الإمام الصادق عليه السلام الجزء ١

الإمام الصادق عليه السلام14%

الإمام الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 268

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 268 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 6802 / تحميل: 1524
الحجم الحجم الحجم
الإمام الصادق عليه السلام

الإمام الصادق عليه السلام الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

فمن ثمّ لا يصحّ لدينا من تلك الفرق التي نسبت إلى المرجئة إلاّ الجهميّة أصحاب جهم بن صفوان لصراحة اعتقادهم بما ذكرناه عنهم ولإجماع المؤلّفين.

كما أنه قد رووا في لعن المرجئة عن النبيص ما نحن براء من تبعته مثل قوله : لعنت المرجئة على لسان سبعين نبيّا ، قيل : من المرجئة يا رسول الله؟ قال : الذين يقولون : الايمان كلام(١) .

والخلاصة : أن المرجئة كانت ولا شكّ في ذلك العهد ، كما أنها كانت وهي ذات فرق ، ويجمعها في الاعتقاد ما ذكرناه من كفاية القول في الايمان وإن لم يكن عمل يطابق ذلك الاعتقاد ، بل حتّى لو كان العمل على نقيض ذلك القول ، ولسنا في حاجة إلى الغور في تشعّباتها وخصوصيّات ما اعتقدته تلك الشعب لجواز ألاّ نصيب شاكلة الهدف ، ونحن في فسحة من الوقوع في أمثال هذه المزالق ، نسأله تعالى العصمة من الخطأ ، والأمان من العثار.

٢ ـ المعتزلة :

لا نشكّ في أن الاعتزال وليد عصر الصادقعليه السلام ، وفي ذلك العصر نشأ وشبّ ، وذلك حين اعتزل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهما حوزة الحسن البصري فنبذوهم بهذا اللقب ، وما قيل من أنه وليد عصر أمير المؤمنينعليه السلام حينما اعتزل سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد حروب أمير المؤمنين فلا وجه له ، لأن ذلك الاعتزال لم يكن اعتزالا مذهبيّا على أساس في الرأي أو شبهة في الدين ، وما كان إلاّ انحرافا عن أمير المؤمنينعليه السلام ولذا لم يكن اسم الاعتزال معروفا في ذلك العهد ، ولا سمّي هؤلاء بالمعتزلة في ذلك

__________________

(١) الفرق بين الفرق ص ١٩٠

٤١

اليوم ، ولا أن المعتزلة ينتمون إلى أولئك في المذهب.

والمعتزلة افترقت فرقا كثيرة بعد أن اتفقت على الاعتزال ، وليس في يومنا الحاضر أحد معروف النسبة إليه على ما أحسب ، والذي يجمع عقيدة الاعتزال ما نقله صاحب « الفرق بين الفرق » ص ٩٤ عن الكعبي في مقالاته : إن المعتزلة أجمعت على أن الله عزّ وجل شيء لا كالأشياء ، وأنه خالق الأجسام والاعراض ، وأنه خلق كلّ ما خلقه من لا شيء ، وأن العباد يفعلون أعمالهم بالقدر التي خلقها الله سبحانه وتعالى فيهم ، قال : وأجمعوا على أن الله لا يغفر لمرتكبي الكبائر بلا توبة.

هذا ما حكاه عن الكعبي في القول الجامع في الاعتقاد لفرق المعتزلة ، ونكتفي به عن الكلام عمّا يعتقدون ، ولسنا بصدد التمحيص لنضع هذا الكلام في ميزان النقد ، ونتعرّف صحة ما صوّبه صاحب الفرق نحو هذا الزعم كما دعانا هذا لإغفال ما ينسبه إليهم ابن حزم والشهرستاني وصاحب الفرق من الأقوال الكثيرة.

ثمّ اننا بعد هذا لا نتبسّط في البحث عن فروع ذلك الأصل ، وما يمتاز به كلّ فرع منها في الاعتقاد فيما يزيد على الجامع ، فإن التبسّط خروج عن الخطّة الموسومة ، مع اننا لا نأمن من العثار.

وهل القدريّة هم هؤلاء المعتزلة؟ أو هم نفس الأشاعرة؟ ذلك موضع الشكّ ، لأنّا إن أردنا من القدريّة من يقول : بأن أفعال العباد مخلوقة لهم وأنها من صنعهم وتقديرهم وإنما خلق الله فيهم قوّة وقدرة بها يفعل العباد أعمالهم فهم المعتزلة ، على ما نقل عنهم من القول الجامع السابق ، ولا يكونون على هذا نفس الأشاعرة ، لأن الأشاعرة على العكس من ذلك يرون أن الأفعال كلّها من صنع الله تعالى وتقديره دون العبد.

٤٢

وإن أردنا من القدريّة من يقول بأن القدر خيره وشرّه من الله تعالى فيكونون حينئذ هم الأشاعرة يقينا.

وقد روى الشهرستاني عن النبيص قوله : القدريّة مجوس هذه الأمّة ، وقوله : القدريّة خصماء الله في القدر.(١)

ولا ندري ـ إن صحّت الرواية ـ أين يتوجّه هذا الذمّ الصريح ، والسمة الفاضحة.

٣ ـ الشيعة :

كان التشيّع على عهد صاحب الشريعة الغرّاء وسمّى بعض الصحابة بالشيعة من ذلك اليوم ، أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار وحذيفة وخزيمة وجابر وأبي سعيد الخدري وأبي أيوب وخالد بن سعيد بن العاص وقيس بن سعد وغيرهم(٢) .

والشيعة لغة : ـ الأتباع والأنصار والأعوان ، وأصله من المشايعة ـ المطاوعة والمتابعة ، ولكن هذا اللفظ اختصّ بمن يوالي عليّا وأهل بيته: (٣) .

وأوّل من نطق بلفظ الشيعة قاصدا به من يتولّى عليّا والأئمة من بنيه هو صاحب الشريعة سيد الأنبياءص وقد جاءت عنه في ذلك عدّة أحاديث(٤) .

__________________

(١) انظر الملل والنحل المطبوع على هامش الفصل : ١ / ٥٠ ـ ٥١

(٢) الاستيعاب في أبي ذر ، والدرجات الرفيعة للسيد علي خان في ترجمة سلمان ، وروضات الجنّات نقلا عن كتاب الزينة لأبي حاتم الرازي ، وشرح النّهج : ٤ / ٢٢٥ ، وخطط الشام لمحمّد كرد علي : ٥ / ٢٥١ ـ ٢٥٦

(٣) القاموس ولسان العرب ونهاية ابن الأثير ومقدّمة ابن خلدون ص ١٣٨ إلى كثير غيرها

(٤) راجع في ذلك الصواعق بعد الآية الثامنة والآية العاشرة من الآيات الواردة في فضل

٤٣

وأما فرق الشيعة فهي كثيرة ، وقد أنهتها بعض كتب الملل والنحل إلى أكثر ممّا نعرفه عنها ، فذكرت فرقا كثيرة ، ورجالا تنسب الفرق إليهم ، أمثال الهشاميّة نسبة إلى هشام بن الحكم ، والزراريّة نسبة إلى زرارة بن أعين ، والشيطانيّة نسبة إلى مؤمن الطاق محمّد بن النعمان الأحول ، واليونسيّة نسبة إلى يونس بن عبد الرحمن ، إلى غيرها ، والحقّ اننا من أهل البيت وأهل البيت أدرى بما فيه لا نعرف عينا ولا أثرا لهذه الفرق ، ولا للبدع التي نسبت لهؤلاء الرجال.

وإنّ من نظر في كتب الحديث وكتب الرجال للشيعة عرف أن هؤلاء من خواصّ الأئمة الذين يعتمدون عليهم ويرجعون الشيعة إليهم ، ولو كان لهم آراء ومذاهب لا يرتضيها الأئمة لسخطوا عليهم وأبعدوهم عنهم ، ومن سبر ما جاء عنهم في الرجال الذين انتحلوا البدع لعلم أن هؤلاء برآء مما نسبوه إليهم ، فإنهم برءوا من ابن سبأ ولعنوه وحذّروا من بدعه ، وبرءوا من المغيرة بن سعيد حين صار يكذب على الباقرعليه السلام ويدّعي الأباطيل ، كما برىء الصادقعليه السلام من أبي الخطّاب وجماعته ، ومن أبي الجارود وكما قالوا في بني فضال : خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا ، وكما برىء الحجّة المغيب من جماعة خلطوا في الدين وادّعوا أنهم أبوابه ، إلى غير هؤلاء(١) ولو كان مثل هؤلاء الصفوة على مثل تلك الضلالات التي نسبت إليهم لكان نصيبهم من الأئمة نصيب غيرهم من الضالّين البراءة منهم والذمّ واللعن لهم.

نعم كانت للشيعة فرق قبل عصر الصادقعليه السلام وبعده وقد ذهبت ذهاب أمس الدابر ، ولم يبق منها اليوم شيء معروف إلاّ ثلاث فرق :

__________________

اهل البيت ، ونهاية ابن الأثير في قمح ، والدرّ المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالى : « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك خير البريّة » إلى نظائرها من الكتب

(١) انظر في ذلك كلّه غيبة الشيخ الطوسي طاب ثراه

٤٤

١ ـ الإماميّة : وهم القائلون بإمامة الاثنى عشر ، وولادة الثاني عشر ووجوده اليوم حيّا ويترقّبون كلّ حين ظهوره.

٢ ـ الزيديّة : وهم الذين يرون إمامة زيد وكلّ من قام بالسيف من بني فاطمة ، وكان مجمعا للخصال الحميدة.

٣ ـ الاسماعيليّة : وهم الذين يجعلون الامامة بعد الصادقعليه السلام في ابنه إسماعيل دون موسى وبنيه: .

هذا ما بقي من فرق الشيعة ظاهرا يعرف منذ عهد بعيد حتّى الزمن الحاضر ، وأما ما كان منهم في الزمن الماضي ، فقد بحث عنه النوبختي في كتابه « فرق الشيعة » وليس اليوم منها فرقة معروفة عدا ما ذكرناه.

والذي يهمّنا ذكره من بينها هو ما كان في أيام الصادقعليه السلام وإن لم يبق اليوم منهم نافخ ضرمة.

