الاحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضا ، وهو : هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة ، أم أنّه حافظ على علاقته بأمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم : أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته ، وتربى موسى عندهما ، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون ، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسىعليه‌السلام بعد بعثته( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟! ) (٢) ، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة ، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسىعليه‌السلام بقي مع كمال الاحترام في

__________________

(١) تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة «تقرّ عينها» في ذيل الآية «٧٤» من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.

(٢) الشعراء ، الآية ١٨.

١٩٢

قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ ، إلّا أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله ، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان ، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط ، فواجه النزاع بنفسه «وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله»(١) .

* * *

__________________

(١) لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما ورد في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٣

الآيات

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام وحماية المظلومين :

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسىعليه‌السلام وما جرى له مع فرعون ، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه ، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً

١٩٤

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة.

وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين :

فقال بعض المفسّرين : المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية ، وغالبا ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة ، وغالبا ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم : إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني ، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب معاني الأخبار قال : فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال : «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى ، التحى»(١) .

وليس بين هذه التعابير فرق كبير ، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين «الحكم» و «العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح ، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فيدل بصورة جليّة على أن موسىعليه‌السلام كان جديرا بهذه المنزلة ، نظرا لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة ، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما لأنّ موسىعليه‌السلام يومئذ لم يبعث بعد ، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّا.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٥

على القضاء الصحيح وما شابه ذلك ، وقد منح الله هذه الأمور لموسىعليه‌السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفا.

ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسىعليه‌السلام لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون ، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا رغم أنّ جزئيات تلك الأعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى( دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) .

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسىعليه‌السلام على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون ، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوما بعد يوم حتى بلغت أوجها ، حكم عليه بالتبعيد عن العاصمة لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضا ، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة( عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم ، ولا تراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة ، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم : هو أوّل الليل ، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم ، وجماعة يذهبون للتنزه ، وآخرون لأماكن أخرى هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الشأن يقول : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين».

١٩٦

وقد ورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء»(١) .

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيرا ما تحدث الجنايات والفساد والانحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل ، ولا هم نائمون ، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادة ، وتنشط مراكز الفساد أيضا في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار ، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة ، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال ، موسى دخل المدينة ، وهنالك واجه مشادّة ونزاعا ، فاقترب من منطقة النزاع( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ) .

والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل ، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) .

فجاءه موسىعليه‌السلام لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم الذي يقال عنه أنّه كان طباخا في قصر فرعون ، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر ، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره ، فهوى إلى الأرض ميتا في الحال تقول الآية :( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (٢) .

وممّا لا شك فيه ، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني ، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضا ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٤٩ [باب ٢٠ من أبواب الصلوات المندوبة].

(٢) «وكز» مأخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد ، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام

١٩٧

ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام أسف على هذا الأمر( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

وبتعبير آخر : فإنّ موسىعليه‌السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي ، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل ، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسىعليه‌السلام إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسىعليه‌السلام فيقول :( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

ومن المسلم به أنّ موسىعليه‌السلام لم يصدر منه ذنب هنا ، بل ترك الأولى ، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة ، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون ، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام حين نجا بلطف الله من هذا المأزق( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ ) من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) . ومعينا للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين ، ويريد موسىعليه‌السلام أن يقول : إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبدا بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين ..».

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى ، إلّا أن هذا الاحتمال بعيد جدّا ، حسب الظاهر.

* * *

١٩٨

مسألتان

١ ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفا للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل ، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسىعليه‌السلام التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول :( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) .

وفي مكان آخر يقول :( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة ، وهو أن ما صدر من موسىعليه‌السلام هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر ، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي ، فلم يحتط ، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية ، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمرا هينا حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتا ، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل ، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدمعليه‌السلام التي تقدم شرحه في ذيل الآية (١٩) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في تفسير الآيات

١٩٩

المتقدمة :

«قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله «إنه» يعنى الشيطان «عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ » ـ وأمّا المراد من جملة ـ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي » يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة «فَاغْفِرْ لِي » أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ...».(١)

٢ ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام :

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول «الإعانة على الإثم» و «معاونة الظلمة» وتدل على أن واحدا من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين ، وتكون سببا لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساسا فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّا كان هم أفراد معدودون ، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة ، فهؤلاء القلّة المتفرعنون إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا ، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعا ، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي ، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380