سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) الجزء ٢

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)16%

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
ISBN: 964-493-173-4
الصفحات: 352

  • البداية
  • السابق
  • 352 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 1283 / تحميل: 388
الحجم الحجم الحجم
سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
ISBN: ٩٦٤-٤٩٣-١٧٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ومن هذه الظلمات : حبّ المصلحة الشخصيّة ، وحبّ الذات وهو النفس ، و... التي تعتبر ظلمات فرديّة وخُلُقيّة.

وتوجد ظلمات اجتماعيّة ، مثل : الظلم والتفرقة وغيرهما.

إنّ لفظة ( الظلم ) مأخوذة من مادة ( الظلمة ) وتبيّن نوعاً من الظلمة المعنوية والاجتماعيّة ، وإنّ القرآن وسائر الكتب السماوية تتعهّد بالنضال من أجل رفع الظلمات ، يقول القرآن مخاطباً موسى بن عمرانعليه‌السلام :( ... أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ... ) ( سورة إبراهيم : آية : ٥ )

هذه الظلمة هي ظلمة ظلم فرعون والفراعنة ، والنور هو نور الحرِّيّة والعدالة ، وإنّ النقطة التي لاحظها المفسّرون هي أنّ القرآن يذكر الظلمات دائماً بصيغة الجمع ، ومع الألف واللام ؛ لكي تفيد الاستغراق وتشمل جميع أنواع الظلمات ، في الوقت الذي يذكر النور بصيغة الإفراد ويعني : إنّ الصراط المستقيم طريق واحد لا غير.

٤١

إلاّ أنّ طرق الضلال والانحراف متعدّدة ، نقرأ في آية الكرسي مثلاً :

( ... اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

وبهذا الترتيب يُبيّن القرآن هدفه وهو : تحطيم قيود الجهل والضلال والظلم ، والفساد الخلقي والاجتماعي ، وفي كلمة واحدة : القضاء على الظلمات ، والهداية نحو العدل والخير والنور.

التعرّف على لغة القرآن

الموضوع الآخر هو التعرّف على لغة القرآن وتلاوته.

يتصوّر البعض أنّ الغرض من تلاوة القرآن ينحصر في قراءة القرآن لأجل الثواب ، دون أنْ يدرك شيئاً من معانيه.وهؤلاء يقرؤون القرآن باستمرار ، ولكن إذا سُئلوا مرّة واحدة : إنّكم هل تعرفون معنى ما تقرؤون ؟ يعجزون عن الإجابة.

إنّ قراءة القرآن من هذه الناحية - وهي أنّها مقدّمة لإدراك معاني القرآن - ضروريّة وحسنة ، ولكن ليس فقط لأجل اكتساب الثواب.

٤٢

وهناك أيضا خصائص لإدراك معاني القرآن لا بدّ من ملاحظتها.إنّ ما يلزم حصوله للقارئ - وهو يريد الاستفادة من كثير من الكتب - هو مجموعة الأفكار الجديدة التي ليس لها وجود قبل ذلك في الذهن.وإنّ الذي يعمل ويتحرّك هنا هو العقل وقوّة التفكير لدى القارئ ليس غير.

وبالنسبة للقرآن ، فلا ريب بضرورة مطالعته بهدف دراسته وتعلّمه ، يُصرّح القرآن في هذا المجال بقوله :

( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( سورة ص : آية : ٢٩).

إحدى مسؤوليّات القرآن هي التعليم والتذكير ، ومن هذه الجهة يخاطِب القرآن عَقْلَ الإنسان ويتحدّث معه بالاستدلال والمنطق ، غير أنّ للقرآن لغة أخرى ، والمخاطب فيها ليس العقل ، بل المخاطب هو القلب ، وهذه اللغة الثانية تُسمّى :( الإحساس ) .

وإنّ الذي يريد أنْ يتعرّف على القرآن ويأنس به ،

٤٣

عليه أنْ يتعرّف على هاتَين اللغتَين ويستفيد منهما معاً ، وأنّ تفكيك هاتَين اللغتَين يؤدِّي إلى بروز الخطأ والاشتباه ، ويسبّب الضرر والخسران.

إنّ ما نُسمّيه بالقلب : هو عبارة عن شعور عظيم وعميق جدّاً في باطن الإنسان ، ويسمّونه أحياناً( إحساس الوجود ) ، أي إحساس رابطة الإنسان مع الوجود المطلق.

فالذي يعرف لغة القلب ويخاطب الإنسان بها ، يُحرّك الإنسان من أعماق وجوده ، وعندئذٍ لا يبقى الفكر الإنساني تحت التأثير فحسب ، بل ويتأثّر كلّ وجوده.

وربّما استطعنا أنْ نضرب الموسيقى مثلاً كنموذج عن لغة الإحساس ، فإنّ الأقسام المختلفة للموسيقى تشترك في جهة واحدة ، وهي علامتها مع الإحساسات الإنسانيّة.تُهيِّج الموسيقى روح الإنسان وتغرقها في عالم خاص من الإحساس ، وبالطبع ، فإنّ ضروب الهيجانات والأحاسيس تختلف مع اختلاف أنواع الموسيقى ، فربّما ارتبط أحد أنواع الموسيقى مع الشعور بالفتوّة والشجاعة ، فيتحدّث بهذه اللغة مع الإنسان.

٤٤

لقد رأيتم الأناشيد والمعزوفات العسكريّة ، تُنْشَد وتُعْزَف في ميادين القتال ، ونرى أحياناً مدى تأثير هذه الأناشيد وقوّتها ، بحيث تجعل الجندي الذي لا يخرج من خندقه خوفَ الأعداء تجعله يتقدّم إلى الأمام بكلّ اندفاع ، ويحارب الأعداء رغم الهجوم الثقيل للعدو.

وهناك نوع آخر من الموسيقى يرتبط مع الشهوة و ( الشعور الجنسي ) ، فيعرّض الإنسان إلى الخمول والانقياد نحو الشهوات ، ويدعوه ليستسلم للفساد.

وقد لوحظ أنّ تأثير الموسيقى كبير في هذا المجال ، وربّما لم يستطع أيّ شيء آخر أنْ يؤثر إلى هذا الحد في القضاء على جدران العفّة والأخلاق ، وبالنسبة إلى سائر الغرائز و الأحاسيس أيضاً، عندما يُقال شيء بلسان هذه الأحاسيس - بواسطة لغة الموسيقى أو بأيّ وسيلة أخرى - فإنّه يمكن أنْ يُوضع تحت المراقبة والنَظَارة.