الكيسانيّة : *

فمن فرق الشيعة في عهد الصادقعليه السلام ( الكيسانيّة ) وهم الذين قالوا بإمامة محمّد بن الحنفيّة ، وقد اختلفوا في سبب تسميتهم بهذا الاسم ، وهم ينتهون إلى فرق :

فرقة قالت بأن محمّدا ، هو المهدي ، وهو وصيّ أمير المؤمنينعليه السلام وليس لأحد من أهل بيته مخالفته ، وأن مصالحة الحسنعليه السلام لمعاوية كانت بإذنه ، وخروج الحسينعليه السلام أيضا بإذنه ، كما أن خروج المختار

__________________

(*) اننا نستند على الكثير ممّا نذكره عن الكيسانيّة إلى كتاب فرق الشيعة ، والملل والنحل ، والفرق بين الفرق

٤٥

طالبا بالثأر أيضا بإذنه ، وفرقة قالت بإمامته بعد أخويه الحسنين٨ ، وإنه هو المهدي وبذلك سمّاه أبوه ، وإنه لم يمت ولا يموت ولا يجوز ذلك ، ولكنه غاب ولا يدري أين هو ، وسيرجع ويملك الأرض ، ولا إمام بعد غيبته إلى رجوعه وهم أصحاب ابن كرب ويسمّون « الكربيّة ».

وفرقة قالت : بأنه مقيم بجبال رضوى بين مكّة والمدينة ، وهو عندهم الإمام المنتظر.

وفرقة قالت : بأنه مات والامام بعده ابنه عبد الله ، ويكنّى أبا هاشم وهو أكبر ولده ، وإليه أوصى أبوه ، وسميّت هذه الفرقة « الهاشميّة » بأبي هاشم ، وهذه الفرقة قالت فيه كما قالت الفرق الاول في أبيه ، بأنه المهدي وأنه حيّ لم يمت بل غلوا فيه وقالوا إنه يحيي الموتى ، ولكن لمّا توفي أبو هاشم افترقت أصحابه إلى فرق.

وكان من الكيسانيّة رجال لهم ذكر ونباهة ، منهم كثير عزّة وله بذلك شعر يروى.

وكان منهم السيد إسماعيل الحميري الشهير. وله أيضا شعر يشهد بما نسبوه إليه ، ولكنه عدل عن ذلك إلى القول بإمامة الصادقعليه السلام بعد أن ناظره الصادق وأقام الحجّة عليه ، وله في العدول والذهاب إلى إمامة الصادق شعر مذكور.

ومنهم حيّان السّراج ، وقد دخل يوما على الصادقعليه السلام فقال له أبو عبد الله : يا حيّان ما يقول أصحابك في محمّد بن الحنفيّة؟ قال : يقولون : إنه حيّ يرزق ، فقال الصادقعليه السلام : حدّثني أبيعليه السلام : إنه كان فيمن عاده في مرضه وفيمن غمضه وأدخله حفرته وزوّج نساءه وقسّم ميراثه ، فقال : يا أبا عبد الله إنّما مثل محمّد في هذه الأمّة كمثل عيسى بن مريم شبّه أمره

٤٦

للناس ، فقال الصادقعليه السلام : شبّه أمره على أوليائه أو على أعدائه؟ قال : بل على أعدائه ، فقالعليه السلام : أتزعم أن أبا جعفر محمّد بن علي٨ عدوّ عمّه محمّد بن الحنفيّة؟ فقال : لا ، ثمّ قال الصادقعليه السلام : يا حيّان إنكم صدفتم(١) عن آيات الله وقد قال تبارك وتعالى « سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون »(٢) .

وقال بريد العجلي(٣) : دخلت على الصادقعليه السلام فقال لي : لو سبقت قليلا لأدركت حيّان السرّاج ، واشار إلى موضع في البيت ، فقال : كان هاهنا جالسا ، فذكر محمّد بن الحنفيّة وذكر حياته ، وجعل يطريه ويقرضه ، فقلت له : يا حيّان أليس تزعم ويزعمون ، وتروي ويروون : لم يكن في بني إسرائيل شيء إلاّ وهو في هذه الأمّة مثله؟ قال : بلى ، فقلت : هل رأينا ورأيتم ، وسمعنا وسمعتم بعالم مات. على أعين الناس ، فنكحت نساؤه وقسّمت أمواله ، وهو حيّ لا يموت؟ فقام ولم يردّ عليّ شيئا(٤) .

والكيسانيّة من الفرق البائدة ، ولا نعرف اليوم قوما ينتسبون إليها.

الزيديّة :

ومن الفرق التي تنسب إلى التشيّع ( الزيديّة ) نسبة إلى زيد بن علي بن الحسين٨ ، لأنهم قالوا بإمامته.

__________________

(١) أعرضتم

(٢) إكمال الدين للصدوق طاب ثراه ص ٢٢ ، ورجال الكشي ص ٢٠٣ ، والآية في سورة الأنعام : ١٥٧

(٣) من أصحاب الصادق ومشاهير ثقاتهم

(٤) رجال الكشى في ترجمة حيّان ص ٢٠٢

٤٧

وزيدعليه السلام ما ادّعى الامامة لنفسه بل ادّعتها الناس له ، وما دعاه للنهضة إلاّ نصرة الحقّ وحرب الباطل ، وزيد أجلّ شأنا من أن يطلب ما ليس له ، ولو ظفر لعرف أين يضعها ، وقد نسبت بعض الأحاديث ادّعاءه الإمامة لنفسه ، ولكن الوجه فيها جليّ ، لأن الصادقعليه السلام كان يخشى سطوة بني أميّة ، ولا يأمن من أن ينسبوا إليه خروج زيد ، وإن قيامه بأمر منه ، فيؤخذ هو وأهله وشيعته بهذا الجرم ، فكان يدفع ذلك الخطر بتلك النسبة ، ولو كان زيد كما تذكره هذه الأحاديث لم يبكه قبل تكوينه جدّاه المصطفى والمرتضى عليهما وآلهما السّلام ، ولم تبلغ بهما ذكريات ما يجري عليه مبلغا عظيما من الحزن والكآبة ، كما هو الحال في آبائه عند ما يذكرون مقتله وما يجري عليه بعد القتل.

وكفى في إكبار نهضته وبراءته مما يوصم به بكاء الصادقعليه السلام عليه وتقسيمه الثائرين معه بالمؤمنين ، والمحاربين له بالكافرين.

وكيف يكون قد طلب الامامة لنفسه والصادقعليه السلام يقول :; أما أنه كان مؤمنا وكان عارفا وكان عالما وكان صدوقا ، أما أنه لو ظفر لوفى ، أما أنه لو ملك لعرف كيف يضعها(١) . ويقول : ولا تقولوا خرج زيد فإن زيدا كان عالما ، وكان صدوقا ، ولم يدعكم إلى نفسه ، إنما دعاكم إلى الرضا من آل محمّدص (٢) ولو ظفر(٣) لوفى بما دعاكم إليه ، وإنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه(٤) .

__________________

(١) رجال الكشي في ترجمة السيّد الحميري ص ١٨٤

(٢) الرضا : كناية عن إمام الوقت من أهل البيت وإنما يكنّي عنه حذرا عليه من التصريح باسمه

(٣) ظهر : في نسخة

(٤) الوافي : عن الكافي ، كتاب الحجّة ، باب أن زيد بن علي مرضي : ١ / ١٤١

٤٨

ويقول الرضاعليه السلام للمأمون : لا تقس أخي زيدا إلى زيد بن علي٨ فإنه كان من علماء آل محمّدص غضب لله عزّ وجلّ فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله ، إلى أن يقول : إن زيد بن عليعليه السلام لم يدع ما ليس له بحق ، وإنه كان أتقى لله من ذلك ، إنه قال : أدعوكم للرضا من آل محمّدص (١) .

ولم تكن هذه الصراحة من الرضاعليه السلام إلاّ لأن العهد عهد العبّاسيّين ويقول ابنه يحيى : رحم الله أبي كان أحد المتعبّدين قائما ليلة صائما نهاره جاهد في سبيل الله حقّ جهاده ، فقال عمير بن المتوكل البلخي : فقلت : يا بن رسول اللهص هكذا يكون الامام بهذه الصفة ، فقال : يا عبد الله إن أبي لم يكن بإمام ، ولكن كان من السادة الكرام وزهّادهم ، وكان من المجاهدين في سبيل الله ، قال : قلت : يا بن رسول اللهص إن أباك قد ادعى الامامة لنفسه وخرج مجاهدا في سبيل الله ، وقد جاء عن رسول اللهص فيمن ادّعى الامامة كاذبا ، فقال : مه مه يا عبد الله إن أبي كان أعقل من أن يدّعي ما ليس له بحق ، إنما قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمّدص ، عنّى بذلك ابن عمّي جعفراعليه السلام ، قال : قلت : فهو اليوم صاحب فقه ، قال : نعم هو أفقه بني هاشم.(٢)

وهذا الحديث كما كشف عن منزلة زيد الرفيعة في الدين والفضيلة وبطلان ما نسبوه إليه ، فقد أثبت ليحيى مقاما عليّا في الورع والعلم والفقه.

والأحاديث عن نزاهة زيد عن تلك الدعوى وافرة جمّة ، فهو أتقى وأنقى من

__________________

(١) نفس المصدر

(٢) كفاية الأثر : ٣٠٤

٤٩

أن يلوّث نفسه الطاهرة بدعوى الامامة ، وإنّما ادّعتها له بعض الناس بعد وفاته فعرفوا بالزيديّة لتلك المقالة.

والزيديّة فرق يجمعها القول : بأن الامامة في أولاد فاطمة٣ ولم يجوّزوا ثبوت إمامة في غيرهم ، إلاّ أنهم جوّزوا أن يكون كلّ فاطميّ عالم زاهد شجاع سخيّ خرج بالسيف إماما واجب الطّاعة سواء كان من أولاد الحسنعليه السلام أو من أولاد الحسينعليه السلام ، ومن ثم قالت طائفة منهم بإمامة محمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسنعليه السلام (١) أحسب أن اشتراط الامامة في بني فاطمة إنما كان منهم فيمن يكون إماما بعد زيد ، لأن بعض الفرق منهم رأت ثبوت الامامة للشيخين كما ستعرف.

البتريّة :

فمن فرق الزيديّة ( البتريّة ) وهم أصحاب كثير النواء ، والحسن بن صالح بن حي ، وسالم بن أبي حفصة ، والحكم بن عيينة ، وسلمة بن كهيل ، وأبي المقدام ثابت الحدّاد ، وهم الذين دعوا إلى ولاية عليعليه السلام ثم خلطوها بولاية أبي بكر وعمر وأثبتوا لهما الامامة ، وطعنوا في عثمان وطلحة والزبير وعائشة. وقيل : سمّوا بالبتريّة لأن زيد بن علي قال لهم عند ما أخذوا يذكرون معتقداتهم : بترتم أمرنا بتركم الله ، وقيل : سمّوا بذلك لأنّهم منسوبون إلى كثير النواء وكان أبتر اليد(٢) .

ولو صحّت هذه النسبة لكان الأصح فيها أن يقال ـ الأبتريّة ـ لا البتريّة.

