مرآة العقول الجزء ٢٥

مرآة العقول10%

مرآة العقول مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 385

المقدمة الجزء ١ المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦
  • البداية
  • السابق
  • 385 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 5485 / تحميل: 2375
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء ٢٥

مؤلف:
العربية

١
٢

٣

حمداً خالداً لولي النعم حيث أسعدني بالقيام بنشر هذا السفر القيم في الملأ الثقافي الديني بهذه الصورة الرائعة. ولرواد الفضيلة الذين وازرونا في انجاز هذا المشروع المقدّس شكر متواصل.

الشيخ محمد الآخوندى

٤

كتاب الروضة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ محمد بن يعقوب الكليني قال حدثني علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن فضال ، عن حفص المؤذن ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام وعن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن محمد بن سنان ، عن إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنه كتب بهذه الرسالة إلى أصحابه وأمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها قال وحدثني الحسن بن محمد ، عن جعفر بن محمد بن مالك الكوفي ، عن القاسم بن الربيع الصحاف ، عن إسماعيل بن مخلد السراج ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال خرجت هذه الرسالة من أبي عبد اللهعليه‌السلام إلى أصحابه :

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى محمّد وآله خيرة الورى.

أمّا بعد : فهذا هو المجلّد الثاني عشر(١) من كتاب مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول تأليف أفقر عباد الله إلى رحمة ربّه الغنيّ محمد باقر بن محمد تقي عفي عنهما بالنبي وآله الطاهرين.

كتاب الروضة

قوله : « محمد بن يعقوب » كلام أحد رواة الكليني النعماني أو الصفواني أو غيرهما.

الحديث الأول : رواه بثلاثة أسانيد أولها مجهول. وثانيها ضعيف عند القوم بابن سنان وعندي معتبر.

وقوله : « محمد بن إسماعيل » معطوف على ابن فضال لأن إبراهيم بن هاشم من

__________________

(١) حسب تجزءة المصنّف طاب ثراه.

٥

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) أما بعد فاسألوا ربكم العافية وعليكم بالدعة والوقار والسكينة وعليكم بالحياء والتنزه عما تنزه عنه الصالحون قبلكم وعليكم بمجاملة أهل الباطل تحملوا الضيم منهم وإياكم ومماظتهم دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام فإنه لا بد لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم فإذا ابتليتم بذلك منهم فإنهم سيؤذونكم وتعرفون في وجوههم المنكر ولو لا أن الله تعالى يدفعهم عنكم لسطوا بكم وما في صدورهم من العداوة والبغضاء أكثر مما يبدون لكم مجالسكم ومجالسهم واحدة وأرواحكم وأرواحهم مختلفة لا تأتلف لا تحبونهم أبدا ولا يحبونكم غير أن الله تعالى أكرمكم بالحق وبصركموه ولم يجعلهم من أهله فتجاملونهم وتصبرون عليهم وهم لا مجاملة لهم ولا صبر لهم على شيء وحيلهم وسواس بعضهم إلى

رواته ، والسند الثالث ضعيف ، وقائل ـ حدثني ـ(١) فيه أيضا إبراهيم والمجموع في قوة مجهول كالحسن.

قوله عليه‌السلام : « وعليكم بالدعة » إلخ الدعة : الخفض والسكون والراحة أي ترك الحركات والأفعال التي توجب الضرر في دولة الباطل ، والوقار : الرزانة والحلم« والسكينة » إما سكون الجوارح وترك التسرع والعجلة في الأمور ، أو سكون القلب بالإيمان ، وعدم تزلزله بمضلات الفتن ، والوقار أيضا يحتمل ذلك.

قوله عليه‌السلام : « وعليكم بمجاملة » في بعض النسخ بالجيم أي المعاملة بالجميل وفي بعضها بالحاء المهملة ، ولعله بمعنى الحمل بمشقة وتكلف كالتحملو « الضيم » الظلم ، والمماظة : المنازعة.

قوله عليه‌السلام : « بالتقية » متعلق بقوله : « دينوا » أي اعملوا بالتقية ، واعبدوا الله بعبادة التقية إذا أنتم جالستموهم وخالفتموهم ، فإنه لا يمكنكم ترك مخالطتهم.

قوله عليه‌السلام : « وحيلهم وسواس » إلخ. لعل المراد أن حيلتكم في دفع ضررهم

__________________

(١) في النسخة المخطوطة : الكليني.

٦

بعض فإن أعداء الله إن استطاعوا صدوكم عن الحق فيعصمكم الله من ذلك فاتقوا الله وكفوا ألسنتكم إلا من خير.

وإياكم أن تزلقوا ألسنتكم بقول الزور والبهتان والإثم والعدوان فإنكم إن كففتم ألسنتكم عما يكرهه الله مما نهاكم عنه كان خيرا لكم عند ربكم من أن تزلقوا ألسنتكم به فإن زلق اللسان فيما يكره الله وما ينهى عنه مرداة للعبد عند الله ومقت من الله وصم وعمى وبكم يورثه الله إياه يوم القيامة فتصيروا كما قال الله : «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ »(١) يعني لا ينطقون «وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ »(٢) وإياكم وما نهاكم الله عنه أن تركبوه وعليكم بالصمت إلا فيما ينفعكم الله به من أمر

المجاملة والصبر على أذاهم والتقية ، وهم لا يقدرون على الصبر ولا على صدكم عن الحق فليس لهم حيلة إلا وسوسة بعضهم إلى بعض في إيذائكم والإغراء بكم ثم اعلم أنه يظهر من بعض النسخ المصححة أنه قد اختل نظم هذا الحديث وترتيبه بسبب تقديم بعض الورقات وتأخير بعضها ، وفيهاقوله : « ولا صبر لهم على شيء » متصل بقوله : فيما بعد « من أموركم » هكذا : « ولا صبر لهم على شيء من أموركم تدفعون أنتم السيئة » إلى آخر ما سيأتي ، وهو الصواب ، وسيظهر لك مما سنشير إليه في كل موضع من مواضع الاختلاف صحة تلك النسخة ، واختلال النسخ المشهورة.

قوله عليه‌السلام : « وإياكم أن تزلقوا » بالزاء المعجمة في القاموس : زلق كفرح ونصر : زل وفلانا أزله كأزلقه ، وفي بعض النسخ بالذال المعجمة(٣) ، وزلاقة اللسان : زرابته وحدته وطلاقته ، والأول أظهر ، وقول الزور : الكذب.

قوله عليه‌السلام : « مرادة » بغير همز مفعلة من الردى بمعنى الهلاكقوله تعالى : «فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ » في بعض النسخ «لا يَعْقِلُونَ » وكلاهما في سورة البقرة ، والتفسير بالأول أنسب أي لا يرجعون إلى النطق والكلام ، وقال البيضاوي(٤) : أي لا يعودون إلى الهدي الذي باعوه وضيعوه ، أو عن الضلالة التي اشتروها ، أو فهم متحيرون لا يدرون

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨.

(٢) سورة المرسلات : ٣٦.

(٣) القاموس المحيط : ج ٣ ص ٢٤٢.

(٤) أنوار التنزيل : ج ١ ض ٢٩ ط مصر ١٣٨٨.

٧

آخرتكم ويأجركم عليه وأكثروا من التهليل والتقديس والتسبيح والثناء على الله والتضرع إليه والرغبة فيما عنده من الخير الذي لا يقدر قدره ولا يبلغ كنهه أحد فاشغلوا ألسنتكم بذلك عما نهى الله عنه من أقاويل الباطل التي تعقب أهلها خلودا في النار من مات عليها ولم يتب إلى الله ولم ينزع عنها وعليكم بالدعاء فإن المسلمين لم يدركوا نجاح الحوائج عند ربهم بأفضل من الدعاء والرغبة إليه والتضرع إلى الله والمسألة له فارغبوا فيما رغبكم الله فيه وأجيبوا الله إلى ما دعاكم إليه لتفلحوا وتنجوا من عذاب الله وإياكم أن تشره أنفسكم إلى شيء مما حرم الله عليكم فإنه من انتهك ما حرم الله عليه هاهنا في الدنيا حال الله بينه وبين الجنة ونعيمها ولذتها وكرامتها القائمة الدائمة لأهل الجنة أبد الآبدين.

أيتقدمون أم يتأخرون وإلى حيث ابتدءوا منه كيف يرجعون ،قوله عليه‌السلام « والتقديس » هو والتسبيح مترادفان ، أو متقاربان ، ويمكن حمل التسبيح على قول سبحان الله ، والتقديس على قول الله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وسائر ما يدل على تنزيهه. تعالى من أن يكون له شريك في الكبرياء أو في العظمة أو في القوة والحول ، والثناء يشمل الحمد لله وغيره ،قوله : « لا يقدر » على البناء للمجهول أو المعلوم على التنازع ، أي لا يقاس بغيره ولا يوصف حق وصفه ، ولا يبلغ إلى رفعة شأنه ، كقوله تعالى «وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ »(١) والمراد نعيم الآخرة أو الأعم منه ومن درجات القرب والكمال.

قوله عليه‌السلام : « فاشغلوا » في القاموس(٢) : شغله كمنعه شغلا وبضم وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة.

قوله عليه‌السلام : « ولم ينزع منها » في القاموس(٣) : نزع عن الأمر نزوعا : انتهى عنها.

قوله عليه‌السلام : « إلى ما دعاكم إليه » أي الدعاء ، ويحتمل التعميمقوله « وإياكم أن تشره » في القاموس(٤) : شره كفرح : غلبه حرصه.

قوله عليه‌السلام : « فإنه من انتهك » في النهاية(٥) : انتهكوا : أي بالغوا في خرق محارم الشرع وإتيانها.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٩١. (٢) القاموس المحيط : ج ٣ ص ٤٠١ ( ط مصر ).

(٣) نفس المصدر : ج ٣ ص ٨٨.

(٤) نفس المصدر : ج ٤ ص ٢٨٦.

(٥) النهاية : ج ٥ ص ١٣٧.

٨

و اعلموا أنه بئس الحظ الخطر لمن خاطر الله بترك طاعة الله وركوب معصيته فاختار أن ينتهك محارم الله في لذات دنيا منقطعة زائلة عن أهلها على خلود نعيم في الجنة ولذاتها وكرامة أهلها ويل لأولئك ما أخيب حظهم وأخسر كرتهم وأسوأ حالهم عند ربهم

قوله عليه‌السلام : « بئس الحظ » إلخ ، في القاموس(١) :خطر بباله وعليه يخطره ، ويخطر خطورا : ذكره بعد نسيان ، وأخطره الله تعالى والخطر بالفتح ويحرك : الشرف ، وبالتحريك : الإشراف على الهلاك ، والسبق : يتراهن عليه ، وقدر الرجل ، وتخاطروا تراهنوا ، وخاطر بنفسه أشفاها على خطر هلك أو نيل ملك. وقال في النهاية(٢) : « فيه لعبد الرحمن خطر أي حظ ونصيب ، ومنه حديث النعمان بن مقرن قال يوم نهاوند : إن هؤلاء ـ يعني المجوس ـ قد أخطروا لكم رثة ومتاعا وأخطرتم لهم الإسلام ، فنافحوا عن دينكم ، الرثة : رديء المتاع ، يعني أنهم قد شرطوا لكم ذلك ، وجعلوه رهنا من جانبهم ، وجعلتم رهنكم دينكم أراد أنهم لم يعرضوا للهلاك إلا متاعا يهون عليهم ، وأنتم عرضتم لهم أعظم الأشياء قدرا وهو الإسلام. أقول : الأظهر أن المراد بالخطر هو ما يتراهن عليه ، وخاطر الله أي راهنه ، فكأنه جرى مراهنة بين العبد والرب تعالى ، والسبق الذي يحوزه العبد لذات الدنيا الفانية ، والسبق الذي للرب تعالى عقاب العبد ، فبئس الحظ والنصيب ، الحظ والسبق الذي يحوزه عند مخاطرته ومراهنته مع الله بأن يترك طاعته ويرتكب معصيته. ويحتمل على بعد أن يكون الخطر في الموضعين بمعنى الإشراف على الهلاك ، أو بمعنى الخطور بالبال ، أو على التوزيع والله يعلم.

