مرآة العقول الجزء ١٠

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 441

مرآة العقول

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف:

الصفحات: 441
المشاهدات: 10719
تحميل: 5692


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 441 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 10719 / تحميل: 5692
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 10

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

قومه خيرا من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم.

قال أنه كان يسوس ما بين السماء والأرض.

وأقول : قد استدلوا من الجانبين بالآيات والأخبار كما أوردتها في الكتاب الكبير ، وذكرها هنا يوجب التطويل الكثير ، والظاهر من أكثر الأخبار والآثار عدم كونه من الملائكة وأنه لما كان مخلوطا بهم وتوجه الخطاب بالسجود إليهم شمله هذا الخطاب ، وقوله تعالى : «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ » مبني على التغليب الشائع في الكلام ، والله تعالى يعلم حقائق الأمور.

الحديث السابع : ضعيف.

« أن يرى » على بناء المجرد أو الأفعال« أن يحب الرجل قومه » إما محض المحبة فإنه من الجبلة الإنسانية أن يحب الرجل قومه وعشيرته وأقاربه أكثر من غيرهم ، وقلما ينفك عنه أحد والظاهر أنه ليس من الصفات الذميمة ، أو بالإفعال أيضا بأن يسعى في حوائجهم أكثر من السعي في حوائج غيرهم ، ويبذل لهم المال أكثر من غيرهم ، والظاهر أن هذا أيضا غير مذموم شرعا بل ممدوح ، فإن أكثره من صلة الرحم وبعضه من رعاية الإخلاء والإخوان والأصحاب وقد مر عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في باب صلة الرحم الحث على جميع ذلك وعن غيرهعليه‌السلام فظهر أن العصبية المذمومة إما إعانة قومه على الظلم أو إثبات ما ليس فيهم لهم أو التفاخر بالأمور الباطلة التي توجب المنفعة أو تفضيلهم على غيرهم من غير فضل ، وغير ذلك مما تقدم ذكره.

١٨١

(باب الكبر )

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن أبان ، عن حكيم قال سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن أدنى الإلحاد فقال إن الكبر أدناه

باب الكبر

الحديث الأول : مجهول.

وقال الراغب :ألحد فلان مال عن الحق والإلحاد ضربان إلحاد إلى الشرك بالله وإلحاد إلى الشرك بالأسباب فالأول ينافي الإيمان ويبطله ، والثاني يوهن عراه ولا يبطله ومن هذا النحو ، قوله عز وجل : «وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ »(١) وقال :الكبر الحالة التي يخصص بها الإنسان من إعجابه بنفسه وذلك أن يرى الإنسان نفسه أكبر من غيره ، وأعظم التكبر التكبر على الله بالامتناع من قبول الحق والإذعان له بالعبادة ، والاستكبار يقال على وجهين أحدهما : أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير كبيرا وذلك متى كان على ما يجب ، وفي المكان الذي يجب ، وفي الوقت الذي يجب فمحمود ، والثاني أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له ، وهذا هو المذموم وعلى هذا ما ورد في القرآن وهو ما قال تعالى : «أَبى وَاسْتَكْبَرَ »(٢) «أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ »(٣) «وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً »(٤) وقال تعالى : «فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ »(٥) الذين يستكبرون في الأرض «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ »(٦) «قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ »(٧) «فَيَقُولُ

__________________

(١) سورة الحجّ : ٢٥.

(٢ و ٣) سورة البقرة : ٣٣ و ٨٧.

(٤) سورة نوح : ٧.

(٥) سورة العنكبوت : ٣٩.

(٦) سورة الأعراف : ٤٠.

(٧) سورة الأعراف : ٤٧.

١٨٢

الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا »(١) قابل المستكبرين بالضعفاء تنبيها على أن استكبارهم كان بما لهم من القوة في البدن والمال «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا »(٢) فقابل بالمستكبرين المستضعفين «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ »(٣) نبه تعالى بقوله : «فَاسْتَكْبَرُوا » على تكبرهم وإعجابهم بأنفسهم وتعظمهم عن الإصغاء إليه ونبه بقوله : «وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ » على أن الذي حملهم على ذلك هو ما تقدم من جرمهم وأن ذلك لم يكن شيئا حدث منهم ، بل كان ذلك دأبهم قبل «فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ » وقال بعده : «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ » والتكبر يقال على وجهين أحدهما : أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة وزائدة على محاسن غيره وعلى هذا وصف الله تعالى بالمتكبر ، قال تعالى : «الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ »(٤) الثاني : أن يكون متكلفا لذلك متشبعا وذلك في وصف عامة الناس نحو قوله : «فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ »(٥) وقوله : «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ »(٦) ومن وصف بالتكبر على الوجه الأول فمحمود ، ومن وصف به على الوجه الثاني فمذموم ، ويدل على أنه قد يصح أن يوصف الإنسان بذلك ولا يكون مذموما قوله تعالى : «سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ »(٧) فجعل المتكبرين بغير الحق مصروفا ، والكبرياء الترفع عن الانقياد ، وذلك لا يستحقه غير الله ، قال تعالى : «وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ »(٨) ولما قلنا روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول عن الله تعالى : الكبرياء

__________________

(١) سورة غافر : ٤٧.

