مرآة العقول الجزء ١١

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 407

مرآة العقول

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف:

الصفحات: 407
المشاهدات: 16852
تحميل: 5521


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20 الجزء 21 الجزء 22 الجزء 23 الجزء 24 الجزء 25 الجزء 26
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16852 / تحميل: 5521
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 11

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

الرابعة : الشقاق وهو رذيلة الإفراط من فضيلة الشجاعة ، المسمى تهورا أو مستلزم له ، ويلزمها توعر المسالك على صاحبها ، وضيق مخرجه من الأمور ، لأن مبدء سهولة المسالك واتساع المداخل والمخارج في الأمور هو مسالمة الناس والتجاوز عما يقع منهم ، والحلم عنهم ، واحتمال مكروههم.

وأما الشك فعبارة عن التردد في اعتقاد أحد طرفي النقيض ويقابل اليقين ، وذكر له أربع شعب : أحدهما التماري وظاهر أن مبدء المراء الشك ، ونفر من اتخذه ملكة بكونه لا يصبح ليله ، وذلك كناية عن عدم وضوح الحق له من ظلمة ليل الشك والجهل.

الثاني : الهول لأن الشك في الأمور يستلزم عدم العلم بما فيها من صلاح أو فساد ، وذلك يستلزم الفزع منها والخوف من الإقدام عليها وثمرتها النكوص والرجوع على الأعقاب.

الثالث : التردد في الشك إلى الانتقال من حال إلى حال ، ومن شك في أمر إلى شك في آخر من غير ثقة بشيء ، وذلك دأب من تعود التشكك في الأمور ، ونفر عن ذلك بما يلزمه مما كنى عنه بوطئ سنابك الشياطين ، وهو ملك الوهم والخيال لأرض قلبه ، حتى يكون سلطان العقل بمعزل عن الجزم بما من شأنه الجزم به.

الرابع : الاستسلام لهلكة الدنيا والآخرة ، ولزومه عن الشك لأن الشاك في الأمور الدنيوية والأخروية المتعود لذلك غير عامل لشيء منها ، ولايتهم لأسبابها ، وبحسب ذلك يكون استسلامه لما يرد منها عليه ، ولزوم هلاكه فيها لاستسلامه ظاهر ، وبالله التوفيق ، انتهى.

ولنرجع إلى شرح ما في الكتاب : « الدعائم » جمع الدعامة بالكسر ، وهي عماد البيت ، والمراد هنا أصوله وبواعثه ، و الفسق الخروج عن الطاعة ، ويقال : أصله

١٤١

خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد ، وقال الراغب : أكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ، ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه.

والغلو هو مجاوزة الحد في الدين ، وفي التنزيل : «لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ »(١) ويقال : أصله الارتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء ، وفي الخصال : والعتو ، قال في المصباح : عتا يعتو عتوا من باب قعد استكبر ، وقال الراغب : العتو النبو عن الطاعة قال تعالى : «وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً »(٢) «فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ »(٣) «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها »(٤) وقال : «بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ »(٥) وقوله تعالى : «أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا »(٦) قيل : المعنى هيهنا مصدر ، وقيل : هو جمع عاتي ، وقيل : العاتي الجاني ، انتهى.

وما في المتن أظهر لذكر العتو بعد ذلك إلا أن يكون بمعنى آخر ، و الشك في الاصطلاح وهو تساوي الطرفين عند العقل ، وقال في المصباح : الشك الارتياب ويستعمل الفعل لازما ومتعديا بالحرف ، فيقال : شك في الأمر قال أئمة اللغة : الشك خلاف اليقين فقولهم خلاف اليقين هو التردد بين الشيئين ، سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر ، قال تعالى : «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ »(٧) قال المفسرون : أي غير مستيقن وهو يعم الحالتين ، انتهى.

وكان المراد به هنا الشك في أصول الدين وضرورياته ، وهو أعظم أصول الكفر.

والشبهة ما يشبه الحق وليس به ، وقال الراغب : الشبهة هو أن لا يتميز أحد

__________________

(١) سورة النساء : ١٧١.

(٢) سورة الفرقان : ٢١.

(٣) سورة الذاريات : ٤٤.

(٤) سورة الملك : ٢١.

(٥) سورة الطلاق : ٨.

(٦) سورة مريم : ٦٩.

(٧) سورة يونس : ٩٤.

١٤٢

والفسق على أربع شعب على الجفاء والعمى والغفلة والعتو فمن جفا

الشيئين من الآخر لما بينهما من التشابه عينا كان أو معنى ، انتهى.

وقيل : هي ترجيح الباطل بالباطل ، وتصوير غير الواقع بصورة الواقع ، وجلها بل كلها يحصل بمزج الباطل بالحق ولما فرغ من دعائم الكفر وأصوله وكان لكل واحدة منها أربع شعب وكانت لتلك الشعب ثمرات وآثار مهلكة أشار إلى تلك الشعب وثمراتها للتحذير منها ، والتنفير عنها ، بقوله : والفسق على أربع شعب.

والشعبة من الشجرة بالضم الغصن المتفرع منها ، وقيل : الشعبة ما بين الغصنين والقرنين ، والطائفة من الشيء أو طرف الغصن والمراد هنا الفروع ، و الجفاء الغلظة في الطبع ، والخرق في المعاملة ، والفظاظة في القلب ، ورفض الصلة والبر والرفق والبعد عن الآداب الحسنة ، قال في المصباح : جفا السرج عن ظهر الفرس يجفو جفاء ارتفع ، وجافيته فتجافى ، وجفوت الرجل أجفوه أعرضت عنه أو طردته ، وهو مأخوذ من جفاء السيل وهو ما نفاه السيل ، وقد يكون مع بغض ، وجفا الثوب يجفو إذا غلظ فهو جاف ، ومنه جفاء البدو وهو غلظتهم وفظاظتهم.

