الإمام الصادق عليه السلام الجزء ١

الإمام الصادق عليه السلام14%

الإمام الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 268

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 268 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 6951 / تحميل: 1545
الحجم الحجم الحجم
الإمام الصادق عليه السلام

الإمام الصادق عليه السلام الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

التقيّة

تمهيد :

مني الامام الصادقعليه السلام من بين الأئمة بمعاصرة الدولتين المروانيّة والعبّاسيّة ، اللتين حاربتا الشريعة وصاحبها النبيّ الأمين بمطاوعة الشهوات والتفنّن باللذات.

ثمّ تنبغ من بين هاتيك المعازف والقيان وذلك الجور والفجور رجالات البدع والمذاهب ، والآراء والأهواء ، ناصبين فخاخهم لصيد السمعة والصيت حين لا محاسب ولا معاقب ، ولا ناهي ولا آمر ، بل كانت السلطة قد تروّج تلك الاختلافات ، فيما يضعف من مذهب أهل البيت ويقلّل من أنصاره.

ولقد كان أبو عبد الله الصادقعليه السلام يشاهد ذلك الصراع القائم بين الدين والحكومتين ، وبين الحقّ وأرباب هاتيك البدع.

فما ذا تراه سيتّخذ من موقف في وسط هذا المحيط المائج؟ أيعلن الحرب على السلطة والبدع وهو يعرف الناس وتخاذلهم عن الحق.

وكم شاهد وسمع من غدرة بعلوي ، ونكثة بهاشمي ، ولا يهمّه ذلك لو كان يصل الى غرضه كما فعل الحسينعليه السلام ، فليست نفسه بأعزّ من الدين عليه ، ولكنه يعلم يقينا بأن ذلك سيقضي على نفيس حياته ، دون أن يسدي إلى الدين نفعا ، ويجرّ له مغنما أو أنه يلتزم الصمت أمام ذلك الصراع وفيه

٨١

مسئوليّة كبرى أمام الله وأمام صاحب الشريعة فلا بدّ إذن من مخرج لتخليص الدين من هذا الصراع ، مع سلامة نفسه وصفوة رجاله من مخالب تلك الاسود الضارية.

فكانت سياسته الرشيدة في سبيل ذلك نشر العلوم والمعارف وبثّ الأحكام والحكم وافشاء الفضائل ، وكبح الضلالات بالحجّة في ظلّ ( التقيّة ) التي اتّخذ منها جنّة ودريئة لتنفيذ سياسته الحكيمة ، فكانت تعاليمه خدمة للشريعة ، وعباداته إرشادا للناس ، ومناظراته مناهضة للبدع ، فاستقام مجاهدا على ذلك الى أن وافاه الأجل.

فوجب أن نتكلّم عن التقيّة لأجل ذلك في فصل مستقل.

دليل التقيّة :

إن التقيّة من الوقاية ، فهي جنّة تدرأ بها المخاوف والأخطار وموردها الخوف على النفيس من نفس وغيرها.

ودليلها : الكتاب ، والسنّة ، والعقل ، والاجماع عند الشيعة ، أمّا الكتاب فيكفي منه قوله تعالى « لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ويحذّركم الله نفسه »(١) فجوّز تعالى للمؤمنين أن يتظاهروا في ولاء الكافرين عند التقيّة والخوف من شرّهم ، الى غيرها من الآيات التي سيرد عليك بعضها.

وأمّا السنّة فما جاء عن أهل البيت وغيرهم أكثر من أن يحصر ، وسنذكر شطرا منه في طيّ هذا المبحث ، وكفى من السنّة ما رواه الفريقان في قصّة عمّار ، حتّى عذره الله سبحانه

__________________

(١) آل عمران : ٢٨

٨٢

في كتابه العزيز فنزل في حقّه « إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالايمان »(١) .

وأمّا إجماع الشيعة على المشروعيّة بل الوجوب فلا نقاش فيه ، لنذكر مصادره ، لأن أمر التقيّة ولزومها عند أهل البيت وشيعتهم لا يختلف فيه اثنان.

وأمّا العقل فلأنه بالبداهة يحكم بوجوب المحافظة على النفس والنفيس ما استطاع المرء إليها سبيلا ، ويمنع من إلقاء النفس بالمهالك ، وقد نهى عن ذلك الكتاب العزيز أيضا فقال تعالى : « ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة »(٢) وقال سبحانه « ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما »(٣) .

وسيرة أرباب العقول جارية على وفق هذا الحكم العقلي ، بل ان غريزة البشر على التقيّة ، فإنك لو حللت بدار قوم يخالفونك في المذهب أو المبدأ السياسي ، وتخشى منهم لو علموا ما أنت عليه لكنت تسرّ ما عندك بطبعك وفطرتك ما استطعت ، من دون أن تعرف حكم العقل أو الشرع في هذا الشأن.

ولو استعرضت تأريخ الاسلام من البدء لوجدت أن التقيّة كانت ضرورة يلتجأ إليها ، فقد أخفى النبيص بدء الدعوة أمره حتّى دعا بني هاشم وأمره الله سبحانه أن يصدع بأمره(٤) ، وتكتّم المسلمون في إسلامهم قبل ظهوره وانتشاره ، وتستّر أبو طالب في إسلامه ليتسنّى له الدفاع عن الرسولص وليبعد عنه التهمة في دفاعه.

وكيف عاد الأمر عكسا يوم ارتفع منار الإسلام فصار أهل الكفر في مكّة والمدينة يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر.

__________________

(١) النحل : ١٠٦

(٢) البقرة : ١٩٥

(٣) النساء : ٢٩

(٤) الحجر : ٩٤

٨٣

ابتداء التقيّة ومبرّراتها :

ما كانت تقيّة الشيعة مبتدأة من عصر الصادقعليه السلام بل كانت من عهد أمير المؤمنينعليه السلام حتّى أنه كان قد استعمل التقيّة بنفسه في اكثر أيامه ، إنك لتعلم أنه من بدء الخلافة كان يرى أن الخلافة له ، ويراها ثلّة من الناس فيه ، ولكنّه لمّا لم يجد أنصارا وادع وصمت هو وأصحابه ، ولو وجد أربعين ذوي عزم منهم لناهض القوم ـ على حدّ تعبيره نفسه ـ وان النّاس حتّى من يخالفه لتعلم أن له رأيه في القوم ومن ثمّ أرادوه للبيعة في الشورى على اتباع سيرة السلف فأبى إلاّ على كتاب الله وسنّة رسوله.

وكان يتكتّم كثيرا بما يرى التقيّة في إبدائه حتّى بعد ما صار الأمر إليه لعلمه بأن في الناس من يخالفه ويناوئه ، فلو باح بكلّ ما عنده لم يأمن خلاف الناس عليه ، كيف وقد نكثت طائفة ، وقسطت اخرى ، ومرق آخرون ، فلو صارح بكلّ ما يعلم ويرى لانتقضت عليه أطراف البلاد.

ومع أن الكوفة يغلب عليها الولاء والتشيّع وهي عاصمة ملكه ما استطاع أن يغيّر فيها كلّ ما ورثوه من العهد السابق ، كما لم يطق أن يبوح فيها بكلّ ما يعلم إلاّ القليل ، هذا وهو صاحب السلطتين : الروحيّة والزمنيّة ، فكيف إذن به يوم كان أعزل ، وكيف بأولاده والسطوة والقوّة عليهم.

لم يتّخذوا التقيّة جنّة إلاّ لما يعلمون بما يجنيه عليهم وعلى أوليائهم ذلك الإعلان ، وقد أمر بها أمير المؤمنين قبل بنيه ، فإنه قال في بعض احتجاجاته كما يرويه الطبرسي(١) في الاحتجاج : وآمرك أن تستعمل التقيّة في دينك ـ إلى أن

__________________

(١) أحمد بن علي أبي طالب من علماء الطائفة وشيوخهم ، وكتابه الاحتجاج كثير الفوائد جليل النفع

٨٤

يقول ـ : وتصون بذلك من عرف من أوليائنا واخواننا فإن ذلك أفضل من أن تتعرّض للهلاك ، وتنقطع به عن عمل في الدين وصلاح إخوانك المؤمنين ، وإيّاك ثم إيّاك أن تترك التقيّة التي أمرتك بها فإنك شاحط بدمك ودماء إخوانك ، متعرّض لنفسك ولنفسهم للزوال ، مذلّ لهم في أيدي أعداء الدين وقد أمرك الله بإعزازهم ، فإنك إن خالفت وصيّتي كان ضررك على إخوانك ونفسك أشدّ من ضرر الناصب لنا الكافر بنا.

فانظر كيف يأمر أمير المؤمنين وليّه بالتقيّة ، ويكشف له عن فوائدها والضرر في خلافها.

ظهر التشيّع والشيعة أيام أمير المؤمنين ، لأن السلطان بيده مرجعه ومآله حتّى عرفتهم أعداؤهم في كلّ مصر وقطر ، فما ذا ترى سيحلّ بهم بعد تقويض سلطانه؟

لقد حاربهم معاوية بكلّ ما اوتي من حول وقوّة وحيلة وخديعة ، فكان من تلك الوسائل سبابه لأبي الحسن وأمره به ليربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير كما يقول هو ، وفي ذلك أيّ حرب لهم و

إذلال ، ثمّ قتل المعروفين من رجالهم ، والمشهورين من أبدالهم وكان أكثرهم بالكوفة فاستعمل عليهم زيادا وضمّ إليه البصرة وهو بهم عارف ، يقول المدائني : فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطردهم وشرّدهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم(١) .

وأمّا الذين لم يتمكّنوا من الهرب لمعروفيّتهم في البلاد أو هربوا وأدركهم الطلب فكان نصيبهم الموت الأحمر ، أمثال حجر بن عدي وأصحابه ،

__________________

(١) شرح النهج : ٣ / ١٥

٨٥

وعمرو بن الحمق وأضرابه.

ويقول العبري في تاريخه ص ٨٧ : وكان معاوية قد أذكى العيون على شيعة علي فقتلهم أين أصابهم.

ويقول الباقرعليه السلام عند ذكرى النوازل بهم وبأوليائهم : وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسنعليه السلام فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن ونهب ماله وهدمت داره(١) .

كان معاوية يخشى الحسنعليه السلام ، لأن الناس منتظرة لنهضته ، وما

صالح معاوية إلاّ على شروط ، منها أن تعود الخلافة إليه بعده ومن ثمّ عاجله بالسمّ ، فالناس طامحة الأنظار لأبي محمّد ، ما دام أبو محمّد في قيد الحياة ومع تلك الرهبة من أبي محمّد وخشيته جانبه كان تلك فعاله ، فكيف حاله مع الشيعة بعد موت الحسنعليه السلام .

ولمّا عاد الأمر ليزيد وابن زياد كانا أقوى في الفتك وأجرأ في السفك من معاوية وزياد ، فقد قتل ابن زياد مسلما وهانيا ورشيدا الهجري وميثما التمّار وفتية شيعيّة ، وملأ من الشيعة ووجوهها السجون ، حتّى بلغت في حبسه اثني عشر ألفا ، ثمّ لحق ذلك حادثة الطف.

