سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) الجزء ٢

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)11%

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
ISBN: 964-493-173-4
الصفحات: 352

  • البداية
  • السابق
  • 352 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 1315 / تحميل: 414
الحجم الحجم الحجم
سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
ISBN: ٩٦٤-٤٩٣-١٧٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وحييّ بن أخطب وكنانة بن الربيع ، حين ذهبوا إلى مكة ليحرضوا الأحزاب على حرب المسلمين ، قالت لهم قريش :

«يا معشر اليهود ، إنكم أهل الكتاب الأول ، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ؛ أفديننا خير أم دينه؟

قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منه.

فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ، ونشطوا لما دعوهم إليه الخ ..»(١) .

ونحن وإن كنا نعلم أن زعماء قريش كانوا يعلمون الحق ، ولكنهم كانوا يكتمونه عنادا واستكبارا لقوله تعالى :( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (٢) .

ولكن الذي يلفت نظرنا : هو هذا الاستغلال لنفوذ اليهود ، وهيمنتهم العلمية ، واعتبارهم مصدرا للمعارف الدينية.

وبالمناسبة فإن التاريخ يعيد نفسه ، فإن نظرة المسلمين إلى الأوروبيين الآن تشبه تماما ما كانت عليه في الجاهلية.

وأخيرا ، فقد قال الحلبي وابن هشام : «لا يخفى : أن كفار قريش بعثوا النضر بن الحرث ، وعقبة بن أبي معيط ، إلى أحبار اليهود بالمدينة ، وقالوا لهما :

إسألاهم عن محمد ، وصفا لهم صفته ، وأخبراهم بقوله ؛ فإنهم أهل الكتاب الأول»(٣) ثم ذكر ما جرى بينهم وبين اليهود ، ثم ما جرى لهم مع

__________________

(١) سيرة ابن هشام ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦. وستأتي بقية المصادر في غزوة الخندق.

(٢) الآية ١٤ من سورة النمل.

(٣) السيرة الحلبية ج ١ ص ٣١٠ ، وسيرة ابن هشام ج ١ ص ٣٢١.

١٢١

النبي «صلى الله عليه وآله» في مكة.

والخلاصة : أن إخبارات أهل الكتاب تلك قد غرست في ذهن العربي أن نبيا سوف يخرج من منطقته ، مما سهل عليه قبول دعوته «صلى الله عليه وآله» ، والإذعان للحق الذي جاء به ؛ لأن الناس ـ باستثناء أصحاب المطامح والأهواء ، والطواغيت منهم ـ لصفاء وسلامة طباعهم ، وكونهم أقرب إلى الفطرة ، وعدم تلوث فكرهم بالشبهات والفلسفات المعقدة كانوا يتقبلون الحق ، ويذعنون له ، وقبليتهم وعاداتهم إنما كانت تمنع فقط من انقياد بعضهم لبعض ، بسبب غلظتهم ، وانفتهم ، وبعد هممهم ، ولكن لم يكن ذلك يمنعهم من قبول الحق ، والإذعان لإرادة السماء(١) .

٦ ـ الفراغ العقائدي والسياسي :

أ ـ الفراغ العقائدي :

لقد كان العرب يعانون من فراغ عقائدي هائل ، عبّر عنه أمير المؤمنين «عليه السلام» بقوله المتقدم : «بعثه ، والناس ضلال في حيرة ، وحاطبون في فتنة ، حيارى في زلزال من الأمر ، وبلاء من الجهل».

ويكفي أن نذكر : أنهم حتى عبادتهم للأصنام قد كانت ملونة باللون القبلي ، فلكل قبيلة بل لكل بيت وثن ، وطريقة.

وكثيرا ما كانت دوافعهم إلى عبادة تلك الأصنام عاطفية ، بعيدة عن أساليب التبرير العقلي ، والمنطقي ، فارتباط العربي بهذا الصنم إنما هو لأن هذا الصنم مرتبط بتاريخ أبيه أو جده ، فالعربي يعتز بنسبه بحسب طبعه ،

__________________

(١) راجع : البيان والتبيين للجاحظ ج ٣ ص ١٢٧.

١٢٢

وبما ينسب إليه ، قال تعالى حكاية لذلك عنهم :( بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) (١) .

ومما يدل على أن عبادتهم للأصنام لم تكن عن تعقل وقناعة : هو أن الذين كانوا يرجعون إلى فطرتهم ، وإلى عقولهم سرعان ما يدركون منافرتها للفطرة ، ولأحكام العقل السليم ، ويرغبون بالخروج من هذا الجو ، ولذلك نجد المؤرخين يذكرون :

أن عبد المطلب قد رفض عبادة الأوثان.

كما ويذكرون : أن ورقة بن نوفل ، وعثمان بن الحويرث ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وعبيد الله بن جحش قد تبرموا من عبادة الأوثان ، وعبروا عن ضعف ثقتهم فيها ، فاجتمعوا وتشاوروا فتنصر الأولان ، وبقي الآخران في حيرتهما وشكهما(٢) .

ب ـ الفراغ السياسي :

إن أرض العرب القاحلة ، والجو الحار الذي تتميز به ، وحياتهم المتنقلة من مكان إلى مكان ، وقدرتهم على تحمل المشاق ، قد جعل السيطرة عليهم شبه مستحيلة حسبما قدمنا ، بل جعلهم بحسب طبيعة ظروفهم الحياتية قادرين على توجيه الضربات القاصمة لكلّ دخيل ، وجعله في رعب دائم ، وخوف مستمر ، الأمر الذي أسهم بشكل فعال في إبعاد أطماع المستعمرين عن منطقتهم ، مع قناعة المستعمر بأنه سوف لا يجني الكثير من النفع في

__________________

(١) الآية ٢٢ من سورة الزخرف.

(٢) راجع : البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨ وحياة محمد لهيكل ص ٨٩ ، وغير ذلك.

١٢٣

مقابل الكثير من الضرر الذي سوف يتعرض له ، ولا سيما مع علمه بأن حب الانطلاق في البادية بلا رقيب ولا حسيب مغروس في دم العربي ، وفي روحه ، وفي أعماق أعماقه ، ولا يتنازل عن ذلك بأي ثمن كان.

فكل ذلك قد جعل المنطقة في فراغ سياسي محسوس ، بل إن شمالي الجزيرة العربية لم يتعرض لأي حكم أجنبي أصلا

نعم ، قد تعرض جنوبها وهو اليمن لسلطة الأحباش لفترة قصيرة(١) .

وهذا الفراغ السياسي قد جعلها بعيدة عن نفوذ الأديان الكبرى بشكل فعال ، ولو بفرض من السلطة الحاكمة ، كالنصرانية والزرادشتية ، وحتى عن التأثر باليهودية التي كانت تعيش بينهم ومعهم ، فبقيت المنطقة بعيدة عن الشبهات والأفكار الغريبة والدخيلة ، وإن كان قد تسرب إليها بعض اليهود فرارا من الرومان ، ولكن لم يكن لهم أي نشاط ديني ، أو لعله كان ، ولكنه لم يثمر ، إذ لم يكن ثمة سلطة تدعمه سياسيا وإعلاميا ، ولذلك فقد أشرنا إلى أنهم يذكرون أن نصارى تغلب ما كانوا يتمسكون من النصرانية إلا بشرب الخمر(٢) بل إن جميع نصارى العرب كانوا كذلك(٣) .

وما ذلك إلا لأن النصرانية بعيدة عن عقل وفطرة الإنسان ، ولا تستطيع أن تتصل بروحه ووجدانه لتفرض هيمنتها على أفعاله ، وسلوكه.

__________________

(١) راجع : مختصر تاريخ العرب ، للسيد أمير علي ص ٨.

(٢) المصنف للصنعاني ج ٦ ص ٧٢ وج ٧ ص ١٨٦ والسنن الكبرى ج ٩ ص ٢٨٤.

(٣) المصنف للصنعاني ج ٦ ص ٧٢ و ٧٣ وج ٧ ص ١٨٦ والسنن الكبرى ج ٩ ص ٢١٧.

١٢٤

أما الإسلام ، دين الفطرة ، الذي استطاع بفترة وجيزة أن يصنع أمثال أبي ذر ، وعمار ، وسلمان ، فإنه يتصل أولا بعقل الإنسان ، ثم بروحه ووجدانه ، حتى يحوله إلى إنسان إلهي بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، وقد استطاع أن يجعل من هؤلاء المتوحشين إلى الأمس القريب ، والذين لا يلتزمون بنظام ، ولا يحكمهم قانون أكثر الأمم اتباعا للنظم ، وأشدها إيمانا وإخلاصا للقانون الإلهي.