والعمى ذهاب بصر القلب وترك التفكر في الأمور النافعة في الآخرة ، وعدم إدراك الحق والتميز بينه وبين الباطل.

وفي المصباح : الغفلة غيبة الشيء عن بال الإنسان ، وعدم تذكره له ، وقد استعمل فيمن ترك إهمالا وإعراضا كما في قوله تعالى : «وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ »(١) يقال منه غفلت عن الشيء غفولا من باب قعد ، وله ثلاثة مصادر غفول وهو أعمها وغفلة وزان تمرة ، وغفل وزان سبب ، وأغفلت الشيء إغفالا تركته إهمالا من غير نسيان ، وقال الراغب : الغفلة سهو يعتري من قلة التحفظ والتيقظ ، قال عز وجل : «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا »(٢) «وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ »(٣) «وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ »(٤)

__________________

( ١ و٣ ) سورة الأنبياء : ١.

(٢) سورة ق : ٢٢.

(٤) سورة الروم : ٧.

١٤٣

احتقر الحق ومقت الفقهاء وأصر «عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ » ومن عمي نسي الذكر واتبع الظن وبارز خالقه وألح عليه الشيطان وطلب المغفرة بلا توبة ولا استكانة.

«وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ »(١) «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ »(٢) .

« احتقر الحق » وفي بعض النسخ الخلق أي أهل الحق « ومقت الفقهاء أي » أهل البيتعليهم‌السلام . أو الأعم منهم ومن علماء شيعتهم وهو أظهر ، « وأصر على الحنث العظيم » وهو الإثم بالاحتقار والمقت ، أو بالأعم منهما ومن سائر الكبائر وهو إشارة إلى قوله تعالى : «وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ »(٣) في وصف أصحاب الشمال بعد ذكر شدة عذابهم وأنهم كانوا قبل ذلك مترفين ، قال الطبرسي : الحنث نقض العهد المؤكد بالحلف.

وقال : أي الذنب العظيم ، وقال : الإصرار أن يقيم عليه فلا يقلع عنه ولا يتوب منه ، وقيل : الحنث العظيم الشرك أي لا يتوبون عنه ، وقيل : كانوا يحلفون لا يبعث الله من يموت وأن الأصنام أنداد الله ، وقال الراغب : أي الذنب المؤثم ، وسمي اليمين الغموس حنثا لذلك « ومن عمي نسي الذكر » أي ذكر الله أو الآخرة أو القرآن أو القرآن أو أهل البيتعليهم‌السلام ، وذكر الله يعم الجميع إشارة إلى قوله تعالى : «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ »(٤) وقد مر وسيأتي أنهمعليه‌السلام ذكر الله.

« واتبع الظن » أي في أصول الدين التي لا يجوز فيها اتباعه ، أو المراد به الظنون التي لا يجوز اتباعها كالظن الحاصل بالرأي والقياسات والاستحسانات العقلية كما هو شأن المخالفين ، وليست هذه الفقرة في « ل ».

« وبارز خالقه » أي حاربه مطلقا أو في اتباع الظن حيث ارتكب ما نهاه

__________________

(١) سورة الأعراف : ٢٠٥.

(٢) سورة يس : ٦.

(٣) سورة الواقعة : ٤٦.

(٤) سورة المجادلة : ١٩.

١٤٤

ولا غفلة ومن غفل جنى على نفسه وانقلب على ظهره وحسب غيه رشدا وغرته

عنه بقوله عز وجل : «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ »(١) وبقوله : «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً »(٢) .

« وألح عليه الشيطان » إشارة إلى قوله : «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ » « وطلب المغفرة » هذا أيضا ليست في « ل ».

« بلا توبة » أي ندامة عما فعل ولا استكانة وتضرع في طلب المغفرة.

« ولا غفلة » عن الذنوب ، وشبهة عرضت له فيها « ومن غفل » أي عن الآخرة وعقوباتها ومضرة الشيطان واتباع شهوات الدنيا ولذاتها « جنى على نفسه » أي أهلكها « وانقلب » عن الدين « على ظهره ».

« وحسب غيه » وضلاله « رشدا » وصلاحا وذلك لغفلته عن تسويلات الشيطان ووساوسه « وغرته الأماني » أي المواعيد الكاذبة من الشيطان حيث قال اللعين : «وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ »(٣) قال الراغب : الأمنية الصورة الحاصلة في النفس من تمنى الشيء ، ولما كان الكذب تصور ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ صار التمني كالمبدء للكذب ، فصح أن يعبر عن الكذب بالتمني ، وقال : التمني تقدير الشيء في النفس وتصويره فيها ، وذلك قد يكون عن تخمين وظن ، وقد يكون عن رؤية وبناء على أصل لكن لما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك.

قال بعض الأفاضل : من المغرورين من ينكر الحشر والنشر ، ومنهم من يزعم أن وعيد الأنبياء من باب التخويف ولا عقاب في الآخرة ، ومنهم من يقول أن لذات الدنيا متيقنة ، وعقوبة الآخرة مشكوكة والمتيقن لا يترك بالمشكوك ، ومنهم من يفعل المعاصي ويقول إن الله غفور رحيم ، ومنهم من يزعم أن الدنيا نقد والآخرة

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٣٦.

(٢) سورة النجم : ٢٨.

(٣) سورة النساء : ١١٩.

