الإمام الصادق عليه السلام الجزء ١

الإمام الصادق عليه السلام14%

الإمام الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 268

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 268 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 7213 / تحميل: 1559
الحجم الحجم الحجم
الإمام الصادق عليه السلام

الإمام الصادق عليه السلام الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

فمن جعل هذه القوى فيها إلاّ من خلقها للمنفعة ، ومن فطن الناس بها إلاّ من جعل هذا فيها.

إلى أن يقول : واعلم أنه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين ، وربّما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم ، فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته ، فلو فطن طالبو الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان وغالوا بها.

ـ ٤ ـ

ثمّ أن المفضّل بكّر إليه في اليوم الرابع ، فقال له الصادقعليه السلام : يا مفضّل قد شرحت لك من الأدلّة على الخلق والشواهد على صواب التدبير والعمد في الانسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك ما فيه عبرة لمن اعتبر ، وأنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها أناس من الجهّال ذريعة إلى جحود الخالق والخلق والعمد والتدبير ، وما انكرت المعطّلة والمانويّة من المكاره والمصائب ، وما أنكروه من الموت والفناء ، وما قاله أصحاب الطبائع ، ومن زعم أن كون الأشياء بالعرض والاتفاق ليتّسع ذلك القول في الردّ عليهم ، قاتلهم الله أنّى يؤفكون.

اتّخذ أناس من الجهّال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء واليرقان والبرد والجراد ذريعة الى جحود الخلق والتدبير والخالق ، فيقال في جواب ذلك : إنه إن لم يكن خالق ومدبّر فلم لا يكون ما هو اكثر من هذا وأفظع؟ فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض وتهوى الأرض فتذهب سفلا ، وتتخلّف الشمس عن الطلوع أصلا ، وتجفّ الأنهار والعيون حتّى لا يوجد ماء

١٦١

للشفة ، وتركد الريح حتّى تحمّ الأشياء وتفسد ، ويفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها.

ثمّ هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه ذلك ما بالها لا تدوم وتمتدّ حتّى تجتاح كلّ ما في العالم بل تحدث في الأحايين ثمّ لا تلبث أن ترفع؟ أفلا ترى أن العالم يصان ويحفظ من تلك الأحداث الجليلة ، التي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره ، ويلدغ أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم ، ثمّ لا تدوم هذه الآفات بل تكشف عنهم عند القنوط منهم ، فيكون وقوعها بهم موعظة ، وكشفها عنهم رحمة؟ وقد أنكرت المعطّلة ما انكرت المانويّة من المكاره والمصائب التي تصيب الناس فكلاهما يقول إن كان للعالم خالق رءوف رحيم فلم يحدث فيه هذه الامور المكروهة؟ والقائل بهذا القول يذهب به الى أنه ينبغي أن يكون عيش الانسان في هذه الدنيا صافيا من كلّ كدر ، ولو كان هكذا كان الانسان يخرج من الأشرّ والعتوّ الى ما لا يصلح في دين ودنيا ، كالذي ترى كثيرا من المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن يخرجون إليه ، حتّى أن أحدهم ينسى أنه بشر أو أنه مربوب أو أن ضررا يمسّه أو أن مكروها ينزل به أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا أو يواسي فقيرا أو يرثي لمبتلى أو يتحنّن على ضعيف أو يتعطّف على مكروب ، فاذا عضّته المكاره ووجد مضضها اتّعظ وأبصر كثيرا ممّا كان جهله وغفل عنه ، ورجع الى كثير ممّا كان يجب عليه ، والمنكرون لهذه الأدوية المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمّون الأدوية المرّة البشعة ، ويتسخّطون من المنع من الأطعمة الضارّة ويتكرّهون الأدب والعمل ، ويحبّون أن يتفرغوا للهو والبطالة وينالوا كلّ مطعم ومشرب ، ولا يعرفون ما تؤدّيهم إليه البطالة من سوء النشو والعادة ، وما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارّة من الأدواء والأسقام ، وما لهم في الأدب من الصلاح ،

١٦٢

وفي الأدوية من المنفعة ، وإن شاب ذلك بعض المكاره.

أقول : وعلى هذا ومثله مثّل الصادقعليه السلام أقوال اولئك الملحدين في شأن الآفات وأجاب عنها بنير البرهان ، الى أن انتهى في البيان إلى ذات الخالق تعالى في شبه الملحدين ، فقال : وأنه

كيف يكلّف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به.

فيقول في الجواب : إنما كلّف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ، ولم يكلّفوا الإحاطة بصفته ، كما أن الملك لا يكلّف رعيّته أن يعلموا أطويل هو أم قصير ، أبيض هو أم أسمر وإنما يكلّفهم الإذعان بسلطانه والانتهاء الى أمره ، ألا ترى أن رجلا لو أتى الى باب الملك فقال : اعرض عليّ نفسك حتّى أتقصّى معرفتك وإلاّ لم أسمع لك ، كان قد أحلّ نفسه العقوبة ، فكذا القائل أنه لا يقرّ بالخالق سبحانه حتّى يحيط بكنهه متعرّض لسخطه.

أقول : وعلى مثل هذا البديع من البيان ، والساطع من البرهان ، أتمّ الصادقعليه السلام دروسه التي ألقاها على المفضّل بن عمر ، فقال في آخر كلامه : يا مفضّل خذ ما أتيتك وكن من الشاكرين ، ولآلائه من الحامدين ، ولأوليائه من المطيعين ، فقد شرحت لك من الأدلّة على الخلق والشواهد على صواب التدبير والعمد قليلا من كثير وجزء من كلّ ، فتدبّره وفكّر فيه واعتبر به.

يقول المفضّل : فانصرفت من عند مولاي بما لم ينصرف أحد بمثله(١) .

__________________

(١) طبع هذا التوحيد المعروف بتوحيد المفضّل عدّة مرّات ورواه في بحار الأنوار ٢٠ / ١٧ ـ ٤٧ وكانت الطبعات كلّها غير خالية من الغلط المطبعي ، فكان النقل عنه بعد التدبّر والتطبيق ، وأصحّها طبعا ما طبع

١٦٣

أقول : حقيق بأن يغتنم أرباب المعارف جلائل هذه الحكم كما اغتنمها المفضّل ، فقد أوضح فيها أبو عبد الله من حكم الأسرار وأسرار الحكم ما خفي على الكثير علمه وصعب على الناس فهمه.

وهذه الدروس كما دلّتنا على الحكيم في صنائعه تعالى أرشدتنا الى إحاطتهعليه السلام بفلسفة الخلقة ، بل تراه في هذه الدروس فيلسوفا إلهيّا ، وعالما كلاميا ، وطبيبا نطاسيّا ، ومحلّلا كيمياويّا ، ومشرّحا فنّيّا ، وفنّانا في الزراعة والغرس ، وعالما بما بين السماء والأرض من مخلوقاته ، وقادرا على التعبير عن أسرار الحكم في ذلك الخلق.

الإهليلجة :

سميّ هذا التوحيد بالاهليلجة لأن الصادقعليه السلام كان مناظرا فيه لطبيب هندي في إهليلجة كانت بيد الطبيب ، وذلك أن المفضّل بن عمر كتب الى الصادقعليه السلام يخبره أن أقواما ظهروا من أهل هذه الملّة يجحدون الربوبيّة ويجادلون على ذلك ، ويسأله أن يردّ عليهم قولهم ويحتجّ عليهم فيما ادّعوا بحسب ما احتجّ به على غيرهم.

فكتب إليه الصادق فيما كتب : وقد وافاني كتابك ورسمت لك كتابا كنت نازعت فيه بعض أهل الأديان من أهل الإنكار ، وذلك أنه كان يحضرني طبيب من بلاد الهند ، وكان لا يزال ينازعني في رأيه ويجادلني عن ضلالته ، فبينا هو يوما يدقّ إهليلجة ليخلطها دواء احتجت إليه من أدويته إذ عرض له شيء

__________________

في المطبعة الحيدريّة في عام ١٣٦٩ ه‍. والشواهد على نسبة هذا التوحيد الى الصادقعليه السلام كثيرة ليس هذا محلّ ذكرها

١٦٤

من كلامه الذي لم يزل ينازعني فيه ، من ادّعائه أن الدنيا لم تزل ولا تزال شجرة تنبت واخرى تسقط ، ونفس تولد وأخرى تتلف ، وزعم أن انتحالي المعرفة لله دعوى لا بيّنة عليها ولا حجّة لي فيها ، وأن ذلك أمر أخذه الآخر عن الأول والأصغر عن الأكبر ، وأن الأشياء المختلفة والمؤتلفة والباطنة والظاهرة إنما تعرف بالحواسّ الخمس : النظر والسمع والشمّ والذوق واللمس ، ثمّ قاد منطقه على الأصل الذي وضعه ، فقال : لم يقع شيء من حواسّي على خالق يؤدّي الى قلبي إنكار الله تعالى.

