تحفة العالم في شرح خطبة المعالم الجزء ٢

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم7%

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم مؤلف:
المحقق: أحمد علي مجيد الحلّي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 513

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 513 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16344 / تحميل: 1906
الحجم الحجم الحجم
تحفة العالم في شرح خطبة المعالم

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

[ترجمة معاوية بن وهب]

وأمّا معاوية : فهو ابن وهب البجلي ، أبو الحسن.

قال النجاشي : (عربي صميم ، ثقة ، حسن الطريقة ، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما‌السلام ، له كتب إلخ )(١) .

الموضع الثاني

فيما يتعلق بشرح المتن :

[أ] ـ «اطلبوا العلم » : قال جدّي الصالحرحمه‌الله : (إنَّ هذه الأُمور الثلاثة من أعظم الأُصول لتحصيل سعادة الدارين ، واستقامة أحوال الكونين ؛ إذ بالأول تُعرف الأحكام ، والحلال ، والحرام، وأحوال المبدأ والمعاد ، وأحوال السياسات البدنية ، والمنزلية ، والمدنية ، وبالأخيرين تُزيّن النفس بزينة الإناءة ، والرزانة ، والتحلّي بِحِلْيَةِ الصيانة والمتانة ، والتجنُّب عن تبعات الغضب من التضاغن ، والسفه ، والخِفَّة وغيرها ، وهذا أصل عظيم في جلب طيب عيش الدارین ، وطلب نظام النشأتين )(٢) .

[ب] ـ «تواضعوا لمن تعلّمونه العلم » : أمّا في أوان اشتغاله بالطلب كما قيل ، أو الأعمّ.

[ج] ـ «وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم » : أي عند الطلب وبعده.

قال بعض العلماء : (حقُّ المعلّم الربَّاني ، والمربِّي الروحاني على المتعلّم أعظمُ وأولی من حقِّ أبيه الجسماني ).

__________________

(١) رجال النجاشي : ٤١٢ رقم ١٠٩٧.

(٢) شرح اُصول الكافي ٢ : ٦٥.

٣٢١

وقال بعض الأكابر : (العلماء أرحم باُمَّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من أبائهم واُمّهاتهم ، قيل : فكيف ذلك؟ قال : لأنَّ أباءهم واُمَّهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا ، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة ).

وقيل لإسكندر : (ما بالُكَ تُحبُّ معلّمكَ أكثر ممَّا تحب أباك؟ فقال : لانَّ مُعلّمي سبب حياتي الروحانية الأُخروية ، وأبي وسيلة حياتي الجسمانية الدنيوية )(١) .

وبالجملة : فالتواضع معناه التذلُّل ، وهو من الأخلاق العالية التي قَدْ كثر عليها من الله تعالى في كلام الأئمةعليهم‌السلام في أدعيتهم ، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام في دعاء كميل بن زياد : «وتجعلني بقسمك راضياً قانعاً ، وفي جميع الأحوال متواضعاً »(٢) .

وفي الحديث : «ما تواضع أحد لله إلا رفعه »(٣) .

قال بعض الشراح : (فيحتمل رفعه في الدنيا ، وفي الآخرة ، وفي كليهما )(٤) .

وفيه أيضاً ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام عنه قال : «سمعته يقول : إن في السماء ملکین موكَّلين بالعباد ، فمن تواضع لله رفعاه ، ومن تكبّر وضعاه »(٥) .

ولعلَّ المراد من رفعه الثناء عليه ، أو بإعانته في الحصول على المطالب ، وتيسّر أسباب العزة والرفعة في الدارين ، وفي التكبُّر بالعكس فيهما.

وفيه أيضاً : «أنَّ من التواضع أن يجلس الرجل دون شرفه »(٦) .

__________________

(١) شرح اُصول الكافي ٢ : ٦٦.

(٢) مصباح المتهجد : ٨٤٤.

(٣) مسند أحمد ٢ : ٣٨٦.

(٤) مجمع البحرين ٤ : ٥١٥.

(٥) الكافي ٢ : ١٢٢ ح ٢.

(٦) الكافي ٢ : ١٢٣ ح ٩.

٣٢٢

أي : عند المجلس الَّذي يقتضي شرفة الجلوس فيه ، أو أدون (أدنى ـ ظ) منه ، والأخير أظهر.

وفيه أيضاً : «أنَّه نظر أبو عبد الله عليه‌السلام إلى رجل من أهل المدينة قَدْ اشتری العياله شيئاً وهو يحمله ، فلمَّا رآه الرجل استحيى منه ، فقال أبو عبد الله : «اشتريته العيالك وحملته إليهم ، أما والله لولا أهل المدينة لأحببت أن أشتري لعيالي الشيء ثُمَّ احمله إليهم »»(١) .

ويدل على استحباب شراء الطعام للأهل وحمله إليهم ، وأنه مع ملامة الناس الترك أولی.

وفي الكافي : بإسناده عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، قال : «التواضع أن تعطي الناس ما تُحبُّ أن تُعْطَاه ».

وفي حديث آخر قال : «قلت : ما حدُّ التواضع الَّذي إذا فعله العبد كان متواضعاً؟ فقال : «التواضع درجات منها أن يعرف المرء قدر نفسه ، فينزلها منزلتها بقلب سليم ، لا يحب أن يأتي إلى أحد إلا مثل ما يؤتى إليه ، إن رأى سيِّئة درأها بالحسنة ، كاظم الغيظ ، عاف عن الناس ، والله يحب المحسنين»»(٢) .

أمّا معرفة قدر المرء نفسه فبملاحظة عيوبها وتقصيراتها في خدمة خالقه ، والحاصل التواضع عبارة عن ترك التكبُّر ، والتذلُّل لله ، ولرسوله ، ولأُولي الأمر ، وللمؤمنين ، وعدم حبّ الرفعة والاستيلاء ، وكلّ ذلك موجب للقرب ، وإذا كان أحد الضدَّين موجباً للقرب ، كان الآخر موجباً للبعد.

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٢٣ ح ١٠.

(٢) الكافي ٢ : ١٢٤ ح ١٣.

٣٢٣

[د] ـ «ولا تكونوا علماء جبّارين» : الجبار المتكبِّر ، والكبرياء من صفات الباري تعالى ، قال تعالى : «الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني فيهما قصمت ظهره »(١) .

فهو حقٌّ له ، وباطل في غيره ممَّن ادَّعاه لنفسه ، فالتكبُّر من العالم دليل على جهله ، وموجب لسقوط حقوقه التي من جملتها الرئاسة العظمی ، والخلافة الكبرى في الدين والدنيا ، وهو المراد بقوله : «فيذهب باطلُكُم بِحَقّكُم » ، والباء في (بحقّكم) للتعدية.

__________________

(١) الجواهر السنية : ١٦٧ وفيه : (قصمته) بدل : (قصمت ظهره).

٣٢٤

الحديث الثالث والعشرون

العالم من صدق قوله فعله

[ ٩٠] ـ قالرحمه‌الله : وعنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن حمّاد بن عثمان ، عن الحارث بن المغيرة النصري ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قول الله عزَّ وجلَّ : ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ(١) قال : «يعني بالعلماء من صدَّق قولَه فعلُه ، ومن لم يصدق قولَهُ فعله فليس بعالم»(٢) .

أقول : واستيعاب المرام في موضعين :

الموضع الأول

في رجال السند : مرجع الضمير كما عرفت.

[ترجمة حمّاد بن عثمان]

و (حمّاد بن عثمان بن عمرو بن خالد الفزاري ، وأخوه عبد الله ، ثقتان ، رويا عن أبي عبد الله ، وروی حمّاد عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، ومات حمّاد بالكوفة سنة ١٩٠ ، كما هو المنقول عن ابن الجوزي في كتاب الجملة )(٣) .

[ترجمة النصري]

و (النصري ـ بالنون والصاد المهملة ـ : من بني نصر بن معاوية ، ثقة ثقة )(٤) .

الموضع الثاني

فيما يتعلق بشرح المتن :

__________________

(١) سورة فاطر : من آية ٢٨.

(٢) معالم الدين : ٢٠ ، الكافي ١ : ٣٦ ح ٢ ، وفيه : أن الفعل مقدم على القول.

(٣) رجال النجاشي : ١٤٢ رقم ٣٧١.

(٤) رجال النجاشي : ١٣٩ رقم ٣٦١ ، وفيه : أنه روی عن أبي جعفر ، وجعفر ، وموسی بن جعفر ، وزيد بن عليعليهم‌السلام .

٣٢٥

[أ] ـ قَدْ تقدم شرح الآية مفصّلاً ، وقد ذكرنا هناك أنَّ القراءة المشهورة فيها هي نصب لفظ الجلالة ورفع العلماء على أن يكون الأول مفعولاً مقدَّماً والثاني هو الفاعل ، وتقديم ما حقُّه التأخير يفيد الحصر ، فكان المقصود من الآية انحصار الخشية من الله تعالی بصنف العلماء ، وأنَّ من يخشى الله من عباده مثلُ العالم ومن على صفته ، مِمَّن نظر في دلائل الحقّ فعرفه حق معرفته ، وأراد أن يعرفه كنه معرفته ؛ لأن الخشية على حسب العلم بنعوت كماله وصفات جلاله.

[ب] ـ «فليس بعالم» : وذلك ؛ لأن ترکه العمل بعلمه دليل على أنه ليس بمستیقن في علمه ، وأن العلم عنده مستعار مستودع ، وأنه عن قریب سیسليه ؛ لأنَّ مخالفة العالم علمه من أعظم الذنوب الموجبة لظلمة قلبه ، فلا تجتمع مع نور العلم ، فلا محالة زائل عنه.

