مرآة العقول الجزء ١٠

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 441

مرآة العقول

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف:

الصفحات: 441
المشاهدات: 10717
تحميل: 5692


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 441 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 10717 / تحميل: 5692
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 10

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

على شفير جهنم لا أدري أكبكب فيها أم أنجو منها فالتفت عيسىعليه‌السلام إلى الحواريين فقال يا أولياء الله أكل الخبز اليابس بالملح الجريش والنوم على المزابل خير كثير مع عافية الدنيا والآخرة.

١٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن

النسخ : يا روح الله وكلمته بقدس الله ، فقوله : بقدس الله متعلق بروح الله وكلمته يعني يا أيها الذي صار روح الله وكلمته بقدس الله كما قيل ، ويحتمل أن تكون الباء بمعنى مع أي مع تقدسه عن أن يكون له الروح وكلمة حقيقة.

ثم قال الشيخرحمه‌الله : ثم لا يخفى أن ما قاله هذا الرجل من أنه كان فيهم ولم يكن منهم فلما نزل العذاب عمه معهم ، يشعر بأنه ينبغي المهاجرة عن أهل المعاصي والاعتزال لهم ، وأن المقيم معهم شريك لهم في العذاب ومحترق بنارهم ، وإن لم يشاركهم في أفعالهم وأقوالهم ، وقد يستأنس لذلك بعموم قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً »(١) ولو لم يكن في الاعتزال عن الناس فائدة سوى ذلك لكفى ، كيف وفيه من الفوائد ما لا يعد ولا يحصى ، نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لذلك بمنه وكرمه« فإنا معلق » هذا كناية عن أنه مشرف على الوقوع فيها ، ولا يبعد أن يراد به معناه الصريح أيضا ، والشفير حافة الوادي وجانبه« أكبكب فيها » على البناء للمفعول أي أطرح فيها على وجهي ، وفي القاموس : جرش الشيء لم ينعم دقة فهوجريش ، وفي الصحاح ملم جريش لم يطب« مع عافية الدنيا » أي إذا كان مع عافية الدنيا من الخطاياوالآخرة من النار ، أو فيه عافية الدنيا من تشويش البال ومشقة تحصيل الأموال وعافية الآخرة من العذاب والسؤال.

الحديث الثاني عشر : حسن كالصحيح.

__________________

(١) سورة النساء : ٩٧.

٢٤١

أبي عبد اللهعليه‌السلام قال ما فتح الله على عبد بابا من أمر الدنيا إلا فتح الله عليه من الحرص مثله.

١٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد ، عن المنقري ، عن حفص بن غياث ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال عيسى ابن مريم صلوات الله عليه تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير عمل ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل ويلكم علماء سوء الأجر تأخذون والعمل تضيعون يوشك رب العمل

ويدل على زيادة الحرص بزيادة المال وغيره من مطلوبات الدنيا كما هو المجرب.

الحديث الثالث عشر : ضعيف.

« وأنتم ترزقون فيها بغير عمل » أي كد شديد كما قال تعالى : «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها »(١) .

« وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل » كما قال تعالى : «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى »(٢) « علماء سوء » بفتح السين ، قال الجوهري : ساءه يسوؤهسوءا بالفتح نقيض سره ، والاسم السوء بالضم وقرئ قوله تعالى : «عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ »(٣) يعني الهزيمة ، والشر ، ومن فتح فهو من المساءة ، وتقول : هذا رجل سوء بالإضافة ثم تدخل عليه الألف واللام فتقول هذا رجل السوء ، قال الأخفش : ولا يقال الرجل السوء لأن السوء ليس بالرجل ، قال : ولا يقال هذا رجل السوء بالضم انتهى.

« الأجر تأخذون » بحذف حرف الاستفهام وهو على الإنكار ويحتمل أن يكون المراد أجر الدنيا أي نعم الله سبحانه ، وعلى هذا يحتمل أن يكون توبيخا لا استفهاما وأن يكون المراد أجر الآخرة فالاستفهام متعين ، فالواو فيقوله

__________________

(١) سورة هود : ٦.

(٢) سورة النجم : ٣٩.

(٣) سورة التوبة : ٩٨.

٢٤٢

أن يقبل عمله ويوشك أن يخرجوا من ضيق الدنيا إلى ظلمة القبر كيف يكون من أهل العلم من هو في مسيره إلى آخرته وهو مقبل على دنياه وما يضره أحب إليه مما ينفعه.

١٤ ـ عنه ، عن أبيه ، عن محمد بن عمرو فيما أعلم ، عن أبي علي الحذاء ، عن حريز ، عن زرارة ومحمد بن مسلم ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال أبعد ما يكون العبد من الله عز وجل إذا لم يهمه إلا بطنه وفرجه.

١٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن سنان وعبد العزيز العبدي ، عن عبد الله بن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل الله تعالى الفقر بين عينيه وشتت أمره ولم ينل

والعمل ، للحالية أي كيف تستحقون أخذ الأجرة والحالأنكم تضيعون العمل« أن يقبل عمله » أي يتوجه إلى أخذ عمله وهو لا يأخذ ولا يقبل إلا العمل الخالص فهو كناية عن الطلب ، ويؤيده أن في مجالس الشيخ أن يطلب عمله أو هو من الإقبال على الحذف والإيصال ، أي يقبل على عمله ، وقال بعض الأفاضل : أريد برب العمل العابد الذي يقلد أهل العلم في عبادته أعني يعمل بما يأخذ عنهم ، وفيه توبيخ لأهل العلم الغير العامل ، وقرأ بعضهم يقيل بالياء المثناة من الإقالة أي يرد عمله فإن المقيل يرد المتاع.