ثمّ قال : أخبرنى بم تحتجّ في معرفة ربّك الذي تصف قدرته وربوبيّته وإنما يعرف القلب الأشياء كلّها بالدلالات التي وصفت لك؟

قلت : بالعقل الذي في قلبي ، والدليل الذي أحتجّ في معرفته ، قال : فأنّى يكون ما تقول وأنت تعرف أن القلب لا يعرف شيئا بغير الحواس ، فهل عاينت ربّك ببصر ، أو سمعت صوته بإذن ، أو شممته بنسيم ، أو ذقته بفم ، أو مسسته بيد ، فأدّى ذلك المعرفة الى قلبك؟

قلت : أرأيت اذا أنكرت الله وجحدته لأنك زعمت أنك لا تحسّه بحواسك التي تعرف بها الأشياء وأقررت أنا به هل بدّ من أن يكون أحدنا صادقا ، والآخر كاذبا ، قال : لا ، قلت : أرأيت إن كان القول قولك ، فهل تخاف عليّ شيء ممّا اخوّفك به من عقاب الله ، قال : لا ، قلت : أفرأيت إن كان كما أقول والحقّ في يدي ، ألست قد أخذت فيما كنت أحاذر من عقاب الله بالثقة ، وإنك قد وقعت بجحودك وإنكارك في الهلكة ، قال : بلى ، قلت : فأيّنا أولى بالحزم وأقرب من النجاة ، قال : أنت ، إلاّ أنك من أمرك على ادّعاء وشبهة وأنا على يقين وثقة ، لأني لا أرى حواسّي الخمس أدركته ، وما لم تدركه حواسّي فليس عندي بموجود ، قلت : إنه لمّا عجزت حواسّك عن إدراك الله أنكرته ، وأنا لمّا

١٦٥

عجزت حواسّي عن إدراك الله صدّقت به ، قال : وكيف ذلك؟ قلت : لأن كلّ شيء جرى فيه أثر التركيب لجسم أو وقع عليه بصر للون(١) فما أدركته الأبصار ونالته الحواس فهو غير الله سبحانه لأنه لا يشبه الخلق ولا يشبهه الخلق ، وأن هذا الخلق ينتقل بتغيير وزوال ، وكلّ شيء أشبه التغيير والزوال فهو مثله ، وليس المخلوق كالخالق ، ولا المحدث كالمحدث(٢) .

ثمّ أن الصادقعليه السلام قال : قلت له : أخبرنى هل أحطت بالجهات كلّها وبلغت منتهاها؟ قال : لا ، قلت : فهل رقيت الى السماء التي ترى ، أو انحدرت الى الأرض السفلى فجلت في أقطارها؟ أو هل خضت في غمرات البحور واخترقت نواحي الهواء فيما فوق السماء أو تحتها إلى الأرض وما أسفل منها ، فوجدت ذلك خلاء من مدبّر حكيم عالم بصير؟ قال : لا ، قلت : فما يدرك لعلّ الذي انكره قلبك هو في بعض ما لم تدركه حواسّك ولم يحط به علمك ، قال : لا أدري لعلّ في بعض ما ذكرت مدبّرا وما أدري لعلّه ليس في شيء من ذلك شيء.

أقول : ربّما يتوهّم بأن في كلام الصادق هذا إشعارا بالتجسيم لأنه جوّز أن يكون في جهة معيّنة وهو من شئون الجسم ، ولكن ذلك كان منه إنكارا على الطبيب الذي يريد أن يستدلّ على عدم الوجود بعد الوجدان ، وإنما أراد الصادق أن يكذّب دعواه بعدم الوجدان فيورد عليه احتمال وجوده في جهة لم يصل إليها الطبيب ، وأن احتمال وجوده في جهة كاف في ردّ دعواه بعدم الوجدان ، وهذا من باب الإلزام للخصم وإبطال حجّته لا من باب إثبات وجوده في جهة ، وقد

__________________

(١) اللام في لجسم وللون لام الابتداء المفتوحة وجسم ولون خبر أن

(٢) الأول اسم مفعول وهو بفتح الدال والثاني بكسره وهو اسم فاعل

١٦٦

سبق من كلامه إنكار إدراكه بالحواس ، والمثبت في جهة خاصّة مدرك بالحواس.

ثمّ قال الصادقعليه السلام : قلت : أما إذ خرجت من حدّ الإنكار الى منزلة الشكّ فإني أرجو أن تخرج الى المعرفة ، قال : فإنما دخل عليّ الشكّ لسؤالك إيّاي عمّا لم يحط به علمي ، ولكن من أين يدخل عليّ اليقين بما لم تدركه حواسّي؟ قلت : من قبل إهليلجتك هذه ، قال : ذاك إذن أثبت للحجّة ، لأنها من آداب الطبّ الذي اذعن بمعرفته.

ثمّ أن الصادقعليه السلام صار يلقي عليه الأسئلة عمّا يخصّ الاهليلجة من كيفيّة صنعتها ، ومن وجود أمثالها في الدنيا ، والطبيب يراوغ في الجواب حذرا من الالتزام بالصنعة الدالّة على الصانع ، الى أن ألزمه بما لا يجد محيصا من الاعتراف به وهو أنها خرجت من شجرة.

ثمّ قال الصادق : أرأيت الاهليلجة قبل أن تعقد ، إذ هي في قمعها ماء بغير نواة ولا لحم ولا قشر ولا لون ولا طعم ولا شدّة ، قال : نعم ، قال الصادقعليه السلام : قلت له : أرأيت لو لم يرقق الخالق ذلك الماء الضعيف الذي هو مثل الخردلة في القلّة والذلّة ولم يقوّه بقوّته ويصوّره بحكمته ويقدّره بقدرته ، هل كان ذلك الماء يزيد على أن يكون في قمعه غير مجموع بجسم ولا قمع ولا تفصيل ، فإن زاد زاد ماء متراكبا غير مصوّر ولا مخطّط ولا مدبّر بزيادة أجزاء ولا تأليف أطباق.

قال : أريتني من تصوير شجرتها وتأليف خلقتها وحمل ثمرتها وزيادة أجزائها وتفصيل تركيبها أوضح الدلالات وأظهر البيّنات على معرفة الصانع ، ولقد صدقت بأن الأشياء مصنوعة ، ولكني لا أدري لعلّ الاهليلجة والأشياء صنعت نفسها.

١٦٧

ثمّ أن الصادقعليه السلام أثبت له أنها مصنوعة لغيرها ، لسبقها بالعدم ولأن صنعتها تدلّ على أن صانعها حكيم عالم ، الى غير ذلك من البراهين.

ثمّ ما زال الصادق يسايره في الكلام ، ومحور الكلام الاهليلجة ، إلى أن أرغمه الدليل على الاعتراف بالصانع الواحد ، بعد أن صار كلامهما إلى النجوم والمنجّمين.

ثمّ صار الصادق يدلي عليه بالبيان عن تلك العلامات على ذلك الصانع الواحد ، والدلالات على ذلك الحكيم القدير والعالم البصير ، من مصنوعاته من السماء والأرض والشجر والنبات والأنعام وغيرها وكيفيّة دلالتها عليه.

ثمّ أخذ في بيان صفاته من اللطف والعلم والقوّة والسمع والبصر والرأفة والرحمة والإرادة(١) .

أقول : وما حداني على الاشارة الى مواضع هذه الرسالة دون إيرادها إلاّ رعاية الإيجاز ، على أن هذه الرسالة جمعت فنونا من العلم الى قوّة الحجّة وجودة البيان ، وما كان محور المناظرة فيها إلاّ اهليلجة ، وهي من أضعف المصنوعات ، وأصغرها جرما وشأنا.

موجز براهينه على الوجود والوحدانيّة :

تعرف المواهب الغزيرة من المقدرة في البيان ، فبينا تجده يطنب في الدليل كما في توحيد المفضل وغيره إذ تراه يأتي بأوجز بيان في البرهان مع الوفاء بالقصد ، وذلك حين يسأل عن الدليل على الخالق فيقولعليه السلام : ما بالناس من حاجة(٢) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ٣ / ١٥٢ ـ ١٧٠

(٢) تحف العقول

١٦٨

أقول : ما أوجزها كلمة ، واكبرها حجّة ، فإنّا نجد الناس في حاجة مستمرّة في كلّ شأن من شئون الحياة ، وهذه الحاجة تدلّ على وجود مآل لهم في حوائجهم غنيّ عنهم بذاته ، وأن ذلك المآل واحد ، إلاّ لاختلف السير والنظام.

ويسأله مرّة هشام بن الحكم بقوله : ما الدليل على أن الله تعالى واحد؟

فيقولعليه السلام : اتّصال التدبير ، وتمام الصنع(١) .

أقول : إن كلّ واحدة من هاتين الكلمتين تصلح لأن تكون دليلا برأسه ، وذلك لأن اتّصال التدبير شاهد على وحدانيّة المدبّر ، إذ لو كان اثنين أو اكثر لكان الخلاف بينهما سببا لحدوث فترة أو تضارب ، فلا يكون التدبير متّصلا ، والتقدير دائما ، كما أن تمام الصنعة في الخلقة دائما شاهد آخر على الوحدانيّة ، لأن استمرار الاتفاق في الاثنين مع التكافؤ في كلّ شأن لا يكون أبدا ، كما نشاهده في الذين يديرون دولاب البلاد ، فإن حصل اختلاف ولو برهة فسد المخلوق ، فأين تمام الصنع؟ فالتمام دليل الوحدة أيضا.

ويسأله أبو شاكر الديصاني بقوله : ما الدليل على أن لك صانعا؟ فيقولعليه السلام : وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين إمّا اكون صنعتها أنا أو صنعها غيري ، فإن كنت صنعتها فلا أخلو من إحدى معنيين ، إمّا أن أكون صنعتها وكانت موجودة فقد استغنت بوجودها عن صنعتها ، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئا ، فقد ثبت المعنى الثالث أن لي صانعا وهو ربّ العالمين ، فقام وما أحار جوابا(٢) .

وسأل الصادق مرّة ابن أبي العوجاء فقال له : أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟

__________________

(١) توحيد الصدوق : باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ص ٢٤٣

(٢) التوحيد : باب أنه عزّ وجل لا يعرف إلاّ به

١٦٩

فقال له ابن أبي العوجاء : أنا غير مصنوع ، فقال له الصادقعليه السلام : فصف لي لو كنت مصنوعا كيف كنت تكون؟ فبقي مليّا لا يحير جوابا وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول : طويل عريض عميق قصير متحرّك ساكن ، كلّ ذلك من صفة خلقه ، فقال له الصادقعليه السلام : فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الامور ، فقال ابن أبي العوجاء : سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك ، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها(١) .