كما ويلاحظ : أن من رباهم النبي «صلى الله عليه وآله» والأئمة «عليهم السلام» في فترات وجيزة جدا ، مع محدودية إمكاناتهم لم تستطع الحكومات الأخرى ، حتى التي تنسب نفسها إلى الإسلام أن تأتي بأمثالهم ، رغم توفر كل الإمكانات لها ، الأمر الذي يشير بوضوح إلى الدور الكبير الذي يضطلع به القائد والحاكم الحق في تربية المجتمع ، وفي تزكيته.

قال المعتزلي : «والغالب على أهل الحجاز الجفاء والعجرفية ، وخشونة الطبع. ومن سكن المدن منهم ، كأهل مكة ، والمدينة ، والطائف ؛ فطباعهم قريبة من طباع أهل البادية بالمجاورة.

ولم يكن فيهم من قبل حكيم ولا فيلسوف ، ولا صاحب نظر وجدل ، ولا موقع شبهة ، ولا مبتدع نحلة الخ ..»(١) .

وخلاصة الأمر :

أن صفاء نفوس عرب الحجاز وعدم تلوثها بالأفكار ، والانحرافات والشبهات الغريبة عن الفطرة ، بالإضافة إلى الفراغ العقائدي ، وعدم

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ٥١.

١٢٥

معقولية شركهم ، وعبادتهم للأوثان ، ثم الحالة الاجتماعية السيئة التي كانوا يعانون منها ، كل ذلك قد أسهم إسهاما كبيرا في نشر الدعوة الإسلامية وقبولها.

ولذلك ترى أن كثيرا منهم كانوا يسلمون بمجرد سماعهم كلامه «صلى الله عليه وآله» ، واطلاعهم على أصول دعوته وأهدافها ، أو بمجرد أن يتلو عليهم القرآن.

وإذا ما رأينا ساداتهم وكبراءهم ـ عموما ـ كانوا يجحدون بهذه الدعوة الحقة ، فليس ذلك لأنهم لم يجدوا فيها ما يقنعهم ، بل لأنهم وجدوها تضر بمصالحهم الدنيوية ، وتصدهم عن مطامعهم اللاإنسانية ؛ فهم مصداق لقوله تعالى :( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (١) .

ولذلك نلاحظ : أن الناس ما كانوا يتطلبون الاستدلال على التعاليم والأفكار الدينية كثيرا في أول الأمر ؛ لأن صفاء نفوسهم ، وسلامة فطرتهم ، وعدم إرباكها وإرهاقها بالأفكار ، والفلسفات ، والشبهات كان كافيا لإدراك حقانية الدعوة ، وسلامة أفكارها. وكانت الآيات إنما تحاول إرجاعهم إلى الفطرة وتدعوهم إلى التفكير ، والتعقل.

ولكن بعد أن دخلت الفلسفات والأفكار الغريبة ، والشبهات المغرضة ، إلى فكر وعقل هذا الإنسان ، وحجبت فطرته ، وأربكت تفكيره وأرهقت عقله ، صار الناس يحتاجون أكثر فأكثر إلى الأدلة ، ويتطلبونها من الأئمة «عليهم السلام» ، بحسب نسبة تلوث فطرتهم بالشبهات والأفكار الغريبة.

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة النمل.

١٢٦

٧ ـ الحياة الصعبة ، والتضحية بالنفس :

وكانت بدائية العرب ، وحياتهم الصعبة التي يعانون منها ، قد جعلتهم أكثر اقداما على التضحية في سبيل الدعوة التي يؤمنون بها عن قناعة وجدانية راسخة ، ويتفاعلون معها تفاعلا روحيا خالصا.

وذلك لأنهم لم ينعموا بحياة النعيم والرفاهية ، التي لا تعب فيها ولا نصب ، ولا آلام ؛ ليصبح لهم تعلق شديد بالحياة ، وحب ، بل وعشق لها ، فإن من الملاحظ : أنه كلما كانت الحياة رخية ناعمة مرفهة ، كلما ازداد تعلق الإنسان بها ، وحبه لها ، وكلما كان العكس ، سهل عليه تركها ، والتخلي عنها.

كما أن الدعوة التي سوف يتعرض أفرادها لمختلف أنواع الضغوط النفسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية وأقساها ، بحاجة ماسة إلى جماعة قادرين على مواجهة تلك الضغوط ، وتحمل تلك الآلام ، والصبر على التعذيب ، والجوع والاضطهاد ، بمختلف أنواعه.

وقد كان العرب ـ عموما ـ كذلك ؛ لأنهم قد عانوا من مشاق الحياة والطبيعة ما عانوا ، وأصبحت الآلام والمتاعب والمصاعب هي الصفة المميزة لحياتهم بل هي خبزهم اليومي وغير ذلك هو الاستثناء ، فهم أقدر من غيرهم على تحمل ما ينتظر أتباع هذه الدعوة ؛ لأن المنعمين لا يستطيعون عادة تحمل المشاق ، ومواجهة الصعوبات فإن الشجرة البرية أصلب عودا ، وأبطأ خمودا ؛ ولذلك نجد :

أن بعض المسلمين كانوا يودون لو يجعلون امتيازا لأحدهم ، وهو ابن عمير لأنه كان منعما قبل أن يسلم ، وحينما أسلم تعرض للمشاق والآلام ، فذلك جعلهم يشعرون بأنه قد تحمل من المصاعب والآلام ما يوجب الرثاء

١٢٧

والرحمة له ؛ وما ذلك إلا انطلاقا من الناحية التي أشرنا إليها آنفا.

٨ ـ بقايا الحنيفية في العرب :

وبعد ، فإن مما ساعد على ذلك أيضا ، وجود بقايا الحنيفية ـ دين إبراهيم كالحج وآدابه ـ في الجزيرة العربية ، وفي مكة بالذات ؛ لأن العرب ، وهم أولاد إسماعيل ، قد توارثوا عنه الدين الحق وكانوا يعتزون بذلك ، وقد قال الله تعالى لهم :( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) (١) .

ولكنهم على مر السنين بدؤوا يخلطون هذا الحق بكثير من الباطل ، شأن سائر الأمم ، عندما يغشاها الجهل ، وتستبد بها الأهواء ، والانحرافات.

ثم تسرب إليهم الشرك ، وعبادة الأوثان ، حسبما قدمنا ، ثم الكثير من الأمور الباطلة ، والأخلاق الذميمة ، والفواحش ، حتى أصبحوا في الجاهلية العمياء ، وحتى أدى بهم الأمر إلى الحالة التي وصفها لنا أمير المؤمنين «عليه السلام» فيما تقدم ، غير أن بقية منهم ـ وإن كانت قليلة جدا ـ قد بقيت متمسكة بعقيدة التوحيد ، وترفض عبادة الأوثان ، وتعبد الله على حسب ما تراه مناسبا ، وقريبا إلى تعاليم دين إبراهيم ، مع التزام بعضهم الآخر بدقة بدين الحنيفية ، ومن هؤلاء عبد المطلب ، وأضرابه ، من رجالات بني هاشم الأبرار.

وكان من بقايا الحنيفية تعظيم البيت ، والطواف به ، والوقوف بعرفة ، والتلبية(٢) وهدي البدن ، وإن كانوا يطبقون ذلك مشوها وممسوخا ، ويقحمون

__________________

(١) الآية ٧٨ من سورة الحج.

(٢) ذكر اليعقوبي في تاريخه (ط صادر) ج ١ ص ٢٥٤ ـ ٢٥٧ تلبيات كل قبيلة ، وأعطى نبذة عن شعائرهم في مكة ، فمن أراد فليراجع.

١٢٨

فيه ما ليس منه ، وكانت هذه المعالم تضعف رويدا رويدا مع الزمن ، حتى لم يبق منها إلا الأسماء ، والرسوم الشوهاء.

