مرآة العقول الجزء ١٠

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 441

مرآة العقول

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف:

الصفحات: 441
المشاهدات: 10744
تحميل: 5692


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 441 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 10744 / تحميل: 5692
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 10

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

شيئا وهو لا يريد أن يتم لهم.

في الخبر دون غيره من أصناف الكلام الاستفهام والأمر والدعاء ، ولذلك قال : «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً »(١) «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً »(٢) «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ »(٣) وقد يكونان بالعرض في غيره من أنواع الكلام من الاستفهام والأمر والدعاء وذلك نحو قول القائل : أزيد في الدار؟ فإن في ضمنه إخبارا بكونه جاهلا بحال زيد وكذا إذا قال : واسني في ضمنه أنه محتاج إلى المواساة ، وإذا قال : لا تؤذني ففي ضمنه أنه يؤذيه ، انتهى.

ثم اعلم أن مضمون الحديث متفق عليه بين الخاصة والعامة فروى الترمذي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يحل الكذب إلا في ثلاث : يحدث الرجل امرأته ليرضيها ، والكذب في الحرب ، والكذب في الإصلاح بين الناس ، وفي صحيح مسلم قال ابن شهاب وهو أحد رواته : لم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث : الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها ، قال عياض : لا خلاف في جوازه في الثلاث وإنما يجوز في صورة ما يجوز منه فيها فأجاز قوم فيها صريح الكذب وأن يقول ما لم يكن ، لما فيه من المصالح ويندفع فيها الفساد ، قالوا : وقد يجب لنجاة مسلم من القتل ، وقال بعضهم : لا يجوز فيها التصريح بالكذب وإنما يجوز فيها التورية بالمعاريض ، وهي شيء يخلص من المكروه والحرام إلى الجائز ، إما لقصد الإصلاح بين الناس أو لدفع ما يضر أو لغير ذلك وتأول المروي على ذلك.

وقال : مثل أن يعد زوجته أن يفعل لها ويحسن إليها ، ونيته إن قدر الله تعالى أو يأتيها في هذا بلفظ محتمل ، وكلمة مشتركة تفهم من ذلك ما يطيب قلبها ، وكذلك في الإصلاح بين الناس ينقل لهؤلاء من هؤلاء الكلام المحتمل ، وكذلك في الحرب

__________________

(١ و ٢) سورة النساء : ١٢٢ ـ ٨٧.

(٣) سورة مريم : ٥٤.

٣٤١

١٩ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال المصلح ليس بكذاب.

٢٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي ، عن محمد بن مالك ، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال حدثني أبو عبد اللهعليه‌السلام بحديث فقلت له جعلت فداك أليس زعمت لي الساعة كذا وكذا؟

مثل أن يقول لعدوه : انحل حزام سرجك ويريد فيما مضى ، ويقول لجيش عدوه مات أميركم ليذعر قلوبهم ، ويعني النوم أو يقول لهم : غدا يأتينا مدد وقد أعد قوما من عسكره ليأتوا في صورة المدد أو يعني بالمدد الطعام ، فهذا نوع من الخدع الجائزة والمعاريض المباحة.

وقال القرطبي : لعل ما استند في منعه التصريح بقاعدة حرمة الكذب وتأويله الأحاديث بحملها على المعاريض ما يعضده دليل ، وأما الكذب ليمنع مظلوما من الظلم عليه فلم يختلف فيه أحد من الأمم لا عرب ولا عجم ، ومن الكذب الذي يجوز بين الزوجين الإخبار بالمحبة والاغتباط وإن كان كذبا لما فيه من الإصلاح ودوام الألفة.

الحديث التاسع عشر : صحيح وكان فيه إشعارا بتجويز التكرار والمبالغة في الكذب للإصلاح.

الحديث العشرون : مجهول.

وفي القاموس :الزعم مثلثة القول الحق والباطل والكذب ضد ، وأكثر ما يقال فيما يشك فيه ، والزعمي الكذاب والصادق ، وزعمتني كذا ظننتني والتزعم التكذب وأمر مزعم كمقعد لا يوثق به ، وفي النهاية فيه أنه ذكر أيوبعليه‌السلام فقال : إذا كان مر برجلين يتزاعمان ، وقال الزمخشري : معناه أنهما يتحادثان بالزعمات وهي ما لا يوثق به من الأحاديث ، ومنه الحديث بئس مطية الرجل ، زعموا معناه أن الرجل إذا أراد المسير إلى بلد والظعن في حاجة ركب مطية حتى يقضي إربه فشبه ما

٣٤٢

فقال لا فعظم ذلك علي فقلت بلى والله زعمت فقال لا والله ما زعمته قال فعظم علي فقلت جعلت فداك بلى والله قد قلته قال نعم قد قلته أما علمت أن

يقدمه المتكلم أمام كلامه ويتوصل به إلى غرضه من قوله زعموا كذا وكذا بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة وإنما يقال : زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه ، وإنما يحكى عن الألسن على البلاغ فذم من الحديث ما هذا سبيله ، والزعم بالضم والفتح قريب من الظن.