__________________

(١) الملل والنحل المطبوع في هامش الفصل : ١ / ١٥٩

(٢) منهج المقال للشيخ أبي علي الحائري في الألقاب

٥٠

السليمانيّة :

ومنهم ( السليمانيّة ) نسبة إلى سليمان بن جرير ، وكانوا يرون إمامة الشيخين ، ولكن يطعنون في عثمان وطلحة والزبير وعائشة ، وينسبونهم إلى الكفر ، ويرون أن الامامة شورى ، وتنعقد بعقد رجلين من خيار الأمّة ، وأجازوا إمامة المفضول مع وجود الأفضل وزعموا أن الأمّة تركت الأصلح في البيعة لما بايعوا أبا بكر وعمر ، وتركوا عليّاعليه السلام لأن عليّا كان أولى بالامامة منهما ، إلاّ أن الخطأ في بيعتهما لا يوجب كفرا ولا فسقا(١) .

ومن هاهنا نستظهر أن ما ينسب إلى الزيديّة من الدعوى بأن الامامة لا تثبت في غير أولاد فاطمة إنما هو فيمن بعد زيد من القائمين بالسيف.

كما انّنا لا نعرف وجها في عدّ هاتين الفرقتين في عداد فرق الشيعة.

الجاروديّة :

ومنهم ( الجاروديّة ) نسبة إلى زياد بن المنذر أبي الجارود السرحوب الأعمى الكوفي ، وقد يسمّون السرحوبيّة ، وقيل : إن السرحوب اسم شيطان أعمى يسكن البحر فسمّي أبو الجارود به ، وكان أبو الجارود من أصحاب الباقر والصادق٨ ، ولمّا خرج زيد تغيّر ، وجاء عن الصادقعليه السلام لعنه وتكذيبه وتكفيره ومعه كثير النواء وسالم بن أبي حفصة وجاء فيه أيضا أعمى البصر أعمى القلب(٢) .

والجاروديّة يرون أن الناس قصّروا في طلب معرفة الامام لأنه كان

__________________

(١) الفرق بين الفرق : ص ٢٣ ، والملل على الفصل : ١ / ١٦٤

(٢) انظر ترجمته في كتب الرجال

٥١

بإمكانهم معرفته ، بل كفروا حين بايعوا أبا بكر ، فهم لا يرون إمامة الخلفاء الثلاثة ، بل يرون كفرهم ، حيث ادّعوا الامامة ولم يبايعوا عليّاعليه السلام .(١)

الصالحيّة :

وقيل : إن منهم ( الصالحيّة ) نسبة إلى الحسن بن صالح ، وقد عرفت انّهم من البتريّة ، لأن الحسن هذا من رجال البتريّة ، فلا وجه لعدّهم فرقة مستقلّة ، نعم هناك فروق طفيفة بينه وبين كثير النواء أوّل رجال البتريّة لا تستدعي أن تكون فرقته فرقة تباين البتريّة.

وقد ذكر الزيديّة النوبختي في كتابه ـ فرق الشيعة ـ على غير هذا النهج ، وزاد فيها : غير أننا رأينا أن ما سطّرناه أقرب إلى ما ذكرته كتب الملل والنحل ، فراجع إن طلبت الاستيضاح.

الإسماعيليّة :

ومن فرق الشيعة ( الإسماعيليّة ) وقد نشأ القول بإمامة إسماعيل أيّام الصادقعليه السلام ، إلاّ أنه كان من بعضهم على سبيل الظنّ لأن الامامة في الاكبر وإسماعيل اكبر اخوته ، مع ما كان عليه من الفضل ، فلمّا مات أيّام أبيه انكشف لهم الخطأ.

وأما من بقي مصرّا على إمامته فهم على فرق ، لأنّهم بين من أنكر موته في حياة أبيهعليه السلام ، وقالوا : كان ذلك على وجه التلبيس من أبيه على الناس ، لأنه خاف عليه فغيّبه عنهم ، وزعموا أن إسماعيل لا يموت حتّى يملك

__________________

(١) الفرق بين الفرق : ص ٢٢ ، والملل على هامش الفصل : ١ / ١٦٣

٥٢

الأرض ويقوم بأمر الناس ، وأنه هو القائم ، لأن أباه أشار إليه بالامامة بعده ، فلمّا ظهر موته علمنا أنه قد صدق ، وأنه القائم لم يمت.

وبين من قال بموته وأن الامامة انتقلت الى ابنه محمّد ، لأن الامامة لا تكون إلاّ في الأعقاب ، ولا تكون في الاخوة إلاّ في الحسن والحسين٨ فلما مات إسماعيل وجب أن يكون الامام بعد جعفرعليه السلام محمد بن إسماعيل ، ولا يجوز أن يكون أحد من اخوة إسماعيل هو الامام ، كما لم يكن لمحمّد بن الحنفيّة حقّ مع علي بن الحسين٨ ، وأصحاب هذا القول يسمّون « المباركة » برئيس لهم يسمّى المبارك.

وأمّا ( الخطّابيّة ) أصحاب أبي الخطّاب محمّد بن أبي زينب الأسدي الأجدع فقد دخلوا في الفرقة التي قالت بإمامة محمّد بن إسماعيل بعد قتل أبي الخطّاب ، وهم من الأصناف الغالية ، وتشعّبوا على فرق والقرامطة منهم(١) .

وكان أبو الخطّاب من أصحاب الصادقعليه السلام ، ولمّا بلغ الصادق أنه يكذب عليه طرده وتبرّأ منه ولعنه.

ثمّ أنه ادّعى النبوّة واولوهيّة جعفر بن محمّد٨ ، وأنه مرسل من قبله ، وظهرت منه ومن جماعته بدع وأهواء وإباحات ، ولمّا بلغ عيسى بن موسى عامل المنصور على الكوفة ما عليه أبو الخطّاب وجماعته وكانوا سبعين رجلا مجتمعين في مسجد الكوفة حاربهم فقتلهم جميعا ، فلم يفلت منهم إلاّ رجل واحد أصابته جراحات فعدّ في القتلى فتخلّص ، وحمل أبو الخطّاب أسيرا فقتله عيسى ابن موسى على شاطئ الفرات ، وصلبه مع جماعة منهم ثم أمر بإحراقهم فأحرقوا ، وبعث برءوسهم إلى المنصور فصلبها على باب مدينة بغداد ثلاثة أيام ، ثمّ

__________________

(١) فرق الشيعة : ص ٦٧ ، ٧٦

٥٣

أحرقت(١) .

الإماميّة :

ومن فرق الشيعة ( الإماميّة ) ويعرفون بالجعفريّة نسبة إلى جعفر بن محمّد٨ ، لأنه المذهب الذي ينسبون إليه ، وسيأتي أنه كيف صار مذهبا دون سائر الأئمة وكلّهم مذهب في الأحكام.

والإماميّة هم الذين يرون الامامة في الاثنى عشر : علي ، والحسن والحسين ، وعلي بن الحسين ، ومحمّد بن علي ، وجعفر بن محمّد ، وموسى بن جعفر ، وعلي ابن موسى ، ومحمّد بن علي ، وعلي بن محمّد ، والحسن بن علي ، وابنه المهدي المغيب الذي يترقّبون ظهوره كلّ حين صلوات الله عليهم أجمعين.

ويعتقدون أن إمامتهم بالنصّ الصريح الجلي من النبيص عن الله عزّ شأنه ، وأن رسول اللهص نصّ على خلافة علي أمير المؤمنين وإمامته كما نصّ على اخوّته ووصايته ، وكان النصّ منه في مواطن عديدة ، منها يوم الغدير ، كما أنهص أخبر بأسماء الخلفاء والأئمة الذين هم بعد أمير المؤمنينعليه السلام واحدا بعد آخر ، على نحو ما ذكرناه من أسمائهم ، وأكّدوا ذلك النصّ من بعضهم على بعض ، فنصّ علي على الحسن ، والحسن على الحسين ، والحسين على ابنه علي ، وهكذا الأب على ابنه إلى أن انتهت إلى ابن الحسن المنتظر ، كما أنهم يعتقدون حياته ووجوده بعد ولادته عام ٢٥٥ ، ليلة النصف من شعبان ، وأنه تغيب فرقا من فراعنة عصره ، وأنه هو المهدي الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا.(٢)

__________________

(١) فرق الشيعة : ص ٦٩

(٢) ذكر كثير من أهل السنّة الامام المهدي وأنه ابن الحسن العسكري واعترفوا بوجوده وأنه الموعود

٥٤

ويعتقدون أيضا في هؤلاء الأئمة أنهم معصومون عن الذنب وعن الخطأ والنسيان والغفلة كما في نبيّنا وجميع الأنبياء: وأن علمهم ليس باكتسابي وإنما هو إلهامي ووارثة من النبيص يورثه الأب لابنه والأخ لأخيه كما في الحسن للحسين ، ولمّا كان الرسولص وارث علم الأنبياء والمرسلين ، وعنده علم الأوّلين والآخرين ، كان أمير المؤمنين واجدا لهذا العلم كلّه ، لقولهص : أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، ولغير ذلك من الأحاديث وآي الكتاب(١) وورث أولاده الأئمة هذا العلم جميعه.

ويعتقدون فيهم أيضا أنهم عبيد لله سبحانه مخلوقون له ، مرزوقون منه ليس لهم تصرّف في شيء من أمر العباد من حياة أو موت ، وعطاء أو منع وشيء سوى ذلك ، إلاّ باذن منه تعالى على حدّ ما كان عليه النبيّص في شأن الخليقة ، وقد جاء في الكتاب عن عيسىعليه السلام « ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ».

واستدلّوا على ذلك كلّه بالبراهين العقليّة ، وبالأخبار والآثار ، وقد يأتي شيء من هذا طيّ هذا السفر.

كما استدلّوا على النصّ عليهم بالخصوص ، بالوارد عن النبيص من طرق الفريقين من قولهص : الأئمة من قريش وانهم

__________________

به ، انظر مطالب السؤل ، والحجّة لابن عرب ، ولواقح الأنوار ، والتذكرة ، وشرح الدائرة ، والفصول المهمّة ، وفرائد السمطين ، الى غيرها ، بل ادّعى بعضهم مشاهدته والاجتماع به

(١) كتبت رسالة عن حديث الثقلين ودلالته على عصمة الأئمة وعلمهم بكلّ شيء ، وقد أخرجتها المطابع ، ورسالة في علم الامام وكيفيّته وعسى أن نتوفّق لطبعها

٥٥

اثنى عشر(١) وانهم من ولد عليّ وفاطمة٨ ، وتسميتهم بأسمائهم واحدا بعد آخر.(٢)

هذا فضلا عن الاستدلال على الامامة باللطف ، وانحصارها فيهم لو كان ثمّة إمام تجب إمامته وطاعته ومعرفته.