٣٢٦

الحديث الرابع والعشرون

الفقيه حقّ الفقيه

[٩١] ـ قالرحمه‌الله : وعنه ، عن عدَّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد البرقي ، عن إسماعيل بن مهران ، عن أبي سعيد القمّاط ، عن الحلبي ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : «قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنِّط الناس من رحمة الله ، ولم يؤمِّنهم من عذاب الله ، ولم يرخّص لهم في معاصي الله ، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره ، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم ، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر ، ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها ، ألا لا خير في نسك لا ورع فيه»(١) .

أقول : واستيعاب المرام في موضعين :

الموضع الأول

في شرح حال السند : ومرجع الضمير معلوم.

[ترجمة إسماعيل بن مهران]

وإسماعيل بن مهران : كوفي ، يُكنّى أبا يعقوب ، ثقة معتمد عليه ، روى عن جماعة من أصحابنا ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، صرّح بذلك النجاشي في (الفهرست) ، وکفی به شاهداً على الوثوق(٢) .

[ترجمة خالد القمّاط]

وأبو سعيد القمّاط : اسمه خالد ، کوفي ، ثقة(٣) .

__________________

(١) معالم الدين : ٢٠ ، الكافي ١ : ٣٦ ح ٣.

(٢) رجال النجاشي : ٢٦ رقم ٤٩.

(٣) رجال النجاشي : ١٤٩ رقم ٣٨٧ ، وفيه : أنه روي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام .

٣٢٧

[ترجمة الحلبي]

والحلبي: يُطلق على محمّد بن علي بن أبي شعبة ، وعلى إخوته : عبيد الله ، وعمران ، وعبد الأعلى ، وعلى أبيهم علي بن أبي شعبة ، وأحمد بن عمر بن أبي شعبة ، وأبيه عمر بن أبي شعبة ، وأحمد بن عمران. وفي الأول ثُمَّ في الثاني أشهر ، كذا في نقد الرجال(١) .

وهؤلاء كلّهم ثقات إلا أحمد بن عمران ، وعمر بن أبي شعبة ؛ فإنّه لا نصَّ على توثيقهما ، إلّا أنَّه يُفهم التوثيق من توثيق آل أبي شعبة عموماً(٢) .

قال النجاشيرحمه‌الله : (عبيد الله بن علي بن أبي شعبة الحلبي ، مولى بني تيم اللات بن ثعلبة ، أبو علي ، کوفي ، كان يتّجر هو وأبوه وإخوته إلى حلب ، فغلبت عليهم النسبة إلى حلب. وآل أبي شعبة بالكوفة بيت مذكور من أصحابنا ، وروى جدّهم أبو شعبة عن الحسن والحسينعليهما‌السلام ، وكانوا جميعهم ثقات مرجوعاً إلى ما يقولون.

وكان عبيد الله كبيرهم ووجههم. وصنّف الكتاب المنسوب إليه ، وعرضه على أبي اللهعليه‌السلام ، وصحّحه وقال عند قراءته : أترى لهؤلاء مثل هذا؟) انتهى(٣) .

وقال المجلسي في (الوجيزة) : (الحلبي يُطلق على ثقات)(٤) .

الموضع الثاني

في شرح المتن :

__________________

(١) نقد الرجال ٥ : ٣٧٦ رقم ٦٤٠٨.

(٢) رجال النجاشي : ٩٨ رقم ٢٤٥.

(٣) رجال النجاشي : ٢٣٠ رقم ٦١٢.

(٤) الوجيزة في الرجال : ٢١٣ رقم ٢٣٤١.

٣٢٨

[أ] ـ «حق الفقيه » : أي كامل الفقه ، هو إمّا بدل من الفقيه ، أو صفة له ، ويكون ما بعده ـ أعني قوله : «من لم يقنِّط الناس » ـ خبر مبتدأ محذوف تقديره (هو) ، و (أنا) مبتدأ ، وما بعده خبره ، وقيل : أو منصوب بتقدير أعني والمقصود : أن الفقيه الكامل في فقهه لا محالة يكون كذلك ، وذلك ؛ لأنه إن فقه وضع الكتاب العزيز علم أن غرضه عزَّ وجلَّ جذب الناس إليه في سبل مخصوصة بوجوه من الترغيب ، والترهيب ، والوعد ، والوعيد ، والبشارة ، والنذارة وغيرها ، فمن ضرورته إذاً أن لا يقنِّط الناس من رحمة الله بآيات وعیده ونذارته ، ولا يؤيسهم بذلك من روحه لما يلزم اليأس من إغراء العصاة بالمعصية ، واتّباع الهوى ، والحاضر الَّذي يُرجى من نهي النفس عنه ثمرة في الآخرة ، ولذلك قال تعالى : ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ وقال : ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّـهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ(٢) .

وأن لا يؤمِّنهم من مكر الله بالجزم بآيات وعده وبشارته ، لما يستلزم السكون إلى ذلك ، والاعتماد عليه من الانهماك في المعاصي واتباع الهوى ؛ ولذا قال تعالى : ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّـهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّـهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(٣) بل يكون تابعاً في وعظه وجذبه إلى مقاصد سنته ووضع شريعته ، فإنه قلّ موضع من الكتاب العزيز يذكر فيه الوعيد إلّا ويمزجه بالوعد ، والحكمة تقتضي ذلك ؛ ليكون المكلفّ متردِّداً بين الرغبة والرهبة.

__________________

(١) سورة الزمر : ٥٣.

(٢) سورة يوسف : من آية ٨٧.

(٣) سورة الأعراف : ٩٩.

٣٢٩

ويقولون في الأمثال المرموزة : «لقي موسى عليه‌السلام وهو ضاحك مستبشر عيسى عليه‌السلام وهو كالح قاطب ، فقال عيسى : مالك كأنك آمن من عذاب الله؟ فقال موسی عليه‌السلام : مالك كأنك آيس من روح الله! فأوحى الله إليهما : موسی أحبّكما إليّ شعاراً ، فإنّي عند حسن ظنِّ عبدي بي »(١) .

[ج] ـ «ولم يترك القرآن رغبة إلى غيره» : من الكتب السماوية وغيرها ، يعني الفقيه الكامل يأخذ بالأحكام وغيرها من كتاب الله ، ويتَّبع أوامره ونواهيه ، او يقتفي أثره في العالم ، والعمل ، والقراءة ، ويستنبط منه سائر العلوم الراجعة إلى الاعتقاد من معرفة الله تعالی بذاته ، وصفاته ، وأفعاله ، وأحوال القيامة ، والمعاد الجسماني ، وطريق السلوك إليه تعالى ، والإقبال عليه كما قال : ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا(٢) ، أي انقطع إليه انقطاعاً ، ويعتبر بما حواه من شرح أحوال السالكين من قصص الأنبياء والأولياء ، كقصة : آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسی ، وهارون ، وزکريا ، ويحيى ، وعيسى ، ومريم ، وداود ، وشعيب ، وسليمان ، ويونس ، وإدريس ، والخضر ، وإلياس ، وجبرئيل ، والملائكة ، وغيرهم صلوات الله عليهم أجمعين ، ويتنبّه من أحوال الجاحدين المنطوية في قصص : نمرود ، وفرعون ، وقارون ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وقوم تُبّع ، وأصحاب الأيكة ، وكفّار مكّة ، وعبدة الأوثان ، وإيليس ، والشياطين ، وغيرهم ، ففيما ورد في ذلك من الآيات ماهو واف بالهداية ؛ لاشتمالها على العلوم العقلية ، والحكم البرهانية ، والآثار الإلهية ، والدلائل الوحدانية ، وشواهد ربوبية ، ومواعظ لقمانية ، هي مناهج الإيمان ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٨ : ٢٤٣.

(٢) سورة المزمل : من آية ٨.

٣٣٠

ومعارج العرفان ، كما بشّر الله أهل العقل والفهم في كتابه العزيز أيضاً بما ذكر ، فقال تعالى : ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّـهُ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ(١) ، ففيها دلالة على التفخيم ، والتعظيم ، ومدح السالكين في نهج الصواب ، والتابعين للحق في كلّ باب.

[د] ـ «ألّا لا خير في علم ليس فيه تفهُّم » : أي طلب فهم حقيقته والغرض منه ، فإنَّ الاستدلال بوجود العالم على وجود الصانع ربّما يؤثر العلم في نفس المستدل علماً ظاهرياً يشاركه فيه سائر الناس من العوام ، بخلاف ما لو تأمَّل في كلّ واحد من أجزائه الساكنة ، والمتحركة ، والعلوية ، والسفلية ، والمركَّبة ، والبسيطة ، والنامية ، وغير النامية ، وفي كيفية حركتها ونُشوِّها ، واختلاف مقادیر تلك الحركات ، ومسافتها ، واقتراناتها ، واتصالاتها إلى غير ذلك من الأحوال التي دلَّت على كمال قدرة صانعها ، كما استدل بها خلیل الرحمن ، فيحصل له على ثابت ويقين جازم ، كما حصل لهعليه‌السلام حَتَّى قال له الروح الأمين حين رُمي بالمنجنيق وكان في الهوى مائلاً إلى النار : «ألك حاجة؟ قال : أمّا إليك فلا »(٢) .

فإعراضه عنه في تلك الحالة ، وإلجاؤه إلى ربِّه ليس إلّا ؛ لأنَّه رأى كلّ من سواه محتاجاً إليه ، خاشعاً لديه ، خاضعاً بين يديه ، مقهوراً لعزَّته ، مغلوباً لقدرته ، بل لم ير موجوداً سواه وملجأً إلّا إياه ، وبالجملة : ففيه الحثّ على الاطّلاع على بواطن الأشياء التي به تتنور قلوب العارفين ، والفرق بين علماء الظاهر والباطن ، أن علماء الباطن واصلون إلى الحق ، وعلماء الظاهر طالبون لطريقه.

