سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) الجزء ٣

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)15%

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
ISBN: 964-493-171-8
الصفحات: 376

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 4436 / تحميل: 1112
الحجم الحجم الحجم
سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
ISBN: ٩٦٤-٤٩٣-١٧١-٨
العربية

١
٢

٣
٤

الفصل الثاني :

روايات بدء الوحي

٥
٦

ما روي في بدء الوحي :

روى البخاري ومسلم وغيرهما ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة في بدء الوحي ما ملخصه : أن الملك جاء للنبي «صلى الله عليه وآله» ، وهو في غار حراء ، فقال : إقرأ.

قال : ما أنا بقارئ.

قال : فأخذني فغطني(١) حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني.

فقال : إقرأ.

فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني.

فقال : إقرأ.

فقلت : ما أنا بقارئ.

فأخذني فغطني الثالثة ، ثم أرسلني فقال :( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) (٢) .

فرجع بها رسول الله «صلى الله عليه وآله» يرجف فؤاده ؛ فدخل على

__________________

(١) غط الشيء : كبسه وعصره عصرا شديدا.

(٢) الآيات من ١ إلى ٣ من سورة العلق.

٧

خديجة بنت خويلد ، فقال زمّلوني(١) ، زمّلوني ، حتى ذهب عنه الروع ؛ فقال لخديجة ـ وقد أخبرها الخبر ـ : لقد خشيت على نفسي.

فقالت خديجة : كلا والله ، ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فانطلقت به خديجة ، حتى أتت به ورقة بن نوفل ، بن أسد ، بن عبد العزى ، ابن عم خديجة ، وكان امرءا قد تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت له خديجة : يا بن عم إسمع من ابن أخيك.

فقال له ورقة : ماذا ترى؟

فأخبره رسول الله «صلى الله عليه وآله» خبر ما رأى.

فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا(٢) ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : أو مخرجيّ هم؟

قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.

ثم لم ينشب(٣) ورقة أن توفي ، وفتر الوحي(٤) .

__________________

(١) زمّل فلانا بثوبه : لفه به.

(٢) الجذع : الب الحدث.

(٣) لم ينشب : لم يلبث.

(٤) صحيح البخاري ط مشكول ج ١ ص ٥ ـ ٦ وج ٩ ص ٣٨ ، وصحيح مسلم ج ١

٨

وثمة روايات كثيرة أخرى متناقضة ومتعارضة ، ونذكر منها على سبيل المثال :

١ ـ هناك رواية تقول : إن خديجة أرسلته مع أبي بكر إلى ورقة بن نوفل فأخبره «صلى الله عليه وآله» أنه يسمع نداء خلفه : يا محمد ، يا محمد ، فينطلق هاربا في الأرض ، فأمره ورقة أن يثبت ؛ ليسمع ما يقول ثم يخبره ، ففعل فناداه : يا محمد ، قل :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) حتى بلغ ،( وَلَا الضَّالِّينَ ) قل لا إله إلا الله ، فأخبر ورقة ؛ فبشره بأنه هو الذي بشر به ابن مريم ؛ فلما توفي ورقة قال «صلى الله عليه وآله» : لقد رأيت القس في الجنة ، عليه ثياب الحرير ، لأنه آمن بي وصدقني(١) .

٢ ـ ورواية أخرى تقول : بعد أن ذكرت : أن خديجة أخبرت ورقة بالأمر ، فأخبرها أنه نبي هذه الأمة ـ إنه بعد مدة التقى بالنبي «صلى الله عليه وآله» وهما يطوفان ، فسأله ورقة عما رأى وسمع ؛ فأخبره ، فأخبره ورقة أنه نبي هذه الأمة(٢) .

٣ ـ إنه لما أخبر النبي «صلى الله عليه وآله» خديجة بما رأى ، بشرته بأنه نبي هذه الأمة ، وأن الذي أخبرها بذلك هو غلامها ناصح ، وبحيرا

__________________

ص ٩٧ ، وليراجع تاريخ الطبري ج ٢ ص ٤٧ ، والمصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٣٢٢ ـ ٣٢٣ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٨٢ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٨٢ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٤٢ ـ ٢٤٣ وراجع : الأوائل ج ١ ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

(١) البداية والنهاية ج ٣ ص ٩ ـ ١٠ والروض الأنف ج ١ ص ٢٧٤ ـ ٢٧٥ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٨٣ ـ ٨٤ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٥٠ ، وسيرة مغلطاي ص ١٥.