إنّ الشعور الديني والفطرة الإلهيّة من أسمى الغرائز والأحاسيس لدى كلّ إنسان ، وإنّ علاقة القرآن مع هذا

٤٥

الإحساس الشريف علاقة أسمى وأعلى ( ١ ) ( لقد بُحث كثيراً حول هذا الشعور الديني في شرق العالم وغربه.وننقل هنا باختصار أقوال بعض العلماء المعروفين في العالم ، والحديث الأوّل لاينشتاين أنّه يتحدّث عن الدين في إحدى مقالاته ويقول : بأنّه يعتقد بأنّ العقيدة والمذهب بصورة عامّة ثلاثة أنواع :

-مذهب الأخلاق : وهو الدين الذي يبتني على المصالح الخُلُقيّة.

-ثمّ يذكر مذهباً آخر ويسمّيه مذهب الوجود : وهذا التعبير هو ما نطلق عليه ( القلب ).

ويعتقد اينشتاين :

أنّ هذا المذهب - في الحقيقة - يريد أنْ يقول بأنّه تحصل - في فترةٍ ما - حالةٌ معنويّة وروحيّة للإنسان حيث يخرج فجأة - في تلك الحالة - من هذه النفس المحدودة والمحاطة بالآمال والأُمنيات الحقيرة ، والمفصولة عن الآخرين ، وهكذا عن عالم الوجود الطبيعي الذي أصبح حصاراً له ، ويتحرّر من هذا السجن ، وعند ذلك يجلس ليراقب كلّ الوجود فيجد الوجود كحقيقة واحدة ، ويرى بوضوح تلك العظمة والشموخ والجلالة لما وراء هذا الموجودات ، ويتذكّر حقارة نفسه ، وعندئذٍ يريد أنْ يرتبط بكلّ الوجود.

إنّ تعبير اينشتاين هذا يذكّرنا بقصّة همّام عندما سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن صفات المؤمن ، فأجابه الإمام جواباً موجزاً جامعاً ،

٤٦

حيث قال :( يا همّام اتّقِ الله وأحسن ، إنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون ) ، ولكنّ همّام لم يقتنع بهذا الجواب ، ويطلب توضيحاً أكثر عن كيفية المعاشرة وطريقة العبادة في الصباح والمساء ، و... ، عندئذٍ يبدأ الإمام عليعليه‌السلام بذكر صفات المؤمن ويرسم حوالي ١٣٠ خطّاً من خطوط المتّقين ، ويقول ضمن ذلك :

( لولا الآجال التي كتب الله تعالى لهم ، لم تستقرّ أرواحهم في أبدانهم طرفة عين ).

هذه هي نفس الحالة التي يشير إليها اينشتاين ، ويقول : إنّ الإنسان المتديّن يرى نفسه مسجوناً فيما يشبه السجن ، وكأنّه يريد أنْ يطير من قفص البدن ويحصل على كلّ الوجود مرّة واحدة.وقد جاءت هذه الحقيقة في كلمات أمير المؤمنينعليه‌السلام بصورة أوضح وأكمل ، فمِن وجهة نظر الإمامعليه‌السلام نرى المؤمن كأنّه جمع كلّ الوجود في بدنه المادّي ، وعلى هذا الأساس يخرّ من قالبه مرّة واحدة ليحرّر روحه.وقد ذكروا في قصّة همّام هذه النقطة وهي أنّه عندما أتمّ الإمام كلامه ، شهق همّام شهقة وخرج من قالبه (المادّي).

وبمناسبة الشعور المعنوي للبشر ، هناك حديث لطيف إلى ( إقبال ) يقول فيه :

لا يوجد في هذا القول لغز ولا سر ، وهو إنّ الدعاء بمثابة وسيلة إشراقيّة نفسيّة ، عمل حيوي عادي ، بواسطته تُكتشف الجزيرة الصغيرة لشخصيّة مكانها في قطعة أكبر من العالم.

٤٧

القرآن بنفسه يوصينا أنْ نقرأه بصوت حسن لطيف.

وبهذا النداء السماوي يتحدّث القرآن مع الفطرة الإلهيّة للإنسان ويسخّرها ، ( كان الأئمّة - ع - يقرؤون القرآن بتلك اللهفة التي ما أنْ يسمعهم المارّة حتّى يضطرّون إلى الوقوف ، والاستماع والتأثير والبكاء ).

القرآن عندما يصف نفسه يتحدّث

٤٨

بلسانين :

فتارةً : يعرّف نفسه بأنّه كتاب التفكّر والمنطق والاستدلال.

وتارةً : أخرى بأنّه كتاب الإحساس والعشق.وبعبارة أخرى فالقرآن ليس - إذاً - للعقل والفكر فحسب ، بل هو غذاء للروح أيضاً.

يؤكّد القرآن كثيراً على الموسيقى الخاصّة به ، الموسيقى التي لها تأثير أكثر من كلّ موسيقى أخرى ، في إثارة الأحاسيس العميقة والمتعالية للإنسان.

يأمر القرآن المؤمنين بأنْ يقضوا بعض أوقات الليل بتلاوة القرآن ، وأنْ يُرَتّلوا القرآن في صلواتهم عندما يتوجّهون إلى الله ، وفي خطابٍ للرسول يقول :

( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ) ( سورة المزمل : آية : ١ - ٣ ).

* الترتيل :

الترتيل : قراءة القرآن بحيث تخرج الكلمات من الفم بسهولة واستقامة ( مفردات الراغب ) يعني : قراءة القرآن ، بحيث لا تكون سرعة خروج الكلمات كبيرة ، فلا تُفهم الكلمات ، ولا

٤٩

تكون متقطّعة فتنفصم علاقاتها ، يقول : قراءة القرآن بتأنٍّ في الوقت الذي تلاحظ محتوى الآيات بدقّة.

وفي الآية الأخيرة لتلك السورة يدعونا أنْ لا ننسى العبادة في حال من الأحوال اليوميّة ، وحتّى في الأوقات التي نحتاج لنوم أكثر ، مثل أوقات الجهاد أو الأعمال التجاريّة اليوميّة : قال تعالى :

( ... عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً... ) (سورة المزمل : آية : ٢٠ ).

الشيء الوحيد الذي كان سبباً للنشاط واكتساب القوّة الروحيّة والحصول على الخلوص وصفاء الباطن بين المسلمين ، هو موسيقى القرآن.