قوله عليه‌السلام : « وأخسر كرتهم » الكرة : الرجوع ، والمراد الرجوع إلى الأبدان في الحشر أو الرجوع إلى الله للحساب.

وقال الله تعالى : «تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ »(٣) ونسبة الخسران إلى الكرة والخيبة

__________________

(١) القاموس المحيط : ج ٢ ص ٢٢.

(٢) النهاية : ج ٢ ص ٤٦.

(٣) سورة النازعات : ١٢.

٩

يوم القيامة استجيروا الله أن يجيركم في مثالهم أبدا وأن يبتليكم بما ابتلاهم به ولا قوة لنا ولكم إلا به.

فاتقوا الله أيتها العصابة الناجية إن أتم الله لكم ما أعطاكم به فإنه لا يتم الأمر حتى يدخل عليكم مثل الذي دخل على الصالحين قبلكم وحتى تبتلوا في أنفسكم

أي الحرمان ـ إلى الحظ على الإسناد المجازي.

قوله عليه‌السلام : « استجيروا الله » كأنه على الحذف والإيصال ، أي استجيروا بالله وفي بعض النسخ أن يجريكم وهو الظاهر ، وفي بعضها« أن يجيركم » والمعنى حينئذ استعيذوا من أن يكون إجارته تعالى إياكم على مثال إجارته لهم ، فإنه لا يجيرهم عن عذابه في الآخرة ، وإنما أجارهم في الدنيا ، وفي بعض النسخ « من مثالهم » فالمراد استجيروا بالله لأن يجيركم من مثالهم ، أي من أن تكونوا مثلهم.

قوله عليه‌السلام : « إن أتم الله » لعل المراد اتقوا الله ولا تتركوا التقوى عن الشرك والمعاصي عند إرادة الله إتمام ما أعطاكم من دين الحق ، ثم بينعليه‌السلام الإتمام بأنه إنما يكون بالابتلاء والافتتان وتسليط من يؤذيكم عليكم ، فالمراد الأمر بالتقوى عند الابتلاء بالفتن ، وذكر فائدة الابتلاء بأنه سبب لتمام الإيمان ، فلذا يبتليكم ، ويحتمل على بعد أن يكون « أن » بالفتح مخففة أي اتقوا لإتمام الله تعالى دينكم ويحتمل أن يكون التعليق للنجاة ، أي النجاة إنما يكون بعد الإتمام ، ولما كان هذا التعليق مشعرا بقلة وقوع هذا الشرط ، بين ذلك بأنه موقوف على الامتحان ، والتخلص عنه مشكل والأول أظهر.

قوله عليه‌السلام : « في أنفسكم » أي بما يرد عليها من الخوف من الأعادي ، والضرب والقطع والقتل ، أو بالتكليف بالجهاد أيضا ، أو بالأمراض والمتاعب في العبادات أيضا« وأموالكم » بغصب أعادي الدين أو بما يصيبه من الآفات أو بتكليف الإنفاق أيضا ، وهذه إشارة إلى قوله تعالى في أواخر سورة آل عمران «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ

١٠

وأموالكم وحتى تسمعوا من أعداء الله «أَذىً كَثِيراً » فتصبروا وتعركوا بجنوبكم وحتى يستذلوكم ويبغضوكم وحتى يحملوا [ عليكم ] الضيم فتحملوا منهم تلتمسون بذلك وجه الله والدار الآخرة وحتى تكظموا الغيظ الشديد في الأذى في الله عز وجل يجترمونه إليكم وحتى يكذبوكم بالحق ويعادوكم فيه ويبغضوكم عليه فتصبروا على ذلك منهم ومصداق ذلك كله في كتاب الله الذي أنزله جبرئيلعليه‌السلام على نبيكم ص سمعتم قول الله عز وجل لنبيكمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ »(١) ثم قال «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا »(٢) فقد كذب نبي الله والرسل من قبله وأوذوا مع التكذيب بالحق فإن سركم أمر الله فيهم الذي خلقهم له في الأصل [ أصل الخلق ] من الكفر الذي سبق في علم الله أن يخلقهم له في الأصل

تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ »(٣) .

قوله عليه‌السلام : « وتعركوا بجنوبكم » في القاموس(٤) : عركة كهمزة : يعرك الأذى بجنبه أي يحتمله.

قوله عليه‌السلام : « فتحملوه » على التفعل في القاموس(٥) : حمله الأمر فتحمله« وحتى تكظموا » في القاموس(٦) كظم غيظه يكظمه : رده وحبسه.

قوله عليه‌السلام : « يجترمونه » بالجيم قال في القاموس(٧) : اجترم عليهم وإليهم جريمة : جنى جناية ، وفي بعض النسخ بالخاء المعجمة ولعله تصحيف.

قوله عليه‌السلام : « فإن سركم أمر الله فيهم » أقول : في النسخة المصححة التي أومأنا إليها قولهعليه‌السلام : فإن سركم » متصل بما سيأتي في آخر الرسالة « أن تكونوا مع نبي الله هكذا «فإن سركم أن تكونوا مع نبي الله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » إلى آخر الرسالة ، وهو الأصوب ، قوله : « الذي سبق في علم الله أول هذا وأمثاله بأن الله كان يعلم أنهم يكونون كذلك بعد خلقهم باختيارهم فكأنه خلقهم لذلك وقد مر الكلام فيه في كتاب التوحيد.

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٣٥. (٢) سورة الأنعام : ٣٤ والآية هكذا «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ ».

(٣) سورة آل عمران : ١٨٦. (٤) القاموس : ج ٣ ض ٣١٣ « ط مصر ».

(٥) نفس المصدر : ج ٣ ص ٣٦١.

(٦) نفس المصدر : ج ٤ ص ١٧٢.

(٧) نفس المصدر : ج ٤ ص ٨٨.

١١

ومن الذين سماهم الله في كتابه في قوله : وجعلنا منهم «أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ »(١) فتدبروا هذا واعقلوه ولا تجهلوه فإنه من يجهل هذا وأشباهه مما افترض الله عليه في كتابه مما أمر الله به ونهى عنه ترك دين الله وركب معاصيه فاستوجب سخط الله فأكبه الله على وجهه في النار.

وقال أيتها العصابة المرحومة المفلحة إن الله أتم لكم ما آتاكم من الخير واعلموا أنه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقاييس قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شيء وجعل للقرآن ولتعلم القرآن أهلا لا يسع أهل علم القرآن الذين آتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقاييس أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصهم به ووضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها وهم أهل الذكر الذين أمر الله هذه الأمة بسؤالهم وهم الذين من سألهم وقد سبق في علم الله أن يصدقهم ويتبع أثرهم أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى

قوله عليه‌السلام : « ومن الذين » كأنه معطوف على قوله خلقهم بتقدير جعلهم ، أو على الظرف بعده بتضمين الجعل.

قوله عليه‌السلام : « فتدبروا » والظاهر أنه جزاء الشرط في قوله « سركم » ويحتمل أن يكون جزاء الشرط مقدرا ، أي إن سركم فاشكروا أو لا تجزعوا مما يصل منهم إليكم ولعل اسم الإشارة والضمير راجعة إلى ما يفهم من الكلام السابق من لزوم التقية ، والصبر على المكاره في الدين ، والرضا بقضائه تعالى فيهم ، وفي أعدائهم وفي القاموس(٢) :كبه : قلبه : وصرعه ، كأكبه وكبكبه فأكب وهو لازم متعد.

قوله عليه‌السلام : « إن الله أتم » الظاهر أنه بالتشديد ، وهو بشارة بأن الله يتم هذا الأمر أي أمر التشيع لخواص الشيعة ، ويحتمل أن يكون بالتخفيف حرف شرط ، وتكون قيدا للفلاح : أي فلا حكم مشروط بأن يتم الله لكم الأمر ، ولا تضلوا بالفتن على قياس ما مرقوله : « من علم الله » أي مما علم الله حقيته.

قوله عليه‌السلام : « أرشدوه » خبر أو جزاء لقوله « من سألهم ».

__________________

(١) سورة القصص : ٤١. وفيها «وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ ».

(٢) القاموس المحيط : ج ١ ص ١٢١.

١٢

الله بإذنه وإلى جميع سبل الحق وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الذي أكرمهم الله به وجعله عندهم إلا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق تحت الأظلة فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر والذين آتاهم الله علم القرآن ووضعه عندهم وأمر بسؤالهم وأولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقاييسهم حتى دخلهم الشيطان لأنهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند الله كافرين وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند الله مؤمنين وحتى جعلوا ما أحل الله في كثير من الأمر حراما وجعلوا ما حرم الله في كثير من الأمر حلالا فذلك أصل ثمرة أهوائهم وقد عهد إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل موته فقالوا نحن بعد ما قبض الله عز وجل رسوله يسعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس بعد ما قبض الله عز وجل رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد عهده الذي عهده إلينا وأمرنا به مخالفا لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله فما أحد أجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك وزعم أن ذلك يسعه والله إن لله على خلقه أن يطيعوه ويتبعوا أمره في حياة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد موته هل يستطيع أولئك أعداء الله أن يزعموا أن أحدا ممن أسلم مع محمد

قوله عليه‌السلام : « ومن سبق » جملة حالية معترضة والفرض أنه ليس كل من يسألهم يرشد ، ويهتدي بقولهم ، بل من قد سبق في علمه تعالى أنه يصدقهم ، ويتبع أثرهم.

قوله عليه‌السلام : « تحت الأظلة » أي عالم الأرواح قوله «عليه‌السلام » : حتى دخلهم الشيطان أي استولى عليهم ، ودخل مجاري صدرهم واستولى على قلبهم.

قوله عليه‌السلام : « في علم القرآن » أي الذين هم بحسب ما يعلم من علم القرآن مؤمنون متصفون بصفات الإيمان ، أو المراد المؤمنون بما يعلمون من علم القرآن علما مطابقا لمراد الله تعالى.

قوله عليه‌السلام : « فذلك » أي ترك سؤال أهل الذكر ، وجعل أهل الإيمان كافرين أصل ترتب على ذلك سائر أهوائهم وآرائهم.