والاماميّة ترجع إلى هؤلاء الأئمّة في أحكام الدين ، فما ثبت عن النبيّ أو عنهم أخذوا به ، وما اختلفت فيه الأخبار أعملوا فيه قواعد التعادل والتراجيح ، حسبما هو مقرّر عندهم في أصول الفقه.

وعندهم من الأدلّة على الأحكام غير الكتاب والسنّة الاجماع وحكم العقل القطعي ، وعند فقدان الأدلّة الأربعة يرجعون إلى الأصول العملية ، حسبما تقتضيه المقامات وهي قواعد فقهيّة عامّة تثبت بالأدلّة.

ويرون أن الأحاديث المرويّة عنهم من السنّة ، لأنهم حملة علم النبيّص وحفّاظ شريعته ، فما عندهم فهو عن الرسولص لا عن اجتهاد ورأي منهم ، والسنّة أحد الأدلّة الأربعة في استنباط الأحكام الفرعيّة ، والأدلّة الأربعة كما أشرنا إليها : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والعقل ، والبيان عن حجّيّتها وكيفيّة الرجوع إليها مذكور في كتب أصول الفقه.

وأمّا اعتقادهم في الله تعالى شأنه ، فهو أنّه سبحانه شيء لا كالأشياء ليس بجسم ولا صورة ، ولا تقع عليه الرؤية في الدنيا ولا الآخرة ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، وأن صفاته عين ذاته ، وأنّه تعالى عادل لا يظلم أحدا من عبادة لقبح الظلم بحكم العقل ، وأنّه خلق الأشياء لا من شيء.

__________________

(١) مسلم من صحيح جابر ، ومسند أحمد : ٥ / ٨٩ و ٢ / ٢٩ و ١٢٨ ، والصواعق : الفصل الثالث من الباب الأول ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص ٥ ، إلى غيرهم

(٢) ينابيع المودّة : ص ٤٢٧ و ٤٣٠ و ٤٤٢ ، وكفاية الأثر ، والمقتضب والكنز وغيرها

٥٦

وأمّا اعتقادهم في نبيّنا محمّدص فهو أنّه معصوم من الخطأ والزلل والنسيان والغفلة والذنوب الكبائر والصغائر ، وأنّه ما ارتكب شيئا منها قبل النبوّة ولا بعدها ، وأنه مرسل إلى العالم كلّه وهكذا اعتقادهم في الرسل والأنبياء من جهة العصمة.

ويرون أن الامامة من الاصول ويجب إثباتها بالأدلّة العقليّة عدا النصوص النقليّة ، ومن البراهين العقليّة قاعدة اللطف.

وأمّا المعاد فيعتقدون فيه أن الله جلّ اسمه يعيد الناس للحساب بتلك الأجسام التي كانت في الدنيا ، وهي التي تنعّم في الجنان ، أو تعذّب في النيران.

وأمّا أفعال العباد فيعتقدون أنها أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض أي أنّ الله تعالى لم يجبر الخلق على أفعالهم حتى يكون قد ظلمهم في عقابهم على المعاصي ، بل لهم القدرة والاختيار فيما يفعلون ، ولا فوّض الله إليهم خلق أفعالهم حتى يكون قد خرج من سلطان قدرته على عباده ، بل له الحكم والأمر وهو قادر على كلّ شيء ومحيط بالعباد.

وربّما يهيّىء الله تعالى للعبد أسباب الطاعة والهداية ، كما يصدّ عنه أسباب العصيان والضلالة ، لطفا منه بعبده ، وهذا ما نسمّيه بالتوفيق.

وهذا بعض ما تعتقده الاماميّة في الوجود والوحدانيّة ، والصفات ، وفي النبوّة والامامة والمعاد ، وفي أفعال العباد.

وذكرنا لذلك كان استطرادا على سبيل الايجاز ، واستيفاء الكلام على هذه المعتقدات في كتب الكلام والاعتقاد.

والإماميّة اليوم هم السواد الأعظم من الشيعة في جميع الأقطار الاسلاميّة وكتبهم في العلوم كافّة من أوّل يوم ابتدأ فيه التأليف حتّى اليوم مبثوثة بين

٥٧

الامم يقرأها الحاضر والبادي ، والعالم والجاهل.

وليس اليوم غير الاماميّة ، والزيديّة ، والاسماعيليّة ، فرقة ظاهرة تعرف اللهمّ سوى بعض الفرق الغالية التي تنتمي إلى التشيّع.

ولمّا كان كلامنا عن الفرق التي كانت في عهد الصادقعليه السلام أهملنا عن بعض الفرق التي حدثت بعد الصادقعليه السلام أمثال الفطحيّة والناووسيّة والواقفيّة.

٤ ـ الخوارج :

ظهرت هذه الفرقة يوم صفّين بخدعة ابن العاص ، حين أشار على معاوية ـ وقد عجز عن المناهضة ـ برفع المصاحف ، والدعوة لتحكيمها ، فلمّا رفعوها مرقت طائفة من أصحاب أمير المؤمنينعليه السلام وقالوا هؤلاء يدعوننا إلى كتاب الله وأنت تدعوننا إلى السيف ، فعذلهم عن ذلك ، وحاول رجوعهم عن الاغترار بهذه الخدعة ، وقال لهم ويحكم أنا أعلم بكتاب الله ، فلم ينفع معهم عذل وردع ، ولا إقامة حجّة وبرهان ، بل قالوا لترجعن مالكا عن قتال المسلمين ، أو لنفعلنّ بك كما فعلنا بعثمان ، فاضطر إلى ارجاع مالك بعد أن هزم الجمع وولّوا الدبر ، فحملوه على التحكيم ، فأراد أن يبعث عبد الله بن عباس فأبوا إلاّ أن يبعث أبا موسى الأشعري ، فلمّا كان التحكيم قالت الخوارج : لم حكمت في دين الله الرجال؟ لا حكم إلاّ لله ، فمن هنا سمّوا ( المحكّمة ) وبعد أن رجع أمير المؤمنين من صفّين وهم مصرّون على المروق والعصيان اجتمعوا بحروراء قرب الكوفة فسمّوا ( الحروريّة ).

وكان آخر أمرهم أن قتل أمير المؤمنين بالنهروان من أصرّ منهم على المروق ، بعد أن أقام عليهم الحجج ، وقطع المعاذير ، وبعد أن عاثوا في الأرض فسادا ،

٥٨

وقتلوا خبابا أحد خيار الصحابة ، وبقروا بطون الحبالى.

ولم يستأصل تلك الروح استئصالهم بالنهروان ، وما زال في كلّ عصر وزمن قوم على ذلك الرأي والمروق ، وقد أزعجوا الملوك والولاة في تلكم الأعصر ، وكلّما فني قوم منهم نبغ آخرون ، وكانت الناس منهم على رهبة ووجل لما يلاقونه منهم من الفتك الذريع والعمل الفظيع ، والقسوة وانتهاك الحرمة ، وكانوا يحاربون الملوك والولاة عن عقيدة واطمئنان ، فمن ثمّ تجدهم يستبسلون ويحاربون بشجاعة ورباطة جأش ، فلا تقف الناس لهم وإن كانوا أضعافهم ، إذ لا يحملون عقيدة يناهضون بها تلك العقيدة ، ولكنهم إذا عرفوا من أنفسهم الضعف قوّضوا ليلا وبعدوا شاحطين ، ومن ذاك لا تسلم بلدة من وبالهم وسوء أعمالهم.

وكان لهم ظاهر نسك وعبادة ، وما زالوا يستميلون الهمج الرعاع بتلك المظاهر الصالحة ، ودعوى الخروج على سلطان الباطل ، والدعوة للعمل بالكتاب والسنّة ، وإن ناقضوا تلك المظاهر والدعاية بشدة الوطأة والعيث فسادا ، إلاّ أن السذّج من الناس ربما انخذعوا بظاهرة النسك والصلاح ، وقد خدعوا بهاتيك الظواهر الجميلة بعض أهل الكتاب ومن لا يعتقد صحّة دين الاسلام ، فضمّوهم إليهم ، وكاثروا بهم.

وقد ضعفت بعد ذلك شوكتهم ، وهدرت شقاشقهم ، واستراح الناس منهم برهة من الزمن ، ولكن ظهر لهم شأن أيّام الصادقعليه السلام فإنّ أحد رؤسائهم عبد الله بن يحيى الكندي ـ الملقّب بطالب الحق ـ نهض في حضرموت بعد ما استشار الأباضيّة في البصرة وأوجبوا عليه النهوض ، وشخّص إليه منهم أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي وبلخ بن عقبة المسعودي في رجال من الأباضيّة ، وقد بايعه ألفان وبهم ظهر ، ولمّا كثر جمعه توجّه إلى صنعاء وكتب

٥٩

بذلك إلى من بها من الخوارج ، فجرت بينه وبين عاملها حروب انتصر فيها عبد الله واستولى على خزائن الأموال ، ثم استولى على اليمن ، فلمّا كان وقت الحجّ وجّه أبا حمزة وبلخا وأبرهة بن الصباح إلى مكّة والأمير عليهم أبو حمزة في ألف ، وأمره أن يقيم بمكّة إذا صدر النّاس ، ويوجّه بلخا إلى الشام ، فدخلوا مكّة يوم التروية وعليها وعلى المدينة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك في خلافة مروان الحمار ، فكره عبد الواحد قتالهم وفزع الناس منهم فراسلهم عبد الواحد في ألاّ يعطّلوا على النّاس حجّهم ، وأنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتّى ينفر الناس النفر الأخير ، فلمّا كان النفر الأخير نفر عبد الواحد وترك مكّة لأبي حمزة من غير قتال ، ولمّا دخل عبد الواحد المدينة جهّز له جيشا منها فالتقوا بقديد فكانت الدبرة على جيش المدينة والنصرة للشراة ، فبلغ قتلى أهل المدينة ألفين ومائتين وثلاثين رجلا ثم دخل بلخ المدينة بغير حرب ، ورحل عبد الواحد إلى الشام فجهّز مروان لهم جيشا عدده أربعة آلاف في فرسان عسكره ووجوههم ، ومعهم العدّة الوافرة ، وعليه عبد الملك بن عطية السعدي ، فلمّا بلغ الشراة توجّه جند الشام إليهم خفوا إليه في ستمائة وعليهم بلخ بن عقبة المسعودي فالتقوا بوادي القرى لأيام خلت من جمادي الاولى سنة ثلاثين ومائة فتواقفوا ثمّ كانت الدبرة على الخوارج فقتل بلخ والشراة ولم يبق منهم إلاّ ثلاثون ، فهربوا إلى المدينة ، وكان على المدينة المفضل الأزدي ، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب الناس الحرب الشراة بالمدينة فلم يجبه أحد ، واجتمع عليه البربر والزنوج وأهل السوق ، فقاتل بهم الشراة فقتل المفضل وعامّة أصحابه وهرب الباقون ، فأقبل ابن عطيّة إلى المدينة وأقام بها شهرا ، وأبو حمزة بمكّة ، ثمّ توجّه إليه إلى مكّة فوقعت بينهما حرب شعواء قتلت فيها الشراة قتلا ذريعا وقتل أبو حمزة وأبرهة بن الصباح وأسر منهم أربعمائة ثم قتلوا كلّهم ، وصلب ابن عطيّة