(٢) سورة الأعراف : ٧٥.

(٣) سورة يونس : ٧٥.

(٤) سورة الحشر : ٢٣.

(٥) سورة الزمر : ٧٢.

(٦) سورة غافر : ٣٥.

(٧) سورة الأعراف : ١٤٦.

(٨) سورة الجاثية : ٣٧.

١٨٣

ردائي والعظمة إزاري ، فمن نازعني في شيء منهما قصمته «قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ »(١) انتهى.

وأقول : الآيات والأخبار في ذم الكبر ومدح التواضع أكثر من أن تحصى ، وقال الشهيد قدس الله روحه : الكبر معصية والأخبار كثيرة في ذلك ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر ، فقالوا : يا رسول الله إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسنا وفعله حسنا فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، ولكن الكبر بطر الحق وغمص الناس ، بطر الحق رده على قائله والغمص بالصاد المهملة الاحتقار ، والحديث مأول بما يؤدي إلى الكفر أو يراد أنه لا يدخل الجنة مع دخول غير المتكبر بل بعده وبعد العذاب في النار ، وقد علم منه أن التجمل ليس من التكبر في شيء ، انتهى.

وقيل : الكبر ينقسم إلى باطن وظاهر فالباطن هو خلق في النفس والظاهر هو أعمال تصدر من الجوارح ، واسم الكبر بالخلق الباطن أحق ، وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق ، ولذلك إذا ظهر على الجوارح يقال له تكبر وإذا لم يظهر يقال له في نفسه كبر ، فالأصل هو الخلق الذي في النفس ، وهو الاسترواح إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه ، فإن الكبر يستدعي متكبرا عليه ومتكبرا به ، وبه ينفصل الكبر عن العجب ، فإن العجب لا يستدعي غير المعجب ، بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون معجبا ، ولا يتصور أن يكون متكبرا إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال ، بأن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره ، فعند هذه الاعتقادات

__________________

(١) سورة يونس : ٧٨.

١٨٤

الثلاثة يحصل فيه خلق الكبر إلا أن هذه الرؤية هي الكبر ، بل هذه الرؤية وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في قلبه اغترار وهزة وفرح وركون إلى ما اعتقده وعز في نفسه بسبب ذلك ، فتلك العزة والهزة والركون إلى المعتقد هو خلق الكبر ، ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعوذ بك من نفخة الكبرياء ، فالكبر عبارة عن الحالة الحاصلة في النفس من هذه الاعتقادات ويسمى أيضا عزا وتعظما ، ولذلك قال ابن عباس في قوله تعالى : «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ »(١) فقال : عظمة لم يبلغوها ثم هذه العزة تقتضي أعمالا في الظاهر والباطن ، وهي ثمراته ويسمى ذلك تكبرا فإنه مهما عظم عنده قدر نفسه بالإضافة إلى غيره حقر من دونه وازدرأه وأقصاه من نفسه وأبعده وترفع عن مجالسته ومؤاكلته ، ورأى أن حقه أن يقوم ماثلا بين يديه إن اشتد كبره ، فإن كان كبره أشد من ذلك استنكف عن استخدامه ولم يجعله أهلا للقيام بين يديه ، فإن كان دون ذلك يأنف عن مساواته ويتقدم عليه في مضائق الطرق وارتفع عليه في المحافل ، وانتظر أن يبدأه بالسلام وإن حاج أو ناظر استنكف أن يرد عليه ، وإن وعظ أنف من القبول وإن وعظ عنف في النصح ، وإن رد عليه شيء من قوله غضب ، وإن علم لم يرفق بالمتعلمين واستذلهم وانتهرهم وأمتن عليهم واستخدمهم ، وينظر إلى العامة كما ينظر إلى الحمير استجهالا لهم واستحقارا ، والأعمال الصادرة من الكبر أكثر من أن تحصى.

فهذا هو الكبر وآفته عظيمة وفيه يهلك الخواص والعوام وكيف لا تعظم آفته وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر ، وإنما صار حجابا عن الجنة لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها ، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة ، والكبر وعز النفس تغلق تلك الأبواب كلها ، لأنه مع تلك الحالة لا يقدر على حبه للمؤمنين ما يحب لنفسه ، ولا على التواضع

__________________

(١) سورة غافر : ٥٦.

١٨٥

وهو رأس أخلاق المتقين ، ولا على كظم الغيظ ، ولا على ترك الحقد ، ولا على الصدق ولا على ترك الحسد والغضب ، ولا على النصح اللطيف ولا على قبوله ، ولا يسلم من الإزراء بالناس واغتيابهم ، فما من خلق ذميم إلا وصاحب الكبر والعز مضطر إليه ليحفظ به عزه ، وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه خوفا من أن يفوته عزه ، فعن هذا لم يدخل الجنة.

وشر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم وقبول الحق والانقياد له ، وفيه وردت الآيات التي فيها ذم المتكبرين كقوله سبحانه : «وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ »(١) وأمثالها كثيرة ، ولذلك ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جحود الحق في حد الكبر والكشف عن حقيقته ، وقال : من سفه الحق وغمص الناس.