أقول : إن إثبات هذه العوارض على الانسان لكونه مصنوعا ظاهر ، لأن طوله بعد القصر واختلافه في العمق والعرض آنا بعد آخر ، وسكونه مرّة وحركته اخرى أحداث دلّت على وجوده بعد العدم ومصنوعيّته بعد أن لم يكن ، ولا بدّ للمصنوع من صانع وللمخلوق من خالق.

نفي التجسيم :

لعلّ شبهة التجسيم جاءت من قبل بعض الزنادقة فدخلت في بعض معتقدات أهل الآراء والمذاهب من المسلمين ، الذين يجمدون في الدين على الظواهر ، فإن أهل الزندقة لمّا خابوا في الدعوة الى التعطيل والإلحاد أفلحوا في دسّ هذه الشبهة ، لأنّا نجد الكلام عنها كثيرا في ذلك العصر ، ونقرأ الكثير عنها في الأسئلة التي توجّه الى الإمام ، فمن ذلك قوله في الجواب عن هذه الشبهة : إن الجسم محدود متناه ، والصورة محدودة متناهية ، فاذا احتمل الحدّ احتمل الزيادة والنقصان ، واذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقا.

__________________

(١) توحيد الصدوق : باب إثبات حدوث العالم

١٧٠

قال السائل : فما أقول؟ قالعليه السلام : لا جسم ولا صورة وهو مجسّم الأجسام ، ومصوّر الصور ، لم يتجزّأ ولم يتناه ، ولم يتزايد ولم يتناقص ، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق ، ولا بين المنشئ والمنشأ ، لكن هو المنشئ فرّق بين جسمه وصوره وأنشأه ، إذ لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا(١) .

أقول : كاد أن يسيل هذا البيان رقّة ولطفا مع قوّة الحجّة ومتانة التركيب وقد أغنى بوضوحه عن ايضاحه.

وقال مرّة اخرى : فمن زعم أن الله في شيء أو على شيء أو يحول من شيء الى شيء أو يخلو منه شيء أو يشتغل به شيء فقد وصفه بصفة المخلوقين والله خالق كلّ شيء لا يقاس بالقياس ، ولا يشبّه بالناس ، لا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان ، قريب في بعده بعيد في قربه ، ذلك الله ربّنا لا إله غيره(٢) .

أقول : ما أبدع هذا الوصف منهعليه السلام ، وما أدقّ معنى قوله « قريب في بعده بعيد في قربه » ويحتاج إدراكه الى لطف قريحة وفطرة ثانية.

وما اكثر ما جاء عنهعليه السلام في هذا المعنى ونجتزي عنه بهذا القدر. وممّا يجب أن يعلم أن نفي الجسم والصورة عنه ـ تقدّست ذاته ـ ممّا يقتضيه حكم العقل ، وقد استوفت البيان عنه كتب الكلام ، وأن النبي وأهل بيته: جميعا أجمعوا على هذا التنزيه إرشادا الى حكم العقل ، وما اكثر ما جاء عن سيّد الرسلص من البيان عن هذا التنزيه ، ومن التأويل لما جاء ظاهرا في التجسيم من التنزيل ، أمثال قوله تعالى : « على العرش

__________________

(١) الكافي : باب النهي عن الجسم والصورة ، وتوحيد الصدوق : باب أنه ليس بجسم ولا صورة

(٢) بحار الأنوار : ٣ / ٢٨٧ / ٢

١٧١

استوى » وقوله « يد الله فوق أيديهم » وقوله : « فثمّ وجه الله » وغيرها ، ولو لا أن نخرج عن الصدد لوافيناك ببعض كلامه ، بيد أننا نذكر كلمة واحدة فحسب وهو ما يروى عن ابن عباس ، قال : قدم يهودي على رسول اللهص يقال له نعثل فقال : يا محمّد إني أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين ، فإن أنت أجبتني عنها أسلمت على يدك ، قال : سل يا أبا عمارة ، فقال : يا محمّد صف لي ربّك ، فقالص : إن الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه ، وكيف يوصف الخالق الذي تعجز الحواسّ أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحدّه ، والأبصار عن الاحاطة به جلّ عمّا يصفه الواصفون ، نأى في قربه ، وقرب في نأيه ، كيّف الكيفيّة فلا يقال له كيف ، وأيّن الأين فلا يقال له أين ، فهو الأحد الصمد ، كما وصف نفسه ، والواصفون لا يبلغون نعته ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

قال : صدقت يا محمّد ، أخبرني عن قولك : أنه واحد لا شبيه له ، أليس الله واحدا والانسان واحدا ، فوحدانيّته أشبهت وحدانيّة الانسان ، فقالص : الله واحد واحديّ المعنى ، والانسان ثنويّ المعنى ، جسم وعرض وبدن وروح ، فإنما التشبيه في المعاني لا غير ، قال : صدقت يا محمّد(١) .

أقول : فهذه الكلمة من الرسولص صريحة في تنزيهه تعالى عمّا يشابه الخليقة في الذات والصفات ، والقرآن ينادي بفصيحه في ذلك التنزيه بأمثال قوله تعالى : « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار »(٢) فليت شعري أما يكفي في تأويل هاتيك الآيات الظاهرة مثل هذه الآيات الصريحة ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ٣ / ٣٠٣ / ٤٠

(٢) الأنعام : ١٠٣

١٧٢

ومثل كلام الرسول السالف ، ومثل ما جاء عنه وعن آله في تفسير تلك الظواهر ، ومن ورائها جميعا حكم العقل بنزاهته تعالى عن مشابهة الحوادث ومجانسة الممكنات.

ولا أدري كيف نفث ذلك السحر فأعمى بعض الأبصار والبصائر ، فجعل ناسا من الأوائل يخبطون خبط عشواء في التوحيد؟

صفات الحدوث :

إن هناك صفات تستلزم الحدوث مثل المكان والزمان والكيف والحيث والحركة والانتقال ، وما سواها ، فقد يتوهّم بعضهم من ظاهر بعض الآيات هذه الصفات اللازمة للجسميّة ، فكان الصادقعليه السلام يدفع أمثال هذه التوهّمات ببالغ حجّته ، كما توهّم بعضهم أنه تعالى جسم من قوله جلّ شأنه في كتابه المجيد « ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم »(١) الآية ، فقال الصادقعليه السلام في جوابه : هو واحد واحديّ الذات بائن من خلقه ، وبذلك وصف نفسه ، وهو بكلّ شيء محيط بالإشراف والإحاطة والقدرة ، لا يعزب عنه ذرّة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر ولا اكبر ، بالاحاطة والعلم لا بالذات ، لأن الأماكن عنده محدودة تحويها حدود أربعة ، فإذا كان بالذات لزمها الحواية(٢) .

وأجابعليه السلام آخر بأوجز من هذا البيان فقال : من زعم أن الله تعالى من شيء فقد جعله محدثا ، ومن زعم أنه في شيء فقد جعله محصورا ، ومن زعم أنه

__________________

(١) المجادلة : ٧

(٢) التوحيد : باب الحركة والانتقال

١٧٣

على شيء فقد جعله محمولا(١) .

وسأله محمّد بن النعمان عن قوله تعالى : « وهو الله في السموات وفي الأرض »(٢) فقال الصادقعليه السلام : كذلك هو في كلّ مكان ، قال : بذاته؟

قالهعليه السلام : ويحك إن الأماكن أقدار فاذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك ، ولكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق علما وقدرة وإحاطة وسلطانا ، وليس علمه بما في الأرض بأقلّ ممّا في السماء ، لا يبعد منه شيء ، والأشياء له سواء علما وقدرة وسلطانا وملكا وإحاطة(٣) .

وسأله سليمان بن مهران الأعمش(٤) بقوله : هل يجوز ان تقول إن الله عزّ وجل في مكان؟ فقالعليه السلام : سبحان الله وتعالى عن ذلك أنه لو كان في مكان لكان محدثا ، لأن الكائن في مكان محتاج الى المكان ، والاحتياج من صفات المحدث لا من صفات القديم(٥) .

ويقول لأبي بصير(٦) : إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون ، بل خالق الزمان والمكان والحركة والسكون ، تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا(٧) .

وقالعليه السلام لعبد الله بن سنان(٨) : ولا يوصف بكيف ولا أين ولا

__________________

(١) التوحيد : باب الحركة والانتقال

(٢) الأنعام : ٣

(٣) بحار الأنوار : ٣ / ٣٢٣ / ٢٠

(٤) سيأتي في المشاهير من الثقات

(٥) توحيد الصدوق : باب نفي الزمان والمكان

(٦) سيأتي في ثقات المشاهير

(٧) التوحيد : باب نفي الزمان والمكان

(٨) سيأتي أيضا في المشاهير

١٧٤

حيث ، وكيف أصفه وهو الذي كيّف الكيف حتّى صار كيفا فعرفت الكيف بما كيّف لنا من الكيف ، أم كيف أصفه بأين وهو الذي أيّن الأين حتّى صار أينا فعرفت الأين بما أيّن لنا من الأين ، أم كيف أصفه بحيث وهو الذي حيّث الحيث حتّى صار حيثا فعرفت الحيث بما حيّث لنا من الحيث ، فالله تبارك وتعالى داخل في كلّ مكان ، وخارج من كلّ شي( « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ » ) (١) .

أقول : إن المراد بالكيف والأين والحيث السؤال أو الإخبار عن ذي الحيّز من الممكنات.