١٤٥

الأماني وأخذته الحسرة والندامة إذا قضي الأمر وانكشف عنه الغطاء وبدا له ما لم يكن يحتسب ومن عتا عن أمر الله شك ومن شك تعالى الله عليه فأذله بسلطانه

نسيئة والنقد أحسن من النسيئة ، ومنهم من اغتر بنفسه وبعلمه وغفل عن آفاته ، ومنهم من اغتر بعلمه وظن أنه بلغ حد الكمال وليس مثله أحد وكأنه لم يسمع ما ورد في ذم العلماء المغرورين بعلومهم ، ومنهم من علم وعمل وغفل عن طهارة الباطن عن الأخلاق الرذيلة وظن أنه منزه عنها مستحق للثواب الجزيل بسببه ، ومنهم من اغتر بأصل العلم وطلب علوما نافعة في الدنيا وغفل عن علم الآخرة ، ومنهم من اغتر بأصل الطهارة والنيات واتبع وسواس الشيطان وظن أنه يحسن شيئا وأنه مستحق للأجر به ، ومنهم من اغتر بالعبادة وظن أنه فاق العابدين ، ومنهم من اغتر بالزهد وظن أنه أزهد الناس وأنه شفيع للخلق يوم القيامة ، ومنهم من اغتر بالمال والمغرورون به كثير ، ومنهم من اغتر بالأولاد والأنصار ، ومنهم من اغتر بالجاه والرئاسة ، إلى غير ذلك من أسباب الغرة التي لا تحصى كثرة.

« وأخذته الحسرة » مما لحقه من الفضائح « والندامة » مما فعله من القبائح « إذا قضى الأمر » بين الخلائق في القيامة أو أمر الدنيا بالموت « وانكشف عنه الغطاء » المانع من مشاهدة سوء عاقبته أو في وقت الموت فرأى ما سمعه عيانا.

هذا بالنظر إلى أصحاب الغفلة فأما من رأى أمور الآخرة بعين اليقين فقد قامت قيامته في الدنيا كما قال سيد أصحاب اليقين : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.

« وبدا له » أي من الله ومن أمور الآخرة وفي « ل » : وأخذته الحسرة إذا انكشف الغطاء وبدا له من الله « ما لم يكن يحتسب » أي يظن ويتوقع إشارة إلى قوله سبحانه : «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ »(١) .

« ومن عتا من أمر الله » أي تركه استكبارا « شك » أي في الله أو في أمره ، فإن

__________________

(١) سورة الزمر : ٤٧.

١٤٦

وصغره بجلاله كما اغتر بربه الكريم وفرط في أمره.

والغلو على أربع شعب على التعمق بالرأي والتنازع فيه والزيغ

المعصية طريق إلى الكفر ويستلزمه « تعالى الله عليه » أي غضب عليه « فأذله » في الدنيا والآخرة « بسلطانه » أي بقدرته وعزته « وصغره » عند الخلائق « بجلاله » وعظمته فيفعل به نقيض مقصوده.

« كما اغتر بربه الكريم » الذي أحسن إليه وأنعم عليه ، إشارة إلى قوله تعالى : «ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ »(١) قال البيضاوي : أي أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه ، وذكر الكريم للمبالغة في المنع عن الاغترار ، فإن محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم وتسوية الموالي والمعادي والمطيع والعاصي ، فكيف إذا انضم إليه صفة القهر والانتقام ، والإشعار بما يغره به الشيطان ، فإنه يقول له : افعل ما شئت فربك كريم لا يعذب أحدا ، أو لا يعاجل بالعقوبة والدلالة على أن كثرة كرمه يستدعي الجد في طاعته لا الانهماك في عصيانه اغترارا بكرمه.

« وفرط في أمره » أي قصر في طاعته ، وجعل المفعول في أذله وصغره راجعين إلى الله تعالى بعيد جدا ، وفي « ل » ثم أذله بسلطانه وصغره لجلالة كما فرط في جنبه وعتا عن أمر ربه الكريم « على التعمق بالرأي » أي التعمق والغور في الأمور بالآراء والمقاييس الباطلة ، وليس قوله بالرأي في « ل » يقال تعمق في الأمر أي بالغ في النظر فيه ، والمراد به المبالغة المفضية إلى حد الإفراط ، وبعد ظهور الحق ، كمن وصل في البئر إلى الماء وقضى الوطر ثم غاص في البئر فغرق ، وقيل : المراد بالتعمق تدقيق النظر في طلب الباطل ، لأن طلب الحق يشبه الصعود والعروج ، وطلب الباطل يشبه النزول إلى القعر ، وعلى الأول يدل على ذم كثرة التفكر والتعمق في أمور الدين.

« والتنازع فيه » أي في الرأي وليس في « ل » والزيغ الميل عن الاستقامة على

__________________

(١) سورة الإنفطار : ٦.

١٤٧

والشقاق فمن تعمق لم ينب إلى الحق ولم يزدد إلا غرقا في الغمرات ولم تنحسر عنه فتنة إلا غشيته أخرى وانخرق دينه فهو يهوي «فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ » ومن نازع في الرأي وخاصم شهر بالعثل من طول اللجاج ومن زاغ قبحت عنده الحسنة وحسنت عنده

الحق إلى الباطل ، كما قال تعالى : «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا »(١) وقال : «بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ »(٢) وقال تعالى : «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ »(٣) أي لما فارقوا الاستقامة عاملهم بذلك « والشقاق » أي المخالفة الشديدة مع أهل الحق « لم ينب » على صيغة الأفعال أي لم يرجع إلى الحق وإن ظهر له ، لأن من خاض في الباطل وتمكن في قلبه لم يرجع إلى الحق الواضح إلا من شذ « ولم يزدد » أي في تعمقه « إلا غرقا في الغمرات » أي الشبه القوية والآراء الفاسدة التي لم يمكنه التخلص منها.