فالنداء السماوي للقرآن أوجد في مدّة قصيرة من المتوحّشين ( الجاهلين ) ، في شبه الجزيرة العربيّة شعباً مؤمناً مستقيماً ، استطاعوا أنْ يحاربوا أكبر القوى الموجودة في ذلك العصر ويقضوا عليها.

٥٠

فالمسلمون لم يتّخذوا القرآن كتاب درس وتعليم فحسب ، بل كانوا ينظرون إليه بمثابة غذاء للروح ومنبع لاكتساب القوّة وازدياد الإيمان.فكانوا يقرؤون القرآن بكل إخلاص في الليل ( يشير الإمام السجادعليه‌السلام إلى هذه النقطة بقوله في دعاء ختم القرآن : ( واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً ) ، ويناجون ربّهم تضرّعاً وخفية ، وفي الصباح يهاجمون الأعداء كالأسود البواسل ، والقرآن ينتظر مثل ذلك منهم ، يقول مخاطباً النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ) ( سورة الفرقان : آية : ٥٢ ).

قف في وجوههم وجاهدهم بسلاح القرآن واطمئن بالنصر.وقصّة حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضّح صدْق هذه الحقيقة ، إنّه يقوم وحيداً ودون أي ناصر ، في حين يحمل القرآن في يده ، ولكنّ هذا القرآن يصبح كلّ شيء له ، يجهّز له الجيوش ، ويَعدّ له الأسلحة والتجهيزات الحربيّة ، وأخيرا فإنّه يدعو العدوّ إلى الاستسلام والخضوع أمامه.

٥١

يدعو الأعداء ليستسلموا أمام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا يصادق على الوعد الإلهي ( وفي زماننا أيضاً ، تحقّق هذا الوعد الإلهي الحقّ مرّة أخرى ، وجاء رجل من سلالة رسول الله - الإمام الخميني - مستنداً إلى القرآن والأيمان كجدِّه العظيم ، وهزم جيش الكفر والباطل أكبر هزيمة )

عندما يعتبر القرآنُ لغتَه لغة القلب ، فإنّ غرضاً من هذا القلب هو الذي ينسجم مع آيات الله ويتصفا ويثور.تختلف أيضاً عن لغة الأنغام والأناشيد العسكريّة ، التي تُعزف في الجيش لتحيِّي فيهم الحماسة البطوليّة.إنّها تلك اللغة التي تصنع من البدويّين العرب مجاهدين قيل في حقِّهم :

( حملوا بصائرهم على أسيافهم ) أولئك الذين وضعوا أفكارهم النَيِّرة ومعارفهم ومعنويّاتهم على سيوفهم ، ويستخدمون سيوفهم في طريق هذه الأفكار والعقائد.

إنّهم لم يهتمّوا بمصالحهم الشخصيّة وأمورهم الفرديّة.وبالرغم من أنّهم لم يكونوا معصومين ، بل

٥٢

ويخطئون أيضاً ، إلاّ أنّهم المصاديق الحقيقيّة للقائمين في الليل ، والصائمين في النهار ( قائم الليل وصائم النهار ) ، كانوا في علاقة مستمرّة مع أعماق الوجود ، تقضي لياليهم في العبادة وأيّامهم في الجهاد ( يصف أمير المؤمنين - ع - المتّقين في خطبة تُعرف باسم المتّقين ( خطبة ١٩٣ من نهج البلاغة ) ، وبعد أنْ يذكر أقوالهم ومعاملاتهم ، يشرح أحوالهم في الليل ويقول :

( أَمّا الليل فصافّون أقدامهم تَالِين لأجزاء القرآن ، يرتّلونها ترتيلاً ، يُحزِنون به أنفسهم ، ويستشرون به دواء دائهم ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طعماً ، وتطلّعتْ نفوسهم إليها شوقاً ، وظنّوا أنّها نُصْب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم... ).

يؤكّد القرآن كثيراً على هذه النقطة التي تعتبر من خصائصه ، وهي أنّه كتاب القلب والروح ، كتاب يُثير النفوس ويسيل الدموع ويهزّ القلوب ، ويعتبر القرآنُ هذه الميزة صادقة حتّى بالنسبة لأهل الكتاب.

يصف مجموعة منهم بأنّهم إذا تُلي عليهم القرآن تحصل لهم حالة خضوع وخشوع ، ويقولون أنّهم آمنوا بما في الكتاب ، وأنّه حقٌّ كلّه ، يقولون ذلك وتزداد حالتهم خشوعاً باستمرار.

٥٣

ويؤكّد في آية أخرى أنّ المسيحيّين من أهل الكتاب ، أقرب إلى المسلمين من اليهود والمشركين، كما في تعالى :

( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى... ) ( سورة المائدة : آية : ٨٢ ).

ثمّ يصِف القرآن جماعة من المسيحيّين الذين آمنوا بعد أنْ سمعوا القرآن بقوله :

( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ( سورة المائدة : آية : ٨٣ ).

وفي مكان آخر ، وعندما يتحدّث عن المؤمنين ، يقول في وصْفهم :

( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ... ) ( س--ورة الزمر : آية : ٢٣).

في هذه الآيات وفي آيات أخرى كثيرة :

( ... إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ) ( سورة مريم : آية : ٥٨ ) ، والآيات الأولى من سورة الصف ، يوضّح

٥٤

القرآن أنّه ليس كتاباً علميّاً وتحليليّاً محضاً ، بل إنّه في الوقت الذي يستخدم الاستدلال المنطقي ، يتحدّث مع إحساس الإنسان وذوقه ولطائف روحه ويؤثّر عليه.

المخاطبون في القرآن

من النقاط الأخرى التي لا بدّ أنْ تُسْتَنْبَط من القرآن ، في البحث حول المعرفة التحليليّة للقرآن ، هي تعيين المخاطَبين في القرآن.

وردتْ كثيراً في القرآن تعابير مثل :( ... هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) ،( هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) و( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً... ) ، هنا يمكن طرح هذا الإشكال ، وهو أنّ الهداية لا تلزم للمتّقين ؛ لأنّهم أنفسهم متّقون.

ومن جانب آخر نرى القرآن هكذا يُعرّف نفسه :

( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) ( سورة ص : آية : ٨٧ ) ، ( وهذه الآية من الآيات العجيبة في القرآن ، عندما نزلت الآية كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة ، وكان يتحدّث مع أهالي إحدى القرى ، كان عجيباً للناس أنْ يروا رجلاً وحيداً يقول بكلّ طمأنته إنّكم سوف تسمعون نبأ هذه الآية فيها بعد ، سوف تسمعون قريباً ماذا يصنع هذا الكتاب مع العالَم خلال فترة قصيرة ).