وقال في المصباح : زعم زعما من باب قتل ، وفي الزعم ثلاث لغات : فتح الزاي للحجاز ، وضمها لأسد وكسرها لبعض قيس ، ويطلق بمعنى القول ، ومنه زعمت الحنفية وزعم سيبويه ، أي قال ، وعليه قوله تعالى : «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ »(١) أي كما أخبرت ، ويطلق على الظن ، يقال : في زعمي كذا وعلى الاعتقاد ، ومنه قوله تعالى : «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا »(٢) .

قال الأزهري : وأكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه ولا يتحقق ، وقال بعضهم : هو كناية عن الكذب ، وقال المرزوقي : أكثر ما يستعمل فيما كان باطلا وفيه ارتياب ، وقال ابن القوطية : زعم زعما قال خبرا لا يدري أحق هو أو باطل ، قال الخطابي : ولذا قيل : زعم مطية الكذب ، وزعم غير مزعم ، قال غير مقول صالح ، وادعى ما لا يمكن ، انتهى.

أقول : وإذا علمت ذلك ظهر لك أن الزعم إما حقيقة لغوية أو عرفية أو شرعية في الكذب ، أو ما قيل بالظن أو بالوهم من غير علم وبصيرة ، فإسناده إلى من لا يكون قوله إلا عن حقيقة ويقين ليس من دأب أصحاب اليقين ، وإن كان مراده مطلق القول أو القول عن علم فغرضهعليه‌السلام تأديبه وتعليمه آداب الخطاب مع أئمة الهدى وسائر أولي الألباب.

__________________

(١) سورة الإسراء : ٩٢.

(٢) سورة التغابن : ٧.

٣٤٣

كل زعم في القرآن كذب.

٢١ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن أسباط ، عن أبي

وأما الحكم بكون ذلك كذبا وحراما فهو مشكل ، إذ غاية الأمر أن يكون مجازا ولا حجر فيه ، وأما يمينهعليه‌السلام على عدم الزعم فهو صحيح لأنه قصد به الحقيقة أو المجاز الشائع ، وكأنه من التورية والمعاريض لمصلحة التأديب أو تعليم جواز مثل ذلك للمصلحة ، فإن المعتبر في ذلك قصد المحق من المتخاصمين كما ذكره الأصحاب ، وكأنه لذلك ذكر المصنف (ره) الخبر في هذا الباب وإن كان مع قطع النظر عن ذلك له مناسبة خفية فتأمل.

قوله عليه‌السلام « إن كل زعم في القرآن كذب » أي أطلق في مقام إظهار كذب المخبر به فلا ينافي ذلك قوله تعالى حاكيا عن المشركين : «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً »(١) فإنهم أشاروا بقولهم زعمت إلى قوله تعالى : «إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ »(٢) فإن ما أشاروا إليه بقوله زعمت حق لكنهم أوردوه في مقام التكذيب ، ويمكن أيضا تخصيصه بما ذكره الله من قبل نفسه سبحانه غير حاك عن غيره ، كما قال تعالى : «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا »(٣) وقال سبحانه «بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً »(٤) وقال : «أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ »(٥) وقال : «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ »(٦) .

الحديث الحادي والعشرون : ضعيف على المشهور.

وفيه إما إرسال أو إضمار بأن يكون ضمير قال راجعا إلى الصادقعليه‌السلام أو الرضاعليه‌السلام « إياكم والكذب » أرادعليه‌السلام لا تكذبوا في ادعائكم الرجاء والخوف

__________________

(١) سورة الإسراء : ٩٢.

(٢) سورة سبأ : ٩.

(٣) سورة التغابن : ٧.

(٤) سورة الكهف : ٤٨.

(٥) سورة الأنعام : ٢٢.

(٦) سورة الإسراء : ٥٦.

٣٤٤

إسحاق الخراساني قال كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول إياكم والكذب فإن كل راج طالب وكل خائف هارب.

٢٢ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن الحجال ، عن ثعلبة ، عن معمر بن عمرو ، عن عطاء ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا كذب

من الله سبحانه ، وذلكلأن كل راج طالب لما يرجو ساع في أسبابه وأنتم لستم كذلك ،وكل خائف هارب مما يخاف منه مجتنب مما يقربه منه وأنتم لستم كذلك.

وهذا مثل قولهعليه‌السلام الذي رواه في نهج البلاغة أنهعليه‌السلام قال بعد كلام طويل لمدع كاذب أنه يرجو الله ويدعي بزعمه أنه يرجو الله : كذب والله العظيم ما باله لا يتبين رجاؤه في عمله وكل من رجا عرف رجاؤه في عمله إلا رجاء الله ، فإنه مدخول ، وكل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول يرجو الله الكبير ويرجو العباد في الصغير ، فيعطى العبد ما لا يعطي الرب ، فما بال الله جل ثناؤه يقصر به عما يصنع لعباده ، أتخاف أن تكون في رجائك له كاذبا أو يكون لا تراه للرجاء موضعا؟ وكذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه ، فجعل خوفه من العباد نقدا وخوفه من خالقه ضمارا ووعدا.

