مرآة العقول الجزء ١٠

مرآة العقول8%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 441

  • البداية
  • السابق
  • 441 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16742 / تحميل: 8184
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء ١٠

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

يدخل النار ويجيء كل ناكث بيعة إمام أجذم حتى يدخل النار.

شدوق مثل فلس وفلوس ، وجمع المسكور أشداق مثل حمل وأحمال ، وقيل : لما كان الغادر غالبا يتشبث بسبب خفي لإخفاء غدرة ذكرهعليه‌السلام أنه يعاقب بضد ما فعل ، وهو تشهيره بهذه البلية التي تتضمن خزيه على رؤوس الأشهاد ، ليعرفوه بقبح عمله ، والنكث نقض البيعة ، والفعل كنصر وضرب ، في المصباح : نكث الرجل العهد نكثا من باب قتل نقضه ونبذه فانتكث مثل نقضه فانتقض والنكث بالكسر ما نقض ليغزل ثانية ، والجمع أنكاث.

قوله : أجذم ، قال الجزري فيه من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة وهو أجذم ، أي مقطوع اليد من الجذم القطع ، ومنه حديث عليعليه‌السلام من نكث بيعته لقي الله وهو أجذم ، ليست له يد ، قال القتيبي : الأجذم هيهنا الذي ذهبت أعضاؤه كلها وليست اليد أولى بالعقوبة من باقي الأعضاء ، يقال : رجل أجذم ومجذوم إذا تهافتت أطرافه من الجذام ، وهو الداء المعروف ، قال الجوهري : لا يقال للمجذوم أجذم وقال ابن الأنباري ردا على ابن قتيبة : لو كان العذاب لا يقع إلا بالجارحة التي باشرت المعصية لما عوقب الزاني بالجلد والرجم في الدنيا وبالنار في الآخرة ، قال ابن الأنباري : معنى الحديث أنه لقي الله وهو أجذم الحجة لا لسان له يتكلم ، ولا حجة له في يده ، وقول عليعليه‌السلام : ليست له يد أي لا حجة له ، وقيل : معناه لقيه منقطع السبب يدل عليه قوله : القرآن سبب بيد الله ، وسبب بأيديكم ، فمن نسيه فقد قطع سببه.

وقال الخطابي : معنى الحديث ما ذهب إليه ابن الأعرابي : وهو أن من نسي القرآن لقي الله خالي اليد صفرها عن الثواب ، فكني باليد عما تحويه وتشتمل عليه من الخير.

قلت : وفي تخصيص عليعليه‌السلام بذكر اليد معنى ليس في حديث نسيان القرآن ، لأن البيعة تباشرها اليد من بين الأعضاء ، انتهى.

وأقول : في حديث القرآن أيضا يحتمل أن يكون المراد بنسيانه ترك العمل

٣٢١

٣ ـ عنه ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس منا من ماكر مسلما.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن يحيى ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال سألته عن قريتين من أهل الحرب لكل واحدة منهما ملك على حدة اقتتلوا ثم اصطلحوا ثم إن أحد الملكين غدر بصاحبه فجاء إلى المسلمين فصالحهم على أن يغزو معهم تلك المدينة فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولا يأمروا بالغدر ولا يقاتلوا مع الذين غدروا ولكنهم

بما يدل عليه من مبايعة ولي الأمر ومتابعته ، فيرجع معناه إلى الخبر الآخر.

الحديث الثالث : كالسابق.

« ليس منا » أي من أهل الإسلام مبالغة ، أو من خواص أتباعنا وشيعتنا ، وكان المرادبالمماكرة المبالغة في المكر فإن ما يكون بين الطرفين يكون أشد أو فيه إشعار بأن المكر قبيح وإن كان في مقابلة المكر.

الحديث الرابع : ضعيف كالموثق.

وفي المصباح وحد يحدحدة من باب وعد انفرد بنفسه ، وكل شيء على حدة أي متميز عن غيره ، وفي الصحاح أعط كل واحد منهم على حدة أي على حياله ، والهاء عوض عن الواو ، وفي القاموس : يقال جلس وحده وعلى وحده وعلى وحدهما ووحديهما ووحدهم ، وهذا على حدته وعلى وحده أي توحده.

« على أن يغزوا » بصيغة الجمع أي المسلمونمعهم ، أي مع الملك الغادر وأصحابهتلك المدينة أي أهل تلك المدينة المغدور بها وفي بعض النسخ ملك المدينة أي الملك المغدور به أو على أن يغزو بصيغة المفرد أي الملك الغادر « معهم » أي مع المسلمين والباقي كما مر« ولا يأمروا بالغدر » عطف على يغدروا ولا لتأكيد النفي ، أي لا ينبغي للمسلمين أن يأمروا بالغدر ، لأن الغدر عدوان وظلم والأمر بهما غير جائز وإن كان المغدور به كافرا« ولا يقاتلوا مع الذين غدروا » أي لا ينبغي لهم أن يقاتلوا

٣٢٢

يقاتلون المشركين حيث وجدوهم ولا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفار.

٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن محمد بن الحسن بن شمون ، عن عبد الله بن عمرو بن الأشعث ، عن عبد الله بن حماد الأنصاري ، عن يحيى بن عبد الله بن الحسن ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يجيء كل غادر بإمام يوم القيامة مائلا شدقه حتى يدخل النار.

٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن علي بن أسباط ، عن عمه يعقوب بن سالم ، عن أبي الحسن العبدي ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة قال قال أمير المؤمنينعليه‌السلام ذات يوم وهو يخطب على المنبر بالكوفة يا أيها الناس لو لا كراهية

مع الغادرين المغدورينولكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم ، سواء كانوا من أهل هاتين القريتين أو غيرهم ، وفيه دلالة على جواز قتالهم في حال الغيبة ،ولا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفار ، ومعنى لا يجوز لا ينفذ ولا يصح ، تقول : جاز العقد وغيره إذا نفذ ، ومضى على الصحة ، يعني عهد المشركين وصلحهم معهم على غزو فريقهم غير نافذ ولا صحيح ، فلهم أن يقاتلوهم حيث وجدوهم ، أو المعنى أن الصلح الذي جرى بين الفريقين لا يكون مانعا لقتال المسلمين ، الفرقة التي لم يصالحوا مع المسلمين ، فإن الصلح مع أحد المتصالحين لا يستلزم الصلح مع الآخر ، أو المعنى أن ما صالحوا عليه الكفار من إعانتهم لا يلزمهم العمل به ، فيكون تأكيدا لما مر ، والأول أظهر.

الحديث الخامس : ضعيف ، وقد مر مضمونه وشرحه.

الحديث السادس : مجهول.

وفي القاموسالدهى والدهاء النكر وجودة الرأي والإرب ، ورجل داه وده وداهية والجمع دهاة ودهاه دهيا ، ودهاه نسبه إلى الدهاء ، أو عابه وتنقصه. أو أصابه بداهية ، وهي الأمر العظيم ، والدهى كغني العاقل ، انتهى.

٣٢٣

الغدر كنت من أدهى الناس ألا إن لكل غدرة فجرة ولكل فجرة كفرة ألا وإن الغدر والفجور والخيانة في النار.

وكان المراد هنا طلب الدنيا بالحيلة واستعمال الرأي في غير المشروع مما يوجب الوصول إلى المطالب الدنيوية وتحصيلها ، وطالبها على هذا النحو يسمى داهيا وداهية للمبالغة ، وهو مستلزم للغدر بمعنى نقض العهد وترك الوفاء« ألا أن لكل غدرة فجرة » أي اتساع في الشر وانبعاث في المعاصي ، أو كذب أو موجب للفساد أو عدول عن الحق.

في القاموس : الفجر الانبعاث في المعاصي والزنا كالفجور فيهما ، فجر فهو فجور من فجر بضمتين وفاجر من فجار وفجرة ، وفجر فسق وكذب وعصى وخالف ، وأمرهم فسد وأفجر كذب وزنى وكفر ومال عن الحق ، انتهى.

وربما يقرأ بفتح اللام للتأكيد وغدرة بالتحريك جمع غادر كفجرة جمع فاجر ، وكذا الفقرة الثانية ولا يخفى بعده« ولكل فجرة كفرة » بالفتح فيهما أي سترة للحق أو كفران للنعمة وستر لها أو المراد بها الكفر الذي يطلق على أصحاب الكبائر كما مر ، وفي القاموس الكفر ضد الإيمان ويفتح ، وكفر نعمة الله وبها كفورا وكفرانا جحدها وسترها ، وكافر جاحد لأنعم الله تعالى والجمع كفار وكفرة ، وكفر الشيء ستره ككفرة ، وقال :الخون أن يأتمن الإنسان فلا ينصح ، خانه خونا وخيانة وقد خانه العهد والأمانة.

وأقول : روي في نهج البلاغة عنهعليه‌السلام : ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ولكن كل غدرة فجرة وكل فجرة كفرة ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة ، والله ما استغفل بالمكيدة ولا استغمز بالشديدة ، وقال ابن أبي الحديد : الغدرة على فعلة الكثير الغدر ، والكفرة والفجرة الكثير الكفر والفجور ، وكلما كان على هذا البناء فهو الفاعل ، فإن أسكنت العين تقول رجل ضحكة أي يضحك منه ، وقال ابن ميثم : وجه لزوم الكفر

٣٢٤

(باب الكذب )

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن إسحاق بن عمار ، عن أبي النعمان قال قال أبو جعفرعليه‌السلام يا أبا النعمان لا تكذب علينا كذبة فتسلب الحنيفية ولا تطلبن أن تكون رأسا فتكون ذنبا ولا تستأكل

هنا أن الغادر على وجه استباحة ذلك واستحلاله كما هو المشهور من حال عمرو ابن العاص ومعاوية في استباحة ما علم تحريمه بالضرورة من دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجحده هو الكفر ، ويحتمل أن يريد كفر نعم الله وسترها بإظهار معصيته كما هو المفهوم منه لغة ، وإنما وحد الكفرة لتعدد الكفر بسبب تعدد الغدر.

باب الكذب

الحديث الأول : مجهول وقد مر قريب منه في باب طلب الرئاسة.

« كذبة » أي كذبة واحدة فكيف الأكثر ، والكذب الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه سواء طابق الاعتقاد أم لا على المشهور ، وقيل : الصدق مطابقة الاعتقاد والكذب خلافه ، وقيل : الصدق مطابقة الواقع والاعتقاد معا والكلام فيه يطول ولا ريب في أن الكذب من أعظم المعاصي وأعظم أفراده وأشنعها الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمةعليهم‌السلام .