وما نسيت هذه المشانق والمرازئ حتّى جاء دور الحجّاج وفتكه ، ولنترك إمامنا الباقرعليه السلام يحدّثنا عن هذا الدور الذي شاهده بنفسه ، فيقول : ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم ـ يعني الشيعة ـ كلّ قتلة وأخذهم بكلّ ظنّة وتهمة ، حتّى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال له شيعة علي

__________________

(١) شرح النهج : ٣ / ١٥

٨٦

عليه السلام (١) .

فكان هذا دأب الأمويّين مع العلويّين وشيعتهم ، وقد عرفت شطر تلك السيرة ممّا سبق.

ولو استطردت أنباء العصر العبّاسي لعلمت أن الدولة العبّاسيّة اقتدت بالامّة الامويّة في سيرتها القاسية مع العلويّة وأوليائهم ، وأمامك ما سلف ممّا حدّثناك به عن الامويّة والعبّاسيّة وما جنتاه على أهل البيت من قسوة واعتداء.

أفيستطيع بعد تلك النوائب والمصائب أن يجهر أهل البيت أو شيعتهم بما يرونه من الدين ومعارضة السلطة في المبدأ والمعتقد والسيرة والعمل؟

بوجدانك أيها البصير ما كنت صانعا لو تمرّ عليك وعلى أتباعك أمثال تلك الوقائع وأتت رائد ومسئول ، أفتغريهم بإعلان ما يجعلهم مجزرة للأعداء وهدفا للناقمين ، أم تحتّم عليهم الكتمان والتستّر هربا من تلك المجازر ، وفرارا من مرارة العذاب والتنكيل؟

واذا كانت العترة أحد الثقلين الذين بهما حفظ الدين ونواميسه تستأصلهم الحراب والحروب فهل يبقى للدين منار مرفوع أو ظلّ ممدود.

إذن لا محيص من التقيّة إذا أرادت العترة ملازمة القرآن وتعليم ما فيه حتّى يردا الحوض معا على رسول اللهص ، وإذا أرادوا كشف ما عليه اولئك المسيطرون على الناس من الظلم وبيان ما عليه اولئك المبتدعون في الدين من الضلالة والجهالة.

ولذلك يقول الصادقعليه السلام : التقيّة ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا

__________________

(١) نفس المصدر

٨٧

تقيّة له ، وإنّ المذيع لأمرنا كالجاحد به ، وقالعليه السلام لجماعة من أصحابه كانوا عنده يحدّثهم : لا تذيعوا أمرنا ولا تحدّثوا به إلاّ أهله فإنّ المذيع علينا سرّنا أشد مؤونة من عدوّنا ، انصرفوا رحمكم الله ولا تذيعوا سرّنا(١) .

ويقولعليه السلام : نفس المهموم لظلمنا تسبيح ، وهمّه لنا عبادة ، وكتمان سرّنا جهاد في سبيل الله(٢) .

ويقولعليه السلام لمدرك بن الهزهز(٣) : يا مدرك إن أمرنا ليس بقبوله فقط ولكن بصيانته وكتمانه عن غير أهله ، أقرأ أصحابنا السلام ورحمة الله وبركاته ، وقل لهم رحم الله امرأ اجتر مودّة الناس إلينا فحدّثهم بما يعرفون وترك ما ينكرون(٤) .

وكانوا دائبين على تلك الوصايا لأصحابهم حتّى أن جابرا الجعفي الثقة الثبت الراوية عن الباقر والصادق يقول : رويت خمسين ألف حديث ما سمعها أحد مني ، بل قيل كانت سبعين وقيل تسعين ألفا عن الباقر فحسب ولم يحدّث بها أحدا من الناس(٥) .

ولذلك يقول الصادقعليه السلام للمعلّى بن خنيس : لا تكونوا أسرى في أيدي الناس بحديثنا ، إن شاءوا أمنوا عليكم ، وإن شاءوا قتلوكم. وكان يقولعليه السلام : ما قتل المعلّى إلاّ من جهة إفشائه لحديثنا الصعب(٦) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ٢ / ٧٤ / ٤٢

(٢) بحار الأنوار : ٢ / ٦٤ / ١

(٣) أو ابن أبي الهزهاز النخعي الكوفي روى عن الصادقعليه السلام وروى عنه الثقات

(٤) بحار الأنوار : ٢ / ٧٧ / ٦٢

(٥) بحار الأنوار : ٢ / ٦٩ / ٢١ ـ ٢٢

(٦) بحار الأنوار : ٢١ / ٧١ / ٣٤

٨٨

وما اكثر ما جاء عنه من الردع عن إذاعة سرّهم والإفشاء لحديثهم وأن المذيع له قاتلهم عمدا لا خطأ(١) ، فهذه الأحاديث وغيرها تكشف لك سرّ أمرهم بالتقيّة ، فكأنّهم يعلمون بأن الناس سوف تستهدف الشيعة على التقيّة فأبانوا الوجه في إلزامهم بها واستمرارهم عليها.

أثر التقيّة في خدمة الدين :

وأمّا أثر التقيّة في خدمة الدين والمجتمع الشيعي فلا يكاد يجهل ، فإن الكوفة أيام زياد ضعف فيها التشيّع حتّى لم يبق بها من الشيعة معروف وبلغ الحال بها أيام الحجّاج إلى أن ينسب الرجل إلى الكفر والزندقة أحبّ إليه من أن ينسب إلى التشيّع ، ولكن لم تمض برهة على تشديدهم على الشيعة في اعتزال الناس والسياسة واختفائهم وراء حجب التقيّة حتّى بلغ رواة الصادقعليه السلام أربعة آلاف أو يزيدون كما أحصاهم ابن عقدة ، والشيخ الطوسي طاب ثراه في كتاب الرجال ، والطبرسي في أعلام الورى ، والمحقّق الحلّي في المعتبر ، وكان اكثرهم من أهل الكوفة ، وكان الحسن بن علي الوشاء(٢) يقول : لو علمت أن هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه فإني أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ كلّ يقول : حدّثني جعفر بن محمّد٨ ، على أن الوشاء لم يدرك من تلك الطبقة إلاّ قليلا.

فهنا تعرف السرّ لما ذا كثرت الرواية عنهعليه السلام ؟ ولما ذا صار منهل العلوم والمعارف ومصدر الأحكام والحكم؟ ولما ذا صار مذهبا لأهل التشيّع؟

__________________

(١) بحار الأنوار : ٢ / ٧٤ / ٤٥

(٢) البجلي الكوفي من وجوه الطائفة ومن أصحاب الرضاعليه السلام وثقات رواته ، وله كتب ، وله مسائل الرضاعليه السلام ، ترجم له الرجاليّون كلّهم

٨٩

ولما ذا روى عنه حتّى أئمة القوم وأعلامهم ، أمثال مالك وأبي حنيفة والسفيانين وأيوب السختياني وشعبة وابن جريح وغيرهم؟ ، كلّ ذلك لما كان عليه من البعد عن مجتمع الناس الذي يجلب التهمة إليه بطلب الرئاسة والخلافة ، ولتستّره في نشر العلم والأخلاق ، ولو لا ذلك لما ظهرت علومه وفضائله ، ولو لا ذلك لما عرف الناس شأن أهل البيت وحقيقة القرآن وعلوم الدين ، ولو لا ذلك لما وضح ما كان عليه أرباب السلطتين ، ولو لا ذلك لما بادت كثير من الفرق الباطلة ، وقامت الحجّة عليها من ذوي الفقه والكلام ، ولو لا ذلك لما بلغت الشيعة سبعين مليونا ، وحلّت في كلّ صقع واحتلّت كثيرا من البلاد(١) .

فمن هاهنا تعرف أثر التقيّة في خدمة الدين والشريعة ، وردّ عوادي الظلم والضلالة ، وتعريف الناس حقائق الايمان ، وبطلان الشبهات والمبتدعات.

فلا أخالك بعد هذا البيان تصغي إلى شيء من الغمز في التقيّة ونسبة الشيعة إلى الباطنيّة من جرّاء ذلك التكتّم في الاعتقاد ، والتستّر في المذاهب.

وما كان هذا الإسهاب إلاّ لرفع النقاب عن محيا الحقيقة لمن يزعم أن التقيّة مجهولة المحاسن ، لأنها حجاب كثيف وعسى أن يكون ما وراء الحجاب ألف عيب وألف نقص ، ومن يتّقي في عقيدته كيف يعرف الناس ما لديه ويرون جمال ما يضمره ، أترى يصحّ هذا الغمز والنبز بعد ما ألمسناك فوائدها ، وأريناك منافعها؟

على أن اليوم بفضل المطابع قد انتشرت علوم الشيعة وعقائدهم ، فأين الكتمان وأين الاتّقاء؟ وما كان الاتّقاء إلاّ في ذلك العهد يوم كانت الشيعة

__________________

(١) استوفينا البيان عن الشيعة وعددهم وبلدانهم في كتابنا « تاريخ الشيعة » وقد أخرجته المطابع فاقرأه ففيه عن ذلك بلغة ومتعة

٩٠

قليلي العدد والاهبة ، ولو مسحهم السيف لم يبق للبيت وأهله ذكر وعلم وحجّة ورواية ، وأمّا اليوم فهم في جنّة واقية من نشر هاتيك الكتب التي ملأت الخافقين ، ولم تدع عذرا لكاتب وقارىء يزعمان أن مذهب الاماميّة باطنيّا يتستّر بالتقيّة ، لا نعرف مباديه وعقائده ، ولا اصوله وفروعه ، فإن كتبهم بالأيدي ، في كلّ علم وفن ، ومصادرهم مقروّة ومداركهم مبثوثة.

* * *

٩١

الصادق والمحن

كفى في امتحان أهل الدين هذا التصارع الدائم بين الدين والدنيا وقلّما ائتلفا في عصر ، ولولاه لما كانت التقيّة ، ولما كانت تلك الفوادح النازلة بساحة أهل البيت.

ليس الصراع بين أهل البيت وبين اميّة والعبّاس غريبا ما دام أهل البيت مثال الدين ، واولئك مثال الدنيا.

يعلم المروانيّون والعبّاسيّون أن الصادقعليه السلام زعيم هذا التصارع ولئن صمت عن مصارعتهم بالحراب فلا يكفيهم أمانا من حربه لهم ، ولربما كان الصمت نفسه أداة الصراع أو هو الصراع نفسه ، فإن السكوت قد يكون جوابا كما يقولون.

فمن ثمّ تجدهم يوجّهون إليه عوادي المحن كلّ حين ، وما كفّهم عن تعاهده بالأذى ذلك الانعزال والانشغال بالعبادة والعلم ، فإن هذا الشغل هو سلاح الحرب ، لأنه ظاهرة الدين وبه تتّجه الأنظار إليه ، وكلّما ارتفع مقام الصادق قويت شوكة الدين ، وإذا قوي الدين انصرع أهل الدنيا.