__________________

(١) سورة الزمر : من آية ١٧ ـ ١٨.

(٢) أمالي الصدوق : ٥٤٢.

٣٣١

[هـ] ـ «ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبُّر» : التدبُّر في القرآن هو التفكُّر فيه والاعتبار به والَّذي هو المقصد الأصلي من سيره من الله إلى هذا العالم ، وهو طورٌ وراء حضور القلب ، فإن الإنسان قَدْ لا يتفكّر في غير القرآن ولكنه يقتصر اعلى سماع القرآن من نفسه ، وهؤلاء يتدبره ، والمقصود من التلاوة التدبر ، فقال سبحانه : ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(١) ، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّـهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا(٢) ، وقال : ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا(٣) وإذا لم يكن التدبُّر إلّا بالترديد فليردِّد.

قال أبو ذر : «قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليلةً يردِّد قوله تعالى : ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(٤) ». فمن لم يتدبَّر فيه كما هو المقصود منه كان بمنزلة منافق يتكلَّم بالحقِّ ظاهراً ، وهو غافل عنه باطناً.

[و] ـ «ألا لا خير في عبادة ليس فيا تفكُّر » : كما في رواية اُخرى : لأن العرض الأصلي من العيادة هو التقرُّب إلى المعبود ، وطلب رضاه ، والوصول إليه ، والانقطاع عمَّا عداه ، ولا يتحقَّق ذلك من دون يقظة في القلب ، ولذا جاء في الخير : «تفكُّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة »(٥) .

[ز] ـ «ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها » : لا ريب في أنَّ صلاة الفقيه المستنبط لأحكامها من السُنَّة والكتاب أعلى ثواباً وأقرب تناولاً للملائكة ممَّن

__________________

(١) سورة محمّد : ٢١.

(٢) سورة النساء : ٨٢.

(٣) سورة المزمل : من آية ٤ ، والحديث في بحار الأنوار ١٦ : ٣٩٣ ح ١٦٢.

(٤) سورة المائدة : ١١٨.

(٥) رياض السالکین : ٣٧٠.

٣٣٢

لم يفقه شيئاً من أحكامها ، بل أخذها من مقلّده من باب المتابعة والتسليم ورجوع الجاهل إلى العالم ، والمراد من نفي الخير عنها قلَّة ثوابها لا عدم إجزائها.

[ح] ـ «ألا لا خير في نُسُكٍ لا ورع فيه » : المراد هنا بالنسك هو مطلق العبادة ، والورع هو الكفّ عن المحرَّمات ، ومعلوم أنَّ فعل الواجب من العبادات مع التلبُّس بالمحرَّمات غير منجية لصاحبها.

٣٣٣

الحديث الخامس والعشرون

للعالم ثلاث علامات

[ ٩٢] ـ قالرحمه‌الله : عنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن علي بن معبد ، عمّن ذكره ، عن معاوية بن وهب ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : «كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول : يا طالب العلم ، إنَّ للعالم ثلاث علامات : العلم ، والحلم ، والصمت ، وللمتكلّف ثلاث علامات : ينازع من فوقه بالمعصية ، ويظلم من دونه بالغلبة ، ويظاهر الظلمة»(١) .

أقول : مرجع الضمير كما تقدم.

[حال علي بن معبد]

وعلي بن معبد : مجهول الحال(٢) ، والحديث مرسل.

وأمّا شرح المتن :

[أ] ـ «إنَّ للعالم » : المراد به العالم الكامل والراسخ في العلم ، أعني العم الربَّاني الَّذي يليق الاقتداء بأفعاله والاقتباس من مشكاة أقواله.

[ب] ـ «ثلاث علامات » : يُعرف هو بها : «العلم والحلم والصمت » : والمراد من الأول آثاره ، أعني العمل على طبق العلم ، وكذالك المراد بالثاني ، أعني سكون الأعضاء وعدم حرکتها بسهولة نحو الانتقام.

__________________

(١) معالم الدين : ٢١ ، الكافي ١ : ٣٧ ح ٧.

(٢) شرح اُصول الكافي ٢ : ٧٩ ، وقال عنه التفرشي في نقد الرجال ٣ : ٣٠٢ رقم ٣٧٠٦ / ٢٣٦ ما نصّه : (علي بن معيد ، روى عنه موسی بن جعفر كتابه ، (رجال النجاشي). له کتاب ، روی عنه إبراهيم بن هاشم ، (الفهرست)).

٣٣٤

وفي الحديث : «الزم الصمت تسلم »(١) ، أي : من آفات اللّسان والمعاصي ، وهي كثيرة(٢) ؛ ولذا عدّهعليه‌السلام من علامات العالم ، فإنَّ ملازمته له دليل على وفور علمه ، ومعرفته ، وصدقه.

[ج] ـ «وللمتكلّف » : والمراد به من يدّعي مثل ذلك تكلّفاً ، وليس له من تحصيل العلم إلا الرسم وتشهير الاسم ، وغرضه الأصلي ليس إلا الجدل والمراء ، والاستطالة على أشياهه من أشباه العلماء ، أو التوصيل إلى حطام الدنيا بالخبّ والختل ، والسعي في جلبها بجميع الوجوه والحيل ، وكفى خزياً وذلاً تشبيهه في کلام الملك العلّام تارة بالكلب ، واُخرى بالحمار الَّذي يحمل الأسفار ، ذلك هو الخزي الشنيع ، والذلُّ الفظيع.

[د] ـ «ينازع من فوقه » : من أهل العلم الَّذي يجب عليه الإطاعة والانقياد له ، فكلّما تكلَّم هذا العالم الربَّاني الفوقاني بما فيه نشر للدين القويم ، وسلوك الصراط المستقيم ، ودفعاً للشبهات المظلمة ، تعرّضه المتكلّف بالمزخرفات.

[هـ] ـ «ويظلم من دونه » : في العلم والمعرفة بالغلبة ؛ لقوة ذهنه فيما اكتسبه من الباطل وضعف من دونه ، فلا يتمكّن من التخلُّص عنه.

[و] ـ «ويظاهر الظلمة » : أي يعينهم على الظلم ، ويمدحهم على ما هم عليه من العقائد الفاسدة ، والسِّير المبغوضة ؛ طلباً لرفعة المنزلة عندهم ، والتفوُّق على الضعفاء بسببهم ، وتحصيل المال بواسطتهم ، كما هو شأن غير واحد من أبناء عصرنا منّ الله تعالى على عباده بفنائه.

__________________

(١) بحار الأنوار ٦٨ : ٢٨٠ ح ٢٤.

(٢) مجمع البحرين ٢ : ٦٣٣.

٣٣٥

الحديث السادس والعشرون

إن العلم ذوفضائل

[ ٩٣] ـ قالرحمه‌الله : عنه ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن نوح بن شعيب النيسابوري ، عن عبيد الله بن عبد الله الدهقان ، عن درست بن أبي منصور ، عن عروة بن أخي شعيب العقرقوفي ، عن شعيب ، عن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول : «كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول : يا طالب العلم ، إنَّ العلم ذو فضائل كثيرة : فرأسه التواضع ، وعينه البراءة من الحسد ، واُذنه الفهم ، ولسانه الصدق ، وحفظه الفحص ، وقلبه حُسن النيَّة ، وعقله معرفة الأشياء والأُمور ، ويده الرحمة ، ورجله زيارة العلماء ، وهمَّته السلامة ، وحكمته الورع ، ومستقرُّه النجاة ، وقائده العافية ، ومركبه الوفاء ، وسلاحه لين الكلمة ، وسيفه الرضا ، وقوسه المداراة ، وجيشه محاورة العلماء ، وماله الأدب ، وذخيرته اجتناب الذنوب ، وزاده المعروف ، ومأواه الموادعة ، ودليله الهدی ، ورفيقه محبَّة الأخيار»(١) .

أقول : واستيعاب المرام في موضعين :

الموضع الأول

في رجال السند : مرجع الضمير كما تقدم.

[ترجمة نوح بن شعيب]

نوح بن شعيب : البغدادي(٢) من أصحاب أبي جعفر محمّد بن علي الثانيعليه‌السلام (٣) ، ذكر الفضل بن شاذان أنه : (كان فقيهاً ، عالماً ، صالحاً ، مرضياً ، ويظهر

__________________

(١) معالم الدين : ٢١ ، الكافي ١ : ٤٨ ح ٢.

(٢) يظهر من صاحب جامع الرواة أنه هو النيسابوري أيضا. (منه).

(٣) خلاصة الأقوال : ٢٨٤ رقم ١.

٣٣٦

من رجال الكَشِّي والشيخ أنَّ نوح بن صالح ونوح بن شعيب البغدادي واحد )(١) . وذكر الفضل بن شاذان في حق ابن صالح ما يشهد بأنه من شيعة أهل البيتعليهم‌السلام وكان فقيهاً(٢) ، وبالجملة فلا ريب في كون الرجل ممدوحاً بما يقرب من الوثوق ، وصرّح بممدوحيته العلّامة المجلسي في (الوجيزة) وصاحب (بُلغة المحدثین)(٣) .

[ترجمة عبيد الله الدهقان]

والدهقان : ضعيف ، كما صرّح به النجاشي والمجلسي أيضاً(٤) .

قيل : الدهقان ، اسم أعجمي مركب من (ده) و (قان) ومعناه : سلطان القرية ؛ لأن (ده) اسم للقرية ، و (قان) اسم للسلطان(٥) .