وقد روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» ما مفاده : إن العرب كانوا أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس ؛ فإن العرب يغتسلون من الجنابة ، والاغتسال من خالص شرايع الحنيفية ، وهم أيضا يختتنون ، وهو من سنن الأنبياء ، كما أنهم يغسلون موتاهم ، ويكفنونهم ، ويوارونهم في القبور ، ويلحدونهم ، ويحرمون نكاح البنات والأخوات ، وكانوا يحجون إلى البيت ويعظمونه ، ويقولون : بيت ربنا ، ويقرون بالتوراة والإنجيل ، ويسألون أهل الكتب ، ويأخذون منهم ، وكانت العرب في كل الأسباب أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس(١) .

إذن ، فقد كان ثمة ذكريات بعيدة في ضمير ووجدان الإنسان العربي ، تربطه بالحنيفية السهلة السمحاء ، دين آبائه وأجداده ـ وهو الذي يعتز بالأنساب وصفائها ، بحكم ما يتعرض له من الغزو والسبي الموجب للتهمة أحيانا ـ وإذا كان النبي «صلى الله عليه وآله» قد بعث ليتمها ؛ فمن الطبيعي أن يكون لهذه الذكريات أثر في نظرة كثير من الناس إليه ، وإلى ما جاء به بإيجابية وواقعية.

٩ ـ الخصائص والعادات العربية :

ولقد كان لبعض الخصائص ، والأخلاق ، والعادات العربية ، أثر كبير

__________________

(١) راجع : الاحتجاج ، للطبرسي ج ٢ ص ٩١ ـ ٩٢ والبحار ط مؤسسة الوفاء ج ٧٨ ص ٨.

١٢٩

في نشر دعوة الرسول «صلى الله عليه وآله» ، التي هي دعوة الحق والخير وشمولها ، وإن كان الإسلام الذي استفاد من تلك الخصائص والعادات والأخلاق قد حاول إلى جانب ذلك تركيزها من حيث المنطلقات والأهداف على أسس صحيحة ومقبولة ، وأما إن كانت مرفوضة إسلاميا ، فإنه ـ وإن كانت قد أفادته تلقائيا ، ومن دون أن يتطلب هو ذلك ـ كان يحاول القضاء عليها ، واستئصالها بالحكمة والموعظة الحسنة ، كلما سنحت له الفرصة ، وواتاه الظرف.

فمثلا : لقد استفاد الإسلام كثيرا من شجاعة العربي ، واستهانته بالصعاب ، في الدفاع عن الإسلام.

وأيضا ، فقد كان للتعصب القبلي بعض الفوائد الهامة ، حتى ليذكرون أنه بعد الهجرة إلى المدينة ؛ كان الأوس والخزرج : «يتصاولان مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» تصاول الفحلين ، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» غناء إلا قالت الخزرج : والله ، لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الإسلام ؛ فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها ، قال : وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك»(١) .

وأما قبل الهجرة في مكة ، فقد كان للقبلية أثر كبير في منع قريش وغيرها مدة طويلة من المضايقات لكثير ممن اعتنقوا الإسلام ، ثم من محاولة

__________________

(١) تاريخ الطبري ط الاستقامة ج ٢ ص ١٨٤ د وراجع الكامل لابن الأثير ط صادر ج ٢ ص ١٤٦.

١٣٠

الاعتداء على حياته «صلى الله عليه وآله» ، أو على حياة أكثر المسلمين آنذاك ، وإن كانت تواجههم بالمضايقات أحيانا ، وأحيانا بالتعذيب القاسي ، إن لم يكن لهم عشيرة يرهب جانبها ، حتى أذن الله تعالى لهم بالهجرة إلى المدينة.

ولذلك نلاحظ : أن أبا طالب «رحمه الله» قد استفاد كثيرا من العامل القبلي ، حتى إن بني هاشم مسلمهم وكافرهم قد قبلوا بمحاصرة قريش لهم ، وكانوا معه في شعب أبي طالب كما سيأتي.

وتجد في شعر أبي طالب الكثير من التأكيد على عامل القرابة بين بني هاشم وطوائف من قريش ، الأمر الذي كان له أثر كبير في حفظ حياته «صلى الله عليه وآله» من كيد أعدائه كما قلنا.

بل إننا نجد المشركين حتى في عدائهم له «صلى الله عليه وآله» ، وحتى حينما تآمروا عليه ليقتلوه ـ وكان ذلك هو سبب هجرته «صلى الله عليه وآله» ـ قد أخذوا بعين الاعتبار العلاقات القبلية ، وردّات الفعل التي سوف تنجم عنها فاختاروا عشرة أشخاص ، من كل قبيلة رجلا ، ليضربوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» بسيوفهم في آن واحد وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

وفي المدينة أيضا كان ثمة أثر كبير لكرم ضيافة العربي ، ولوفائه بالعهد والذمار ، ولحسن الجوار ، ولحريته ، وحميته ، وأنفته وعزته ، واعتداده بنفسه ، وقوة إرادته ، وللشجاعة ، والإقدام ، وحتى لصفات القوة والغلظة ، التي ولدتها فيهم حياة الغزو والحرب ، وجعلتهم قادرين على التخلي عن العواطف في سبيل دينهم وعقيدتهم ، حتى لقد كانوا يقتلون أبناءهم ، وآباءهم ، وإخوانهم.

١٣١

١٠ ـ دور أبي طالب عليه السّلام :

يجب أن لا ننسى الدور الذي اضطلع به الرجل العظيم ، أبو طالب شيخ الأبطح «عليه السّلام» ، الذي وفر للنبي «صلى الله عليه وآله» حمايته المطلقة من كل أعدائه ومناوئيه.

١١ ـ أموال خديجة عليها السّلام :

ثم هنالك العامل الاقتصادي الذي وفرته له زوجته أم المؤمنين خديجة صلوات الله وسلامه عليها ، والتي كانت تمتلك ـ حسبما يرى البعض ـ عصب الاقتصاد في الجزيرة العربية كلها.

وقد أنفقت كل تلك الأموال على المسلمين ، في الظروف الحرجة التي واجهوها ، إبان اضطهاد قريش وحصارها الاقتصادي لهم.

ومما يدل على أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يتولى الإنفاق على المسلمين ، من أموال خديجة وأبي طالب(١) قول أسماء بنت عميس لعمر(٢) حين عيّرها بأنه سبقها بالهجرة ، وإنها حبشية حجرية ـ على ما نقل عن صحيح مسلم وغيره ـ قالت له :

«كنتم مع النبي «صلى الله عليه وآله» يطعم جائعكم ، ويعظ

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ١٦ وأموال خديجة أمرها أشهر من أن يذكر فراجع أمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ٨١ ـ ٨٢ والبحار ج ١٩ ص ٦١ و ٦٢.

(٢) ستأتي مصادر ذلك في فصل : هجرة الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، حين الكلام حول ثروة أبي بكر.

١٣٢

جاهلكم»(١) .

١٢ ـ جهاد علي عليه السّلام :

وأخيرا ، فيجب أن لا ننسى دور وصي وأخي النبي «صلى الله عليه وآله» ، أمير المؤمنين «عليه السّلام» ، حسبما سيظهر إن شاء الله ـ ولو بنحو محدود ـ في مطاوي هذه السيرة العطرة.

نعم ، لقد كان لكل ذلك دور هام في حفظ الدعوة ، وانتصارها ، وانتشارها ، كما لا يخفى على الناقد البصير ، والمتتبع الخبير.

وثمة أسباب أخرى قد ساعدت على ظهور الإسلام ، وانتشاره ، وانتصاره ، يمكن استجلاء بعضها من مطاوي التاريخ الإسلامي.

ونحن نكتفي هنا بهذا القدر ؛ لنوفر الفرصة لعرض حياة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» بعد البعثة ، وبشكل موجز وواضح قدر الإمكان.

تنبيه هام وضروري :

إن كل ما ذكرناه آنفا لا يعني : أن ظهور الإسلام ، وانتشاره في الجزيرة العربية قد كان أمرا طبيعيا ، بحيث إنه لو توفرت هذه العوامل لأي دعوة أخرى ، فإنها تستطيع أن تحقق نفس النتائج التي حققها الإسلام ، بل الأمر على العكس من ذلك تماما ، فإن ظهور الإسلام ، وانتصاره في هذه المنطقة

__________________

(١) قاموس الرجال ج ١٠ ص ٣٨٠ وحياة الصحابة ج ١ ص ٣٦١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٠٥ وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٧٢ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٧٢ وصحيح البخاري (ط سنة ١٣٠٩ ه‍) ج ٣ ص ٣٥ وكنز العمال ج ٢٢ ص ٢٠٦ عن أبي نعيم ، والطيالسي ، ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٩٥ والأوائل ج ١ ص ٣١٤.