« فتسلب الحنيفية » الحنيفية مفعول ثان لتسلب أي الملة المحمدية المائلة عن الضلالة إلى الاستقامة ، أو من الشدة إلى السهولة ، أي خرج عن كمال الملة والدين ولم يعمل بشرائطها إلا أنه خرج من الملة حقيقة وقد مر نظائره أو هو محمول على ما إذا تعمد ذلك لإحداث بدعة في الدين أو للطعن على الأئمة الهادين ، وفي النهاية : الحنيف المائل إلى الإسلام الثابت عليه ، والحنيفية عند العرب من كان على دين إبراهيم وأصل الحنيف الميل ، ومنه الحديث بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ، انتهى.

٣٢٥

الناس بنا فتفتقر فإنك موقوف لا محالة ومسئول فإن صدقت صدقناك وإن كذبت كذبناك.

والكذب يصدق على العمد والخطإ لكن الظاهر أن الإثم يتبع العمد ، والكذب عليهم يشمل افتراء الحديث عليهم ، وصرف حديثهم إلى غير مرادهم والجزم به ونسبة فعل إليهم لا يرضون به ، أو ادعاء مرتبة لهم لم يدعوها كالربوبية وخلق العالم وعلم الغيب ، أو فضلهم على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمثال ذلك ، أو نسبة ما يوجب النقص إليهم كفعل ينافي العصمة وأشباهه.

« ولا تطلبن أن تكون رأسا فتكون ذنبا » الفاء متفرع على الطلب وهو يحتمل وجوها :

الأول : أن يكون الذنب كناية عن الذل والهوان عند الله وعند الصالحين من عباده.

الثاني : أن يكون المراد به التأخر في الآخرة عمن طلب الرئاسة عليهم ، وقد نبه على ذلك بتشبيه حسن وهو أن الركبان المترتبون الذاهبون في طريق إذا بدا لهم الرجوع أو اضطروا إليه يقع لضيق الطريق لا محالة المتأخر متقدما والمتقدم متأخرا ، وكذا القطيع من الغنم وغيره إذا رجعوا ينعكس الترتيب.

الثالث : أن يكون المعنى تكون ذنبا وذليلا ولا يحصل مرادك في الدنيا أيضا فإن الطالب لكل مرتبة من مراتب الدنيا يصير محروما منها غالبا والهارب من شيء منها تدركه.

الرابع : أن يكون المعنى أن الرئاسة في الدنيا لأوساط الناس لا يكون إلا بالتوسل برئيس أعلى منه إما في الحق أو في الباطل ، ولما كان في غير دولة الحق لا يمكن التوسل بأهل الحق في ذلك ، فلا بد من التوسل بأهل الباطل فيكون ذنبا وتابعا لهم ومن أعوانهم وأنصارهم محشورا في الآخرة معهم ، لقوله تعالى : «احْشُرُوا

٣٢٦

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن إسماعيل بن مهران ، عن سيف بن عميرة عمن حدثه ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال كان علي بن الحسين صلوات الله عليه يقول لولده اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جد وهزل فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترى على الكبير أما علمتم أن رسول

الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ »(١) إلا أن يكون مأذونا من قبل إمام الحق خصوصا أو عموما ويفعل ذلك بنياتهم على الوجه الذي أمروا به ، وهذا في غاية الندرة وأكثر الوجوه مما خطر بالبال ، والله أعلم بحقيقة الحال.

وربما يقرأ ذئبا بالهمزة بدل النون أي آكلا للناس وأموالهم ومهلكا لهم وهو مخالف للنسخ المضبوطة« ولا تستأكل الناس بنا » أي لا تطلب أكل أموال الناس بوضع الأخبار الكاذبة فينا أو بافتراء الأحكام ونسبتها إلينا« فتفتقر » أي في الدنيا أو في الآخرة والأخير أنسب بما هنا ، لكن كان فيما مضى : ولا تقل فينا ما لا نقول في أنفسنا فإنك موقوف.

الحديث الثاني : مرسل.

وفي المصباح :جد في الأمر يجد جدا من بابي ضرب وقتل اجتهد فيه والاسم الجد بالكسر ، ومنه يقال : فلان محسن جدا ، أي نهاية ومبالغة ، وجد في الكلام جدا من باب ضرب هزل والاسم منه الجد بالكسر أيضا والأول هو المراد هنا للمقابلة ، وهزل في كلامه هزلا من باب ضرب مزح ولعب ، والفاعل هازل وهزال مبالغة ، والظاهر أن كل واحد من الجد والهزل متعلق بالصغير والكبير وتخصيص الأول بالصغير والثاني بالكبير بعيد ، وظاهره حرمة الكذب في الهزل أيضا ، ويؤيده عمومات النهي عن الكذب مطلقا ولم أذكر تصريحا من الأصحاب في ذلك.

وروي من طريق العامة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ويل للذي يحدث فيكذب

__________________

(١) سورة الصافّات : ٢٢.

٣٢٧

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صديقا وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذابا.

ليضحك. فويل له ثم ويل له ، وروي أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقا ولا يؤذي قلبا ولا يفرط فيه ، فالمزاح على حد الاعتدال مع عدم الكذب والأذى لا حرج فيه ، بل هو من خصال الإيمان ، ولا ريب أن ترك الكذب في المزاح إذا لم يكن من المعاريض المجوزة التي يكون مقصود القائل فيها حقا كما سيأتي أولى وأحوط ، لكن الحكم بالتحريم بمجرد هذه الأخبار مشكل ، لا سيما إذا لم يترتب عليه مفسدة ، ويظهر خلافه قريبا وإنما المقصود محض المطايبة فإن هذه الأخبار مسوقة لبيان مكارم الأخلاق والزجر عن مساويها أعم من أن تكون واجبة أو مندوبة ، محرمة أو مكروهة ، والمراد بالكبير إما الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمةعليهم‌السلام كما سيأتي أنها من الكبائر ، أو الأعم منها ومما تعظم مفسدته وضرره على المسلمين.

وقوله : اجترأ على الكبير ، أي على الكبير من الكذب بأحد المعنيين ، أو الكبير من المعاصي أعم من الكذب وغيره ، فإن الكذب كثيرا ما يؤدي إلى ذنوب غيره كما أن الصدق يؤدي إلى البر والعمل الصالح حتى يكتب صديقا.

ويخطر بالبال وجه آخر وهو أن يكون المراد بالكبير الرب العليم القدير ، أي لا تجتر على الكذب الصغير بأنه صغير فإنه معصية لله ومعصية الكبير كبيرة ، وما سيأتي بالأول أنسب.

قال الراغب :الصديق من كثر منه الصدق ، وقيل : بل يقال ذلك لمن لم يكذب قط ، وقيل : بل لمن لا يتأتى منه الكذب ، لتعوده الصدق ، وقيل : من صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله ، والصديقون هم قوم دون الأنبياء في الفضيلة ، وقيل : لعل معنى يكتب ، على ظاهره فإنه يكتب في اللوح المحفوظ أو في دفتر الأعمال أو في غيرهما أن فلانا صديق وفلانا كذاب ليعرفهما الناظرون إليه بهذين

٣٢٨

٣ ـ عنه ، عن عثمان بن عيسى ، عن ابن مسكان ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال إن الله عز وجل جعل للشر أقفالا وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب والكذب شر من الشراب.

٤ ـ عنه ، عن أبيه عمن ذكره ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيه ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال إن الكذب هو خراب الإيمان.

الوصفين ، أو معناه يحكم لهما بذلك أو يوجب لهما استحقاق الوصف بصفة الصديقين وثوابهم ، وصفة الكذابين وعقابهم ، أو معناه أنه يلقى ذلك في قلوب المخلوقين ويشهره بين المقربين.

الحديث الثالث : موثق.

والشر في الأول صفة مشبهة وفي الثاني أفعل التفضيل ، والمرادبالشراب جميع الأشربة المسكرة ، وكان المرادبالأقفال الأمور المانعة من ارتكاب الشرور من العقل وما يتبعه ويستلزمه من الحياء من الله ومن الخلق ، والتفكر في قبحها وعقوباتها ومفاسدها الدنيوية والأخروية ، والشراب يزيل العقل ، وبزوالها ترتفع جميع تلك الموانع ، فتفتح جميع الأقفال.

وكان المرادبالكذب الذي هو شر من الشراب الكذب على الله وعلى حججهعليهم‌السلام ، فإنه تألى الكفر وتحليل الأشربة المحرمة ثمرة من ثمرات هذا الكذب ، فإن المخالفين بمثل ذلك حللوها ، وقيل : الوجه فيه أن الشرور التابعة للشراب تصدر بلا شعور بخلاف الشرور التابعة للكذب ، وقد يقال : الشر في الثاني أيضا صفة مشبهة ومن تعليلية والمعنى أن الكذب أيضا شر ينشأ من الشراب لئلا ينافي ما سيأتي في كتاب الأشربة أن شرب الخمر أكبر الكبائر.

الحديث الرابع : ضعيف.

والحمل على المبالغة ، أي هو سببخراب الإيمان وقد يقرأ بتشديد الراء بصيغة المبالغة.

٣٢٩

٥ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد وعلي بن محمد ، عن صالح بن أبي حماد جميعا ، عن الوشاء ، عن أحمد بن عائذ ، عن أبي خديجة ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال الكذب على الله وعلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الكبائر.

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن أبان الأحمر ، عن فضيل بن يسار ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال إن أول من يكذب الكذاب الله عز وجل ثم الملكان اللذان معه ثم هو يعلم أنه كاذب.

٧ ـ علي بن الحكم ، عن أبان ، عن عمر بن يزيد قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول إن الكذاب يهلك بالبينات ويهلك أتباعه بالشبهات.

الحديث الخامس : ضعيف.

الحديث السادس : موثق.

ولفظة« ثم » إما للترتيب الرتبي ويحتمل الزماني أيضا إذ علم الله مقدم على إرادته أيضا ، ثم بإلهام الله تعالى يعلم الملكان أو عند الإرادة تظهر منه رائحة خبيثة يعلم الملكان قبحه وكذبه كما يظهر من بعض الأخبار ، ويمكن أن يكون علم الملكين لمصاحبتهما له وعلمهما بأحواله بناء على عدم تبدلهما في كل يوم كما هو ظاهر أكثر الأخبار ، وأما تأخر علمه فلأنه ما لم يتم الكلام لا يعلم يقينا صدور الكذب منه.