[ترجمة درست]

وأمّا درست ـ ومعناه صحيح ـ : ذكره النجاشي في (الفهرست)(٦) ، وذكر له في رجاله دليلاً على كونه من الشيعة الإمامية ، كما يدل عليه وضع هذا الكتاب ، فإنَّه في فهرست كتب الأصحاب ومصنّفاتهم ، دون غيرهم من الفرق ، وكذلك (الفهرست) للشيخ ، فكلّ من ذكر له ترجمة في الكتابين ، فهو صحيح المذهب

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٨٣٢ رقم ١٠٥٦ ، رجال الطوسي : ٢٧٩ رقم ٥٦١٩ / ١ ، التحرير الطاووسي : ٥٧٧ رقم ٤٣٢.

(٢) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٨٣٢ رقم ١٠٥٦ ، خلاصة الأقوال : ٢٨٤ رقم ١ و ٢.

(٣) الوجيزة في الرجال : ١٩٠ رقم ٢٠٢٢ ، بلغة المحدثین : ٤٢٧.

(٤) رجال النجاشي : ٢٣١ رقم ٦١٤ ، الوجيزة في الرجال : ١١٤ رقم ١١٦٥.

(٥) مجمع البحرين ٢ : ٦٤.

(٦) رجال النجاشي : ١٦٢ رقم ٤٣٠.

٣٣٧

ممدوح بمدحٍ عام يقتضيه الوضع ؛ لذكر المصنِّفين العلماء والاعتناء بشأنهم وشان کتبهم ، وذكر الطريق إليهم ، وذكر من روى عنهم ومن رووا عنه.

ومن ذلك يُعلم أنَّ إطلاق الجهالة على المذكورين في (الفهرست) للشيخ ، والنجاشي من دون توثيق أو مدح خاص ، ليس على ما ينبغي.

وكذا الكلام فيمن ذكره الشيخ الجليل ابن شهر آشوب السَّروي في كتاب (معالم العلماء) ، ومن ذكره الشيخ علي بن عبيد الله بن بابویه في فهرسته ، وهذا ممَّا ينبغي أن يلحظ ، فقد غفل أكثرهم عنه(١) .

وفي خصوص (دُرُست) المذكور ، فرواية ابن أبي عمير عنه إشارة إلى وثاقته أيضاً(٢) ، فلا أقل من إدخال حديثه في القويّ ، وإخراجه بذلك من قسم الضعيف.

[ترجمة عروة]

وأمّا عروة : فلم أقف له على ترجمة في كتب الرجال فهو مهمل ؛ ولذا حكم العلّامة المجلسي بضعف الرواية(٣) .

وأمّا شعيب العقرقوقي ـ بالقاف ـ فهو : أبو يعقوب ابن اُخت أبي بصير يحبی بن القاسم ، عين ، ثقة ، كما صرّح به النجاشي في (الفهرست) والعلّامة في (الخلاصة) وصاحب (المشتركات)(٤) .

__________________

(١) الفوائد الرجالية ٤ : ١١٤ فائدة ١٠.

(٢) ينظر : خاتمة المستدرك ١: ٤٣.

(٣) ينظر : معجم رجال الحديث ١٢ : ٥١ رقم ٧٦٧٥.

(٤) رجال النجاشي : ١٩٦ رقم ٥٢٠ ، خلاصة الأقوال : ١٦٧ رقم ١ ، هداية المحدثین : ٧٩.

٣٣٨

وأمّا أبو بصير : فهو كنية جماعة ، وعند الإطلاق ينصرف إلى الثقة كما هو المعروف في أمثاله ، وهو عبد الله بن محمّد الأسدي الثقة(١) .

الموضع الثاني

فيما يتعلَّق بشرح المتن :

[أ] ـ «ذو فضائل كثيرة » : ببَّههم على أن العلم إذا لم يكن معه هذه الفضائل التي بها تظهر آثاره ، فهو ليس بعلم حقيقة ولا يُعدُّ صاحبه عالماً ، فشبّه العلم بإنسان له حواس ظاهرة وباطنة لزيادة الإيضاح والتقرير.

[ب] ـ «فرأسه التواضع » : شبّه التواضع بالرأس ؛ إذ كما أنَّ الإنسان ينتفي بانتفاء رأسه ؛ لكونه جزءه المقوّم له ، فكذلك التواضع إذا انتفى من صاحب العلم انتفى منه العلم ، والجهل مع التواضع خير من العلم مع الكبر ، وقد عرفت معنی التواضع وخواصه.

[في ذم الحسد]

[ج] ـ «وعينه البراءة من الحسد » : البراءة من الحسد شبيهة بالعين ، ووجه الشبه بينهما أن كلاً منهما آلة للإدراك ، فالعين الجارحة آلة لإدراك المحسوسات ، وعدم الحسد آلة لإدراك المعقولات ، فإنَّ من لا حسد فيه يستعلم المجهولات من الَّذين يعلمونها بخلاف الحاسد ، فإنه لبغضه من يعلم لا يستعلم منه ما لا يعلم تحقيراً بعلمه وإيذاناً منه بأن ذلك غير قابل للتعليم وليس من الفضائل التي ينبغي اكتسابها ، ومع ذلك يُخفي ما حصله من العلوم عن غيره ،

__________________

(١) ينظر : هداية المحدثین : ٢٠٦ ، ٢٧٢.

٣٣٩

فهو بذلك غير مشاهد لغيره ما هو حاصل له من العلوم محروم من الزيادة عليه ، وفي هذه الفقرة دلالة على ذمِّ الحسد كما في الكافي بإسناده عن محمّد بن مسلم ، قال : قال أبو جعفرعليه‌السلام : «إنَّ الرجل ليأتي بأيِّ بادرة فيكفر ، وإنَّ الحسد ليأكل الإيمان ، كما تأكل النار الحطب »(١) .

وفيه أيضاً باسناده عن السكوني ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كاد الفقر أن يكون كفراً ، وكاد الحسد أن يغلب القدر »(٢) .

وفيه أيضاً باسناده عن معاوية بن وهب ، قال : قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «آفة الدين الحسد ، والعُجب ، والفخر »(٣) .

وفيه أيضاً عن داود الرقي ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :قال الله عزَّ وجلَّ لموسی بن عمران عليه‌السلام : يا بن عمران ، لا تحسدنَّ الناس على ما آتيتهم (٤) من فضلي ، ولا تمدَنَّ عينيك إلى ذلك ولا تتبعه نفسَك ، فإنَّ الحاسد ساخط لِنِعَمي ، صادّ لقسمي الَّذي قسمت بين عبادي ، ومن يك كذلك فلست منه وليس مني »(٥) .

وفيه أيضاً باسناده عن الفضيل بن عياض ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : «إنَّ المؤمن يغبط ولا يحسد ، والمنافق يحسد ولا يغبط »(٦) .

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٠٦ ح ١.

(٢) الكافي ٢ : ٣٠٧ ح ٤.

(٣) الكافي ٢ : ٣٠٧ ح ٥.

(٤) في الأصل : (ما رزقتهم) وما أثبتناء من المصدر.

(٥) الكافي ٢ : ٣٠٧ ح ٦.

(٦) الكافي ٢ : ٣٠٧ ح ٦.

٣٤٠

قال ابن الأثير : (الحسدُ أن يرى الرجل لأخيه نعمة ، فيتمنَّى أن تزول عنه ، وتكون له دونه.

والغبط : أن يتمنَّى أن يكون له مثلها ، ولا يتمنَّى زوالها عنه) ، انتهى(١) .

قلت : أمّا الأول فحرام مطلقاً كما هو المنقول عن المشهور ، أو إظهاره كما يظهر من بعض الأخبار ، ففي مرفوعة النَّهدي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام المروية في آخر أبواب الكفر والإيمان من اُصول الكافي ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وُضع عن اُمَّتي تسع خصال : الخطأ ، والنسيان ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطُرّوا إليه ، وما استُكرِهوا عليه ، والطَيَرة ، والوسوسة في التفكُّر في الخلق ، ابوالحسن ما لم يظهر بلسان أو يد »(٢) .

وروي : «ثلاث لا يسلم منها أحد : الطَيَرة ، والحسد ، والظن. قيل : فما نصنع؟ قال : إذا تطيرت فامضِ ، وإذا حسدت فلا تبغِ ، وإذا ظننت فلا تحقّق »(٣) .

والبغي عبارة عن استعمال الحسد ؛ ولذا عَدَّ في الدروس من الكبائر ـ في باب الشهادات ـ بغضَ المؤمن وإظهار الحسد ، لا نفسَه(٤) .

وبالجملة : ففي كثير من أخبار الحسد إشارة إلى ذلك ولعله الأظهر ، فإنَّ العقاب على حالة الحسد التي هي من القهريات مناف لقواعد العدل ، وإن دلَّت حلى خبث سريرة الحاسد ، وعلى كل حال فيستثنى من ذلك نعمة أصابها فاجر أو کافر ، وهو يستعين بها على تهييج الفتنة ، وإفساد ذات البين ، وإيذاء الخلق ، فلا

__________________

(١) النهاية في تقريب الحديث ١ : ٣٨٣.

(٢) الكافي ٢ : ٤٦٣ ح ٢.

(٣) الفائق في غريب الحديت ٢ : ٣١٢.

(٤) الدروس ٢ : ١٢٦.

٣٤١

يضرّ کراهتك لها ، ومحبَّتك لزوالها ، فإنَّك لا تحبُّ زوالها من حيث إنَّها نعمة ، بل من حيث إنَّها آلة الفساد ، ولو أمنت فساده لم يغمَّك تنعُّمه(١) .