وفي آية أخرى يخاطب الله رسولَه قائلاً :

٥٥

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) ( سورة الأنبياء : آية : ١٠٧).

وسوف نذكر شرحاً مفصّلاً عن هذا الموضوع في مبحث : التأريخ في القرآن.إلاّ أنّه لا بدّ من القول هنا بإيجاز :

في الآيات التي يخاطب القرآن جميع أبناء العالم ، يريد - في الواقع - أنْ يقول : بأنّ القرآن لا يختصّ بقوم وجماعة خاصّة ، كل مَن يتوجّه نحو القرآن يحصل على النجاة.

وأمّا في الآيات التي يتحدّث فيها عن أنّه كتاب هداية للمؤمنين والمتّقين ، يريد أنْ يوضّح هذه النقطة ، وهي أنّه مَن الذي يسير نحو القرآن في النهاية ؟ ومَن هم الذين يبتعدون عنه ؟

لا يذكر القرآن عن شعب خاص وقبيلة معيّنة ، على أساس أنّهم هم المعتقدون به والتابعون له، ولا يقول إنّ القرآن يُعتبر كتاب شعب خاص.

٥٦

القرآن - خلافاً لسائر المبادئ - لم يهتم بمصالح طبقة خاصّة ، ولم يقل - مثلاً - : إنّه جاء لتأمين مصالح طبقة ما ، ولم يقل - أيضاً - : إنّ هدفه الوحيد هو مساندة العمّال أو الدفاع عن حقوق الفلاّحين.

يؤكّد القرآن عندما يتحدّث عن نفسه : أنّه كتاب لبسْط العدالة ، يقول عن الأنبياء :

( ... وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ... ) ( سورة الحديد : آية : ٢٥).

يريد القرآن القسط والعدل لكلّ المجتمع البشري ، وليس لقوم أو طبقة أو قبيلة خاصّة.ولكي يجذب الناس إلى نفسه لم يشر إلى العصبيّات القومية مثل النازيّة.

وخلافاً لمبادئ أخرى كالماركسية مثلاً ، لا يستند على مصالحهم ومنافعهم الشخصيّة ، ليثيرهم عن هذا الطريق ؛ لأنّه في هذه الحالة لا يستهدف العدل والحق لاتّباعه ، بل يستهدف وصوله إلى منافعهم وطلباتهم الشخصيّة.

٥٧

وكما أنّ القرآن يعتقد بأصالة الوجدان العقلي للإنسان ، فإنّه يعتقد له أيضاً أصالة وجدانيّة وفطريّة ، وعلى أساس فطرة طلب الحقّ والعدل يدعوهم إلى الحركة والثورة ؛ ولهذا فإنّ رسالته لا تنحصر بطبقة العمّال أو الفلاحين أو المحرومين أو المستضعفين.

يخاطِب القرآن الظالمين والمظلومين بأنْ يتّبعوا الحق ، يبلّغ موسىعليه‌السلام رسالتَه إلى بني إسرائيل ، وإلى فرعون أيضاً ، ويدعوهم جميعاً إلى الإيمان بالله والسير في رسالته.

ودعوته لرؤساء قريش ، في الوقت تكون إثارة الأفراد ضدّ أنفسهم ، ورجوعهم عن مسيرة الضلال ، وهي أنّ رجوع وإنابة المترَفين والمتنعِّمين أصعب بكثير من رجوع المحرومين والمظلومين.

الفريق الثاني يتحرّكون في مسير العدالة باقتضاء طباعهم.وأمّا الفريق الأوّل فعليه أنْ يمتنع عن مصالحه

٥٨

الشخصيّة والاجتماعيّة ، ويدوس برجليه على ميوله وأهوائه.

يقول القرآن : بأنّ أتباعه هم الذين طَهُرَتْ نفوسُهم وزَكَتْ أرواحُهم ، وهؤلاء اتبعوا القرآن على أساس مطالبة الحق والعدل ، التي هي في فطرة كلّ إنسان ، ولم يتّبعوا ما تقتضيه مصالحهم وميولهم المادِّيَّة والزخارف الدنيويّة.

٥٩

الفصل الثالث

* فطرة القرآن عن العقل.

* دلائل حجِّيَّة العقل.

* الدعوة إلى التعقّل من قِبل القرآن.

* الاستفادة من نظام العلّة والمعلول.

* فلسفة الأحكام.

* النضال مع انحرافات العقل.

* مواطن الخطأ من وِجهة نظر القرآن.

* نظرة القرآن عن القلب.

* تعريف القلب.

* خصائص القلب.

٦٠

ويحثهم على مكارم الأخلاق ، وينهاهم عن دنيات الأمور ، وكان مجاب الدعوة وترك الأصنام(١) .

وقد ذكرت كتب التاريخ : أن بعض الأصنام قد كانت تماثيل لأشخاص من أهل الخير والصلاح ، فراجع كتاب الأصنام لابن الكلبي ، وسيرة ابن هشام وغير ذلك.

وعن النبي «صلى الله عليه وآله» : يا علي ، إن عبد المطلب كان لا يستقسم بالأزلام ، ولا يعبد الأصنام ، ولا يأكل ما ذبح على النصب ، ويقول : أنا على دين إبراهيم «عليه السلام»(٢) .

وقد بلغ الذروة في إيمانه هذا بعد ولادة حفيده محمد «صلى الله عليه وآله» ، حيث سمع ورأى الكثير من العلامات الدالة علي أنه النبي الخاتم ، والأكمل والأفضل من جميع البشر ، وشهد ، وعاين الكثير من الكرامات والدلالات القطعية فيه.

وبعد كل ما تقدم نقول : إنه لا مانع من أن يكون عبد المطلب قد تلقى الأمر بذبح ولده عبد الله من الله تعالى ، ولا أقل من أنه كان يعتقد بأن له الحق في تصرف كهذا ، ونذر كهذا ولم يكن ذلك مستهجنا لدى العرف آنئذ.

أضف إلى ذلك : أنه لم يثبت عدم جواز نذر كهذا في الشرايع السابقة.

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ١ ص ٤ ، والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش الحلبية) : ج ١ ص ٢١ ، ومسالك الحنفا ص ٤١ ، عن الملل والنحل للشهرستاني ، وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٧.

(٢) البحار : ج ٧٧ ص ٥٦.

٦١

فقد نذرت امرأة عمران ما في بطنها محررا لخدمة بيوت الله ، وأمر الله تعالى نبيه إبراهيم بذبح ولده إسماعيل.