الحديث السابع : صحيح.

وأريدبالكذاب في هذا الحديث إما مدعي الرئاسة بغير حق وسببإهلاكه بالبينات إفتاؤه بغير علم مع علمه بجهله ، وسبب هلاكأتباعه بالشبهات تجويز كونه عالما وعدم قطعهم بجهله ، فهم في شبهة من أمره أو من يضع الحديث ويبتدع في الدين فهو يهلك نفسه بأمر يعلم كذبه وأتباعه يهلكون بالشبهة والجهالة لحسن ظنهم به واحتمالهم صدقه ، والوجهان متقاربان.

٣٣٠

٨ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي نجران ، عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول إن آية الكذاب بأن يخبرك خبر السماء والأرض والمشرق والمغرب فإذا سألته عن حرام الله وحلاله لم يكن عنده شيء.

٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن منصور بن يونس ، عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول إن الكذبة لتفطر الصائم قلت وأينا لا يكون ذلك منه قال ليس حيث ذهبت إنما ذلك الكذب على الله وعلى

الحديث الثامن : صحيح.

« بأن يخبرك » كان الباء زائدة أو التقدير تعلم بأن يخبرك وإنما كان هذا آية الكذاب لأنه لو كان علمه بالوحي والإلهام لكان أحرى بأن يعلم الحلال والحرام ، لأن الحكيم العلام من يفيض على الأنام ما هم أحوج إليه من الحقائق والأحكام ، وكذا لو كان بالوراثة عن الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، ولو كان بالكشف فعلى تقدير إمكان حصوله لغير الحججعليهم‌السلام فالعلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه لا يحصل لأحد إلا بالتقوى وتهذيب السر عن رذائل الأخلاق ، قال الله تعالى : «وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ »(١) ولا يحصل التقوى إلا بالاقتصار على الحلال والاجتناب عن الحرام ، ولا يتيسر ذلك إلا بالعلم بالحلال والحرام ، فمن أخبر عن شيء من حقائق الأشياء ولم يكن عنده معرفة بالحلال والحرام فهو لا محالة كذاب يدعي ما ليس له.

الحديث التاسع : حسن موثق.

ويدل على أن الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمةعليهم‌السلام يفسد الصوم كما ذهب إليه جماعة من الأصحاب ، وهم اختلفوا فقيل : يجب به القضاء والكفارة ، وقيل : القضاء خاصة ، والمشهور أنه لا يفسد وإن نقص به ثوابه وفضله ، وتضاعف

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٢.

٣٣١

رسوله وعلى الأئمة ص لوات الله عليه وعليهم.

١٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن بعض أصحابه رفعه إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام قال ذكر الحائك لأبي عبد اللهعليه‌السلام أنه ملعون فقال إنما ذاك الذي يحوك الكذب على الله وعلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

١١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن القاسم بن عروة ، عن عبد الحميد الطائي ، عن الأصبغ بن نباتة قال قال أمير المؤمنينعليه‌السلام لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده.

١٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام الكذاب هو الذي يكذب في الشيء قال لا ما من أحد إلا يكون ذلك منه ولكن المطبوع على الكذب.

به العذاب والعقاب.

الحديث العاشر : مرسل.

وقوله : أنه ملعون ، بفتح الهمزة بدل اشتمال للحائك ، ويحتمل أن يكون الحديث عندهعليه‌السلام موضوعا ولم يمكنه إظهار ذلك تقية فذكر له تأويلا يوافق الحق ، ومثل ذلك في الأخبار كثير يعرف ذلك من اطلع على أسرار أخبارهمعليهم‌السلام واستعارة الحياكة لوضع الحديث شايعة بين العرب والعجم.

الحديث الحادي عشر : مجهول.

ووجدان طعم الإيمان كناية عن كماله وترتب الثمرات العظيمة عليه ، ولا يكون ذلك إلا بوصوله درجة اليقين وصاحب اليقين المشاهد لمثوبات الآخرة وعقوباتها دائما لا يجترئ على شيء من المعاصي لا سيما الكذب الذي هو من كبائرها.

الحديث الثاني عشر : حسن كالصحيح.

والمطبوع على الكذب المجبول عليه بحيث صار عادة له ولا يتحرز عنه و

٣٣٢

١٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن الحسن بن ظريف ، عن أبيه عمن ذكره ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال عيسى ابن مريمعليه‌السلام من كثر كذبه ذهب بهاؤه.

١٤ ـ عنه ، عن عمرو بن عثمان ، عن محمد بن سالم رفعه قال قال أمير المؤمنينعليه‌السلام ينبغي للرجل المسلم أن يجتنب مواخاة الكذاب فإنه يكذب حتى يجيء بالصدق فلا يصدق.

لا يبالي به ولا يندم عليه ، ومن لا يكون كذلك لا يصدق عليه الكذاب مطلقا فإنه صيغة مبالغة ، أو المراد الكذاب الذي يكتبه الله كذابا كما مر ، أو الكذاب الذي ينبغي أن يجتنب مؤاخاته كما سيأتي ، وفيه إيماء إلى أن الكذب مطلقا ليس من الكبائر ، وفي القاموس طبع على الشيء بالضم : جبل.

الحديث الثالث عشر : مرسل.

« ذهب بهاؤه » أي حسنه وجماله ووقره عند الله سبحانه وعند الخلق ، فإن الخلق وإن لم يكونوا من أهل الملة يكرهون الكذب ويقبحونه ويتنفرون من أهله.

الحديث الرابع عشر : مرفوع.

وسيأتي مثله في باب مجالسة أهل المعاصي في كتاب العشرة في باب من تكره مجالسته ومصادقته« حتى يجيء بالصدق فلا يصدق » الظاهر أنه على بناء المفعول من التفعيل أي لكثرة ما ظهر لك من كذبه لا يمكنك تصديقه فيما يأتي به من الصدق أيضا فلا تنتفع بمصاحبته ومؤاخاته ، مع أنه جذاب لطبع الجليس إلى طبعه ، ويخطر بالبال أنه يحتمل أن يكون المراد به أن هذا الرجل المؤاخي يكذب نقلا عن الأخ الكذاب لاعتماده عليه ثم يظهر كذب ما أخبر به حتى لا يعتمد الناس على صدقه أيضا كما ورد في الخبر : كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما يسمع ، وما سيأتي في البابين يؤيد المعنى الأول ، وربما يقرأ يصدق على بناء المجرد أي إذا

٣٣٣

١٥ ـ عنه ، عن ابن فضال ، عن إبراهيم بن محمد الأشعري ، عن عبيد بن زرارة قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول إن مما أعان الله [ به ] على الكذابين النسيان.

١٦ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أبي يحيى الواسطي ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال الكلام ثلاثة صدق وكذب وإصلاح بين الناس قال قيل له جعلت فداك ما الإصلاح بين الناس قال تسمع من الرجل كلاما

أخبر بصدق يغيره ويدخل فيه شيئا يصير كذبا.

الحديث الخامس عشر : موثق كالصحيح.

« إن مما أعان الله على الكذابين » أي أضرهم به وفضحهم فإنهم كثيرا ما يكذبون في خبر ثم ينسون ويخبرون بما ينافيه ويكذبه ، فيفتضحون بذلك عند الخاصة والعامة ، قال الجوهري : في الدعاء رب أعني ولا تعن على.

الحديث السادس عشر : مرسل.

« تسمع من الرجل كلاما » كان من بمعنى في كما في قوله تعالى : «إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ »(١) أي فيه ، وكذا قالوا في قوله سبحانه : «أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ »(٢) أي في الأرض ، ويحتمل أن يكون تقدير الكلام تسمع من رجل كلاما في حق رجل آخر يذمه به فيبلغ الرجل الثاني ذلك الكلام فتخبث نفسه عن الأول أي يتغير عليه ويبغضه فتلقى الرجل الثاني فتقول : سمعت من الرجل الأول فيك كذا وكذا من مدحه خلاف ما سمعت منه من ذمه ، والتكلف فيه من جهة إرجاع ضمير يبلغه إلى الرجل الثاني ، وهو غير مذكور في الكلام لكنه معلوم بقرينة المقام.

وهذا القول وإن كان كذبا لغة وعرفا جائز لقصد الإصلاح بين الناس

__________________

(١) سورة الجمعة : ٩.

(٢) سورة فاطر : ٤٠.

٣٣٤

يبلغه فتخبث نفسه فتلقاه فتقول سمعت من فلان قال فيك من الخير كذا وكذا خلاف ما سمعت منه.

١٧ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن حماد بن عثمان ، عن الحسن الصيقل قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام إنا قد روينا عن أبي جعفرعليه‌السلام في قول يوسفعليه‌السلام : «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ » فقال والله ما سرقوا

وكأنه لا خلاف فيه عند أهل الإسلام ، والظاهر أنه لا تورية ولا تعريض فيه ، وإن أمكن أن يقصد تورية بعيدة كان ينوي أنه كان حقه أن يقول كذا ولو صافيته لقال فيك كذا ، لكنه بعيد ، وقد اتفقت الأمة على أنه لو جاء ظالم ليقتل رجلا مختفيا ليقتله ظلما أو يطلب وديعة مؤمن ليأخذها غصبا وجب الإخفاء على من علم ذلك ، فلو أنكرها فطولب باليمين ظلما يجب عليه أن يحلف لكن قالوا إذا عرف التورية بما يخرج به عن الكذب وجبت التورية ، كان يقصد ليس عندي مال يجب علي أداؤه إليك ، أو لا أعلم علما يلزمني الإخبار به وأمثال ذلك.

وقالوا : إذا لم يعرفها وجب الحلف والكذب بغير تورية أيضا فإنه وإن كان قبيحا إلا أن إذهاب حق الآدمي أشد قبحا من حق الله تعالى في الكذب أو اليمين الكاذبة ، فيجب ارتكاب أخف الضررين ، ولأن اليمين الكاذب عند الضرورة مأذون فيه شرعا كمطلق الكذب النافع ، بخلاف مال الغير فإنه لا يباح إذهابه بغير إذنه مع إمكان حفظه فأمثال هذا الكذب ليست بمذمومة في نفس الأمر بل إما واجبة أو مندوبة ، ويدل الحديث على أن الكذب شرعا إنما يطلق على ما كان مذموما فغير المذموم قسم ثالث من الكلام يسمى إصلاحا فهو واسطة بين الصدق والكذب.