قوله عليه‌السلام : « ما يستطيع أولئك » إلخ. الظاهر الظاهر أن هذا احتجاج عليهم بأنكم ،

١٣

صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ بقوله ورأيه ومقاييسه فإن قال نعم فقد كذب على الله و «ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً » وإن قال لا لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقاييسه فقد أقر بالحجة على نفسه وهو ممن يزعم أن الله يطاع ويتبع أمره بعد قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قال الله وقوله الحق : «وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ » وذلك لتعلموا أن الله يطاع ويتبع أمره في حياة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد قبض الله محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله وكما لم يكن لأحد من الناس مع محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه خلافا لأمر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكذلك لم يكن لأحد من الناس بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه ـ وقال دعوا رفع أيديكم في الصلاة إلا مرة واحدة حين تفتتح الصلاة فإن الناس قد شهروكم بذلك «وَاللهُ الْمُسْتَعانُ » ولا حول ولا قوة إلا بالله

لا تجوزون الاستبداد بالرأي ومخالفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) لأن هذا كفر بين ومخالفة للآيات الصريحة ، فلا بد من أن تقولوا بعدم جواز ذلك في حياته ، وإذا اعترفوا بذلك يلزمهم أن لا يجوز ذلك بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لما يظهر من الآية إلا(٢) يجوز ترك ما أخذ في حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن ترك ذلك ارتداد عن الدين ، وانقلاب عن الحق ،فقوله عليه‌السلام : « وهو ممن يزعم » أي يلزمه ذلك بما أقر به ، ويصير ممن يزعم ذلك للإقرار بملزومه.

قوله عليه‌السلام : « دعوا رفع أيديكم » اعلم أن رفع اليدين في تكبير الافتتاح لا خلاف في أنه مطلوب للشارع بين العامة والخاصة ، والمشهور بين الأصحاب الاستحباب ، وذهب السيد من علمائنا إلى الوجوب ، وأما الرفع في سائر التكبيرات فالمشهور بين الفريقين أيضا استحبابه ، وقال الثوري وأبو حنيفة وإبراهيم النخعي : لا يرفع يديه إلا عند الافتتاح ، وذهب السيد إلى الوجوب في جميع التكبيرات ، ولما كان في زمانهعليه‌السلام عدم استحباب الرفع أشهر بين العامة فلذا منع الشيعة عن ذلك ، لئلا يشتهروا بذلك فيعرفوهم به.

__________________

(١) في النسخة المخطوطة : ومخالفة الرسول « ص » في حياته.

(٢) في النسخة المخطوطة : أنه لا يجوز.

١٤

و قال أكثروا من أن تدعوا الله فإن الله يحب من عباده المؤمنين أن يدعوه وقد وعد الله عباده المؤمنين بالاستجابة والله مصير دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم عملا يزيدهم به في الجنة فأكثروا ذكر الله ما استطعتم في كل ساعة من ساعات الليل والنهار فإن الله أمر بكثرة الذكر له والله ذاكر لمن ذكره من المؤمنين واعلموا أن الله لم يذكره أحد من عباده المؤمنين إلا ذكره بخير فأعطوا الله من أنفسكم الاجتهاد في طاعته فإن الله لا يدرك شيء من الخير عنده إلا بطاعته واجتناب محارمه التي حرم الله في ظاهر القرآن وباطنه فإن الله تبارك وتعالى قال في كتابه وقوله الحق «وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ »(١) واعلموا أن ما أمر الله به أن تجتنبوه فقد حرمه واتبعوا آثار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسنته فخذوا بها ولا تتبعوا أهواءكم وآراءكم فتضلوا فإن أضل الناس عند الله من اتبع هواه ورأيه «بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ » وأحسنوا إلى أنفسكم ما استطعتم فإِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ

قوله عليه‌السلام : « من عباده المؤمنين » أي من أعمالهم.

قوله عليه‌السلام : « إلا ذكره بخيره » أي يقرر ويعد له ثواب ذلك ، أو يذكره في الملإ الأعلى ويثني عليه ويشكره ، وفي بعض النسخ « بخير » بغير ضمير.

قوله تعالى : « ظاهِرَ الْإِثْمِ » ظاهر كلامهعليه‌السلام أنه فسر ظاهر الإثم بما تظهر حرمته من ظاهر القرآن ، «وَباطِنَهُ » بما تظهر حرمته من باطنه ، وقال البيضاوي : أي ما يعلن ويسر ، وما بالجوارح وما بالقلب ، وقيل : الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان(٢) ثم اعلم أن ما في القرآن هو «وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ » كما في بعض نسخ الكتاب وفي أكثرها « فاجتنبوا » فهو إما نقل مضمون الآية أو في قرآنهمعليه‌السلام كان كذلك.

قوله : « واعلموا أن ما أمر الله » ظاهره أن أوامر القرآن للوجوب خصوصا ما كان بلفظ الاجتناب ، وكذا نواهيه للحرمة.

قوله عليه‌السلام : « فإن أحسنتم » بيان لمعنى الإحسان إلى النفس ، بأن المراد فعل الحسنات ، ويحتمل أن يكون المرادبقوله : « وأحسنوا إلى أنفسكم » الإحسان إلى الغير كما قيل في قوله تعالى : «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ »(٣) وقوله : «فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ »(٤)

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٢٠.

(٢) أنوار التنزيل : ج ١ ص ٣٢٩.

(٣) سورة النساء : ٢٩.

(٤) سورة النور : ٦١.

١٥

لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ، وجاملوا الناس ولا تحملوهم على رقابكم تجمعوا مع ذلك طاعة ربكم وإياكم وسب أعداء الله حيث يسمعونكم «فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ » وقد ينبغي لكم أن تعلموا حد سبهم لله كيف هو إنه من سب أولياء الله فقد انتهك سب الله ومن أظلم عند الله ممن استسب لله ولأولياء الله فمهلا مهلا فاتبعوا أمر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقال أيتها العصابة الحافظ الله لهم أمرهم عليكم بآثار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسنته وآثار الأئمة الهداة من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من بعده وسنتهم فإنه من أخذ بذلك فقد اهتدى ومن ترك ذلك ورغب عنه ضل لأنهم هم الذين أمر الله بطاعتهم وولايتهم وقد قال أبونا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المداومة على العمل في اتباع الآثار والسنن وإن قل أرضى لله وأنفع عنده في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتباع الأهواء ألا إن اتباع

فالمعنى فليحسن كل منكم إلى أخيه ، فإن من أحسن إلى غيره فقد أحسن لنفسه والأول أظهر.

قوله عليه‌السلام : « يجمعوا مع ذلك » جواب للأمر أي إنكم إذا جاملتم الناس جمعتم ـ مع الأمن وعدم حمل الناس على رقابكم بالعمل بطاعة ربكم فيما أمركم به من التقية وفي بعض النسخ « تجمعون » فيكون حالا عن ضميري الخطاب أي إن اجمعوا طاعة الله مع المجاملة لا بأن تتابعوهم في المعاصي وتشاركوهم في دينهم ، بل بالعمل بالتقية فيما أمركم الله فيه بالتقية.قوله : « حيث يسمعونكم » بفتح الياء أي « يسمعون منكم » بل سبوا أعداء الله في الخلوات ، وفي مجامع المؤمنين ، ويحتمل أن يقرأ بضم الياء يقال : أسمعه أي شتمه ، أي إن شتموكم لا تسبوا أئمتهم ، فإنهم يسبون أئمتكم ، ثم فسرعليه‌السلام معنى سب الله بأنهم لا يسبون الله ، بل المراد بسب الله سب أولياء الله ، فإن من سبهم فقد سب الله ، ومن أظلم ممن فعل فعلا يعلم أنه يصير سببا لسب الله وسب أوليائه فمهلا مهلا » أي لتسكنوا سكونا وأخروا تأخيرا واتركوا هذه الأمور إلى ظهور دولة الحق.

قوله عليه‌السلام : « أرضى لله » هذا من قبيل المماشاة مع الخصم لترويج الحجة ،

١٦

الأهواء واتباع البدع بغير هدى من الله ضلال وكل ضلالة بدعة وكل بدعة في النار ولن ينال شيء من الخير عند الله إلا بطاعته والصبر والرضا لأن الصبر والرضا من طاعة الله واعلموا أنه لن يؤمن عبد من عبيده حتى يرضى عن الله فيما صنع الله إليه وصنع به على ما أحب وكره

أي لو كان ينفع البدع ويرضى الرحمن به على الفرض المحال كان اتباع السنة أنفع وأرضى وإن قل.

قوله عليه‌السلام : « وكل ضلال بدعة » الغرض بيان التلازم والتساوي بين المفهومين ويظهر منه أن قسمة البدع بحسب انقسام الأحكام الخمسة كما فعله جماعة من الأصحاب تبعا للمخالفين ليس على ما ينبغي ، إذ البدعة ما لم يرد في الشرع لا خصوصا ، ولا في ضمن عام.

وما ذكروه من البدع الواجبة والمستحبة والمكروهة والمباحة هي داخلة في ضمن العمومات ، ولتحقيق ذلك مقام آخر.

قوله : « من طاعة الله » أي من شرائط قبول طاعة الله ، ويمكن أن يكون المراد أنهما من جملة الطاعات ويضم إليه مقدمة خارجة ، وهي أن قبول بعض الطاعات مشروط بالإتيان بسائرها كما قال تعالى : «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ »(١) وعلى الوجهين يتم التعليل ، ويمكن أن يوجه أول الكلام بأن المراد لا ينال شيء من الخير عند الله كما ينبغي ، وعلى وجه الكمال إلا بالإتيان بجميع طاعاته ، وحينئذ يكونقوله :

« والصبر والرضى » من قبيل التخصيص بعد التعميم ، وحينئذ ينطبق التعليل أيضا لكنه بعيد.

قوله عليه‌السلام : « فيما صنع الله إليه » في القاموس(٢) : صنع إليه معروفا كمنع صنعا بالضم ، وصنع به صنيعا قبيحا فعله ، انتهى.

فقوله : « على ما أحب وكره » على سبيل اللف والنشر ، وفي الأخير مما أحب أظهر مما في بعض النسخ « فيما أحب » كما لا يخفىقوله تعالى : « وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ »(٣) قيل : المراد القنوت بالمعنى المصطلح ، وقيل المراد « خاشعين » وخاضعين.

__________________

(١) سورة المائدة : ٢٧.

(٢) القاموس المحيط : ج ٣ ص ٥٢ « ط مصر ».

(٣) سورة البقرة : ٢٣٨.

١٧

ولن يصنع الله بمن صبر ورضي عن الله إلا ما هو أهله وهو خير له مما أحب وكره وعليكم بالمحافظة «عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ » كما أمر الله به المؤمنين في كتابه من قبلكم وإياكم وعليكم بحب المساكين المسلمين فإنه من حقرهم وتكبر عليهم فقد زل عن دين الله والله له حاقر ماقت وقد قال أبونا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرني ربي بحب المساكين المسلمين منهم واعلموا أن من حقر أحدا من المسلمين ألقى الله عليه المقت منه والمحقرة حتى يمقته الناس والله له أشد مقتا فاتقوا الله في إخوانكم المسلمين المساكين فإن لهم عليكم حقا أن تحبوهم فإن الله أمر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحبهم فمن لم يحب من أمر الله بحبه فقد عصى الله ورسوله ومن عصى الله ورسوله ومات على ذلك مات وهو من الغاوين.

وإياكم والعظمة والكبر فإن الكبر رداء الله عز وجل فمن نازع الله رداءه خصمه الله وأذله يوم القيامة وإياكم أن يبغي بعضكم على بعض فإنها ليست من خصال الصالحين فإنه من بغى صير الله بغيه على نفسه وصارت نصرة الله لمن بغي عليه ومن نصره الله غلب

قوله عليه‌السلام : « من حقرهم » بالتخفيف كضرب وبالتشديد كلاهما بمعنى الإذلال « والمحقرة » بفتح الميم والقاف : الذلة.

قوله عليه‌السلام : « أن تحبوهم » بيان للحققوله عليه‌السلام : « وهو من الغاوين في الصحاح الغي : الخيبة والضلال(١) .