وأما تسمية أبنائه بما يشير إلى الأصنام ، فلعلها تسميات لحقتهم بعد ظهور شركهم ، وانحرافهم ، وحبهم لتلك الأصنام ، وليس لدينا تاريخ صادق ، وصريح ، وكاف والله العالم بالحقائق.

النسخ في قصة إبراهيم عليه السّلام :

هذا ، وقد ادعى البعض : أن قصة إبراهيم تدل على جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، وأجيب عن ذلك :

أولا : إن إبراهيم «عليه السلام» لم يؤمر بالذبح الذي هو فري الأوداج ، بل أمر بالمقدمات ، فقد جاء بالتنزيل قوله تعالى :( يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) (١) ولم يقل : إني ذبحتك ، ثم جاء قوله تعالى :( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) (٢) ؛ ليؤكد على ذلك ولو كان ما فعله بعض المأمور به ، لكان مصدقا لبعض الرؤيا(٣) فلا يصح قوله تعالى :( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) .

ثانيا : إن وقت الفعل حاضر ؛ فإن إبراهيم قد شرع في التنفيذ فعلا ، فالنشخ لو سلم ، فإنما هو قبل وقوع الفعل ، لا قبل حضور وقت العمل.

ونقول : إن النسخ يمكن أن يكون مع كون الأمر بداعي الامتحان أو

__________________

(١) الآية ١٠٢ من سورة الصافات.

(٢) الآية ١٠٥ من سورة الصافات.

(٣) معالم الدين : ص ٢٠٨ ، وراجع : البحار ج ١٢ ص ١٣٧ ، ومفاتيح الغيب ، ج ٢٥ ص ١٥٥.

٦٢

غيره أولا ، ثم يصدر أمر عن مصلحة واقعية ثانيا فينسخه.

البداء عند الشيعة :

ويتفرع على مسألة النسخ مسألة البداء ؛ التي هي موضع خلاف بين الشيعة وغيرهم ، وقد صارت مصدرا للافتراءات الكثيرة على الشيعة ، ونحن نشير إلى توضيح هذه المسألة بما يسمح به المجال ، فنقول :

قال آية الله الحجة السيد عبد الحسين شرف الدين «رحمه الله» :

«حاصل ما تقوله الشيعة هنا : أن الله عز وجل قد ينقص من الرزق ، وقد يزيد فيه ، وكذا الأجل ، والصحة والمرض ، والسعادة والشقاوة ، والمحن والمصائب ، والإيمان والكفر ، وسائر الأشياء ، كما يقتضيه قوله تعالى :( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (١) .

وهذا مذهب عمر بن الخطاب ، وأبي وائل ، وقتادة ، وقد رواه جابر عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وكان كثير من السلف يدعون ، ويتضرعون إلى الله أن يجعلهم سعداء لا أشقياء ، وقد تواتر ذلك عن أئمتنا في أدعيتهم المأثورة.

وورد في السنن الكثيرة : أن الصدقة على وجهها ، وبر الوالدين ، واصطناع المعروف ، يحول الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر إلخ ..»(٢) .

__________________

(١) الآية ٣٩ من سورة الرعد.

(٢) أجوبة موسى جار الله ص ٨٦ ـ ٨٧. وقد ذكر مصادر ما أشار اليه ثمة ؛ فراجع. ونظير ذلك ما قاله المجلسي أيضا ، فراجع : سفينة البحار : ج ١ ص ٦٢ ، وقد أوضحه أيضا بصورة جيدة.

٦٣

نعم ، هذا هو البداء الذي تعتقد به الشيعة تبعا لأئمتهم «عليهم السلام».

وأما البداء بمعنى ظهور رأي جديد له تعالى بعد أن لم يكن يعلم به أولا ، أو بمعنى أن يعمل تعالى عملا ثم يندم عليه ، حيث ظهر له أن المصلحة كانت في خلاف ذلك ، أما البداء بهذا المعنى فهو محال على الله ، ولم يقل به الشيعة أبدا ، كيف؟! وهم أتباع أمير المؤمنين علي «عليه السلام» منشئ نهج البلاغة المشحون بالمعاني التي يعجز العقل البشري عن إدراكها ؛ علي الذي تعلم الناس منه ومن أبنائه المعصومين تنزيه الله تعالى عن كل نقص ، وأخذوا عنه أدق المعارف حول الله وصفاته سبحانه وتعالى

وقد نقل عن الصادق «عليه السلام» قوله : من زعم أن الله يبدو له في شيء ، ولم يعلمه أمس ، فابرؤوا منه(١) .

وعنه «عليه السلام» : من زعم أن الله بدا له في شيء بداء ندامة ؛ فهو عندنا كافر بالله العظيم(٢) .

التوضيح والتطبيق :

وتوضيح ذلك : أن الله عز وجل يقدر لزيد من الناس مثلا رزقا معينا ، أو عمرا معينا ، بحسب ما تقتضيه طبيعته وسجيته ، واستعداده الذاتي وفقا للسنن التي أودعها في مخلوقاته لتجري بها الأمور ، ولكنه يعلم أنه سوف

__________________

(١) البحار : ج ٤ ص ١١١ ، والاعتقادات للصدوق ، باب الاعتقاد بالبداء ، وميزان الحكمة ج ١ ص ٣٨٩.

(٢) الاعتقادات للصدوق رحمه الله ـ باب الاعتقاد بالبداء ، وراجع : هامش البحار : ج ٤ ص ١٢٥.

٦٤

يتصدق فيكون ذلك سببا في زيادة رزقه المقدر له أولا بقطع النظر عن هذه الصدقة ، أو سوف يبر بوالديه فيزيد عمره لذلك كذلك ، والله يعلم بذلك كله من أول الأمر.

وقد تقتضي المصلحة أن يطلع الله نبيه «صلى الله عليه وآله» على المقتضي لوجود شيء ، من دون أن يطلعه على ما سوف يجد في المستقبل له من الموانع ، أو ما سوف يفقده من شرائط ، فيخبر النبي «صلى الله عليه وآله» الناس عنه على تلك الصفة.