الحديث السابع عشر : مجهول.

« في قول يوسف عليه‌السلام » هذا لم يكن قول يوسفعليه‌السلام وإنما كان قول مناديه ونسب إليه لوقوعه بأمره ، والعير بالكسر الإبل تحمل الميرة ، ثم غلب على كل

٣٣٥

وما كذب وقال إبراهيمعليه‌السلام : «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ » فقال والله ما فعلوا وما كذب قال فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام ما عندكم فيها يا صيقل قال فقلت ما عندنا فيها إلا التسليم قال فقال إن الله أحب اثنين وأبغض اثنين أحب الخطر فيما بين الصفين وأحب الكذب في الإصلاح وأبغض

قافلة« وقال إبراهيم » عطف على الجملة السابقة بتقدير روينا ، وقيل « قال » هنا مصدر ، فإن القال والقيل مصدران كالقول ، فهو عطف على قول يوسف «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ »(١) أريد بالكبير الكبير في الخلقة أو التعظيم ، قيل : كانت لهم سبعون صنما مصطفة وكان ثمة صنم عظيم مستقبل الباب من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل ، ولعل إرجاع الضمير المذكر العاقل إلى الأصنام من باب التهكم أو باعتبار أنها يعقلون ويفهمون ويجيبون بزعم عبادها ، وأما ضمير الجمع فيقوله عليه‌السلام : والله ما فعلوا ، فراجع إلى الكبير باعتبار إرادة الجنس الشامل للمتعدد ولو فرضا ، أو إلى الأصنام للتنبيه على اشتراك الجميع في عدم صلاحية صدور ذلك الفعل منه.

وقيل : إنما أتى بالجمع لمناسبة ما سرقوا أو مبني على أن الفعل الصادر عن واحد من الجماعة قد ينسب إلى الجميع نحو قوله تعالى : «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ »(٢) بناء على أن المنادي جبرئيل فقط ، قيل : ويمكن أن يكون إرجاع ضمير «فَسْئَلُوهُمْ » أيضا من هذا القبيل إذ لو كان المقصود نطق كل واحد في الزمان المستقبل تكون زيادة« كانوا » في المضارع لغوا وإن كان الغرض النطق في الزمان الماضي لا يترتب عليه صحة السؤال إذ لا يلزم جواز نطقهم قبل الكسر جواز ذلك بعده.

« أحب الخطر فيما بين الصفين » في النهاية يقال : خطر البعير بذنبه يخطر إذا رفعه وحطه ، إنما يفعل ذلك عند الشبع والسمن ، ومنه حديث مرحب : فخرج

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٦٣.

(٢) سورة آل عمران : ٣٩.

٣٣٦

الخطر في الطرقات وأبغض الكذب في غير الإصلاح إن إبراهيمعليه‌السلام إنما قال : «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا » إرادة الإصلاح ودلالة على أنهم لا يفعلون وقال يوسفعليه‌السلام إرادة الإصلاح.

يخطر بسيفه أي يهزه معجبا بنفسه متعرضا للمبارزة ، أو أنه كان يخطر في مشيته أي يتمايل ويمشي مشية المعجب ، وسيفه في يده أي كان يخطر سيفه معه.

« إرادة الإصلاح » لعل المراد إرادة إصلاح قومه برجوعهم عن عبادة الأصنام ، وجه الدلالة أن العاقل إذا تفكر في نسبة الكسر إليها وعلم أنه لا يصح ذلك إلا من ذي شعور عاقل قادر ، وعلم أن هذه الأوصاف منتفية فيها ، وعلم أنها لا تقدر على دفع الاستخفاف والضرر عن أنفسها علم أنها ليست بمستحقة للألوهية والعبادة ويكون ذلك داعيا إلى الرجوع عنها ورفض العبادة لها.

وللعلماء فيه وجوه أخرى : الأول : أنها من المعاريض التي يقصد بها الحق وإلزام الخصم وتبكيته فلم يكن قصدهعليه‌السلام أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم وإنما قصد أن يقرره لنفسه على أسلوب تعريضي مع الاستهزاء والتكبيت كما لو قال لك من لا يحسن الخط فيما كتبته بخط رشيق : أنت كتبت؟ فقلت : بل كتبته أنت ، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته لصاحبك الأمي ، والتعريض مما يجوز عقلا ونقلا لمصلحة جلب نفع أو دفع ضرر أو استهزاء في موضعه ونحوها.

الثاني : أنهعليه‌السلام غاظته الأصنام حين رآها مصطفة مزينة وكان غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم وتوقيرهم له ، فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته وكسره لها ، والفعل كما يسند إلى المباشر يسند إلى السبب أيضا.

الثالث : أن ذلك حكاية لما يعود إليه مذهبهم كأنه قال : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعي إليها أن يقدر على أمثال هذه الأفعال لا سيما الكبير الذي يستنكف أن يعبد معه هذه الصغار.

٣٣٧

الرابع : ما روي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله : بل فعله ، ثم يبتدئ : كبيرهم هذا ، أي فعله من فعله وهذا من باب التورية إذ له ظاهر وباطن ، وباطنه ما ذكر وظاهره إسناد الفعل إلى الكبير وفهمهم تعلق به ومرادهعليه‌السلام هو الباطن.

الخامس : ما روي عن بعضهم أنه كان يقف عند قوله كبيرهم ، ثم يبتدئ بقول هذا فاسألوهم ، وأراد بالكبير نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم ، وهذا أيضا من باب التورية وقيل : إنه يتم بدون الوقف أيضا بأن يكون هذا إشارة إلى نفسه المقدسة والمغايرة بين المشير والمشار إليه كاف بحسب الاعتبار.

السادس : أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير : بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم ، فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطا بكونهم ناطقين فلما لم يكونوا ناطقين لم يكونوا فاعلين ، والغرض منه تسفيه القوم وتقريعهم وتوبيخهم لعبادة من لا يسمع ولا ينطق ولا يقدر على أن يخبر من نفسه بشيء.

ويؤيده ما روي في كتاب الاحتجاج أنه سئل الصادق عن قول الله عز وجل في قصة إبراهيم : «قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ » قال : ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم ، قيل : وكيف ذلك؟ فقال : إنما قال إبراهيم : فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، إن نطقوا فكبيرهم فعل ، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا فما نطقوا وما كذب إبراهيم.

وقال البيضاوي : وما روي أنهعليه‌السلام قال : لإبراهيم ثلاث كذبات ، تسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته.

« وقال يوسف عليه‌السلام إرادة الإصلاح » كان المراد الإصلاح بينه وبين إخوته في حبس أخيه بنيامين عنده وإلزامهم ذلك بحيث لا يكون لهم محل منازعة ولم يتيسر له ذلك إلا بأمرين : أحدهما نسبة السرقة إليه ، وثانيهما : التمسك بحكم آل يعقوب في السارق وهو استرقاق السارق سنة وكان حكم ملك مصر أن يضرب السارق

٣٣٨

ويغرم مما سرق فلم يتمكن من أخذ أخيه في دين الملك فلذلك أمر فتيانه بأن يدسوا الصاع في رحل أخيه وأن ينسبوا السرقة إليه ، وأن يستفتوا في جزاء السارق منهم فقالوا : «جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ » أي أخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير ، فلما فتشوا وجدوا الصاع في رحل أخيه فأخذوا برقبته وحكموا برقيته ، ولم يبق لإخوته محل منازعة في حبسه إلا أن قالوا على سبيل التضرع والالتماس «فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ » فردهم بقوله : «مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ ».

قيل : أراد إنا إذا أخذنا غيره لظالمون في مذهبكم ، لأن استعباد غير من وجد الصاع في رحله ظلم عندكم ، أو أراد أن الله أمر بي وأوحى إلى أن آخذ بنيامين فلو أخذت غيره كنت عاملا بخلاف الوحي.

وللعلماء فيه أيضا وجوه أخرى : الأول : أن ذلك النداء لم يكن بأمره بل نادوا من عند أنفسهم لأنهم لما لم يجدوا الصاع غلب على ظنهم أنهم أخذوه.

الثاني : أنهم لم ينادوا أنكم سرقتم الصاع فلعل المراد أنكم سرقتم يوسف من أبيه ، يدل عليه ما رواه الصدوق في العلل بإسناده عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنه قال في تفسير هذه الآية : أنهم سرقوا يوسف من أبيه ألا ترى أنهم حين قالوا «ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ » ولم يقولوا سرقتم صواع الملك.

الثالث : لعل المراد من قولهم «إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ » الاستفهام كما في قوله حكاية عن إبراهيم «هذا رَبِّي » وإن كان ظاهره الخبر وأيد ذلك بأن في مصحف ابن مسعود أئنكم بالهمزتين.

وقال بعض الأفاضل : حاصل الجواب إن لكل من الصدق والكذب معنيين أحدهما لغوي والآخر عرفي ، فالأول هو الموافق للواقع والمخالف للواقع ، والثاني الموافق للحق والمخالف للحق ، والمراد بالحق رضا الله تعالى فكما يمكن أن لا

٣٣٩

١٨ ـ عنه ، عن أبيه ، عن صفوان ، عن أبي مخلد السراج ، عن عيسى بن حسان قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول كل كذب مسئول عنه صاحبه يوما إلا [ كذبا ] في ثلاثة رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا يريد بذلك الإصلاح ما بينهما أو رجل وعد أهله

يكون الصادق اللغوي صادقا عرفيا كما قال تعالى «فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ »(١) فكذلك يمكن أن لا يكون الكاذب اللغوي كاذبا عرفيا كما ذكرهعليه‌السلام في هذا الخبر.

الحديث الثامن عشر : مجهول« يوما » لعل الإبهام لاحتمال أن يكون السؤال في القبر أو في القيامة ، ويحتمل الدنيا أيضا فإن للناس أن يعيروه بذلك« إلا كذبا » المراد به الكذب اللغوي« فهو موضوع عنه » أي إثمه مرفوع عنه لا يأثم عليه« يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا » كان يقول : لكل منهما التقصير منك وهو غير مقصر في حقك أو يلقى كلا منهما بكلام غير الكلام الذي سمع من الآخر فيه ومن الشتم وإظهار العداوة ، وهذا أنسب معنى والأول لفظا « وما » في قوله : ما بينهما ، موصولة وهي مفعول الإصلاح.