ثم اعلم أن المتكبر عليه هو الله أو رسله أو سائر الخلق ، فهو بهذه الجملة ثلاثة أقسام :

الأول التكبر على الله وهو أفحش أنواعه ، ولا مثار له إلا الجهل المحض والطغيان مثل ما كان لنمرود وفرعون.

الثاني : التكبر على الرسل والأوصياءعليهم‌السلام كقولهم : «أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا »(٢) «وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ »(٣) «وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً »(٤) وهذا قريب من التكبر على الله وإن كان دونه ، ولكنه تكبر عن قبول أمر الله.

الثالث : التكبر على العباد وذلك بأن يستعظم نفسه ويستحقر غيره فتأبى نفسه عن الانقياد لهم وتدعوه إلى الترفع عليهم ، فيزدريهم ويستصغرهم ويأنف عن مساواتهم ، وهذا وإن كان دون الأول والثاني ، فهو أيضا عظيم من وجهين :

__________________

(١) سورة الأنعام : ٩٣.

(٢ و ٣) سورة المؤمنون : ٤٧ و ٣٤.

(٤) سورة الفرقان : ٢٤.

١٨٦

أحدهما : أن الكبر والعزة والعظمة لا يليق إلا بالمالك القادر ، فأما العبد الضعيف الذليل المملوك العاجز الذي لا يقدر على شيء فمن أين يليق به الكبر ، فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا يليق إلا بجلاله ، وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى : العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته ، أي أنه خاص صفتي ولا يليق إلا بي ، والمنازع فيه منازع في صفة من صفاتي ، فإذا كان التكبر على عباده لا يليق إلا به فمن تكبر على عباده فقد جنى عليه إذ الذي استرذل خواص غلمان الملك ويستخدمهم ويترفع عليهم ويستأثر بما حق الملك أن يستأثر به منهم ، فهو منازع له في بعض أمره وإن لم يبلغ درجته درجة من أراد الجلوس على سريره والاستبداد بملكه ، كمدعي الربوبية.

والوجه الثاني : أنه يدعو إلى مخالفة الله تعالى في أوامره لأن المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عباد الله استنكف عن قبوله ويشمئز بجحده ، ولذلك ترى المناظرين في مسائل الدين يزعمون أنهم يتباحثون عن أسرار الدين ثم إنهم يتجاحدون تجاحد المتكبرين ، ومهما اتضح الحق على لسان أحدهم أنف الآخر من قبوله ويتشمر بجحده ، ويحتال لدفعه بما يقدر عليه من التلبيس ، وذلك من أخلاق الكافرين والمنافقين إذ وصفهم الله تعالى فقال : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ »(١) وكذلك يحمل ذلك على الأنفة من قبول الوعظ كما قال تعالى : «وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ »(٢) .

وتكبر إبليس من ذلك ، فهذه آفة من آفات الكبر عظيمة ، ولهذا شرح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكبر بهاتين الآفتين إذ سأله ثابت بن قيس فقال : يا رسول الله إني امرؤ حبب إلى من الجمال ما ترى أفمن الكبر هو؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ولكن الكبر

__________________

(١) سورة فصّلت : ٤٦.

(٢) سورة البقرة : ٢٠٦.

١٨٧

من بطر الحق وغمص الناس ، وفي حديث آخر من سفه الحق ، وقوله : غمص الناس أي ازدرأهم واستحقرهم وهم عباد الله أمثاله وخير منه ، وهذه الآفة الأولى وقوله : سفه الحق هو رده به ، وهذه الآفة الثانية.

ثم اعلم أنه لا يتكبر إلا من استعظم نفسه ، ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال ، ومجامع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي ، والديني هو العلم والعمل ، والدنيوي هو النسب والجمال والقوة والمال وكثرة الأنصار ، فهذه سبعة.

الأول : العلم وما أسرع الكبر إلى العلماء ولذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آفة العلم الخيلاء ، فهو يتعزز بعز العلم ويستعظم نفسه ، ويستحقر الناس ، وينظر إليهم نظره إلى البهائم ، ويتوقع منهم الإكرام والابتداء بالسلام ، ويستخدمهم ولا يعتني بشأنهم ، هذا فيما يتعلق بالدنيا وأما في أمر الآخرة فبأن يرى نفسه عند الله أعلى وأفضل منهم ، فيخاف عليهم أكثر مما يخافه على نفسه ، ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم ، وهذا بأن يسمى جاهلا أولى من أن يسمى عالما بل العلم الحقيقي هو الذي يعرف الإنسان به نفسه وربه وخطر الخاتمة ، وحجة الله على العلماء ، وعظم خطر العلم فيه ، وهذه العلوم تزيد خوفا وتواضعا وتخشعا ويقتضي أن يرى أن كل الناس خير منه لعظم حجة الله عليه بالعلم وتقصيره في القيام بشكر نعمة العلم.