ولازم هذا أن يكون تعالى اذا استفسر عنه بالكيف والأين أن يكون ذا جسم أو مكان ، واذا اخبر عنه بالحيث أن يكون متحيّزا في محل ، وإذا كان كذلك فالأبصار تدركه لأن ذا الجسم المتحيّز الحال بمكان لا بدّ أن تدركه الأبصار ، والله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

وجرت بينهعليه السلام وبين ابن أبي العوجاء(٢) محاورة ، فمنها قول ابن أبي العوجاء للصادق : ذكرت الله فأحلت على غائب ، فقال أبو عبد اللهعليه السلام : ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم ويرى اشخاصهم ويعلم أسرارهم ، فقال ابن أبي العوجاء : أهو في كلّ مكان ، أليس اذا كان في السماء كيف يكون في الأرض ، واذا كان في الأرض كيف يكون في السماء ، فقال أبو عبد اللهعليه السلام : إنما وصفت المخلوق اذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان فخلا منه مكان ، فلا يدري في

__________________

(١) التوحيد : باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه

(٢) اسمه عبد الكريم ، وقد عدّه السيد المرتضى في أماليه من ملاحدة العرب المشهورين ، وقتله محمّد بن سليمان والي الكوفة من قبل المنصور على الالحاد

١٧٥

المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه ، فأمّا الله العظيم الشأن الملك الديّان فلا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان ولا يكون الى مكان(١) .

أقول : وما اكثر ما جاء عنه من أمثال هذا الكلام في تنزيه البارىء تعالى شأنه عن صفات صنائعه ، واجتزينا بما أوردناه.

لا تدركه الأبصار :

ذهب بعض أبناء الفرق الاسلاميّة الى أنه جلّ شأنه يرى بالبصر في الآخرة فقط ، أو في الدنيا والآخرة معا وما زال أهل البيت ـ لا سيّما الصادقعليه السلام ـ يبطلون هذه النسبة ويمنعون عليه تعالى الرؤية ، وسوف نورد عليك بعض الحجج من كلامه.

قال هشام : كنت عند الصادقعليه السلام إذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين(٢) فقال له معاوية بن وهب : يا ابن رسول اللهص ما تقول في الخبر الذي روي أن رسول اللهص رأى ربه ، على أي صورة رآه؟ وعن الحديث الذي رووه أن المؤمنين يرون ربّهم في الجنّة على أيّ صورة يرونه؟ فتبسّمعليه السلام ثمّ قال : يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل من نعمه ثمّ لا يعرف الله حقّ معرفته ، ثمّ قالعليه السلام : يا معاوية إن محمّداص لم ير الربّ تبارك وتعالى بمشاهدة العيان وأن الرؤية على وجهين : رؤية

__________________

(١) توحيد الصدوق : باب الحركة والانتقال

(٢) هما من أصحاب الصادقعليه السلام وأعلامهم المشهورين

١٧٦

القلب ، ورؤية البصر ، فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب ومن عنى برؤية البصر فقد كفر بالله وبآياته لقول رسول اللهص : من شبّه الله بخلقه فقد كفر ، ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن الحسين بن علي: قال : سئل أمير المؤمنينعليه السلام فقيل : يا أخا رسول اللهص هل رأيت ربّك؟ فقال : وكيف أعبد من لم أره ، لم تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان ، فإذا كان المؤمن يرى ربّه بمشاهدة البصر فإن كلّ من جاز عليه البصر والرؤية فهو مخلوق ، ولا بدّ للمخلوق من الخالق ، فقد جعلته إذن محدثا مخلوقا ، ومن شبّهه بخلقه فقد اتخذ مع الله شريكا ، ويلهم أو لم يسمعوا بقول الله تعالى « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير »(١) وقوله « لن تراني ولكن انظر الى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّا »(٢) وإنما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج من سمّ الخياط فدكدكت الأرض وصعقت الجبال فخرّ موسى صعقا ـ أي ميّتا ـ فلمّا أفاق وردّ عليه روحه قال : سبحانك تبت إليك من قول من زعم أنك ترى ورجعت الى معرفتي بك أن الأبصار لا تدركك ، وأنا أول المؤمنين وأول المقرّين بأنك ترى ولا ترى وأنت بالمنظر الأعلى.

ثمّ قالعليه السلام : إن أفضل الفرائض وأوجبها على الإنسان معرفة الربّ ، والإقرار له بالعبوديّة ، وحدّ المعرفة أن يعرف أنه لا إله غيره ، ولا شبيه له ولا نظير ، وأن يعرف أنه قديم مثبت موجود غير فقيد ، موصوف من غير شبيه ولا مبطل ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وبعده معرفة الرسول والشهادة

__________________

(١) الأنعام : ١٠٣

(٢) الأعراف : ١٤٣

١٧٧

بالنبوّة ، وأدنى معرفة الرسول الإقرار بنبوّته وأن ما أتى به من كتاب أو أمر أو نهي فذلك من الله عزّ وجلّ ، وبعده معرفة الإمام الذي تأتمّ به بنعمته وصفته واسمه ، في حال العسر واليسر ، وأدنى معرفة الإمام أنه عدل النبي إلاّ درجة النبوّة ووارثه وأن طاعته طاعة الله وطاعة رسول الله والتسليم له في كلّ أمر ، والردّ إليه والأخذ بقوله.

ثمّ أنه أورد على معاوية ذكر الأئمة وأسمائهم ، ثمّ قال : يا معاوية جعلت لك أصلا في هذا فاعمل عليه ، فلو كنت تموت على ما كنت عليه لكان حالك أسوأ الأحوال ، فلا يغرّنك قول من زعم أن الله تعالى يرى بالبصر.

ثمّ ذكر لمعاوية أعاجيب ما نسبوه من المكروه والباطل للأنبياء ولأبويه النبيّ وعليّ: جميعا.

وهذا بعض ما جاء عن الصادق في استحالة الرؤية البصريّة عليه تعالى وبما سبق غنى ، كما وأن للصادقعليه السلام كلاما في كلّ باب من أبواب التوحيد ، وفي كلّ آية من الآيات المتشابهة وما كان القصد أن نأتي بكلّ ماله من بيان في ذلك لأن بسط البحث والإتيان بكلّ شاردة وواردة له يبعدنا عن الغاية ، وبما وافيناك به كفاية.

الطبّ :

نزّل الله تعالى الكتاب تبيانا لكلّ شيء ، وقد جمع الكتاب الطبّ كما يقولون في كلمتين وهما قوله تعالى : « كلوا واشربوا ولا تسرفوا »(١) فلا غرابة إذن لو كان العلماء بما في القرآن علماء في الطبّ أيضا ، وكان ما يظهر منهم ، من

__________________

(١) الأعراف : ٣١

١٧٨

البيان عن طبائع الأشياء والأمزجة والمنافع والمضار يرشدنا الى وجود هذا العلم لديهم ، ولقد جمع بعض علماء السلف شيئا كثيرا من كلامهم في ذلك وسمّاه « طبّ الأئمة » وإخال أن الكتاب لا وجود له اليوم ، غير أن المجلسي طاب ثراه يروي عنه كثيرا في بحار الأنوار ، كما يروي عنه الحرّ العاملي في الوسائل.

وكفى دلالة على علم الصادق بالطبّ ما جاء في توحيد المفضّل من الأخبار عن الطبائع وفوائد الأدوية وما جاء فيه من معرفة الجوارح التي تكفّل بها علم التشريح ، وسيأتي ما في بعض مناظراته مع الطبيب الهندي ممّا يدلّ على ذلك ، ويسع الكاتب أن يجمع كتابا فيما ورد عنه في خواصّ الأشياء وفوائدها ، وفي علاج الأمراض والأوجاع وفي الحميّة والوقاية ، وهي متفرقة في غضون كتب الأحاديث ونحوها ، وربّما لم يكشف عنها إلاّ العلم الحديث مثل مداواة الحمّى بالماء البارد ، فإنه ذكروا له الحمّى فقالعليه السلام : « إنّا أهل بيت لا نتداوى إلا بإفاضة الماء البارد يصبّ علينا ».

ومثل وجوب غسل الفاكهة قبل الأكل ، قالعليه السلام : « إن لكلّ ثمرة سمّا فاذا أتيتم بها فأمسوها الماء واغمسوها في الماء ».

ونحن نحيلك على كتاب الأطعمة والأشربة من الوسائل : ٣ / من ٢٧٦ ـ ٣١١ لترى الشيء الكثير من ذلك.

الجفر :

الجفر في الأصل ولد الشاة اذا عظم واستكرش ، ولعلّ مبدأ هذا العلم كان يكتب على جلد ولد الشاة فسمّي به ، وعلم الجفر علم الحروف الذي تعرف به الحوادث المستقبلة ، وجاء عن الصادقعليه السلام أن عندهم الجفر وفسّره بأنه وعاء من أدم فيه علم النبيّين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل ، وجاء

١٧٩

عنهم الشيء الكثير عن الجفر الذي عندهم ، وإنّا وإن لم نعرف هذا العلم وما القصد منه إلاّ أننا نعرف من هاتيك الأحاديث التي ذكرت الجفر وأنه من مصادرهم أن هذا العلم شريف منحهم الله إيّاه ، وجاء في الكافي أحاديث كثيرة عن الجفر الذي عندهم.

وذكر بعض علماء أهل السنّة الجفر وأنه ممّا يعلمه الصادقعليه السلام ، قال الشبلنجي في نور الأبصار ص ١٣١ : وفي حياة الحيوان الكبرى فائدة ، قال ابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب : وكتاب الجفر كتبه الامام جعفر الصادق بن محمّد الباقر ، فيه كلّ ما يحتاجون الى علمه الى يوم القيامة ، والى هذا الجفر أشار أبو العلاء بقوله :

لقد عجبوا الآل البيت لمّا

أتاهم علمهم في جلد جفر

فمرآة المنجم وهي صغري

تريه كلّ عامرة وقفر

وقال في الفصول المهمّة : نقل بعض أهل العلم أن كتاب الجفر الذي بالمغرب يتوارثونه بنو عبد المؤمن بن علي من كلام جعفر الصادق ، وله فيه المنقبة السنيّة ، والدرجة التي في مقام الفضل عليه.