(٢) البداية والنهاية ج ٣ ص ١٢ ـ ١٣ وسيرة ابن هشام ج ١ ص ٢٥٤ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٣٩ ـ ٢٤٠ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٨١ ـ ٨٢.

٩

الراهب ، وأمرها أن تتزوجه منذ أكثر من عشرين سنة ، ولم تزل برسول الله حتى طعم ، وشرب ، وضحك ، ثم خرجت إلى الراهب ، وكان قريبا من مكة فأخبرته ، فأخبرها : أن جبرئيل هو أمين الله ، ورسوله إلى الأنبياء «عليهم السلام» ثم أتت عداسا ، فسألته ، فأخبرها بمثل ذلك.

ثم أتت ورقة ، فأخبرها بمثل ذلك ، ولكنها حلفته أن يكتم الأمر ، فطلب منها أن ترسل ابن عبد الله إليه ؛ ليسأله ، ويسمع منه ؛ مخافة أن يكون الذي جاءه هو غير جبرئيل ، فإن بعض الشياطين يتشبه ليضل ويفسد ، حتى يصير الرجل بعد العقل الرضي مدلّها مجنونا ، فرجعت إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، وأخبرته بمقالة ورقة ، فنزل قوله تعالى :( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ، ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) (١) .

ولكنها أصرت عليه أن يذهب إلى ورقة ، ففعل ، وصدقه ورقة ، فذاع قول ورقة وتصديقه لرسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فشق ذلك على الملأ من قومه(٢) .

٤ ـ إن خديجة طلبت منه أن يخبرها حين يأتيه الملك ففعل ، فأمرته أن يجلس إلى شقها الأيمن ؛ ففعل ، فلم يذهب الملك ، فأجلسته في حجرها ، فلم يذهب ، فتحسرت فشالت خمارها ، ورسول الله «صلى الله عليه وآله» في حجرها ، فذهب الملك ، فقالت : ما هذا بشيطان ، إن هذا لملك يا ابن عم ، فاثبت وابشر.

__________________

(١) الآيتان ١ و ٢ من سورة القلم.

(٢) البداية والنهاية ج ٣ ص ١٤ ـ ١٥ وراجع : الأوائل لأبي هلال العسكري ج ١ ص ١٤٦.

١٠

وفي رواية : أنها أدخلت رسول الله بين جلدها ودرعها ، وأخرجت رأسه من جيبها ؛ فذهب جبرئيل «عليه السلام» عند ذلك(١) .

وفي رواية : أن ذلك كان بإشارة ورقة(٢) .

٥ ـ في رواية : إن ورقة قال لخديجة : إسأليه من هذا الذي يأتيه ، فإن كان ميكائيل ، فقد أتاه بالخفض والدعة واللين وإن كان جبرئيل ، فقد أتاه بالقتل والسبي ؛ فسألته ، فقال : جبرئيل ، فضربت خديجة جبهتها(٣) .

٦ ـ وفي رواية : أنه لما أتاه الوحي قال :

«.. إن الأبعد ـ يعني نفسه ـ لشاعر أو مجنون ، لا تحدّث بها قريش عني أبدا ، لأعمدن إلى حالق من الجبل ؛ فلأطرحن نفسي منه ، فلأقتلنها ، ولأستريحن».

قال : فخرجت أريد ذلك حتى إذا كان في وسط جبل سمع صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله.

ثم تستمر الرواية حتى تذكر : أنه ذكر لخديجة : أن الأبعد لشاعر أو مجنون ، فقالت : أعيذك بالله من ذلك ، ثم التقت بورقة ؛ فأرسل إليه بالثبات ،

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٣ ص ١٥ ـ ١٦ ، وسيرة ابن هشام ج ١ ص ٢٥٥ ، والطبري ج ٢ ص ٥٠ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٨٣ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٥١ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٨٤.