في القاموس : الغمر الماء الكثير ، ومعظم البحر وغمرة الشيء شدته ومزدحمة ، والجمع غمرات وغمار « ولم تنحسر » أي لم تنكشف « عنه فتنة » مضلة « إلا غشيته أخرى » لأن الشرور بعضها يجر إلى بعض فيتعسر عليه الخروج عنها والتخلص منها « وانخرق دينه » بمقراض الفتنة « فهو يهوي في أمر مريج » أي في أمر مختلط بالأباطيل المختلفة أو بالحق وبالباطل ، قال الراغب : أصل المرج الخلط ، والمرج الاختلاف يقال : أمرهم مريج أي مختلط وقال البيضاوي في قوله تعالى : «بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ »(٤) أي مضطرب من مرج الخاتم من إصبعه إذا خرج ، وذلك قولهم تارة أنه شاعر ، وتارة أنه ساحر ، وتارة أنه كاهن.

« شهر بالعثل » في بعض النسخ بالعين المهملة والثاء المثلثة أي الحمق ، في القاموس العثل ككتف الغليظ الضخم ، وكصبور الأحمق ، والنخلة الجافية الغليظة ، وقد يقرأ

__________________

(١) سورة آل عمران : ٨.

(٢) سورة التوبة : ١١٧.

(٣) سورة الصفّ : ٥.

(٤) سورة ق : ٥.

١٤٨

السيئة ومن شاق اعورت عليه طرقه واعترض عليه أمره فضاق عليه مخرجه إذا لم

بالتاء المثناة ، في القاموس عتل إلى الشر كفرح فهو عتل أسرع ، وفي أكثر النسخ بالفشل ، بالفاء والشين المعجمة ، وهو الضعف والجبن ، قيل : وإنما شهر بالفشل لأن خصمه المبطل لا ينقاد للحق ، بل لا يزال يجادل بالباطل ليدحض به الحق ، فيظهر ضعف هذا المحق فيشهر به.

« ومن زاغ » أي مال عن منهج الحق إلى الباطل زين له الشيطان سوء أعماله فقبحت عنده الحسنة ، وحسنت عنده السيئة. « ومن شاق » أي عارض ونازع أهل الدين والإمام المبين « أعورت عليه طرقه » على بناء الأفعال أو الافعلال أي صار أي طريق سلك فيه أعور أي بلا علم يهتدى به فيتحير فيها ، في القاموس الأعور من الطرق الذي لا علم فيه ، وفي بعض النسخ أوعرت أي صعبت. في القاموس الوعر ضد السهل ، وقد وعر المكان ككرم ووعد وولع وتوعر صار وعرا ، وأوعر به الطريق وعر عليه وأفضى به إلى وعر ، والرجل وقع في وعر واستوعروا طريقهم رأوه وعرا كأعوره ، انتهى.

وجمع الطرق إشارة إلى كثرة طرق الباطل « واعترض عليه أمره » أي يحول بينه وبين الوصول إلى مقصوده أو يصعب عليه ولا يتأتى له بسهولة ، أو على بناء المجهول أي تعترض له الشبهات فتحول بينه وبين الوصول إلى أمره الذي يريده ، وفي القاموس الاعتراض المنع والأصل فيه أن الطريق إذا اعترض فيه بناء أو غيره منع السابلة من سلوكه ، واعترض صار وقت العرض راكبا. وصار كالخشبة المعترضة في النهر ، والشيء دون الشيء حال ، والفرس في رسنه لم يستقم لقائده ، وزيد البعير ركبه ، وهو صعب بعد ، انتهى.

وقيل : أي أمره معترض عليه مستول كالفرس الحرون يمشي نشاطا في عرض الطريق ، وهو كناية عن عدم استقامته أو عن قوته ونشاطه في الباطل ، أو يعترض عليه مانع له عن قبول الحق من عرض له عارض أي مانع ومنه اعتراضات العلماء لأنها تمنع من التمسك بالدليل ، وتعارض البينات لأن كل واحدة تعترض الأخرى

١٤٩

يتبع سبيل المؤمنين.

والشك على أربع شعب على المرية والهوى والتردد والاستسلام ـ وهو قول الله عز وجل : «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى »(١)

وتمنع نفوذها ، وفي بعض النسخ أعورت عليه طرفه ، بالفاء ، أي صار عين قلبه أعور لا يبصر الحق.

وأقول : الظاهر أنه إشارة إلى قوله تعالى : «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً »(٢) .

« على المرية » قال الجوهري : المرية الشك والجدل ، وقد يضم ، وقرئ قوله تعالى : «فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ »(٣) بهما ، وقال : هاله الشيء يهوله هولا أي أفزعه ، وقال : استسلم أي انقاد وقال : نكص على عقبيه ينكص وينكص أي رجع ، وقيل :

المراد بالشك الشك في أصول الدين أو خلاف اليقين ، وبالمرية الشك في فروعه ، أو بمعنى تساوي الطرفين الحق والباطل ، والأخيران من شعب الأولين والهوى ، إذ الشك يوجب متابعة الهوى « والتردد » أي بين الحق والباطل ، لأن الشاك متردد بينهما ، قد يختار هذا وقد يختار ذاك ، والاستسلام الانقياد لأن الشاك واقف على الجهل مستسلم له أو لما يوجب هلاك الدنيا والآخرة.

« وهو قول الله عز وجل » أي الشك الذي ذكرنا شعبه هو الذي زجر الله عنه في قوله «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى » إذ المماراة مجادلة على طريقة الشك ، قال البيضاوي : أي تتشكك ، والخطاب للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لكل أحد.

أقول : الظاهر أن المراد بالشك هنا الشك في أصول الدين لا سيما في الإمامة

__________________

(١) سورة النجم : ٥٥.

(٢) سورة النساء : ١١٥.

(٣) سورة هود : ١٧.

١٥٠

وفي رواية أخرى على المرية والهول من الحق والتردد والاستسلام للجهل وأهله.