الكيمياء وجابر بن حيّان :

ذكر علم الصادقعليه السلام بالكيمياء كثير من المؤلّفين ، وأن تلميذه جابر بن حيّان الصوفي الطرطوسي أخذ عنه هذا العلم ، وألّف خمسمائة رسالة فيه في ألف ورقة ، وهي تتضمّن رسائل جعفر الصادقعليه السلام (١) .

وللقدماء والمتأخّرين من المستشرقين كلام كثير في شأن جابر وقد ذكره

__________________

(١) تاريخ ابن خلكان في أحوال الصادق : ١ / ١٠٥

١٨٠

ابن النديم في الفهرست ص ٤٩٨ ـ ٥٠٣ ، وأطال فيه الكلام وذكر له من الكتب والرسائل في مختلف العلوم لا سيّما الكيمياء والطبّ والفلسفة والكلام شيئا كثيرا لا يكاد يتّسع وقت الانسان في العمر الطبيعي لتأليفها ، نعم إلاّ لأفذاذ في الدهر منحوا ذكاء وفطنة مفرطين وانكبّوا على الكتابة والتأليف ، وذكر أن له تآليف على مذاهب الشيعة ومن ثمّ استظهر تشيّعه ولعلّ أخذه عن الصادق وائتمان الصادق به على هذا العلم شاهد على تشيّعه.

وذكره في الذريعة في عداد مؤلّفي الشيعة في ٢ / ٤٥١ ـ ٤٥٢ عند ذكره لكتابه ( الايضاح ) في الكيمياء.

ولو تصفّحت شيئا من رسائله التي نشرها المستشرق « كراوس » لأيقنت بتشيّعه وأخذه عن الامام الصادق ، لأنه أخذ عنه كإمام مفترض الطاعة متّبع الرأي ، ولعرفت أنه لم يأخذ عنه الكيمياء فحسب ، بل الكلام وغيره.

وقد اكبر مؤلفو الاسلام منزلة جابر وعدّوه مفخرة من مفاخر الاسلام ولا بدع فإن من تزيد مؤلّفاته على ثلاثة آلاف كتاب ورسالة في مختلف العلوم ، وجلّها من العلوم النظريّة والطبيعيّة التي تحتاج الى زمن طويل في تجاربها وتطبيقها ـ هذا عدا الفلسفة والكلام ـ لجدير بالتقدير والإكبار وأن يكون مفخرة يعتزّ به.

وقد كبر على المستشرقين أن يكون عربي مسلم ومن أهل القرن الثاني للهجرة يمتاز بتلك الآراء السديدة وتكون نظريّاته الاسس العامّة التي قام عليها علم الكيمياء قديمه وحديثه ، فصاروا يخبطون في تعرّضهم لكتبه كحاطب ليل ، فمرّة يشكّون في وجوده ، وتارة في زمانه ، واخرى فيما نسب إليه من تلك الكتب ، ورابعة في نسبة البعض ممّا يرويه عن استاذه الصادقعليه السلام ، وخامسة في التبويب والوضع والاسلوب لأنه لم يكن يعرفه أهل ذلك العصر ، الى غير ذلك ،

١٨١

وقد فنّد بعض تلك الشكوك والمزاعم الكاتب إسماعيل مظهر صاحب مجلة العصور فيما نشره في المقتطف ( ٦٨ / ٥٤٤ ـ ٥٥١ ومن ٦١٧ ـ ٦٢٥ ) وجلى في هذه الحلبة الاستاذ أحمد زكي صالح فيما كتبه في مجلة الرسالة المصريّة السنة الثامنة ( ص ١٢٠٤ ـ ١٢٠٦ ومن ١٢٣٥ ـ ١٢٣٧ ومن ١٢٦٨ ـ ١٢٧٠ ومن ١٢٩٩ ـ ١٣٠٢ ) ، ولقد فنّد تلك الأوهام والمزاعم تفنيدا حكيما علميّا.

وصرّح مرارا بتشيّعه ، وقال في مناقشة رأي الاستاذ ( كراوس ) ص ١٢٩٩ : ومن الجليّ الواضح لدى كلّ من درس علم الكلام أن فرق الشيعة كانت أنشط الفرق الاسلاميّة حركة ، وكانت أولى من أسّس المذاهب الدينيّة على اسس فلسفية ، حتّى أن البعض ينسب فلسفة خاصّة لعليّ بن أبي طالب.

وكان هذا الكلام من أحمد زكي لتصحيح ما ينسب الى جابر من المقارنة بين الآراء الكلاميّة والفلسفيّة.

وجملة القول أنه قد أصبح من الواضح تشيّع جابر وتقدّمه في عدّة علوم لا سيّما الكلام والفلسفة والطبّ والكيمياء والطبيعيّات عامّة ، وما كادت لتكون آراؤه الاسّ العامّ لدعائم علم الكيمياء إلاّ لأنه أخذ ذلك من معدنه الصحيح الامام الصادقعليه السلام .

وكنت قد جمعت عدّة مصادر عن جابر لا تبسط في ترجمته غير أني اكتفيت بهذا الوجيز عن الإطالة فيها ، فإنّا لو استقصينا الكلام على كلّ ما يقتضي التوسعة في البحث عنه لكان هذا الكتاب عدّة أجزاء ، وهو وإن كان لا يخلو من فائدة ، غير أنه يكون أبعد عن حياة الصادق الخاصّة.

سائر العلوم :

لا نعني بما ذكرناه من العلوم التي كتبنا عنها وأوضحنا أخذ الناس عن

١٨٢

الصادق فيها أن تلك جميع ما لديه ، بل إن الامام على رأي الإمامية يجب أن يكون عالما بكلّ شيء وأعلم الناس في كلّ علم وفنّ ولسان ولغة ، كما يقتضيه حكم العقل(١) ولو نظرنا الى الدليل السمعي من دون أن نثبت له الإمامة الإلهية لفهمنا منه أن في كلّ زمان عالما من العترة بالكتاب والسنّة كما هو مفاد حديث الثقلين وأن عالم الكتاب الذي نزل على الرسول تبيانا لكلّ شيء يجب أن يكون عالما بكلّ شيء ، وما دام الكتاب موجودا فالعالم به من العترة موجود الى يوم الحشر ، ولا يعدو أن يكون ذلك العالم في عهد الصادق نفسه ، إذ ليس في زمانه من هو أعلم منه في العترة ، وكفت آثاره دلالة على ذلك العلم.

فصادق أهل البيت إذن عالم أهل البيت في عصره وعالم العترة بالكتاب الجامع للعلوم والفنون ، فمن ثمّة نستغني بما سلف عن التعرّض لبقيّة العلوم والشواهد على علمه فيها ، فليس غريبا لو جاء الحديث أن الصادق كلّم الفرس بلسانهم وأهل اللغات بلغاتهم وناظر أهل كلّ علم وفنّ فخصمهم مثل علماء النجوم والفلك والطبيعيات والطبّ وما عداها ، وكلّ ذلك نطقت به الأخبار ودلّت عليه الآثار.

* * *

__________________

(١) وقد أوضحنا ذلك في رسالتنا « الشيعة والإمامة » فانظرها إن أردت التحقيق

١٨٣

كيف صار مذهبا؟

إن المذهب في عرف أهل الاسلام هو المرجع في أحكام الدين ، وهذا لا يقتضي أن يكون الصادقعليه السلام دون الأئمة الاثنى عشر مذهبا ، لأن الشيعة الإماميّة ترى أن كلّ إمام من اولئك الأئمة من عليّ أمير المؤمنين الى الغائب المنتظر يجب الأخذ بقوله والعمل برأيه ، لأن علمهم ـ كما يرون ـ علم واحد موروث من الرسولص لا يختلفون في أخذه ولا يروون عن غيره ، وعلمهم سلسلة واحدة يرثه الابن عن أبيه من دون اجتهاد فيه ولا تحريف في أخذه ونقله.

بيد أن الفرص لم تسنح لواحد منهم في إظهار ما استودعهم الرسولص وإبلاغ ما استحفظهم عليه ، كما سنحت للصادق جعفرعليه السلام فإن الذي ساعد على بثّه للمعارف ونشره للعلوم الموروثة لهم من سيّد الرسلص اجتماع عدّة امور :

١ ـ إن زمن استقلاله بالإمامة قد طال حتّى جاوز الثلاثين عاما ، ولئن كان جدّه زين العابدين وابنه موسى الكاظم وحفيده عليّ الهادي: قد شاركوه في طول الزمن ، وكانت أيام إمامتهم تجاوزت الثلاثين عاما أيضا فإنه لم يتّفق لهم ما اتّفق له ممّا يأتي.

١٨٤

٢ ـ إن أيامه كانت أيام علم وفقه ، وكلام ومناظرة ، وحديث ورواية ، وبدع وضلالة ، وآراء ومذاهب ، وهذه فرصة جديرة بأن يبدي العالم فيها علمه ، ليقمع بذلك الأضاليل والأباطيل ، ويبطل الآراء والأهواء ، ويصدع بالحقّ ، وينشر الحقيقة.

٣ ـ إنّه مرّت عليه فترة من الرفاهيّة على بني هاشم لم تمرّ على غيره من الأئمة ، فلم يتّفق له على الأكثر ما كان يحول دون آبائه وأبنائه من الجهر بمعارفهم بالتضييق عليهم ومنع الناس عنهم ومنعهم عن الناس من ملوك أيامهم.

ولم يملك من الأئمة زمام الأمر سوى أمير المؤمنينعليه السلام ، ولكن كانت أيامه على قصرها بين حرب وكفاح وبين مناهضة للبدع والضلالات فحمّلوه على السير في محجّة لا يجد مناصا من السلوك فيها ، على أنه لم تكن في أيامه ما كان في عهد الصادق من انتشار العلم بين طبقات الناس وظهور الأهواء والآراء والنحل والمذاهب.