وقال بعضهم : حذر من الكذب على الله وعلى رسوله وعلى غيرهما في ادعاء الدين مع ترك العمل به ، ورغب في الصدق بأن الكذب ينافي الإيمان ، وذلك لأن الكاذب لم يطلب الثواب ، وكل من لم يطلب الثواب فهو ليس براج بحكم المقدمة الأولى ، ولم يهرب من العقاب ، وكل من لم يهرب من العقاب فهو ليس بخائف بحكم المقدمة الثانية ، ومن انتفى عنه الخوف والرجاء فهو ليس بمؤمن كما هو المقرر عند أهل الإيمان ، انتهى.

وارتكب أنواع التكلف لقلة التتبع ، والمقصود ما ذكرنا.

الحديث الثاني والعشرون : مجهول.

٣٤٥

على مصلح ثم تلا «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ » ثم قال والله ما سرقوا وما كذب ثم تلا «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ » ثم قال والله ما فعلوه وما كذب.

وقوله : « ثم تلا » كلام الراوي ، والضمير راجع إلى الصادقعليه‌السلام أو كلام الإمامعليه‌السلام والضمير راجع إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأول أظهر وقد مر مضمونه.

تكملة

قال بعض المحققين : اعلم أن الكذب ليس حراما لعينه بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره ، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو به فيكون جاهلا وقد يتعلق به ضرر غيره ورب جهل فيه منفعة ومصلحة ، فالكذب تحصيل لذلك الجهل فيكون مأذونا فيه ، وربما كان واجبا كما لو كان في الصدق قتل نفس بغير حق.

فنقول : الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا فالكذب فيه حرام ، وإن أمكن التوصل بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح ، إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا ، وواجب إن كان المقصود واجبا ، كما أن عصمة دم المسلم واجبة ، فمهما كان في الصدق سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب ، ومهما كان لا يتم مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجني عليه إلا بالكذب فالكذب مباح ، إلا أنه ينبغي أن يحترز عنه ما يمكن لأنه إذا فتح على نفسه باب الكذب فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغني عنه وإلى ما يقتصر فيه على حد الواجب ومقدار الضرورة ، فكان الكذب حراما في الأصل إلا لضرورة.

والذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت : ما سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث : الرجل يقول القول

٣٤٦

يريد الإصلاح والرجل يقول القول في الحرب ، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها.

وقالت أيضا : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس بكذاب من أصلح بين اثنين ، فقال خيرا أو نما خيرا.

وقالت أسماء بنت يزيد : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين رجلين يصلح بينهما ، وروي عن أبي كاهل قال : وقع بين رجلين من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلام حتى تصادما ، فلقيت أحدهما فقلت : ما لك ولفلان فقد سمعته يحسن الثناء عليك؟ ولقيت الآخر فقلت له مثل ذلك حتى اصطلحا ، ثم قلت : أهلكت نفسي وأصلحت بين هذين؟ فأخبرت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا أبا كاهل أصلح بين الناس ولو بالكذب.

وقال عطاء بن يسار : قال رجل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أأكذب أهلي ، قال : لا خير في الكذب قال : أعدها وأقول لها؟ قال : لا جناح عليك.

وعن النواس بن سمعان الكلابي قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار(١) كل الكذب مكتوب كذبا لا محالة إلا أن يكذب الرجل في الحرب ، فإن الحرب خدعة ، أو يكون بين رجلين شحناء(٢) فيصلح بينهما ، أو يحدث امرأته يرضيها.

وقال عليعليه‌السلام : إذا حدثتكم بشيء عن رسول الله فلئن أخر من السماء(٣) أحب إلى من أن أكذب عليه ، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فالحرب خدعة.

فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء ، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به

__________________

(١) الفراش : طائر صغير يعد من الحشرات ، ويقال له بالفارسية « پروانه ».

(٢) الشحناء : العداوة.

(٣) خرم الشيء : شقه وقطعه.

٣٤٧

مقصود صحيح له أو لغيره ، أما ماله فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله ، فله أن ينكر أو يأخذه السلطان فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله ارتكبها فله أن ينكرها ويقول : ما زنيت ولا شربت ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله ، وذلك لأن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى ، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلما وعرضه بلسانه وإن كان كاذبا.

وأما عرض غيره فبأن يسأل عن سر أخيه فله أن ينكره وأن يصلح بين اثنين وأن يصلح بين الضرات من نسائه بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه ، أو كانت امرأته لا تطيعه إلا بوعد ما لا يقدر عليه فيعدها في الحال تطييبا لقلبها ، أو يعتذر إلى إنسان بالكذب وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد فلا بأس به ، ولكن الحد فيه أن الكذب محذور ولكن لو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور.

فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر ويزن بالميزان القسط ، فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعا في الشرع من الكذب فله الكذب ، وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق ، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى لأن الكذب مباح بضرورة أو حاجة مهمة فإذا شك في كون الحاجة مهمة فالأصل التحريم فيرجع إليه ، ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه ، وكذلك مهما كانت الحاجة له فيستحب أن يترك أغراضه ويهجر الكذب.

فأما إذا تعلق بعرض غيره فلا يجوز المسامحة بحق الغير والإضرار به ، وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم ثم هو لزيادات المال والجاه ، ولأمور ليس فواتها محذورا حتى أن المرأة ليحكي عن زوجها ما يتفاخر به وتكذب لأجل مراغمة الضرات وذلك حرام.