ثم بعد ذلك يطلع تعالى النبي «صلى الله عليه وآله» على أنه يوجد مانع ، أو أن المقتضيي يحتاج إلى توفر شرائط ومناخات معينة مفقودة فعلا ، مع علم الله سبحانه بكل ذلك أولا وآخرا ؛ فإن لله علما اختص به ، وعلما يطلع عليه نبيه أو يثبته في لوح المحو والإثبات ، وقد أشار إلى هذين العلمين ، في قوله تعالى :( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (١) فمثلا ، لو بنينا بيتا ، وكان بحسب طبعه صالحا للبقاء مئة سنة مثلا ، ولكنه ربما ترد عليه عواصف ، أو زلازل ، أو سيول ، أو نحوها ؛ تمنع من بقائه هذه المدة ، ويتلاشى في مدة عشر سنوات مثلا.

فلو أخبرنا الناس : أن هذا البيت يبقى مئة سنة ، مع علمنا بأنه سيتلاشى بسبب سيل يأتي من الناحية الفلانية ، يصل إليه بعد عشرة أيام ، ثم أخبرنا ثانيا : بأن البيت سيهدم بعد عشرة أيام ، فإن كلا من الخبرين يكون صحيحا وقد يترتب على إخبارنا الأول مصلحة هامة لا غنى عن تحققها في موطنها.

__________________

(١) الآية ٣٩ من سورة الرعد.

٦٥

وقد يكون من هذا القبيل ما نجده يذكر في علامات الإمام صاحب الزمان «عليه السلام» حيث قد نص الأئمة «عليهم السلام» على أن بعضها : من المحتوم ، وسكتوا عن البعض الآخر ؛ فلربما يتحقق الجميع ، ولربما تفقد بعض الشرائط لبعضها أو توجد بعض الموانع عن تحقق بعضها ، ويكون المخبر إنما أخبر عن السير الطبيعي للأمور بغض النظر عن العوارض والطوارئ ، وقد أوضحنا ذلك في كتابنا دراسة في علامات الظهور ، فراجع الفصل الثاني منه.

ويمكن أن تكون قضية إبراهيم وإسماعيل الذبيح من هذا القبيل أيضا ، حيث إنه تعالى ـ لمصلحة يراها ، كالامتحان والابتلاء ، وغير ذلك مما تقدم ـ قد أمر نبيه إبراهيم بذبح ولده ثم فدى ذلك الذبيح بذبح عظيم.

وقد أخبر تعالى : إبراهيم بأنه قد صدق الرؤيا.

ولعل قضية إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق «عليه السلام» ، كانت من هذا القبيل ، فقد اقتضت المصلحة أن تتوجه الأنظار نحو إسماعيل هذا ، من أجل حفظ نفس الإمام الحق من الأخطار ، ثم يموت إسماعيل ، ويظهر أن الإمام الحقيقي هو أخوه موسى «عليه السلام».

إشكال وجوابه :

الإشكال : أن كلمة «بدا» معناها : ظهر «وليس أظهر». و «بدا لله» لا بد أن يكون معناه ظهر له الأمر وعلم به بعد أن كان يجهله ، وذلك محال عليه تعالى كما قلتم ، فكيف يمكن توجيه قوله «عليه السلام» : «ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل» وغير ذلك من كلمات عبرت ب «بدا له» أو «بدا لله»؟!.

٦٦

والجواب : أن قوله تعالى :( وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) ، ثم اعتبار قضية إسماعيل ابن الإمام الصادق «عليه السلام» وصرف القتل عنه مرتين بسبب دعاء أبيه «عليه السلام» من البداء ، حيث روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» قوله : ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل(١) ـ إن ذلك يشير إلى أن كلمة بدا لم تستعمل في معنى الإظهار أو الظهور.

وإنما استعملت بمعنى : تحقيق وتجسّد ما علم في عالم الكون والوجود ، نظير كلمة : (علم) في قوله تعالى :( ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً ) (٢) .

وقوله تعالى :( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ) (٣) .

وقوله سبحانه :( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) (٤) .

والمقصود : ليتحقق معلومنا ، ويتجسد في عالم الوجود ، هذا بالنسبة للتعبير ب «علم».

وكلمة بدا ، أيضا كذلك ، فبدا له ، أي تحقق ما علمه في الخارج وعلى

__________________

(١) سفينة البحار : ج ١ ص ٦٢.

(٢) الآية ١٢ من سورة الكهف.

(٣) الآية ٣١ من سورة محمد.

(٤) الآية ١٤٣ من سورة البقرة.

٦٧

صفحة الكون ، ولعل قوله تعالى :( وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ) (١) ، قد استعمل في هذا المعنى أيضا : أي تحقق ذلك وتجسد في الخارج.

ولعل هذا المعنى أقرب من حمل «بدا» على معنى : أظهر للغير ، لأن هذا المعنى لا يناسب التعدية باللام لنفس الذات الإلهية ، فلا يصح أن يقال : بدا لله ، ويكون المعنى : أظهر للغير ، بل هذا غلط ظاهر.

اليهود ، والبداء :

وبعد ، فلو أننا لم نقل بالبداء ، لكنا مثل اليهود الذين نعى الله عليهم اعتقادهم الفاسد ، حيث أنكروا البداء.

وقالوا : إن الله قدر الأرزاق والأشياء منذ الأزل ، ولا تغيير ولا تبديل فيما قدر ، فقد «جف القلم».

وقد قال تعالى مقبحا قولهم هذا :

( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) (٢) .

وقال الشهرستاني عن اليهود : «ولم يجيزوا النسخ أصلا ، قالوا : فلا يكون بعده شريعة أصلا ؛ لأن النسخ في الأوامر بداء ولا يجوز البداء على الله تعالى»(٣) .

فالاعتقاد بالبداء : ضرورة إسلامية وعقيدية ، ومن لوازم ومقتضيات تنزيه

__________________

(١) الآية ٤٨ من سورة الزمر.

(٢) الآية ٦٤ من سورة المائدة.

(٣) الملل والنحل : ج ١ ص ٢١١.

٦٨

الله وتوحيده ، وهو كذلك منسجم مع مفاد الآيات القرآنية ، والأحاديث الشريفة.

وعن الإمامين الصادق والباقر «عليهما السلام» ، قال : ما عبد الله تعالى بشيء مثل البداء(١) .

هذا وقد أورد المجلسي «رحمه الله» للبداء حكما جليلة ، وفوائد جميلة : فليراجعها من أراد(٢) .

__________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦١.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٦٢.