أمّا الصادق فقد عاصر الدولتين المروانيّة والعبّاسيّة ووجد فترة لا يخشى فيها سطوة ظالم ولا وعيد جبّار ، وتلك الفترة امتزجت من اخريات دولة بني مروان واوليات دولة بني العبّاس ، لأن الأمويين وأهل الشام لمّا أجهزوا على الوليد بن يزيد وقتلوه انتقضت عليهم أطراف البلاد وتضعضعت أركان سلطانهم ، وكانت الدعوة لبني هاشم قد انتشرت في جهات البلاد فكانت تلك الامور كلّها صوارف لبني مروان عمّا عليه الصادقعليه السلام من الحياة العلميّة ، ولمّا انكفأ بهم الزمن وسالم بني العبّاس اشتغل بنو العبّاس بتطهير الأرض من أميّة وبتأسيس الدولة الجديدة ، وأنت تعلم بما يحتاجه الملك الغضّ من الزمن لتأسيسه ورسوخه ، فكان انصرافهم لبناء الملك وإحاطته شاغلا لهم برهة من

١٨٥

الزمن عن شأن الصادق في بثّه العلوم والمعارف وإن لم يتناسه السفّاح ولكن لم يجد عنده ما يخشاه ، ولمّا جاء دور المنصور وصفى الملك له ناصب العداء للصادق فكان يضيّق عليه مرّة ويتغاضى عنه اخرى.

روى العلاّمة ابن شهر اشوب(١) في كتابه المناقب في أحوال الصادق عن المفضّل بن عمر : « أن المنصور قد همّ بقتل أبي عبد اللهعليه السلام غير مرّة ، فكان اذا بعث إليه ودعاه ليقتله فاذا نظر إليه هابه ولم يقتله ، غير أنه منع الناس عنه ومنعه عن القعود للناس واستقصى عليه أشدّ الاستقصاء حتّى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه في نكاح أو طلاق أو غير ذلك ، فلا يكون علم ذلك عندهم ولا يصلون إليه فيعتزل الرجل أهله ، فشقّ ذلك على شيعته وصعب عليهم ، وحتّى ألقى الله عزّ وجل في روع المنصور أن يسأل الصادقعليه السلام ليتحفه بشيء من عنده لا يكون لأحد مثله ، فبعث إليه بمخصرة(٢) كانت للنبيص طولها ذراع ، ففرح بها فرحا شديدا وأمر أن تشقّ أربعة أرباع ، وقسّمها في أربعة مواضع ، ثمّ قال له : ما جزاؤك عندي إلاّ أن اطلق لك وتفشي علمك لشيعتك ، ولا أتعرّض لك ولا لهم فاقعد غير محتشم(٣) وافت الناس ولا تكن في بلد أنافيه ، ففشى العلم عن الصادق ، وأجاز في المنتهى ».

فلهذا وغيره قد فشى عن الصادقعليه السلام من العلوم ما لم تسمح الظروف به لسواه من الأئمة ، وهذه كتب الحديث والفقه والأخلاق والاحتجاج وغيرها من كتب المعارف والعلوم ترشدك الى ما كان منه ، وكفت كثرة رواته والرواية عنه ، ولقد كتب عن رواته جملة من المؤلّفين وذكروا أن

__________________

(١) أشرنا الى شيء من حاله في تعليقة ص ٧٨

(٢) بالكسر والسكون فالفتح ما يتوكّا عليه كالعصا ونحوها وما يأخذه الملك بيده يشير به إذا خاطب

(٣) على زنة اسم الفاعل ، أي غير هائب ومنقبض

١٨٦

عددهم أربعة آلاف أو يزيدون ، ومن المؤلّفين ابن عقدة(١) ، فإذا كانت الرواة عنه أربعة آلاف فكم كانت الرواية؟ واذا كان راو واحد يروي عنه ثلاثين ألف حديث فكم تكون رواية الباقين؟ وكم هي العلوم والمعارف التي اسندت إليه؟

وجملة القول أن الصادقعليه السلام إنما عرف بأنه مذهب تنتسب إليه الاماميّة والجعفريّة ، لما انتشر عنه من العلم وحفظ منه من الحديث حتّى أن اكثر ما في كتب الحديث الشيعيّة مرويّ عنه.

وما كانت الرواية عنه مقصورة على الشيعة بل أخذ عنه اكابر معاصريه من أهل السنّة ، ومنهم مالك وأبو حنيفة والسفيانان وأيوب وابن جريح وشعبة وغيرهم ، بل أرجع ابن أبي الحديد فقه المذاهب الأربعة إليه ، كما في شرح النهج : ( ١ / ٦ ).

وكان انتساب الشيعة إليه من عهده ، وهو القائل في وصاياه لأصحابه : فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل : هذا جعفريّ ويسرّني ذلك ، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره وقيل : هذا أدب جعفر(٢) .

وكانت هذه النسبة معروفة في ذلك العهد حتّى أن شريكا القاضي شهد

__________________

(١) هو أحمد بن محمّد بن سعيد الكوفي ، وكان زيديّا جاروديّا ، وشأنه في الجلالة والوثاقة وكثرة الحفظ معروف مشهور ، وقد حكي عنه أنه قال : أحفظ مائة وعشرين ألف حديث بأسانيدها وأذاكر بثلاثمائة ألف حديث ، وله كتب كثيرة منها كتاب أسماء الرجال الذين رووا عن الصادقعليه السلام وهم أربعة آلاف رجل ، وأخرج فيه لكلّ رجل الحديث الذي رواه ، ولم يعرف اليوم كتابه في الوجود ، مات بالكوفة عام ٢٣٣

(٢) الكافي : ٢ / ٦٣٦ / ٥

١٨٧

عنده شيعيّان وهما محمّد بن مسلم الثقة الشهير المعروف بصحبته للصادق وأبو كريبة الأزدي ، فنظر شريك في وجهيهما مليّا ثمّ قال : جعفريّان فاطميّان(١) .

فنعرف من هذا أن النسبة كانت من أيامه واستمرّت الى هذا اليوم.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤٧ / ٣٩٣ / ١١٥

١٨٨

مناظراته

لأبي عبد اللهعليه السلام الكثير من الحجج البوالغ التي أظهر فيها الحقّ وقطع فيها العذر ، نوافيك بشطر منها لأنها ناحية من نواحي حياته العلميّة المليئة بالعبر والعظات لا يستغني المسلم عن الوقوف عليها.

مناظراته في التوحيد :

سبق شيء من كلامهعليه السلام في التوحيد ، وكان في طيّه بعض المناظرات ، ونورد هاهنا شيئا منها غير ما سلف.

فمن تلك المناظرات ما يروى عن هشام بن الحكم ، قال : كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد اللهعليه السلام أشياء ، فخرج الى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها ، وقيل : إنه خارج بمكّة ، فخرج الى مكّة ونحن مع أبي عبد اللهعليه السلام فصادفنا ونحن مع أبي عبد الله في الطواف وكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد الله ، فضرب كتفه كتف أبي عبد اللهعليه السلام ، فقال له : ما اسمك؟ قال : عبد الملك ، قال : فما كنيتك؟ قال : أبو عبد الله ، فقال أبو عبد اللهعليه السلام : فمن هذا الملك الذي أنت عبده؟ أمن ملوك الأرض أم ملوك السماء؟ واخبرنى عن ابنك عبد إله السماء أم عبد إله الأرض؟ قل ما شئت

١٨٩

تخصم. فلم يحر جوابا.

ثمّ أن الصادقعليه السلام قال له : اذا فرغت من الطواف فأتنا ، فلما فرغ أبو عبد اللهعليه السلام أتاه الزنديق فقعد بين يدي أبي عبد اللهعليه السلام ونحن مجتمعون عنده ، فقال أبو عبد الله للزنديق : أتعلم أن للأرض تحتا وفوقا؟ قال :

نعم ، قال : فدخلت تحتها؟ قال : لا ، قال : فما يدريك ما تحتها؟ قال : لا أدري إلاّ أني أظن أن ليس تحتها شيء ، فقال أبو عبد اللهعليه السلام : فالظنّ عجز فلم لا تستيقن ، ثمّ قال أبو عبد اللهعليه السلام : أفصعدت الى السماء؟ قال : لا ، قال : أفتدري ما فيها؟ قال : لا ، قال : عجبا لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ، ولم تنزل الى الأرض ولم تصعد الى السماء ، ولم تجز هناك فتعرف ما خلفهنّ ، وأنت جاحد بما فيهنّ ، فهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟ قال الزنديق : ما كلّمني بها أحد غيرك.

فقال أبو عبد اللهعليه السلام : فأنت من ذلك في شكّ فلعلّه هو ولعلّه ليس هو ، فقال الزنديق : ولعلّ ذلك ، فقال أبو عبد اللهعليه السلام : أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم ، ولا حجّة للجاهل ، يا أخا أهل مصر تفهم عنّي فإنّا لا نشكّ في الله أبدا ، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان ، قد اضطرّا ليس لهما مكان إلاّ مكانهما فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان؟ وإن كانا غير مضطرّين فلم لا يصير الليل نهارا والنهار ليلا؟ اضطرّا والله يا أخا أهل مصر الى دوامهما والذي اضطرّهما أحكم منهما واكبر(١) فقال الزنديق : صدقت.

ثمّ قال أبو عبد اللهعليه السلام : يا أخا أهل مصر إن الذي تذهبون إليه

__________________

(١) أي اكبر في القوّة والقدرة وما شابه ذلك

١٩٠

وتظنّون أنه الدهر إن كان الدهر يذهب بهم فلم لا يردّهم؟ وإن كان يردّهم لم لا يذهب بهم؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر ، لم السماء مرفوعة والأرض موضوعة؟ لم لا تنحدر السماء على الأرض؟ لم لا تنحدر الأرض فوق طباقها؟

ولا يتماسكان ولا يتماسك من عليها؟ قال الزنديق : أمسكهما الله ربّهما سيّدهما.