(٢) السيرة الحلبية ج ١ ص ٢٥٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي ط صادر ج ٢ ص ٢٣.

١١

ثم التقى به في الطواف ، فجرى له معه ما جرى(١) .

وعند السهيلي وغيره : أن خديجة سألت ورقة ، وعداسا ، ونسطورا ، عن أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله»(٢) .

٧ ـ وفي رواية : أن عداسا أعطاها كتابا لتضعه على النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فإن كان مجنونا شفي ، وإلا لم يضره شيئا ، فلما عادت إليه بالكتاب وجدت معه جبرئيل يقرئه الآيات من سورة القلم ، ففرحت ، وأخذته إلى عداس ، فكشف عداس عن ظهره ؛ فوجد خاتم النبوة بين كتفيه إلخ(٣) .

ويروي البعض : أنه «صلى الله عليه وآله» لما أخبرها بجبرئيل كتبت إلى بحيرا الراهب ، وقيل : سافرت بنفسها إليه لتسأله عن الأمر(٤) .

٨ ـ في رواية : أنه «صلى الله عليه وآله» حين ذهب ليتردّى من شواهق الجبال ، كان إذا ارتقى بذروة جبل ، تبدّى له جبرئيل ، ويخاطبه بالرسالة ، فيسكن جأشه ، وتطمئن نفسه(٥) .

٩ ـ ويروون أيضا : أنه كان «صلى الله عليه وآله» قبل النبوة يتعرض للرعدة ، وتغميض العينين ، وتربّد الوجه ، ولما يشبه الإغماء ، ويغط كغطيط البكر(٦) .

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ ص ٤٩ ـ ٥٠.

(٢) الروض الأنف ج ١ ص ٢٧٣ ، والأوائل لأبي هلال العسكري ج ١ ص ١٤٦.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٨٤ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٨٣ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

(٤) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٨٣ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٤٤.

(٥) المصنف ج ٥ ص ٣٢٣.

(٦) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٨٤ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٥٢.

١٢

١٠ ـ وفي رواية : أنه «صلى الله عليه وآله» عاد إلى أهله مسرورا موقنا : أنه قد رأى أمرا عظيما ، فلما دخل على خديجة قال : أريتك الذي كنت حدثتك : أني رأيته في المنام ؛ فإن جبرئيل استعلن إلي ، أرسله إلي ربي عز وجل ، وأخبرها بالذي جاءه من الله ، وما يسمع منه ، فقالت له : أبشر ، فو الله لا يفعل الله بك إلا خيرا ، واقبل الذي جاءك من أمر الله ، فإنه حق ، وأبشر ؛ فإنك رسول الله حقا.

ثم انطلقت إلى عداس النصراني ، غلام عتبة بن ربيعة من أهل نينوى ، فسألته عن جبرئيل ؛ فتعجب من ذكر جبرئيل بتلك الأرض ، ثم أخبرها بأنه أمين الله بينه وبين الأنبياء «عليهم السلام» ، ثم جاءت إلى ورقة إلخ(١) .

هذا غيض من فيض ، مما قيل ويقال حول ما جرى حين بدء الوحي ، وكيفيته وملابساته ، من روايات ، وأقاويل متضاربة ومتناقضة.

ولننتقل الآن إلى الإشارة إلى بعض ما لنا من مناقشات في تلك الأراجيف المتقدمة ، متوخين الإيجاز والاختصار مهما أمكن فنقول :

مناقشة روايات بدء الوحي :

إننا في مجال بيان ما في تلك الروايات من خلل وخطل ، لا نستطيع أن نستوعب كل ما فيها من نقاط ضعف ؛ لأن استيعاب ذلك ـ كما يبدو ـ يحتاج إلى وقت طويل ، بل إلى مؤلف مستقل ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله ، لأننا نريد أن نسهم بدورنا في الذب عن مقام النبوة الأقدس ،

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٣ ص ١٣.