ولو لا تشاغل الامويّين بالفتن بينهم لما أبقوا على الصادقعليه السلام ، كما لم يبقوا على آبائه ، أجل كأنهم تركوا ذلك إلى أبناء عمّه الأقربين ،

٩٢

« واولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض »!(١)

كانت أيام السفّاح أربع سنين ، وهذا الزمن لا يكفي لتطهير الأرض من أميّة ، ولبناء اسّ الملك وترسيخ دعائمه ، فلم يشغله ذلك عن الصادقعليه السلام ، فإنه لم يطمئن بعد من أميّة والروح الموالية لهم ، ولم يفرغ من تأسيس ذلك البناء حتّى أرسل على الصادق من المدينة إلى الحيرة ، ليفتك به ، ولكن كفى بالأجل حارسا.

ولما ذا كان الصادق إحدى شعب همّه ، وهو ابن عمّهم الذي اشتغل بالعبادة والتعليم والارشاد ، والذي أخبرهم بما سيحظون به من الملك دون بني الحسن ، وقد كانوا بأضيق من جحر الضب من بني أميّة ، وأقلق من الريشة في مهبّ الريح خوفا منهم.

ما كان يدفع السفّاح على ذلك العمل الشائن إلاّ ما قلناه من ذلك الصراع حذرا من أن يتّجه الناس إلى الصادقعليه السلام ، ويعرفوا منزلته ، والناس إلى ذلك العهد كانت ترى أن الخلافة مجمع السلطتين الروحيّة والزمنيّة ، ولا تراها سلطانا خالصا لا علاقة لها بالدين ، فلا يصرف الناس عن الصادق أنه رجل الدين الخالص ، بل أن هذا ادّعى عند بعض الناس للامامة ، ليكونوا منه في أمان على دنياهم ، كما هم في أمان على دينهم.

وبذلك الحذر وقف المنصور بمرصد للصادقعليه السلام ، فشاهدعليه السلام منه ضروب الآلام والمكاره ، وما كفّ ولا عفّ عنه حتّى أذاقه السمّ.

ولا عجب ممّا كان يلاقيه أبو عبد اللهعليه السلام من تلك المكاره ، فإنّ

__________________

(١) الأنفال : ٧٥

٩٣

محن المرء على قدر ما له من فضيلة وكرامة ، وعلى قدر مقامه بين الناس وطموحه إلى الرتب العالية.

كان بين ولاية المنصور ووفاة الصادقعليه السلام اثنتا عشرة سنة لم يجد الصادق فيها راحة ولا هدوء على ما بينهما من البعد الشاسع ، الصادق في الحجاز ، والمنصور في العراق ، وكان يتعاهده بالأذى ، كما يتعاهد المحبّ حبيبه بالطرف والتحف.

يقول ابن طاوس أبو القاسم علي طاب ثراه(١) في كتاب « مهج الدعوات » في باب دعوات الصادقعليه السلام : إن المنصور دعا الصادق سبع مرّات كان بعضها في المدينة والربذة حين حجّ المنصور ، وبعضها يرسل إليه إلى الكوفة وبعضها إلى بغداد ، وما كان يرسل عليه مرّة إلاّ ويريد فيها قتله ، هذا فوق ما يلاقيه فيها من الهوان وسوء القول ، ونحن نذكرها بالتفصيل :

الاولى : روى ابن طاوس عن الربيع حاجب المنصور قال : لما حجّ المنصور(٢) وصار بالمدينة سهر ليلة فدعاني فقال : يا ربيع انطلق في وقتك هذا على أخفض جناح وألين مسير ، وإن استطعت أن تكون وحدك فافعل حتّى يأتي أبا عبد الله جعفر بن محمّد فقل له : هذا ابن عمّك يقرأ عليك السّلام ويقول

__________________

(١) رضيّ الدين أبو القاسم علي بن موسى الحسني الحلّي من آل طاوس جمع بين العلم والعبادة والزهادة وبين الشعر والأدب والانشاء والبلاغة ، تنسب إليه الكرامات العالية ، وقيل : إنه كان أعبد أهل زمانه وأزهدهم ، وعن العلاّمة الحلّي في بعض إجازاته وهو ممّن روى عنه ، يقول عند ذكره : وكان رضيّ الدين علي صاحب كرامات حكي بعضها وروى لي والدي البعض الآخر ، وكان أزهد أهل زمانه

(٢) حجّ المنصور أيّام الصادقعليه السلام ثلاث مرّات عام ١٤٠ و ١٤٤ و ١٤٧ وبعد وفاة الصادق مرّتين عام ١٥٢ وعام ١٥٨ فلم يتمّ الحجّ ، انظر تاريخ اليعقوبي : ٣ / ١٢٢ طبع النجف ، والذي يظهر أن المنصور في كلّ مرّة من الثلاث يأمر بجلب الصادقعليه السلام

٩٤

لك : إن الدار وإن نأت والحال وإن اختلفت فإنّا نرجع إلى رحم أمسّ من يمين بشمال ، ونعل بقبال(١) وهو يسألك المصير إليه في وقتك هذا ، فإن سمح بالمصير معك فأوطئه خدّك ، وإن امتنع بعذر أو غيره فاردد الأمر إليه في ذلك ، وإن أمرك بالمصير إليه في تأنّ فيسّر ولا تعسّر ، واقبل العفو ولا تعنف في قول ولا فعل ، قال الربيع : فصرت إلى بابه فوجدته في دار خلوته فدخلت عليه من غير استئذان ، فوجدته معفّرا خدّيه مبتهلا بظهر كفّيه قد أثّر التراب في وجهه وخدّيه ، فأكبرت أن أقول شيئا حتّى فرغ من صلاته ودعائه ، ثم انصرف بوجهه فقلت : السّلام عليك يا أبا عبد الله فقال : وعليك السّلام يا أخي ، ما جاء بك ، فقلت : ابن عمّك يقرأ عليك السّلام ، حتّى بلغت إلى آخر الكلام ، فقال : ويحك يا ربيع « ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقّ ولا يكونوا كالذين اوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم »(٢) ويحك يا ربيع « أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون ، أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ، أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون »(٣) قرأت على أمير المؤمنين السّلام ورحمة الله وبركاته ، ثمّ أقبل على صلاته ، وانصرف إلى توجّهه ، فقلت : هل بعد السّلام من مستعتب أو اجابة ، فقال : نعم ، قل له : « أفرأيت الذي تولّى ، وأعطى قليلا واكدى ، أعنده علم الغيب فهو يرى ، أم لم ينبّأ بما في صحف موسى ، وإبراهيم الذي وفّى ، ألاّ تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للانسان إلا ما سعى ، وأنّ سعيه سوف يرى »(٤) إنّا والله

__________________

(١) بالكسر زمام بين الاصبع الوسطى والتي يليها

(٢) الحديد : ١٥

(٣) الأعراف : ٩٧ ـ ٩٩

(٤) النجم : ٣٣ ـ ٤٠ ، وأن هذه الآيات فيها تذكير ووعظ وتهديد ، وأن الانسان مقرون بعمله ولا يؤاخذ

٩٥

يا أمير المؤمنين قد خفناك وخافت بخوفنا النسوة اللاّتي أنت أعلم بهنّ ، ولا بدّ لنا من الايضاح به(١) فإن كففت وإلاّ أجرينا اسمك على الله عزّ وجل في كلّ يوم خمس مرّات(٢) وأنت حدّثتنا عن أبيك عن جدّك أن رسول اللهص قال : أربع دعوات لا يحجبن عن الله تعالى : دعاء الوالد لولده ، والأخ بظهر الغيب لأخيه ، والمخلص

قال الربيع : فما استتمّ الكلام حتّى أتت رسل المنصور تقفوا أثري وتعلم خبري فرجعت فأخبرته بما كان فبكى ، ثمّ قال : ارجع إليه وقل له : الأمر في لقائك إليك والجلوس عنّا ، وأمّا النسوة اللاّتي ذكرتهنّ فعليهنّ السّلام فقد آمن الله روعتهنّ وجلى همّهنّ ، قال : فرجعت إليه فأخبرته بما قال المنصور فقال : قل له : وصلت رحما ، وجزيت خيرا ، ثمّ اغرورقت عيناه حتّى قطر من الدموع في حجره قطرات.

ثمّ قال : يا ربيع إن هذه الدنيا وان أمتعت ببهجتها ، وغرّت بزبرجها(٣) فقلت : يا أبا عبد الله أسألك بكلّ حقّ بينك وبين الله جلّ وعلا إلاّ عرفتني ما ابتهلت به إلى ربّك تعالى ، وجعلته حاجزا بينك وبين حذرك وخوفك فلعلّ الله يجبر بدوائك كسيرا ، ويغني به فقيرا ، والله ما اعني غير نفسي ، قال الربيع : فرفع يده وأقبل على مسجده كارها أن يتلو الدعاء صفحا ، ولا يحضر ذلك بنيّة ، فقال : قل : اللهمّ إني أسألك يا مدرك الهاربين ، ويا ملجأ الخائفين ، الدعاء.(٤)

__________________

بغير وزره

(١) أحسبه يريد أنه لا بدّ من الافصاح بحقيقة الحال

(٢) يريد أنه يدعو عليه بعد كلّ صلاة ، ويكون من دعاء المظلوم الذي لا يحجب

(٣) سوف نذكرها في المختار من كلامه في باب مواعظه

(٤) ذكرنا هذه الأدعية التي في هذا الفصل كلّها فيما جمعناه من دعاء الصادقعليه السلام فإنّا لمّا

٩٦

ليس في استدعاء المنصور للصادقعليه السلام في هذه الدفعة ظاهرة سوء ، فما الذي أقلق أبا عبد الله وروع نساءه ، وجعله يتوسّل إلى الله تعالى في كفّ شرّ المنصور ، إن أبا عبد الله أبصر بقومه وأدرى بنواياهم ، ومن الدفعات الآتية تتّضح لك جليّا مقاصد المنصور مع الصادقعليه السلام ، وأنه ما كان يقصد من هذا الإرسال إلاّ السوء.