قوله عليه‌السلام : « فإن الكبر رداء الله » قال الجزري(٢) : في الحديث « قال الله تعالى : العظمة إزاري والكبرياء ردائي » ضرب الرداء والإزار مثلا في انفراده بصفة العظمة والكبرياء ، أي ليستا كسائر الصفات التي قد يتصف بها الخلق مجازا كالرحمة ، وشبههما بالإزار والرداء لأن المتصف بهما يشملانه كما يشمل الرداء الإنسان ، ولأنه لا يشاركه في إزاره وردائه أحد ، فكذلك الله تعالى لا ينبغي أن يشركه فيهما أحد ، انتهى.

قوله عليه‌السلام : « قصمه » أي كسرهقوله عليه‌السلام : « وإياكم أن يبغي » في القاموس(٣) : بغى عليه بغيا : علا وظلم ، وعدل عن الحق واستطال وكذب.

__________________

(١) الصحاح ح ٦ ص ٢٤٥.

(٢) النهاية : ج ١ ص ٤٤.

(٣) القاموس المحيط : ج ٤ ص ٣٠٤ « ط مصر ».

١٨

وأصاب الظفر من الله وإياكم أن يحسد بعضكم بعضا فإن الكفر أصله الحسد وإياكم أن تعينوا على مسلم مظلوم فيدعو الله عليكم ويستجاب له فيكم فإن أبانا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول إن دعوة المسلم المظلوم مستجابة وليعن بعضكم بعضا فإن أبانا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول إن معونة المسلم خير وأعظم أجرا من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام وإياكم وإعسار أحد من إخوانكم المسلمين أن تعسروه بالشيء يكون لكم قبله وهو معسر فإن أبانا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول ليس لمسلم أن يعسر مسلما ومن أنظر معسرا أظله الله بظله يوم لا ظل إلا ظله

قوله عليه‌السلام : « فإن الكفر أصله الحسد فإن أول الكفر نشأ من إبليس ، وكان باعثه عليه الحسد ، وأيضا كل أكثر أفراد الكفر ينشأ من حسد من فضله الله وأوجب متابعته.

قوله عليه‌السلام : « أن تعينوا على مسلم » يقال أعانه : أي نصرة وأعان عليه : أي أضر به وأعان على إضراره.

قوله عليه‌السلام : « وإياكم وإعسار » في القاموس(١) : عسر الغريم يعسره : طلب منه على عسرة كأعسره.

قوله عليه‌السلام : « أظله الله بظله » أي بظل عرشه أو بظل رحمته مجازا ،قوله ( عليه‌السلام ) : « وإن استطعتم » جزاء الشرط محذوف أي فافعلوا ولا يبعد أن يكون في الأصل ما استطعتم ولعله هو الصواب.

قوله عليه‌السلام : « محرج الإمام » في الصحاح(٢) أحرجه إليه : ألجأه ، وفيه(٣) سعى به إلى الوالي إذا وشى به يعني نمه وذمه عنده.

أقول : الظاهر أن المراد لا تكونوا محرج الإمام ، أي بأن تجعلوه مضطرا إلى شيء لا يرضى به ثم بينعليه‌السلام بأن المحرج هو الذي يذم أهل الصلاح عند الإمام ، ويشهد عليهم بفساد ، وهو كاذب في ذلك فيثبت ذلك بظاهر حكم الشريعة عند الإمام ، فيلزم الإمام أن يلعنهم ، فإذا لعنهم وهم غير مستحقين لذلك ، تصير اللعنة عليهم

__________________

(١) القاموس المحيط : ح ٢ ص ٨٨.

(٢) الصحاح ح ١ ص ٣٠٦.

(٣) نفس المصدر : ح ٦ ص ٢٣٧٧.

١٩

وإياكم أيتها العصابة المرحومة المفضلة على من سواها وحبس حقوق الله قبلكم يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة فإنه من عجل حقوق الله قبله كان الله أقدر على التعجيل له إلى مضاعفة الخير في العاجل والآجل وإنه من أخر حقوق الله قبله كان الله أقدر على تأخير رزقه ومن حبس الله رزقه لم يقدر أن يرزق نفسه فأدوا إلى الله حق ما رزقكم يطيب الله لكم بقيته وينجز لكم ما وعدكم من مضاعفته لكم الأضعاف الكثيرة التي لا يعلم عددها ولا كنه فضلها إلا الله رب العالمين.

وقال اتقوا الله أيتها العصابة وإن استطعتم أن لا يكون منكم محرج الإمام فإن محرج الإمام هو الذي يسعى بأهل الصلاح من أتباع الإمام المسلمين لفضله الصابرين على أداء حقه العارفين لحرمته واعلموا أنه من نزل بذلك المنزل عند الإمام فهو محرج الإمام فإذا فعل ذلك عند الإمام أحرج الإمام إلى أن يلعن أهل الصلاح من أتباعه المسلمين لفضله الصابرين على أداء حقه العارفين بحرمته فإذا لعنهم لإحراج أعداء الله الإمام صارت لعنته رحمة من الله عليهم وصارت اللعنة من الله ومن الملائكة ورسله على أولئك

رحمة ، وترجع اللعنة إلى الواشي الكاذب الذي ألجأ الإمام إلى ذلك. أو المراد أنه ينسب الواشي إلى أهل الصلاح عند الإمام شيئا بمحضر جماعة يتقي منهم الإمام فيضطر الإمام إلى أن يلعن من نسب إليه ذلك تقية ويحتمل أن يكون المراد أن محرج الإمام هو من يسعى بأهل الصلاح إلى أئمة الجور ، ويجعلهم معروفين عند أئمة الجور بالتشيع ، فيلزم أئمة الحق لرفع الضرر عن أنفسهم وعن أهل الصلاح أن يلعنوهم ويتبرءوا منهم فتصير اللعنة إلى الساعين وأئمة الجور معا ، وعلى هذا ، المراد بأعداء الله أئمة الجور.

وقوله عليه‌السلام : « إذا فعل ذلك عند الإمام » يؤيد المعنى الأول هذه هي من الوجوه التي خطرت بالبال ، والله أعلم ومن صدر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله عليه‌السلام : « في الصالحين قبل » أي جرت السنة فيهم إن كانوا مقهورين مرعوبين وكذلك تجري في الصالحين منكم ، أو بأن يلعنهم الناس وتصير اللعنة عليهم رحمة.

٢٠

واعلموا أيتها العصابة أن السنة من الله قد جرت في الصالحين قبل وقال من سره أن يلقى الله وهو مؤمن حقا حقا فليتول الله ورسوله والذين آمنوا وليبرأ إلى الله من عدوهم ويسلم لما انتهى إليه من فضلهم لأن فضلهم لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك ، ألم تسمعوا ما ذكر الله من فضل أتباع الأئمة الهداة وهم المؤمنون قال «فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً »(١) فهذا وجه من وجوه فضل أتباع الأئمة فكيف بهم وفضلهم ومن سره أن يتم الله له إيمانه حتى يكون مؤمنا حقا حقا فليف لله بشروطه التي اشترطها على المؤمنين فإنه قد اشترط مع ولايته وولاية رسوله وولاية أئمة المؤمنين «إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ » وإقراض الله «قَرْضاً حَسَناً » واجتناب الفواحش «ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ » فلم يبق شيء مما فسر مما حرم الله إلا وقد دخل في جملة قوله فمن دان الله فيما بينه وبين الله مخلصا لله ولم يرخص لنفسه في ترك شيء من هذا فهو عند الله في حزبه الغالبين وهو من المؤمنين حقا ـ وإياكم والإصرار على شيء مما حرم الله في ظهر القرآن وبطنه وقد قال الله تعالى : «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ »(٢) إلى هاهنا رواية القاسم بن ربيع يعني المؤمنين قبلكم إذا نسوا شيئا مما اشترط الله في كتابه عرفوا أنهم قد عصوا الله في تركهم ذلك الشيء فاستغفروا ولم يعودوا إلى تركه فذلك معنى قول الله : «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ».

قوله ( عليه‌السلام ) « في جملة قوله » أي في الفواحش فقوله تعالى(٣) : « واجتناب الفواحش » يشمل اجتناب جميع المحرمات.

قوله عليه‌السلام « فمن دان الله » أي عبد الله فيما بينه وبين ربه أي مختفيا ولا ينظر إلى غيره ولا يلتفت إلى من سواه.

قوله : « إلى هنا رواية » إلى آخره. أي ما يذكر بعده لم يكن في رواية القاسم بل كان في رواية حفص وإسماعيلقوله ( عليه‌السلام ) : « ملك مقرب » يمكن أن يكون بدل من الخلق وهو الأظهر ، وأن يكون اسم ليس ، أي لا يتوسط ملك مقرب ، ولا نبي مرسل

__________________

(١) سورة النساء : ٩٦.

(٢) سورة آل عمران : ١٣٥.

(٣) سورة الأنعام : ١٥١ والآية هكذا «وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ».

٢١

واعلموا أنه إنما أمر ونهى ليطاع فيما أمر به ولينتهى عما نهى عنه فمن اتبع أمره فقد أطاعه وقد أدرك كل شيء من الخير عنده ومن لم ينته عما نهى الله عنه فقد عصاه فإن مات على معصيته أكبه الله على وجهه في النار.

واعلموا أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك من خلقه كلهم إلا طاعتهم له فاجتهدوا في طاعة الله إن سركم أن تكونوا مؤمنين حقا حقا و «لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ » وقال وعليكم بطاعة ربكم ما استطعتم فإن الله ربكم.

واعلموا أن الإسلام هو التسليم والتسليم هو الإسلام فمن سلم فقد أسلم ومن لم يسلم فلا إسلام له ومن سره أن يبلغ إلى نفسه في الإحسان فليطع الله فإنه من أطاع الله فقد أبلغ إلى نفسه في الإحسان.

ولا غيرهم بين الخلق وبين الله توسطا مستقلا ، بدون الطاعة بل شفاعتهم وتوسطهم مشروط بقدر من الطاعة.

قوله عليه‌السلام : « فإن الله ربكم » هو الله القادر القاهر المستجمع لجميع صفات الكمال المستحق لأشرف العبادات فيلزمكم بذل وسعكم وطاقتكم وفي عبادتهقوله ( عليه‌السلام ) « هو التسليم » أي انقياد الله في أوامره ونواهيه ، والتسليم لأئمة الحق ومتابعتهم وإذعان ما يصدر عنهم وإن كان بعيدا عن أفهام الخلق.

قوله عليه‌السلام : « أن يبلغ إلى نفسه في الإحسان » يقال : بالغ في أمره أي اجتهد ولم يقصر ، وكان الإبلاغ هنا بمعنى المبالغة وقوله : « إلى نفسه » متعلق بالإحسان أي يبالغ ويجتهد في الإحسان إلى نفسه هذا هو الظاهر بحسب المعنى.

ويؤيده ما ذكر في الإساءة وفي تقديم معمول المصدر عليه إشكال ، ويجوز بتأويل كما هو الشائع ، ولعل التقديم والتأخير من النساخ.

ويحتمل أن يكون الإبلاغ بمعنى الإيصال أي أراد أن يوصل إلى نفسه أمرا كاملا في الإحسان ، والأول أظهر ، والشائع في مثل هذا المقام بلغ من المجرد يقال بلغ في الكرم أي حد الكمال فيه.

٢٢

وإياكم ومعاصي الله أن تركبوها فإنه من انتهك معاصي الله فركبها فقد أبلغ في الإساءة إلى نفسه وليس بين الإحسان والإساءة منزلة فلأهل الإحسان عند ربهم الجنة ولأهل الإساءة عند ربهم النار فاعملوا بطاعة الله واجتنبوا معاصيه واعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه شيئا لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك فمن سره أن تنفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه ـ واعلموا أن أحدا من خلق الله لم يصب رضا الله إلا بطاعته وطاعة رسوله وطاعة ولاة أمره من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعصيتهم من معصية الله ولم ينكر لهم فضلا عظم أو صغر.