٦٠

أبا حمزة وأبرهة وعلي بن الحصين على شعب الخيف ، إلى أن أفضى الأمر إلى العبّاسيّين فأنزلوا أيام السفاح ، ثمّ أن ابن عطيّة خرج الى الطائف وقد بلغ عبد الله بن يحيى طالب الحقّ وهو بصنعاء ما آل إليه أمر أبي حمزة وجماعته فتوجّه الى حرب ابن عطيّة ، فشخّص ابن عطيّة إليه ، ولمّا التقوا قتل من الفريقين جمع كبير ، وترجّل عبد الله في ألف مقاتل ، فقاتلوا حتّى قتلوا كلّهم وقتل عبد الله ، وبعث ابن عطيّة رأسه الى مروان ، ثمّ أقام ابن عطيّة بحضر موت بعد ظفره بالخوارج ، فأتاه كتاب مروان بالتعجيل الى مكّة ليحجّ بالناس ، فشخّص الى مكّة متعجّلا مخفّفا في تسعة عشر فارسا ، فندم مروان وقال : قتلت ابن عطيّة سوف يخرج متعجّلا مخفّفا من اليمن ليدرك الحجّ فيقتله الخوارج ، فكان كما قال ، فإنه صادفه جماعة متلفّقة من الخوارج وغيرهم فعرفه الخوارج فحملوا عليه وقتلوه(١) .

ثمّ لم يكن الخروج بعد هذا إلاّ عقيدة ورأيا من دون أن يكون لهم شأن في محاربة الملوك ، وما زال حتّى اليوم منهم أناس على ذلك المروق ، ومنهم قوم في عمان ، ولكن لا شأن لهم يرعى ولا سطوة تهاب.

والخوارج هم المارقون الذين أنبأ النبيص أمير المؤمنينعليه السلام بأنه سيحاربهم ويظفر بهم.

وكانوا فرقا كثيرة يجمعها القول بتكفير علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل وكلّ من رضي بتحكيم الحكمين ، وتكفير مرتكبي الذنوب ، ووجوب الخروج على الامام الجائر ، كما حكاه في ( الفرق بين الفرق ) عن الكعبي ص ٥٥.

__________________

(١) انظر شرح النّهج : ١ / ٤٥٥ ـ ٤٦٣ تجد تفصيل ما أوجزناه

٦١

لكن حكى عن أبي الحسن الأشعري إنكار إجماعهم على تكفير مرتكبي الذنوب ، ونقل عنهم تفصيلا في ذلك ، وانتهوا في التفريع على هذا الأصل إلى فرق كثيرة ، ولكن أخنى عليها الدهر ، والموجودون اليوم منهم في عمان من الأباضيّة ، على ما يظهر منهم ويسمع عنهم.

الغلاة ومن خرج عن الاسلام ببعض العقائد :

قد ذكرنا في بدء هذا الفصل أن اصول الفرق الاسلاميّة أربعة ، ومنها تتفرّع الفرق جميعا ، وأن فرق الغلاة من فروع تلك الاصول ، فلا تجد أصلا إلاّ وله بعض الفروع الغالية.

وهكذا الشأن فيمن ينتحل شيئا كالتناسخ والحلول والتشبيه أو غير ذلك ممّا يرجع الى الكفر عند فرق المسلمين ، ولكن التهجّم عليهم بالكفر لما ينسب إليهم من الاعتقاد ليس بالأمر السهل ، فإن تكفير من يعترف بالشهادتين لا ينبغي أن يقدم عليه من له حريجة في الدين ، دون أن يعتمد على ركن وثيق وما دمنا في فسحة من ذلك فلا نلج هذا الباب ، ولا نلقي بأنفسنا من شاهق ثمّ نفحص عن سلّم النجاة ، ولا سيّما أن تلك الفرق التي رميت بالخروج عن ربقة الاسلام الصحيح بانتحالها بعض العقائد الباطلة قد أصبحت في خبر كان ، ولم يبق منها إلاّ شواذ لا مقام لهم يلحظ بين أبناء الاسلام ، ولا يخاف من تسرّب معتقداتهم الفاسدة بل أصبحوا يتكتّمون فيما يعتقدون حذرا من سطوة بني الدين في الحجج والبراهين وإبطال ما يدينون به أو نبزهم بالكفر والمروق عن الاسلام.

والحذر من سراية ذلك الداء الى أرباب الجهل أهمّ ما كان لدى الأوائل ممّن قاوم تلك البدع والضلالات بكلّ ذريعة ، ونحن اليوم في أمان من الانخداع

٦٢

بضلالات فرقهم الحاضرة ، فكيف ببدع هاتيك الفرق البائدة التي أصبحت دائرة العين والأثر.

شبه الإلحاد :

إنما الحذر اليوم من سراية شبه الإلحاد ، وشكوك عبدة الدهر وأبناء الطبيعة الذين تسول لهم أنفسهم التخلّص من قيود الدين بكلّ وسيلة ، تلك القيود التي تجعل الانسان في صفوف الملائكة والروحيّين ، وتخرجه عن الوحشيّة الكاسرة ، والشهوات الفاتكة ، كما تجعله في أمان من اعتداء أحد على أثمن ما يجده في هذه الحياة : النفس والعرض والمال ، كما تجعل الناس في أمان منه على نفائسهم تلك ، وتلك الحرّية التي ينشدونها ، والتي خرجوا بها عن ربقة أهل العقول والعفاف الى أسراب الوحوش وأرباب الخلاعة والدعارة هي التي خدعت بعض الشباب ، وجعلته يقع في تلك الفخاخ ، وتصيده هاتيك الشباك ، والشباب سريع الانجذاب الى الشهوات ونزع القيود المزعومة ، من دون أن يرجع الى رشده ويحكّم قبل الانخداع عقله.

* * *

٦٣

الإمامة

إن المسلمين على مذاهب في الإمامة بعد أن أجمعوا على وجوبها ، باعتبار أنّ الإمام هو الجامع لشتاتها ، والهادي لضلالها ، والناهض بها لنشر أعلام الشريعة ، وبثّ روح تعاليمها الحيّة.

ومن سياسة صاحب الشريعة وبدائع حكمة أمره بمعرفة الإمام ، حتّى أنه جعل « من مات ولم يعرف إمام زمانه ميتا على الجاهلية »(١) ، كأن لم يدخل في ربقة الاسلام.

فهذا الفرض لو عمل به المسلمون ، وقاموا بما يحتّمه الواجب من معرفته والاستماع لقوله بعد الوصول إليه لأصبحوا جيشا واحدا وقائدهم الإمام ، فلا يبقى عند ذاك امرؤ مسلم يجعل أحكام الدين ، أو يعلمها ولا يعمل بها ، ولا يبقى بلد في العالم لا تخفق عليه بنود الاسلام.

كانت الخلافة والإمامة ميدانا للسباق ، لا يقبض على ناصيتها إلاّ من حاز قصب السبق ، ولو بالدماء المراقة ، والحرمات المنتهكة ، بل حتّى لو كان الخليفة نفسه بعد استلامه زمام الحكم ما جنا خليعا لا يبالي بما فعل.

__________________

(١) هكذا الحديث في أصل الكتاب ولم نعثر عليه في الكتب الموجودة ، والذي عثرنا عليه هو هذا النص « من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية » كنز العمال : ١ / ١٠٣

٦٤

غير أن الشيعة الإمامية كانت من العهد الأوّل لا تقيم وزنا لمثل هذه الخلافة ولا تعترف بمثل هذه الإمامة ، بل ترى أن الخليفة والإمام من كان جامعا لصفات الكمال كلّها ، عاريا عن خصال النقص جميعا ، عاملا بأوامر الشريعة في السرّ والعلن آمرا بها ، مرتدعا عن نواهيها فيما ظهر وبطن ناهيا عنها ، منصوصا عليه من صاحب الشريعة ، أو من الإمام قبله أمرا من الله سبحانه ، لأنه تعالى أنظر لعباده ، وأبصر بمن يصلح لهذا المنصب الخطير.

ولا ترى الإمام من قام بالناس بل الإمام من قامت الدلالة عليه ، ودلّت الاشارة إليه ، وإن قعد الناس عن اتباعه ، بل وإن قاموا في وجهه صدّا له عن أدائه فروض إمامته وواجبات زعامته.

وإن قعودهم عن طاعته أو قيامهم في معارضته لا تخدش في كفايته للنهوض بأعباء الإمامة ، بل حظّهم أخطئوه وسبيل هدى أضاعوه.

فالإمام ـ على ما تراه الإماميّة ـ هو الحامل لأعباء الإمامة قام أو قعد ، نطق أو سكت ، تقدّم للسباق أو تأخّر ، لأن إمامته ليست باللباس المستعار يلبسه إن استلبه من غيره ، ويتعرّى عنه إن استلبوه منه.

ولمّا كان الإمام هو الحجّة البالغة ، وجب عليه إعلام الناس بإمامته وإقامة الأدلّة عليها عند الحاجة الماسّة ، كما وجب على الامّة معرفته وطاعته إذا عرفوه.

وأما إقامته الدلالة على إمامته فبالتصريح مرّة وبالتلويح اخرى ، وكفى في الدلالة أن يدلي بالكرامات والمعجزات ، ويبدي من العلم ما يعجز الناس عن الحصول على مثله ، إلاّ أن تحجز السيوف دون بيانه ، ولكن أعماله وسجاياه ناطقة بمقامه وإن صمت لسانه.

والإمامة من الأبحاث التي ما زالت موضع الجدل والخصام بين المسلمين من

٦٥

يوم مضى صاحب الدعوة الاسلاميّة ، قلما ولسانا ، وسيفا وسنانا ، وإنما تبتني اسسها اليوم على أنقاض الماضي ، وهي اليوم وغدا كما كانت أمس الفارق بين الفرق ، مع وحدتهم في النبي والكتاب والقبلة ، وفي الفرق اليوم وأمس من ذوي العقول الراجحة والآراء السديدة رجال بإمكانها أن يجمعوها تحت لواء واحد ، كاشفين لهم الستار عمّا حدا بالامامة إلى التخالف والتنابز ، ويعرّفوها فوائد الالفة ، وينذروها سوء الفرقة ، ويلمسوها ما أنزله ذلك الخصام بالاسلام من الويلات والتدمير والشتات.