٣٤٨

قالت أسماء : سمعت امرأة تسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت : إن لي ضرة وأنا أتكثر من زوجي بمالا لا يفعل أضارها بذلك فهل لي فيه شيء؟ فقال : المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من تطعم بما لم يطعم ، وقال : لي وليس له ، وأعطيت ولم يعط ، كان كلابس ثوبي زور يوم القيامة.

ويدخل في هذا فتوى العالم بما لا يتحققه ، ورواية الحديث الذي ليس يثبت فيه إذ غرضه أن يظهر فضل نفسه فهو لذلك يستنكف من أن يقول لا أدري ، وهذا حرام.

ومما يلتحق بالنساء الصبيان فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب إلا بوعد ووعيد وتخويف ، كان ذلك مباحا ، نعم روينا في الأخبار أن ذلك يكتب كذبة ولكن الكذب المباح أيضا يكتب ويحاسب عليه ويطالب لتصحيح قصده فيه ثم يعفى عنه ، لأنه إنما أبيح بقصد الإصلاح ويتطرق إليه غرور كثير فإنه قد يكون الباعث له حظه وغرضه الذي هو مستغنى عنه وإنما يتعلل ظاهرا بالإصلاح فلهذا يكتب.

وكل من أتى بكذبه فقد وقع في خطر الاجتهاد ليعلم أن المقصود الذي كذب له هل هو أهم في الشرع من الصدق أو لا ، وذلك غامض جدا ، فالحزم في تركه إلا أن يصير واجبا بحيث لا يجوز تركه كما يؤدي إلى سفك دم أو ارتكاب معصية كيف كان ، وقد ظن ظانون أنه يجوز وضع الأخبار في فضائل الأعمال وفي التشديد في المعاصي ، وزعموا أن القصد منه صحيح وهو خطاء محض ، إذ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، وهذا لا يترك إلا بضرورة ولا ضرورة هيهنا ، إذ في الصدق مندوحة عن الكذب ، ففيما ورد من الآيات والأخبار كفاية عن غيرها.

٣٤٩

وقول القائل : أن ذلك قد تكرر على الإسماع وسقط وقعها وما هو جديد على الأسماع فوقعه أعظم ، فهذا هوس إذ ليس هذا من الأغراض التي تقاوم محذور الكذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى الله تعالى ، ويؤدي فتح بابه إلى أمور تشوش الشريعة ، فلا يقاوم خير هذا بشره أصلا ، فالكذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكبائر التي لا يقاومها شيء.

ثم قال : قد نقل عن السلف : أن في المعاريض ما يغني الرجل عن الكذب وعن ابن عباس وغيره إما في المعاريض ما يغني الرجل عن الكذب وإنما أرادوا من ذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب فأما إذا لم يكن حاجة وضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعا ، ولكن التعريض أهون.

ومثال المعاريض ما روي أن مطرفا دخل على زياد فاستبطأه فتعلل بمرض فقال : ما رفعت جنبي منذ فارقت الأمير إلا ما رفعني الله ، وقال إبراهيم : إذا بلغ الرجل عنك شيء فكرهت أن تكذب فقل : إن الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء ، فيكون قوله : ما ، حرف النفي عند المستمع وعنده للإبهام ، وكان النخعي لا يقول لابنته : اشترى لك سكرا بل يقول أرأيت لو اشتريت لك سكرا فإنه ربما لا يتفق ، وكان إبراهيم إذا طلبه في الدار من يكرهه قال للجارية : قولي له : اطلبه في المسجد ، وكان لا يقول : ليس هيهنا لئلا يكون كاذبا ، وكان الشعبي إذا طلب في البيت وهو يكرهه ، فيخط دائرة ويقول للجارية : ضع الإصبع فيها وقولي : ليس هيهنا.

وهذا كله في موضع الحاجة فأما مع عدم الحاجة فلا ، لأن هذا تفهيم للكذب وإن لم يكن اللفظ كذبا ، وهو مكروه على الجملة كما روي عن عبد الله بن عتبة قال : دخلت مع أبي على عمر بن عبد العزيز فخرجت وعلي ثوب فجعل الناس يقولون : هذا كساء أمير المؤمنين فكنت أقول : جزى الله أمير المؤمنين خيرا ، فقال لي : يا بني اتق الكذب إياك والكذب وما أشبهه ، فنهاه عن ذلك لأن فيه تقريرا لهم على ظن

٣٥٠

كاذب لأجل غرض المفاخرة وهو غرض باطل فلا فائدة فيه.

نعم المعاريض يباح لغرض خفيف كتطييب قلب الغير بالمزاح كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تدخل الجنة عجوز ، وفي عين زوجك بياض ، ونحملك على ولد البعير ، فأما الكذب الصريح فكما يعتاده الناس من مداعبة الحمقاء بتغريرهم بأن امرأة قد رغبت في تزويجك ، فإن كان فيه ضرر يؤديه إلى إيذاء قلب فهو حرام ، وإن لم يكن إلا مطائبة فلا يوصف صاحبها بالفسق ولكن ينقص ذلك من درجة إيمانه ، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يستكمل المرء الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، وحتى يجتنب الكذب في مزاحه ، وأما قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها الناس يهوي بها أبعد من الثريا ، أراد به ما فيه غيبة مسلم أو إيذاء قلب دون محض المزاح.