قال : فآمن الزنديق على يدي أبي عبد اللهعليه السلام ، فقال حمران بن أعين(١) : جعلت فداك إن آمنت الزنادقة على يدك فقد آمن الكفّار على يد أبيك ، فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد اللهعليه السلام : اجعلني من تلامذتك ، فقال أبو عبد الله : يا هشام بن الحكم خذه إليك ، فعلّمه هشام ، وكان معلّم أهل الشام وأهل مصر الايمان ، وحسنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبد اللهعليه السلام (٢) .

وجاء إليه زنديق آخر وسأله عن أشياء نقتطف منها ما يلي : قال له : كيف يعبد الله الخلق ولم يروه؟ قال أبو عبد اللهعليه السلام : رأته القلوب بنور الايمان ، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان ، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ، ثمّ الرسل وآياتها ، والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته ، قال : أليس هو قادر أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين؟ قالعليه السلام : ليس للمحال جواب.

أقول : إنما الرؤية تثبت للأجسام وإذا لم يكن تعالى جسما استحالت رؤيته ، والمحال غير مقدور لا من جهة النقص في القدرة بل النقص في المقدور.

__________________

(١) سنذكره في المشاهير من ثقاته

(٢) الكافي : ١ / ٧٤

١٩١

قال الزنديق : فمن أين أثبت أنبياء ورسلا ، قالعليه السلام : إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه ، ثبت أن له سفراء في خلقه وعبادة يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أن لهم معبّرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين عنه ، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.

ثمّ قال الزنديق : من أيّ شيء خلق الأشياء؟ قالعليه السلام : من لا شيء ، فقال : كيف يجيء شيء من لا شيء؟ قالعليه السلام : إن الأشياء لا تخلو إما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء فإن كانت خلقت من شيء كان معه ، فإن ذلك الشيء قديم ، والقديم لا يكون حديثا ، ولا يتغيّر ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهرا واحدا ولونا واحدا ، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى؟ ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي انشئت منه الأشياء حيّا؟ أو من أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميّتا؟ ولا يجوز أن يكون من حيّ وميّت قديمين لم يزالا ، لأن الحيّ لا يجيء منه ميّت وهو لم يزل حيّا ، ولا يجوز أيضا أن يكون الميّت قديما لم يزل لما هو به من الموت ، لأن الميّت لا قدرة به ولا بقاء.

أقول : إن هذا الأمر على دقّته قد أوضحه الامام بأحسن بيان وردّده بين امور لا يجد العقل سواها عند الترديد ، وحقّا إن كان الشيء الذي خلقت الأشياء منه قديما لزم أن يكون مع الله تعالى شيء قديم غير مخلوق له ، ولو فرض أنه

١٩٢

مخلوق له عاد الكلام الأول أنه من أيّ شيء كان مخلوقا ، هذا غير أن القديم لا يكون حادثا ، والميّت لا يكون منه الحيّ ، والحيّ لا يكون منه الميّت ، والحياة والممات لا يتركّبان ، ولو تركّبا عاد الكلام السابق ، فإن الموت لا يصلح أن يكون في الأشياء الحيّة ، ولا بقاء ولا دوام ليكون باقيا إلى أن خلق الله منه الأشياء الحيّة ، فلا بدّ إذن من أن يكون تعالى قد خلق الأشياء من لا شيء.

ثمّ قال : من أين قالوا إن الأشياء أزليّة؟ قالعليه السلام : هذه مقالة قوم جحدوا مدبّرا الأشياء فكذّبوا الرسل ومقالتهم ، والأنبياء وما أنبئوا عنه ، وسمّوا كتبهم أساطير ، ووضعوا لأنفسهم دينا بآرائهم واستحسانهم ، وإن الأشياء تدلّ على حدوثها من دوران الفلك بما فيه وهي سبعة أفلاك ، وتحرّك الأرض ومن عليها ، وانقلاب الأزمنة ، واختلاف الحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان ، وموت وبلى ، واضطرار الأنفس الى الإقرار بأن لها صانعا ومدبّرا ، ألا ترى الحلو يصير حامضا ، والعذاب مرّا ، والجديد باليا ، وكلّ الى تغيّر وفناء(١) .

أقول : إن الاستدلال بانقلاب الأزمنة ودوران الفلك من أدقّ الأدلّة العلميّة على حدوث العالم ، الذي قصرت عنه أفهام كثير من الفلاسفة العظام كما أنه جعل الفلك الدائر فلكا واحدا ثمّ تفسيره بالأفلاك السبعة لا ينطبق إلاّ على نظرية الهيئة الحديثة إذ يراد به النظام الشمسي ، ومثله تصريحه بحركة الأرض التي لم يكن يحلم بها أحد من السابقين ، وهي من مكتشفات العلم الحديث.

وللصادقعليه السلام مناظرات جمّة مع ابن أبي العوجاء ، وكان بعضها في التوحيد ، وكان ابن أبي العوجاء واسمه عبد الكريم من الملاحدة المشهورين

__________________

(١) الاحتجاج للشيخ الطبرسي : ٣٣٦ ـ ٣٤٥

١٩٣

واعترف بدسّه الأحاديث الكاذبة في أحاديث النبيص وكفى في معرفة حاله هذه المناظرات ، وقد قتل على الإلحاد كما قتل صاحبه ابن المقفّع(١) .

فمن تلك المناظرات أنه كان يوما هو وعبد الله بن المقفّع في المسجد الحرام فقال ابن المقفّع : ترون هذا الخلق ـ وأومأ بيده الى موضع الطواف ـ ما منهم أحد أوجب له اسم الانسانيّة إلاّ ذلك الشيخ الجالس ـ يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد8 ـ وأما الباقون فرعاع وبهائم ، فقال له ابن أبي العوجاء : وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء ، فقال : لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم ، فقال ابن أبي العوجاء : لا بدّ من اختبار ما قلت فيه منه ، فقال له ابن المقفّع : لا تفعل فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك ، فقال : ليس ذا رأيك لكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إيّاه هذا المحلّ الذي وصفت ، فقال ابن المقفّع : أمّا اذا توسّمت عليّ فقم إليه وتحفّظ من الزلل ولا تثن عنانك الى استرسال فيسلمك الى عقال ، وسمة ما لك وعليك ، فقام ابن أبي العوجاء فلمّا رجع قال : ويلك يا ابن المقفّع ما هذا ببشر وإن كان في الدنيا روحاني يتجسّد اذا شاء ظاهرا ويتروّح اذا شاء باطنا فهو هذا ، فقال له : كيف ذلك؟ فقال : جلست إليه فلمّا لم يبق عنده أحد غيري ابتدأني فقال : إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون ـ يعني أهل الطواف ـ فقد سلموا وعطبتم ، وإن يكن الأمر كما تقولون ، وليس كما تقولون ، فقد استويتم

__________________

(١) قتل محمّد بن سليمان عامل الكوفة من قبل المنصور ابن أبي العوجاء وكان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري ، فانحرف عن التوحيد واعتزل حوزة الحسن البصري ، وأمّا ابن المقفّع فقد كان مجوسيّا وأسلم ظاهرا ، غير أن أعماله وأقواله لا تدلّ على إسلامه ، وكان فارسيّا ماهرا في صنعة الإنشاء والأدب ، وهو الذي عرّب كتاب كليلة ودمنة ، وقتله سفيان المهلبي أمير البصرة عام ١٤٣ بأمر المنصور

١٩٤

وهم ، فقلت : يرحمك الله وأيّ شيء نقول وأيّ شيء يقولون ، ما قولي وقولهم إلاّ واحد ، فقال : وكيف يكون قولك وقولهم واحدا ، وهم يقولون إن لهم معادا وثوابا وعقابا ، ويدينون بأن للسماء إلها وأنها عمران ، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد ، قال : فاغتنمتها منه فقلت له : ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه يدعوهم الى عبادته حتّى لا يختلف فيه اثنان؟ لم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب الى الإيمان به ، فقال لي : ويلك كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك؟ نشوّك(١) ولم تكن ، وكبرك بعد صغرك ، وقوّتك بعد ضعفك ، وضعفك بعد قوّتك ، وسقمك بعد صحتك ، وصحتك بعد سقمك ، ورضاك بعد غضبك ، وغضبك بعد رضاك ، وحزنك بعد فرحك ، وفرحك بعد حزنك ، وحبّك بعد بغضك وبغضك بعد حبّك ، وعزمك بعد إنابتك(٢) ، وإنابتك بعد عزمك ، وشهوتك بعد كراهتك ، وكراهتك بعد شهوتك ، ورغبتك بعد رهبتك ، ورهبتك بعد رغبتك ، ورجاءك بعد يأسك ، ويأسك بعد رجائك ، وخاطرك لما لم يكن في وهمك ، وغروب(٣) ما أنت معتقده عن ذهنك وما زال يعدّ(٤) عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها ، حتّى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه(٥) .

ودخل على الصادقعليه السلام يوما فقال : أليس تزعم أن الله تعالى خالق كلّ شيء؟ فقال أبو عبد اللهعليه السلام : بلى ، فقال : أنا أخلق ، فقال له :

__________________

(١) نشأك في نسخة

(٢) الإنابة : الرجوع ، وفي نسخة : إبائك ، وفي نسخة اخرى : إناءتك وهي الإبطاء

(٣) وفي نسخة عزوب

(٤) وفي نسخة يعدّد

(٥) الكافي : كتاب التوحيد منه ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث

١٩٥

كيف تخلق؟ فقال : أحدث في الموضع ثمّ ألبث عنه فيصير دوابا فكنت انا الذي خلقتها ، فقال أبو عبد اللهعليه السلام : أليس خالق الشيء يعرف كم خلقه؟ قال : بلى ، قالعليه السلام : فتعرف الذكر من الانثى وتعرف عمرها؟

فسكت.