ولمّا كانت الامامة هي المفترق للطرق ، وجب أن يكون عندها اجتماع ذلك الافتراق ، فلو عرف الناس اليوم حقيقة الامامة ومن الامام ، لأوشك أن يهبّ ولو بعضهم إلى وحدة عندها مجتمع الفرق ، ولمّ الشتات ، في هذه الساعة العصيبة التي سادت فيها الفوضويّة وانشقاق الكلمة.

وإنّي لأحاول أن أرمز إلى بعض ما يجب في الامام ، وإن ذهبت كلمتي أدراج الرياح ، لا تسترعي انتباه غافل ، ولا هبة يقظان ، ولا يغيظني ذلك ما دام القصد صحيحا والغاية غالية ، وهي طلب مراضيه سبحانه.

أقول : إن النظام الذي جاء به خاتم الأنبياءص نظام عامّ يجمع بين السيرتين ، سيرة المرء مع الخالق ، وسيرته مع المخلوق ، وإنّ من جاء بهذا النظام وجب أن يكون قديرا على تطبيقه وتنفيذه حتّى لو ثنيت له الوسادة ، فانبسطت دعوته على المعمورة جمعاء ، وخيّمت شريعته على العالم كلّه ، فالنبي عند تطبيق شريعته وتنفيذها يكون ذا سلطتين زمنيّة وروحيّة ، ولمّا دعاه الله إليه ، انتبهت الامّة إلى الضرورة التي دعته إلى عقد الامامة في حياته ، فرأوا أن القيام بوظائف صاحب الدعوة حتميّ ولا يقوم بها إلاّ إمام تكون له الزعامة العامّة على الامّة الاسلاميّة كلّها وتكون له السلطتان اللتان كانتا للرسول

٦٦

الأمينص وإلاّ بقي ذلك النظام الكافل للسعادتين بلا تنفيذ ، فلا تتمّ الفوائد من تلك الجهود التي قاساها صاحب الرسالة.

فلمّا كانت الامامة على الامّة واجبة بحكم الضرورة ، فمن الأليق بتلك الوظيفة الكبرى؟ أترى الأليق بها من هو كصاحب الرسالة وصورة حاكية له في العلم والعمل ، ومهديّ في نفسه هاد لغيره ، يقوم بالحجّة فيقطع الحجج ، لا يعتري برهانه وهن ، ولا حجّته فلل ، إن طلب الناس منه المعجز في الفعل والقول استطاع الإتيان به من غير مطل وعناء ، وإن احتيج لقطع العذر من المسترشد أو المتعنّد على المجيء بالكرامة الباهرة قويّ عليها من دون كدّ وجهد ، يعلم كلّ ما جاء به صاحب الشريعة عاملا به ، يعرف القرآن تنزيله وتأويله ، مرتديا بجميل الخصال لا تفرّ عنه منها واحدة ، بل هو أفضل في كلّ خصلة من الناس كافة ، عاريا عن ذميم الصفات لا يرتدي منها واحدة ولو لحظة ، وجملة القول أنه المثال الصادق للرسول في جميع ملكاته وصفاته وخصاله وفعاله.

أو الأليق بها من لا يعرف هذه الخلال ولا تعرفه ، أو يتقمّص ببعض ويتعرّى عن بعض ، لا ريب في أنك سوف تقول : إن الأوّل أليق وأحقّ بهذا المنصب الرفيع ، وهل يقدم بصير على القول بأحقّيّة الثاني.

ولكني أحسبك تقول : إن الشأن كلّه في إثبات أمرين في هذا الباب الأول وجوب نصب إمام على هاتيك السجايا والمزايا ، الثاني وجوده جامعا لهذه الخلال والخصال في الامّة الاسلاميّة ، ولو ثبت لدينا أن الامام يجب أن يجمع هذه الصفات ، وأنه يوجد في الامّة ذلك الجامع ، لكان التخلّف عن القول بإمامته ، لأوامره عنادا محضا لا يرتضيه ذو دين وبصيرة.

فأقول : إني سأثبت لك هذين الأمرين ، راجيا أن تكون ممّن ألقى السمع

٦٧

وهو شهيد.

أمّا الدليل على الأول فموجزه : إن النبيص كان عليما بما صدع به ، لا يجهل ما يسأل عنه ، شريعته واحدة ليس فيها اختلاف ، وخالدة إلى يوم البعث ، حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فلو ألقى الحبل على الغارب للامّة في ارتياد الامام القائم بوظائفه لألفينا الامّة جاهلة بأحكام الشريعة لا تعرف الحرام من الحلال ، ولا الحلال من الحرام إذ ليس لديها حكم فصل في علم الشريعة ترجع إلى قوله ، وحاكم عدل في إمضاء الحدود تخضع لأمره ، فتتشعّب لذلك إلى مذاهب ونحل ، وكلّ يقوم بالحجّة على صحّة رأيه ويقيم الأدلّة على صدق عقيدته كما كان ذلك كلّه حين اختار بعض الناس من أنفسهم لأنفسهم إماما وخليفة اختاروا خلفاء لا يعلمون جميع ما جاء به الرسولص ويجهلون كثيرا ممّا يسألون عنه ، ولمّا كانوا بعد الاختيار لهم هم الحكم الفصل والحاكم العدل ، ولمّا لم يجد الناس عند هؤلاء القائمين بالأمر مطلوبهم في الحكومة والأحكام صار كلّ يبدي مذاهبه وآراءه ، وليس عند أحد حجّة قاهرة ، وبرهان نيّر يصدع به شبه تلك المذاهب ، وشكوك هذه الآراء ، وتعارضت النحل ، وكلّ ينسب ما لديه إلى الشريعة ، وما عنده إلى الدين ، فأين الحلال والحرام اللذان لا يتبدّلان إلى الساعة الأخيرة من هذا الوجود ، وأين الشريعة الواحدة الخالدة عمر الدهر ، وقد أصبح في الاسلام بعد نبيّه مشرّعون وشرائع ، وأديان ومذاهب.

ولمّا كان هذا التبديل والتحريف طارئا عن اختيار الناس لمن لا يعلم جميع ما جاء في الشريعة ليكون العالم والحاكم في ساعة واحدة ، يقطع حجج المتأوّلين وألسنة المتقوّلين بالبرهان مرّة وحدود الشفار اخرى فلا تخالفه الناس بعد ذاك ولا تختلف في الآراء والأهواء ، وجب على الامّة أن تختار لها إماما

٦٨

عالما بكلّ ما جاءت به الشريعة الأحمديّة ، عاملا في تنفيذ علمه ، عنده علم ما يسأل عنه ولديه الحجّة على إزالة الأوهام والأباطيل والجهالات والأضاليل ، لتبقى الشريعة الغرّاء على ما صدع بها الرسولص أبد الدهر وحلاله وحرامه لا يتبدّلان مدى العمر ، فلا شرائع ولا مشرّعين ولا مذاهب ولا أديان.

ولكن أين للأمّة اختيار ذلك الحاكم العالم؟ ومن أين تعرفه؟ ولو عرفته فمن أين له اتفاق الكلمة عليه ، والناس مختلفو النزعات متباينو الأغراض؟

فوجب عليه تعالى أن ينصب لهم هذا الامام ، ويعرّفهم بواسطة الرسول ذلك الخلف العادل ، والعالم العامل ، لأن الله سبحانه أنظر لعباده ، وأدرى بمن يليق لهذا المنصب الخطير ، والمقام العظيم.

فاذا كان نصب الامام واجبا عليه تعالى استحال في العقول أن يهمل سبحانه الواجب فيما يصلح عباده ، ويهدي خليقته ، كما يستحيل على الرسول أن يترك التبليغ عنه تعالى بنصب هذا الامام ، ولو جاز عليه ترك هذا الواجب لجاز عليه غيره.

فمتى وجب الرسول وجب الامام ، ومتى بعث الله رسولا نصب الامام ، فلا رسول بلا إمام ، ولا شريعة بغير تفسير وتنفيذ.

وأمّا الدليل على الثاني وهو وجود هذا الامام فالأمر فيه سهل بعد ما تقدّم ، لأنا إذا اعتقدنا بوجوب نصب الامام على تلك الصفات وأنه قد نصبه الله تعالى لخلقه اعتقدنا أنه تعالى لا يجعله مجهول الاسم والنسب ويعسر على الامّة معرفته ، ولا نعرف في الامّة أئمة ادّعي فيهم ذلك وادّعوها لأنفسهم غير علي وبنيه: ، فلو لم يكونوا هم الأئمة لكانت الامامة وذلك الوجوب لغوا.

فلم يبق إذن إلاّ أن نعرف عنهم أنهم اولئك العلماء الذين لا يجهلون ،

٦٩

والعدول الذين لا يجورون ، أمّا العدل فلم يحكم منهم أحد غير أمير المؤمنين وشأنه لا يحتاج إلى إيضاح ، وأمّا العلم فآثارهم ناطقة به فتتبع تجد صدق ما قيل ويقال وهذا الكتاب بين يديك رشحة من ذلك العلم الغمر(١) .

* * *

__________________

(١) إن شئت المزيد في بحث الإمامة فارجع إلى رسالتنا المطبوعة « الشيعة والإمامة »

٧٠

من هو الصادق؟

حقّا على الكاتب أن يعطي صورة إجمالية للمترجم له قبل أن يتغلغل في أعماق الترجمة ، لئلاّ يكون غريبا عن القارئ عند قراءته لكلّ فصل من حياته.

وهنا رأيت أن أنقل شطرا من آراء العلماء في كلماتهم عن الصادق جعفرعليه السلام ، لأنها تعبّر عن آراء أجيال في هذه الشخصيّة الكريمة ، وإليك شيئا منها : فهذا الذهبي(١) في ميزان الاعتدال ( ١ : ١٩٢ ) يقول عند ذكره للامام : « جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين الهاشمي أبو عبد الله أحد الأئمة الأعلام برّ صادق كبير الشأن ».

وممّا قاله النووي(٢) في تهذيب الأسماء واللغات ( ١ : ١٤٩ ـ ١٥٠ ) : « روى عنه محمّد بن إسحاق ، ويحيى الأنصاري ، ومالك ، والسفيانان ، وابن جريح ، وشعبة ، ويحيى القطّان ، وآخرون ، واتفقوا على إمامته وجلالته وسيادته ، قال عمرو بن أبي المقدام : كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمّد علمت أنه من سلالة النبيّين ».