ومن الكذب الذي لا يوجب الفسق ما جرت به العادة في المبالغة كقوله : قلت لك كذا مائة مرة ، وطلبتك مائة مرة فإنه لا يراد بها تفهيم المرات بعددها ، بل تفهيم المبالغة ، فإن لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذبا وإن طلب مرات لا يعتاد مثلها في الكثرة فلا يأثم وإن لم يبلغ مائة ، وبينهما درجات يتعرض مطلق اللسان بالمبالغة فيها لخطر الكذب.

ومما يعتاد الكذب فيه ويتساهل به أن يقال : كل الطعام فيقول : لا أشتهيه وذلك منهي عنه وهو حرام وإن لم يكن فيه غرض صحيح ، قال مجاهد : قالت أسماء بنت عميس(١) : كنت صاحبة عائشة التي هيئتها وأدخلتها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعي

__________________

(١) اسماء بنت عميس زوجة جعفر بن ابيطالب (عليه‌السلام ) ، وكانت ممن هاجر مع زوجه جعفر الى حبشة قبل زفاف عايشة بسنوات ، وأقامت في تلك البلاد الى سنة سبع من الهجرة وزفاف عايشة وقع في السنة الأولى من الهجرة ، فهذه اما امرأة اخرى اسمها أسماء كأسماء بنت يزيد ، أوهى سلمى بنت عميس زوجة حمزة بن عبد المطلب اختها وصحفت بيد الرواة والنسّاخ ، ونظير هذا.

٣٥١

نسوة ، قالت : فو الله ما وجدنا عنده قوتا إلا قدحا من لبن فشرب ثم ناوله عائشة ، قالت : فاستحيت الجارية ، فقلت : لا تردين يد رسول الله خذي منه ، قالت : فأخذته على حياء فشربت منه ثم قال : ناولي صواحبك ، فقلن : لا نشتهيه ، فقال : لا تجمعن جوعا وكذبا ، قالت : فقلت : يا رسول الله إن قالت أحد منا لشيء نشتهيه لا نشتهيه أيعد ذلك كذبا؟ قال : إن الكذب ليكتب حتى يكتب الكذيبة كذيبة.

وقد كان أهل الورع يحترزون عن التسامح بمثل هذا الكذب ، قال الليث بن سعد : كانت ترمص عينا سعيد بن المسيب حتى يبلغ الرمص خارج عينيه(١) فيقال له : لو مسحت هذا الرمص؟ فيقول : فأين قول الطبيب وهو يقول لي : لا تمس عينيك فأقول لا أفعل.

وهذه من مراقبة أهل الورع ، ومن تركه انسل لسانه عن اختياره فيكذب ولا يشعر ، وعن خوات التيمي قال : جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة إلى بني لي فانكبت عليه فقالت : كيف أنت يا بني؟ فجلس الربيع فقال : أرضعته؟ فقالت : لا ، قال : ما عليك لو قلت يا بن أخي فصدقت.

ومن العادة أن يقول : يعلم الله فيما لا يعلمه ، قال عيسىعليه‌السلام : إن من أعظم الذنوب عند الله أن يقول العبد إن الله يعلم لما لا يعلم ، وربما يكذب في حكاية المنام والإثم فيه عظيم ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن من أعظم الفري أن يدعي الرجل إلى غير أبيه أو يرى عينيه في المنام ما لم تريا أو تقول علي ما لم أقل ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من

__________________

السهو أو التصحيف وقع أيضا في روايات زفافعليها‌السلام ففى بعضها ورد ذكر الأسماء بنت عميس ، أو منها نقلت الحديث ، وقد وقع زفافهاعليها‌السلام في السنة الثانية بعد غزوة بدر الكبرى.

(١) رمصت عينه : سال منه الرمص ، والرمص : وسخ ابيض في مجرى الدمع من العينين.

٣٥٢

(باب )

(ذي اللسانين )

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن عون القلانسي ، عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال من لقي المسلمين بوجهين

كذب في حلمه كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرين(١) .

باب ذي اللسانين

الحديث الأول : ضعيف على المشهور ، وقال بعض المحققين : ذو اللسانين هو الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ، ويتردد بين المتعاديين ويكلم كل واحد بكلام يوافقه وقلما يخلو عنه من يشاهد متعاديين ، وذلك عين النفاق.

وقال بعضهم : اتفقوا على أن ملاقاة الاثنين بوجهين نفاق ، وللنفاق علامات كثيرة وهذه من جملتها ، فإن قلت : فبما ذا يصير الرجل ذا اللسانين وما حد ذلك؟

__________________

(١) هذا آخر ما نقله عن بعض المحققين في هذه التكملة ، والمراد من هذا البعض أبو حامد الغزالى ، ويظهر من كلامه في اول التكملة أنّه لا يرى للكذب حرمة ذاتية وان حرمته تابعة لما يترتب عليه من الضرر والمنفعة ، ولا يخفى انه مخالف لما يستفاد ظاهرا من الآيات والروايات ، قال بعض الأفاضل في تعليقته على هذا الكلام : فيه نظر لان الكذب اظهار ما هو خلاف الواقع عمدا سواء كان يضر أو ينفع ، وهذا خروج عن الحق وميل عن الصراط السوى الى الباطل الذي يشمئز عنه الفطرة السليمة والعقل ، وهذا حرام في الشرع وقبيح عند العقل الا أن يقال بعدم وجود الحسن والقبح العقليين ، وهو خلاف ما عليه أصحابنا ، ثمّ قال :

وتجويز الشرع الكذب في بعض الموارد لاختيار أقل المحذورين لمصلحة لا ينافى حرمته لنفسه ، ويؤيد ذلك ظاهر الروايات.