فإن قلت : فما بال بعض الناس يزداد بالعلم كبرا وأمنا؟

فاعلم أن له سببين : أحدهما أن يكون اشتغاله بما يسمى علما وليس بعلم حقيقي وإنما العلم الحقيقي ما يعرف العبد به نفسه وربه ، وخطر أمره في لقاء الله والحجاب عنه ، وهذا يورث الخشية والتواضع دون الكبر والأمن ، قال الله تعالى

١٨٨

«إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ »(١) فأما وراء ذلك كعلم الطب والحساب واللغة والشعر والنحو وفصل الخصومات وطرق المجادلات ، فإذا تجرد الإنسان لها حتى امتلاء بها ، امتلاء كبرا ونفاقا وهذه بأن تسمى صناعات أولى من أن تسمى علوما ، بل العلم هو معرفة العبودية والربوبية وطريق العبادة ، وهذا يورث التواضع غالبا.

السبب الثاني : أن يخوض العبد في العلم ، وهو خبيث الدخلة رديء النفس سني الأخلاق ، فلم يشتغل أولا بتهذيب نفسه وتزكية قلبه بأنواع المجاهدات ، ولم يرض نفسه في عبادة ربه فبقي خبيث الجوهر ، فإذا خاض في العلم أي علم كان صادف العلم قلبه منزلا خبيثا ، فلم يطب ثمره ولم يظهر في الخير أثره ، وقد ضرب وهب لهذا مثلا فقال : العلم كالغيث ينزل من السماء حلوا صافيا فتشربه الأشجار بعروقها فتحوله على قدر طعومها ، فيزداد المر مرارة والحلو حلاوة ، وكذلك العلم يحفظه الرجال فيحوله على قدر هممهم وأهوائهم فيزيد المتكبر تكبرا ، والمتواضع تواضعا وهذا لأن من كانت همته الكبر وهو جاهل فإذا حفظ العلم وجد ما يتكبر به ، فازداد كبرا وإذا كان خائفا مع جهله فإذا ازداد علما علم أن الحجة قد تأكدت عليه ، فيزداد خوفا وإشفاقا وتواضعا فالعلم من أعظم ما به يتكبر.

الثاني : العمل والعبادة وليس يخلو عن رذيلة العز والكبر واستمالة قلوب الناس ، الزهاد والعباد ، ويترشح الكبر منهم في الدنيا والدين ، أما الدنيا فهو أنهم يرون غيرهم بزيارتهم أولى من أنفسهم بزيارة غيرهم ، ويتوقعون قيام الناس بحوائجهم وتوقيرهم والتوسيع لهم في المجالس ، وذكرهم بالورع والتقوى ، وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ ، إلى غير ذلك مما مر في حق العلماء ، وكأنهم يرون عبادتهم

__________________

(١) سورة فاطر : ٢٨.

١٨٩

منة على الخلق ، وأما في الدين فهو أن يرى الناس هالكين ويرى نفسه ناجيا وهو الهالك تحقيقا مهما رأى ذلك ، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا سمعتم الرجل يقول : هلك الناس فهو أهلكهم ، وروي أن رجلا في بني إسرائيل يقال له خليع بني إسرائيل لكثرة فساده ، مر برجل آخر يقال له عابد بني إسرائيل ، وكان على رأس العابد غمامة تظله لما مر الخليع به ، فقال الخليع في نفسه : أنا خليع بني إسرائيل وهذا عابد بني إسرائيل فلو جلست إليه لعل الله يرحمني فجلس إليه ، فقال العابد في نفسه : أنا عابد بني إسرائيل كيف يجلس إلى؟ فأنف منه ، وقال له : قم عني ، فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان مر هما فليستأنفا العمل فقد غفرت للخليع وأحبطت عمل العابد وفي حديث آخر : فتحولت الغمامة إلى رأس الخليع.

وهذه آفة لا ينفك عنها أحد من العباد إلا من عصمه الله ، لكن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاث درجات :

الدرجة الأولى : أن يكون الكبر مستقرا في قلبه يرى نفسه خيرا من غيره إلا أنه يجتهد ويتواضع ويفعل فعل من يرى غيره خيرا من نفسه ، وهذا قد رسخت في قلبه شجرة الكبر ولكنه قطع أغصانها بالكلية.

الثانية : أن يظهر ذلك على أفعاله بالترفع في المجالس والتقدم على الأقران وإظهار الإنكار على من يقصر في حقه ، وأدنى ذلك في العالم أن يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم ، وفي العابد أن يعبس وجهه ويقطب جبينه كأنه متنزه عن الناس مستقذر لهم أو غضبان عليهم ، وليس يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى يقطبها ، ولا في الوجه حتى يعبس ، ولا في الخد حتى يصعر ، ولا في الرقبة حتى يطأطئ ، ولا في الذيل حتى يضم ، إنما الورع في القلوب ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : التقوى هيهنا ، وأشار إلى صدره.

وهؤلاء أخف حالا ممن هو في المرتبة الثالثة ، وهو الذي يظهر الكبر على

١٩٠

لسانه حتى يدعوه إلى الدعوى والمفاخرة والمباهاة وتزكية النفس ، أما العابد فإنه يقول في معرض التفاخر لغيره من العباد : من هو؟ وما عمله؟ ومن أين زهده؟ فيطيل اللسان فيهم بالتنقص ، ثم يثني على نفسه ويقول إني لم أفطر منذ كذا وكذا ، ولا أنام بالليل وفلان ليس كذلك ، وقد يزكي نفسه ضمنا فيقول : قصدني فلان فهلك ولده وأخذ ماله أو مرض وما يجري مجراه ، هذا يدعي الكرامة لنفسه ، وأما العالم فإنه يتفاخر ويقول : أنا متفنن في العلوم ومطلع على الحقائق ، رأيت من الشيوخ فلانا وفلانا ومن أنت وما فضلك؟ ومن لقيته؟ وما الذي سمعت من الحديث؟ كل ذلك ليصغره ويعظم نفسه ، فهذا كله أخلاق الكبر وآثاره التي يثمرها التغرز بالعلم والعمل ، وأين من يخلو من جميع ذلك أو عن بعضه.