١٣٣

هو بذاته معجزة له ، ودليل على حقانية الإسلام ؛ وذلك لأن اليهودية قد كانت موجودة ، وكانت هذه الظروف أيضا موجودة ، ولكنها لم تستطع أن تؤثر أثرا يذكر في عقلية العربي ، ولا في سلوكه ، وتصرفاته(١) .

وكذلك الحال بالنسبة للنصرانية ، التي كانت تهتم في تنصير كل من تقدر على تنصيره ، ثم هناك الزرادشتية وغيرها من الأديان.

وهذا معناه : أن لنفس المبدأ ، والرسالة ، والقائد دورا هاما جدا ، بل والدور الأول والأساس في عملية التغيير وفي النجاح وفي استمراره ، وبدون ذلك ، فإن كل نجاح ـ لو كان ـ فلسوف يكون محدودا جدا ، ولظروف معينة ، ولسوف ينتهي بمجرد انتهاء تلك الظروف.

وقد رأينا الإسلام رغم ما عاناه من مصائب وبلايا حتى على أيدي أبنائه ، كان ولا يزال يزداد قوة وفعالية على مر الزمن ، وفي مختلف الظروف والأحوال ، ولم يؤثر فقدان تلك الظروف والعوامل ، ولا تحولها وتقلبها لا في الإسلام ، ولا في فعاليته ، إن لم نقل : إنه قد زاد في ذلك بشكل ظاهر.

والذي يفسر لنا هذه الظاهرة ، هو ما ذكرناه آنفا من أن الإسلام يستطيع أن يستوعب طاقات الإنسان ، ويحولها ويطورها في مصلحة الرسالة والحق ، كما إنه يستطيع أن يتلاءم مع الظروف المختلفة ، فهو يملك لكل داء دواء ، ولكل مشكلة حلا ، ولكل ظرف ما يناسبه ، على عكس غيره من الدعوات الجامدة ، والمحدودة.

ولذلك ، فإن الإسلام عندما نجح في الجزيرة العربية ، وإن كان قد

__________________

(١) وإن كان دين اليهود مقصورا عليهم ولا يتعداهم إلى غيرهم من الأمم.

١٣٤

استفاد من بعض الظروف ، وحوّل وطوّر الأوضاع السائدة في صالحه ، إلا أنه كان في نفس الوقت لا يجد في المنطقة التي ظهر فيها الكثير من المميزات الهامة التي من شأنها أن تساعده في مهمته ، ولولاها فإن أي دعوة أخرى لا تستطيع أن تنجح ، ولكن فقدها لم يؤثر على الإسلام ، كما أن امتلاك أعدائه لها لم يؤثر عليه أيضا.

وهذا أحد أسرار عظمة الإسلام وسموّه.

وفقنا الله للعمل في سبيله ، والاهتداء بهديه ، إنه ولي قدير.

١٣٥
١٣٦

الباب الثاني

من الميلاد إلى البعثة

الفصل الأول : عهد الطفولة

الفصل الثاني : خديجة في بيت النبي صلّى الله عليه وآله

الفصل الثالث : البعثة

١٣٧
١٣٨

الفصل الأول :

عهد الطفولة

١٣٩
١٤٠

نسب النبي صلى الله عليه وآله :

هو أبو القاسم محمد «صلى الله عليه وآله» ، بن عبد الله ، بن عبد المطلب ، شيبة الحمد ، بن هاشم ، بن عبد مناف ، بن قصي ، بن كلاب بن مرة ، بن كعب ، بن لؤي ، بن غالب ، بن فهر ، بن مالك ، بن نضر ، بن كنانة ، بن خزيمة ، بن مدركة ، بن إلياس ، بن مضر ، بن نزار ، بن معد ، بن عدنان.

قالوا : إن هذا هو المتفق عليه من نسبه الشريف ، أما ما فوقه ففيه اختلاف كثير ، غير أن مما لا شك فيه هو أن نسب عدنان ينتهي إلى إسماعيل «عليه السلام».

وقد روي أنه «صلى الله عليه وآله» قال : «إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا»(١) .

ونحن نمسك هنا امتثالا لأمره «صلى الله عليه وآله».

وأمه «صلى الله عليه وآله» : هي آمنة بنت سيد بني زهرة ، وهب بن عبد مناف ، بن زهرة ، بن كلاب.

__________________

(١) كشف الغمة للإربلي ج ١ ص ١٥.

١٤١

مولد النبي صلّى الله عليه وآله :

ولد النبي «صلى الله عليه وآله» بمكة عام الفيل على المشهور(١) ، أي قبل البعثة بأربعين سنة.

والمشهور عند الإمامية وبعض من غيرهم أنه ولد في السابع عشر من شهر ربيع الأول.

والمشهور عند غيرهم ووافقهم الكليني : أنه ولد لاثنتي عشرة ليلة خلت منه(٢) .

وثمة أقوال أخر لا مجال لذكرها.

ونص الطبرسي ، والكليني على : أنه «صلى الله عليه وآله» قد ولد في يوم الجمعة ، وعند غير الإمامية : أنه ولد في يوم الإثنين ، وورد : أن أمه قد حملت به في أيام التشريق ، وهي الحادي عشر ، والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة(٣) .

ولا يخلو ذلك من إشكال ؛ لأنها إن كانت ولدته في تلك السنة ، فإن حملها به «صلى الله عليه وآله» يكون ثلاثة أشهر ، وتزيد قليلا ، وإن كانت ولدته في السنة الثانية ، فمدة حمله تكون خمسة عشر شهرا ، مع أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وأقصاها سنة عند المشهور من الإمامية.

__________________

(١) راجع : سيرة مغلطاي ص ٦ ـ ٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ١٩٥ ، وغير ذلك وحكي الاتفاق عليه.

(٢) أصول الكافي ج ١ ص ٣٦٤ ط المكتبة الإسلامية بطهران سنة ١٣٨٨.

(٣) أصول الكافي ج ١ ص ٣٦٤ ، وليراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ١٩٦.

١٤٢

وأجيب : بأن ذلك مبني على النسيء في الأشهر الحرم عند العرب ، فإنهم كانوا يقولون مثلا :

إن الأشهر الحرم توضع بعد أربعة أشهر مثلا ، ثم يستحلون القتال في نفس الأشهر التي رفع الاعتبار عنها.

ولكن إن لم نقل بأن الحمل به «صلى الله عليه وآله» أربعة أشهر قد كان من خصوصياته «صلى الله عليه وآله» فلا يمكننا قبول تلك الرواية حتى ولو صح سندها ، وذلك لأن كون تلك الرواية واردة بناء على أشهر النسيء يحتاج إلى إثبات ، إذ لم نعهد في تعبيرات المعصومين بناء كلامهم على النسيء ، الذي هو زيادة في الكفر ، كما لم نعهد ذلك في كلمات المحدثين والمؤرخين ، ولا سيما مع عدم نصب قرينة على ذلك.

تعقيب هام وضروري :

لقد قال الإربلي «رحمه الله» ، بعد أن أشار إلى الاختلاف في تاريخ ولادته «صلى الله عليه وآله» : «إن اختلافهم في يوم ولادته سهل ، إذ لم يكونوا عارفين به ، وبما يكون منه ، وكانوا أميين لا يعرفون ضبط مواليد أبنائهم ، فأما اختلافهم في موته ، فعجيب ، والأعجب من هذا ، اختلافهم في الأذان والإقامة ، بل اختلافهم في موته أعجب ؛ فإن الأذان ربما ادعى كل قوم أنهم رووا فيه رواية ، فأما موته فيجب أن يكون معينا معلوما»(١) .

وكلام الإربلي «رحمه الله» ظاهر المأخذ ، فهو يقول : إن اختلافهم في تاريخ ولادة النبي «صلى الله عليه وآله» ربما تكون له مبرراته ، ولكن ما يثير

__________________

(١) كشف الغمة ج ١ ص ١٥.

١٤٣

الدهشة حقا هو اختلافهم في يوم وفاته «صلى الله عليه وآله» ، مع أنهم كانوا قد عرفوا فيه «صلى الله عليه وآله» المنقذ والمخرج لهم من الظلمات إلى النور ، ومن الموت إلى الحياة ، مع عدم وجود هوى سياسي أو مذهبي يقتضي إبهام ذلك ، أو إجماله ، أو التلاعب فيه.