ثُمَّ إن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب ، ولا تداوي أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل ، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقاً أنَّ الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين ، وأنه لا ضرر به على المحسود في الدين والدنيا ، بل يستقع به في الدين والدنيا ، ومهما عرفت هذا عن بصيرة ، ولم تكن عدوَّ نفسك وصديق عدوَّك ، فارقت الحسد لا محالة.

أمّا كونه ضرراً عليك في الدين ، فهو أنَّك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى ، وكرهت نعمته التي قسّمها لعباده ، وعدله الَّذي أقامه في ملکه بخفي حكمته ، واستنكرت ذلك واستبشعته ، وهذه جناية على حدقة التوحيد ، وقذى في عين الإيمان(٢) .

وأمّا كونه ضرراً عليك في الدنيا ، فهو أنه تتألم بحسدك وتتعذّب به ، ولا تزال في كدر وغمّ بما تراه في عدوك من نعمة أو بليَّة منصرفة عنه ، فتبقى محزوناً متشعِّب القلب ، ضیِّق النفس ، كما تشتهيه لعدوِّك ، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «لله در الحسد ، حيث بدأ بصاحبه فقتله ».

وأمّا أنه ينتفع المحسود في الدين والدنيا فواضح ، أمّا الأول فهو أنه مظلوم من جهتك ولا سيّما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة ، والقدح فيه ، وهتك الستر ، وذكر المساوئ ، فتكون بذلك مهدياً إليه حسناتك حَتَّى تلقاه يوم

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٣٨ في معنى الحسد.

(٢) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٤١ في معنى الحسد.

٣٤٢

القيامة وأنت مفلس مخروم من النعمة كما حُرّمت في الدنيا ، فأضفت له نعمة إلى نعمته ، ولنفسك شقاوة إلى شقاوتها(١) .

وإمّا الثاني : فهو أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء ، وغمُّهم ، وشقاوتهم ، وکونهم معذَّبين مغمومين ، ولا عذاب أعظم ممَّا أنت فيه من ألم الحسد ، وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة ، وأن تكون في غمٍّ وحسرة(٢) .

ومن نوابغ الحكم : (الحسد حسكٌ من تعلَّق به هلك )(٣) .

ولبعضهم ، شعر :

اصبر على حسد الحسود

فإنَّ صبرَكَ قاتِلُهْ

كالنارِ تأكلُ بعضَها

إنْ لمْ تَجِدْ ما تأكُلُهْ(٤)

وقال آخر :

أيا حاسداً لي على نعمتي

أتدري على مَنْ أسأتَ الأدَبْ

أسأتَ على اللهِ في حُكْمِهِ

لأنَّك لم تَرْضَ لي ما وَهَبْ

فجازاك ربِّي بأنْ زادني

وسدَّ عليكَ وُجوهَ الطَّلب(٥)

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٤١ وما بعدها في معنى الحسد.

(٢) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٤٢ في معنى الحسد.

(٣) الدر المختار ١ : ٢٤ ، والحسك : جمع حسكة ، شوكة صلبة معروفة.

(٤) نسب الشعر لابن المعتز كما في تفسير الآلوسي ٣٠ : ٢٨٤ والكنى والألقاب ١ : ٤٠٩ ، ونسبه الباعوني في جواهر المطالب ٢ : ١٢٦ لأمير المؤمنينعليه‌السلام .

(٥) الشعر ورد باختلاف ونسب لمنصور الفقيه كما في تفسير الثعلبي ٣ : ٣٣٠ وتفسير القرطبي ٥ : ٢٥١ ، وللمعافى بن زكريا الجريري كما في تاريخ بغداد ١٣ : ٢٣١ ووفيات الأعيان ٥ : ٢٢٢.

٣٤٣

وحكى صاحب الطرائف : (أن رجلاً من العرب دخل على المعتصم ، فقرّبه وأدناه وجعله نديمه ، وصار يدخل على حريمه من غير استئذان ، وكان له وزير حاسد فغار من البدوي وحسده وقال في نفسه : إن لم أحتل على هذا البدوي في قتله أخذ بقلب أمير المؤمنين وأبعدني منه.

فصار يتلطّف بالبدوي حَتَّى أتى به إلى منزله ، فطبخ له طعاماً ، وأكثر فيه من الثوم ، فلمَّا أكل البدوي منه ، قال : احذر أن تقرب من أمير المؤمنين ، فيشمّ منك رائحة الثوم ، فيتأذى من ذلك ، فإنه يكره رائحته.

ثُمَّ ذهب الوزير إلى أمير المؤمنين ، فخلا به وقال : يا أمير المؤمنين ، إن البدوي يقول عنك للناس : إن أمير المؤمنين أبخر ، وهلكت من رائحة فمه.

فلمَّا دخل البدوي على أمير المؤمنين جعل كمّه على فمه ؛ مخافة أن يُشمَ منه رائحة الثوم ، فلمَّا رآه أمير المؤمنين وهو يستر فمه بكمه ، قال : إن الَّذي قاله الوزير عن هذا البدوي صحيح! فكتب أمير المؤمنين كتاباً إلى بعض عماله يقول له فيه : إذا وصل إليك كتابي هذا ، فاضرب رقبة حامله.

ثُمَّ دعا بالبدوي ودفع إليه الكتاب ، وقال له : امض به إلى فلان وايتني بالجواب ، فامتثل البدوي ما رسم به أمير المؤمنين وأخذ الكتاب وخرج به من عنده ، فبينما هو بالباب إذ لقيه الوزير فقال : أين تريد؟

فقال : أتوجَّه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان. فقال الوزير في نفسه : إنَّ هذا البدوي يحصل له من هذا التقليد مالاً جزيلاً.

فقال له : يا بدوي ما تقول فیمن يريحك من هذا التعب الَّذي يلحقك في سفرك ويعطيك ألفي دينار؟

فقال : أنت الكبير وأنت الحاكم ، مهما رأيته من الرأي أقبل(١) .

__________________

(١) في المصدر : (أفعل).

٣٤٤

قال : أعطني الكتاب ، فدفعه إليه ، فأعطاء الوزير ألفي دينار ، وسار بالكتاب إلى المكان الَّذي هو قاصده ، فلمَّا قرأ العامل الكتاب أمر بضرب رقبة الوزير ، فبعد أيام تذكّر الخليفة في أمر البدوي وسأل عن الوزير ، واُخبر بأن له أياماً ما ظهر ، وأن البدوي بالمدينة مقيم ، فتعجَّب من ذلك وأمر بإحضار البدوي ، فحضر فسأله عن حاله ، فأخبره بالقصة التي اتفقت له مع الوزير من أولها إلى آخرها ، فقال له : أنت قلت عني للناس : إنّي أبخر.

فقال : معاذ الله يا أمير المؤمنين أن أتحدث بما ليس به علم ، وإنما كان ذلك مكرً منه وحسداً ، وأعلمه كيف دخل إلى بيته أطعمه الثوم وما جرى له معه.

فقال أمير المؤمنين : قاتل الله الحسد ما أعدله ؛ بدأ بصاحبه فقتله ، ثُمَّ خلع على البدوي واتّخذه وزيراً ، وراح الوزير بحسده)(١) .

وأمّا الثاني : أعني عنوان الغبطة ـ فلا بأس به ـ بل هو راجع ، وهو مثل من وجد درجة من الكمال يسأل الله تعالى ويطلب منه التوفيق لما فوقها.

[د] ـ «واُذنه الفهم » : فإن من خوطب بما لا يفهم كمن خوطب بما لا يسمع ، فالعلم بلا فهم كالإنسن بلا اُذن.

[هـ] ـ «ولسانه الصدق » : فإنَّ من أعظم فوائد اللّسان انتفاع الناس بمنطقه ، وإذا لم يكن صادق اللهجة فلا يُعتمد على قوله ، ولا يُعتمد بشيءٍ من منطقه ؛ فيكون كمن لا لسان له.

وفي الكافي بإسناده عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : «إنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يبعث نبياً إلّا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر »(٢) .

__________________

(١) المستطرف في كل فن مستظرف : ٢٩٥.

(٢) الكافي ٢ : ١٠٤ ح ١.

٣٤٥

وبإسناده عنهعليه‌السلام أيضاً ، قال : «إنَّما سُمّي إسماعيل صادق الوعد ؛ لأنه وعد رجلاً في مكان ، فانتظره في ذلك المكان سنة ، فسمّاه الله عزَّ وجلَّ صادق الوعد »

ثُمَّ قال : «إن الرجل أثاه بعد ذلك فقال له إسماعيل : مازلت منتظراً لك »(١) .

وفيه أيضاً بإسناده عن زياد الصيقل ، قال : قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «من صدق لسانه زکی عمله ، ومن حسنت نيَّته زيد في رزقه ، ومن حَسًن برّه بأهل بيته مُدَّ له في عمره »(٢) .

وفيه من الدلالة على رفعة درجة الصادقين عند الله عزَّ وجلَّ ما لا يخفی ، وقال الله تعالى : ﴿هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ(٣) ، وقال تعالى : ﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ(٤) فمدحهم وبيّن لهم المغفرة والأجر العظيم.

وعن طريق العامة ، عن عائشة قالت : سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بِمَ يعرف المؤمن؟ قال : «بوقاره ، ولين کلامه ، وصدق حديثه »(٥) .

قيل : (لكلّ شيء حلية ، وحلية النطق الصدق )(٦) .

قال ارسطو طاليس : (أحسن الكلام ما صدق فيه قائله ، وانتفع به سامعه )(٧) .

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٠٥ ح ٧.