يا ليت شعري من عرف هذه الأخلاق من نفسه وسمع قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كيف يستعظم نفسه ويتكبر على غيره وهو بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل النار ، وإنما العظيم من خلا عن هذا ، ومن خلا عنه لم يكن فيه تعظيم وتكبر.

الثالث : التكبر بالنسب والحسب ، فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملا وعلما ، وثمرته على اللسان التفاخر به ، وذلك عرق دقيق في النفس لا ينفك عنه نسب وإن كان صالحا أو عاقلا إلا أنه قد لا يترشح منه عند اعتدال الأحوال ، فإن غلبه غضب أطفأ ذلك نور بصيرته وترشح منه.

الرابع : التفاخر بالجمال ، وذلك يجري أكثره بين النساء ويدعو ذلك إلى التنقص والثلب والغيبة ، وذكر عيوب الناس.

الخامس : الكبر بالمال وذلك يجري بين الملوك في الخزائن وبين التجار في بضائعهم وبين الدهاقين في أراضيهم ، وبين المتجملين في لباسهم وخيولهم ومراكبهم ، فيستحقر الغني الفقير ويتكبر عليه ، ومن ذلك تكبر قارون.

١٩١

السادس : الكبر بالقوة وشدة البطش والتكبر به على أهل الضعف.

السابع : التكبر بالأتباع والأنصار والتلاميذ والغلمان والعشيرة والأقارب والبنين ويجري ذلك بين الملوك في المكاثرة في الجنود وبين العلماء بالمكاثرة بالمستفيدين.

وبالجملة فكل ما هو نعمة وأمكن أن يعتقد كمالا وإن لم يكن في نفسه كمالا أمكن أن يتكبر به حتى أن المخنث ليتكبر على أقرانه بزيادة قدرته ومعرفته في صفة المخنثين لأنه يرى ذلك كمالا فيفتخر به وإن لم يكن فعله إلا نكالا.

وأما بيان البواعث على التكبر فاعلم أن الكبر خلق باطن وأما ما يظهر من الأخلاق والأعمال فهو ثمرتها ونتيجتها ، وينبغي أن تسمى تكبرا ويخص اسم الكبر بالمعنى الباطن الذي هو استعظام النفس ورؤية قدر لها فوق قدر الغير ، وهذا الباطن له موجب واحد وهو العجب ، فإنه إذا أعجب بنفسه وبعمله وعمله ، أو بشيء من أسبابه استعظم نفسه وتكبر.

وأما الكبر الظاهر فأسبابه ثلاثة : سبب في المتكبر ، وسبب في المتكبر عليه وسبب يتعلق بغيرهما ، أما السبب الذي في المتكبر فهو العجب ، والذي يتعلق بالمتكبر عليه هو الحقد والحسد ، والذي يتعلق بغيرهما هو الرياء ، فالأسباب بهذا الاعتبار أربعة : العجب والحقد والحسد والرياء ، أما العجب فقد ذكرنا أنه يورث الكبر ، والكبر الباطن يثمر التكبر الظاهر في الأعمال والأقوال والأفعال ، وأما الحقد فإنه قد يحمل على التكبر من غير عجب ويحمله ذلك على رد الحق إذا جاء من جهته ، وعلى الأنفة من قبول نصحه ، وعلى أن يجتهد في التقدم عليه ، وإن علم أنه لا يستحق ذلك ، وأما الحسد فإنه يوجب البغض للمحسود وإن لم يكن من جهته إيذاء وسبب يقتضي الغضب والحقد ويدعو الحسد أيضا إلى جحد الحق ، حتى يمتنع

١٩٢

من قبول النصح وتعلم العلم ، فكم من جاهل يشتاق إلى العلم وقد بقي في الجهل لاستنكافه أن يستفيد من واحد من أهل بلده وأقاربه حسدا وبغيا عليه.