وأغرب من ذلك كله ، هو اختلافهم في الكثير الكثير من الأمور التي كانوا يمارسونها مع النبي «صلى الله عليه وآله» عدة مرات يوميا ، طيلة سنين عديدة ، حتى إنك لتجدهم يروون المتناقضات عنه «صلى الله عليه وآله» في أفعال الوضوء والصلاة ، وهم كانوا يؤدونها معه «صلى الله عليه وآله» خمس مرات في كل يوم.

بل قد تجد بعضهم يقول : إنهم إنما كانوا يعرفون أنه «صلى الله عليه وآله» يقرأ في صلاة الظهر والعصر من اضطراب لحيته(١) .

أما اختلافهم في الأذان الذي كانوا يتربّون على سماعه منذ صغرهم ، فذلك ظاهر أيضا ، كما أشار إليه الأربلي «رحمه الله».

وإذن فما هو مدى معرفتهم بتلك الأحكام التي يقل الابتلاء بها ، والتعرض لها عادة يا ترى؟!.

__________________

(١) صحيح البخاري (ط سنة ١٣٠٩ ه‍) ج ١ ص ٩٠ و ٩٣ ، ومسند أحمد بن حنبل ج ٦ ص ٣٩٥ وج ٥ ص ٢٠٩ و ١٨٢ و ١١٢ وجواهر الأخبار والآثار (مطبوع بهامش البحر الزخار) : ج ٢ ص ٢٤٧ عن الانتصار ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، والبخاري والسنن الكبرى للبيهقي ج ٢ ص ٣٧ و ٥٤ عن الصحيحين والبحر الزخار ج ٢ ص ٢٤٧.

١٤٤

وأيضا هل يصح اعتبار أقوال هؤلاء وأفعالهم سنة ماضية ، وشريعة متبعة؟ ـ كما هو عند بعض الفرق الإسلامية ـ بل تجد بعضهم ربما يردّ الحديث الصحيح لقول صحابي ، أو لقول حاكم ، إن ذلك لعجيب! وأي عجيب!!

وإذا كانوا يختلفون حتى في مثل هذه الأمور ؛ فهل يعقل بعد هذا أن يصح قول البعض : إنه «صلى الله عليه وآله» قد ترك الأمة هكذا هملا ، بلا قائد ولا رائد؟ ولا معلم ، ولا مرشد؟ على اعتبار أن الأمة تكون مستغنية عن الهداية والرعاية؟!.

وهذا موضوع هام جدا يحتاج إلى بحث وتمحيص بصورة مفصلة.

قصة كاذبة :

وقد روي عن عبد الله بن عباس أنه قال : سمعت أبي العباس يحدث ، قال : ولد لأبي عبد المطلب عبد الله فرأينا في وجهه نورا يظهر كنور الشمس ، فقال أبي : إن لهذا الغلام شأنا عظيما.

قال : فرأيت في منامي أنه خرج من منخره طائر أبيض

إلى أن قال : فلما انتبهت ، سألت كاهنة من بني مخزوم ، فقالت : يا عباس ، لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبه ولد يصير أهل المشرق والمغرب تبعا له.

إلى أن قال : فلما مات عبد الله ، وولدت آمنة رسول الله «صلى الله عليه وآله» أتيته ، ورأيت النور بين عينيه يزهر ، فحملته ، وتفرست في وجهه

ثم تذكر الرواية ما رأته آمنة ، ثم تقول : فهذا ما رأيت يا عباس.

١٤٥

قال ـ يعني العباس ـ : وأنا يومئذ أقرأ ، وكشفت عن ثوبه ، فإذا خاتم النبوة بين كتفيه ، فلم أزل أكتم شأنه وأنسيت الحديث ، فلم أذكره إلى يوم إسلامي ، حتى ذكرني رسول الله «صلى الله عليه وآله»(١) .

وأقول :

إن هذا الحديث لا يصح ، لأن العباس كان أكبر من النبي «صلى الله عليه وآله» بسنتين ـ كما يدّعون ـ(٢) فكيف يكون قد حضر ولادة أبيه عبد الله ، ورأى ذلك المنام ثم ذهب إلى الكاهنة ، ثم حين ولادة الرسول أخذه وحمله الخ ..؟

هذا بالإضافة إلى : أن نسيانه لهذا الأمر الخطير جدا هو الآخر غير معقول.

ولو سلمنا : أنه نسيه ، فكيف لا يذكره حين بعثة الرسول «صلى الله عليه وآله» ، ويبادر إلى التصديق به ، وإعلان إسلامه ، بل يتأخر في ذلك هذه السنين الطويلة ، إلى عام الفتح كما يقولون.

والحقيقة هي : أنهم يريدون من أمثال هذه الحكايات إثبات فضائل للعباس «رحمه الله» ، مثل كونه أول من أسلم ، بل أسلم قبل ولادة النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه ، وما إلى ذلك.

مصير الدار التي ولد فيها صلّى الله عليه وآله :

وكانت ولادته «صلى الله عليه وآله» ، في شعب بني هاشم ، أو شعب أبي طالب ؛ في الدار التي اشتراها محمد بن يوسف ، أخو الحجاج من ورثة

__________________

(١) روضة الواعظين ص ٦٤ ـ ٦٥.

(٢) الإصابة ج ٢ ص ٢٧١.

١٤٦

عقيل بن أبي طالب «رحمه الله تعالى» بمائة ألف دينار ، ثم صيرتها الخيزران أم الرشيد مسجدا ، يصلي فيه الناس(١) ويزورونه ، ويتبركون به ، وبقي على حالته تلك ، فلما : «أخذ الوهابيون مكة في عصرنا هذا هدموه ، ومنعوا من زيارته ، على عادتهم في المنع من التبرك بآثار الأنبياء والصالحين ، وجعلوه مربطا للدواب»(٢) .

رضاعه صلّى الله عليه وآله :

ويقولون : إن أمه «صلى الله عليه وآله» قد أرضعته يومين أو ثلاثة ، ثم أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أياما(٣) .

ثم قدمت حليمة السعدية «رحمها الله» مكة مع رفيقات لها ، بحثا عن ولد ترضعه ؛ لتستفيد من رعاية أهله ، ومعوناتهم ؛ فعرض «صلى الله عليه وآله» عليها ، فرفضته ـ في بادئ الأمر ـ ليتمه ، ولكنها عادت ، فقبلته ، حيث لم تجد غيره ، فرأت فيه كل خير وبركة ؛ فأرضعته سنتين ، ثم أعادته إلى أهله ، وهو ابن خمس سنين ويومين ـ كما يقولون ـ ليكون في كفالة جده عبد المطلب ، ثم عمه أبي طالب.

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ٢٦٤. وقيل : إن زبيدة قد فعلت ذلك ، راجع التبرك :

ص ٢٤٣ و ٢٥٥ ، وراجع تاريخ الخميس ج ١ ص ١٩٨ وراجع أيضا : الروض الأنف ج ١ ص ١٨٤ والمواهب اللدنية ج ١ ص ٢٥ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ١ ص ٥٧١ ، والكامل في التاريخ ج ١ ص ٤٥٨ وأخبار مكة للأزرقي ج ١ ص ٤٣٣.

(٢) أعيان الشيعة ج ٢ ص ٧.

(٣) قاموس الرجال ج ١٠ ص ٤١٧ ترجمة ثويبة ، عن البلاذري.

١٤٧

ويقول العلامة المحقق السيد مهدي الروحاني : إن قولهم : إنها رفضته في أول الأمر ليتمه إنما يصح بالنسبة ليتيم ضائع ، لا أهمية له ، وأما بالنسبة لمحمد «صلى الله عليه وآله» فإن كافله عبد المطلب سيد هذا الوادي ، وأمه آمنة بنت وهب ، من أشراف مكة.

بل ثمة من يقول : إنه لم يكن حينئذ يتيما ، وإن أباه قد توفي بعد ولادته بعدة أشهر ، قيل : ثمانية وعشرين شهرا ، وقيل : سبعة أشهر.(١) انتهى كلامه.