« أو رجل وعد أهله » فيه أن الوعد من قبيل الإنشاء ، والصدق والكذب إنما يكونان في الخبر ، ولعله باعتبار أنه يلزمه إذا لم يف به أن يعتذر بما يتضمن الكذب كان يقول نسيت أو لم يمكني(٢) وأمثال ذلك ، أو باعتبار ما يستلزمه من الإخبار ضمنا بإرادة الوفاء ، هذا بحسب ما هو أظهر عندي في الوعد لكن ظاهر أكثر العلماء أنه من قبيل الخبر وسيأتي الكلام فيه في باب خلف الوعد.

قال الراغب : الصدق والكذب أصلهما في القول ماضيا كان أو مستقبلا ، وعدا كان أو غيره ، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في القول ، ولا يكونان من القول إلا

__________________

(١) سورة النور : ١٣.

(٢) كذا.

٣٤٠

شيئا وهو لا يريد أن يتم لهم.

في الخبر دون غيره من أصناف الكلام الاستفهام والأمر والدعاء ، ولذلك قال : «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً »(١) «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً »(٢) «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ »(٣) وقد يكونان بالعرض في غيره من أنواع الكلام من الاستفهام والأمر والدعاء وذلك نحو قول القائل : أزيد في الدار؟ فإن في ضمنه إخبارا بكونه جاهلا بحال زيد وكذا إذا قال : واسني في ضمنه أنه محتاج إلى المواساة ، وإذا قال : لا تؤذني ففي ضمنه أنه يؤذيه ، انتهى.

ثم اعلم أن مضمون الحديث متفق عليه بين الخاصة والعامة فروى الترمذي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يحل الكذب إلا في ثلاث : يحدث الرجل امرأته ليرضيها ، والكذب في الحرب ، والكذب في الإصلاح بين الناس ، وفي صحيح مسلم قال ابن شهاب وهو أحد رواته : لم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث : الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها ، قال عياض : لا خلاف في جوازه في الثلاث وإنما يجوز في صورة ما يجوز منه فيها فأجاز قوم فيها صريح الكذب وأن يقول ما لم يكن ، لما فيه من المصالح ويندفع فيها الفساد ، قالوا : وقد يجب لنجاة مسلم من القتل ، وقال بعضهم : لا يجوز فيها التصريح بالكذب وإنما يجوز فيها التورية بالمعاريض ، وهي شيء يخلص من المكروه والحرام إلى الجائز ، إما لقصد الإصلاح بين الناس أو لدفع ما يضر أو لغير ذلك وتأول المروي على ذلك.

وقال : مثل أن يعد زوجته أن يفعل لها ويحسن إليها ، ونيته إن قدر الله تعالى أو يأتيها في هذا بلفظ محتمل ، وكلمة مشتركة تفهم من ذلك ما يطيب قلبها ، وكذلك في الإصلاح بين الناس ينقل لهؤلاء من هؤلاء الكلام المحتمل ، وكذلك في الحرب

__________________

(١ و ٢) سورة النساء : ١٢٢ ـ ٨٧.

(٣) سورة مريم : ٥٤.

٣٤١

١٩ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال المصلح ليس بكذاب.

٢٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي ، عن محمد بن مالك ، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال حدثني أبو عبد اللهعليه‌السلام بحديث فقلت له جعلت فداك أليس زعمت لي الساعة كذا وكذا؟

مثل أن يقول لعدوه : انحل حزام سرجك ويريد فيما مضى ، ويقول لجيش عدوه مات أميركم ليذعر قلوبهم ، ويعني النوم أو يقول لهم : غدا يأتينا مدد وقد أعد قوما من عسكره ليأتوا في صورة المدد أو يعني بالمدد الطعام ، فهذا نوع من الخدع الجائزة والمعاريض المباحة.

وقال القرطبي : لعل ما استند في منعه التصريح بقاعدة حرمة الكذب وتأويله الأحاديث بحملها على المعاريض ما يعضده دليل ، وأما الكذب ليمنع مظلوما من الظلم عليه فلم يختلف فيه أحد من الأمم لا عرب ولا عجم ، ومن الكذب الذي يجوز بين الزوجين الإخبار بالمحبة والاغتباط وإن كان كذبا لما فيه من الإصلاح ودوام الألفة.

الحديث التاسع عشر : صحيح وكان فيه إشعارا بتجويز التكرار والمبالغة في الكذب للإصلاح.

الحديث العشرون : مجهول.

وفي القاموس :الزعم مثلثة القول الحق والباطل والكذب ضد ، وأكثر ما يقال فيما يشك فيه ، والزعمي الكذاب والصادق ، وزعمتني كذا ظننتني والتزعم التكذب وأمر مزعم كمقعد لا يوثق به ، وفي النهاية فيه أنه ذكر أيوبعليه‌السلام فقال : إذا كان مر برجلين يتزاعمان ، وقال الزمخشري : معناه أنهما يتحادثان بالزعمات وهي ما لا يوثق به من الأحاديث ، ومنه الحديث بئس مطية الرجل ، زعموا معناه أن الرجل إذا أراد المسير إلى بلد والظعن في حاجة ركب مطية حتى يقضي إربه فشبه ما

٣٤٢

فقال لا فعظم ذلك علي فقلت بلى والله زعمت فقال لا والله ما زعمته قال فعظم علي فقلت جعلت فداك بلى والله قد قلته قال نعم قد قلته أما علمت أن

يقدمه المتكلم أمام كلامه ويتوصل به إلى غرضه من قوله زعموا كذا وكذا بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة وإنما يقال : زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه ، وإنما يحكى عن الألسن على البلاغ فذم من الحديث ما هذا سبيله ، والزعم بالضم والفتح قريب من الظن.

وقال في المصباح : زعم زعما من باب قتل ، وفي الزعم ثلاث لغات : فتح الزاي للحجاز ، وضمها لأسد وكسرها لبعض قيس ، ويطلق بمعنى القول ، ومنه زعمت الحنفية وزعم سيبويه ، أي قال ، وعليه قوله تعالى : «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ »(١) أي كما أخبرت ، ويطلق على الظن ، يقال : في زعمي كذا وعلى الاعتقاد ، ومنه قوله تعالى : «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا »(٢) .

قال الأزهري : وأكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه ولا يتحقق ، وقال بعضهم : هو كناية عن الكذب ، وقال المرزوقي : أكثر ما يستعمل فيما كان باطلا وفيه ارتياب ، وقال ابن القوطية : زعم زعما قال خبرا لا يدري أحق هو أو باطل ، قال الخطابي : ولذا قيل : زعم مطية الكذب ، وزعم غير مزعم ، قال غير مقول صالح ، وادعى ما لا يمكن ، انتهى.

أقول : وإذا علمت ذلك ظهر لك أن الزعم إما حقيقة لغوية أو عرفية أو شرعية في الكذب ، أو ما قيل بالظن أو بالوهم من غير علم وبصيرة ، فإسناده إلى من لا يكون قوله إلا عن حقيقة ويقين ليس من دأب أصحاب اليقين ، وإن كان مراده مطلق القول أو القول عن علم فغرضهعليه‌السلام تأديبه وتعليمه آداب الخطاب مع أئمة الهدى وسائر أولي الألباب.

__________________

(١) سورة الإسراء : ٩٢.

(٢) سورة التغابن : ٧.

٣٤٣

كل زعم في القرآن كذب.

٢١ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن أسباط ، عن أبي

وأما الحكم بكون ذلك كذبا وحراما فهو مشكل ، إذ غاية الأمر أن يكون مجازا ولا حجر فيه ، وأما يمينهعليه‌السلام على عدم الزعم فهو صحيح لأنه قصد به الحقيقة أو المجاز الشائع ، وكأنه من التورية والمعاريض لمصلحة التأديب أو تعليم جواز مثل ذلك للمصلحة ، فإن المعتبر في ذلك قصد المحق من المتخاصمين كما ذكره الأصحاب ، وكأنه لذلك ذكر المصنف (ره) الخبر في هذا الباب وإن كان مع قطع النظر عن ذلك له مناسبة خفية فتأمل.

قوله عليه‌السلام « إن كل زعم في القرآن كذب » أي أطلق في مقام إظهار كذب المخبر به فلا ينافي ذلك قوله تعالى حاكيا عن المشركين : «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً »(١) فإنهم أشاروا بقولهم زعمت إلى قوله تعالى : «إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ »(٢) فإن ما أشاروا إليه بقوله زعمت حق لكنهم أوردوه في مقام التكذيب ، ويمكن أيضا تخصيصه بما ذكره الله من قبل نفسه سبحانه غير حاك عن غيره ، كما قال تعالى : «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا »(٣) وقال سبحانه «بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً »(٤) وقال : «أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ »(٥) وقال : «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ »(٦) .

الحديث الحادي والعشرون : ضعيف على المشهور.

وفيه إما إرسال أو إضمار بأن يكون ضمير قال راجعا إلى الصادقعليه‌السلام أو الرضاعليه‌السلام « إياكم والكذب » أرادعليه‌السلام لا تكذبوا في ادعائكم الرجاء والخوف

__________________

(١) سورة الإسراء : ٩٢.

(٢) سورة سبأ : ٩.

(٣) سورة التغابن : ٧.

(٤) سورة الكهف : ٤٨.

(٥) سورة الأنعام : ٢٢.

(٦) سورة الإسراء : ٥٦.

٣٤٤

إسحاق الخراساني قال كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول إياكم والكذب فإن كل راج طالب وكل خائف هارب.

٢٢ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن الحجال ، عن ثعلبة ، عن معمر بن عمرو ، عن عطاء ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا كذب

من الله سبحانه ، وذلكلأن كل راج طالب لما يرجو ساع في أسبابه وأنتم لستم كذلك ،وكل خائف هارب مما يخاف منه مجتنب مما يقربه منه وأنتم لستم كذلك.

وهذا مثل قولهعليه‌السلام الذي رواه في نهج البلاغة أنهعليه‌السلام قال بعد كلام طويل لمدع كاذب أنه يرجو الله ويدعي بزعمه أنه يرجو الله : كذب والله العظيم ما باله لا يتبين رجاؤه في عمله وكل من رجا عرف رجاؤه في عمله إلا رجاء الله ، فإنه مدخول ، وكل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول يرجو الله الكبير ويرجو العباد في الصغير ، فيعطى العبد ما لا يعطي الرب ، فما بال الله جل ثناؤه يقصر به عما يصنع لعباده ، أتخاف أن تكون في رجائك له كاذبا أو يكون لا تراه للرجاء موضعا؟ وكذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه ، فجعل خوفه من العباد نقدا وخوفه من خالقه ضمارا ووعدا.