الثانية : وروى ابن طاوس عن الربيع أيضا ، قال حججت مع أبي جعفر المنصور فلمّا صرت في بعض الطريق قال لي المنصور : يا ربيع إذا نزلت المدينة فاذكر لي جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي: فو الله العظيم لا يقتله أحد غيري ، احذر أن تدع أن تذكّرني به ، قال : فلمّا صرنا إلى المدينة أنساني الله عزّ وجل ذكره ، فلم صرنا إلى مكّة قال لي : يا ربيع ألم آمرك أن تذكّرني بجعفر بن محمّد إذا دخلنا المدينة ، قال : فقلت : نسيت يا مولاي يا أمير المؤمنين ، فقال لي : فاذا رجعنا إلى المدينة فذكّرني به فلا بدّ من قتله ، فإن لم تفعل لأضربنّ عنقك ، قال : فقلت له : نعم يا أمير المؤمنين ، ثم قلت لأصحابي وغلماني : ذكّروني بجعفر بن محمّد إذا دخلنا المدينة إن شاء الله قال : فلم يزل أصحابي وغلماني يذكّروني به في كلّ منزل ندخله وننزل فيه حتّى قدمنا المدينة ، فلمّا نزلنا المدينة دخلت الى المنصور فوقفت بين يديه وقلت : يا أمير المؤمنين جعفر بن محمّد ، قال : فضحك وقال لي : نعم اذهب يا ربيع فأتني به ولا تأتني به إلاّ مسحوبا ، قال : فقلت له : يا مولاي حبّا وكرامة ، وأنا أفعل ذلك طاعة

__________________

رأينا أن أدعيته في هذا الفصل طويلة وكثيرة آثرنا جمعها مع ما ظفرنا به من أدعيته الأخر وجعلناها كتابا مفردا وسمّيناه دعاء الصادق وقد اجتمع لدينا حتّى اليوم ما يناهز ٤٠٠ صفحة بقطع هذا الكتاب

٩٧

لأمرك ، قال : ثمّ نهضت وأنا في حال عظيم من ارتكابي ذلك ، قال : فأتيت الامام الصادق جعفر بن محمّد٨ وهو جالس في وسط داره ، فقلت له جعلت فداك : إن أمير المؤمنين يدعوك إليه ، فقال : السمع والطاعة ، ثمّ نهض وهو معي يمشي ، قال : فقلت له : يا ابن رسول اللهص إنه أمرني ألاّ آتيه بك إلاّ مسحوبا ، قال : فقال الصادقعليه السلام : امتثل يا ربيع ما أمرك به ، قال الربيع : فأخذت بطرف كمّه أسوقه ، فلمّا أدخلته عليه رأيته وهو جالس على سريره وفي يده عمود من حديد يريد أن يقتله به ، ونظرت الى جعفر بن محمّد يحرّك شفتيه فلم أشكّ أنه قاتله ، ولم أفهم الكلام الذي كان جعفر بن محمّد يحرّك به شفتيه ، فوقفت أنظر إليهما ، قال الربيع : فلمّا قرب منه جعفر بن محمّد قال له المنصور : ادن مني يا ابن عمّي ، وتهلّل وجهه ، وقرّبه حتّى أجلسه معه على السرير ، ثمّ قال : يا غلام ائتني بالحقّة ، فأتاه بالحقّة وفيها قدح الغالية فغلفه(١) منها ، ثمّ حمله على بغلة وأمر له ببدرة وخلعة ثمّ أمره بالانصراف ، قال : فلمّا نهض من عنده خرجت بين يديه حتّى وصل الى منزله ، فقلت له : بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول اللهص إني لم أشكّ فيه ساعة تدخل عليه أنه يقتلك ، ورأيتك تحرّك شفتيك في وقت دخولك عليه فما قلت؟ قال لي : نعم يا ربيع اعلم أني قلت : حسبي الربّ من المربوبين ، حسبي الخالق من المخلوقين ، الدعاء.

الثالثة : قال ابن طاوس في استدعائه مرّة ثالثة بالربذة(٢) : يقول مخرمة

__________________

(١) أي غطّاه وغشّاه بها مبالغة في كثرة ما وضع عليه من الغالية

(٢) أرض بين مكّة والمدينة كان فيها مسكن أبي ذر قبل إسلامه وإليها منفاه ، وفيها موته ومدفنه ،٢

٩٨

الكندي : لمّا نزل أبو جعفر المنصور الربذة وجعفر بن محمّدعليه السلام يومئذ بها ، قال : من يعذرني من جعفر هذا ، يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى يقول : انتجى(١) عن محمّد(٢) فإن يظفر فإن الأمر لي وإن تكن الاخرى فكنت قد أحرزت(٣) نفسي ، أما والله لأقتلنّه ، ثمّ التفت الى إبراهيم بن جبلة فقال : يا ابن جبلة قم إليه فضع في عنقه ثيابه ثم ائتني به سحبا ، قال إبراهيم : فخرجت حتّى أتيت منزله فلم أصبه ، فطلبته في مسجد أبي ذر فوجدته على باب المسجد ، قال : فاستحييت أن أفعل ما امرت به ، فأخذت بكمّه فقلت : أجب أمير المؤمنين ، فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، دعني حتّى اصلّي ركعتين ثمّ بكى بكاء شديدا وأنا خلفه ، ثمّ قال : اللهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ورجائي في كلّ شدّة. الدعاء ، ثمّ قال : اصنع ما امرت به ، فقلت : والله لا أفعل ولو ظننت أني اقتل ، فذهبت به لا والله ما أشكّ إلاّ أنه يقتله قال : فلمّا انتهيت الى باب الستر قال : يا إله جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وإله إبراهيم وإسحاق ومحمّدص تولّ في هذه الغداة عافيتي ولا تسلّط عليّ أحدا من خلقك بشيء لا طاقة لي به ، قال إبراهيم : ثمّ أدخلته عليه ، قال : فاستوى جالسا ، ثمّ أعاد عليه الكلام ، فقال : قدّمت رجلا وأخّرت أخرى ، أما والله لأقتلنّك ، فقال : يا أمير المؤمنين ما فعلت فارفق بي لقلّما أصحبك ، فقال له أبو جعفر : انصرف ، قال : ثمّ التفت الى عيسى بن علي(٤) فقال : يا أبا العبّاس الحقه فاسأله أبي أم به ، قال : فخرج يشتدّ حتّى لحقه ،

__________________

(١) اتخلّص ، وفي نسخة أتنحّى وكلاهما يناسب المقام

(٢) ابن عبد الله بن الحسن وينبغي أن تكون هذه الحجّة عام ١٤٤ قبل خروج محمّد ، ولعلّ الاولتين كانتا عام ١٤٠ و ١٤٧ ، ولا يلزم من ترتيب بيان الشريف ابن طاوس أن يكون على ترتيب السنين ، لا سيّما وهو لم يتعرّض لسنة الحجّ متى كانت

(٣) حفظت

(٤) ابن عبد الله بن العبّاس وهو عمّ المنصور

٩٩

فقال : يا أبا عبد الله إن أمير المؤمنين يقول لك : أبك أم به؟ فقال : لا بل بي ، فقال أبو جعفر : صدق(١) .

قال إبراهيم بن جبلة : ثمّ خرجت فوجدته قاعدا ينتظرني يتشكّر لي صنيعي به واذا به يحمد الله ويقول : الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني وإن كنت بطيئا حين يدعوني ، الدعاء.

الرابعة : يقول الشريف ابن طاوس : إن هذه المرّة الرابعة هي التي استدعاه بها الى الكوفة ، قال : يقول الفضل بن الربيع بعد أن ذكر سند الرواية إليه : قال أبي الربيع : بعث المنصور إبراهيم بن جبلة الى المدينة ليشخّص جعفر بن محمّد ، فحدّثني إبراهيم بعد قدومه بجعفر أنه لمّا دخل إليه فخبّره برسالة المنصور سمعته يقول : اللهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ، ورجائي في كلّ شدّة ، الدعاء.

فلمّا قدّموا راحلته وخرج ليركب سمعته يقول : اللهمّ بك أستفتح وبك أستنجح ، الدعاء ، قال : فلمّا دخلنا الكوفة نزل فصلّى ركعتين ثمّ رفع يده الى السماء فقال : اللهمّ ربّ السموات وما أظلّت وربّ الأرضين السبع وما أقلّت ، الدعاء ، قال الربيع : فلمّا وافى الى حضرة المنصور دخلت فأخبرته بقدوم جعفر وإبراهيم فدعا المسيّب بن زهير الضبي فدفع إليه سيفا وقال له : اذا دخل جعفر بن محمّد فخاطبته وأومأت إليه فاضرب عنقه ولا تستأمر(٢) ، فخرجت إليه وكان صديقا الاقيه واعاشره اذا حججت فقلت : يا ابن رسول الله صلّى الله

__________________

(١) إن هذا الكلام ظاهر في أنه بالقرب من وفاة الصادقعليه السلام فتكون الحجّة عام ١٤٧ ، إلاّ أن تصريحه أولا في أن كلامه كان قبل خروج محمّد يعيّن أن تكون الحجّة عام ١٤٤ ، ومن الغريب أن يصدّق المنصور كلام الصادق بعد أن يسأله أن البدأة بمن ، وهو يلاقيه بما يلاقيه من سوء ومكروه

(٢) بالبناء للفاعل أي لا تشاور

١٠٠

عليه وآله إن هذا الجبّار قد أمر فيك بأمر اكره أن ألقاك به فإن كان في نفسك شيء تقوله وتوصيني به ، فقال : لا يروعك ذلك فلو قد رآني لزال ذلك كلّه ، ثمّ أخذ بمجامع الستر فقال : يا إله جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ، وإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمّدص تولّني في هذه الغداة ولا تسلّط عليّ أحدا من خلقك بشيء لا طاقة لي به ، ثمّ دخل فحرّك شفتيه بشيء لم أفهمه ، فنظرت إلى المنصور فما شبّهته إلاّ بنار صبّ عليها ماء فخمدت ، ثمّ جعل يسكن غضبه حتّى دنا منه جعفر بن محمّد8 وصار مع سريره ، فوثب المنصور ، وأخذ بيده ورفعه على سريره ، ثمّ قال له يا أبا عبد الله يعزّ عليّ تعبك ، وإنما أحضرتك لأشكو إليك أهلك قطعوا رحمي ، وطعنوا في ديني ، وألّبوا الناس عليّ ، ولو ولّي هذا الأمر غيري ممّن هو أبعد رحما مني لسمعوا له وأطاعوا ، فقال له جعفرعليه السلام : فأين يعدل بك عن سلفك الصالح أن أيّوبعليه السلام ابتلي فصبر ، وأن يوسفعليه السلام ظلم فغفر ، وأن سليمانعليه السلام اعطي فشكر ، فقال المنصور : قد صبرت وغفرت وشكرت.