لماذا الرضاع في البادية؟! :

وعلى كل حال فقد كان إرسال الأطفال إلى البادية للرضاع ، هو عادة أشراف مكة ، حيث يرون أن بذلك ينشأ أطفالهم :

أصح أبدانا ، وأفصح لسانا ، وأقوى جنانا ، وأصفى فكرا وقريحة ، وهي نظرة صحيحة وسليمة ، وذلك لما يلي :

أما كونهم :

١ ـ أصحّ ابدانا ، فلأنهم يعيشون في الهواء الطلق ، ويواجهون مصاعب الطبيعة فتصير لديهم مناعة طبيعية تجاه مختلف المتغيرات ، في مختلف الظروف.

٢ ـ وكونهم أفصح لسانا ، من حيث إنهم يقل اختلاطهم بأهل الأقطار الأخرى ، من الأمم الأخرى ، على عكس سكان المدن ، ولا سيما مكة ، التي كانت تقيم علاقات تجارية بينها وبين سائر الأقطار والأمم ، ولها رحلتا الشتاء والصيف إلى البلاد التي تتاخم البلاد الأجنبية ، التي لا يبعد تأثرها

__________________

(١) صفة الصفوة ج ١ ص ٥١ وكشف الغمة للإربلي ج ١ ص ١٦.

١٤٨

بها ـ قليلا كان ذلك أو كثيرا ـ.

٣ ـ وكونهم أقوى جنانا ، لما قدمناه في مطاوي كلماتنا في الفصل الأول.

٤ ـ وأما أنهم أصفى فكرا وقريحة ، فهو حيث يبتعد الإنسان حينئذ عن هموم المدينة ، وعن علاقاتها المعقدة والمرهقة ، حيث لا يواجه في البادية إلا العيش الساذج والبسيط ، والحياة على طبيعتها ، ولا يتأثر فكره وعقله بالمفاهيم والأفكار التي تفرضها تلك الحياة المثقلة بالعلاقات المنحرفة ، ثم هو يجد الفرصة للتأمل والتفكر والتعرف على أسرار الطبيعة والكون ، ولو في حدود عالمه الناشئ المحدود ، ومداركه الناشئة أيضا. وليكون من ثم ذا فكر مبدع خلاق ، وقريحة صافية وغنية ، ولكن بشرط عدم الاستمرار في هذه الحياة طويلا ، فإن الاستمرار في حياة البادية من شأنه أن يجعل الإنسان يعاني من الجمود والانغلاق ، ثم هو يكوّن لنفسه مفاهيم وأفكارا ؛ يحولها الزمن إلى حقائق لا تقبل الجدل عنده ، ويصير من الصعب عليه قبول أي رأي آخر يسير في غير اتجاه قناعاته وأفكاره ، فإن تدرب الإنسان على أن يسمع النقد والمخالفة في الرأي يبعده عن الاستبداد الفكري ، ويجعله يبحث عن الدليل والمبرر لكل فكرة لديه ، وإلا ؛ فإنه يصير على استعداد للتخلي عنها إلى غيرها مما يستطيع أن يدافع عنه ويستدل عليه ، وهذا أمر طبيعي يعرفه الإنسان بالمشاهدة ، ويستدل عليه بالتقصي والتجربة.

غير أننا لا نستطيع تطبيق هذا المنطق على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، الذي كان مرعيا بعين الله ، وموضعا لألطافه وعناياته وقد كان غنيا بالله عن ذلك كله

١٤٩

أخو النبي صلّى الله عليه وآله من الرضاعة :

ويقال : إن أبا سلمة كان أخا للنبي «صلى الله عليه وآله» من الرضاعة ، وأخوهما منها أيضا حمزة بن عبد المطلب ، أرضعتهم ثويبة ، مولاة أبي لهب بلبن ولدها مسروح(١) .

وقد تقدم : قولهم : إن ثويبة قد أرضعت النبي «صلى الله عليه وآله» أياما ، ونحن نشك في ذلك ، ولا بد لنا في مجال توضيح ذلك من التوسع في البحث نسبيا فنقول :

__________________

(١) راجع : أسد الغابة ج ٣ ص ٩٥ وج ٢ ص ٤٦ والبدء والتاريخ ج ٥ ص ٨ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٩ ، وبهجة المحافل ج ١ ص ٤١ وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ٦٧ والإصابة ج ٤ ص ٢٥٨ وج ٢ ص ٣٣٥ عن الصحيحين ، والاستيعاب بهامشها ج ٢ ص ٣٣٨ وج ١ ص ١٦ و ٢٧١ والبحار ج ١٥ ص ٣٨٤ عن المنتقى للكازروني ، وقاموس الرجال ج ١٠ ص ٤١٧.

وراجع : الكامل لابن الأثير ج ١ ص ٤٥٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٧٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩٠ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ١٨ و ١٩ وقسم المغازي ص ٢٠٩ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٢٢ والوفاء ج ١ ص ١٠٧ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٣١.

وراجع : دلائل النبوة لأبي نعيم ص ١١٣ وصفة الصفوة ج ١ ص ٥٦ و ٥٧ وزاد المعاد ج ١ ص ١٩ وذخائر العقبى ص ٢٥٩ و ١٧٢ وإعلام الورى ص ٦ وكشف الغمة ج ١ ص ١٥ والأنس الجليل ج ١ ص ١٧٦ وأنساب الأشراف (قسم السيرة) ص ٩٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٦٤ وفي الروض الأنف : ج ١ ص ١٨٦ لكن فيه بدل أبي سلمة ، عبد الله بن جحش والمعجم الصغير ج ٢ ص ٨٦.

١٥٠

إرضاع ثويبة للرسول صلّى الله عليه وآله لا يصح :

إننا نشك في : أن تكون ثويبة قد أرضعت هؤلاء ، ولا سيما رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وشكنا في ذلك ناشئ عن الأمور التالية :

أولا : تناقض الروايات ، ويكفي أن نذكر :

أ ـ بالنسبة للمدة التي أرضعتها رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، نجد بعضها يقول : أرضعته أياما(١) من دون تحديد ، وبعضها يقول : أربعة أشهر تقريبا(٢) .

وفي حين نجد بعضها يقول : إن أمه أرضعته ثلاثة أيام(٣) ،وقيل : سبعة(٤) .وقيل : تسعة(٥) .

«ولعل أحدهما تصحيف للآخر ، بسبب عدم النقط في تلك العصور ، وتشابه رسم الكلمتين».

وقيل : سبعة أشهر(٦) .

__________________

(١) الإصابة ج ٤ ص ٢٥٨ والبحار ج ١٥ ص ٣٣٧ ، وفي هامشه عن المناقب ج ١ ص ١١٩ وكشف الغمة ج ١ ص ١٥ ونور الأبصار ص ١٠ وتهذيب الأسماء ج ١ ص ٢٤ وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ٦٧ والوفاء ج ١ ص ١٠٧ و ١٠٦ والأنس الجليل ج ١ ص ١٧٦ وصفة الصفوة ج ١ ص ٥٦ و ٥٧ وزاد المعاد ج ١ ص ١٩ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٢٢ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٨٨ والرصف ج ١ ص ٢٢.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٢٢ عن شواهد النبوة.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٢٢ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٨٨ ونور الأبصار ص ١٠.

(٤) تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٢٢ ونور الأبصار ص ١٠.

(٥) السيرة الحلبية ج ١ ص ٨٨.

(٦) السيرة الحلبية ج ١ ص ٨٨ عن الإمتاع.

١٥١

وبعضهم لم يحدد مدة إرضاعها له «صلى الله عليه وآله»(١) .

نعم ، إننا في حين نجدهم يقولون ذلك بالنسبة لإرضاع أمه له ، فإننا نجدهم يذكرون : أن حليمة السعدية أرضعته «صلى الله عليه وآله» ، بعد سبعة أيام من مولده فقط(٢) من دون تحديد من أرضعه مدة الأيام السبعة نفسها ، مع العلم : أنه بعد إرضاع حليمة له ، لم يرتضع من غيرها ، وإذا كانت أمه قد أرضعته فيها ، فمتى أرضعته ثويبة يا ترى؟!.

ومن جهة أخرى : فإن البعض يصرح بأن أول من أرضعته ثويبة(٣) .

وبعضهم يصرح بأن أمه أول من أرضعته(٤) .

ب ـ تناقض الروايات في وقت عتق ثويبة ، هل كان ذلك حينما بشرت

__________________

(١) راجع : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٩ وإسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ٨ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١١٣.

(٢) مختصر التاريخ لابن الكازروني ص ٣٨.