وقال بعضهم : حذر من الكذب على الله وعلى رسوله وعلى غيرهما في ادعاء الدين مع ترك العمل به ، ورغب في الصدق بأن الكذب ينافي الإيمان ، وذلك لأن الكاذب لم يطلب الثواب ، وكل من لم يطلب الثواب فهو ليس براج بحكم المقدمة الأولى ، ولم يهرب من العقاب ، وكل من لم يهرب من العقاب فهو ليس بخائف بحكم المقدمة الثانية ، ومن انتفى عنه الخوف والرجاء فهو ليس بمؤمن كما هو المقرر عند أهل الإيمان ، انتهى.

وارتكب أنواع التكلف لقلة التتبع ، والمقصود ما ذكرنا.

الحديث الثاني والعشرون : مجهول.

٣٤٥

على مصلح ثم تلا «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ » ثم قال والله ما سرقوا وما كذب ثم تلا «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ » ثم قال والله ما فعلوه وما كذب.

وقوله : « ثم تلا » كلام الراوي ، والضمير راجع إلى الصادقعليه‌السلام أو كلام الإمامعليه‌السلام والضمير راجع إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأول أظهر وقد مر مضمونه.

تكملة

قال بعض المحققين : اعلم أن الكذب ليس حراما لعينه بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره ، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو به فيكون جاهلا وقد يتعلق به ضرر غيره ورب جهل فيه منفعة ومصلحة ، فالكذب تحصيل لذلك الجهل فيكون مأذونا فيه ، وربما كان واجبا كما لو كان في الصدق قتل نفس بغير حق.

فنقول : الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا فالكذب فيه حرام ، وإن أمكن التوصل بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح ، إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا ، وواجب إن كان المقصود واجبا ، كما أن عصمة دم المسلم واجبة ، فمهما كان في الصدق سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب ، ومهما كان لا يتم مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجني عليه إلا بالكذب فالكذب مباح ، إلا أنه ينبغي أن يحترز عنه ما يمكن لأنه إذا فتح على نفسه باب الكذب فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغني عنه وإلى ما يقتصر فيه على حد الواجب ومقدار الضرورة ، فكان الكذب حراما في الأصل إلا لضرورة.

والذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت : ما سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث : الرجل يقول القول

٣٤٦

يريد الإصلاح والرجل يقول القول في الحرب ، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها.

وقالت أيضا : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس بكذاب من أصلح بين اثنين ، فقال خيرا أو نما خيرا.

وقالت أسماء بنت يزيد : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين رجلين يصلح بينهما ، وروي عن أبي كاهل قال : وقع بين رجلين من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلام حتى تصادما ، فلقيت أحدهما فقلت : ما لك ولفلان فقد سمعته يحسن الثناء عليك؟ ولقيت الآخر فقلت له مثل ذلك حتى اصطلحا ، ثم قلت : أهلكت نفسي وأصلحت بين هذين؟ فأخبرت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا أبا كاهل أصلح بين الناس ولو بالكذب.

وقال عطاء بن يسار : قال رجل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أأكذب أهلي ، قال : لا خير في الكذب قال : أعدها وأقول لها؟ قال : لا جناح عليك.

وعن النواس بن سمعان الكلابي قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار(١) كل الكذب مكتوب كذبا لا محالة إلا أن يكذب الرجل في الحرب ، فإن الحرب خدعة ، أو يكون بين رجلين شحناء(٢) فيصلح بينهما ، أو يحدث امرأته يرضيها.

وقال عليعليه‌السلام : إذا حدثتكم بشيء عن رسول الله فلئن أخر من السماء(٣) أحب إلى من أن أكذب عليه ، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فالحرب خدعة.

فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء ، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به

__________________

(١) الفراش : طائر صغير يعد من الحشرات ، ويقال له بالفارسية « پروانه ».

(٢) الشحناء : العداوة.

(٣) خرم الشيء : شقه وقطعه.

٣٤٧

مقصود صحيح له أو لغيره ، أما ماله فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله ، فله أن ينكر أو يأخذه السلطان فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله ارتكبها فله أن ينكرها ويقول : ما زنيت ولا شربت ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله ، وذلك لأن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى ، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلما وعرضه بلسانه وإن كان كاذبا.

وأما عرض غيره فبأن يسأل عن سر أخيه فله أن ينكره وأن يصلح بين اثنين وأن يصلح بين الضرات من نسائه بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه ، أو كانت امرأته لا تطيعه إلا بوعد ما لا يقدر عليه فيعدها في الحال تطييبا لقلبها ، أو يعتذر إلى إنسان بالكذب وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد فلا بأس به ، ولكن الحد فيه أن الكذب محذور ولكن لو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور.

فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر ويزن بالميزان القسط ، فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعا في الشرع من الكذب فله الكذب ، وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق ، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى لأن الكذب مباح بضرورة أو حاجة مهمة فإذا شك في كون الحاجة مهمة فالأصل التحريم فيرجع إليه ، ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه ، وكذلك مهما كانت الحاجة له فيستحب أن يترك أغراضه ويهجر الكذب.

فأما إذا تعلق بعرض غيره فلا يجوز المسامحة بحق الغير والإضرار به ، وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم ثم هو لزيادات المال والجاه ، ولأمور ليس فواتها محذورا حتى أن المرأة ليحكي عن زوجها ما يتفاخر به وتكذب لأجل مراغمة الضرات وذلك حرام.

٣٤٨

قالت أسماء : سمعت امرأة تسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت : إن لي ضرة وأنا أتكثر من زوجي بمالا لا يفعل أضارها بذلك فهل لي فيه شيء؟ فقال : المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من تطعم بما لم يطعم ، وقال : لي وليس له ، وأعطيت ولم يعط ، كان كلابس ثوبي زور يوم القيامة.

ويدخل في هذا فتوى العالم بما لا يتحققه ، ورواية الحديث الذي ليس يثبت فيه إذ غرضه أن يظهر فضل نفسه فهو لذلك يستنكف من أن يقول لا أدري ، وهذا حرام.

ومما يلتحق بالنساء الصبيان فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب إلا بوعد ووعيد وتخويف ، كان ذلك مباحا ، نعم روينا في الأخبار أن ذلك يكتب كذبة ولكن الكذب المباح أيضا يكتب ويحاسب عليه ويطالب لتصحيح قصده فيه ثم يعفى عنه ، لأنه إنما أبيح بقصد الإصلاح ويتطرق إليه غرور كثير فإنه قد يكون الباعث له حظه وغرضه الذي هو مستغنى عنه وإنما يتعلل ظاهرا بالإصلاح فلهذا يكتب.

وكل من أتى بكذبه فقد وقع في خطر الاجتهاد ليعلم أن المقصود الذي كذب له هل هو أهم في الشرع من الصدق أو لا ، وذلك غامض جدا ، فالحزم في تركه إلا أن يصير واجبا بحيث لا يجوز تركه كما يؤدي إلى سفك دم أو ارتكاب معصية كيف كان ، وقد ظن ظانون أنه يجوز وضع الأخبار في فضائل الأعمال وفي التشديد في المعاصي ، وزعموا أن القصد منه صحيح وهو خطاء محض ، إذ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، وهذا لا يترك إلا بضرورة ولا ضرورة هيهنا ، إذ في الصدق مندوحة عن الكذب ، ففيما ورد من الآيات والأخبار كفاية عن غيرها.

٣٤٩

وقول القائل : أن ذلك قد تكرر على الإسماع وسقط وقعها وما هو جديد على الأسماع فوقعه أعظم ، فهذا هوس إذ ليس هذا من الأغراض التي تقاوم محذور الكذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى الله تعالى ، ويؤدي فتح بابه إلى أمور تشوش الشريعة ، فلا يقاوم خير هذا بشره أصلا ، فالكذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكبائر التي لا يقاومها شيء.

ثم قال : قد نقل عن السلف : أن في المعاريض ما يغني الرجل عن الكذب وعن ابن عباس وغيره إما في المعاريض ما يغني الرجل عن الكذب وإنما أرادوا من ذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب فأما إذا لم يكن حاجة وضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعا ، ولكن التعريض أهون.

ومثال المعاريض ما روي أن مطرفا دخل على زياد فاستبطأه فتعلل بمرض فقال : ما رفعت جنبي منذ فارقت الأمير إلا ما رفعني الله ، وقال إبراهيم : إذا بلغ الرجل عنك شيء فكرهت أن تكذب فقل : إن الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء ، فيكون قوله : ما ، حرف النفي عند المستمع وعنده للإبهام ، وكان النخعي لا يقول لابنته : اشترى لك سكرا بل يقول أرأيت لو اشتريت لك سكرا فإنه ربما لا يتفق ، وكان إبراهيم إذا طلبه في الدار من يكرهه قال للجارية : قولي له : اطلبه في المسجد ، وكان لا يقول : ليس هيهنا لئلا يكون كاذبا ، وكان الشعبي إذا طلب في البيت وهو يكرهه ، فيخط دائرة ويقول للجارية : ضع الإصبع فيها وقولي : ليس هيهنا.

وهذا كله في موضع الحاجة فأما مع عدم الحاجة فلا ، لأن هذا تفهيم للكذب وإن لم يكن اللفظ كذبا ، وهو مكروه على الجملة كما روي عن عبد الله بن عتبة قال : دخلت مع أبي على عمر بن عبد العزيز فخرجت وعلي ثوب فجعل الناس يقولون : هذا كساء أمير المؤمنين فكنت أقول : جزى الله أمير المؤمنين خيرا ، فقال لي : يا بني اتق الكذب إياك والكذب وما أشبهه ، فنهاه عن ذلك لأن فيه تقريرا لهم على ظن

٣٥٠

كاذب لأجل غرض المفاخرة وهو غرض باطل فلا فائدة فيه.

نعم المعاريض يباح لغرض خفيف كتطييب قلب الغير بالمزاح كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تدخل الجنة عجوز ، وفي عين زوجك بياض ، ونحملك على ولد البعير ، فأما الكذب الصريح فكما يعتاده الناس من مداعبة الحمقاء بتغريرهم بأن امرأة قد رغبت في تزويجك ، فإن كان فيه ضرر يؤديه إلى إيذاء قلب فهو حرام ، وإن لم يكن إلا مطائبة فلا يوصف صاحبها بالفسق ولكن ينقص ذلك من درجة إيمانه ، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يستكمل المرء الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، وحتى يجتنب الكذب في مزاحه ، وأما قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها الناس يهوي بها أبعد من الثريا ، أراد به ما فيه غيبة مسلم أو إيذاء قلب دون محض المزاح.