الحديث الرابع عشر : مجهول.

« إذا لم يهمه إلا بطنه وفرجه » أي لا يكون اهتمامه وسعيه وغمه وحزنه إلا في مشتهيات البطن والفرج ، في القاموس : الهم الحزن وما هم به في نفسه ، وهمه الأمر حزنه كأهمه فاهتم ، انتهى.

فالمراد الإفراط فيهما وقصر همته عليهما ، وإلا فللبطن والفرج نصيب عقلا وشرعا وهو ما يحتاج إليه لقوام البدن واكتساب العلم والعمل وبقاء النوع.

الحديث الخامس عشر : صحيح.

٢٤٣

من الدنيا إلا ما قسم الله له ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه جعل الله

« أكبر همه » أي قصده أو حزنه« جعل الله الفقر بين عينيه » لأنه كلما يحصل له من الدنيا يزيد حرصه بقدر ذلك ، فيزيد احتياجه وفقره ، أو لضعف توكله على الله يسد الله عليه بعض أبواب رزقه ، وقيل : فهو فقير في الآخرة لتقصيره فيما ينفعه فيها وفي الدنيا لأنه يطلبها شديدا والغني من لا يحتاج إلى الطلب ، ولأن مطلوبه كثيرا ما يفوت عنه ، والفقر عبارة عن فوات المطلوب ، وأيضا يبخل عن نفسه وعياله خوفا من فوات الدنيا وهو فقر حاضر« وشتت أمره » التشتيت التفريق لأنه لعدم توكله على ربه لا ينظر إلا في الأسباب ويتوسل بكل سبب ووسيلة فيتحير في أمره ولا يدري وجه رزقه فلا ينتظم أحواله أو لشدة حرصه لا ينتفع بما حصل له ويطلب الزيادة ولا يتيسر له فهو دائما في السعي والطلب ولا ينتفع بشيء وحمله على تفرق أمر الآخرة بعيد« ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له » (١) يدل على أن الرزق مقسوم ، ولا يزيد بكثرة السعي ، كما قال تعالى : «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا »(٢) ولذلك منع الصوفية من طلب الرزق ، والحق أن الطلب حسن وقد يكون واجبا وتقديره لا ينافي اشتراطه بالسعي والطلب ، ولزومه على الله بدون سعي غير معلوم ، وقيل : قدر سد الرمق واجب على الله ، ويحتمل أن يكون التقدير مختلفا في صورتي الطلب وتركه بأن قدر الله تعالى قدرا من الرزق بدون الطلب لكن مع التوكل التام عليه ، وقدرا مع الطلب لكن شدة الحرص وكثرة السعي لا تزيده ، وبه يمكن الجمع بين أخبار هذا لباب وسيأتي القول فيه في كتاب التجارة إن شاء الله تعالى ، وقيل : المراد بقوله لم ينل من الدنيا إلا ما قسم له أنه لا ينفع إلا بما قسم له وإن زاد بالسعي فإنه يبقى للوارث وهو حظه.

__________________

(١) وفي المتن الموجود عندنا « ما قسم الله له ».

(٢) سورة الزخرف : ٣٢.

٢٤٤

الغنى في قلبه وجمع له أمره.

١٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن ابن سنان ، عن حفص بن قرط ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال من كثر اشتباكه بالدنيا كان أشد لحسرته عند فراقها.

١٧ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن عبد العزيز العبدي ، عن ابن أبي يعفور قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول من تعلق قلبه بالدنيا تعلق قلبه بثلاث خصال هم لا يفنى ـ وأمل لا يدرك ورجاء لا ينال.

وقيل : فيه إشارة إلى أن ذا المال الكثير قد لا ينتفع به بسبب مرض أو غيره وذا المال القليل ينتفع به أكثر منه ، ولا يخفى ما فيه« جعل الله الغنى في قلبه » أي بالتوكل على ربه والاعتماد عليه وإخراج الحرص وحب الدنيا من قلبه لا بكثرة المال وغيره ، ولذا نسبه إلى القلب« وجمع له أمره » أي جعل أحواله منتظمة ، وباله فارغا عن حب الدنيا وتشعب الفكر في طلبها.

الحديث السادس عشر : ضعيف على المشهور.

« من كثر اشتباكه بالدنيا » أي اشتغاله وتعلق قلبه بها يقال : اشتبكت النجوم إذا كثرت وانضمت ، وكل متداخلين مشتبكان ، ومنه تشبيك الأصابع لدخول بعضها في بعض ، والغرض الترغيب في رفض الدنيا وترك محبتها لئلا يشتد الحزن والحسرة في مفارقتها.

الحديث السابع عشر : ضعيف.