(٣) راجع : الأنس الجليل ج ١ ص ١٧٦ وصفة الصفوة ج ١ ص ٥٦ ـ ٥٧ ودلائل النبوة ، لأبي نعيم ص ١١٣ والكامل في التاريخ ج ١ ص ٤٥٩ وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ٦٧ وأنساب الأشراف (قسم حياة النبي «صلى الله عليه وآله») ج ١ ص ٩٤ والبحار ج ١٥ ص ٣٨٤ عن المنتقى للكازروني ، والبدء والتاريخ ج ٥ ص ٨ والإصابة ج ٤ ص ٢٥٨ والوفاء ج ١ ص ١٠٦ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٨٨ و ٨٥ وذكر عن ابن المحدث : أن أوّل لبن نزل جوفه «صلى الله عليه وآله» ، هو لبن ثويبة.

(٤) راجع : السيرة الحلبية ج ١ ص ٨٨ عن الإمتاع ، واحتمل الحلبي : أن يكون المراد :

أن ثويبة أول من أرضعه بعد أمه ، ولكن قول ابن المحدث ، أول لبن نزل جوفه «صلى الله عليه وآله» هو لبن ثويبة لا يناسب هذا الاحتمال.

١٥٢

أبا لهب بولادته «صلى الله عليه وآله» فأعتقها فأرضعته ، أو كان بعد حوالي خمسين سنة ، قبيل الهجرة ، أو بعدها ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى؟!.

وثانيا : لقد ذكرت الرواية : أن ثويبة قد أرضعت النبي «صلى الله عليه وآله» وأرضعت معه حمزة ، وأبا سلمة بلبن ولدها مسروح ، ونقول : إن ذلك لا يكاد يصح ، لأن حمزة كان أكبر من النبي «صلى الله عليه وآله» بأربع سنين(١) وقيل : كان أكبر منه بسنتين(٢) .

فإننا حتى لو أخذنا بالسنتين ، فإن حمزة يكون قد بلغ الفطام قبل أن يولد رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، كما أنها إذا كانت قد ولدت ولدها قبل فطام حمزة ، فلا بد أن يفطم قبل ولادة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فكيف تكون قد أرضعت الرسول بلبن ولدها؟ وإن كان قد ولد بعد فطام حمزة فكيف تكون قد أرضعت حمزة بلبن ولدها مسروح؟

وأما إذا أخذنا بالقول الأول ، فإن القضية تصبح أكثر إشكالا ، وأبعد منالا.

__________________

(١) إعلام الورى ص ٧ وكشف الغمة ج ١ ص ١٥ وتهذيب الأسماء ج ١ ص ١٦٨ ، بلفظ قيل ، وأنساب الأشراف ج ١ (قسم حياة النبي «صلى الله عليه وآله») ص ٨٤ و ٧٩ وذخائر العقبى ص ١٧٢ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٨٥ والإصابة ج ١ ص ٣٥٤ كلاهما بلفظ قيل ، والاستيعاب بهامش الإصابة ج ١ ص ٢٧١ وأسد الغابة ج ٢ ص ٤٦ و ٤٩ ، بلفظ قيل : أيضا.

(٢) تهذيب الأسماء ج ١ ص ١٦٨ والإصابة ج ١ ص ٣٥٤ والاستيعاب بهامشه ج ١ ص ٢٧١ عن البكائي واختاره في أسد الغابة ج ٢ ص ٤٦ و ٤٩ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٨٥ وذخائر العقبى ص ١٧٢ بلفظ : قيل.

١٥٣

مع أبي عمر في ترجيحه للقول الثاني :

ويلاحظ ، أن أبا عمر قد رفض القول الأول ، ورجح الثاني ، استنادا إلى قضية الإرضاع ، ثم استدرك على ذلك ، قائلا : «إلا أن يكون أرضعتهما في زمانين»(١) .

ولكنه كلام لا يصح ، لأن ما ذكره ليس بأولى من العكس ، بحيث تكون زيادة عمره أربع سنين دليلا على عدم صحة إرضاع ثويبة له بلبن مسروح.

وأما استدراكه المذكور ، فيبعّده : أن الرواية تقول : إنهما معا قد رضعا بلبن مسروح(٢) ، فلا يصح : أن يكون رضاعهما في زمانين.

توجيه غير وجيه :

وحاول محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري توجيه ذلك بأنه : يمكن أن تكون أرضعت حمزة في آخر سنيه ، في أول رضاع ابنها ؛ وأرضعت النبي «صلى الله عليه وآله» في أول سنيه ، في آخر رضاع ابنها ، فيكون أكبر بأربع سنين(٣) .

__________________

(١) الاستيعاب بهامش الإصابة ج ١ ص ٢٧١.

(٢) راجع في ذلك : ذخائر العقبى ص ١٧٢ و ٢٥٩ والوفاء ج ١ ص ١٠٧ وبهجة المحافل ج ١ ص ٤١ وزاد المعاد ج ١ ص ١٩ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ٢٣١ وإن كان ربما يناقش في ظهور كلامه. وراجع : طبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ٦٧ والاستيعاب بهامش الإصابة ج ١ ص ١٦ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٨٥ و ٨٦.

(٣) راجع ذخائر العقبى ص ١٧٢.

١٥٤

ونقول :

أولا : إن ذلك ، وإن كان ممكنا في نفسه ، ولكنه أمر بعيد الوقوع عادة ، لأنه يتوقف على أن تكون قد أرضعت ولدها مسروحا أكثر من سنتين ، فكيف إذا كانت قد أرضعته أربعة أشهر ، حسبما تقدم عن بعض الروايات؟

وثانيا : يزيده بعدا : أننا نجد في بعض النصوص ما يفيد : أن حمزة كان حين قضية وفاء أبيه عبد المطلب بنذره بذبح أحد ولده كبيرا ، وراشدا.

بيان ذلك :

أن عبد المطلب رضوان الله تعالى عليه كان قد نذر : لئن ولد له عشرة نفر ، ثم بلغوا معه ، حتى يمنعوه ، ليذبحنّ أحدهم لله ، عند الكعبة ، فلما تكامل بنوه عشرة ، وعرف أنهم سيمنعونه ، وهم :

الحارث ، والزبير ، وحجل ، وضرار ، والمقوم ، وأبو لهب ، والعباس ، وحمزة وأبو طالب ، وعبد الله ، جمعهم ، ثم أخبرهم بنذره.

إلى أن تذكر الرواية : أنه أقرع بينهم ف : «خرج القدح على ابنه عبد الله ، وكان أصغر ولده ، وأحبهم إليه ، فأخذ عبد المطلب بيد ابنه عبد الله ، وأخذ الشفرة الخ ..».

ثم تذكر الرواية : أن العباس هو الذي اجتذب عبد الله من تحت رجل أبيه ، فراجع(١) .

__________________

(١) راجع البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٤٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ١٧٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ١ ص ١٦٠ وراجع : السيرة الحلبية ج ١ ص ٣٦ وفي السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٥ وإن كان لم يذكر : أن عبد الله كان أصغر

١٥٥

مناقشة غير موفقة :

وناقشوا في هذه الرواية : بأن العباس إنما كان يكبر النبي بثلاث سنوات فقط ، فقد روي عن العباس نفسه أنه قال :

أذكر مولد رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وأنا ابن ثلاثة أعوام ، أو نحوها ، فجيء به حتى نظرت إليه ، فجعلت النسوة يقلن لي : قبّل أخاك(١) ، فقبلته(٢) .

ولكن الإيراد بما ذكر ليس بأولى من العكس ؛ فإن من الممكن أن تكون رواية ابن إسحاق هي الصحيحة ، وأما رواية أن العباس كان يكبر النبي «صلى الله عليه وآله» بثلاث سنين فقط ، فلعلها هي الموضوعة لأهداف سياسية من قبل العباسيين في ما بعد.

ويؤكد ذلك : أن ابن إسحاق حجة في السيرة النبوية ، غير مدافع(٣) ، فلا يرد قوله ؛ استنادا إلى رواية يحتمل في حقها ما ذكرناه.

وإذن ، فقد يكون عمر حمزة والعباس ، حين قضية الذبح حوالي ثمان إلى

__________________

ولده ، ولكنه ذكر حمزة والعباس في جملة أولاد عبد المطلب حين قضية الذبح

وذكر في الكامل لابن الأثير ج ٢ ص ٦ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤ ط الاستقامة : أن عبد الله كان أصغر ولده ، وأحبهم ، لكنه لم يسم أولاد عبد المطلب.