كمايومئ إليه الاستشهاد بآية سورة النجم ، لأنه تعالى قال فيها : «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى » وقد روي عن ابن عباس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : سينقض كوكب من السماء مع طلوع الفجر فيسقط في دار أحدكم ، فمن سقط ذلك الكوكب في داره فهو وصيي وخليفتي والإمام بعدي ، فسقط في دار عليعليه‌السلام فقال المنافقون : لقد ضل محمد في محبة ابن عمه وغوى ، وما ينطق في شأنه إلا بالهوى ، فأنزل الله تعالى : «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى » يقول : وخالق النجم إذا هوى «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ » يعني في محبة علي «وَما غَوى ، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى » يعني في شأنه «إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ».

وروى علي بن إبراهيم عن الباقرعليه‌السلام يقول : ما ضل في علي وما غوى ، وما ينطق فيه عن الهوى ، وما كان ما قاله فيه إلا بالوحي الذي أوحى إليه ومثله كثير وقد ورد في الأخبار الكثيرة أنه لما عرج بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان قاب قوسين أو أدنى أوحى الله إليه في ولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام وقال بعد ذلك : فأوحى إلى عبده ما أوحى ، يعني في عليعليه‌السلام ثم قال : «أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى » أي أفتجادلونه من المراء. وقال علي ابن إبراهيم سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك الوحي ، فقال : أوحى إلى أن عليا سيد المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ، وأول خليفة يستخلفه خاتم النبيين فدخل القوم في الكلام ، فقالوا : أمن الله أو من رسوله؟ فقال الله جل ذكره لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل لهم «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى » ثم رد عليهم فقال : «أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى » فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد أمرت فيه بغير هذا ، أمرت أن أنصبه للناس. فأقول : هذا وليكم من بعدي. ثم قال : «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ».

إلى أن قال : «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا ، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ » ثم قال : «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى » وقد ورد في الأخبار الكثيرة

١٥١

فمن هاله ما بين يديه «نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ » ومن امترى في الدين تردد في الريب وسبقه الأولون من المؤمنين وأدركه الآخرون ووطئته سنابك الشيطان ومن

أنهمعليهم‌السلام آلاء الله ، فإذا تأملت في آيات تلك السورة عرفت ما ذكرهعليه‌السلام من الشك. وشعبه حق المعرفة.

« فمن هاله من بين يديه » من الحق والرغبة إلى الآخرة «نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ » إلى الباطل والدنيا كما قال سبحانه : «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى » الآية.

« ومن امترى في الدين » في القاموس المرية بالكسر والضم الشك والجدل ، وماراه مماراة ومراء وامترى فيه وتمارى شك « تردد في الريب » بالفتح أو بكسر الراء وفتح الباء جمع ريبة كسدرة وسدر ، وهو أظهر أي انتقل من حال إلى حال ومن شك إلى شك آخر من غير ثقة بشيء أو استمرار على أمر كما هو دأب المعتادين بالتشكيك في الأمور « وسبقه الأولون من المؤمنين » أي الذين كانوا في مرتبته من الإيمان ، ولعدم الشك والمرية صعدوا إلى درجات اليقين « وأدركه الآخرون » أي الذين كانوا أخفض مرتبة منه فترقوا إلى مرتبته وهو واقف متحير لا يبرح من درجته الخسيسة لابتلائه بالشك والشبهة.

« ووطئته سنابك الشيطان » السنابك جمع سنبك كقنفذ ، وهو طرف الحافر وهو كناية عن استيلاء الشيطان وجنوده من الجن والإنس عليه وفي « ل » الشياطين « ومن استسلم لهلكة الدنيا والآخرة هلك فيما بينهما » فلم تكن له الدنيا خالصة لزوالها مع ما عليه من العقوبات فيها ، ولم تكن له الآخرة لعدم إتيانه بما ينفعه فيها.

قال بعض المحققين : فيه إشارة إلى أن الطالب للدنيا المستسلم لها هالك ، وأن الطالب للعقبى ونعيمها أيضا هالك ، وللإنسان الموقن شأن وراء ذلك يليق به ، وهو نبذ الدنيا والعقبى وراء ظهره ، والترقي إلى ساحة الوصول أمام دهره ، وروي أن الله تعالى أوحى إلى داودعليه‌السلام يا داود أحب الإحياء إلى من عبدني بغير نوال

١٥٢

استسلم لهلكة الدنيا والآخرة هلك فيما بينهما ومن نجا من ذلك فمن فضل اليقين ولم يخلق الله خلقا أقل من اليقين.

والشبهة على أربع شعب إعجاب بالزينة وتسويل النفس وتأول العوج

ولكن عبدني ليعطي الربوبية حقها ، ومن أظلم ممن عبدني لجنة أو نار ، ألم أكن أهلا أن أطاع وأعبد خالصة.

« ومن نجا من ذلك فمن فضل اليقين » قيل : اليقين ليس محض الاعتقاد ، بل هو كيفية نفسانية تبعث على متابعة من أقر بهم من الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام من جميع الوجوه وتمنع عن مخالفتهم ، ولذا قالعليه‌السلام : ولم يخلق الله خلقا أقل من اليقين ، لأن اليقين بالمعنى المذكور لا يكون إلا لمن اصطفاه الله تعالى من عباده ، ولمن تابعهم حق المتابعة ، وقد مر الكلام في اليقين ، وكان المراد بالخلق هنا التقدير.

« والشبهة على أربع شعب : إعجاب بالزينة » أي إعجاب المرء بالزينة الدنيوية أو القلبية من الأمور التي اخترعتها النفس بالرأي والاستحسان ، مع استعانة الوهم والخيال فأعجبت بها.