واعلموا أن المنكرين هم المكذبون وأن المكذبين هم المنافقون وأن الله عز وجل قال للمنافقين وقوله الحق «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً »(١) ولا يفرقن أحد منكم ألزم الله قلبه طاعته وخشيته من أحد من الناس ممن أخرجه الله

قوله عليه‌السلام « ليس يغني عنكم » قال في النهاية(٢) أغن عني شرك : أي أصرفه وكفه ومنه «لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً »(٣) » قوله : « فليطب إلى الله » يقال : طلب إليه أي رغب.

قوله عليه‌السلام : « أن المنكرين هم المكذبون » يحتمل أن يكون المراد بالإنكار عدم الإقرار ، والمعرفة كما قاله تعالى : «فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ »(٤) والغرض أن عدم المعرفة أيضا تكذيب ، وأن يكون المراد أن إنكار الأئمة داخل في التكذيب الذي ذكر الله تعالى في القرآن ، وحكم بكفر من يرتكبه.

قولهعليه‌السلام : « ولا يعرفن » كأنه سن باب التفعيل ومفعوله الأول مقدر أي لا يعرف أحد منكم نفسه أحدا من الناس أي العامة و « من » زائدة لتأكيد النفي أي لا تجعلوا أنفسكم معروفين عند العامة بالتشيع ، أو المراد لا تعرفوهم دين الحق فإنهم شياطين لا ينفعهم ذلك ، ويصل ضررهم إليكم ، أو بالتخفيف من المعرفة كناية عن المحجة والمواصلة أي ينبغي لكم أن لا تعرفوهم فضلا عن أن تحبوهم وتتخذوهم أولياء ، وعلى هذا يحتمل أن لا يكون « من » زائدة بل ابتدائية أي لا تعرفوا ولا تتعرفوا شيئا منهم فإنهم يريدون إضلالكم ، وفي بعض النسخ المصححة« لا يفرقن » من

__________________

(١) سورة النساء : ١٤٥. (٢) النهاية : ح ٣ ص ٣٩٢.

(٣) سورة الجاثية : ١٩. (٤) سورة يوسف : ٥٨ وفي الآية «فَعَرَفَهُمْ ».

٢٣

من صفة الحق ولم يجعله من أهلها فإن من لم يجعل الله من أهل صفة الحق فأولئك هم شياطين الإنس والجن وإن لشياطين الإنس حيلة ومكرا وخدائع ووسوسة بعضهم إلى بعض يريدون إن استطاعوا أن يردوا أهل الحق عما أكرمهم الله به من النظر في دين الله الذي لم يجعل الله شياطين الإنس من أهله إرادة أن يستوي أعداء الله وأهل الحق في الشك والإنكار والتكذيب فيكونون سواء كما وصف الله تعالى في كتابه من قوله : «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً »(١) ثم نهى الله أهل النصر بالحق أن يتخذوا من أعداء الله وليا ولا نصيرا فلا يهولنكم ولا يردنكم عن النصر بالحق الذي خصكم الله به من حيلة شياطين الإنس ومكرهم من أموركم تدفعون أنتم السيئة «بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » فيما بينكم وبينهم تلتمسون بذلك وجه ربكم بطاعته وهم لا خير عندهم لا يحل لكم

الفرق بمعنى الخوف أي لا تخافوهم ، فإنهم كالشياطين وإن كيد الشيطان كان ضعيفا.

قوله عليه‌السلام : « فلا يهولنكم » يحتمل معنيين الأول : أن تكون حيلة فاعلا للفعلين ، وتكون من زائدة لتأكيد النفي ، وقوله : « من أموركم » متعلقا بالمكر ، يقال : مكره من كذا أو عنه أي احتال أن يرده عنه.

والثاني : أن يكون يهولنكم ويردنكم بضم اللام والدال على صيغة الجمع أي لا يردنكم شياطين الجن والإنس عن النصر الرباني ، الذي هو حاصل لكم بسبب الحق الذي خصكم الله به ، من حيلة : أي بسبب حيلة شياطين الإنس أي بسبب حيلتهم فيكون من قبيل وضع المظهر موضع المضمر ، وعلى هذا قوله من أموركم ـ كما ذكرنا في الوجه الأول متعلق بالمكر ، أو من سببية أي جيلهم ناشئة مما يرون من أموركم ، وهذا أحد مواضع الاختلاف بين النسخة التي أشرنا إليها والنسخ المشهورة وفي تلك النسخة قوله ومكرهم متصل بما مر في أوائل الرسالة من قوله وحيلهم كما أومأنا إليه هكذا « من حيلة شياطين الإنس ، ومكرهم وحيلهم ووساوس بعضهم إلى بعض » وهو الصواب كما لا يخفى.

قوله عليه‌السلام : « أن تظهروهم » أي لا تطلعوهم كما في بعض النسخ.

__________________

(١) سورة النساء : ٨٨.

٢٤

أن تظهروهم على أصول دين الله فإنهم إن سمعوا منكم فيه شيئا عادوكم عليه ورفعوه عليكم وجهدوا على هلاككم واستقبلوكم بما تكرهون ولم يكن لكم النصفة منهم في دول الفجار فاعرفوا منزلتكم فيما بينكم وبين أهل الباطل ـ فإنه لا ينبغي لأهل الحق أن ينزلوا أنفسهم منزلة أهل الباطل ـ لأن الله لم يجعل أهل الحق عنده بمنزلة أهل الباطل ألم يعرفوا وجه قول الله في كتابه إذ يقول «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ » أكرموا أنفسكم عن أهل الباطل ولا تجعلوا الله تبارك وتعالى «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى » وإمامكم ودينكم الذي تدينون به عرضة لأهل الباطل فتغضبوا الله عليكم فتهلكوا فمهلا مهلا يا أهل الصلاح لا تتركوا أمر الله وأمر من أمركم بطاعته فيغير الله «ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ » أحبوا في الله من وصف صفتكم وأبغضوا في الله من خالفكم وابذلوا مودتكم ونصيحتكم [ لمن وصف صفتكم ] ولا تبتذلوها لمن رغب عن صفتكم وعاداكم عليها وبغى [ لـ ] ـكم الغوائل هذا أدبنا أدب الله فخذوا به

قوله عليه‌السلام : « ورفعوه عليكم » لعل المراد بالرفع الإفشاء والإظهار ، أو الرفع إلى السلطان ، ويحتمل أن يكون المراد أنكم إن علمتموهم شيئا يجعلونه حجة عليكم في المناظرة ،قوله ( عليه‌السلام ) : « ولم يكن لكم » النصف هو بالتحريك العدل : أي إذا آذوكم وترافعتم إلى حكامهم لا يعدلون فيكم ، بل يجورون عليكم.

قوله عليه‌السلام : « عرضة » يقال : هو عرضة للناس بالضم أي لا يزالون يقعون فيه كما في القاموس أي لا تجعلوا ربكم وإمامكم ودينكم في معرض ذم أهل الباطل ، بأن تعارضوهم في الدين وهم يعارضونكم بأشياء لا تليق بربكم وإمامكم ودينكم.

قوله عليه‌السلام : « من وصف صفتكم » أي أهل دينكم ، ومن يقول بقولكم ،قوله ( عليه‌السلام ) : « وابذلوا مودتكم » أي لأهل دينكم وفي بعض النسخ بعد قوله ونصيحتكم [ لمن وصف صفتكم ] وهو الظاهر.

قوله عليه‌السلام : « وبغا لكم الغوائل » الغوائل : الدواهي أي طلب لكم البلايا والمصائب والمكاره.

__________________

(١) ص ٢٨.

٢٥

وتفهموه واعقلوه ولا تنبذوه وراء ظهوركم ما وافق هداكم أخذتم به وما وافق هواكم طرحتموه ولم تأخذوا به وإياكم والتجبر على الله واعلموا أن عبدا لم يبتل بالتجبر على الله إلا تجبر على دين الله فاستقيموا لله ولا ترتدوا على أعقابكم «فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ » أجارنا الله وإياكم من التجبر على الله ولا قوة لنا ولكم إلا بالله.

وقالعليه‌السلام إن العبد إذا كان خلقه الله في الأصل أصل الخلق مؤمنا لم يمت حتى يكره الله إليه الشر ويباعده عنه ومن كره الله إليه الشر وباعده عنه عافاه الله من الكبر أن يدخله والجبرية فلانت عريكته وحسن خلقه وطلق وجهه وصار عليه وقار الإسلام وسكينته وتخشعه وورع عن محارم الله واجتنب مساخطه ورزقه الله مودة الناس ومجاملتهم وترك مقاطعة الناس والخصومات ولم يكن منها ولا من أهلها في شيء وإن العبد إذا كان الله خلقه في الأصل [ أصل الخلق ] كافرا لم يمت حتى يحبب إليه الشر ويقربه منه فإذا حبب إليه الشر وقربه منه ابتلي بالكبر والجبرية فقسا قلبه وساء خلقه وغلظ وجهه وظهر فحشه وقل حياؤه وكشف الله ستره وركب المحارم فلم ينزع عنها وركب

قوله عليه‌السلام : « أخذتم به » أمر في صورة الخبر أي خذوا به ، ويحتمل أن يكون اسم الإشارة فيقوله : « هذا أدبنا » راجعا إلى هذا الكلام ، ويحتمل إرجاعه إلى ما مر من المواعظ والآداب.

قوله عليه‌السلام : « إلا تجبر على دين الله » لعل المراد أن التجبر على دين الله بترك ما ورد في الدين ينجر ، إلى التجبر على الله وهو الكفر ، أو المراد بالتجبر على الله التكبر عن إطاعة أئمة الحق ، أو ترك أوامره تعالى ، والمراد أنه ينجر إلى التجبر على دين الله والخروج من الدين.

قوله عليه‌السلام : « والجبرية » هي بكسر الجيم والراء ، وسكون الباء وبكسر الباء أيضا وبفتح الجيم ، وسكون الباء التكبر ، والعريكة الطبيعة.

قوله عليه‌السلام : « خلقه في الأصل » أي علم عند خلقه أنه يصير كافرا ، و« يحبب إليه الشر » كناية عن منع اللطف عقوبة عما فعل من الشرور التي استحق بها ذلك ،قوله : « فبعد »

٢٦

معاصي الله وأبغض طاعته وأهلها فبعد ما بين حال المؤمن وحال الكافر.

سلوا الله العافية واطلبوها إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله صبروا النفس على البلاء في الدنيا فإن تتابع البلاء فيها والشدة في طاعة الله وولايته وولاية من أمر بولايته خير عاقبة عند الله في الآخرة من ملك الدنيا وإن طال تتابع نعيمها وزهرتها وغضارة عيشها في معصية الله وولاية من نهى الله عن ولايته وطاعته ـ فإن الله أمر بولاية الأئمة الذين سماهم الله في كتابه في قوله : «وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا »(١) وهم الذين أمر الله بولايتهم وطاعتهم والذين نهى الله عن ولايتهم وطاعتهم وهم أئمة الضلالة الذين قضى الله أن يكون لهم دول في الدنيا على أولياء الله الأئمة من آل محمد يعملون في دولتهم بمعصية الله ومعصية رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليحق عليهم كلمة العذاب وليتم أن تكونوا مع نبي الله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله والرسل من قبله فتدبروا ما قص الله عليكم في كتابه مما ابتلى به أنبياءه وأتباعهم المؤمنين ثم سلوا الله أن يعطيكم الصبر على البلاء في السراء والضراء والشدة والرخاء مثل الذي أعطاهم وإياكم ومماظة أهل الباطل وعليكم بهدى الصالحين ووقارهم وسكينتهم وحلمهم وتخشعهم وورعهم عن محارم الله وصدقهم ووفائهم واجتهادهم لله في العمل بطاعته فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم تنزلوا عند ربكم منزلة الصالحين قبلكم.