__________________

(١) الحافظ المحدّث شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن عثمان الدمشقي المولود عام ٦٧٣ ، والمتوفى عام ٧٤٨

(٢) الحافظ أبو زكريا محي الدين بن شرف الدين المتوفى عام ٦٧٦

٧١

وابن خلكان(١) يقول : « أحد الأئمة الاثنى عشر على مذهب الاماميّة ، وكان من سادات أهل البيت ، ولقّب بالصادق لصدقه في مقالته ، وفضله أشهر من أن يذكر ». وقال : « وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيّان الصوفي الطرطوسي(٢) قد الّف كتابا يشتمل على ألف ورقة تتضمّن رسائل جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة ، وقال : ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر ، وجدّه زين العابدين ، وعمّ جدّه الحسن بن علي: ، فلله درّه من قبر ما أكرمه وأشرفه ».

والشبلنجي(٣) في نور الأبصار ص ١٣١ يقول : « ومناقبه كثيرة تكاد تفوت حدّ الحاسب ، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الكاتب » وقال : وفي حياة الحيوان الكبرى فائدة قال ابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب : وكتاب الجفر كتبه الامام جعفر الصادق ابن محمّد الباقر ، فيه كلّ ما يحتاجون الى علمه الى يوم القيامة ، والى هذا الجفر أشار أبو العلاء بقوله :

لقد عجبوا لآل البيت لما

أتاهم علمهم في جلد جفر

فمرآة المنجم وهي صغرى

تريه كلّ عامرة وقفر

وقال محمّد الصبّان(٤) في كتابه إسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور

__________________

(١) أحمد بن محمّد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان ولد بمدينة اربل قرب الموصل وانتقل إلى الموصل وسافر إلى حلب ودخل الديار المصرية وناب في القضاء عن السخاوي ، ثم ولّي القضاء بالشام عشر سنين وتوفي بدمشق عام ٦٨١ ، ترجم له في طبقات الشافعيّة : ٥ / ١٤ ، وفي فوات الوفيّات : ١ / ٥٥ ، والسيوطي في حسن المحاضرة : ١ / ٢٦٧ ، ومعجم المطبوعات : ١ / ٩٨ وغيرها

(٢) سوف نشير في حياته العلميّة إلى علم الصادقعليه السلام بالكيمياء وأخذ جابر عنه وشيء من حياة جابر

(٣) مؤمن بن حسن مؤمن المصري. وشبلنج قرية من قرى مصر ، اشتغل في طلب العلوم في الجامع الأزهر ولد في نيف و ١٢٥٠ ولم تذكر وفاته

(٤) محمّد بن علي الصبّان الشافعي الحنفي ولد بمصر ، ترجم له في معجم المطبوعات : ٢ / ١١٩٤

٧٢

الأبصار ص ٢٠٨ : « وأمّا جعفر الصادق فكان إماما نبيلا. وقال : وكان مجاب الدعوة إذا سأل الله شيئا لا يتمّ قوله إلاّ وهو بين يديه ».

والشعراني(١) في لواقح الأنوار يقول : « وكان سلام الله عليه اذا احتاج الى شيء قال : يا ربّاه أنا أحتاج الى كذا ، فما يستتمّ دعاؤه إلاّ وذلك الشيء بجنبه موضوع ».

وسبط ابن الجوزي(٢) في تذكرة خواصّ الامّة ص ١٩٢ يقول : « قال علماء السير : قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرئاسة » وقال : « ومن مكارم أخلاقه ما ذكره الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار عن الشقراني مولى رسول اللهص قال : خرج العطاء أيام المنصور ومالي شفيع ، فوقفت على الباب متحيّرا وإذا بجعفر بن محمّد قد أقبل فذكرت له حاجتي ، فدخل وخرج واذا بعطائي في كمّه فناولني إيّاه ، وقال : إن الحسن من كلّ أحد حسن وأنه منك أحسن لمكانك منّا ، وأن القبيح من كلّ أحد قبيح وأنه منك أقبح لمكانك منّا ، وإنما قال له جعفر ذلك لأن الشقراني كان يشرب الشراب ، فمن مكارم أخلاق جعفر أنه رحّب به وقضى له حاجته مع علمه بحاله ، ووعظه على وجه التعريض ، وهذا من أخلاق الأنبياء ».

ومحمّد بن طلحة(٣) في مطالب السؤل ص ٨١ يقول : « وهو من عظماء أهل البيت وساداتهم ذو علوم جمّة ، وعبادة موفرة ، وأوراد متواصلة ، وزهادة

__________________

(١) أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي المصري المعروف بالشعراني دخل القاهرة عام ٩١١ وبها توفى ، ترجم له في معجم المطبوعات : ١ / ١١٢٦

(٢) أبو مظفر شمس الدين يوسف بن قزغلي الواعظ الشهير الحنفي المولود عام ٥٨٢ أو ٥٨١ والمتوفى عام ٦٥٤ في ٢١ ذي الحجّة

(٣) كمال الدين الشافعي المتوفى عام ٦٥٤

٧٣

بيّنة ، وتلاوة كثيرة ، يتبع معاني القرآن الكريم ، ويستخرج من بحره جواهره ، ويستنتج عجائبه ، ويقسّم أوقاته على أنواع الطاعات ، بحيث يحاسب عليها نفسه ، رؤيته تذكّر الآخرة ، واستماع حديثه يزهد في الدنيا ، والاقتداء بهديه يورث الجنّة ، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوّة ، وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرّيّة الرسالة. وقال : وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوت عدد الحاصر ، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر ، حتّى أنه من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى صارت الأحكام التي لا تدرك عللها والعلوم التي تقصر الأفهام عن الاحاطة بحكمها ، تضاف إليه ، وتروى عنه ».

وفي صواعق ابن حجر(١) : « ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته في جميع البلدان ».

وفي ينابيع المودّة(٢) طبع اسلامبول ص ٣٨٠ « ومن أئمة أهل البيت أبو عبد الله جعفر الصادق » وقال : « وكان من سادات أهل البيت » وقال : « وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السالمي في طبقات المشايخ الصوفيّة : جعفر الصادق فاق جميع أقرانه من أهل البيت ، وهو ذو علم غزير ، وزهد بالغ في الدنيا ، وورع تامّ في الشهوات ، وأدب كامل في الحكمة ».

وإليك ما يقوله الحافظ أبو نعيم(٣) في حلية الأولياء ( ٣ : ١٩٢ ) : « ومنهم الامام الناطق والزمام السابق ، أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق أقبل على العبادة

__________________

(١) المحدّث شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي نزيل مكّة

(٢) هي للشيخ سليمان بن إبراهيم المعروف بخواجه كلان ، وكان فراغه من تأليفها تاسع شهر رمضان عام ١٢٩١

(٣) أحمد بن عبد الله الاصبهاني المتوفى عام ٤٣٠

٧٤

والخضوع ، وآثر العزلة والخشوع ، ونهى(١) عن الرئاسة والجموع » ثم روى عن عمرو بن أبي المقدام كلامه السابق ، وروى عن الهياج بن بسطام(٢) قوله : « وكان جعفر بن محمّد يطعم حتى لا يبقى لعياله شيء ».

ويقول ابن الصبّاغ المالكي(٣) في الفصول المهمّة : « كان من بين اخوته خليفة أبيه ووصيّه ، والقائم بالامامة من بعده برز على جماعته بالفضل وكان أنبههم ذكرا ، وأجلّهم قدرا ، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته وذكره في سائر البلدان » ، وقال في أخريات كلامه : « مناقب أبي عبد الله جعفر الصادق فاضلة ، وصفاته في الشرف كاملة ، وشرفه على جهات الأيام سائلة ، وأندية المجد والعزّ بمفاخره ومآثره آهلة ».

وهذا السويدي(٤) في سبائك الذهب ص ٧٢ يقول : « كان من بين اخوته خليفة أبيه ووصيّه ، نقل عنه من العلوم ما لم ينقل عن غيره ، وكان إماما في الحديث » وقال : « ومناقبه كثيرة ».

وفي عمدة الطالب(٥) ص ١٨٤ : « ويقال له عمود الشرف ، ومناقبه متواترة بين الأنام ، مشهورة بين الخاصّ والعامّ ، وقصده المنصور الدوانيقي بالقتل مرارا فعصمه الله منه ».

__________________

(١) هكذا في الأصل وفي كشف الغمّة عن الحلية « ولها » وكلّ منهما يناسب المقام

(٢) التميمي الحنظلي الهروي رحل إلى العراق وسمع علماء عصره ودخل بغداد وحدّث بها ، مات عام ١٧٧ ، ترجم له الخطيب البغدادي : ١٤ / ٨٠

(٣) نور الدين علي بن محمّد بن الصبّاغ المالكي المولود عام ٧٨٤ والمتوفى عام ٨٥٥ ، ترجم له السخاوي في الضوء اللامع : ٥ / ٢٨٣ وذكر مشايخه وكتابه الفصول المهمّة في معرفة الأئمة وهم اثنى عشر

(٤) محمد أمين البغدادي ، وآل السويدي من البيوتات الرفيعة في بغداد حتّى اليوم وهو من رجال القرن الماضي ، وفرغ من كتابه في شوّال عام ١٢٢٩

(٥) للنسّابة الشهير جمال الدين أحمد بن علي الداودي الحسني المتوفى عام ٨٢٨

٧٥

والشهرستاني(١) في الملل والنحل : « وهو ذو علم غزير في الدين والأدب ، كامل في الحكمة ، وزهد بالغ وورع تامّ في الشهوات ، وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد الشيعة المنتمين إليه ، ويفيض على الموالين أسرار العلوم ، ثم دخل العراق وأقام بها مدّة ما تعرّض للامامة قط(٢) ولا نازع أحدا في الخلافة ، ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ، ومن تعلّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط ، وقيل من آنس بالله توحّش عن الناس ، ومن استأنس بغير الله نهبه الوسواس ».

واليافعي(٣) في مرآة الجنان ( ١ : ٣٠٤ ) فيمن توفي عام ١٤٨ ، يقول : « وفيها توفي الامام السيد الجليل سلالة النبوّة ومعدن الفتوّة ، أبو عبد الله جعفر الصادق ، ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر ، وجدّه زين العابدين وعمّ جده الحسن ابن علي رضوان الله عليهم أجمعين ، وأكرم بذلك القبر وما جمع من الأشراف الكرام اولي المناقب ، وإنما لقّب بالصادق لصدقه في مقالته ، وله كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها ، وقد الّف تلميذه جابر بن حيّان الصوفي كتابا يشتمل على ألف ورقة يتضمّن رسائله وهي خمسمائة رسالة ».