٦٩
٧٠

الفصل الثاني :

بحوث تسبق السيرة

٧١
٧٢

البحث الأول

إيمان آباء النبي صلى الله عليه وآله إلى آدم عليه السّلام :

قالوا : إن كلمة الإمامية قد اتفقت على أن آباء النبي «صلى الله عليه وآله» ، من آدم إلى عبد الله كلهم مؤمنون موحدون(١) ، بل ويضيف المجلسي قوله :

«.. بل كانوا من الصديقين ، إما أنبياء مرسلين ، أو أوصياء معصومين ، ولعل بعضهم لم يظهر الإسلام ، لتقية ، أو لمصلحة دينية»(٢) .

ويضيف الصدوق هنا : أن أم النبي «صلى الله عليه وآله» آمنة بنت وهب كانت مسلمة أيضا(٣) .

ومعنى ذلك : هو أنه ليس في آباء الرسول «صلى الله عليه وآله» إلا الاستقامة على جادة الحق ، والخير والبركة ، وهذا هو ما ورثه الرسول

__________________

(١) راجع : أوائل المقالات ص ١٢ ، وتصحيح الاعتقاد ص ٦٧ ، وتفسير الرازي ج ٢٤ ص ١٧٣ ط دار الكتب العلمية بطهران وفي طبعة أخرى ج ٤ ص ١٠٣ ، والبحار ج ١٥ ص ١١٧ ، ومجمع البيان ج ٤ ص ٣٢٢ ، وليراجع البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٨١.

(٢) البحار ج ١٥ ص ١١٧.

(٣) نفس المصدر.

٧٣

عنهم ، ويتأكد بذلك طهارته «صلى الله عليه وآله» من الأرجاس ، والرذائل ، حتى ما يكون عن طريق الوراثة ، والناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، وهو ما أثبته العلم الحديث أيضا ، حيث لم يبق ثمة أية شبهة في تأثير عامل الوراثة في تكوين شخصية الإنسان ، وفي خصاله ومزاياه.

قال أبو حيان الأندلسي : «ذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي «صلى الله عليه وآله» كانوا مؤمنين»(١) .

أما غير الإمامية ، فذهب أكثرهم إلى كفر والدي النبي وغيرهما من آبائه «صلى الله عليه وآله» ، وذهب بعضهم إلى إيمانهم.

وممن صرح بإيمان عبد المطلب ، وغيره من آبائه «صلى الله عليه وآله» ، المسعودي ، واليعقوبي ، وهو ظاهر كلام الماوردي ، والرازي في كتابه أسرار التنزيل ، والسنوسي ، والتلمساني محشي الشفاء ، والسيوطي ، وقد ألف هذا الأخير عدة رسائل لإثبات ذلك(٢) .

__________________

(١) تفسير البحر المحيط ج ٧ ص ٤٧.

(٢) رسائل السيوطي ، هي التالية :

١ ـ مسالك الحنفا

٢ ـ الدرج المنيفة في الآباء الشريفة

٣ ـ المقامة السندسية في النسبة المصطفوية

٤ ـ التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الجنة

٥ ـ السبل الجلية في الآباء العلية

٦ ـ نشر العلمين المنيفين في إثبات عدم وضع حديث إحياء أبويه «صلى الله عليه وآله» وإسلامهما على يديه «صلى الله عليه وآله».

٧٤

وفي المقابل قد ألف بعضهم رسائل لإثبات كفرهم ، مثل إبراهيم الحلبي ، وعلي القاري الذي فصّل ذلك في شرح الفقه الأكبر ، واتهموا السيوطي بأنه متساهل ، لا عبرة بكلامه ، ما لم يوافقه كلام الأئمة النقاد.

وسيأتي في آخر هذا البحث إن شاء الله تعالى ما يشير إلى السبب في الإصرار على كفر آباء النبي «صلى الله عليه وآله» وأعمامه.

بعض الأدلة على إيمانهم :

وقد قال الإمامية :

إن ثمة روايات كثيرة تدل على إيمان آبائه «صلى الله عليه وآله» ، بالإضافة إلى إجماع الطائفة المحقة ، ومستند ذلك هو الأخبار ، والإحاطة بجميعها متعسر ، إن لم يكن متعذرا(١) . وهذا هو الدليل المعتمد.

وقد استدلوا على ذلك أيضا :

١ ـ بقوله «صلى الله عليه وآله» : «لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات ، حتى أخرجني في عالمكم ، ولم يدنسني بدنس الجاهلية»(٢) .

__________________

(١) ذكر طائفة منها العلامة المجلسي رحمه الله في البحار : ج ١٥ ، والسيوطي في رسائله المشار إليها ، فراجع رسالة السبل الجلية : ص ١٠ فما بعدها ، وراجع أيضا : السيرة الحلبية ، وغير ذلك وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٤ فما بعدها.

(٢) مجمع البيان ج ٤ ص ٣٢٢ ، والبحار ج ١٥ ص ١١٧ و ١١٨ وتفسير الرازي ج ٢٤ ص ١٧٤ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٣٠ ، والدر المنثور ج ٥ ص ٩٨ ، وسيرة دحلان ج ١ ص ١٨ وتصحيح الاعتقاد ص ٦٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٤ وتفسير البحر المحيط ج ٧ ص ٤٧.

٧٥

ولو كان في آبائه ، أو أمهاته «صلى الله عليه وآله» كافر ، لم يصفهم كلهم بالطهارة ، مع أن الله تعالى يقول :( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (١)(٢) .

إلا أن يكون المقصود هو الطهارة من العهر ، أو من الأرجاس والرذائل ، وهو لا يلازم الكفر.

ويرد عليه : أنه تخصيص بلا مخصص ، ولا شاهد ، بل إن قوله :

«ولم يدنسني بدنس الجاهلية» شامل بإطلاقه لكل دنس ، والكفر من جملة هذه الأدناس.

٢ ـ واستدلوا على ذلك أيضا بقوله تعالى :( الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) (٣) .

لما روي عن ابن عباس ، وأبي جعفر ، وأبي عبد الله «عليهما السلام» : أنه «صلى الله عليه وآله» لم يزل ينقل من صلب نبي إلى نبي ، ولا يجب أن يكونوا أنبياء مبعوثين فلعل أكثرهم كان نبيا لنفسه أو لبيته

ويمكن المناقشة في ذلك أيضا : بأن الآية تقول : إنه تعالى يراه حال عبادته وسجوده ؛ فهو «صلى الله عليه وآله» في جملة الساجدين الموجودين فعلا ، وغيرهم.

لا أنه يراه وهو يتقلب في أصلاب الأنبياء. لكن الرواية بينت المراد ، أو

__________________

(١) الآية ٢٨ من سورة التوبة.

(٢) راجع : المصادر المتقدمة.