واعلموا أن الله إذا أراد بعبد خيرا شرح «صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ » فإذا أعطاه ذلك أنطق

ككرم أو بضم الباء ، وعلى الثاني إما بالتنوين أو بالإضافة فيقدر خبره أي كثير.

قوله عليه‌السلام : « وزهرتها » زهرة الدنيا : بهجتها ونضارتها وحسنها ،والغضارة بالفتح : النعمة والسعة والخصب.

قوله عليه‌السلام : « والذين نهى الله » خبره قوله « يعملون » والدول مثلثة : جمع دولة بالضم : وهي الغلبة.

قوله عليه‌السلام : « ليحق » أي ليثبت ويجب ويستقر كلمة العذاب أي حكم الله عليهم بالشقاوة والكفر واستحقاق العذاب ، وقيل : هو قوله «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ »(٢) .

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٧٣.

(٢) سورة السجدة : ١٣.

٢٧

لسانه بالحق وعقد قلبه عليه فعمل به فإذا جمع الله له ذلك تم له إسلامه وكان عند الله إن مات على ذلك الحال من المسلمين حقا وإذا لم يرد الله بعبد خيرا وكله إلى نفسه وكان صدره «ضَيِّقاً حَرَجاً » فإن جرى على لسانه حق لم يعقد قلبه عليه وإذا لم يعقد قلبه عليه لم يعطه الله العمل به فإذا اجتمع ذلك عليه حتى يموت وهو على تلك الحال كان عند الله من المنافقين وصار ما جرى على لسانه من الحق الذي لم يعطه الله أن يعقد قلبه عليه ولم يعطه العمل به حجة عليه يوم القيامة فاتقوا الله وسلوه أن يشرح صدوركم للإسلام وأن يجعل ألسنتكم تنطق بالحق حتى يتوفيكم وأنتم على ذلك وأن يجعل منقلبكم منقلب الصالحين قبلكم و «لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ».

ومن سره أن يعلم أن الله يحبه فليعمل بطاعة الله وليتبعنا ألم يسمع قول الله عز وجل لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ »(١) والله لا يطيع الله عبد أبدا إلا أدخل الله عليه في طاعته اتباعنا ولا والله لا يتبعنا عبد أبدا إلا أحبه الله ولا والله لا يدع أحد اتباعنا أبدا إلا أبغضنا ولا والله لا يبغضنا أحد أبدا

قوله عليه‌السلام : « وليتم أن يكونوا » في بعض النسخ بالياء ، فالمراد الأئمةعليهم‌السلام وفي بعضها بالتاء أي أنتم يا معشر الشيعة بما يصل إليكم منهم من الجور والظلم.

أقول : هذا أيضا أحد مواضع الاختلاف ، وفي تلك النسخة قوله « وليتم » متصل بقولهعليه‌السلام : « أمر الله فيهم » هكذا « ليحق(٢) أمر الله فيهم الذي خلقهم له في الأصل » وهو الظاهر كما لا يخفى.

قوله عليه‌السلام : « يهدي الصالحين » في القاموس(٣) : الهدي بضم الهاء وفتح الدال :

الرشاد والدلالة ، والهدى ويكسر : الطريقة والسيرة.

قوله عليه‌السلام : « وعقد قلبه عليه » على بناء المجهول ويحتمل المعلوم أي أيقنه واعتقد به كأنه معقود عليه لا يفارقه.

قوله عليه‌السلام : « وأن يجعل منقلبكم » الانقلاب : الرجوع ، والمنقلب بفتح اللام للمصدر وللمكان معا ، والمراد الرجوع إلى الله تعالى في القيامة ، أي يجعل رجوعكم

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣١.

(٢) هكذا في النسخ والصواب « وليتم أمر الله » ولعلّه من تصحيف النسّاخ.

(٣) القاموس المحيط : ج ٤ ص ٤٠٣ « ط مصر ».

٢٨

إلا عصى الله ومن مات عاصيا لله أخزاه الله وأكبه على وجهه في النار «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ».

( صحيفة علي بن الحسينعليه‌السلام )

( وكلامه في الزهد )

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه جميعا ، عن الحسن بن محبوب ، عن مالك بن عطية ، عن أبي حمزة قال ما سمعت بأحد من الناس كان أزهد من علي بن الحسينعليه‌السلام إلا ما بلغني من علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال أبو حمزة كان الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام إذا تكلم في الزهد ووعظ أبكى من بحضرته قال أبو حمزة وقرأت صحيفة فيها كلام زهد من كلام علي بن الحسينعليه‌السلام وكتبت ما فيها ثم أتيت علي بن الحسين ص فعرضت ما فيها عليه فعرفه وصححه وكان ما فيها «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبارين أيها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا المائلون إليها المفتتنون بها المقبلون عليها وعلى حطامها الهامد وهشيمها البائد غدا واحذروا ما حذركم الله منها وازهدوا فيما زهدكم الله فيه منها ولا تركنوا إلى ما في هذه

أو محل رجوعكم كرجوع الصالحين قبلكم ، أو كمحل رجوعهم.

صحيفة علي بن الحسينعليهما‌السلام وكلامه في الزهد

الحديث الثاني : صحيح.

قوله عليه‌السلام : « وعلى حطامها الهامد » الحطام بالضم : المنكسر من الخشب والنبات والهامد : البالي المسود المتغير ، والهشيم من النبات أيضا ، اليابس المتكسر والبائد : الذاهب المنقطع الهالك ، و« غدا » ظرف للبائد أي عن قريب عنكم أو في القيامة عن كل أحد.

وفي القاموس(١) :ركن إليه كنصر وعلم ومنع ركونا مال وسكن ، وفي النهاية(٢)

__________________

(١) القاموس المحيط : ج ٤ ص ٢٢٩.

(٢) لم نعثر عليه في النهاية. نعم ورد هذا التفسير في الصحاح وكذا في أقرب الموارد : ج ٢ ص ١١٨٤.

٢٩

الدنيا ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان والله إن لكم مما فيها عليها لدليلا وتنبيها من تصريف أيامها وتغير انقلابها ومثلاتها وتلاعبها بأهلها إنها لترفع الخميل وتضع الشريف وتورد أقواما إلى النار غدا ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه إن الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلمات الفتن وحوادث البدع وسنن الجور وبوائق الزمان وهيبة السلطان ووسوسة الشيطان لتثبط القلوب عن تنبهها وتذهلها عن موجود الهدى ومعرفة أهل الحق إلا قليلا ممن عصم الله فليس يعرف تصرف أيامها وتقلب حالاتها وعاقبة ضرر فتنتها إلا من عصم الله ونهج سبيل الرشد وسلك طريق القصد ثم استعان على ذلك بالزهد ـ فكرر الفكر واتعظ بالصبر فازدجر وزهد في عاجل بهجة الدنيا وتجافى عن لذاتها ورغب في دائم نعيم الآخرة وسعى لها سعيها وراقب الموت وشنأ الحياة مع القوم الظالمين نظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة حديدة البصر وأبصر حوادث الفتن وضلال البدع وجور الملوك الظلمة فلقد لعمري استدبرتم الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة والانهماك فيما تستدلون به على تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض بغير الحق فاسْتَعِينُوا بِاللهِ وارجعوا إلى طاعة الله وطاعة من هو أولى بالطاعة ممن اتبع فأطيع.

المثلة : بفتح الميم وضم الثاء العقوبة ، والجمع المثلات. وفي القاموس(١) : خمل ذكره وصوته خمولا خفي.

قوله عليه‌السلام : « لمنتبه » أي لكل من تنبه واتعظ.

قوله عليه‌السلام : « من مظلمات الفتن » وفي بعض النسخ [ من ملمات الفتن ] أي نوازلها ، والبوائق : الدواهي.

قوله عليه‌السلام : « لتثبط » خبر إن وفي القاموس(٢) : ثبطه عن الأمر : عوقه وبطؤ به عنه كثبطه فيهما.

قوله عليه‌السلام : « تذهلها » الذهول : النسيان ، والغفلة وقوله ( عليه‌السلام ) : « موجود الهدى » من إضافة الصفة إلى الموصوف.

قوله عليه‌السلام : « ونهج » يقال نهج الطريق: كمنع أي سلكه، والقصد استقامة الطريق

__________________

(١) القاموس المحيط : ج ٣ ص ٣٧١ « ط مصر ».

(٢) نفس المصدر : ج ٢ ص ٣٥٢.

٣٠

فالحذر الحذر من قبل الندامة والحسرة والقدوم على الله والوقوف بين يديه وتالله ما صدر قوم قط عن معصية الله إلا إلى عذابه وما آثر قوم قط الدنيا على الآخرة إلا ساء منقلبهم وساء مصيرهم وما العلم بالله والعمل إلا إلفان مؤتلفان فمن عرف الله خافه وحثه الخوف على العمل بطاعة الله وإن أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه وقد قال الله : «إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ »(١) فلا تلتمسوا شيئا مما في هذه الدنيا بمعصية الله واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله واغتنموا أيامها واسعوا لما فيه نجاتكم غدا من عذاب الله فإن ذلك أقل للتبعة وأدنى من العذر وأرجى للنجاة فقدموا أمر الله وطاعة من أوجب الله طاعته بين يدي الأمور كلها ولا تقدموا الأمور الواردة

والبهجة : الحسن ، والتجأ في : البعد والاجتناب.

قوله عليه‌السلام : « سعيها » أي ما هو حقها من السعي إشارة إلى قوله تعالى : «وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها »(٢) الآية و« راقب الموت » أي انتظره ولم ينسه ، وكان دائما متذكرا لوروده متهيأ له.

قوله عليه‌السلام : « وشنأ الحياة » كمنع وسمع أي أبغضها لكراهة مخالطة الظالمين.

قوله عليه‌السلام : « والانهماك » والانهماك : التمادي في الشيء واللجاج فيه ، وكأنه معطوف على الفتن ، أي انهمكوا في أشياء فانية ، ودولات باطلة يمكنكم الاستدلال بها ، وبفنائها على تجنب الغواة ، وعدم الاعتماد على ملكهم وعزهم وفي تحف العقول(٣) « والانهماك فيها ما تستدلون » وهو الصواب.

قوله عليه‌السلام : « ممن اتبع فأطيع » أي من كان إطاعة الناس له بمحض إن جماعة من أهل الباطل اتبعوه وبايعوه كخلفاء الجور.

قوله عليه‌السلام « ما صدر قوم » أي كان رجوعهم إلى الآخرة في حال اشتغالهم بالمعاصي.

قوله عليه‌السلام : « إلفان » بكسر الهمزة وسكون اللام أو على وزن فاعل [ فاعلان ]قوله عليه‌السلام : « الذين عرفوا الله » هي خبر « إن ».

__________________

(١) سورة فاطر : ٢٨.

(٢) سورة الإسراء : ١٩.

(٣) تحف العقول : ص ٢٥٣.