أقول : وللبحث مجال آخر ، وكان على الشارح (ره) التنبه والتحقيق في هذا الكلام اللهمّ الا أن يقال : إنّه كان موافقا لما ذكره الغزالى في هذا المقام ، ولكنه غير معلوم ، والله العالم.

٣٥٣

ولسانين جاء يوم القيامة وله لسانان من نار.

فأقول : إذا دخل على متعاديين وجامل كل واحد منهما وكان صادقا فيه لم يكن منافقا ولا ذا اللسانين فإن الواحد قد يصادق متعاديين ، ولكن صداقة ضعيفة لا تنتهي إلى حد الإخوة ، إذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة الأعداء ، نعم لو نقل كلام كل واحد إلى الآخر فهو ذو لسانين وذلك شر من النميمة إذ يصير نماما بأن ينقل من أحد الجانبين ، فإن نقل من الجانبين فهو شر من النميمة وإن لم ينقل كلاما ولكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه فهذا ذو لسانين ، وكذلك إذا وعد كل واحد منهما أنه ينصره ، وكذلك إذا أثنى على كل واحد منهما في معاداته ، وكذلك إذا أثنى على أحدهما وكان إذا خرج من عنده يذمه فهو ذو لسانين بل ينبغي أن يسكت أو يثني على المحق من المتعاديين ويثني في حضوره وفي غيبته وبين يدي عدوه.

قيل لبعض الصحابة : إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول فإذا خرجنا قلنا غيره؟ فقال : كنا نعد ذلك نفاقا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا نفاق مهما كان مستغنيا عن الدخول على الأمير وعن الثناء عليه ، فلو استغنى عن الدخول ولكن إذا دخل يخاف إن لم يثن فهو نفاق لأنه الذي أحوج نفسه إليه ، وأن كان يستغني عن الدخول لو قنع بالقليل وترك المال والجاه ، فلو دخل لضرورة الجاه والغناء وأثنى فهو منافق ، وهذا معنى قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ، لأنه يحوج إلى الأمراء ومراعاتهم ومراءاتهم ، فأما إذا ابتلي به لضرورة وخاف إن لم يثن فهو معذور فإن اتقاء الشر جائز.

وقال أبو الدرداء : إنا لنكشر(١) في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتبغضهم.

وقالت عائشة : استأذن رجل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ائذنوا له فبئس رجل العشيرة هو ، فلما دخل أقبل عليه وألان له القول ، فلما خرج قالت عائشة : قد قلت

__________________

(١) كشر عن اسنانه : كشف عنها عند الضحك وغيره.

٣٥٤

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن أبي شيبة ، عن الزهري ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين يطري أخاه شاهدا ويأكله غائبا إن أعطي حسده وإن ابتلي خذله.

بئس رجل العشيرة ثم ألنت له القول؟ فقال : يا عائشة إن شر الناس الذي يكرم اتقاء لشره.

ولكن هذا ورد في الإقبال وفي الكشر والتبسم ، وأما الثناء فهو كذب صريح فلا يجوز إلا لضرورة أو إكراه يباح الكذب لمثلهما بل لا يجوز الثناء ولا التصديق وتحريك الرأس في معرض التقرير على كل كلام باطل ، فإن فعل ذلك فهو منافق بل ينبغي أن ينكر بلسانه وبقلبه ، فإن لم يقدر فليسكت بلسانه ولينكر بقلبه.

وأقول : قال الشهيد الثاني قدس الله روحه كونه ذا اللسانين وذا الوجهين من الكبائر للتوعد عليه بخصوصه ، ثم ذكر في تفصيله وتحقيقه نحوا مما مر ، ولا ريب أن في مقام التقية والضرورة يجوز مثل ذلك ، وأما مع عدمهما فهو من علامات النفاق وأخس ذمائم الأخلاق.

الحديث الثاني : مجهول.

« يطري » على بناء الأفعال بالهمز وغيره ، في القاموس : في باب الهمزة أطرأه بالغ في مدحه وفي باب المعتل أطراه أحسن الثناء عليه ، وفي النهاية في المعتل الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه ، والجوهري ذكره في المعتل فقط ، وقال : أطراه أي مدحه و« يأكله » أي يغتابه كما قال تعالى : «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً »(١) .

« إن أعطي » على بناء المجهول أي الأخ ، والخذلان ترك النصرة.

__________________

(١) سورة الحجرات : ٢١.

٣٥٥

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن علي بن أسباط ، عن عبد الرحمن بن حماد رفعه قال قال الله تبارك وتعالى لعيسى ابن مريمعليه‌السلام يا عيسى ليكن لسانك في السر والعلانية لسانا واحدا وكذلك قلبك إني أحذرك نفسك وكفى بي خبيرا

الحديث الثالث : مرفوع.