وأما الرياء فهو أيضا يدعو إلى أخلاق المتكبرين حتى أن الرجل ليناظر من يعلم أنه أفضل منه وليس بينه وبينه معرفة ولا محاسدة ولا حقد ، ولكن يمتنع من قبول الحق منه خيفة من أن يقول الناس أنه أفضل منه ، وأما معالجة الكبر واكتساب التواضع فهو علمي وعملي أما العلمي فهو أن يعرف نفسه وربه ويكفيه ذلك في إزالته فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل وأقل من كل قليل بذاته ، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة والمهانة ، وإذا عرف ربه علم أنه لا يليق العظمة والكبرياء إلا بالله ، أما معرفة ربه وعظمته ومجده فالقول فيه يطول وهو منتهى علم الصديقين ، وأما معرفته نفسه فكذلك أيضا يطول ويكفيه أن يعرف معنى آية واحدة من كتاب الله تعالى ، فإن في القرآن علم الأولين والآخرين لمن فتحت بصيرته وقد قال تعالى : «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ، ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ »(١) فقد أشارت الآية إلى أول خلق الإنسان وإلى آخر أمره وإلى وسطه ، فلينظر الإنسان ذلك ليفهم معنى هذه الآية أما أول الإنسان فهو أنه لم يكن شيئا مذكورا ، وقد كان ذلك في كتم العدم دهورا ، بل لم يكن لعدمه أول فأي شيء أخس وأقل من المحو والعدم ، وقد كان كذلك في القدم ، ثم خلقه الله تعالى من أذل الأشياء ثم من أقذرها إذ خلقه من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم جعله عظاما ثم كسى العظام لحما فقد كان هذا بداية وجوده حيث صار شيئا مذكورا ، فما صار مذكورا إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت إذ لم يخلق في ابتدائه كاملا بل خلقه جمادا ميتا لا يسمع ولا يبصر ، ولا يحس ولا يتحرك ولا ينطق ولا يبطش ولا يدرك ، ولا يعلم

__________________

(١) سورة عبس : ١٧ ـ ٢٤.

١٩٣

فبدا بموته قبل حياته ، وبضعفة قبل قوته ، وبجهله قبل علمه ، وبعماه قبل بصره ، وبصممه قبل سمعه ، وببكمه قبل نطقه ، وبضلالته قبل هداه ، وبفقره قبل غناه ، وبعجزه قبل قدرته.

فهذا معنى قوله تعالى : «هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ، إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ »(١) كذلك خلقه أولا ثم أمتن عليه فقال : «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ » وهذه إشارة إلى ما تيسر له في مدة حياته إلى الموت ، ولذلك قال : «مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ، إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ » ومعناه أنه أحياه بعد أن كان جمادا ميتا ترابا أولا ، ونطفة ثانيا ، وأسمعه بعد ما كان فاقد البصر ، وقواه بعد الضعف وعلمه بعد الجهل ، وخلق له الأعضاء بما فيها من العجائب والآيات بعد الفقد لها ، وأغناه بعد الفقر وأشبعه بعد الجوع ، وكساه بعد العري ، وهداه بعد الضلال ، فانظر كيف دبره وصوره وإلى السبيل كيف يسره وإلى طغيان الإنسان ما أكفره ، وإلى جهل الإنسان كيف أظهره ، فقال تعالى : «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ »(٢) «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ »(٣) .

فانظر إلى نعمة الله عليه كيف نقله من تلك القلة والذلة والخسة والقذارة إلى هذه الرفعة والكرامة ، فصار موجودا بعد العدم وحيا بعد الموت ، وناطقا بعد البكم ، وبصيرا بعد العمى ، وقويا بعد الضعف ، وعالما بعد الجهل ، ومهتديا بعد الضلالة ، وقادرا بعد العجز ، وغنيا بعد الفقر ، فكان في ذاته لا شيء ، وأي شيء

__________________

(١) سورة الدهر : ١ ـ ٢.

(٢) سورة يس : ٧٧.

(٣) سورة الروم : ٢٠.

١٩٤

أخس من لا شيء ، وأي قلة أقل من العدم المحض ، ثم صار بالله شيئا وإنما خلقه من التراب الذليل ، والنطفة القذرة بعد العدم المحض ، ليعرف خسة ذاته فيعرف به نفسه ، وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه ، ويعلم بها عظمته وجلاله ، وأنه لا يليق الكبرياء إلا به ، ولذلك امتن عليه فقال تعالى : «أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ »(١) وعرف خسته أولا فقال : «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً »(٢) ثم ذكر مننه فقال : «فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى » ليدوم وجوده بالتناسل كما حصل وجوده ابتداء بالاختراع ، فمن كان هذا بدؤه وهذه أحواله فمن أين له البطر والكبرياء والفخر والخيلاء ، وهو على التحقيق أخس الأخساء وأضعف الضعفاء ، نعم لو أكمله وفوض إليه أمره وأدام له الوجود باختياره لجاز أن يطفئ وينسى المبدأ والمنتهى ، ولكنه سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة والأسقام العظيمة ، والآفات المختلفة ، والطبائع المتضادة من المرة والبلغم ، والريح والدم ، ليهدم البعض من أجزائه البعض ، شاء أم أبي ، رضي أم سخط ، فيجوع كرها ويعطش كرها ويمرض كرها ويموت كرها ، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا خيرا ولا شرا يريد أن يعلم الشيء فيجهله ، ويريد أن يذكر الشيء فينساه ، ويريد أن ينسى الشيء فيغفل عنه فلا يغفل ، ويريد أن ينصرف قلبه إلى ما يهمه فيجول في أودية الوسواس والأفكار بالاضطرار ، فلا يملك قلبه قلبه ولا نفسه نفسه ، يشتهي الشيء وربما يكون هلاكه فيه ، ويكره الشيء وتكون حياته فيه ، يستلذ الأطعمة فتهلكه وترديه ، ويستبشع الأدوية وهي تنفعه وتحييه ، لا يأمن في لحظة من ليله ونهاره أن يسلب سمعه وبصره وعلمه وقدرته ، وتفلج أعضاؤه ، ويختلس عقله ، ويختطف روحه ، ويسلب

__________________

(١) سورة البلد : ٨ ـ ٩.