(١) مع أن المفترض أن يقال له قبل ابن أخيك ، فإن العباس كان عم النبي «صلى الله عليه وآله».

(٢) راجع : السيرة الحلبية ج ١ ص ٣٦ وشرح بهجة المحافل ج ١ ص ٣٥ والروض الأنف ج ١ ص ١٧٦.

(٣) وفي غير السيرة أيضا ؛ فراجع : تهذيب التهذيب ج ٩ ص ٣٩ / ٤٦ ترجمة : ابن إسحاق.

١٥٦

عشر سنين ، يضاف إليها خمس سنوات كانت بين قصة الذبح وبين ولادة رسول الله «صلى الله عليه وآله»(١) ، ويصير المجموع حوالي ثلاث عشرة إلى خمس عشرة من السنين تقريبا.

وهذا الذي ذكرناه من الإشكال دفع البعض إلى أن يقول : إنها أرضعت حمزة قبل رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأرضعت بعده أبا سلمة(٢) .

ولكن يرد عليه : أن تصريح الرواية بأنها أرضعتهم جميعا بلبن ابنها مسروح يأبى هذا الجمع التبرعي ، الذي لا يستند إلى أي دليل.

إلا أن يكون مراده ما تقدم عن محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري : بأن تكون قد أرضعت حمزة في أواخر سنيه ، في آخر رضاع ابنها.

ولكنه بناء على ما قدمناه من أن من الممكن أن يكون حمزة كان يكبر النبي «صلى الله عليه وآله» بحوالي عقد من الزمن لا يصح حتى بناء على

__________________

(١) في أنساب الأشراف ج ١ (قسم حياة النبي «صلى الله عليه وآله») ص ٧٩ : قال الواقدي : كان نحر الإبل قبل الفيل بخمس سنين.

(٢) الأنس الجليل ج ١ ص ١٧٦ وراجع : صفة الصفوة ج ١ ص ٥٦ ـ ٥٧ وإعلام الورى ص ٦ وكشف الغمة ج ١ ص ١٥ والكامل في التاريخ ج ١ ص ٤٥٩ وطبقات ابن سعد ج ١ ص ٦٧ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٩٤ (قسم حياة النبي «صلى الله عليه وآله») والبحار ج ١٥ ص ٣٨٤ عن المنتقى للكازروني وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٢٢ ودلائل النبوة لأبي نعيم ص ١١٣ والإصابة ج ٤ ص ٢٥٨ والاستيعاب بهامش الإصابة ج ٢ ص ٣٣٨ وأسد الغابة ج ٣ ص ١٩٥ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٨٥ و ٨٧ وقاموس الرجال ج ١٠ ص ٤١٧.

١٥٧

قول الطبري هذا.

عدد أولاد عبد المطلب :

بقي علينا أن نشير إلى المناقشة التي تقول : إن أولاد عبد المطلب ، كانوا ثلاثة عشر ، وأن حمزة والعباس قد ولدا فيما بعد ، فإنها مناقشة مردودة ، لأن «حجلا» هو في الحقيقة لقب للغيداق ، و «المقوم» لقب لعبد الكعبة ، أما «قثم» فلا وجود له أصلا ، حسبما ذكره البعض(١) .

وقد تحدثنا عن هذا الأمر في كتابنا «مختصر مفيد » فيمكن مراجعته.

وأخيرا

فإننا نشير إلى أن اليعقوبي ينص على أن عدد أولاد عبد المطلب : عشرة ، ولكنه حينما يعد أسماءهم يذكر اسم أحد عشر رجلا(٢) .

إلا أن يكون : قد ذكر لواحد منهم كلا من اسمه ولقبه ، حتى بدا أنهما اثنان ، مع أنهما لواحد.

أبو لهب وعتق ثويبة :

ويبقى أن نشير إلى أنهم يقولون ـ حسبما تقدم ـ :

أنه لما ولد رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، جاءت ثويبة إلى مولاها أبي لهب ، فبشرته بولادته «صلى الله عليه وآله» فأعتقها ، فأرضعت النبي «صلى

__________________

(١) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٦ وراجع ، الاستيعاب بهامش الإصابة ج ١ ص ٢٧٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١١ وراجع ، الاستيعاب بهامش الإصابة ج ١ ص ٢٧٢.

١٥٨

الله عليه وآله» بلبن ولدها مسروح.

ثم رئي أبو لهب بعد موته في النوم ـ رآه العباس ـ حسب رواية ذكرها طائفة من المؤلفين ، أو رآه النبي «صلى الله عليه وآله» ـ حسب رواية اليعقوبي ـ بشرّ حال ، وأسوئه ، فسأله عن حاله ، فأخبره :

أنه بشرّ حال غير أنه يخفف عنه العذاب ـ أو يسقى في نقرة إبهامه ـ كل يوم إثنين ، لعتقه ثويبة ؛ حينما بشرته بذلك(١) .

قال القسطلاني : «.. قال ابن الجزري : فإن كان هذا أبو لهب ، الكافر ، الذي نزل القرآن بذمه ، جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي «صلى الله عليه وآله» به ؛ فما حال المسلم الموحد من أمته «صلى الله عليه وآله» ، الذي يسر بمولده ، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته؟!. لعمري ، إنما يكون

__________________

(١) راجع : السيرة لابن كثير ج ١ ص ٢٢٤. والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٧٣ ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٩ وفتح الباري ج ٩ ص ١٢٤ وعمدة القاري ج ٢٠ ص ٩٥ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٨٤ و ٨٥ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٥ ورسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع : النعمة الكبرى على العالم ص ٩٠ وإرشاد الساري ج ٨ ص ٣١ وجواهر البحار ج ٣ ص ٣٣٨ ـ ٣٣٩ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ١٩ والوفاء ج ١ ص ١٠٧ ودلائل النبوة للبيهقي ج ١ ص ١٢٠ وبهجة المحافل ج ١ ص ٤١ ، وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ٦٧ و ٦٨ والمواهب اللدنية ج ١ ص ٢٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٢٢ وسيرة مغلطاي ص ٨ وصفة الصفوة ج ١ ص ٦٢ ونور الأبصار ص ١٠ وإسعاف الراغبين بهامشه ص ٨ وهو ظاهر صحيح البخاري ج ١ ص ١٥٧ ط سنة ١٣٠٩ ه‍. ق.

١٥٩

جزاؤه من الكريم : أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم(١) . ورحم الله حافظ الشام شمس الدين محمد بن ناصر ، حيث قال :

إذا كان هذا كافر جاء ذمه

وتبت يداه في الجحيم مخلدا

أتى أنه في يوم الإثنين دائما

يخفف عنه للسرور بأحمدا

فما الظن بالعبد الذي كان عمره

بأحمد مسرورا ومات موحدا؟!(٢)

ونقول :

إن هذا الكلام كله باطل ، ولا يصح ، وذلك لأنهم يقولون :

إن عتق ثويبة قد تم بعد مولده «صلى الله عليه وآله» بدهر طويل ، أي بعد أزيد من خمسين سنة ؛ إما قبيل الهجرة أو بعدها. وكانت خديجة رضوان الله تعالى عليها تحاول شراءها من أبي لهب لتعتقها ، بسبب ما يزعم من إرضاعها له «صلى الله عليه وآله» ، فرفض أبو لهب بيعها(٣) .

__________________

(١) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٢٢ ورسالة حسن المقصد للسيوطي المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم ص ٩٠ ـ ٩١.

(٢) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٥ ورسالة حسن المقصد ، للسيوطي ، المطبوعة مع النعمة الكبرى ص ٩١.

(٣) أنساب الأشراف ج ١ ص ٩٥ ـ ٩٦ والكامل في التاريخ ج ١ ص ٤٥٩ وطبقات ابن سعد ج ١ ق ١ ص ٦٧ و ٦٨ والإصابة ج ٤ ص ٢٥٨ والاستيعاب بهامش الإصابة ج ١ ص ١٦ وإرشاد الساري ج ٨ ص ٣١ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٨٥ وراجع : الوفاء ج ١ ص ١٠٧ وفتح الباري ج ٩ ص ١٢٤ وذخائر العقبى ص ٢٥٩ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٢٢ ، وسيرة مغلطاي ص ٨ وقاموس الرجال ج ١٠ ص ٤١٧.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352