٣١

عليكم من طاعة الطواغيت من زهرة الدنيا بين يدي الله وطاعته وطاعة أولي الأمر منكم.

واعلموا أنكم عبيد الله ونحن معكم يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غدا وهو موقفكم ومسائلكم فأعدوا الجواب قبل الوقوف والمساءلة والعرض على رب العالمين يومئذ «لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ».

واعلموا أن الله لا يصدق يومئذ كاذبا ولا يكذب صادقا ولا يرد عذر مستحق ولا يعذر غير معذور له الحجة على خلقه بالرسل والأوصياء بعد الرسل فاتقوا الله عباد الله واستقبلوا في إصلاح أنفسكم وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها لعل نادما قد ندم فيما فرط بالأمس في جنب الله وضيع من حقوق الله و «اسْتَغْفِرُوا اللهَ » و «تُوبُوا إِلَيْهِ » فإنه «يَقْبَلُ التَّوْبَةَ » ويعفو عن السيئة «وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ».

وإياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين ومجاورة الفاسقين احذروا فتنتهم

قوله عليه‌السلام : « من طاعة » من ابتدائية ، وقوله عليه‌السلام : « من زهرة » بيانية أي لا تقدموا على طاعة الله الأمور التي تحصل لكم بسبب طاعة الطواغيت ، والأمور هي زهرات الدنيا أي بهجتها ونضارتها وحسنها.

قوله عليه‌السلام : « عذر مستحق » أي لقبول العذرقوله عليه‌السلام : « ولا يعذر » كيضرب أي لا يقبل عذر غير معذور.

قوله عليه‌السلام : « واستقبلوا في إصلاح » وفي بعض النسخ « من إصلاح » لعل المراد استقبلوا واستأنفوا العمل في إصلاح أنفسكم ، ويحتمل أن يكون في بمعنى إلى أي أقبلوا إلى إصلاح أنفسكم وقوله ( عليه‌السلام ) : « لعل نادما على سبيل المماشاة » أي يمكن أن يندم نادم يوم القيامة على ما قصر بالأمس أي في الدنيا في جنب الله أي في قربه وجواره أو في أمره وطاعته أو مقربي جنابه أعني الأئمةعليهم‌السلام وإطاعتهم كما ورد في الأخبار الكثيرة ، والحاصل إن إمكان وقوع ذلك الندم كاف في الحذر ، فكيف مع تحققه ، أو لأن بالنسبة إلى كل شخص غير متحقق ، وفي تحف العقول :(١) « من إصلاح أنفسكم وطاعة الله وطاعة من تولونه فيما لعل نادما » وهو أظهر.

__________________

(١) تحت العقول : ص ٢٥٤. وفي المصدر « فيها لعلّ نادما ».

٣٢

وتباعدوا من ساحتهم واعلموا أنه من خالف أولياء الله ودان بغير دين الله واستبد بأمره دون أمر ولي الله كان في نار تلتهب تأكل أبدانا قد غابت عنها أرواحها وغلبت عليها شقوتها فهم موتى لا يجدون حر النار ولو كانوا أحياء لوجدوا مضض حر النار واعتبروا «يا أُولِي الْأَبْصارِ » واحمدوا الله على ما هداكم واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة الله إلى غير قدرته «وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ » ثم «إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ » فانتفعوا بالعظة وتأدبوا بآداب الصالحين.

٣ ـ أحمد بن محمد بن أحمد الكوفي وهو العاصمي ، عن عبد الواحد بن الصواف ، عن محمد بن إسماعيل الهمداني ، عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام قال كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يوصي أصحابه ويقول أوصيكم بتقوى الله فإنها غبطة الطالب الراجي وثقة الهارب اللاجي

قوله عليه‌السلام : « واستبد » قال في النهاية(١) : وفي حديث عليعليه‌السلام : كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا فاستبددتم علينا. يقال : استبد بالأمر يستبد به استبدادا إذا تفرد به دون غيره.

قوله عليه‌السلام : « في نار تلتهب » الظاهر أن المراد أنهم في الدنيا في نار البعد والحرمان والسخط والخذلان ، لكنهم لما كانوا بمنزلة الأموات لعدم العلم واليقين ، لم يستشعروا ألم هذه النار ، ولم يدركوها كما قال تعالى : «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ »(٢) وقال : «أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ »(٣) ويحتمل أن يكون المراد بالنار أسباب دخولها تسمية للسبب باسم المسبب ، و « المضض » بالتحريك الألم و« التأدب » تعلم الآداب وقبولها.

الحديث الثالث : مجهول.

قوله عليه‌السلام : « فإنها غبطة » قال الفيروزآبادي(٤) : الغبطة بالكسر : حسن الحال والمسرة ، وقد اغتبط ، والحسد كالغبطة ، وقد غبطه كضربه وسمعه ، وتمنى نعمة على أن لا تتحول عن صاحبها انتهى ، والمعنى أن الطالب لثواب الله الراجي لرحمته يغبط ويتمنى ، ويطلب التقوى والهارب عن عذاب الله اللاجئ إلى الله إنما يثق بالتقوى

__________________

(١) النهاية : ج ١ ص ١٠٥.

(٢) سورة العنكبوت : ٥٤.

(٣) سورة النحل : ٢١ والآية «أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ ».

(٤) القاموس المحيط : ج ٢ ص ٣٧٥.

٣٣

واستشعروا التقوى شعارا باطنا واذكروا الله ذكرا خالصا تحيوا به أفضل الحياة وتسلكوا به طريق النجاة انظروا في الدنيا نظر الزاهد المفارق لها فإنها تزيل الثاوي الساكن وتفجع المترف الآمن لا يرجى منها ما تولى فأدبر ولا يدرى ما هو آت منها فينتظر وصل البلاء منها بالرخاء والبقاء منها إلى فناء فسرورها مشوب بالحزن والبقاء فيها إلى الضعف والوهن فهي كروضة اعتم مرعاها وأعجبت من يراها عذب شربها طيب

لا بالأماني.

قوله عليه‌السلام : « واستشعروا التقوى » الشعار بالكسر وقد يفتح : ما تحت الدثار من اللباس ، وهو ما يلي شعر الجسد واستشعره لبسه ، وهو كناية عن غاية الملابسة والملازمة ، وكونها خالصة لله مخفية عن الخلق لا يشوبها رياء كما أن الشعار يكون غالبا مستورا بالدثار وأشعرعليه‌السلام بقوله « شعارا باطنا ».

قوله عليه‌السلام : « تحيوا به أفضل الحياة » إذ حياة القلوب والأرواح بذكر الله وفي بعض النسخ بالباء الموحدة فيهما من الحبوة وهي العطية.

قوله عليه‌السلام : « فإنها تزيل الثاوي » يقال : ثوى بالمكان إذا أقام فيه.

قوله عليه‌السلام : « وتفجع » إلخ. قال الفيروزآبادي(١) : فجعه كمنعه : أوجعه كفجعه أو الفجع أن يوجع الإنسان بشيء يكرم عليه فيعدمه.

وقال أترفته النعمة ، أطغته ، والمترف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع والمتنعم لا نمنعه من تنعمه ، والجبار.

قوله عليه‌السلام : « لا يرجى منها ما تولى » أي أدبرفقوله : « فأدبر » مبالغة فيه أو أعرض وانقضى زمانه فأدبر ، والحاصل أن ما ذهب منها من العمر والقوة والشباب والغرة وغيرها لا يرجى رجوعها ولا يدري ولا يعلم أي شيء يأتي بعد ذلك فينتظر ورودهقوله ( عليه‌السلام ) : « وصل » على المجهولقوله ( عليه‌السلام ) : « إلى الضعف » أي آئل ومنته إليه.

قوله عليه‌السلام : « اعتم مرعاها » اعتم بتشديد الميم ، يقال : اعتم النبت : أي اكتهل [ اكتمل ] وتم طوله وظهر نوره.

__________________

(١) القاموس المحيط : ج ٣ ص ٦١ « ط مصر ».

٣٤

تربها تمج عروقها الثرى وتنطف فروعها الندى حتى إذا بلغ العشب إبانه واستوى بنانه هاجت ريح تحت الورق وتفرق ما اتسق فأصبحت كما قال الله : «هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً »(١) انظروا في الدنيا في كثرة ما يعجبكم وقلة ما ينفعكم

( خطبة لأمير المؤمنينعليه‌السلام )

( وهي خطبة الوسيلة )

٤ ـ محمد بن علي بن معمر ، عن محمد بن علي بن عكاية التميمي ، عن الحسين بن النضر الفهري ، عن أبي عمرو الأوزاعي ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر بن يزيد قال دخلت على

قوله عليه‌السلام : « تمج عروقها الثرى » قال في مصباح اللغة : مج الرجل الماء من فيه مجا من باب قتل رمى به ، وقال : الثرى : وزان الحصى ندي الأرض والثرى أيضا التراب الندى(٢) انتهى.

أقول : إذا حملت الثرى على الندى ، فالمعنى ظاهر أي يترشح من عروقها الماء لكثرة طراوتها وارتوائها وإذا حملت على التراب الندى ، فالمعنى تقذف عروقها الماء في الثرى. أو المراد أن عروقها لقوتها وكثرتها تقذف التراب وتدفعها إلى فوق وترفعها.

قوله عليه‌السلام : « وتنطف فروعها الندى » تنطف كتضرب وتنصر أي تصب ، والمعنى كما مر ، وإبان الشيء بكسر الهمزة وتشديد الباء حينه أي أو أنه ، وقوله : « تحت » بضم الحاء أي يسقطقوله : « هَشِيماً » أي مهشوما مكسورا «تَذْرُوهُ الرِّياحُ » أي تفرقه.

خطبة لأمير المؤمنينعليه‌السلام وهي خطبة الوسيلة

الحديث الرابع : ضعيف. لكن هذه الأخبار قوة مبانيه ورفعة معانيها تشهد بصحتها ولا تحتاج إلى سند مع أن هذه الخطبة من الخطب المشهورة عنه صلوات الله

__________________

(١) الكهف : ٤٦.

(٢) المصباح المنير للفيّومي : ج ٢ ص ٩٨ وج ١ ص ٣٩. « ط مصر ١٣١٣ ».

٣٥

أبي جعفرعليه‌السلام فقلت يا ابن رسول الله قد أرمضني اختلاف الشيعة في مذاهبها فقال يا جابر ألم أقفك على معنى اختلافهم من أين اختلفوا ومن أي جهة تفرقوا قلت بلى يا ابن رسول الله قال فلا تختلف إذا اختلفوا يا جابر إن الجاحد لصاحب الزمان كالجاحد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أيامه يا جابر اسمع وع قلت إذا شئت قال اسمع وع وبلغ حيث انتهت بك راحلتك إن أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب الناس بالمدينة بعد سبعة أيام من وفاة

عليهقوله : « أرمضني » أي أحرقني.

قوله عليه‌السلام : « ألم أقفك » يدل على أنه كان أوقفه سابقا على سبب الاختلاف.