(٢) سورة القيامة : ٣٨.

١٩٥

جميع ما يهواه في دنياه ، وهو مضطر ذليل ، إن ترك ما بقي وإن اختطف فنى ، عبد مملوك لا يقدر على شيء من نفسه ، ولا من غيره.

فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه ، وأنى يليق الكبر به لو لا جهله ، فهذا أوسط أحواله فليتأمله.

وأما آخره ومورده فهو الموت المشار إليه بقوله تعالى : «ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ » ومعناه أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته ، فيعود جمادا كما كان أول مرة ، لا تبقى إلا شكل أعضائه وصورته ، لا حس فيه ولا حركة ، ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة كما كان في الأول نطفة قذرة ثم تبلى أعضاؤه وصورته وتفتت أجزائه وتنخر عظامه فتصير رميما ورفاتا ، وتأكل الدود أجزاءه فيبتدئ بحدقتيه فيقلعهما ، وبخديه فيقطعهما ، وبسائر أجزائه فتصير روثا في أجواف الديدان ، وتكون جيفة تهرب منه الحيوان ، ويستقذره كل إنسان ، ويهرب منه لشدة الإنتان ، وأحسن أحواله أن يعود إلى ما كان فيصير ترابا يعمل منه الكيزان ، أو يعمر به البنيان ويصير مفقودا بعد ما كان موجودا ، وصار كان لم يغن بالأمس حصيدا كما كان أول مرة أمدا مديدا ، وليته بقي كذلك فما أحسنه لو تركه ترابا لا بل يحييه بعد طول البلى ليقاسى شدائد البلاء ، فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرقة ، ويخرج إلى أحوال القيامة فينظر إلى قيامة قائمة وسماء ممزقة مشققة وأرض مبدلة وجبال مسيرة ، ونجوم منكدرة وشمس منكسفة وأحوال مظلمة وملائكة غلاظ شداد ، وجحيم تزفر ، وجنة ينظر إليه المجرم فيتحسر ويرى صحائف منشورة ، فيقال له : اقرأ كتابك ، فيقول وما هو؟ فيقال : كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها وتتكبر بنعيمها ، وتفتخر بأسبابها ملكان رقيبان يكتبان عليك ما تنطق به أو

١٩٦

تعمله ، من قليل وكثير ونقير وقطمير ، وأكل وشرب وقيام وقعود ، وقد نسيت ذلك وأحصاه الله فهلم إلى الحساب واستعد للجواب أو يساق إلى دار العذاب ، فيتقطع قلبه هول هذا الخطاب من قبل أن ينشر الصحف ويشاهد ما فيها من مخازيه ، فإذا شاهدها قال : «يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها »(١) .

فهذا آخر أمره ، وهو معنى قوله عز وجل : «ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ » فما لمن هذه حاله والتكبر ، بل ماله وللفرح في لحظة فضلا عن البطر والتجبر فقد ظهر له أول حاله ووسطه ، ولو ظهر آخره والعياذ بالله ربما اختار أن يكون كلبا وخنزيرا ليصير مع البهائم ترابا ، ولا يكون إنسانا يسمع خطابا ، ويلقى عذابا وإن كان عند الله مستحقا للنار ، فالخنزير أشرف منه وأطيب وأرفع إذ أوله التراب وآخره التراب ، وهو بمعزل عن الحساب والعذاب ، والكلب والخنزير لا يهرب منه الخلق ولو رأى أهل الدنيا العبد المذنب في النار لصعقوا من وحشة خلقته ، وقبح صورته ولو وجدوا ريحه لماتوا من نتنه ، ولو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقاه في بحار الدنيا لصارت أنتن من الجيف.

فمن هذا حاله في العاقبة إلا أن يعفى عنه وهو على شك من العفو فكيف يتكبر ، وكيف يرى نفسه شيئا حتى يعتقد لها فضلا ، وأي عبد لم يذنب ذنبا استحق به العقوبة إلا أن يعفو الكريم بفضله ، أرأيت من جنى على بعض الملوك بما استحق به ألف سوط فحبس في السجن وهو منتظر أن يخرج إلى العرض ويقام عليه العقوبة على بلاء من الخلق ، وليس يدري أيعفى عنه أم لا ، كيف يكون ذلة في السجن أفترى أنه يتكبر على من معه في السجن وما من عبد مذنب إلا والدنيا

__________________

(١) سورة الكهف : ٤٩.

١٩٧

سجنه ، وقد استحق العقوبة من الله تعالى ، ولا يدري كيف يكون أمره فيكفيه ذلك حزنا وخوفا وإشفاقا ومهانة وذلا فهذا هو العلاج العلمي القاطع لأصل الكبر.

وأما العلاج العملي فهو التواضع بالفعل لله تعالى ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين ، وما وصل إليه من أحوال الصالحين ، ومن أحوال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنه كان يأكل على الأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، وقيل لسلمان : لم لا تلبس ثوبا جيدا؟ فقال : إنما أنا عبد فإذا أعتقت يوما لبست ، أشار به إلى العتق في الآخرة ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل ، فمن عرف نفسه فلينظر كل ما يتقاضاه الكبر من الأفعال ، فليواظب على نقيضها حتى يصير التواضع له خلقا ، وقد ورد في الأخبار الكثيرة علاج الكبر بالأعمال وبيان أخلاق المتواضعين.