وللصادقعليه السلام نظير ذلك مع الجعد بن درهم ، وكان من أهل الضلال والبدع ، وقتله والي الكوفة يوم النحر لذلك ، قال ابن شهر اشوب : قيل إن الجعد بن درهم جعل في قارورة ماء وترابا فاستحال دودا وهواما فقال لأصحابه : أنا خلقت ذلك لأني كنت سبب كونه ، فبلغ ذلك جعفر بن محمّد8 ، فقال : ليقل كم هي؟ وكم الذكران منه والاناث إن كان خلقه ، وكم وزن كلّ واحدة منهنّ ، وليأمر الذي سعى الى هذا الوجه أن يرجع الى غيره ، فانقطع وهرب.

ثمّ أن ابن أبي العوجاء عاد إليه في اليوم الثاني فجلس وهو ساكت لا ينطق فقال أبو عبد اللهعليه السلام : كأنك جئت تعيد بعض ما كنّا فيه ، فقال : أردت ذلك يا ابن رسول الله ، فقال أبو عبد اللهعليه السلام : ما أعجب هذا تنكر الله وتشهد أني ابن رسول اللهص ! فقال : العادة تحملني على ذلك ، فقال له الصادقعليه السلام : فما يمنعك من الكلام ، قال : إجلال لك ومهابة ، ما ينطق لساني بين يديك ، فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلّمين فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك ، قالعليه السلام : يكون ذلك ، ولكن أفتح عليك سؤالا ، وأقبل عليه فقال له : أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟

فقال له ابن أبي العوجاء : أنا غير مصنوع ، فقال له الصادقعليه السلام : فصف لي لو كنت مصنوعا كيف كنت تكون؟ فبقي عبد الكريم مليّا لا يحير جوابا وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول : طويل عريض عميق قصير متحرّك ساكن

١٩٦

كلّ ذلك من صفة خلقه ، فقال له الصادقعليه السلام فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الامور ، فقال له عبد الكريم : سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك ، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها ، فقال له أبو عبد الله : هبك علمت أنك لم تسأل فيما مضى فما علمك إنك لم تسأل فيما بعد؟ على أنك يا عبد الكريم نقضت قولك ، لأنك تزعم أن الأشياء من الأوّل سواء فكيف قدّمت وأخّرت؟ ثمّ قال : يا عبد الكريم : أنزيدك وضوحا؟ أرأيت لو كان معك كيس فيه جواهر ، فقال لك قائل : هل في الكيس دينار فنفيت كون الدينار في الكيس ، فقال لك قائل : صف لي الدينار؟ وكنت غير عالم بصفة ، هل لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم؟ قال : لا ، فقال أبو عبد اللهعليه السلام : فالعالم اكبر وأطول وأعرض من الكيس ، فلعلّ في العالم صنعة من حيث لا تعلم ، لا تعلم صفة الصنعة من غير الصنعة ، فانقطع عبد الكريم ، وأجاب إلى الإسلام بعض أصحابه وبقي معه بعض.

فعاد في اليوم الثالث فقال : أقلب السؤال ، فقال أبو عبد اللهعليه السلام سل عمّا شئت فقال : ما الدليل على حدوث الأجسام؟ فقال : إني ما وجدت صغيرا ولا كبيرا إلاّ واذا ضمّ إليه مثله صار اكبر ، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الاولى ، ولو كان قديما ما زال ولا حال ، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يجود ويبطل ، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفي كونه في الاولى دخوله في العدم ، ولن يجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد.

فقال عبد الكريم : هبك علمت في جري الحالين والزمانين على ما ذكرت واستدللت على حدوثها ، فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدلّ على حدوثها؟ فقال الصادقعليه السلام : إنما نتكلّم على هذا العالم

١٩٧

الموضوع فلو رفعناه ووضعنا عالما آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إيّاه ووضعنا غيره ، ولكن أجبت من حيث قدرت إنك تلزمنا وتقول : إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ما ضمّ شيء منه الى مثله كان اكبر ، وفي جواز التغيّر عليه خروجه من القدم كما بان في تغيير دخوله في الحدث ، ليس وراءه شيء يا عبد الكريم ، فانقطع وخزي.

أقول : إن خلاصة كلام الصادقعليه السلام : أن هذا العالم إذا ضمّ شيء منه إلى شيء آخر حدث شيء اكبر ، وفي ذلك زوال عن الحالة الاولى وانتقال الى حال اخرى ، والقديم لا تطرأ عليه هذه التحوّلات ، ولو كان ذلك التأليف بالفرض والوهم ، كما لو كانت الأشياء حسب فرض ابن أبي العوجاء باقية على صغرها لا تكبر ، لأنه من الامور البديهيّة بل أبده البديهيّات أنه بضمّ شيء إلى شيء تحصل زيادة على كلّ من الشيئين ، وهذه إحدى بديهيّات أربع هي أساس العلوم الرياضيّة كلّها ، فقد أرجع الإمام الدليل على حدوث العالم الى أوضح بديهيّة في العقول التي لا يختلف فيها اثنان ، على أنهعليه السلام مع ذلك أجاب على تقدير هذا الفرض المحال وهو أن الأشياء تبقى على ما هي عليه بضمّ بعضها الى بعض أجاب بأن هذا الفرض نفسه هو فرض جواز التغيير عليه وخروجه من القدم ودخوله في الحدث ، لأن المفروض أن العالم تقبل الأشياء فيه الزيادة بضمّ بعضها الى بعض ، فلو فرضناه عالما آخر لا يقبل ذلك فقد فرضنا رفع هذا العالم وتغييره ، فيتحقّق فيه الاستدلال على المطلوب. ما أدقّ هذا الدليل وأبدعه ، ولذلك انقطع به ابن أبي العوجاء وخزي.

ولمّا كان في العام القابل التقى معه في الحرم ، فقال له بعض شيعته : إن ابن أبي العوجاء قد أسلم ، فقال الصادقعليه السلام : هو أعمى من ذلك لا يسلم ، فلمّا بصر بالصادقعليه السلام قال : سيّدي ومولاي ، فقال له : ما جاء

١٩٨

بك الى هذا الموضع؟ فقال : عادة الجسد وسنّة البلد ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة ، فقال له الصادقعليه السلام : أنت بعد على عتوّك وضلالك يا عبد الكريم ، فذهب يتكلّم ، فقال له : لا جدال في الحجّ ونفض رداءه من يده ، وقال : إن يكن الأمر كما تقول وليس كما تقول نجونا ونجوت ، وإن يكن الأمر كما نقول وهو كما نقول نجونا وهلكت(١) .

وناظر الصادقعليه السلام يوما في تبديل الجلود في النار ، فقال : ما تقول في هذه الآية « كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها »(٢) هب هذه الجلود عصت فعذّبت فما بال الغير يعذّب؟ قال أبو عبد اللهعليه السلام : ويحك هي هي وهي غيرها ، قال : اعقلني هذا القول ، فقال له : أرأيت لو أن رجلا عهد الى لبنة فكسرها ثم صبّ عليها الماء وجبلها(٣) ثم ردّها الى هيئتها الأولى ، ألم تكن هي هي وهي غيرها؟ فقال : بلى أمتع الله بك(٤) .

أقول : هذا ما توصّل إليه عظماء الفلاسفة بعد جهد وبحوث طويلة في تحليل صحّة عذاب الانسان المجرم ، مع أن ذرّات جسمه الذي وقع منه الجرم تتبدّل وتتحوّل دائما( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (٥) . وبهذا البيان الدقيق يجاب عن شبهة الآكل والمأكول المعروفة ، فمن أين تعلم هذه الفلسفة الدقيقة في تلك العصور التي ما شمّت رائحتها؟ إنه الامام ، وكفى.

وكان لأبي شاكر الديصاني ـ أحد ملاحدة العرب ـ مع الصادق 7

__________________

(١) توحيد الصدوق طاب ثراه ، باب حدوث العالم

(٢) النساء : ٥٦

(٣) طبعها وليّنها

(٤) الاحتجاج للشيخ الطبرسي : ٣٥٤

(٥) الدخان : ٥٣

١٩٩

مناظرات وأسئلة ، واخرى بينه وبين هشام بن الحكم ويفزع هشام بها الى إمامه الصادقعليه السلام ، قال يوما لهشام : إن في القرآن آية هي من قولنا ، قال هشام : وما هي؟ فقال : « وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله »(١) قال هشام : فلم أدر بم اجيبه ، فحججت فخبّرت أبا عبد اللهعليه السلام ، قال : هذا كلام زنديق خبيث ، اذا رجعت إليه فقل له ما اسمك بالكوفة؟ فإنه يقول لك فلان فقل له : ما اسمك بالبصرة؟ فإنه يقول فلان ، فقل له : كذلك ربّنا في السماء إله ، وفي الأرض إله ، وفي البحار إله ، وفي القفار إله ، وفي كلّ مكان إله ، قال : فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته ، فقال : هذه نقلت من الحجاز(٢) .

وسأل أبو شاكر هشام بن الحكم يوما فقال : ألك رب؟ فقال : بلى ، فقال : أقادر هو؟ قال : نعم قادر ، قال : يقدر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ قال هشام : النظرة ، فقال له : قد أنظرتك حولا ، ثمّ خرج عنه ، فركب هشام الى أبي عبد اللهعليه السلام فاستأذن عليه فأذن له ، فقال له يا ابن رسول اللهص أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعوّل فيها إلاّ على الله وعليك ، فقال له أبو عبد اللهعليه السلام : يا هشام كم حواسّك؟ قال : خمس ، قال : أيّها أصغر؟ قال : الناظر ، قال : وكم قدر الناظر؟

قال : مثل العدسة أو أقلّ منها ، فقال له : يا هشام فانظر أمامك وفوقك واخبرني بما ترى ، فقال : أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وبراري وجبالا وأنهارا ، فقال له أبو عبد الله : إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادر أن

__________________

(١) الزخرف : ٨٤

(٢) الكافي : باب الحركة والانتقال

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268