« هم لا يفنى » لأنه لا يحصل له ما هو مقتضى حرصه وأمله في الدنيا ولا يمكنه الاحتراز عن آفاتها ومصائبها فهو في الدنيا دائما في الغم لما فات والهم لما لم يحصل ، وإذا مات فهو في أحزان وحسرات من مفارقتها ، ولم يقدم منها شيئا ينفعه فهمه لا يفنى أبدا ، والفرق بين الأمل والرجاء أن متعلق الأمل العمر ، والبقاء في الدنيا ،

٢٤٥

ومتعلق الرجاء ما سواه ، أو متعلق الأمل بعيد الحصول ومتعلق الرجاء قريب الوصول ، ومعلوم أن محب الدنيا وطالبها يأمل منها ما لا مطمع في حصوله ، لكن لشدة حرصه يطلبه ويأمله ويرجو الانتفاع بها ، فيحول الأجل بينه وبينها أو يرجو الآخرة وجمعها مع الدنيا ، مع أنه لا يسعى لتحصيل الآخرة ويقصر همه على تحصيل الدنيا ، ونعم ما قيل :

يا طالب الرزق مجتهدا

أقصر عنانك فإن الرزق مقسوم

لا تحرصن على ما لست تدركه

إن الحريص على الآمال محروم

تتمة مهمة قد مر منا تحقيق في معنى الدنيا المذمومة والممدوحة في باب ذم الدنيا ، ونذكر هنا على وجه آخر قال بعض المحققين : اعلم أن معرفة ذم الدنيا لا يكفيك ما لم تعرف الدنيا المذمومة ما هي وما الذي ينبغي أن يجتنب ، فلا بد أن نبين الدنيا المذمومة المأمور باجتنابها لكونها عدوة قاطعة لطريق الله ما هي.

فنقول : دنياك وآخرتك عبارتان عن حالتين من أحوال قلبك والقريب الداني منهما يسمى دنيا ، وهي كل ما قبل الموت ، والمتراخي المتأخر يسمى آخرة وهي ما بعد الموت ، فكل ما لك فيه حظ وغرض ونصيب وشهوة ولذة في عاجل الحال قبل الوفاة فهي الدنيا في حقك ، إلا أن جميع مالك إليه ميل وفيه نصيب وحظ فليس بمذموم ، بل هي تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : ما يصحبك في الدنيا ويبقى معك ثمرته بعد الموت ، وهو شيئان العلم والعمل فقط ، وأعني بالعلم العلم بالله وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله ، وملكوت أرضه وسمائه ، والعلم بشريعة نبيه ، وأعني بالعمل العبادة الخالصة لوجه الله ، وقد يأنس العالم بالعلم حتى يصير ذلك ألذ الأشياء عنده ، فيهجر النوم والمنكح والمطعم في لذته لأنه أشهى عنده من جميعها ، فقد صار حظا عاجلا

٢٤٦

في الدنيا ، ولكنا إذا ذكرنا الدنيا المذمومة لم نعد هذا من الدنيا أصلا ، بل قلنا أنه من الآخرة ، وكذلك العابد قد يأنس بعبادته ويستلذها بحيث لو منعت عنه لكان ذلك أعظم العقوبات عليه ، وهذا أيضا ليس من الدنيا المذمومة.

الثاني : وهو المقابل للقسم الأول على الطرف الأقصى كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلا ، كالتلذذ بالمعاصي ، والتنعم بالمباحات الزائدة على قدر الضرورات والحاجات الداخلة في جملة الرفاهية والرعونات كالتنعم بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ، والغلمان والجواري والخيول والمواشي والقصور والدور المشيدة ، ورفيع الثياب ولذائذ الأطعمة ، فحظ العبد من هذه كلها هي الدنيا المذمومة ، وفيما يعد فضولا وفي محل الحاجة نظر طويل.

الثالث : وهو متوسط بين الطرفين كل حظ في العاجل معين على الأعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام ، والقميص الواحد الخشن ، وكل ما لا بد منه ليتأتى للإنسان البقاء والصحة التي يتوصل إلى العلم والعمل ، وهذا ليس من الدنيا كالقسم الأول ، لأنه معين على القسم الأول ووسيلة فمهما تناوله العبد على قصد الاستعانة على العلم والعمل ، لم يكن به متناولا للدنيا ، ولم يصر به من أبنائها.

وإن كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة على التقوى التحق بالقسم الثاني وصار من جملة الدنيا.

ولا يبقى مع العبد عند الموت إلا ثلاث : صفاء القلب ، وأنسه بذكر الله ، وحبه لله وصفاء القلب لا يحصل إلا بالكف عن شهوات الدنيا ، والأنس لا يحصل إلا بكثرة ذكر الله ، والحب لا يحصل إلا بالمعرفة ، ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر ، فهذه الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت ، وهي الباقيات الصالحات ، أما طهارة

٢٤٧

القلب عن شهوات الدنيا فهي من المنجيات ، إذ تكون جنة بين العبد وبين عذاب الله وأما الإنس والحب فهما من المسعدات وهي موصلان العبد إلى لذة اللقاء والمشاهدة وهذه السعادة تتعجل عقيب الموت إلى أن يدخل الجنة ، فيصير القبر روضة من رياض الجنة ، وكيف لا يكون كذلك ولم يكن له إلا محبوب واحد ، وكانت العوائق تعوقه عن الأنس بدوام ذكره ومطالعة جماله ، فارتفعت العوائق وأفلت من السجن ، وخلي بينه وبين محبوبة ، فقدم عليه مسرورا آمنا من الفرق ، وكيف لا يكون محب الدنيا عند الموت معذبا ولم يكن له محبوب إلا الدنيا ، وقد غصب منه وحيل بينه وبينه وسدت عليه طرق الحيلة في الرجوع إليه ، وليس الموت عدما إنما هو فراق لمحاب الدنيا وقدوم على الله تعالى.