ثمّ قال : يا أبا عبد الله حدّثنا حديثا كنت سمعته منك في صلة الأرحام قال : نعم سمعت أبي عن جدّي أن رسول اللهص قال : البرّ وصلة الأرحام عمارة الديار وزيادة الأعمار ، قال : ليس هذا هو ، قال : حدّثني أبي عن جدّي ، قال : قال رسول اللهص : من أحبّ أن ينسأ(١) في أجله ، ويعافى في بدنه ، فليصل رحمه ، قال : ليس هذا هو ، قال : نعم حدّثني أبي عن جدّي أن رسول اللهص قال : رأيت رحما متعلّقة بالعرش تشكو إلى الله عزّ وجل قاطعها فقلت : يا جبرئيل وكم بينهم؟ قال : سبعة آباء ،

__________________

(١) يؤخّر

١٠١

فقال : ليس هذا هو ، قال : نعم حدّثني أبي عن جدّي قال : قال رسول اللهص : احتضر رجل بارّ في جواره رجل عاق ، فقال الله عزّ وجل لملك الموت : يا ملك الموت كم بقي من أجل العاق؟ قال : ثلاثون سنة قال : حوّلها إلى هذا البار(١) فقال المنصور : يا غلام ائتني بالغالية ، فأتاه بها فجعل يغلفه بيده ، ثمّ دفع إليه أربعة آلاف دينار ، ودعا بدابته فأتى بها فجعل يقول : قدّم قدّم ، إلى أن أتي بها عند سريره فركب جعفر بن محمّد8 وغذوت بين يديه ، فسمعته يقول : الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني. الدعاء ، فقلت : يا ابن رسول الله إن هذا الجبّار يعرضني على السيف كلّ قليل ، ولقد دعا المسيّب بن زهير فدفع إليه سيفا وأمره أن يضرب عنقك وأني رأيتك تحرّك شفتيك حين دخلت بشيء لم أفهمه عنك ، فقال : ليس هذا موضعه فرحت إليه عشيّا ، قال : نعم حدّثني أبي عن جدّي أن رسول اللهص لمّا الّبت عليه اليهود وفزارة وغطفان وهو قوله تبارك وتعالى « إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنونا »(٢) وكان ذلك اليوم أغلظ يوم على رسول اللهص فجعل يدخل ويخرج وينظر إلى السماء فيقول : ضيقي تتّسعي ، ثمّ خرج في بعض الليل فرأى شخصا فقال لحذيفة : انظر من هذا ، فقال : يا رسول الله هذا عليّ بن أبي طالب ، فقال له رسول اللهص يا أبا الحسن أما خشيت أن تقع عليك عين ، قال : وهبت نفسي لله ولرسوله وخرجت حارسا للمسلمين في هذه الليلة ، فما انقضى كلامهما حتّى نزل جبرئيل ، قال : يا محمّد إن الله يقرأ عليك السّلام

__________________

(١) لا يخفى على الصادقعليه السلام الحديث الذي أراده المنصور ، وإنما كثر عليه أحاديث الرحم ، ليعرّفه موقفه من ذوي رحمه

(٢) الأحزاب : ١٠

١٠٢

ويقول لك : قد رأيت موقف علي منذ الليلة وأهديت إليه من مكنون علمي كلمات لا يتعوّذ بها عند شيطان مارد ، ولا سلطان جائر ، ولا حرق ولا غرق ، ولا هدم ولا ردم ، ولا سبع ضار ، ولا لصّ ، إلاّ آمنه الله من ذلك ، وهو أن يقول : اللهمّ احرسنا بعينك التي لا تنام الدعاء.

الخامسة : وقد استدعاه بها المنصور إلى بغداد قبل قتل محمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن(١) روى ذلك الشريف رضيّ الدين بسنده عن محمّد بن الربيع الحاجب ، قال : قعد المنصور يوما في قصره بالقبّة الخضراء ، وكانت قبل قتل محمّد وإبراهيم تدعى الحمراء ، وكان له يوم يقعد فيه ويسمّى ذلك اليوم يوم الذبح ، وقد كان أشخص جعفر بن محمّد من المدينة ، فلم يزل في الحمراء نهاره كلّه حتّى جاء الليل ومضى اكثره قال : ثمّ دعا الربيع فقال له : يا ربيع إنك تعرف موضعك مني وأنه يكون بي الخير ولا تظهر عليه امّهات الأولاد وتكون أنت المعالج له ، قال : قلت : يا أمير المؤمنين ذلك فضل الله عليّ وفضل أمير المؤمنين وما فوقي في النصح غاية ، قال : كذلك أنت صر الساعة إلى جعفر بن محمّد بن فاطمة فائتني به على الحال التي تجده فيها لا تغيّر شيئا ممّا عليه ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، هذا والله هو العطب ، إن أتيت به على ما أراه من غضبه قتله وذهبت الآخرة ، وإن لم أذهب في أمره قتلني وقتل نسلي وأخذ أموالي ، فميّزت بين الدنيا والآخرة فمالت نفسي إلى الدنيا ، قال محمّد بن الربيع : فدعاني أبي وكنت أفظّ ولده وأغلظهم قلبا ، فقال لي : امض إلى

__________________

(١) كان قتلهما عام ١٤٥ ، وانتقال المنصور إلى بغداد عام ١٤٦ ، فلا وجه لأن يكون استدعاؤه إلى بغداد قبل قتلهما ، فإما أن يكون إلى الكوفة والغلط من النسّاخ أو الراوي ، أو الاستدعاء بعد قتلهما

١٠٣

جعفر بن محمّد فتسلّق عليه حائطه ولا تستفتح عليه بابه فيغيّر بعض ما هو عليه ولكن انزل عليه نزلا ، فأت به على الحال التي هو فيها ، قال : فأتيته وقد ذهب الليل إلاّ أقلّه ، فأمرت بنصب السلاليم وتسلّقت عليه الحائط ونزلت داره فوجدته قائما يصلّي وعليه قميص ومنديل وقد ائتزر به ، فلما سلّم من صلاته قلت : أجب أمير المؤمنين فقال : دعنى أدعو وألبس ثيابي ، فقلت : ليس إلى ذلك من سبيل ، قال لي : فأدخل المغتسل فأتطهّر ، قال : قلت : وليس إلى ذلك أيضا سبيل ، فلا تشغل نفسك فإني لا أدعك تغيّر شيئا ، قال : فأخرجته حافيا حاسرا في قميصه ومنديله ، وكان قد جاوز السبعين(١) فلمّا مضى بعض الطريق ضعف الشيخ فرحمته فقلت له : اركب ، فركب بغل شاكري(٢) كان معنا ، ثمّ صرنا إلى الربيع فسمعته وهو يقول : ويلك يا ربيع قد أبطأ الرجل ويستحثّه استحثاثا شديدا ، فلمّا أن وقعت عين الربيع على جعفر وهو بتلك الحال بكى ، وكان الربيع يتشيّع ، فقال له جعفرعليه السلام : يا ربيع أنا أعلم ميلك إلينا فدعنى أصلّي ركعتين وأدعوا ، قال : شأنك وما تشاء ، فصلّى ركعتين خفّفهما ثمّ دعا بعدهما بدعاء لم أفهمه إلاّ أنه دعاء طويل ، والمنصور في ذلك كلّه يستحثّ الربيع ، فلمّا فرغ من دعائه على طوله أخذ الربيع بذراعه فأدخله على المنصور فلمّا صار في صحن الايوان وقف ثمّ حرّك شفتيه بشيء ما أدري ما هو ، ثمّ أدخلته فوقف بين يديه ، فلمّا نظر إليه قال : وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وفسادك على أهل هذا البيت من بني العبّاس وما يزيدك الله بذلك إلاّ شدّة حسد ونكد ، ما تبلغ به ما تقدره ، فقال له : والله يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا من

__________________

(١) لم يتجاوز الصادق السبعين عاما وإنما كان حدسا من محمّد ، وأحسبه لما كان يشاهده من ضعفه

(٢) أجير ومستخدم

١٠٤

ذلك ، هذا ولقد كنت في ولاية بني اميّة وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم ، وأنهم لا حقّ لهم في هذا الأمر فو الله ما بغيت عليهم ، ولا بلغهم عنّي مع جفائهم الذي كان لي ، وكيف يا أمير المؤمنين أصنع الآن هذا وأنت ابن عمّي وأمسّ الخلق بي رحما ، واكثرهم عطاء وبرّا ، فكيف أفعل هذا ، فأطرق المنصور ساعة ، وكان على لبد(١) وعن يساره مرفقة خز معانيّة(٢) وتحت لبده سيف ذو الفقار(٣) كان لا يفارقه إذا قعد في القبّة ، فقال : أبطلت وأثمت ، ثمّ رفع ثنيّ الوسادة فأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها إليه ، وقال : هذه كتبك إلى أهل خراسان تدعوهم إلى نقض بيعتي وأن يبايعوك دوني ، فقال : والله يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا أستحلّ ذلك ولا هو من مذهبي ، واني ممّن يعتقد طاعتك في كلّ حال ، وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته فصيّرني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت فهو منّى قريب ، فقال : لا ولا كرامة ، ثمّ أطرق وضرب يده على السيف فسلّ منه مقدار شبر وأخذ بمقبضه ، فقلت : انّا لله ذهب والله الرجل ، ثمّ ردّ السّيف وقال : يا جعفر أما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشقّ عصى المسلمين ، تريد أن تريق الدماء وتطرح الفتنة بين الرعيّة والأولياء ، فقال : لا والله يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا هذه كتبي ولا خطّي ولا خاتمي ، فانتضى من السيف ذراعا ، فقلت : إنا لله مضى الرجل وجعلت في نفسي إن أمرني فيه بأمر أن أعصيه ، لأني ظننت أنه يأمرني أن آخذ السيف فأضرب به جعفرا ، فقلت إن أمرني ضربت المنصور وإن أتى ذلك عليّ وعلى ولدي وتبت إلى الله عزّ وجل ممّا كنت نويت فيه أولا ، فما

__________________

(١) لعلّه بساط من صوف

(٢) ظاهر في النسبة إلى معان

(٣) الفقار خرزات الظهر ، ويسمّى السيف بذي الفقار اذا كان في متنه حزوز تشبه فقار الظهر

١٠٥

زال يعاتبه وجعفر يعتذر إليه ، ثمّ انتضى السيف كلّه إلاّ شيئا يسيرا منه ، فقلت : إنا لله مضى والله الرجل ، ثمّ أغمد السيف وأطرق ساعة ، ثمّ رفع رأسه وقال له : اظنّك صادقا ، يا ربيع هات العيبة من موضع فيه في القبّة ، فأتيت بها ، فقال : ادخل يدك فيها وكانت مملوءة غالية وضعها في لحيته ، وكانت بيضاء فاسودّت ، وقال لي : احمله على فاره من دوابي التي أركبها واعطه عشرة آلاف درهم وشيّعه إلى منزله مكرّما وخيّره إذا أتيت به المنزل بين المقام عندنا فنكرمه ، أو الانصراف إلى مدينة جدّه رسول اللهص ، فخرجنا من عنده وأنا مسرور فرح لسلامة جعفرعليه السلام ومتعجّب ممّا أراده المنصور وما صار إليه من كفايته ودفاعه ، ولا عجب من أمر الله عزّ وجل فلمّا صرنا في الصحن قلت : يا ابن رسول اللهص لا عجب ممّا عمل عليه هذا في بابك ، وما أصارك الله إليه من كفايته ودفاعه ، ولا عجب من أمر الله عزّ وجل ، وقد سمعتك تدعو عقيب الركعتين بدعاء لم أدر ما هو إلاّ أنه طويل ، ورأيتك حرّكت شفتيك هاهنا اعني الصحن بشيء لم أدر ما هو ، فقال لي : أمّا الأوّل فدعاء الكرب والشدائد ، لم أدع به على أحد قبل يومئذ ، جعلته عوضا ، من دعاء كثير أدعو به إذا قضيت صلاتي ، لأني لم أترك أن أدعو ما كنت أدعو به ، وأمّا الذي حرّكت به شفتي فهو دعاء رسول اللهص يوم الأحزاب ، حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن أمير المؤمنين صلوات الله عليهم عن رسول اللهص قال : لمّا كان يوم الأحزاب كانت المدينة كالاكليل من جنود المشركين وكانوا كما قال الله عزّ وجل : « إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم »(١) ثمّ ذكر الدعاء ، ثمّ قال : لو لا الخوف من أمير المؤمنين