قيل : اعلم أن التكبر يظهر في شمائل الرجل كصعر في وجهه ونظره شزرا وإطراقه رأسه ، وجلوسه متربعا ومتكئا ، وفي أقواله حتى في صوته ونغمته وصفته في الإيراد ويظهر في مشيته وتبختره وقيامه وجلوسه وفي حركاته وسكناته ، وفي تعاطيه ولأفعاله وسائر تقلباته في أحواله وأعماله ، فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله ، ومنهم من يتكبر في بعض.

فمنها : التكبر بأن يحب قيام الناس له أو بين يديه ، وقد قال علي صلوات الله عليه : من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل قاعد وبين يديه قوم قيام ، وقال أنس : لم يكن شخص أحب إليهم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانوا إذا رأوه لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك.

ومنها : أن لا يمشي إلا ومعه غيره يمشي خلفه ، قال أبو الدرداء : لا يزال

١٩٨

العبد يزداد من الله بعدا ما مشى خلفه ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الأوقات يمشي مع الأصحاب فيأمرهم بالتقدم ويمشي في غمارهم.

ومنها : أن لا يزور غيره وإن كان يحصل من زيارته خير لغيره في الدين ، وهو ضد التواضع.

ومنها : أن يستنكف من جلوس غيره بالقرب منه إلا أن يجلس بين يديه ، والتواضع خلافه ، قال أنس : كانت الوليدة من ولائد المدينة تأخذ بيد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ينزع يده منها حتى تذهب به حيث شاءت.

ومنها : أن يتوقى مجالسته المرضى والمعلولين ويتحاشى عنهم وهو كبر ، دخل رجل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه جدري قد يقشر وعنده أصحابه يأكلون فما جلس عند أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجنبه.

ومنها : أن لا يتعاطى بيده شغلا في بيته ، والتواضع خلافه.

ومنها : أن لا يأخذ متاعا ويحمله إلى بيته ، وهذا خلاف عادة المتواضعين ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعل ذلك ، وقال عليعليه‌السلام : لا ينقص الرجل من كماله ما حمل من شيء إلى عياله ، وقال بعضهم : رأيت عليا اشترى لحما بدراهم فحمله في ملحفته ، فقال : أحمل عنك يا أمير المؤمنين! قال : لا أبو العيال أحق أن يحمل.

ومنها : اللباس إذ يظهر به التكبر والتواضع ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البذاذة من الإيمان ، قيل : هي الدون من الثياب ، وعوتب عليعليه‌السلام في إزار مرقوع فقال : يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب ، وقال عيسىعليه‌السلام : جودة الثياب خيلاء القلب ، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ترك زينة لله ووضع ثيابا حسنة تواضعا لله وابتغاء وجهه كان حقا على الله أن يدخر له عبقري الجنة.

فإن قلت : فقد قال عيسىعليه‌السلام : جودة الثياب خيلاء القلب ، وقد سئل نبينا

١٩٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الجمال في الثياب هل هو من الكبر؟ فقال : لا ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس ، فكيف طريق الجمع بينهما؟

فاعلم أن الثوب الجيد ليس من ضرورته أن يكون من التكبر في حق كل أحد في كل حال ، وهو الذي أشار إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الذي عرفه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حال ثابت بن قيس إذ قال إني امرؤ حبب إلى الجمال ما ترى؟ فعرفه أن ميلة إلى النظافة وجودة الثياب لا ليتكبر على غيره ، فإنه ليس من ضرورته أن يكون من الكبر ، وقد يكون ذلك من الكبر كما أن الرضا بالثوب الدون قد يكون من التواضع ، فإذا انقسمت الأحوال نزل قول عيسىعليه‌السلام على بعض الأحوال ، على أن قوله : خيلاء القلب يعني قد يورث خيلاء في القلب ، وقول نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه ليس من الكبر يعني أن الكبر لا يوجبه ويجوز أن لا يوجبه الكبر ، ثم يكون هو مورثا للكبر.

وبالجملة فالأحوال تختلف في مثل هذا ، والمحمود الوسط من اللباس الذي لا يوجب شهرة بالجودة ولا بالرذالة ، وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلوا واشربوا وألبسوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة ، إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ، وقال بكر بن عبد الله المزني : ألبسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية ، وإنما خاطب بهذا قوما يطلبون التكبر بثياب أهل الصلاح ، وقال عيسىعليه‌السلام : ما لكم تأتوني وعليكم ثياب الرهبان ، وقلوبكم قلوب الذئاب الضواري ، ألبسوا ثياب الملوك وألينوا قلوبكم بالخشية.

ومنها : أن يتواضع بالاحتمال إذا سب وأوذي وأخذ حقه فذلك هو الأفضل.

وبالجملة فمجامع حسن الأخلاق والتواضع سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينبغي أن يقتدى ، ومنه ينبغي أن يتعلم ، وقد قال ابن أبي سلمة قلت لأبي سعيد الخدري

٢٠٠