فإذا سالك طريق الآخرة هو المواظب على أسباب هذه الصفات الثلاث ، وهي الذكر والفكر والعمل الذي يفطمه عن شهوات الدنيا ، ويبغض إليه ملاذها ويقطعه عنها ، وكل ذلك لا يمكن إلا بصحة البدن ، وصحة البدن لا تنال إلا بالقوت والملبس والمسكن ويحتاج كل واحد إلى أسباب.

فالقدر الذي لا بد منه من هذه الثلاثة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا ، وكانت الدنيا في حقه مزرعة الآخرة ، وإن أخذ ذلك على قصد التنعم ولحظ النفس صار من أبناء الدنيا ، وللراغبين في حظوظها إلا أن الرغبة في حظوظ الدنيا تنقسم إلى ما يعرض صاحبه لعذاب الله في الآخرة ، ويسمى ذلك حراما وإلى ما يحول بينه وبين الدرجات العلى ، ويعرضه لطول الحساب ، ويسمى ذلك حلالا والبصير يعلم أن طول الموقف في عرصات القيامة لأجل المحاسبة أيضا عذاب ، فمن نوقش في الحساب عذب فلذلك قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلالها حساب وحرامها عقاب ، وقد قال أيضا : حلالها عذاب إلا أنه عذاب أخف من عذاب الحرام ، بل لو لم يكن الحساب لكان ما يفوت من الدرجات العلى في الجنة ، وما يرد

٢٤٨

على القلب من التحسر على تفويتها بحظوظ حقيرة خسيسة لا بقاء لها ، هو أيضا عذاب.

فالدنيا قليلها وكثيرها حلالها وحرامها ملعونة إلا ما أعان على تقوى الله ، كان ذلك القدر ليس من الدنيا ، وكل من كانت معرفته أقوى وأتقن كان حذره من نعيم الدنيا أشد ، ولهذا زوى الله تعالى الدنيا عن نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان يطوي أياما وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع ، ولهذا سلط الله البلاء والمحن على الأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل ، كل ذلك نظرا لهم وامتنانا عليهم ليتوفر من الآخرة حظهم ، كما يمنع الوالد الشفيق ولده لذيذ الفواكه ، ويلزمه ألم الفصد والحجامة شفقة عليه ، وحبا له لا بخلا به عليه.

وقد عرفت بهذا أن كل ما ليس لله فهو للدنيا ، وما هو لله فليس من الدنيا فإن قلت : فما الذي هو لله؟

فأقول : الأشياء ثلاثة أقسام ، منها : ما لا يتصور أن يكون لله ، وهو الذي يعبر عنه بالمعاصي والمحظورات ، وأنواع التنعمات في المباحات وهي الدنيا المحضة المذمومة فهي الدنيا صورة ومعنى.

ومنها : ما صورتها لله ويمكن أن يجعل لغير الله ، وهي ثلاثة : الفكر والذكر والكف عن الشهوات ، فهذه الثلاث إذا جرت سرا ولم يكن عليها باعث سوى أمر الله واليوم الآخر فهي لله ، وليست من الدنيا ، وإن كان الغرض من النظر طلب العلم للتشرف وطلب القبول بين الخلق بإظهار المعرفة ، أو كان الغرض من ترك الشهوة حفظ المال أو الحمية لصحة البدن أو الاشتهار بالزهد فقد صار هذا من الدنيا بالمعنى وإن كان يظن بصورتها أنها لله.

ومنها : ما صورتها لحظ النفس ويمكن أن يجعل معناه لله ، وذلك كالأكل والنكاح وكل ما يرتبط به بقاؤه وبقاء ولده ، فإن كان القصد حظ النفس فهو من

٢٤٩

الدنيا ، وإن كان القصد الاستعانة على التقوى فهو لله بمعناه ، وإن كان صورته صورة الدنيا ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من طلب الدنيا حلالا مكاثرا مفاخرا لقي الله وهو عليه غضبان ومن طلبها استعفافا عن المسألة وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر.

انظر كيف اختلف ذلك بالقصد ، فإذا الدنيا حظ نفسك العاجل الذي لا حاجة إليه لأمر الآخرة ويعبر عنه بالهوى ، وإليه أشار قوله تعالى : «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى »(١) .

واعلم أن مجامع الهوى خمسة أمور ، وهي ما جمعه الله عز وجل في قوله : «أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ »(٢) . والأعيان التي تحصل منها هذه الأمور سبعة يجمعها قوله تعالى : «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ »(٣) فقد عرفت أن كلما هو لله فليس من الدنيا ، وقدر ضرورة القوت وما لا بد منه من مسكن وملبس فهو لله إن قصد منه وجه الله ، والاستكثار منه تنعم وهو لغير الله ، وبين التنعم والضرورة درجة يعبر عنها بالحاجة ، ولها طرفان وواسطة ، طرف يقرب من حد الضرورة فلا يضر فإن الاقتصار على حد الضرورة غير ممكن ، وطرف تتاخم جانب التنعم ويقرب منه ، وينبغي أن يحذر ، وبينهما وسائط متشابهة ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، والحزم في الحذر والتقوى والتقرب حد الضرورة ما أمكن اقتداء بالأنبياء والأولياء.