__________________

(١) الأحزاب : ١٠

١٠٦

لرفعت إليك هذا المال ، ولكن قد كنت طلبت منّي أرضي بالمدينة وأعطيتني بها عشرة آلاف دينار فلم أبعك وقد وهبتها لك ، قلت : يا ابن رسول اللهص إنما رغبتي في الدعاء الأوّل والثاني ، فاذا فعلت هذا فهو البرّ ولا حاجة لي الآن في الأرض ، فقال لي : إنّا أهل بيت لا نرجع في معروفنا ، نحن ننسخك الدعاء ونسلم إليك الأرض صر معي إلى المنزل فصرت معه كما تقدّم المنصور به ، وكتب لي بعهد الأرض وأملى عليّ دعاء رسول اللهص وأملى عليّ الذي دعاه بعد الركعتين ثمّ قال : فقلت : يا ابن رسول اللهص لقد كثر استحثاث المنصور واستعجاله إيّاي وأنت تدعو بهذا الدعاء الطويل متمهّلا كأنّك لم تخفه ، قال : فقال لى : نعم قد كنت أدعو بعد صلاة الفجر بدعاء لا بدّ منه ، فأمّا الركعتان فهما صلاة الغداة خفّفتهما ودعوت بذلك الدعاء بعدهما ، فقلت له : ما خفت أبا جعفر وقد أعدّ لك ما أعدّ ، قال : ما أعدّ! خيفة الله دون خيفته ، وكان الله عزّ وجل في صدري أعظم. منه ، قال الربيع : كان في قلبي ما رأيت من المنصور ومن غضبه وحنقه على جعفر ومن الجلالة في اتساعه ما لم أظنّه يكون في بشر ، فلمّا وجدت منه خلوة وطيب نفس قلت : يا أمير المؤمنين رأيت منك عجبا ، قال : ما هو؟ قلت : يا أمير المؤمنين رأيت غضبك على جعفر غضبا لم أرك غضبته على أحد قط ، ولا على عبد الله بن الحسن ولا على غيره من كلّ الناس حتّى بلغ بك الأمر أن تقتله بالسيف وحتّى أنك أخرجت من سيفك شبرا ثمّ أغمدته ، ثمّ عاتبته ثمّ أخرجت منه ذراعا ، ثمّ عاتبته ثمّ أخرجته كلّه إلاّ شيئا يسيرا ، فلم أشكّ في قتلك له ، ثمّ انحلّ ذلك كلّه ، فعاد رضى حتّى أمرتني فسوّدت لحيته بالغالية التي لا يتغلّف منها إلاّ أنت ولا تغلّف منها ولدك المهدي ولا من ولّيته عهدك ، ولا عمومتك ، وأجزته وحملته وأمرتني بتشييعه مكرما ، فقال : ويحك يا ربيع ، ليس هو ممّا ينبغي أن

١٠٧

تحدّث به وستره أولى ، ولا أحبّ أن يبلغ ولد فاطمة فيفخرون ويتيهون بذلك علينا ، حسبنا ما نحن فيه ولكن لا اكتمك شيئا ، انظر إلى من في الدار فنحّهم ، قال : فنحّيت كلّ من في الدار ، ثمّ قال لي : ارجع ولا تبق أحدا ، ففعلت ، ثمّ قال : ليس إلاّ أنا وأنت ، والله لئن سمعت ما ألقيه عليك من أحد لأقتلنّك وولدك وأهلك أجمعين ، ولآخذنّ مالك ، قال : قلت : يا أمير المؤمنين أعيذك بالله ، قال : يا ربيع كنت مصرّا على قتل جعفر ، ولا أسمع له قولا ، ولا أقبل له عذرا ، فلمّا هممت به في المرّة الاولى تمثّل لي رسول اللهص فإذا هو حائل بيني وبينه باسط كفّيه حاسر عن ذراعيه قد عبس وقطب في وجهي ، فصرفت وجهي عنه ، ثمّ هممت به في المرّة الثانية وانتضيت من السيف اكثر ممّا انتضيت منه في المرّة الاولى فإذا أنا برسول اللهص قد قرب منّي ودنا شديدا وهمّ بي لو فعلت لفعل فأمسكت ، ثمّ تجاسرت وقلت : هذا من فعل الربيء(١) ثمّ انتضيت السيف في الثالثة فتمثّل لي رسول اللهص باسطا ذراعيه قد تشمّر واحمرّ وعبس وقطب ، حتّى كاد أن يضع يده عليّ فخفت والله لو فعلت لفعل ، وكان منّي ما رأيت ، هؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إلاّ جاهل لا حظّ له في الشريعة ، فإيّاك أن يسمع هذا منك أحد ، قال محمّد بن الربيع : فما حدّثني به حتّى مات المنصور ، وما حدّثت به حتّى مات المهدي ، وموسى(٢) وهارون(٣) وقتل محمّد(٤) .

__________________

(١) كفعيل التابع للجن

(٢) الهادي

(٣) الرشيد

(٤) الأمين

١٠٨

السادسة : يقول الشريف رضيّ الدين ابن طاوس : وقد استدعاه بها المنصور إلى بغداد مرّة ثانية بعد قتل محمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن(١) وقد روى ذلك عن صفوان بن مهران الجمّال(٢) قال : رفع رجل من قريش المدينة من بني مخزوم إلى أبي جعفر المنصور ، وذلك بعد قتله لمحمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن ، إن جعفر بن محمّد بعث مولاه المعلّى بن خنيس(٣) لجباية الأموال من شيعته ، وأنه كان يمدّ بها محمّد بن عبد الله ، فكاد المنصور أن يأكل كفّه على جعفر بن محمّد غيظا ، وكتب إلى عمّه داود بن علي ، وداود أمير المدينة(٤) أن يسيّر إليه جعفر بن محمّد لا يرخص له في التلوم(٥) والبقاء فبعث إليه داود بكتاب المنصور ، وقال له : اعمل في المسير إلى أمير المؤمنين في غد ولا تتأخّر ، قال صفوان : وكنت بالمدينة يومئذ فأنفذ إلى جعفرعليه السلام فصرت إليه فقال لي : تعهّد راحلتنا فإنا غادون في غد إن شاء الله إلى العراق ، ونهض من وقته وأنا معه إلى مسجد النبيص وكان ذلك بين الاولى والعصر فركع فيه ركعات ، ثمّ رفع يديه فحفظت يومئذ من دعائه : « يا من ليس له ابتداء ولا انتهاء(٦) يا من ليس له أمد ولا نهاية » الدعاء.

__________________

(١) وكان قتلهما عام ١٤٥ ، وقد عرفت من تعليقتنا على المرّة الخامسة أن تلك الدفعة لا تصحّ أن تكون إلى بغداد إلاّ أن تكون بعد قتلهما ، وأن بين انتقال المنصور إلى بغداد وبين وفاة الصادق سنتين وبعيد أن يرسل إليه في هاتين السنتين مرّات عديدة

(٢) سيأتي في المشاهير من ثقات الرواة لأبي عبد اللهعليه السلام

(٣) سيأتي في ثقات المشاهير أيضا

(٤) وداود هذا هو الذي قتل المعلّى بن خنيس واستلب أمواله ، وهمّ بالصادقعليه السلام ، فدعا عليه الصادق فعاجله الله بالهلاك ، كما سيأتي في باب استجابة دعائه

(٥) التمكّث

(٦) ولا انقضاء في نسخة

١٠٩

قال صفوان : فلمّا أصبح أبو عبد اللهعليه السلام رحلت له الناقة وسار متوجّها إلى العراق حتّى قدم مدينة أبي جعفر(١) وأقبل حتّى استأذن فأذن له ، قال صفوان : فأخبرني بعض من شهده عند أبي جعفر ، قال : فلما رآه قرّبه وأدناه ، ثمّ استدعى قصّة الرافع على أبي عبد اللهعليه السلام ، يقول في قصّته : إن المعلّى بن خنيس مولى جعفر بن محمّد يجبي له الأموال من جميع الآفاق ، وإنه مدّ بها محمّد بن عبد الله ، فدفع إليه القصّة فقرأها أبو عبد الله فأقبل عليه المنصور فقال : يا جعفر بن محمّد ما هذه الأموال التي يجبيها لك المعلّى بن خنيس؟ فقال أبو عبد اللهعليه السلام : معاذ الله من ذلك يا أمير المؤمنين ، قال له : ألا تحلف على براءتك من ذلك بالطلاق والعتاق ، قال : نعم أحلف بالله إنه ما كان من ذلك شيء ، قال أبو جعفر : لا بل تحلف بالطلاق والعتاق فقال أبو عبد اللهعليه السلام : أما ترضى بيميني بالله الذي لا إله إلاّ هو ، قال له أبو جعفر : لا تتفقّه عليّ ، فقال أبو عبد الله : وأين يذهب بالفقه مني يا أمير المؤمنين(٢) قال له : دع عنك هذا فإنني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عليك حتّى يواجهك ، فأتوا بالرجل وسألوه بحضرة جعفرعليه السلام فقال : نعم هذا صحيح ، وهذا جعفر بن محمّد ، والذي قلت فيه كما قلت ، فقال أبو عبد اللهعليه السلام : تحلف أيها الرجل إن هذا الذي رفعته صحيح ، قال : نعم ، ثمّ ابتدأ الرجل باليمين فقال : والله الذي لا إله إلاّ هو الطالب الغالب الحيّ القيوم ، فقال

__________________

(١) وهي بغداد ، وكانت تسمّى مدينة أبي جعفر لأنه هو الذي بناها وكان انتقاله إليها عام ١٤٦ ، ولعلّه في هذه السنة دعا الصادق إليها

(٢) ما كان ليخفى على المنصور ما عليه أهل البيت في اليمين بالطلاق والعتاق وأنه لا يحنث الحالف كاذبا ، أي لا تطلق نساؤه ، ولا تعتق مماليكه ، ولكنه حاول أن يحطّ من كرامة الصادق وألاّ يثبت له فقه خاص

١١٠

له جعفرعليه السلام : لا تعجل في يمينك ، فإنني أستحلفك ، قال المنصور : ما أنكرت من هذه اليمين؟ قال : إن الله تعالى حيّ كريم يستحي من عبده إذا أثنى عليه أن يعاجله بالعقوبة لمدحه له ، ولكن قل أيها الرجل : أبرأ إلى الله من حوله وقوّته وألجأ إلى حولي وقوّتي إني لصادق برّ فيما أقول ، فقال المنصور للقرشي : احلف بما استحلفك به أبو عبد الله فحلف الرجل بهذه اليمين فلم يستتمّ الكلام حتّى أجذم وخرّ ميّتا ، فراع أبا جعفر ذلك وارتعدت فرائصه ، فقال : يا أبا عبد الله : سر من غد إلى حرم جدّك إن اخترت ذلك ، وإن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبرّك ، فو الله لا قبلت قول أحد بعدها أبدا »(١) .