« لسانا واحدا » أي لا تقول في الأحوال المختلفة شيئين مختلفين للأغراض الباطلة فيشمل الرياء والفتاوى المختلفة وما مر ذكره« وكذلك قلبك » أي ليكن باطن قلبك موافقا لظاهرة إذ ربما يكون الشيء كامنا في القلب يغفل عنه نفسه كحب الدنيا فينخدع ويظن أنه لا يحبها وأشباه ذلك ، ثم يظهر له ذلك في الآخرة بعد كشف الحجب الظلمانية النفسانية أو في الدنيا أيضا بعد المجاهدة والتفكر في خدع النفس وتسويلاتها ، ولذا قال سبحانه بعده :« إني أحذرك نفسك » وقد قال : «بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ »(١) ويحتمل أن يكون المعنى : وكذلك ينبغي أن يكون قلبك موافقا للسانك ، فلا تقول ما ليس فيه ، أو المعنى أنه كما يجب أن يكون القول باللسان واحدا يجب أن يكون اعتقاد القلب واحدا واصلا إلى حد اليقين ويطمئن قلبه بالحق ، ولا يتزلزل بالشبهات فيعتقد اليوم شيئا وغدا نقيضه ، ويجب أن تكون عقائد القلب متوافقة متناسبة لا كقلوب أهل الضلال والجهال ، فإنهم يعتقدون الضدين والنقيضين لتشعب أهوائهم وتفرق آراء من حيث لا يشعرون كاعتقادهم بأفضلية أمير المؤمنين وتقديمهم الجهال عليه ، واعتقادهم بعدله تعالى وحكمهم بأن الكفر وجميع المعاصي من فعله ، ويعذبهم عليها ، واعتقادهم بوجوب طاعة من جوزوا فسقه وكفره وأمثال ذلك كثيرة.

أو المعنى أن المقصود الحقيقي والغرض الأصلي للقلب لا يكون إلا واحدا ولا تجتمع فيه محبتان متضادتان كحب الدنيا وحب الآخرة ، وحب الله وحب معاصيه والشهوات التي نهى عنها ، فمن اعتقد أنه يحب الله تعالى ويتبع الهوى

__________________

(١) سورة الأنعام : ٢٨.

٣٥٦

لا يصلح لسانان في فم واحد ولا سيفان في غمد واحد ولا قلبان في صدر واحد وكذلك الأذهان.

ويحب الدنيا فهو كذي اللسانين ، الجامع بين مؤالفة المتباغضين فإن الدنيا والآخرة كضرتين وطاعة الله وطاعة الهوى كالمتباغضين ، فقلبه منافق ذو لسانين ، لسان منه مع الله والآخر مع ما سواه فهذا أولى بالذم من ذي اللسانين.

وتحقيقه : أن بدن الإنسان بمنزلة مدينة كبيرة لها حصن منيع هو القلب ، بل هو العالم الصغير من جهة ، والعالم الكبير من جهة أخرى ، والله سبحانه هو سلطان القلب ومدبره ، بل القلب عرشه ، وحصنه بالعقل والملائكة ، ونوره بالأنوار الملكوتية ، واستخدمه القوي الظاهرة والباطنة ، والجوارح والأعضاء الكثيرة ولهذا الحصن أعداء كثيرة من النفس الأمارة والشياطين الغدارة ، وأصناف الشهوات النفسانية والشبهات الشيطانية ، فإذا مال العبد بتأييده سبحانه إلى عالم الملكوت ، وصفى قلبه بالطاعات والرياضات عن شوك الشكوك والشبهات ، وقذارة الميل إلى الشهوات استولى عليه حبه تعالى ، ومنعه عن حب غيره ، فصارت القوي والمشاعر وجميع الآلات البدنية مطيعة منقادة له ، ولا يأتي شيء منها بما ينافي رضاه.

وإذا غلبت عليه الشقوة وسقط في مهاوي الطبيعة ، استولى الشيطان على قلبه وجعله مستقر ملكه ونفرت عنه الملائكة ، وأحاطت به الشياطين ، وصارت أعماله كلها للدنيا وإرادته كلها للهوى ، فيدعي أنه يعبد الله وقد نسي الرحمن وهو يعبد النفس والشيطان.

فظهر أنه لا يجتمع حب الله وحب الدنيا ومتابعة الله ومتابعة الهوى في قلب واحد ، وليس للإنسان قلبان حتى يحب بأحدهما الرب تعالى ويقصده بأعماله ، ويحب بالآخر الدنيا وشهواتها ويقصدها في أفعاله ، كما قال سبحانه : «ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ »(١) ومثل سبحانه لذلك باللسان والسيف ، فكما لا يكون

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٤.

٣٥٧

في فم لسانان ، ولا في غمد سيفان ، فكذلك لا يكون في صدر قلبان ، ويحتمل أن يكون اللسان لما مر في ذي اللسانين.

وأماقوله : فكذلك الأذهان ، فالفرق بينهما وبين القلب مشكل ، ويمكن أن يكون القلب للحب والعزم ، والذهن للاعتقاد والجزم ، أي لا يجتمع في القلب حب الله وحب ما ينافي حبه سبحانه من حب الدنيا وغيرها ، وكذلك لا يجتمع الجزم بوجوده تعالى وصفاته المقدسة وسائر العقائد الحقة ، مع ما ينافيه من العقائد الباطلة ، والشكوك والشبهات في ذهن واحد ، كما أشرنا إليه سابقا.