__________________

(١) سورة النازعات : ٤٠ ـ ٤١.

(٢) سورة محمّد : ٣٦.

(٣) سورة آل عمران : ١٤.

٢٥٠

ثم قال : اعلم أن الدنيا عبارة من أعيان موجودة وللإنسان فيها حظ وله في إصلاحها شغل ، فهذه ثلاثة أمور قد يظن أن الدنيا عبارة عن آحادها وليس كذلك أما الأعيان الموجودة التي الدنيا عبارة عنها فهي الأرض وما عليها ، قال الله تعالى : «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً »(١) فالأرض فراش للآدميين ومهاد ومسكن ومستقر ، وما عليها لهم ملبس ومطعم ومشرب ومنكح ، ويجمع ما على الأرض ثلاثة أقسام : المعادن والنبات والحيوان ، أما المعادن فيطلبها الآدمي للآلات والأواني كالنحاس والرصاص ، أو للنقد كالذهب والفضة ولغير ذلك من المقاصد وأما النبات فيطلبها الآدمي للاقتيات وللتداوي ، وأما الحيوان فينقسم إلى الإنسان والبهائم ، أما البهائم فيطلب لحومها للمأكل وظهورها للمركب والزينة ، وأما الإنسان فقد يطلب الآدمي أن يملك أبدان الناس ليستخدمهم ويستسخرهم كالغلمان ، أو ليتمتع بهم كالجواري والنسوان ، ويطلب قلوب الناس ليملكها فيغرس فيه التعظيم والإكرام ، وهو الذي يعبر عنه بالجاه ، إذ معنى الجاه ملك قلوب الآدميين.

فهذه هي الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا ، وقد جمعها الله تعالى في قوله : «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ » وهذا من الأنس «وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ » وهذا من المعادن والجواهر وفيه تنبيه على غيرها من اللئالي واليواقيت «وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ » وهي البهائم والحيوانات «وَالْحَرْثِ » وهو النبات والزرع.

فهذه هي أعيان الدنيا إلا أن لها مع العبد علاقتين علاقة مع القلب ، وهو حبه لها وحظه منها ، وانصراف قلبه إليها ، حتى يصير قلبه كالعبد ، أو المحب المستهتر بالدنيا ويدخل في هذه العلاقة جميع صفات القلب المتعلقة بالدنيا كالكبر والغل

__________________

(١) سورة الكهف : ٧.

٢٥١

والحسد ، والرياء والسمعة وسوء الظن والمداهنة وحب الثناء وحب التكاثر والتفاخر فهذه هي الدنيا الباطنة وأما الظاهرة فهي الأعيان التي ذكرناها ، والعلاقة الثانية مع البدن وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان ليصلح لحظوظه وحظوظ غيره وهي جملة الصناعات والحرف التي الخلق مشغولون بها ، والخلق إنما تسعى أنفسهم ومالهم ومنقلبهم لهاتين العلاقتين علاقة القلب بالحب وعلاقة البدن بالشغل.

ولو عرف نفسه وعرف ربه وعرف حكمة الدنيا وسرها ، علم أن هذه الأعيان التي سميتها دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي تسير بها إلى الله تعالى ، وأعني بالدابة البدن فإنه لا يبقى إلا بمطعم وملبس ومسكن ، كما لا يبقى الإبل في طريق الحج إلا بعلف وماء وجلال.

ومثال العبد في نسيانه نفسه ومقصده مثال الحاج الذي يقف في منازل الطريق ولا يزال يعلف الدابة ويتعهدها وينظفها ويكسوها ألوان الثياب ، ويحمل إليها أنواع الحشيش ، ويبرد لها الماء بالثلج ، حتى تفوته القافلة وهو غافل عن الحج وعن مرور القافلة ، وعن بقائه في البادية ، فريسة للسباع هو وناقته ، والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده وقلبه إلى الكعبة والحج وإنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة ، فكذلك البصير في سفر الآخرة لا يشتغل بتعهد البدن إلا بالضرورة ، كما لا يدخل الماء إلا للضرورة ، ولا فرق بين إدخال الطعام في البدن وبين إخراجه من البطن ، وأكثر ما شغل الناس عن الله البدن ، فإن القوت ضروري وأمر الملبس والمسكن أهون ، ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليها لم تستغرقهم أشغال الدنيا فإنما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا وحكمتها وحظوظهم منها ، ولكنهم جهلوا وغفلوا وتتابعت أشغال الدنيا واتصلت بعضها ببعض ، وتداعت إلى غير نهاية محدودة فتاهوا في كثرة الأشغال ونسوا مقصودها.

٢٥٢

وأما تفاصيل أشغال الدنيا وكيفية حدوث الحاجة إليها وانجرار بعضها إلى بعض فمما يطول ذكرها وخارج عن مقصود كتابنا.