السابعة : ذكر الشريف أبو القاسم في المرّة السابعة رواية عن محمّد بن عبد الله الاسكندري(٢) وأنه كان من ندماء المنصور وخواصّه ، يقول محمّد ، دخلت عليه يوما فرأيته مغتمّا وهو يتنفّس نفسا باردا ، فقلت : ما هذه الفكرة يا أمير المؤمنين ، فقال لي : يا محمّد لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة أو يزيدون(٣) وقد بقي سيّدهم وإمامهم ، فقلت له : من ذلك؟ قال : جعفر بن محمّد الصادق ، فقلت : يا أمير المؤمنين إنه رجل أنحلته العبادة واشتغل بالله عن طلب الملك والخلافة ، فقال : يا محمّد لقد علمت أنك تقول به وبإمامته ولكن الملك

__________________

(١) وذكر هذه الكرامة لأبي عبد اللهعليه السلام جملة من علماء أهل السنّة عند استطرادهم لحياة الصادق ، منهم الشبلنجي في نور الأبصار ، والسبط في التذكرة ، وابن طلحة في مطالب السؤل ، وابن الصبّاغ في الفصول ، وابن حجر في الصواعق وغيرهم

(٢) ليس له ذكر في كتب رجالنا ، ولم نعرف عنه رواية غير هذه ، وبها ذكره المتأخّرون ، والرواية صريحة في تشيّعه

(٣) أحسب أن هذه القصّة كانت بعد مقتل محمّد وإبراهيم لأن الحرب بالمدينة وبباخمرى والسجون في الهاشميّة أهلكت العدد الكثير من العلويّين هذا سوى من قتله صبرا ، ولعلّ إرساله عليه كان إلى بغداد أيضا

١١١

عقيم ، وقد آليت على نفسي ألاّ امسي عشيّتي هذه أو أفرغ منه ، قال محمّد : فو الله لقد ضاقت عليّ الأرض برحبها ، ثمّ دعا سيّافا وقال له : إذا انا أحضرت أبا عبد الله الصادق وشغلته بالحديث ووضعت قلنسوتي عن رأسي فهي العلامة بينى وبينك فاضرب عنقه ، ثمّ أحضر أبا عبد اللهعليه السلام في تلك الساعة ولحقته في الدار وهو يحرّك شفتيه فلم أدر ما الذي قرأ ، فرأيت القصر يموج كأنه سفينة في لجج البحار ، ورأيت أبا جعفر المنصور وهو يمشي بين يديه حافي القدمين مكشوف الرأس قد اصطكت أسنانه وارتعدت فرائصه ، يحمرّ ساعة ويصفرّ اخرى ، وأخذ بعضد أبي عبد الله وأجلسه على سرير ملكه وجثا بين يديه كما يجثو العبد بين يدي مولاه ، ثمّ قال : يا ابن رسول اللهص ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ قال : جئتك يا أمير المؤمنين طاعة لله ولرسولهص ولأمير المؤمنين أدام الله عزّه(١) .

قال : ما دعوتك ، والغلط من الرسول ، ثمّ قال : سل حاجتك ، فقال : أسألك ألاّ تدعوني لغير شغل ، قال : لك ذلك وغير ذلك ، ثمّ انصرف أبو عبد اللهعليه السلام سريعا ، وحمدت الله عزّ وجل كثيرا ، ودعا أبو جعفر المنصور بالدواويج(٢) ونام ولم ينتبه إلاّ في نصف الليل ، فلمّا انتبه كنت عند رأسه جالسا فسرّه ذلك ، وقال : لا تخرج حتّى أقضي ما فاتنى من صلاتي فاحدّثك بحديث ، فلمّا قضى صلاته أقبل على محمّد وحدّثه بما شاهده من الأهوال التي افزعته عند مجيء الصادق ، وكان ذلك سببا لانصرافه عن قتله وداعيا لاحترامه والاحسان إليه.

يقول محمّد : قلت له : ليس هذا بعجيب يا أمير المؤمنين ، فإن أبا عبد الله

__________________

(١) لا بدع لو قال له : طاعة لله ولرسوله ولأمير المؤمنين ، وإن لم تكن للمنصور طاعة ، لأن الخوف على النفس والنفيس يلزمه بالمجيء ، فتكون المحافظة عليهما واجبة والتخلّف إلقاء بالتهلكة

(٢) بالجيم المعجمة جمع دواج كرمان وكغراب : اللحاف الذي يلبس

١١٢

وارث علم النبيص وجدّه أمير المؤمنينعليه السلام وعنده من الأسماء وسائر الدعوات التي لو قرأها على الليل لأنار ، ولو قرأها على النهار لأظلم ، ولو قرأها على الأمواج في البحور لسكنت(١) .

قال محمّد : فقلت له بعد أيام : أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أخرج إلى زيارة أبي عبد الله الصادق؟ فأجاب ولم يأب ، فدخلت عليه وسلّمت وقلت له : أسألك يا مولاي بحقّ جدّك محمّد رسول ربّ العزّةص أن تعلّمني الدعاء الذي كنت تقرأه عند دخولك على أبي جعفر المنصور ، قال : لك ذلك ، ثمّ أخذ الصادق يصف لمحمّد شأن الدعاء قبل أن يورده له ، ثم ذكر الدعاء وهو طويل(٢) .

هذه بعض المحن التي شاهدها الصادقعليه السلام من المنصور وتخلّص فيها ممّا أراده فيه بدعائه ، وقد ذكر ابن طاوس طاب ثراه دفعتين اخريين يهمّ بهما المنصور في قتل الصادق فيدفع الله عنه فيهما سوءه.

وذكر بعض هذه المحن وسلامة الصادق من القتل فيها بدعائه جملة من أرباب التأليف عند استطرادهم لأحوال الصادقعليه السلام ، أمثال الشبلنجي في نور الأبصار ، والسبط في التذكرة ، وابن طلحة في مطالب السؤل ، وابن الصبّاغ في الفصول المهمّة ، وابن حجر في الصواعق ، والشيخ سليمان في الينابيع ، والكليني في الكافي في كتاب الدعاء ، والمجلسي في البحار ج ١١ ، وابن شهرآشوب في المناقب ، والشيخ المفيد في الإرشاد ، وغيرهم.

__________________

(١) هذا الكلام يدلّنا على معرفة محمّد فوق تشيّعه ، والعجب كيف يصارح المنصور بهذا ، ولا عجب فإن المنصور أعلم من محمّد بشأن الصادقعليه السلام

(٢) لم يفتنا ذكر هذه الأدعية إلاّ لأننا جمعناها في صحائف اخرى مع ما ظفرنا به من أدعيته الاخرى فكان ما اجتمع عندنا كما أشرنا إليه ما يناهز ٤٠٠ صحيفة بقطع هذا الكتاب مع علمنا أنه قد فاتنا الشيء الكثير من دعائه

١١٣

مواقفه مع المنصور وولاته

رزق أهل البيت فيما رزقوا الحكمة وكفى بها فضيلة ، ولربما تعجب من مواقف الصادق مع المنصور ورجاله فإنك تارة تجده يلين بالقول ويجهد في براءته واخرى يلاقيهم بالشدّة والعنف دون أن يعترف بشيء وإن أساءهم موقفه.

والصادق أعرف بما يقول ويفعل ، فقد يلين اذا عرف أن اللين أسلم ، وقد يخشن إذا عرف أن الخشونة ألزم ، وليس اللين محمودا في جميع الأوقات والحالات ، غير أن التمييز بين المواقف يحتاج إلى حكمة وعرفان ، فبينا تجده يخاطب المنصور بقوله : « والله ما فعلت ولا أستحلّ ذلك ولا هو من مذهبي وإني ممّن يعتقد طاعتك في كلّ حال وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته فصيّرني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت فهو منّي قريب » واذا به يقول للمنصور على لسان الرسول : « فإن كففت وإلاّ أجريت اسمك على الله عزّ وجل في كلّ يوم خمس مرّات » إلى كثير من الموقفين ، كما عرفت كثيرا من مواقف اللين ، وستعرف الآن بعض المواقف من الشدّة.

إنّا وإن غبنا عن ذلك العهد لكننا لم نغب عن معرفة نفسيّة الامام الصادقعليه السلام ونفسيّة الدوانيقي ، كما لم نغب عن تأريخ الحوادث في ذلك العهد.

إن المنصور وإن ملك البلاد باسم الخلافة لكنه يعلم أن صاحبها حقا هو الصادقعليه السلام ، وأنه صاحب كلّ فضيلة وأنه لو أراد الأمر لم يطق المنصور

١١٤

أن يحول دونه ، فمن ثمّ تراه أحيانا يصفح عن وخزات الصادقعليه السلام لا يريد أن تزداد الملاحاة في الكلام فتثير كوامن النفوس فتهيج ما يخافه من وثبة وثورة ، غير أن شدّة الحبّ للملك والملك عقيم ، والحبّ يعمي ويصمّ ، تبعث المنصور على الاساءة للصادق والسعي لإهلاكه ، فاذا عرف الصادق أن الموقف من الأوّل انبعث لإظهار الحقّ ، وأن الموقف من الثاني قابله بلين ليكفّ بغيه وعدوانه.

وها نحن أوّلا نورد بعض ما كان من الصادق مع المنصور وولاته من المواقف التي يعلن فيها بالحقّ غير مكترث بما له من سطوة ولولاته من قسوة.

سأل المنصور الصادقعليه السلام يوما عن الذباب وهو يتطايح على وجهه حتّى أضجره فقال له : يا أبا عبد الله لم خلق الله الذباب؟ فقال الصادقعليه السلام : ليذلّ به الجبابرة(١) فسكت المنصور علما منه أنّه لو ردّ عليه لوخزه بما هو أمضّ جرحا ، وأنفذ طعنا.

وكتب إليه المنصور مرّة : لم لا تغشانا كما تغشانا الناس؟ فأجابه الصادقعليه السلام : « ليس لنا ما نخافك من أجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له ، ولا أنت في نعمة فنهنّيك ، ولا تراها نقمة فنعزّيك ، فما نصنع عندك » فكتب إليه : تصحبنا لتنصحنا ، فأجابه : « من أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك » فقال المنصور : والله لقد ميز عندي منازل من يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة ، وانه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا(٢) .