« وتسويل النفس » أي تزيينها للأمور الباطلة بحسب المادة والصورة ، مع شوب الحق وعدمه ، فإن النفس باستعانة الوهم قد تزين الأمور الباطلة الصرفة ، كما تزين الباطل الممتزج بالحق ، والظاهر أن الإضافة إلى الفاعل كما قال تعالى «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً »(١) والإضافة إلى المفعول بعيد ، قال الراغب : التسويل تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح منه بصورة الحسن ، قال تعالى : «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً » «الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ »(٢) .

« وتأول العوج » أي تأويل الأمر المعوج والباطل بما يظن أنه حق ومستقيم

__________________

(١) سورة يوسف : ١٨.

(٢) سورة محمّد : ٢٥.

١٥٣

ولبس الحق بالباطل وذلك بأن الزينة تصدف عن البينة وأن تسويل النفس

وقيل : أي التأويل الغير المستقيم قال في القاموس : أول الكلام تأويلا وتأوله دبره وقدره وفسره ، وقال : عوج كفرح والاسم كعنب ، أو يقال في كل منتصب كالحائط والعصا فيه عوج محركة ، وفي نحو الأرض والدين كعنب ، وقال في النهاية : هو بفتح العين مختص بكل شيء مرئي كالأجسام وبالكسر فيما ليس بمرئي كالرأي والقول.

« وليس الحق بالباطل » أي خلط الحق والواقع بما هو ليس بواقع كالجمع بين خلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام وخلافة الثلاثة أو إخفاء الحق بتأويله بالباطل كتأويل حدوث العالم بالحدوث الذاتي ، وهو إشارة إلى قوله تعالى : «وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ »(١) وقال البيضاوي : اللبس الخلط وقد يلزمه جعل الشيء مشتبها بغيره ، والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتى لا يميز بينهما ، أو لا تجعلوا الحق ملتبسا بسبب خلط الباطل الذي تكتبونه في خلاله أو تذكرونه في تأويله.

« وذلك بأن الزينة تصدف عن البينة » أي تصرف النفس عن البينة الشرعية والعقلية التي يحكم بصحتها النص الصحيح ، والعقل الصريح ، في القاموس صدف عنه يصدف أعرض وفلانا صرفه كأصدقه ، انتهى.

وقال سبحانه : «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ »(٢) « تقحم على الشهوة » أي يوجب دخول الإنسان في المشتهيات النفسانية من غير روية ، قال في القاموس : قحم في الأمر كنصر قحوما رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية وقحمه تقحيما وأقحمته فانقحم وقحمه الفرس تقحيما رمته على وجهه « وإن العوج يميل بصاحبه » أي إلى الباطل «مَيْلاً عَظِيماً » يتعسر معه الرجوع إلى الحق ، وإنما لم يقل تأول العوج لأن

__________________

(١) سورة البقرة : ٤٢.

(٢) سورة الأنعام : ١٥٧.

١٥٤

يقحم على الشهوة وأن العوج يميل بصاحبه ميلا عظيما وأن اللبس «ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ » فذلك الكفر ودعائمه وشعبه.

باب

صفة النفاق والمنافق

١ ـ قال والنفاق على أربع دعائم على الهوى والهوينا والحفيظة والطمع

تأول العوج لاختياره ، فإذا اختاره فهو يميل به ، وقيل : هو إما للاختصار اكتفاء بما سبق ، أو للتنبيه على أن تأول العوج أيضا عوج.

« وإن اللبس » أي لبس الحق بالباطل وإن كان واحدا «ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ » ظلمة الباطل وظلمة القلب ، وظلمة الأعمال المترتبة عليه كذا قيل ، أو المعنى أن سلوك هذه الطريقة يوجب تراكم الظلمات الكثيرة لكثرة موارده.

باب صفة النفاق والمنافق

الحديث الأول : كالسابق وهو تتمته ، أفرده المصنف عنه وجعله جزء هذا الباب كما أنه جعل سائر أجزائه أجزاء لأبواب أخر ، مرت في أول الكتاب ، والنفاق بالكسر فعل المنافق ومحله القلب واشتقاقه إما من نفقت الدابة تفوقا من باب قعد إذا ماتت ، لأن المنافق بنفاقه بمنزلة الميت الهالك ، أو من نفق البيع نفاقا بالفتح إذا راج ، لأن المنافق يروج إيمانه ظاهرا ويخفى باطله باطنا أو من النفق بفتحتين وهو ضرب من الأرض يكون له مخرج من موضع آخر. لأن المنافق يستر نفاقه كما يستر السائر في الأرض نفاقه أي دراهمه وغيرها ، أو من النافقاء وهي إحدى جحرتي اليربوع ، لأن له جحرتين يقال لإحديهما النافقاء وللأخرى القاصعاء ، فإذا دخل عن إحداهما وهي القاصعاء أخرج من الأخرى وهي النافقاء ، وفيه تشبيه له باليربوع فإن اليربوع يخرق الأرض من أسفل حتى إذا قارب وجهها أرق التراب ،

١٥٥

فالهوى على أربع شعب على البغي والعدوان والشهوة والطغيان ـ فمن بغى كثرت غوائله وتخلي منه وقصر عليه ومن اعتدى لم يؤمن بوائقه ولم يسلم قلبه ولم يملك نفسه عن الشهوات ومن لم يعذل نفسه في الشهوات خاض في الخبيثات ومن طغى

فإذا رابه شيء دفع التراب برأسه وخرج ، فظاهر جحرة تراب وباطنه خفر ، وكذا المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر ، ويخرج من الإيمان من غير الوجه الذي دخل فيه.

« على الهوى والهوينا » قد مر تفسير الهوى وقيل : إنه ميل النفس إلى مقتضى طباعها وخروجها عن حدود الله عز وجل ، وهو أشد جاذب عن قصد الحق وأعظم ساد عن سلوك سبيله وأقوى باعث على سلوك سبيل النفاق ، وقال في النهاية : الهوينا تصغير الهونى تأنيث الأهون ، وهو من الهون الرفق واللين والتثبت ، انتهى.