وإذا تأملت فيها علمت أن الإنسان لاضطراره إلى القوت والمسكن والملبس يحتاج إلى خمس صناعات ، وهي الفلاحة لتحصيل النبات ، والرعاية لحفظ الحيوانات واستنتاجها ، والاقتناص لتحصيل ما خلق الله من صيد أو معدن أو حشيش أو حطب ، والحياكة للباس ، والبناء للمسكن ، ثم يحتاج بسبب ذلك إلى التجارة والحدادة والخرز أي إصلاح جلود الحيوانات وأجزائها ، ثم لبقاء النوع إلى المنكح ثم إلى حفظ الولد وتربيته ثم لاجتماعهم إلى قرية يجتمعون فيها ، ثم إلى قاض وحاكم يتحاكمون إليه ، ثم إلى جند يحرسهم عن الأعادي ثم إلى خراج يعان به الجند ثم إلى عمال وخزان لذلك ، ثم إلى ملك يدبرهم ، وأمير مطاع وقائد على كل طائفة منهم.

فانظر كيف ابتداء الأمر من حاجة القوت والمسكن والملبس وإلى ما ذا انتهى وهكذا أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وينفتح منها بسببه عشرة أبواب أخر وهكذا يتناهى إلى حد غير محصور ، وكأنها هاوية لا نهاية لعمقها ، ومن وقع في مهواة منها سقط عنها إلى أخرى وهكذا على التوالي ، فهذه هي الحرف والصناعات ، ويتفرع عليها أيضا بناء الحوانيت والخانات للمتحرفة والتجار وجماعة يتجرون ويحملون الأمتعة من بلد إلى بلد ، ويتفرع عليها الكراية والإجارة ، ثم يحدث بسبب البيوع والإجارات وأمثالها الحاجة إلى النقدين لتقع المعاملة بهما فاتخذت النقود من الذهب والفضة والنحاس ، ثم مست الحاجة إلى الضرب والنقش والتقدير فحدث الحاجة إلى دار الضرب وإلى الصيارفة فهذه أشغال الخلق وهي معائشهم وشيء من هذه الحرف لا يمكن مباشرته إلا بنوع تعلم وتعب في الابتداء.

وفي الناس من يغفل عن ذلك في الصبا فلا يشتغل به أو يمنعه مانع فيبقى

٢٥٣

عاجزا فيحتاج إلى أن يأكل مما سعى فيه غيره فتحدث فيه حرفتان خسيستان اللصوصية والكدية ، وللصوص أنواع ولهم حيل شتى في ذلك ، وأما التكدي فله أسباب مختلفة ، فمنهم من يطلب ذلك بالتمسخر والمحاكاة والشعبذة والأفعال المضحكة ، وقد يكون بالأشعار مع النغمة أو غيرها في المدح ، أو التعشق أو غيرهما ، أو تسليم ما يشبه العوض وليس بعوض كبيع التعويذات والطلسمات ، وكأصحاب القرعة والفال والزجر من المنجمين ، ويدخل في هذا الجنس الوعاظ المتكدون على رؤوس المنابر.

فهذه هي أشغال الخلق وأعمالهم التي أكبوا عليها وجرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى القوت والكسوة ، ولكن نسوا في أثناء ذلك أنفسهم ومقصودهم ومنقلبهم ومالهم ، فضلوا وتاهوا وسبق إلى عقولهم الضعيفة بعد أن كدرها زحمة أشغال الدنيا خيالات فاسدة ، وانقسمت مذاهبهم واختلفت آراؤهم على عدة أوجه.

فطائفة غلبت عليهم الجهل والغفلة فلم ينفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة أمرهم ، فقالوا المقصود أن نعيش أياما في الدنيا فنجهد حتى نكسب القوت ثم نأكل حتى نقوى على الكسب ثم نكتسب حتى نأكل ، فيأكلون ليكسبوا ، ويكسبون ليأكلوا فهذه مذاهب المداحين والمتحرفين ومن ليس لهم تنعم في الدنيا ولا قدم في الدين.

وطائفة أخرى زعموا أنهم تفطنوا للأمر وهو أن ليس المقصود أن يشقي الإنسان ولا يتنعم في الدنيا بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوات الدنيا وهي شهوة البطن والفرج ، فهؤلاء طائفة نسوا أنفسهم وصرفوا همتهم إلى اتباع النسوان وجمع لذائذ الأطعمة ، يأكلون كما تأكل الأنعام ويظنون أنهم إذا نالوا ذلك فقد أدركوا غايات السعادات ، فيشغلهم ذلك عن الله واليوم الآخر.

وطائفة ظنوا أن السعادة في كثرة المال والاستغناء بكنز الكنوز ، فأسهروا ليلهم ونهارهم في الجمع ، فهم يتعبون في الأسفار طول الليل والنهار ، يترددون

٢٥٤

في الأعمال الشاقة ويكسبون ويجمعون ولا يأكلون إلا قدر الضرورة شحا وبخلا عليها أن تنقص ، وهذه لذتهم وفي ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يأتيهم الموت فيبقى تحت الأرض أو يظفر به من يأكله في الشهوات واللذات ، فيكون للجامع تعبها ووبالها وللآكل لذتها وحسابها.