ومن الكذب الذي لا يوجب الفسق ما جرت به العادة في المبالغة كقوله : قلت لك كذا مائة مرة ، وطلبتك مائة مرة فإنه لا يراد بها تفهيم المرات بعددها ، بل تفهيم المبالغة ، فإن لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذبا وإن طلب مرات لا يعتاد مثلها في الكثرة فلا يأثم وإن لم يبلغ مائة ، وبينهما درجات يتعرض مطلق اللسان بالمبالغة فيها لخطر الكذب.

ومما يعتاد الكذب فيه ويتساهل به أن يقال : كل الطعام فيقول : لا أشتهيه وذلك منهي عنه وهو حرام وإن لم يكن فيه غرض صحيح ، قال مجاهد : قالت أسماء بنت عميس(١) : كنت صاحبة عائشة التي هيئتها وأدخلتها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعي

__________________

(١) اسماء بنت عميس زوجة جعفر بن ابيطالب (عليه‌السلام ) ، وكانت ممن هاجر مع زوجه جعفر الى حبشة قبل زفاف عايشة بسنوات ، وأقامت في تلك البلاد الى سنة سبع من الهجرة وزفاف عايشة وقع في السنة الأولى من الهجرة ، فهذه اما امرأة اخرى اسمها أسماء كأسماء بنت يزيد ، أوهى سلمى بنت عميس زوجة حمزة بن عبد المطلب اختها وصحفت بيد الرواة والنسّاخ ، ونظير هذا.

٣٥١

نسوة ، قالت : فو الله ما وجدنا عنده قوتا إلا قدحا من لبن فشرب ثم ناوله عائشة ، قالت : فاستحيت الجارية ، فقلت : لا تردين يد رسول الله خذي منه ، قالت : فأخذته على حياء فشربت منه ثم قال : ناولي صواحبك ، فقلن : لا نشتهيه ، فقال : لا تجمعن جوعا وكذبا ، قالت : فقلت : يا رسول الله إن قالت أحد منا لشيء نشتهيه لا نشتهيه أيعد ذلك كذبا؟ قال : إن الكذب ليكتب حتى يكتب الكذيبة كذيبة.

وقد كان أهل الورع يحترزون عن التسامح بمثل هذا الكذب ، قال الليث بن سعد : كانت ترمص عينا سعيد بن المسيب حتى يبلغ الرمص خارج عينيه(١) فيقال له : لو مسحت هذا الرمص؟ فيقول : فأين قول الطبيب وهو يقول لي : لا تمس عينيك فأقول لا أفعل.

وهذه من مراقبة أهل الورع ، ومن تركه انسل لسانه عن اختياره فيكذب ولا يشعر ، وعن خوات التيمي قال : جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة إلى بني لي فانكبت عليه فقالت : كيف أنت يا بني؟ فجلس الربيع فقال : أرضعته؟ فقالت : لا ، قال : ما عليك لو قلت يا بن أخي فصدقت.

ومن العادة أن يقول : يعلم الله فيما لا يعلمه ، قال عيسىعليه‌السلام : إن من أعظم الذنوب عند الله أن يقول العبد إن الله يعلم لما لا يعلم ، وربما يكذب في حكاية المنام والإثم فيه عظيم ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن من أعظم الفري أن يدعي الرجل إلى غير أبيه أو يرى عينيه في المنام ما لم تريا أو تقول علي ما لم أقل ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من

__________________

السهو أو التصحيف وقع أيضا في روايات زفافعليها‌السلام ففى بعضها ورد ذكر الأسماء بنت عميس ، أو منها نقلت الحديث ، وقد وقع زفافهاعليها‌السلام في السنة الثانية بعد غزوة بدر الكبرى.

(١) رمصت عينه : سال منه الرمص ، والرمص : وسخ ابيض في مجرى الدمع من العينين.

٣٥٢

(باب )

(ذي اللسانين )

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن عون القلانسي ، عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال من لقي المسلمين بوجهين

كذب في حلمه كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرين(١) .

باب ذي اللسانين

الحديث الأول : ضعيف على المشهور ، وقال بعض المحققين : ذو اللسانين هو الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ، ويتردد بين المتعاديين ويكلم كل واحد بكلام يوافقه وقلما يخلو عنه من يشاهد متعاديين ، وذلك عين النفاق.

وقال بعضهم : اتفقوا على أن ملاقاة الاثنين بوجهين نفاق ، وللنفاق علامات كثيرة وهذه من جملتها ، فإن قلت : فبما ذا يصير الرجل ذا اللسانين وما حد ذلك؟

__________________

(١) هذا آخر ما نقله عن بعض المحققين في هذه التكملة ، والمراد من هذا البعض أبو حامد الغزالى ، ويظهر من كلامه في اول التكملة أنّه لا يرى للكذب حرمة ذاتية وان حرمته تابعة لما يترتب عليه من الضرر والمنفعة ، ولا يخفى انه مخالف لما يستفاد ظاهرا من الآيات والروايات ، قال بعض الأفاضل في تعليقته على هذا الكلام : فيه نظر لان الكذب اظهار ما هو خلاف الواقع عمدا سواء كان يضر أو ينفع ، وهذا خروج عن الحق وميل عن الصراط السوى الى الباطل الذي يشمئز عنه الفطرة السليمة والعقل ، وهذا حرام في الشرع وقبيح عند العقل الا أن يقال بعدم وجود الحسن والقبح العقليين ، وهو خلاف ما عليه أصحابنا ، ثمّ قال :

وتجويز الشرع الكذب في بعض الموارد لاختيار أقل المحذورين لمصلحة لا ينافى حرمته لنفسه ، ويؤيد ذلك ظاهر الروايات.

أقول : وللبحث مجال آخر ، وكان على الشارح (ره) التنبه والتحقيق في هذا الكلام اللهمّ الا أن يقال : إنّه كان موافقا لما ذكره الغزالى في هذا المقام ، ولكنه غير معلوم ، والله العالم.

٣٥٣

ولسانين جاء يوم القيامة وله لسانان من نار.

فأقول : إذا دخل على متعاديين وجامل كل واحد منهما وكان صادقا فيه لم يكن منافقا ولا ذا اللسانين فإن الواحد قد يصادق متعاديين ، ولكن صداقة ضعيفة لا تنتهي إلى حد الإخوة ، إذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة الأعداء ، نعم لو نقل كلام كل واحد إلى الآخر فهو ذو لسانين وذلك شر من النميمة إذ يصير نماما بأن ينقل من أحد الجانبين ، فإن نقل من الجانبين فهو شر من النميمة وإن لم ينقل كلاما ولكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه فهذا ذو لسانين ، وكذلك إذا وعد كل واحد منهما أنه ينصره ، وكذلك إذا أثنى على كل واحد منهما في معاداته ، وكذلك إذا أثنى على أحدهما وكان إذا خرج من عنده يذمه فهو ذو لسانين بل ينبغي أن يسكت أو يثني على المحق من المتعاديين ويثني في حضوره وفي غيبته وبين يدي عدوه.

قيل لبعض الصحابة : إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول فإذا خرجنا قلنا غيره؟ فقال : كنا نعد ذلك نفاقا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا نفاق مهما كان مستغنيا عن الدخول على الأمير وعن الثناء عليه ، فلو استغنى عن الدخول ولكن إذا دخل يخاف إن لم يثن فهو نفاق لأنه الذي أحوج نفسه إليه ، وأن كان يستغني عن الدخول لو قنع بالقليل وترك المال والجاه ، فلو دخل لضرورة الجاه والغناء وأثنى فهو منافق ، وهذا معنى قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ، لأنه يحوج إلى الأمراء ومراعاتهم ومراءاتهم ، فأما إذا ابتلي به لضرورة وخاف إن لم يثن فهو معذور فإن اتقاء الشر جائز.

وقال أبو الدرداء : إنا لنكشر(١) في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتبغضهم.

وقالت عائشة : استأذن رجل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ائذنوا له فبئس رجل العشيرة هو ، فلما دخل أقبل عليه وألان له القول ، فلما خرج قالت عائشة : قد قلت

__________________

(١) كشر عن اسنانه : كشف عنها عند الضحك وغيره.

٣٥٤

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن أبي شيبة ، عن الزهري ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين يطري أخاه شاهدا ويأكله غائبا إن أعطي حسده وإن ابتلي خذله.

بئس رجل العشيرة ثم ألنت له القول؟ فقال : يا عائشة إن شر الناس الذي يكرم اتقاء لشره.

ولكن هذا ورد في الإقبال وفي الكشر والتبسم ، وأما الثناء فهو كذب صريح فلا يجوز إلا لضرورة أو إكراه يباح الكذب لمثلهما بل لا يجوز الثناء ولا التصديق وتحريك الرأس في معرض التقرير على كل كلام باطل ، فإن فعل ذلك فهو منافق بل ينبغي أن ينكر بلسانه وبقلبه ، فإن لم يقدر فليسكت بلسانه ولينكر بقلبه.

وأقول : قال الشهيد الثاني قدس الله روحه كونه ذا اللسانين وذا الوجهين من الكبائر للتوعد عليه بخصوصه ، ثم ذكر في تفصيله وتحقيقه نحوا مما مر ، ولا ريب أن في مقام التقية والضرورة يجوز مثل ذلك ، وأما مع عدمهما فهو من علامات النفاق وأخس ذمائم الأخلاق.

الحديث الثاني : مجهول.

« يطري » على بناء الأفعال بالهمز وغيره ، في القاموس : في باب الهمزة أطرأه بالغ في مدحه وفي باب المعتل أطراه أحسن الثناء عليه ، وفي النهاية في المعتل الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه ، والجوهري ذكره في المعتل فقط ، وقال : أطراه أي مدحه و« يأكله » أي يغتابه كما قال تعالى : «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً »(١) .

« إن أعطي » على بناء المجهول أي الأخ ، والخذلان ترك النصرة.

__________________

(١) سورة الحجرات : ٢١.