وقيل : يعني كما أن الظاهر من هذه الأجسام لا يصلح تعددها في محل واحد ، كذلك باطن الإنسان الذي هو ذهنه وحقيقته لا يصلح أن يكون ذا قولين مختلفين ، أو عقيدتين متضادتين ، وقيل : الذهن الذكاء والفطنة ، ولعل المراد هنا التفكر في الأمور الحقة النافعة ومباديها ، وكيفية الوصول إليها.

وبالجملة أمره بأن يكون لسانه واحدا وقلبه واحدا وذهنه واحدا ومطلبه واحدا ولما كان سبب التعدد والاختلاف أمرين : أحدهما تسويل النفس ، والآخر الغفلة عن عقوبة الله ، عقبه بتحذيرها ، وربما يقرأ بالدال المهملة من المداهنة في الدين ، كما قال تعالى : «أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ »(١) وقال : «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ »(٢) وهذا تصحيف وتحريف مخالف للنسخ المضبوطة.

__________________

(١) سورة الواقعة : ٨١.

(٢) سورة القلم : ٩.

٣٥٨

(باب الهجرة )

١ ـ الحسين بن محمد ، عن جعفر بن محمد ، عن القاسم بن الربيع وعدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد رفعه قال في وصية المفضل سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول لا يفترق رجلان على الهجران إلا استوجب أحدهما البراءة واللعنة وربما استحق ذلك كلاهما فقال له معتب جعلني الله فداك هذا الظالم فما بال المظلوم قال لأنه لا يدعو أخاه إلى صلته ولا يتغامس له عن كلامه سمعت أبي

باب الهجرة

الحديث الأول : مرفوع.

والهجر والهجران خلاف الوصل ، قال في المصباح : هجرته هجرا من باب قتل تركته ورفضته فهو مهجور ، وهجرت الإنسان قطعته والاسم الهجران ، وفي التنزيل : «وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ »(١) « البراءة » أي براءة الله ورسوله منه ، ومعتب بضم الميم وفتح العين وتشديد التاء المكسورة ، وكان من خيار موالي الصادقعليه‌السلام بل خيرهم كما روي فيه« هذا الظالم » أي أحدهما ظالم ، والظالم خبر أو التقدير هذا الظالم استوجب ذلك فما حال المظلوم؟ ولم استوجبه؟« إلى صلته » أي إلى صلة نفسه ، ويحتمل رجوع الضمير إلى الأخ.

« ولا يتغامس » في أكثر النسخ بالغين المعجمة ، والظاهر أنه بالمهملة كما في بعضها قال في القاموس : تعامس تغافل ، وعلي تعامي علي ، ويمكن التكلف في المهملة بما يرجع إلى ذلك من قولهم غمسه في الماء أي رمسه ، والغميس الليل المظلم والظلمة والشيء الذي لم يظهر للناس ولم يعرف بعد ، وكل ملتف يغتمس فيه أو يستخفي ، قال في النهاية : في حديث عليعليه‌السلام : ألا وإن معاوية قاد لمة من الغواة وعمس عليهم الخبر ، العمس أن ترى أنك لا تعرف الأمر وأنت به عارف ، ويروى بالغين

__________________

(١) سورة النساء : ٣٤.

٣٥٩

يقول إذا تنازع اثنان فعاز أحدهما الآخر فليرجع المظلوم إلى صاحبه حتى يقول لصاحبه أي أخي أنا الظالم حتى يقطع الهجران بينه وبين صاحبه فإن الله تبارك وتعالى حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا هجرة فوق ثلاث.

٣ ـ حميد بن زياد ، عن الحسن بن محمد بن سماعة ، عن وهيب بن حفص ، عن أبي بصير قال سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الرجل يصرم ذوي قرابته ممن لا يعرف

المعجمة.

« فعاز » بالزاي المشددة ، وفي بعض النسخ : فعال باللام المخففة ، في القاموس : عزه كمدة غلبه في المعازة ، وفي الخطاب غالبة كعازه ، وقال : عال جار ومال عن الحق ، والشيء فلانا غلبه وثقل عليه وأهمه« أنا الظالم » كأنه من المعاريض للمصلحة.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح.

وظاهره أنه لو وقع بين أخوين من أهل الإيمان موجده أو تقصير في حقوق العشرة والصحبة وأفضى ذلك إلى الهجرة فالواجب عليهم أن لا يبقوا عليها فوق ثلاث ليال ، وأما الهجر في الثالث فظاهره أنه معفو عنه وسببه أن البشر لا يخلو عن غضب وسوء خلق فسومح في تلك المدة ، مع أن دلالته بحسب المفهوم وهي ضعيفة ، وهذه الأخبار مختصة بغير أهل البدع والمصرين على المعاصي ، لأن هجرهم مطلوب وهو من أقسام النهي عن المنكر.

الحديث الثالث : موثق.

والصرم القطع أي يهجره رأسا ، ويدل على أن الأمر بصلة الرحم يشمل

٣٦٠