(٣) الشعراء ٢١٨ ـ ٢١٩ وراجع تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٤ و ٢٣٥ وتفسير البحر المحيط ج ٧ ص ٤٧.

٧٦

طبقت الآية على المورد ، فلا بد من الأخذ بها ، وقد يقال :

ولو ثبتت الرواية ، فيمكن القول بأنها لا تدل على استغراق ذلك لجميع آبائه ؛ فلعله يرى تقلبه في أصلاب الأنبياء من آبائه ، كما يرى تقلبه في أصلاب غير الأنبياء.

ويجاب عن هذا : بأن كلمة لم يزل ينقلني ظاهرة في استغراق هذا النقل إلى أصلاب أناس موصوفين بالنبوّة جميعا.

فإن قلت : إن من الصعب جدا إثبات نبوة كل واحد من آبائه «صلى الله عليه وآله» إلى آدم «عليه السلام».

فإننا نقول : إن هذا لا يعني عدم ثبوت ذلك بهذه الروايات وأمثالها

وأما أدلة غير الإمامية فقد استقصاها السيوطي في رسائله المشار إليها ، ولكن استعراضها والاستقصاء فيها نقضا وإبراما يحتاج إلى وقت طويل ، وتأليف مستقل.

٣ ـ ويمكن أن يستدل على إيمان آبائه «صلى الله عليه وآله» إلى إبراهيم بقوله تعالى ، حكاية لقول إبراهيم وإسماعيل :

( وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا ) (١) ، مع قوله تعالى :( وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) (٢) .

أي في عقب إبراهيم ، فيدل على أنه لا بد أن تبقى كلمة الله في ذرية إبراهيم ، ولو في واحد واحد ، على سبيل التسلسل المستمر فيبقى أناس

__________________

(١) الآية ١٢٨ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٢٨ من سورة الزخرف.

٧٧

منهم على الفطرة ، يعبدون الله تعالى حتى تقوم الساعة ، ولعل ذلك استجابة منه تعالى لدعاء إبراهيم «عليه السلام» الذي قال :

( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) (١) وقوله :( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) (٢) .

وواضح أنه : لو أنه تعالى قد استجاب لإبراهيم في جميع ذريته لما كان أبو لهب من أعظم المشركين ، وأشدهم على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وهذا ما يفسر الإتيان بمن التبعيضية في قوله :( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) .

ولا يصح القول : بأنه كما خرج أبو لهب فلعل بعض آباء النبي «صلى الله عليه وآله» قد خرج أيضا.

وذلك لأن كلمة( باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) تفيد الاتصال ، والاستمرار من دون انقطاع ، أما خروج أبي لهب فهو لا يقطع هذا الاتصال.

إستغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه :

وقد اعترض على القائلين بإيمان جميع آبائه «صلى الله عليه وآله» إلى آدم ، بأن القرآن الكريم ينص على كفر آزر أبي إبراهيم ، قال تعالى :( وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) (٣) .

__________________

(١) الآية ٣٥ من سورة إبراهيم.

(٢) الآية ٤ من سورة إبراهيم.

(٣) الآية ١١٤ من سورة التوبة.

٧٨

وأجابوا :

أولا : إن ابن حجر يدعي إجماع المؤرخين على أن آزر لم يكن أبا لإبراهيم ، وإنما كان عمه ، أو جده لأمه ، على اختلاف النقل(١) وإسم أبيه الحقيقي : تارخ(٢) ، وإنما أطلق عليه لفظ الأب توسعا ، وتجوزا. وهذا كقوله تعالى :( أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ) (٣) ، ثم عد فيهم إسماعيل مقدما له على أبيه الحقيقي إسحاق ، مع أن إسماعيل ليس من آبائه ؛ ولكنه عمه.

وقد ذكر بعض العلماء : أن اسم «آزر» لم يذكر في القرآن إلا مرة واحدة في أول الأمر ، ثم لم يتكرر اسمه في غير ذلك المورد ، تنبيها على أن المراد بالأب : «آزر».

ثانيا : إن استغفار إبراهيم لأبيه قد كان في أول عهده وفي شبابه ، مع أننا نجد أن إبراهيم حين شيخوخته ، وبعد أن رزق أولادا ، وبلغ من الكبر عتيا يستغفر لوالديه ، قال تعالى حكاية عنه :( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) (٤) .

__________________

(١) راجع : السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٣٧ ، وراجع : الدر المنثور للعاملي : ج ١ ص ١٦٠.

(٢) الدر المنثور للعاملي : ج ١ ص ١٦٠ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٥ و ٢٣٦.

(٣) الآية ١٣٣ من سورة البقرة.

(٤) الآية ٤١ من سورة إبراهيم.

٧٩

قال هذا بعد أن وهب الله له على الكبر إسماعيل وإسحاق حسب نص الآيات الشريفة(١) ، مع أن الآية تفيد : أن الاستغفار الأول قد تبعه التبرّؤ مباشرة.

ولكن من الواضح : أن بين الوالد والأب فرقا ، فإن الأب يطلق على المربي ، وعلى العم والجد ، أما «الوالد» فإنما يخص الوالد بلا واسطة ، فالاستغفار الثاني إنما كان للوالد ، أما الأول فكان للأب.

ثالثا : إنه يمكن أن يكون ذلك الذي استغفر له ، وتبرأ منه ، قد عاد إلى الإيمان ، فعاد هو إلى الاستغفار له.

هذا ، ولكن بعض الأعلام (٢) يرى : أن إجماع المؤرخين على أن أبا إبراهيم ليس «آزر» منشؤه التوراة ، التي تذكر أن اسم أبي إبراهيم هو : «تارخ» ، ثم ذكر أن من الممكن أن يكون نفس والد إبراهيم قد كان مشركا يجادله في الإيمان بالله ، فوعده بالاستغفار له ، ووفى بوعده ، ثم عاد فآمن بعد ذلك فكان يدعو له بعد ذلك أيضا حتى في أواخر حياته هو كما أسلفنا.

وهذا الاحتمال وإن كان واردا من حيث لا ملزم لحمل الأب في القرآن والوالد على المجاز.

إلا أنه ينافي الإجماع والأخبار ؛ فلا محيص عن الالتزام بما ذكرناه آنفا من أن المراد بالأب هو العم والمربي ، لا الوالد على الحقيقة ، مع عدم قبولنا منه قوله : إن استعمال الأب في العم المربي ، يكون مجازا.

__________________

(١) راجع : تفسير الميزان ج ١٢ ص ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) هو العلامة المحقق السيد مهدي الروحاني.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352