٣٥٥

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن علي بن أسباط ، عن عبد الرحمن بن حماد رفعه قال قال الله تبارك وتعالى لعيسى ابن مريمعليه‌السلام يا عيسى ليكن لسانك في السر والعلانية لسانا واحدا وكذلك قلبك إني أحذرك نفسك وكفى بي خبيرا

الحديث الثالث : مرفوع.

« لسانا واحدا » أي لا تقول في الأحوال المختلفة شيئين مختلفين للأغراض الباطلة فيشمل الرياء والفتاوى المختلفة وما مر ذكره« وكذلك قلبك » أي ليكن باطن قلبك موافقا لظاهرة إذ ربما يكون الشيء كامنا في القلب يغفل عنه نفسه كحب الدنيا فينخدع ويظن أنه لا يحبها وأشباه ذلك ، ثم يظهر له ذلك في الآخرة بعد كشف الحجب الظلمانية النفسانية أو في الدنيا أيضا بعد المجاهدة والتفكر في خدع النفس وتسويلاتها ، ولذا قال سبحانه بعده :« إني أحذرك نفسك » وقد قال : «بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ »(١) ويحتمل أن يكون المعنى : وكذلك ينبغي أن يكون قلبك موافقا للسانك ، فلا تقول ما ليس فيه ، أو المعنى أنه كما يجب أن يكون القول باللسان واحدا يجب أن يكون اعتقاد القلب واحدا واصلا إلى حد اليقين ويطمئن قلبه بالحق ، ولا يتزلزل بالشبهات فيعتقد اليوم شيئا وغدا نقيضه ، ويجب أن تكون عقائد القلب متوافقة متناسبة لا كقلوب أهل الضلال والجهال ، فإنهم يعتقدون الضدين والنقيضين لتشعب أهوائهم وتفرق آراء من حيث لا يشعرون كاعتقادهم بأفضلية أمير المؤمنين وتقديمهم الجهال عليه ، واعتقادهم بعدله تعالى وحكمهم بأن الكفر وجميع المعاصي من فعله ، ويعذبهم عليها ، واعتقادهم بوجوب طاعة من جوزوا فسقه وكفره وأمثال ذلك كثيرة.

أو المعنى أن المقصود الحقيقي والغرض الأصلي للقلب لا يكون إلا واحدا ولا تجتمع فيه محبتان متضادتان كحب الدنيا وحب الآخرة ، وحب الله وحب معاصيه والشهوات التي نهى عنها ، فمن اعتقد أنه يحب الله تعالى ويتبع الهوى

__________________

(١) سورة الأنعام : ٢٨.

٣٥٦

لا يصلح لسانان في فم واحد ولا سيفان في غمد واحد ولا قلبان في صدر واحد وكذلك الأذهان.

ويحب الدنيا فهو كذي اللسانين ، الجامع بين مؤالفة المتباغضين فإن الدنيا والآخرة كضرتين وطاعة الله وطاعة الهوى كالمتباغضين ، فقلبه منافق ذو لسانين ، لسان منه مع الله والآخر مع ما سواه فهذا أولى بالذم من ذي اللسانين.

وتحقيقه : أن بدن الإنسان بمنزلة مدينة كبيرة لها حصن منيع هو القلب ، بل هو العالم الصغير من جهة ، والعالم الكبير من جهة أخرى ، والله سبحانه هو سلطان القلب ومدبره ، بل القلب عرشه ، وحصنه بالعقل والملائكة ، ونوره بالأنوار الملكوتية ، واستخدمه القوي الظاهرة والباطنة ، والجوارح والأعضاء الكثيرة ولهذا الحصن أعداء كثيرة من النفس الأمارة والشياطين الغدارة ، وأصناف الشهوات النفسانية والشبهات الشيطانية ، فإذا مال العبد بتأييده سبحانه إلى عالم الملكوت ، وصفى قلبه بالطاعات والرياضات عن شوك الشكوك والشبهات ، وقذارة الميل إلى الشهوات استولى عليه حبه تعالى ، ومنعه عن حب غيره ، فصارت القوي والمشاعر وجميع الآلات البدنية مطيعة منقادة له ، ولا يأتي شيء منها بما ينافي رضاه.

وإذا غلبت عليه الشقوة وسقط في مهاوي الطبيعة ، استولى الشيطان على قلبه وجعله مستقر ملكه ونفرت عنه الملائكة ، وأحاطت به الشياطين ، وصارت أعماله كلها للدنيا وإرادته كلها للهوى ، فيدعي أنه يعبد الله وقد نسي الرحمن وهو يعبد النفس والشيطان.

فظهر أنه لا يجتمع حب الله وحب الدنيا ومتابعة الله ومتابعة الهوى في قلب واحد ، وليس للإنسان قلبان حتى يحب بأحدهما الرب تعالى ويقصده بأعماله ، ويحب بالآخر الدنيا وشهواتها ويقصدها في أفعاله ، كما قال سبحانه : «ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ »(١) ومثل سبحانه لذلك باللسان والسيف ، فكما لا يكون

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٤.

٣٥٧

في فم لسانان ، ولا في غمد سيفان ، فكذلك لا يكون في صدر قلبان ، ويحتمل أن يكون اللسان لما مر في ذي اللسانين.

وأماقوله : فكذلك الأذهان ، فالفرق بينهما وبين القلب مشكل ، ويمكن أن يكون القلب للحب والعزم ، والذهن للاعتقاد والجزم ، أي لا يجتمع في القلب حب الله وحب ما ينافي حبه سبحانه من حب الدنيا وغيرها ، وكذلك لا يجتمع الجزم بوجوده تعالى وصفاته المقدسة وسائر العقائد الحقة ، مع ما ينافيه من العقائد الباطلة ، والشكوك والشبهات في ذهن واحد ، كما أشرنا إليه سابقا.

وقيل : يعني كما أن الظاهر من هذه الأجسام لا يصلح تعددها في محل واحد ، كذلك باطن الإنسان الذي هو ذهنه وحقيقته لا يصلح أن يكون ذا قولين مختلفين ، أو عقيدتين متضادتين ، وقيل : الذهن الذكاء والفطنة ، ولعل المراد هنا التفكر في الأمور الحقة النافعة ومباديها ، وكيفية الوصول إليها.

وبالجملة أمره بأن يكون لسانه واحدا وقلبه واحدا وذهنه واحدا ومطلبه واحدا ولما كان سبب التعدد والاختلاف أمرين : أحدهما تسويل النفس ، والآخر الغفلة عن عقوبة الله ، عقبه بتحذيرها ، وربما يقرأ بالدال المهملة من المداهنة في الدين ، كما قال تعالى : «أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ »(١) وقال : «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ »(٢) وهذا تصحيف وتحريف مخالف للنسخ المضبوطة.

__________________

(١) سورة الواقعة : ٨١.

(٢) سورة القلم : ٩.

٣٥٨

(باب الهجرة )

١ ـ الحسين بن محمد ، عن جعفر بن محمد ، عن القاسم بن الربيع وعدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد رفعه قال في وصية المفضل سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول لا يفترق رجلان على الهجران إلا استوجب أحدهما البراءة واللعنة وربما استحق ذلك كلاهما فقال له معتب جعلني الله فداك هذا الظالم فما بال المظلوم قال لأنه لا يدعو أخاه إلى صلته ولا يتغامس له عن كلامه سمعت أبي

باب الهجرة

الحديث الأول : مرفوع.

والهجر والهجران خلاف الوصل ، قال في المصباح : هجرته هجرا من باب قتل تركته ورفضته فهو مهجور ، وهجرت الإنسان قطعته والاسم الهجران ، وفي التنزيل : «وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ »(١) « البراءة » أي براءة الله ورسوله منه ، ومعتب بضم الميم وفتح العين وتشديد التاء المكسورة ، وكان من خيار موالي الصادقعليه‌السلام بل خيرهم كما روي فيه« هذا الظالم » أي أحدهما ظالم ، والظالم خبر أو التقدير هذا الظالم استوجب ذلك فما حال المظلوم؟ ولم استوجبه؟« إلى صلته » أي إلى صلة نفسه ، ويحتمل رجوع الضمير إلى الأخ.

« ولا يتغامس » في أكثر النسخ بالغين المعجمة ، والظاهر أنه بالمهملة كما في بعضها قال في القاموس : تعامس تغافل ، وعلي تعامي علي ، ويمكن التكلف في المهملة بما يرجع إلى ذلك من قولهم غمسه في الماء أي رمسه ، والغميس الليل المظلم والظلمة والشيء الذي لم يظهر للناس ولم يعرف بعد ، وكل ملتف يغتمس فيه أو يستخفي ، قال في النهاية : في حديث عليعليه‌السلام : ألا وإن معاوية قاد لمة من الغواة وعمس عليهم الخبر ، العمس أن ترى أنك لا تعرف الأمر وأنت به عارف ، ويروى بالغين

__________________

(١) سورة النساء : ٣٤.

٣٥٩

يقول إذا تنازع اثنان فعاز أحدهما الآخر فليرجع المظلوم إلى صاحبه حتى يقول لصاحبه أي أخي أنا الظالم حتى يقطع الهجران بينه وبين صاحبه فإن الله تبارك وتعالى حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا هجرة فوق ثلاث.

٣ ـ حميد بن زياد ، عن الحسن بن محمد بن سماعة ، عن وهيب بن حفص ، عن أبي بصير قال سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الرجل يصرم ذوي قرابته ممن لا يعرف

المعجمة.

« فعاز » بالزاي المشددة ، وفي بعض النسخ : فعال باللام المخففة ، في القاموس : عزه كمدة غلبه في المعازة ، وفي الخطاب غالبة كعازه ، وقال : عال جار ومال عن الحق ، والشيء فلانا غلبه وثقل عليه وأهمه« أنا الظالم » كأنه من المعاريض للمصلحة.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح.

وظاهره أنه لو وقع بين أخوين من أهل الإيمان موجده أو تقصير في حقوق العشرة والصحبة وأفضى ذلك إلى الهجرة فالواجب عليهم أن لا يبقوا عليها فوق ثلاث ليال ، وأما الهجر في الثالث فظاهره أنه معفو عنه وسببه أن البشر لا يخلو عن غضب وسوء خلق فسومح في تلك المدة ، مع أن دلالته بحسب المفهوم وهي ضعيفة ، وهذه الأخبار مختصة بغير أهل البدع والمصرين على المعاصي ، لأن هجرهم مطلوب وهو من أقسام النهي عن المنكر.

الحديث الثالث : موثق.

والصرم القطع أي يهجره رأسا ، ويدل على أن الأمر بصلة الرحم يشمل

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441