ثم إن الذين يجمعون ينظرون إلى أمثال ذلك في أشباههم وأمثالهم فلا يعتبرون.

وطائفة زعموا أن السعادة في حسن الاسم وانطلاق الألسن بالثناء والمدح بالتجمل والمروة فهؤلاء يتعبون في كسب المعايش ويضيقون على أنفسهم في المطعم ويصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة والدواب النفيسة ، ويزخرفون أبواب الدور وما يقع عليه أبصار الناس حتى يقال إنه غني وأنه ذو ثروة ويظنون أن ذلك هو السعادة ، فهمتهم في ليلهم ونهارهم في تعهد موقع نظر الناس.

وطائفة أخرى ظنوا أن السعادة في الجاه والكرامة بين الناس ، وانقياد الخلق بالتواضع والتوقير ، فصرفوا همتهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة بطلب الولاية وتقلد الأعمال السلطانية لينفذوا أمرهم بها على طائفة من الناس ، ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم وانقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا سعادة عظيمة ، وأن ذلك غاية المطلب ، وهذا أغلب الشهوات على قلوب المتغافلين من الناس ، فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله وعن عبادته ، وعن التفكر في آخرتهم ومعادهم.

ووراء هذا طوائف يطول حصرها تزيد على نيف وسبعين فرقه كلهم ضلوا وأضلوا من سواء السبيل ، وإنما جرهم إلى جميع ذلك حاجة المطعم والملبس والمسكن فنسوا ما يراد له هذه الأمور الثلاثة ، والقدر الذي يكفي منها وانجرت بهم أوائل أسبابها إلى أواخرها ، وتداعت لهم إلى مبادئ لم يمكنهم الترقي منها ،

٢٥٥

فمن عرف وجه الحاجة إلى هذه الأسباب والأشغال وعرف غاية المقصود منها فلا يخوض في شغل وحرفة وعمل إلا وهو عالم بمقصوده ، وعالم بحظه ونصيبه منه ، وأن غاية مقصوده تعهد بدنه بالقوت والكسوة حتى لا يهلك.

وذلك إن سلك فيه سبيل التقليل اندفعت الأشغال وفرغ القلب وغلب عليه ذكر الآخرة ، وانصرف الهمة إلى الاستعداد له ، وإن تعدى به قدر الضرورة كثرة الأشغال ، وتداعى البعض إلى البعض وتسلسل إلى غير النهاية فتشعب به الهموم ومن تشعب به الهموم في أودية الدنيا فلا يبال الله في أي واد أهلكه ، فهذا شأن المنهمكين في أشغال الدنيا.

وتنبه لذلك طائفة فأعرضوا عن الدنيا فحسدهم الشيطان فلم يتركهم وأضلهم في الأغراض أيضا حتى انقسموا إلى طوائف ، فظنت طائفة أن الدنيا دار بلاء ومحنة والآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها ، سواء تعبد في الدنيا أو لم يتعبد ، فرأوا أن الصواب في أن يقتلوا أنفسهم للخلاص من محنة الدنيا ، وإليه ذهب طوائف من عباد الهند فهم يتهجمون على النار ويقتلون أنفسهم بالإحراق ، ويظنون أن ذلك خلاص منهم من سجن الدنيا.

وظنت طائفة أخرى أن القتل لا يخلص بل لا بد أولا من إماتة الصفات البشرية وقلعها عن النفس بالكلية ، وأن السعادة في قطع الشهوة والغضب ثم أقبلوا على المجاهدة فشددوا حتى هلك بعضهم بشدة الرياضة ، وبعضهم فسد عقله وجن ، وبعضهم مرض وانسدت عليه طرق العبادة ، وبعضهم عجز عن قمع الصفات بالكلية ، فظن أن ما كلفه الشرع محال ، وأن الشرع تلبيس لا أصل له ، فوقع في الإلحاد والزندقة.

وظهر لبعضهم أن هذا التعب كله لله ، وأن الله مستغن عن عبادة العباد ، لا ينقصه عصيان عاص ولا يزيده عبادة عابد ، فعادوا إلى الشهوات وسلكوا مسالك الإباحة

٢٥٦

فطووا بساط الشرع والأحكام ، وزعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد.

وظن طائفة أخرى أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله سبحانه ، فإذا حصلت المعرفة فقد وصل ، وبعد الوصال يستغني عن الوسيلة والحيلة ، فتركوا السعي والعبادة وزعموا أنه ارتفع محلهم في معرفة الله سبحانه سبحانه أن يمتحنوا بالتكاليف ، وإنما التكليف على عوام الخلق.

ووراء هذا مذاهب باطلة وضلالة هائلة وخيالات فاسدة يطول إحصاؤها إلى أن يبلغ نيفا وسبعين فرقة ، وإنما الناجي منها فرقة واحدة وهي السالكة ما كان عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية ولا يقمع الشهوات بالكلية أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد ، وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل فلا يتبع كل شهوة ولا يترك كل شهوة ، بل يتبع العدل ، ولا يترك كل شيء من الدنيا ولا يطلب كل شيء من الدنيا ، بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده ، فيأخذ من القوت ما يقوى به البدن على العبادة ، ومن المسكن ما يحفظ به من اللصوص والحر والبرد ، ومن الكسوة كذلك حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله بكنه همه ، واشتغل بالذكر والفكر طول العمر ، وبقي ملازما لسياسة الشهوات ، ومراقبا لها حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى(١) .