والمراد هنا التهاون في أمر الدين وترك الاهتمام فيه كما هو طريقة المتقين ، وقيل : هي الفتنة الصغرى التي تجر إلى الكبرى ، والفتن تترتب كبراها على صغراها ، والمؤمن يترك الصغرى فضلا عن الكبرى ، وقال الجوهري : الحفيظة الغضب والحمية ، وقال : بغى عليه بغيا علا وظلم واستطال وكذب وفي مشيه اختال ، وقال : العدوان الظلم الصراح ، وقد عدا عليه وتعدى عليه واعتدى كله بمعنى ، والتعدي مجاوزة الشيء إلى غيره ، وقال : طغا يطغى ويطغو طغيانا : جاوز الحد ، وقال : فلان قليل الغائلة والمغالة أي الشر ، والغوائل الدواهي « وتخلي » على بناء المجهول ، « ومنه » نائب مناب الفاعل ، وكذا « قصر » و « عليه » يقال : تخلى منه وعنه تركه ، أي يخليه الله مع الشيطان وغلب عليه ، لسلب توفيق الله منه ، و البوائق الدواهي والشرور « ولم يسلم قلبه » على بناء المجرد ، أي من الآفات والأمراض النفسانية.

« ومن لم يعذل نفسه » في المصباح عذلته عذلا من بابي ضرب وقتل لمته ، فاعتذل ، أي لام نفسه ورجع ، انتهى.

١٥٦

ضل على عمد بلا حجة.

والهوينا على أربع شعب على الغرة والأمل والهيبة والمماطلة وذلك

وفي بعض النسخ بالدال المهملة ، فهو على بناء التفعيل ، وتعديله هو أن تقتصر على الحلال ولم تتجاوز إلى الحرام ، والأول أكثر وأظهر ، وفي « ل » ومن لم يعزل نفسه عن الشهوات بالزاي ، وله وجه خاص أي دخل في الخبيثات أي الخصال الدنية والأفعال الرديئة. « ومن طغى » أي جاوز حده وادعى ما لم يكن له ولم يتصف به ، وقيل : ارتكب الكبائر وأصر عليها ، والأول أظهر « ضل على عمد » لأنه عارف بنفسه بلا حجة له عند الله و الغرة بالكسر الغفلة ، وهي هنا الغفلة عن ربه وعن عدوه الأكبر ، وعما خلق لأجله ، وعما يؤول إليه أمره ، أو الاغترار بالأماني والآمال ، وبرحمة الله وشفاعة الشفعاء ، أو بكثرة الأعمال مع غفلته عن شرائطها.

والأمل الرجاء ، قال في المصباح : أملته أملا من باب طلب وهو ضد اليأس ، وأكثر ما يستعمل فيما يستبعد حصوله قال زهير : « أرجو وآمل أن تدنو مودتها » ومن عزم إلى بلد بعيد يقول أملت الوصول ولا يقول طمعت إلا إذا قرب منها ، والرجاء بين الأمل والطمع فإن الراجي قد يخاف أن لا يحصل مأمولة ، انتهى.

وتطويل الأمل هو أن يأمل أمورا يتوقف حصوله على عمر طويل ، وهو إنما يكون بأن يعد الموت منه بعيدا وهذا يصير سببا لأن يجترئ على المعاصي ويسوف التوبة ويتوغل في الدنيا ويبني ما لا يسكنه ، ويحصل ما لا ينتفع به ، ولذا ورد : من أطال الأمل أساء العمل ، وقد قال سبحانه : «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ، ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ »(١) وقد روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنه قال : أن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان اتباع الهوى وطول الأمل فإن اتباع الهوى يصد عن الحق ، وطول الأمل ينسى الآخرة.

والمطل والمماطلة : التسويف بالعدة والدين « وذلك بأن الهيبة » أي المهابة

__________________

(١) سورة الحجر : ٣.

١٥٧

بأن الهيبة ترد عن الحق والمماطلة تفرط في العمل حتى يقدم عليه الأجل ولو لا الأمل علم الإنسان حسب ما هو فيه ولو علم حسب ما هو فيه مات خفاتا من الهول

والمخافة من غير الله « والمماطلة » أي صاحبها والإسناد مجازي « حتى يقدم عليه » أي على المماطل بقرينة المقام ، وقيل : الضمير للعمل ، والأجل آخر العمر.

« حسب ما هو فيه » بالتحريك أي حسابه وقدره وعدده ، وما هو فيه عمره وعمله إشارة إلى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، ويحتمل التدبير لكنه بعيد ، وفي القاموس : حسبه حسبا وحسبانا بالضم وحسبانا وحسابا وحسابة وحسبة بكسرهن عده والمعدود محسوب ، وحسب محركة ومنه هذا بحسب ذا ، أي بعدده وقدره وقد يسكن وفي الصحاح : حسبته أحسبه بالضم حسبا وحسابا وحسبانا وحسابة إذا عددته ، والمعدود محسوب ، وحسب وهو فعل بمعنى مفعول ، ومنه قولهم : ليكن عملك بحسب ذلك أي على قدره وعدده ، واحتسبت عليه كذا إذا أنكرت عليه ، واحتسبت بكذا أجرا عند الله ، والاسم الحسبة بالكسر وهي الأجر والجمع الحسب.

وفي المصباح قال الأصمعي : فلان حسن الحسبة في الأمر أي حسن التدبير والنظر ، وجمع الحسبة حسب كعنب ، وقيل : هو حسب جمع الحسبة بمعنى الاحتساب وهو إنكار المنكر بجزاء العمل السيء وهو بعيد.