(٢) الكافي ٢ : ١٠٥ ح ١١.

(٣) سورة المائدة : من آية ١١٩.

(٤) سورة الأحزاب : من آية ٣٥.

(٥) الاستذکار ٨ : ٥٧٤.

(٦) لم أهتد إلى مصدر هذا القول.

(٧) لم أهتد إلى مصدر هذا القول.

٣٤٦

وقال عامر العدواني في وصيَّته : (إنّي وجدت صدق الحديث طرفاً من الغيب ، فاصدقوا )(١) .

يعني : من لزم الصدق وعوّده لسانه وُفّق فلا يكاد ينطق بشيء يظنه إلا جاء على ظنَّه ، وما أحسن ما قيل في ذلك :

عليكَ بالصدقِ ولو أنَّه

أحرقَكَ الصّدقُ بنار الوعيدْ

وابغِ رضا المولى فأغبى الورى

مَنْ أسخَطَ المولى وأرضى العَبيدْ(٢)

وقال فضيل : (ما من مضغة أحبّ إلى الله تعالى من اللّسان إذا كان صدوقاً ، ولا مضغة أبغض إلى الله تعالى من اللّسان إذا كان كذوباً )(٣) .

[و] ـ «وحفظه الفحص » : يعني البحث والتفتيش ؛ إذ بذلك يحفظ من الضِّياع والنسيان.

[ز] ـ «وقلبه حسن النيَّة » : فكما أنَّ الرجل إذا كان صحيح القلب تصحُّ معه حركاته وسائرُ جوارحه وأعضائه ، وتترتَّب عليها ما هو المطلوب منها ، كذلك إذا حسنت نيَّته يحسن عمله ، ويترتَّب عليه ما هو غرضه من العلم ـ أعني الحياة الأبدية ـ فالعلم العاري عن ذلك كالإنسان العاري عن القلب فلا حياة له.

[ح] ـ «وعقله معرفة الأشياء والأُمور » : فكما أن قوام الإنسان بعقله ، كذلك قوام العلم بمعرفة الأشياء والأُمور ، والمراد من الأُمور الدنيا وفناؤها ، وما يوجب الزهد فيها ، والإعراض عنها ، والتوجَّه إلى الحق.

__________________

(١) لم أهتد إلى مصدر هذا القول.

(٢) نسب للحريري كما في كشف الخفاء ١ : ٤٥.

(٣) لم أهتد إلى مصدر هذا القول.

٣٤٧

[ط] ـ «ويده الرحمة » : فكما أنَّ اليد الجارحة وسيلة إلى إيصال النعمة التي هي من الفواضل ، كذلك الرحمة من العالم على المحتاجين إليه في العلم ، فإنَّها وسيلة لإيصال النعمة التي هي من الفضائل بالنسبة إلى من يتعلَّم ، فإنَّ العلم مع عدم الرحمة بالمعنى المذكور كالَّذي لا يد له ، وقد قدَّمنا ما يناسب المقام في شرح الحديث الثالث عشر.

[ي] ـ «ورجله زيارة العلماء » : فكما أنَّ المرء يحصّلُ مآربه بسعي رجله ، فكذلك زيارة العلماء بعضهم بعضاً يوجب انتقال العلم من صدر إلى صدر.

[ك] ـ «وهمَّته السلامة » : والمراد بالسلامة إمّا سلامته من المعاصي ، أو سلامة الناس من شرّه وحكمته ـ بفتح الحاء والكاف ـ وهو المحيط من اللّجام المانعة من خروج الدابة عن لاحبِ الطريق(١) ، والتوجُّه إلى خلاف مقصده.

[ل] ـ «ومستقرُّه النجاة من الشكوك والشُّبهات » : فإنَّ العالم لا يستقر في منزله ولا يطمئنّ بعلمه إلّا إذا وصل إلى حد اليقين.

[م] ـ «وقائده العافية » : أي ما يجرُّه إلى نجاته العافية من مرض الجهل ، وسائر الأمراض النفسانية.

[ن] ـ «ومركبه الوفاء بعهد الله تعالی » : والإتيان بما أمر به ، والاجتناب عمّا نهى عنه ؛ فإنه بذلك يصل إلى مقصوده.

[س] ـ «وسلاحه لين الكلمة » : وإنَّما شبَّه لين الكلمة بالسلاح الَّذي هو آلة الدفاع ؛ لأنه يدفع بذلك عن صاحبه سَوْرَةَ المكارة.

__________________

(١) لأحب الطريق : أي واضح الطريق.

٣٤٨

[ع] ـ «وسيفه الرضا » : بالقضاء ، أو بما وقع من عدوِّه بالنسبة إليه عند ملاقاته ، فإن بذلك يندفع عنه المضرَّة العاجلة القريبة ، كما أنَّ بالسيف يُدفع العدو القريب ، رُوي في الكافي بإسناده عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : «رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله فيما أحبّ العبد أو كره ، ولا يرضى عبد عن الله فيما أحبّ أو كره ، إلا كان خيراً له فيما أحبَّ أو كره »(١) .

وفيه أيضاً بإسناده عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : «إنَّ أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عزَّ وجلَّ »(٢) .

وفيه أيضاً بإسناده عن علي بن الحسينعليه‌السلام ، قال : «الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله ، ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحبّ أو كره ، لم يقض الله عزَّ وجلَّ له فيما أحبّ أو كره إلا ما هو خير له »(٣) .

وفي قوله : «إنَّ أعلم الناس الخ » دلالة على أنَّ الرضا بالقضاء تابع للعلم والمعرفة ، وأنه قابل للشدَّة والضعف مثلهما ؛ وذلك لأنَّ الرضا مبني على العلم بأنه سبحانه قادر ، قاهر ، عدل ، حکيم ، لطيف بعباده لا يفعل بهم إلّا الأصلح ، وأنّه المدبِّر للعالم وبيده نظامه ، فكلّما كان العلم بتلك الأُمور أتمّ كان الرضا بقضائه أكمل وأعظم ، وأيضاً الرضا من ثمرات المحبَّة والمحبّة تابعة للمعرفة إذا كملت المحبّة ، فكلّما أتاه من محبوبه التذّ به ، وهذه أعلى مدارج الكمال.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٠ ح ١.

(٢) الكافي ٢ : ٦٠ ح ٢.

(٣) الكافي ٢ : ٦٠ ح ٣.

٣٤٩

[ف] ـ «وقوسه المداراة » : فإنَّ القوس آلةٌ يُدفع بها العدوُّ البعيد ، وكذلك حسنُ الخُلُق والمداراة ، فإنَّهما يَدفع بهما صاحبهما المضرَّة الآجلة والعاجلة ؛ إذ من المعلوم أن حُسنَ الخُلُق يمنع صاحبه عن المعاصي المتعلّقة بإيذاء الخلق ، کعقوق الوالدين ، وقطع الأرحام ، والإضرار بالمسلمين ، وإساءة الجار ، فلا يقع منهم إلّا المقابلة بالمثل ـ أعني دفع الضرر وكفّ الأذى عنه ـ.

ففي الكافي بإسناده عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : «ما يقدم المؤمن على الله عزَّ وجلَّ بعمل ـ بعد الفرائض ـ أحبّ إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخُلُقه »(١) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أكثر ما تلجُ به اُمَّتي الجنَّة ، تقوى الله وحُسنُ الخُلُق »(٢) .

وفي المروي بالإسناد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : «البّر وحسن الخُلق يعمِّران الديار ، ويزيدان في الأعمار »(٣) .

وبالجملة : فحسن الخُلق حالة نفسانية يتوقف حصولها على اشتباك الأخلاق النفسانية بعضها ببعض ، ومن ثُمَّ قيل : هو حسن الصورة الباطنة التي هي صورة النفس الناطقة ، كما أنَّ حسن الخُلق هو حسن الصورة الظاهرة وتناسب الأجزاء ، إلّا أنَّ الأول قَدْ يكون مكسباً كما حقَّقناه سابقاً ، ويُعرف ذلك من الشخص بمخالطة الناس بالجهل ، والتودُّد ، والصلة ، والصدق ، واللُّطف ، والمبرّة ، وحسن الصحبة ، والعشرة ، والمراعاة ، والمساواة ، والرفق ، والحلم ، والصبر ، والاحتمال لهم ، والإشفاق عليهم

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٠٠ ح ٤.

(٢) الکافي ٢ : ١٠٠ ح ٦.

(٣) الكافي ٢ : ١٠٠ ح ٨.

٣٥٠

[ص] ـ «وجيشه محاورة العلماء » : فإنَّها تقوِّي علمه وتعينه كمعاونة الجيش للسلطان ، فكما أن السلطان يحفظ ثغوره بالجيوش ، كذلك العالم يحفظ مسالك قلبه من هجمات جيش الجهل ، واستيلاء جنود الشيطان عليها بالمحاورة مع العلماء ، والمذاكرة مع الفضلاء ، فإنَّ لكلّ علم أسراراً لا يطّلع عليها من الكتب ، فيجب أخذها من العلماء ؛ ولهذا قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «خذ العلم من أفواه الرجال » ونهی عن الأخذ ممَّن أخذ علمه من الدفاتر ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يغرّنَّكم الصّحفيون » ، وأمرعليه‌السلام بالمحادثة في العلم والمباحثة ، فإنَّها تفيد التفس استعداداً تامّاً لتحصيل المطالب واستخراج المجهولات.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «تذاكروا وتلاقَوا وتحدَّثوا ، فإنَّ الحديث جلاء القلوب ، فإن القلوب لَتَرِينُ كما يَرِينُ السيف ، وجلاؤه الحديث ».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنَّ الله عزَّ وعلا يقول : تذاكُرُ العلم بين عبادي ممَّا تحيى عليه القلوب الميِّتة ، إن هم انتهوا فيه إلى أمري »(١) .