والصدوق طاب ثراه(٤) يروي في أماليه المجلس ال ٤٢ عن سليمان بن داود

__________________

(١) أبو الفتح محمّد بن أبي القاسم كان فقيها متكلّما على مذهب الأشعري ، دخل بغداد عام ٥١٠ وأقام بها ثلاث سنين وكانت ولادته بشهرستان وبها توفى عام ٥٤٨ ، ترجم له في الوفيّات ومعجم الادباء وطبقات السبكي وروضات الجنّات ، ومفتاح السعادة وغيرها

(٢) يراد من الامامة هنا الامامة التي يعقدها الناس ، وإلاّ فهو إمام اجتمع عليه الناس أو تفرّقوا ، تعرّض للأمر أو صفح

(٣) أبو محمّد عبد الله بن سعد بن علي بن سليمان عفيف الدين اليافعي اليماني نزيل الحرمين المتوفى عام ٧٦٨

(٤) محمّد بن علي بن بابويه القميّ المحدّث الجليل صاحب التآليف القيّمة الكثيرة البالغة نحوا من ٣٠٠ مؤلّف ، وقد ورد بغداد عام ٣٥٢ وسمع منه شيوخ الطائفة على حداثة سنّه ، ومات بالري عام ٣٨١

٧٦

المنقري(١) عن حفض بن غياث(٢) انه كان إذا حدّثنا عن جعفر بن محمّدعليه السلام قال : « حدّثني خير الجعافرة ».

وروى الصدوق أيضا فيه مسندا عن علي بن غراب(٣) انه كان إذا حدّثنا عن جعفر بن محمّد قال : « حدّثنا الصادق عن الله ، جعفر بن محمّد ».

وروى أيضا في ال ٣٢ مسندا عن محمّد بن زياد الأزدي(٤) قال : سمعت مالك ابن أنس(٥) يقول : أدخل الى الصادق جعفر بن محمّدعليه السلام فيقدّم لي مخدّة ، ويعرف لي قدرا ، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال إمّا صائما وإما قائما وإما ذاكرا ، وكان من عظماء العبّاد واكابر الزهّاد ، الذين يخشون الله عزّ وجلّ وكان كثير الحديث ، طيّب المجالسة ، كثير الفوائد ، فإذا قال : قال رسول اللهص اخضرّ مرّة ، واصفرّ اخرى ، حتّى ينكره من يعرفه ، ولقد

__________________

(١) المعروف بابن الشاذكوني وهو ممن روى عن الصادقعليه السلام وعن رواته وكان من ثقات الرواة

(٢) الكوفي القاضي ، وسيأتي في الثقات من مشاهير رواة الصادقعليه السلام ، والظاهر أنه من أهل السنّة

(٣) ابن عبد العزيز وهو ممّن روى عن الصادقعليه السلام واستظهر بعض الرجاليين أنه من أهل السنّة إلاّ أن ابن النديم في الفهرست عدّه من مشايخ الشيعة الذين رووا الفقه عن الأئمة:

(٤) هو المعروف بابن أبي عمير وقد لقي الكاظم والرضا والجواد: ، حبسه الرشيد ليلي القضاء ، وقيل ليدلّه على مواضع الشيعة وأصحاب الكاظمعليه السلام ، وقيل ضرب أسواطا ونالت منه فلم يقر ، وقد رويت عنه كتب مائة رجل من أصحاب الصادقعليه السلام ، وله مصنّفات كثيرة ، وهو ممّن لا يروي إلاّ عن ثقة ، وقد أجمع العصابة على قبول مراسيله ، وهو من العصابة الذين أجمعوا على تصحيح ما يصحّ عنهم ، وقد اتفق الفريقان على وثاقته وعلوّ منزلته ، وقيل : إنما قبلوا مراسيله لأنه دفن كتبه يوم حبس فتلفت فروى ما علق منها في ذهنه ، فمن ثمّ قد ينسى الراوي وإن حفظ الرواية ، مات عام ٢١٧

(٥) المدني أوّل المذاهب الأربعة ، وهو ممّن أخذ عن الصادقعليه السلام كما سيأتي في أصحاب الصادقعليه السلام ، وهو مذهب أهل الحجاز والنسبة إليه مالكي

٧٧

حججت معه سنة فلمّا استوت به راحلته عند الاحرام كان كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه ، وكاد أن يخرّ عن راحلته ، فقلت : يا بن رسول اللهص ولا بدّ لك من أن تقول ، فقال : يا بن عامر كيف أجسر أن أقول لبّيك اللهمّ لبّيك ، وأخشى أن يقول عزّ وجل : لا لبّيك ولا سعديك.

وابن شهر اشوب(١) في كتابه المناقب في أحوال الصادقعليه السلام يروي عن مالك بن أنس أيضا قوله : ما رأت عين ولا سمعت اذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلا وعلما وعبادة وورعا ، وزاد الصدوق في أماليه في ال ٨١ قوله : كان والله إذا قال صدق.

وقال أيضا : وذكر أبو القاسم البغار في مسند أبي حنيفة(٢) قال الحسن بن زياد : سمعت أبا حنيفة وقد سئل : من أفقه من رأيت؟ قال : جعفر بن محمّد ، لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ فقال : يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد فهيّئ له مسائلك الشداد ، فهيّأت له أربعين مسألة ، ثم بعث إليّ أبو جعفر وهو في الحيرة فأتيته فسلّمت عليه ، فأورد إليّ المجلس فجلست ثم التفت إليه فقال : يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة ، قال : نعم أعرفه ، ثمّ التفت إليّ فقال : الق على أبي عبد الله من مسائلك ، فجعلت القي عليه فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا ، وأهل المدينة يقولون كذا ، ونحن نقول كذا ، فربما تابعناكم ، وربما تابعناهم ، وربما خالفنا جميعا ، حتّى أتيت على الأربعين مسألة ، فما أخلّ منها

__________________

(١) محمّد بن علي المازندراني رشيد الدين من مشايخ الطائفة وفقهائها وكان شاعرا بليغا منشأ وله مصنّفات عديدة منها : معالم العلماء ، وكتاب أنساب آل أبي طالب ، وكتاب مناقب آل أبي طالب ، وهو الذي أشرنا إليه في الأصل ، وكثيرا ما نروي عنه في هذا الكتاب

(٢) النعمان بن ثابت ثاني المذاهب لأهل السنّة وهو أيضا ممّن أخذ عن الصادقعليه السلام ، والنسبة إليه حنفي ، وسيأتي الكلام عليه في أصحاب الصادقعليه السلام

٧٨

بشيء ، ثمّ قال أبو حنيفة : أليس أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.

بل ان المنصور نفسه وهو من علمت كيف يحرّق الارّم(١) على أبي عبد اللهعليه السلام قد ينطق بالحقّ ، عند ذكره أو مقابلته ، فيقول : هذا الشجي المعترض في حلقي من أعلم الناس في زمانه(٢) ويقول أخرى : وإنه ممّن يريد الآخرة.

لا الدنيا(٣) ويقول تارة : إنه ليس من أهل بيت نبوّة إلاّ وفيه محدّث ، وإن جعفر بن محمّد محدّثنا اليوم(٤) ويقول مخاطبا للصادقعليه السلام : لا نزال من بحرك نغترف ، وإليك نزدلف ، تبصر من العمى ، وتجلو بنورك الطخياء(٥) فنحن نعوم في سحاب قدسك ، وطامي بحرك(٦) ، ويقول لحاجبه الربيع : وهؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إلاّ جاهل لا حظّ له في الشريعة(٧) .

ويقول إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العبّاس : دخلت على أبي جعفر المنصور يوما وقد اخضلّت لحيته بالدموع ، وقال لي : ما علمت ما نزل بأهلك فقلت : وما ذاك يا أمير المؤمنين ، قال : فإنّ سيّدهم وعالمهم وبقيّة الأخيار منهم توفي ، فقلت ومن هو؟ قال : جعفر بن محمّد ، فقلت : أعظم الله أجر أمير المؤمنين وأطال لنا بقاءه ، فقال لي : إن جعفرا كان ممّن قال الله فيه « ثمّ اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا » وكان ممّن اصطفى الله ، وكان من السابقين في

__________________

(١) كركع ـ الأضراس ، ولتولّد الحرارة فيها من حكّ بعضها ببعض يقال يحرقها ، وهو مثل يضرب لمن يبلغ به الغيظ شدّته لأن الحكّ من آثاره

(٢) كتاب الوصيّة للمسعودي

(٣) كشف الغمّة عن تذكرة ابن حمدون : ٢ / ٢٠٩

(٤) الكافي : باب مولدهعليه السلام : ١ / ٤٧٥ ، وبصائر الدرجات ، والمناقب ، والخرائج والجرائح

(٥) الليلة المظلمة ، ولعلّه كناية عن الأمور المشكلة التي لا يهتدي الناس إلى حلّها

(٦) بحار الأنوار : في أحوال الصادقعليه السلام : ٤٧ / ١٩٩

(٧) مهج الدعوات لابن طاوس : ص ١٩٢ ، بحار الأنوار : ٤٧ / ١٩٩

٧٩

الخيرات(١) .

هذا وهو المنصور العدوّ الألدّ للصادق ، الذي كان مجاهدا في النيل من كرامته والقضاء عليه.

بل أن الملاحدة على كفرهم وعدائهم للاسلام ورجاله كانوا يعظّمونه ويعترفون له بغزارة العلم ، والميزة بالصفات الروحيّة والملكات القدسيّة ، أمثال ابن المقفّع وابن أبي العوجاء والديصاني وغيرهم ، فهذا ابن المقفع يقول : ترون هذا الخلق ـ وأومأ بيده الى موضع الطواف ـ ما منهم أحد أوجب له اسم الانسانيّة إلاّ ذلك الشيخ الجالس ، يعني الصادقعليه السلام ، وقال ابن أبي العوجاء : ما هذا ببشر ، وإن كان في الدنيا روحاني يتجسّد اذا شاء ويتروّح اذا شاء باطنا فهو هذا ، يعني الصادقعليه السلام .(٢)

وكان ابن أبي العوجاء اذا سأل أحد أصحاب الصادقعليه السلام عن شيء غامض واستمهله ، ثمّ أتاه بالجواب بعد حين واستحسنه ، قال : هذه نقلت من الحجاز.

وهكذا كان الديصاني مع أصحاب الصادقعليه السلام ، وما يقوله فيم يحملون إليه جوابه.

وهذه قطرة من غيث ممّا نطق به أهل الفضل في شأن الصادقعليه السلام مع اختلاف الزمن والبلد والذوق والرأي في القائلين ، اقدّمها أمام الدخول في حياته التفصيليّة لتعطيك صورة إجماليّة عن هذه الشخصيّة الفذّة ، فإن هذه الكلمات مع وجازتها تعلم القارئ عمّا لأبي عبد اللهعليه السلام من فضيلة بل فضائل ، وعمّا له من آثار ومآثر.

__________________

(١) تأريخ اليعقوبي : ٣ / ١١٧

(٢) الكافي : كتاب التوحيد منه ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث : ١ / ٧٤

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268