ولا يعلم تفصيل ذلك إلا بالاقتداء بالفرقة الناجية الذين صحت عقائدهم واتبعوا الرسول والأئمة الهدى صلوات الله عليهم في أقوالهم وأفعالهم ، فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا ، بل للدين ، وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط بل كانوا بين ذلك قواما ، وذلك هو العدل

__________________

(١) إلى هنا تلخيص لكلام الغزالى في احياء العلوم والباقي من كلام الشارح (ره).

٢٥٧

(باب الطمع )

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن علي بن حسان عمن حدثه ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذله.

٢ ـ عنه ، عن أبيه عمن ذكره بلغ به أبا جعفرعليه‌السلام قال بئس العبد عبد له طمع يقوده وبئس العبد عبد له رغبة تذله.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد ، عن المنقري ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال قال علي بن الحسينعليه‌السلام رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عما في أيدي الناس.

والوسط بين الطرفين وهو أحب الأمور إلى الله تعالى والله المستعان.

باب الطمع

الحديث الأول : ضعيف.

و « ما أقبح » صيغة تعجب« وأن تكون » مفعوله ، والمرادالرغبة إلى الناس بالسؤال عنهم ، وهي التي تصير سببا للمذلة ، وأما الرغبة إلى الله فهي عين العزة والصفة تحتمل الكاشفة والموضحة.

الحديث الثاني : مرسل.

ولعل المرادبالطمع ما في القلب من حب ما في أيدي الناس وأمله ، وبالرغبة إظهار ذلك ، والسؤال والطلب من المخلوق يناسب الأول ، كما أن الذلة تناسب الثاني.

الحديث الثالث : ضعيف.

« رأيت الخير كله » أي الرفاهية وخير الدنيا وسعادة الآخرة ، لأن الطمع يورث الذل والحقارة والحسد والحقد والعداوة والغيبة والوقيعة وظهور الفضائح والظلم والمداهنة والنفاق والرياء والصبر على باطل الخلق والإعانة عليه وعدم التوكل

٢٥٨

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن أحمد ، عن بعض أصحابنا ، عن علي بن سليمان بن رشيد ، عن موسى بن سلام ، عن سعدان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قلت له [ ما ] الذي يثبت الإيمان في العبد قال الورع والذي يخرجه منه قال الطمع.

(باب الخرق )

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبيه عمن حدثه ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال من قسم له الخرق حجب عنه الإيمان.

على الله والتضرع إليه والرضا بقسمته والتسليم لأمره ، إلى غير ذلك من المفاسد التي لا تحصى ، وقطع الطمع يورث أضداد هذه الأمور التي كلها خيرات.

الحديث الرابع : مرسل.

والورع اجتناب المحرمات والشبهات وفي المقابلة إشعار بأن الطمع يستلزم ارتكابهما.

باب الخرق

الحديث الأول : مرسل.

والظاهر أنالخرق عدم الرفق في القول والفعل ، في القاموس : الخرق بالضم والتحريك ضد الرفق ، وأن لا يحسن الرجل العمل والتصرف في الأمور ، والحمق وفي النهاية : فيه الرفق يمن والخرق شؤم ، الخرق بالضم : الجهل والحمق ، انتهى.

وإنما كان الخرق مجانبا للإيمان لأنه يؤذي المؤمنين ، والمؤمن من أمن المسلمون من يده ولسانه ، ولأنه لا يتهيأ له طلب العلم الذي به كمال الإيمان ، وهو مجانب لكثير من صفات المؤمنين كما مر ، ثم أنه إنما يكون مذموما إذا أمكن الرفق ولم ينته إلى حد المداهنة في الدين ، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام

٢٥٩

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن النعمان ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان الخرق خلقا يرى ما كان شيء مما خلق الله أقبح منه.

(باب سوء الخلق )

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أبى الله عز وجل لصاحب الخلق السيئ بالتوبة

وأرفق ما كان الرفق أرفق ، واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك ، أي الرفق أو إلا الشدة.

الحديث الثاني : ضعيف.

باب سوء الخلق

الحديث الأول : حسن كالصحيح.

وسوء الخلق وصف للنفس يوجب فسادها وانقباضها وتغيرها على أهل الخلطة والمعاشرة ، وإيذائهم بسبب ضعيف أو بلا سبب ، ورفض حقوق المعاشرة وعدم احتمال ما لا يوافق طبعه منهم ، وقيل : هو كما يكون مع الخلق يكون مع الخالق أيضا ، بعدم تحمل ما لا يوافق طبعه من النوائب ، والاعتراض عليه ، ومفاسده وآفاته في الدنيا والدين كثيرة ، منها : أنهيفسد العمل بحيث لا يترتب عليه ثمرته المطلوبة منه« كما يفسد الخل العسل » وهو تشبيه المعقول بالمحسوس ، وإذا أفسد العمل أفسد الإيمان كما سيأتي.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

والآباء بالتوبة يحتمل الإباء بوقوعها والإباء بقبولها ، والسائل سأل عن حاله

٢٦٠