وفي آداب المتعلّمين : (لا بدّ لطالب العلم من المطارحة والمناظرة ، فينبغي أن يكون بالإنصاف ، والتأنّي ، والتأمُّل ، فيحترز عن الشغب والغضب ، فإنّ المناظرة والمذاكرة مشاورة ، إنما يكون لاستخراج الصواب ، وذلك إنَّما حصل بالتأمُّل والإنصاف ، ولا يحصل بالغضب والشغب.

وفائدة المطارحة والمناظرة أقوى من قائدة مجرد التكرار ؛ لأن فيه تكرار مع زيادة.

قيل : (مطارحة ساعة خير من تكرار شهر ) ، لكن إذا كان منصفاً سليم الطبع.

__________________

(١) أوردها العلّامة الحلي في تحرير الأحكام ١ : ٣٩ الفصل السابع.

٣٥١

وإيَّاك والمناظرة مع [متعنّت] غير مستقيم الطبع ، فإنَّ الطبيعة مسترقة ، والأخلاق متعدية ، والمجاورة مؤثّرة) ، انتهى(١) .

[ق] ـ «ومالُهُ الأدب » : لأن بالأدب يحصل له الألفة والمحبة مع معلّمه ومتعلّمه وسائر الناس ، فهو بمنزلة البضاعة له يتّجر به ، والمراد بالذخيرة ما يحرزه لوقت الحاجة ، فإن اجتناب الذنوب نافعة في يوم القيامة.

[ر] ـ «وزادُهُ المعروف » : شبَّهه بالزاد من حيث إنَّ الزاد ما يُتَّخذ للسفر الجسماني ، وبدونه يهلك المسافر ولا يصل إلى كعبة مقصوده ، فكذلك السفر إلى الله لا بدَّ له من زاد روحاني وهو المعروف ـ أعني الأعمال الموافقة لقانون الشرع ـ وضدُّه المنكر ـ أعني الأعمال الخارجة عن قانون الشريعة المحمّدية ـ ومن هنا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر واجبین عقلاً ونقلاً.

أمّا الأول ؛ فلأنَّهما لطفٌ ، وهو واجب على مقتضى قواعد العدل.

وأمّا الثاني : فكثير في الكتاب والسُّنة ؛ أمّا الكتاب كقوله تعالى : ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ(٢) .

وقوله تعالی : ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ(٣) .

وأمّا السُّنة فكقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر ، أو لَيُسَلِطَنَّ اللهُ شرارَكم على خيارِكم ، فيدعوا خيارُكم فلا يُستجاب لهم ».

__________________

(١) آداب المتعلمين : ٩٥.

(٢) سورة آل عمران : من آية ١٠٤.

(٣) سورة آل عمران : من آية ١١٠.

٣٥٢

ومن طرق أهل البيتعليهم‌السلام فيه ما يقصم الظهر ، فليقف عليه من أراده في فروع الكافي ، ووجوبهما على الكفاية في أجود القولين ؛ للآية السابقة ولأن الغرض شرعاً وقوع المعروف ، وارتفاع المنكر من غير اعتبار مباشر معيَّن ، فإذا حصلا ارتفع وهو معنى الكفائي(١) .

وذهب الشيخ في (المبسوط )(٢) ، وابن حمزة في (الوسيلة ) إلى كونهما من فروض الأعيان(٣) ، استدل عليه بالرواية السابقة ، حيث إنَّ الخطاب فيه للعموم وفيه نظر بیّن ، فإنَّ الواجب الكفائي يُخاطب به جميع المكلَّفين كالعيني ، وإنَّما يسقط عن الكل بقيام البعض ، فجاز خطاب الجميع به ، ولا شبهة على القولين في سقوط الوجوب بعد حصول المطلوب ؛ لفقد شرطه الَّذي منه إصرار العاصي ، وإنما تختلف فائدة القولين في وجوب قيام الكل به قبل حصول الغرض وإن قام به من فيه الكفاية وعدمه.

وما أبعد ما بين هذا القول وما ذهب إليه صاحب (المستند)رحمه‌الله من اختصاص ذلك بالمجتهد ، بتقريب : أنَّ أخبار الأمر بالمعروف وإنْ كانت عامَّة ، إلّا أنَّها مختصّة بمثل خبر مسعدة بن صدقة : «سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأُمَّة جميعاً؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ، فقيل له : ولم؟ فقال : إنَّما هو على القويّ المطاع ، العالم بالمعروف من المنكر ، لا على الضعيف الَّذي لا يهتدي سبيلا إلى أن قالعليه‌السلام : والدليل على ذلك كتاب الله عزَّ وجلَّ :

__________________

(١) الروضة البهية ٢ : ٤١٣ باب الأمر بالمعروف.

(٢) كذا والصحيح أنه قاله في النهاية.

(٣) النهاية : ٢٩٩ ، الوسيلة : ٢٠٧.

٣٥٣

﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ(١) ، فهذا خاص غير عام الحديث»(٢) .

قلت : والأقوى جواز ما عدا الحبس حسب مراتبه الأهون فالأهون ، وتخصيص أخباره بخبر مسعدة لا يستلزم ما ذكره ؛ إذ الظاهر منه جوازه بمراتبه لكلّ قوي مطاع عالم وإن لم يكن مجتهداً ، بل يمكن أن يقال بجواز الحبس لغير المجتهد أيضاً ، لكن الأحوط اختصاصه به ، نعم يجوز له الإذن لغيره ، واللّازم على المأذون الاقتصار على مقدار الإذن في الكيفية ، وعلى كل حال فلا يجب ذلك إلّا بشروط أربعة : العلم بأن ما يأمر به معروفاً وما ينهى عنه منكراً ، وأن يجوز تأثير الإنكار ، وأن لا يظهر من الفاعل أمارة الإقلاع ، وأن لا يترتَّب على أحدهما مفسدة. ولو توقَّف على الضرب جاز قطعاً ، وسيأتي ما يدل عليه من کلام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولو افتقر إلى الجرح والقتل لم يجز قطعاً إلا بإذن الإمام أو نائبه الخاص أو العام.

[ش] ـ«ومأواهُ المُوادعة» : لهذه الدنيا الفانية وعدم الركون إليها.

[ت] ـ«ودليله الهدی» : كما أنَّ للإنسان المسافر في عالم الجسم دليلاً يدلّه ولولاه لتاه في البيداء ، ونكب عن الطريق فضلّ عن مقصوده ، كذلك للعلم دليل يهدي صاحبة إلى كعبة مقصوده ، وهو هدى الله تعالى بسبب الأنبياء والأوصياء ، ولا بد للمسافر من رفيق حَتَّى قيل : الرفيق ثُمَّ الطريق ، ورفيق العلم محبَّة الأخيار.

__________________

(١) سورة آل عمران : آیة ١٠٤.

(٢) الكافي ٥ : ٥٩ ح ١٦ ، مستند الشيعة ١٧ : ١٧٩.

٣٥٤

الحديث السابع والعشرون

من تعلم العلم وعمل به

[٩٤] ـ قالرحمه‌الله : عنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن حفص بن غياث ، قال : قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :«من تعلَّم العلم ، وعمل به ، وعلّم لله ، دُعي في ملكوت السموات عظيماً ، فقيل : تعلّمَ لله ، وعَمِلَ لله ، وعلَمَ لله» (١) .

أقول : مرجع الضمير كما تقدّم ، وقد تقدّم شرح كلّ واحد من رجال السند ، فالكلام في شرح المتن :

[أ] ـ الدعاء هنا بمعنى : التسمية ـ أي سُمِّي عظيماً ـ قال في (النهاية) : (دعوته زيداً إذا سمَّيته)(٢) .

[ب] ـ والمراد بملكوت السماء ملكها ، والفاء في (فقيل) للتفصيل والتفسير مثل قوله تعالى : ﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ(٣) ، وبقية فقرات الحديث واضحة لا تحتاج إلى بيان.

[في فضيلة الفقه ومنزلته]

[٩٥] ـ قالرحمه‌الله : «فصل : ولمّا ثبت أنَّ كمال العلم إنَّما هو بالعمل ، تبيّن أنه ليس في العلوم ـ بعد المعرفة ـ أشرف من علم الفقه ؛ لأن مدخليته في العمل أقوى ممَّا سواه ؛ إذ به تعرف أوامر الله فتُمتثل، ونواهيه فتُجتنب ؛ ولأنَّ معلوماته ـ أعني :

__________________

(١) معالم الدين : ٢ ، الكافي ١ : ٣٥ ح ٦.

(٢) النهاية في غريب الحديث ٢ : ١٢١.

(٣) سورة هود : من آية ٤٥.

٣٥٥

أحكام الله تعالى ـ أشرف المعلومات بعد ما ذكر. ومع ذلك فهو الناظم لأُمور المعاش ، وبه يتمُّ كمال نوع الإنسان»(١) .

أقول : المستفاد من عبارة المصنِّفرحمه‌الله تفضيل علم الكلام على علم الفقه ، وهو كذلك عقلاً ونقلاً ، ولا ينافيه جعل العبادة غاية للخلق في قوله تعالى : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(٢) ؛ إذ لو لم يفسّر بالمعرفة نصّاً أو جمعاً لقلنا : إنَّ العبادة حقّها امتثال المعبود على وجه يليق بما يطلب من الطرق ، لا ما يفعل كيف ما اتَّفق ، وهذا لا يحصل إلا بالمعرفة ، وأن الشرف الذاتي للعلم إنَّما هو بالنظر إلى ضدَّه ـ أعني : الجهل ـ وأمّا تقدم بعضه على بعض في الشرف ، إنَّما يعرض له بالنظر إلى الغير لا بالذات كتقدُّم موضوعه ؛ لأنَّ العلم بحال ما هو أشرف ، أشرف معنى من العلم بحال ما ليس كذلك ، وموضوع علم الكلام هو ذات الباري تعالی ، ولا شكَّ أنَّه أشرف الموجودات ؛ فلذلك كانت له المرتبة الأولى من الشرافة بالنسبة إلى علم الفقه ، وهو أشرف العلوم من بعده.