أقول : إن المنصور ما أراد النصيحة لما يصلحه ، ولو أراد صلاح نفسه

__________________

(١) نور الأبصار للشبلنجيّ : ص ١٤١

(٢) كشف الغمّة في أحوال الصادقعليه السلام عن تذكرة ابن حمدون : ٢ / ٢٠٨

١١٥

لاعتزل الأمر لئلاّ يبوء بإثم هذه الامّة ، ولكنه أراد أن يستصفي الصادق ويجعله من أتباعه ، فيعلم الناس أنه الامام غير مدافع ، وتنقطع الشيعة عن مراجعة الصادق ، ويظهر لهم أنه تبع للمنصور ، والامام لا يكون تبعا لأرباب السلطان باختياره ، والصادق لا يخفى عليه قصد المنصور.

وكلمته هذه تعطينا درسا بليغا عن مواقف الناس مع الملوك والامراء وعن منازل المتزلّفين إليهم ، وكيف يجب أن تكون مواقف رجال الدين معهم.

واستقدمه المنصور مرّة وهو غضبان عليه ، فلمّا دخل عليه الصادقعليه السلام ، قال له : يا جعفر قد علمت أن رسول اللهص قال.

لأبيك عليّ بن أبي طالبعليه السلام : لو لا أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك قولا لا تمرّ بملإ إلاّ أخذوا من تراب قدميك يستشفون به ، وقال عليعليه السلام : يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي : محبّ غال ومبغض مفرط ، قال ذلك اعتذارا منه أنه لا يرضى بما يقول فيه الغالي والمفرط ، ولعمري أن عيسى بن مريمعليه السلام لو سكت عمّا قالت النصارى فيه لعذبه الله ، ولقد تعلم ما يقال فيك من الزور والبهتان ، وإمساكك عن ذلك ورضاك به سخط الديّان ، زعم أوغاد الحجاز ورعاع الناس أنك حبر الدهر وناموسه ، وحجّة المعبود وترجمانه ، وعيبة علمه وميزان قسطه ، ومصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة إلى ضياء النور ، وأن الله لا يقبل من عامل جهل حدّك في الدنيا عملا ، ولا يرفع له يوم القيامة وزنا ، فنسبوك إلى غير حدّك ، وقالوا فيك ما ليس فيك ، فقل فإن أوّل من قال الحقّ جدّك ، وأوّل من صدقه عليه أبوك ، وأنت حريّ أن تقتصّ آثارهما ، وتسلك سبيلهما.

فقالعليه السلام : أنا فرع من فروع الزيتونة ، وقنديل من قناديل بيت

١١٦

النبوّة ، وأديب السفرة ، وربيب الكرام البررة ، ومصباح من مصابيح المشكاة التي فيها نور النور ، وصفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفين إلى يوم الحشر.

فالتفت المنصور إلى جلسائه فقال : هذا قد حالني على بحر مواج لا يدرك طرفه ولا يبلغ عمقه ، تحار فيه العلماء ، ويغرق فيه السبحاء(١) ويضيق بالسابح عرض الفضاء ، هذا الشجى المعترض في حلوق الخلفاء ، الّذي لا يجوز نفيه ، ولا يحلّ قتله ، ولو لا ما تجمعني وإيّاه شجرة طاب أصلها وبسق فرعها ، وعذب ثمرها ، وبوركت في الذر ، وقدّست في الزبر ، لكان منّي ما لا يحمد في العواقب ، لما يبلغني عنه من شدّة عيبه لنا وسوء القول فينا.

فقال الصادقعليه السلام : لا تقبل في ذي رحمك وأهل الرعاية من أهل بيتك قول من حرّم الله عليه الجنّة ، وجعل مأواه النار ، فإن النمّام شاهد زور ، وشريك إبليس في الإغراء بين الناس فقد قال الله تعالى :( « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ » ) (٢) ونحن لك أنصار وأعوان ، ولملكك دعائم وأركان ، ما أمرت بالمعروف والاحسان ، وأمضيت في الرعيّة أحكام القرآن ، وأرغمت بطاعتك لله أنف الشيطان ، وإن كان يجب عليك في سعة فهمك ، وكثرة علمك ، ومعرفتك بآداب الله أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك ، فإن المكافي ليس بالواصل ، إنما الواصل من إذا قطعته رحمه وصلها ، فصل رحمك يزد الله في عمرك ، ويخفّف عنك الحساب يوم حشرك ، فقال المنصور : قد صفحت عنك لقدرك ، وتجاوزت عنك لصدقك ، فحدّثني عن نفسك بحديث

__________________

(١) جمع سابح

(٢) الحجرات : ٦

١١٧

أتعظ به ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات ، فقال الصادقعليه السلام : عليك بالحلم فإنه ركن العلم ، واملك نفسك عند أسباب القدرة فإنك إن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظا ، أو تداوى حقدا أو يحبّ أن يذكر بالصولة ، واعلم بأنك إن عاقبت مستحقّا لم تكن غاية ما توصف به إلاّ العدل ، والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر ، فقال المنصور : وعظت فأحسنت ، وقلت فأوجزت(١) .

أقول : إن أمثال هذه المواقف تعطيك دروسا وافيه عمّا كان عليه أهل ذلك العصر من سياسة وعلم واعتقاد وغيرها ، وهنا نستطيع أن نتعرّف عدّة امور.

١ ـ إن المنصور يريد ألاّ يظهر الصادق بمظهر الامامة فحاول أن يخدعه أمام الناس بتلك الكلمات الليّنة ، وهنا تعرف دهاء المنصور ، لأن العبّاسيّين إنما تربّعوا على الدست باسم الامامة والخلافة ، فلو كان هناك إمام آخر يرى شطر من الامّة أنه صاحب المنبر والتاج لا يتمّ لهم أمر ، وهو يريد ألاّ يعارضه أحد في سلطانهم ، فكان المنصور يدفع عن عرشه بالشدّة مرّة وباللين اخرى فكان من سياسته أن جابه الصادق أمام ملأ من الناس بهذا القول وحسب أنّ الصادق سوف يبطل ما يقوله الناس فيه ، وبه يحصل ما يريد ، وهو يعلم أنّ الصادق لا يجبهه بالردّ ، حذرا من سطوته.

٢ ـ إن الصادق إمام بجعل إلهي كما يرى ذلك ويراه الشيعة فيه ، والامامة في أهل البيت وفي الصادق ليست وليدة عصر المنصور ، وإنما هي من عهد صاحب الرسالة ، فالامام الصادقعليه السلام وقع بين لحيي لهذم فإنه إن

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤٧ / ١٦٨ في أحوال الصادقعليه السلام

١١٨

جارى المنصور فقد أبطل إمامة إلهية ، وإن عارضه لا يأمن من شرّه ، ثمّ أجابه بكلمات مجملة لا تصرّح بالامامة ولا تبطل قول الناس فيه ، ولذا قال المنصور « هذا قد حالني على بحر موّاج لا يدرك طرفه ».

٣ ـ إن قول الشيعة في الامام من ذلك اليوم على ما هو عليه اليوم ، وهذا ما تقتضيه اصول المذهب ، وتدلّ عليه أخبار أهل البيت وآثارهم.

٤ ـ إن سكوت الامام الصادق وعدم إبطاله لأن يكون كما يقول الناس برهان على أن حقيقة الامامة كما يحكيها المنصور عن الناس ، ولو كانت حقيقتها غير هذا لقال الصادق : إن هذا الرأي والقول باطل ، بل لوجب عليه إعلام الناس ببطلانه وردعهم عن هذا المعتقد.

٥ ـ إن القائل بإمامة الصادقعليه السلام خلق كثير من الناس ، ممّا جعل المنصور يفكّر فيه ويخشى من اتساعه ومن عقباه ، فحاول أن يتذرّع بالصادق لمكافحته.

٦ ـ إن المرء بأصغريه ، فالامام الصادق لو لم تسبق الأخبار والآثار عن منزلته ، لكان في مثل كلامه ومثل موقفه هذا دلالة على ما له من مقام ، أتراه كيف حاد عن جواب المنصور بما حيّره ، دون أن يصرّح بخلاف ما حكاه عن الشيعة ، ودون أن يصرّح بصحّة ما يرون ، وكيف وعيت ذلك البيان منه عن نفسه ، ببليغ من القول ، وجليل من المعنى ، وكيف وعظ المنصور بما يوافق شأن الملوك ، وما يتفق وابتلاءهم كثيرا؟

وهذا بعض ما يمكن استنباطه من هذا الموقف وفهم حال الناس ذلك اليوم ، وكفى به عن سواه.

ودخل على المنصور في إحدى جيئاته فاستقبله الربيع بالباب وقال له : يا أبا عبد الله ما أشدّ تلظّيه عليك لقد سمعته يقول : والله لا تركت له نخلا إلاّ

١١٩

عقرته ، ولا مالا إلاّ نهبته ، ولا نهبته ، ولا ذرّية إلاّ سبيتها ، فلمّا دخل وسلّم وقعد قال له المنصور : أما والله لقد هممت ألاّ أترك لكم نخلا إلاّ عقرته ، ولا مالا إلاّ أخذته ، فقال له الصادقعليه السلام : يا أمير المؤمنين إن الله عزّ وجل ابتلى أيوب فصبر ، وأعطى داود فشكر ، وقدر(١) يوسف فغفر ، وأنت من ذلك النسل ولا يأتي ذلك النسل إلاّ بما يشبهه ، فقال : صدقت قد عفوت عنكم ، فقال الصادق : إنه لم ينل أحد منّا أهل البيت دما إلاّ سلبه الله ملكه ، فغضب لذلك واستشاط ، فقال : على رسلك إن هذا الملك كان في آل أبي سفيان فلمّا قتل يزيد حسيناعليه السلام سلبه الله ملكه ، فورثه آل مروان فلمّا قتل هشام زيدا سلبه الله ملكه فورثه مروان بن محمّد ، فلمّا قتل مروان إبراهيم الامام سلبه الله ملكه وأعطاكموه فقال : صدقت.(٢)

أقول : إن الصادقعليه السلام ما اعتذر عن قوله الأول ، وإنما جاء بالشواهد عليه ، سوى إنه استعرض ذكر أخيه إبراهيم ليكفّ بذلك شرّه.

وللصادقعليه السلام مواقف كثيرة على غرار ما ذكرناه اجتزينا عنها بما أوردناه.

وكانت للصادقعليه السلام مواقف مع بعض ولاة المنصور رجاله تشبه مواقفه مع المنصور في الشدّة ، جاء إلى المدينة واليا من قبل المنصور بعد مقتل محمّد وإبراهيم رجل يقال له شيبة بن عفال ، يقول عبد الله بن سليمان التميمي : فلمّا حضرت الجمعة صار إلى مسجد الرسولص فرقى المنبر وحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد فإن عليّ بن أبي طالب شقّ عصا

__________________

(١) أي جعله قادرا على الانتقام من اخوته

(٢) الكافي : كتاب الدعاء ، باب الدعاء للكرب والهمّ والحزن : ٢ / ٥٦٣

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268