والحاصل على ما ذكرنا أنه لو لا الأمل والغفلة التي يستلزمها توجه إلى حساب عمره وما صرفه فيه وما اكتسبه من المعاصي فيه وتفكر في أنه يمكن أن يأتيه الموت قريبا فيذهب إلى الآخرة بلا عمل ولا زاد ، وتفكر في سكرات الموت وأهوال ما بعده وعقبات القيامة وأفزاعها وشدائد العقوبات التي استحقها فكرا صحيحا كان حقه أن يموت فجأة من الهول والوجل ، كما مات همام لما سمع صفات المؤمن ، وأما الأمل فيلهيه عن جميع ذلك حتى يأتيه الأجل ، ويظهر منه أن في قدر من الأمل والغفلة حكمة لنظام النوع وبقاء الدنيا ، والإكثار منهما يوجب الشقاوة في العقبى.

وفي القاموس : خفت خفوتا سكن وسكت وخفاتا أي بالضم مات فجاءة ، و الهول

١٥٨

والوجل والغرة تقصر بالمرء عن العمل.

والحفيظة على أربع شعب على الكبر والفخر والحمية والعصبية فمن استكبر

الخوف ، و الوجل بالتحريك الفزع وهو من آثار الخوف وتوابعه.

« والغرة » بالمعاني المتقدمة « تقصر بالمرء عن العمل » أي تجعله قاصرا عن كمال العمل مقصرا فيه ، وهو ظاهر وقيل : الفرق بين الغرة والمماطلة أن مع المماطلة شعورا بالعمل ومعرفة بثبوته وحقيته ، بخلاف الغرة ولذلك ذكر التفريط مع المماطلة ، والقصر مع الغرة إذ الشائع في التفريط هو التقصير في الشيء مع العلم به ، انتهى.

وأقول : على ما ذكرنا من معاني الغرة يظهر الفرق بوجوه أخرى كمالا يخفى على المتدبر.

« والحفيظة على أربع شعب على الكبر » وقد مر أنه ترفع الإنسان وتعظمه بادعاء الشرف والعلو على غيره ، أو هو بطر الحق كما مر في الأخبار ، قال في النهاية : هو أن يجعل ما جعله الله حقا من توحيده وعبادته باطلا ، وقيل : هو أن يتجبر عند الحق فلا يراه حقا ، وقيل : هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله « والفخر » وهو إظهار الفرح والكمال بالحسب والنسب والمال ونحوها ، وادعاء العظمة والشرف بذلك ، وأما ذكر آلائه تعالى ونعمائه فليس من الفخر كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، أي لا أقوله تبجحا وفخرا ولكن شكر الله تعالى وتحدثا بنعمته. و « الحمية » الأنفة والغيرة قال الراغب : عبر عن القوة الغضبية إذا ثارت وكثرت بالحمية فقيل : حميت على فلان ، أي غضبت عليه ، قال تعالى : «حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ »(١) والعصبة الأقارب من جهة الأب والعصبية حمايتهم والدفع عنهم ، و التعصب المحاماة والمدافعة وهي والحمية من توابع الكبر ، وكان الفرق بينهما أن الحمية للنفس والعصبية للأقارب ، أو الحمية للأهل والعصبية للقبيلة.

__________________

(١) سورة الفتح : ٢٦.

١٥٩

أدبر عن الحق ومن فخر فجر ومن حمي أصر على الذنوب ومن أخذته العصبية جار فبئس الأمر أمر بين إدبار وفجور وإصرار وجور على الصراط.

والطمع على أربع شعب الفرح والمرح واللجاجة والتكاثر فالفرح مكروه عند الله والمرح خيلاء واللجاجة بلاء لمن اضطرته إلى حمل الآثام والتكاثر

« فمن استكبر أدبر عن الحق » لتكبره عن طاعة أئمة الحق والتذلل عند ظهوره « ومن فخر فجر » أي كذب أو أذنب بوقوعه في المحارم. « ومن حمى أصر » أي على الذنوب التي توجبها الحمية من الشتم والضرب والقتل وإنكار الحق وتقوية الباطل « جار » أي مال عن الحق وظلم وتعدى لرعاية العشيرة والقبيلة.

« فبئس الأمر » الحفيظة لتردده بين الأدبار عن الحق والفجور والتوسع في الشر والإصرار علي الباطل والذنوب « والجور على الصراط » وكان على بمعنى عن أي ميل عن الصراط المستقيم.

« الفرح » أي السرور بما يحصل من الدنيا « والمرح » هو بالتحريك أشد الفرح وكان المراد هنا إظهاره بالتبختر ، وهو التمادي في الفعل المزجور عنه ، والتكاثر وهو التباهي بالكثرة في الأموال والأولاد والأنصار ونحوها ، « فالفرح مكروه عند الله » كما قال سبحانه : «إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ »(١) « والمرح خيلاء » هو بالضم والكسر والمد العجب والتبختر في المشي ، وقيل : هو التكبر في كل شيء ، وقال ابن دريد : هو التكبر مع جر الإزار ، وأنه من كمال التكبر عند العرب.

« واللجاجة بلاء » أي فتنة ومحنة « لمن اضطرته » أي اللجاجة « إلى حمل الآثام » الناشئة منها ، لأن اللجاجة سبب للمعاصي والآثام ، ولذلك قيل : اللجاجة متولدة من الكبر وغيره من الأمور الفاسدة ، ويتولد منها أمور فاسدة أخرى « والتكاثر لهو ولعب » شبه التقلب في أمر الدنيا باللهو واللعب في الإتعاب بلا منفعة وفي المنع عما يوجب منفعة أبدية من أمر الآخرة وشغل القلب عن الله تعالى وعما أراد

__________________

(١) سورة القصص : ٧٦.

١٦٠