قال جدّي في الدرة :

وأنَّ علمَ الفقهِ في العلومِ

كالقَمَرِ البازغِ في النُّجوم

بِنورِهِ مِنْ بَعدِ شَمسِ المَعرِفَةْ

معالِمُ الدينِ عدَتْ مُنْكَشِفَةْ(٣)

__________________

(١) معالم الدين : ٢٢.

(٢) الذاريات : ٥٦.

(٣) الدرة النجفية : ٢.

٣٥٦

والمراد بقولهرحمه‌الله :«شمس المعرفة» : معرفة الله تعالی حسب ما ينبغي ، وسائر اُصول الدين والمذهب ممَّا هو مذكور في الكلام ، وحاصل ما استدل به المصنِّفرحمه‌الله على تقدم الفقه على بقية العلوم الإلهية وجوه :

الأول : إن كلّ علم يتبعه عمل ، فكمال ذلك العلم بترتب ذلك العمل عليه ، وحيث إن علم الفقه به تُعرف أوامر الله تعالی ونواهيه ، وبه يعرف أن مخالفتهما توجب العذاب الأليم والوصول إلى الجحيم ، فلا يرتكبه العاقل ، بخلاف سائر العلوم ؛ فإنَّ تخلُّفَ العمل عنها يوجب فوات ما هو الغاية لها من زوال الحياة في الطب مثلاً ، وحفظ اللّسان عن الخطأ في النحو ، وهكذا ، فعلمُ الفقه أقوى في ترتُّب ما هو من شرائط کماله عليه ، وما كان كذلك يكون أشرف ممَّا ليس كذلك.

الثاني : إنَّ معلومات هذا العلم أشرف من معلومات سائر العلوم بعد علم الكلام ، فإنَّها عبارة عن أحكام الحلال والحرام التي هي نوام ي س الشارع المقدّس.

الثالث : إنه الناظم لأُمور المعاش ؛ وذلك لأن كمال الإنسان إمّا بجلب نفعٍ أو بدفع ضرر ، والأول إمّا عاجل أو آجل ، فجلب النافع العاجل : المعاملات ، والأطعمة والأشربة ، والنكاح ، وجلب النافع الآجل : بالعبادات ، ودفع الضرر بالقصاص وما شابهه.

٣٥٧

الحديث الثامن والعشرون

تحديد العلم الحقيقي

[ ٩ ٦] ـ قالرحمه‌الله : وقد روينا بطرقنا ، عن محمّد بن یعقوب ، عن محمّد بن الحسن وعلي بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن عيسى ، عن عبيد الله بن عباد الله الدِّهقان ، عن درست الواسطي ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبي الحسن موسیعليه‌السلام ، قال : «دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المسجد فإذا جماعة قَدْ أطافوا برجل ، فقال : ما هذا؟ فقيل : علّامة.

فقال : وما العلّامة؟ فقالوا له : أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها ، وأيام الجاهلية ، والأشعار العربية.

قال : فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ذاك علم لا يضرّ من جهله ، ولا ينفع من علمه.

ثُمَّ قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنَّما العلم ثلاثة : آيةٌ مُحكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سُنَّةٌ قائمة ، وما خلاهن فهو فضل»(١) .

أقول : واستيعاب المرام في موضعين :

الموضع الأول

في أحوال رجال السند :

[الترجمة إبراهيم الأنماطي]

إبراهيم : هو ابن عبد الحميد الأسدي الكوفي الأنماطي ، أخو محمّد بن عبد الله بن زرارة لأُمّه(٢) ، الثقة كما صرّح بذلك الشيخ في (الفهرست)(٣) ، ولرواية

__________________

(١) معالم الدين : ٢٢ ، الكافي ١ : ٣٢ ح ١.

(٢) رجال النجاشي : ٢٠ رقم ٢٧.

(٣) الفهرست للطوسي : ٤٠ رقم ١٢ / ١٢.

٣٥٨

الأجلّاء عنه ، وهو مرمي بالوقف ولا يضرّ بوثاقته(١) ؛ ولذا صرّح بوثاقته غير واحد من أهل الفن(٢) ، كابن شهر آشوب(٣) ، والعلّامة والمجلسي ، وصاحب (البُلغَة)(٤) .

الموضع الثاني

في ما يتعلق بشرح المتن :

[أ] ـ«فقال ما هذا» : (ما) للاستفهام وطلب التصوُّر ، وهو على قسمين :

الأول : أن يكون المطلوب بها شرح الاسم ، وهو مقابل التعريف الحقيقي الَّذي هو القسم الثاني المنقسم على أربعة أقسام كما سنذكره ، وحينئذ فالجواب بلفظ دلالته على المطلوب أظهر وأشهر كقولهم : (سعدانة نبت)(٥) ؛ إذ المقصود منه شرح الاسم وإيضاحه ، يعني : تفسیر مدلول اللفظ بما يعيّن مسمَّاه من بین المعاني المخزونة في الخاطر ، وليس فيه تحصیل مجهول من معلوم.

الثاني : أن يكون المطلوب بها بيان ماهيّة الشيء وحقيقته ، سواء أكان ذلك الشيء ذاتاً مثل : (ما الإنسان) ، أم وصفاً مثل : (ما العلم) ، أم مركَّباً منهما مثل : (ما الإنسان العالم) ، وحينئذ فالجواب إمّا بالفصل القريب والجنس القريب ، كقولك :

__________________

(١) خاتمة المستدرك ٤ : ١٩ وفيه تعداد الرواة عنه.

(٢) قال الشيخ الحر العاملي في وسائل الشيعة (ط ـ الإسلامية) ٢٠ : ١٢٠ عنه ما نصّه : (إبراهيم بن عبد الحميد ، ثقة ، له أصل يرويه ابن أبي عمير وصفوان ، وله كتاب النوادر قاله الشيخ وذكره في رجال الصادق والكاظم والرضاعليهم‌السلام وقال : إنه واقفي ، وقال النجاشي : له کتاب يرويه عنه ابن أبي عمير ، ونقل الكَشِّي الوقف عن نصر بن الصباح ، وعن الفضل بن شاذان : أنه صالح ، والعلّامة نقل الجميع ، ولا يخفى ضعف الوقف وعدم ثبوته ، وقد وثّقه ابن شهر آشوب ولم يذكر الوقف).

(٣) المذكور في معالم العلماء : ٤١ رقم ٥ وفي خلاصة الأقوال : ٣١٤ رقم ٦ هو إبراهيم بن صالح الأنماطي الأسدي ، فالخلط في الاشتراك واضح لأولي الألباب.

(٤) الوجيزة في الرجال : ١٤ رقم ٣٠ ، بلغة المحدثین : ٣٢٣.

(٥) سعدانة : نبات ذو شوك يُضرب به المثل في طيبه ، وجمعه السعدان.

٣٥٩

(حيوان ناطق) في جواب (ما الإنسان) ، وإمّا بالفصل القريب والجنس البعيد ، كقولك : (جسم ناطق) في جواب (ما الإنسان) ويُسمَّى الأول : حدّاً تاماً ، والثاني : حدّاً ناقصاً , وإمّا بالخاصة مع الجنس القريب ، كقولك : (حیوان کاتب) أو (ضاحك) في جواب (ما الإنسان) وإمّا بالخاصة مع الجنس البعيد ، كقولك : (جسمٌ نامٍ کاتب) أو (ضاحك) في جواب (ما الإنسان) ، ويسمى الأول : رسماً تامّاً ، والثاني : ناقصاً ، وهذه الأقسام الأربعة مقابل القسم الأول ، فاغتنم.

والظاهر أن المراد هنا هو القسم الثاني الَّذي هو من قسم التعريف الحقيقي ، لأنَّ المقصود هو السؤال عن حقيقة ذلك المتَّصف بالوصف ، الباعث لاجتماع الخلق عليه

[ج] ـ«فقيل : علّامة» : أي هو رجل موصوف بكثرة العلم ، والتاء فيه للمبالغة في وصف العلم ، بناءً على أنَّ كثرة الشيء فرع تحقُّق أصله ، كما أنَّ التأنيث فرع التذكير.

[د] ـ«بأنساب العرب» : هو علم تُعرف به أنساب الناس ، وقواعده الكلّية والجزئية وفائدته الاحتراز عن الخطأ في نسب الإنسان ، وهو علم مشهور طويل الَّذيل ، وقد صنّفوا فيه كتباً كثيرة ، وأحسن من كتب في هذا الفن هو الاهم النسابة هشام بن محمّد بن السائب الكلبي المتوفى سنة ٢٠٤ هـ ، بل هو الَّذي فتح هذا الباب ، وضبط علم الأنساب.

[م] ـ«ذاك علم لا يضرّ من جهله» : أرادصلى‌الله‌عليه‌وآله التنبيه على أن العلم الحقيقي هو الَّذي يضرّ جهله في الآخرة ، وينفع اقتناؤه في يوم المعاد ، ويُعد الجهل به نقصاً في نظر العلماء ، لا الَّذي يستحسنه العوام ويكون مصيدة للحطام.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513