قوله عليه‌السلام : « قلت : إذا شئت » أي إذا شئت أن أسمع تقول فاسمع ، أو « إذا » بالتنوين وشئت على صيغة المتكلمقوله عليه‌السلام : « منع الأوهام » الظاهر أن المراد ما يشمل العقول أيضا أي منع تقدسه وعلو شأنه عن أن يصل العقول إلى غير الإذعان بوجوده من معرفة كنه ذاته وصفاته تعالى ،« وحجب العقول أن تتخيل ذاته » أي كنه ذاته ، إن كان المراد بالتخيل الارتسام في الخيال كما هو المصطلح ، فالمراد بالتعليل أن التخيل إنما يكون في المحسوسات والماديات فلو كان تعالى متخيلا كان شبيها بها مشاكلا لها مشتركا معها في الصفات الإمكانية ، وهو متعال عن ذلك ، ولو كان المراد الارتسام في العقل كما هو الأظهر أنه تعالى لا يشبه شيئا حتى يكون له ما به الاشتراك وما به الامتياز ، حتى يتصور بهما ، أو أنه لا يشبه شيئا من الممكنات ، وهذه الصورة الحاصلة في العقل لافتقارها إلى المحل ، وكون حصولها بعلة ممكنة فكيف يكون عين حقيقة ذاته تعالى ، أو أنه إذا كان متعقلا كان في كونه متعقلا شبيها بما يتعقل من الممكنات ، أو أنه لا بد من مناسبة بين العاقل والمعقول ليمكن التعقل ولا مناسبة ولا مشابهة بينه وبين خلقه.

قوله ( عليه‌السلام ) : « بل هو الذي لم يتفاوت في ذاته » أي ليس بذي أجزاء متفاوتة مختلفة : لا خارجية ولا عقلية كالجنس والفصل ، ويحتمل أن يكون المراد نفي اختلاف العوارض والتعقل يستلزم ذلك.

٣٦

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك حين فرغ من جمع القرآن وتأليفه فقال الحمد لله الذي منع الأوهام أن تنال إلا وجوده وحجب العقول أن تتخيل ذاته لامتناعها من الشبه والتشاكل بل هو الذي لا يتفاوت في ذاته ولا يتبعض بتجزئة العدد في كماله فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن ويكون فيها لا على وجه الممازجة وعلمها لا بأداة لا يكون العلم إلا بها وليس بينه وبين معلومه علم غيره به كان عالما بمعلومه إن قيل كان فعلى تأويل

قوله عليه‌السلام : « ولم (١) يتبعض بتجزية العدد في كماله » لعله إشارة إلى نفي زيادة الصفات الموجودة.

قوله عليه‌السلام : « لا على اختلاف الأماكن » وبأن يكون هو في مكان والأشياء في مكان آخر.

قوله عليه‌السلام : « ويكون فيها » أي بالعلم والقدرة والحفظ والتربية لا بالممازجة وعلمها أي علم الأشياء لا بأداة ، بل بذاته تعالى إذ الافتقار إلى الآلة يوجب الإمكان.

قوله ( عليه‌السلام ) : « علم غيره » يحتمل الإضافة والتوصيف ، فعلى الأول : فالمراد أنه لا يتوسط بينه وبين معلومه علم عالم آخر به ، أي يعلم ذلك العالم وبتعليمه كان الله تعالى عالما بمعلومه ، ويحتمل أن يكون المراد نفي ما ذهب إليه جماعة من الحكماء بأن علمه تعالى بحصول الصور في العقول والنفوس الفلكية ، وحضورهما عنده تعالى ، وأما على الثاني : فالمراد أن ذاته المقدسة كافية للعلم ولا يحتاج إلى علم أي صورة علمية غيره ، أي غير ذاته تعالى بهذه الصورة العلمية ، وبارتسامها كان عالما بمعلومه كما في الممكنات.

قوله عليه‌السلام : « إن قيل كان » إلخ أي ليس كونه موجودا في الأول عبارة عن مقارنته للزمان أزلا لحدوث الزمان ، بل بمعنى أن ليس لوجوده ابتداء ، أو أنه تعالى ليس بزماني وكان يدل على الزمانية فتأويله أن معنى كونه أزلا أن وجوده يمتنع عليه العدم ، وفي الفقرة الثانية لعل المعنى الأخير متعين ، ويحتمل أن يكون المراد أنه إن قيل : كان فليس كونه من قبيل كون الممكنات لحدوثها ،

__________________

(١) كذا في النسخ. والموجود في نسخ المتن « ولا يتبعّض ».

٣٧

أزلية الوجود وإن قيل لم يزل فعلى تأويل نفي العدم فسبحانه وتعالى عن قول من عبد سواه واتخذ إلها غيره علوا كبيرا.

نحمده بالحمد الذي ارتضاه من خلقه وأوجب قبوله على نفسه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله شهادتان ترفعان القول وتضاعفان العمل ، خف ميزان ترفعان منه وثقل ميزان توضعان فيه وبهما الفوز بالجنة والنجاة من النار والجواز على الصراط وبالشهادة تدخلون الجنة وبالصلاة تنالون الرحمة أكثروا من الصلاة على نبيكم «إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

فإن في العرف يفهم من الكون الحدوث ، بل معناه أزلية وجوده تعالى ، وإن قيل لم يزل فليس على ما يطلق في الممكنات ، يقولون لم يزل هو كذلك ، ويعنون به الكون على هذه الحال مدة حياتهم أو مدة طويلة ، بل معناه نفي العدم أبدا ، أو المعنى أنه إذا قيل : في الممكنات لم يزل فمعناه استمرار وجودهم ، مع طريان أنحاء العدم والتغير والتبدل عليهم ، ومعنى لم يزل في حقه تعالى نفي جميع أنحاء العدم والتغيرات عنه ، وقد ورد هذا المعنى في تفسير آخريته تعالى في الخبر ، ويحتمل أيضا أن يكون المراد في المقامين نفي تعقل كنه وجوده تعالى ، وكيفية كونه أي إن قيل : كان أو لم يزل فمعناه نفي العدم عنه أزلا وأبدا ، وأما تعقل كنه ذلك فلا يمكن للبشر ، هذه هي الوجوه التي خطرت بالبال والله أعلم وحججهعليهم‌السلام .

قوله عليه‌السلام : « ترفعان القول » أي لا ترتفع قول من الأقوال الحسنة إليه تعالى إلا بمقارنتهما ، وبالإقرار بهما ، والتكلم بهما يوجب تضاعف الأعمال أو الإذعان بهما يوجب ترتب الثواب على الأعمال والثواب لا يكون إلا مضاعفا ، ويحتمل أن يكون المراد أشهد شهادة خاصة مقرونة بالشرائط ، حتى يترتب عليها رفع القول ومضاعفة العمل.

قوله عليه‌السلام : « وبالصلاة » أي على النبي وآله ،

٣٨

صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسليما أيها الناس إنه لا شرف أعلى من الإسلام ولا كرم أعز من التقوى ولا معقل أحرز من الورع ولا شفيع أنجح من التوبة ولا لباس أجمل من العافية ولا وقاية أمنع من السلامة ولا مال أذهب بالفاقة من الرضا بالقناعة ولا كنز أغنى من القنوع ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة والرغبة مفتاح التعب والاحتكار مطية

قوله عليه‌السلام « أعز من التقوى » العز ، خلاف الذل والعزة أيضا القلة وندرة الوجود ، ويكون بمعنى الغلبة ، والعزيز الغالب ، ولا يخفى مناسبة جميع المعاني وإن احتاج الأخير إلى تكلف.

قوله : « ولا معقل » المعقل بالكسر : الملجإ والحصن والورع ، أمنع الحصون وأحرزها عن وساوس الشياطين في الدنيا ، وعن عذاب الله في الآخرة.

قوله عليه‌السلام : « ولا شفيع أنجح » النجح والنجاح : الظفر بالحوائج أي لا يظفر الإنسان بشفاعة شفيع بالنجاة من العذاب كما يظفر بالتوبة.

قوله عليه‌السلام : « ولا لباس أجمل من العافية » الجمال الحسن والبهاء والزينة ، والعافية من البلايا والسلامة من الكفر والشرك والمعاصي أو بالعكس ، ويحتمل التعميم فيهما.

قوله عليه‌السلام : « من الرضا بالقناعة » في نهج البلاغة(١) من الرضا بالقوت.

قوله عليه‌السلام : « ولا كنز أغنى » لعل اسم التفضيل هنا مشتق من الغناء بالفتح ممدودا ، بمعنى النفع أي أنفع أو من غني بالمكان أي أقام أي أثبت أو يقال : نسبة الغناء إلى الكنز إسناد مجازي والمراد غنى صاحب الكنز.

قوله عليه‌السلام : « ومن اقتصر » إلخ قال الجوهري :البلغة : ما يتبلغ به من العيش وتبلغ بكذا اكتفى به(٢) فإضافة البلغة إلى الكفاف للتوضيح. وقال ابن ميثم(٣) : أي البلغة التي تكف عن الناس.

__________________

(١) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح ص ٥٤٠ « المختار من الحكم ـ ٣٧١ ».

(٢) الصحاح : ج ٤ ص ١٣١٧.

(٣) لم نعثر بهذه العبارة في شرح الخطبة. لاحظ شرح نهج البلاغة لابن ميثم ج ٥ ص ٤٢٥ ـ ٤٢٦.

٣٩

النصب والحسد آفة الدين والحرص داع إلى التقحم في الذنوب وهو داعي الحرمان والبغي سائق إلى الحين والشره جامع لمساوي العيوب رب طمع خائب وأمل كاذب ورجاء يؤدي إلى الحرمان وتجارة تئول إلى الخسران ألا ومن تورط في الأمور غير ناظر في العواقب فقد تعرض لمفضحات النوائب وبئست القلادة الذنب للمؤمن أيها الناس إنه لا كنز أنفع من العلم ولا عز أرفع من الحلم ولا حسب أبلغ من

قوله عليه‌السلام : « فقد انتظم الراحة » أي مع الراحة في سلك أو في سلك الراحة فالنصب على التقديرين برفع الخافض ، ويقال : طعنه فانتظمه أي اختله في رمحه فيحتمل أن يكون المراد أنه اصطاد الراحة وانتظمها في سهمه.

قوله عليه‌السلام : « وتبوأ خفض الدعة » الخفض والدعة متقاربان في المعنى ، وكلاهما بمعنى السكون(١) ، وأن يكون الإضافة للمبالغة ، أي اتخذ غاية السكون والراحة أي مع منزلا لنفسه ،قوله عليه‌السلام : « والرغبة » أي إلى الدنيا.

قوله عليه‌السلام : « والاحتكار مطية النصب » الاحتكار جمع المال وحبسه. والنصب بالتحريك : التعب ، قيل : المراد أن الاحتكار كمطية يتعب ركوبها ، والأظهر أن المراد أنه مركوب للتعب يركبها ، فإذا أقبل الاحتكار إليك أقبل راكبه معه ، أو أنه يسهل وصول المتاعب إليك كما أن المركب يسهل وصول الراكب إلى مقصودهقوله عليه‌السلام : « إلى التقحم » التقحم الدخول في الأمر من غير روية ، وهو أي التقحم في الذنوب داعي الحرمان ، وعن السعادات والخيرات ، أو الرزق الحلال المقدر فإن بقدر ما يتصرف من الحرام يقاص منه من الرزق الحلال كما ورد في الأخبار ويحتمل إرجاع الضمير إلى الحرص أيضا لكنه بعيد.

قوله عليه‌السلام : « والبغي » إلخ البغي الظلم والاستطالة ، ومجاوزة الحد ، والحين بالفتح : الهلاك والشره غلبة الحرص.

قوله عليه‌السلام : « ولا حسب أبلغ » أي أكمل من الأدب بحسب الشرف الذي يكون من جهة الانتساب بالآباء ، والآداب الحسنة تشرف الإنسان بالانتساب بالآباء

__________________

(١) في النسخة المخطوطة توجد هنا هذه الزيادة [ والنزهة والراحة ، فيحتمل أن يكون المراد بالخفض الراحة ، وبالدعة السكون ].

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385