١٣

ولو بشكل محدود ومقتضب ، وما نريد أن نشير إليه هنا هو :

أولا : من حيث السند ، وحيث إن العمدة في ذلك هو ما ورد في الصحيحين وغيرهما ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، فنحن نكتفي بالإشارة الإجمالية إلى حال هؤلاء ، فنقول :

ألف ـ الزهري : كان من أعوان الظالمين ، ومن الذين يركنون لهم(١) ، وكان عاملا لبني أمية(٢) ويقول المحقق التستري : إنه كان كاتبا لهشام بن عبد الملك ، ومعلما لأولاده(٣) .

وعده الثقفي من فقهاء الكوفة الذين خرجوا عن طاعة علي «عليه السلام» ، وكانوا أهل عداوة له وبغض ، وخذلوا عنه(٤) .

وجلس هو وعروة في مسجد المدينة فنالا من علي «عليه السلام» ، فبلغ ذلك السجاد «عليه السلام» ، فجاء حتى وقف عليهما.

فقال : أما أنت يا عروة ، فإن أبي حاكم أباك ، فحكم لأبي على أبيك وأما أنت يا زهري ؛ فلو كنت أنا وأنت بمكة لأريتك كنّ(٥) أبيك(٦) .

__________________

(١) راجع : سفينة البحار ج ١ ص ٥٧٢ و ٥٧٣ ومعجم رجال الحديث ج ١٦ ص ١٨٢ عن ابن شهر آشوب.

(٢) كشف الغمة ج ٢ ص ٣١٧.

(٣) راجع ترجمة الزهري في قاموس الرجال ج ٦.

(٤) الغارات للثقفي ج ٢ ص ٥٥٨ ـ ٥٦٠ وراجع : سفينة البحار ج ١ ص ٥٧٢.

(٥) الكن : البيت.

(٦) شرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ١٠٢ ، والغارات للثقفي ج ٢ ص ٥٧٨ ، والبحار ج ٤٦ ص ١٤٣ وراجع : سفينة البحار ج ١ ص ٥٧٢.

١٤

ونحن لا نستطيع أن نثق بأعوان الظلمة ، وبمبغضي علي «عليه السلام» ، كيف وقد قال «صلى الله عليه وآله» : «من سب عليا فقد سبني»؟(١) .

ب ـ عروة بن الزبير ، عن عروة قال : أتيت عبد الله بن عمر بن الخطاب (رض) ؛ فقلت له : يا أبا عبد الرحمن ، إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء ، فيتكلمون بالكلام ، نعلم أن الحق غيره ؛ فنصدقهم ، ويقضون بالجور ، فنقويهم ، ونحسنه لهم ؛ فكيف ترى في ذلك؟

فقال : يا بن أخي ، كنا مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» نعد هذا النفاق ؛ فلا أدري كيف هو عندكم(٢) .

فعروة يعتبر أئمة الجور أئمته ، وابن عمر يحكم عليه بالنفاق ، وعده الإسكافي من التابعين ، الذين كانوا يضعون أخبارا قبيحة في علي «عليه السلام»(٣) ، وكان يتألف الناس على روايته(٤) .

وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، قال : كان عند الزهري حديثان عن عروة ، عن عائشة في علي «عليه السلام» ، فسألته عنهما يوما.

__________________

(١) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٢١ وصححه الذهبي في تلخيص المستدرك هامش نفس الصفحة.

(٢) سنن البيهقي ج ٨ ص ١٦٥ ، وقريب منه ما في ص ١٦٤ من دون ذكر اسم (عروة) ومثله الترغيب والترهيب ج ٤ ص ٣٨٢ عن البخاري وإحياء علوم الدين ج ٣ ص ١٥٩ وفي هامشه عن الطبراني وحياة الصحابة ج ٢ ص ٧٦.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٦٣.

(٤) صفة الصفوة ج ٢ ص ٨٥ ، وتهذيب التهذيب ج ٧ ص ١٨٢.

١٥

فقال : ما تصنع بهما وبحديثهما؟ إني لأتهمهما في بني هاشم(١) .

وكان عروة إذا ذكر عليا نال منه(٢) ، ويصيبه الزمع ؛ فيسبه ، ويضرب إحدى يديه على الأخرى إلخ(٣) .

وبعد ذلك كله ؛ فإنه لم يثبت سماع الزهري عنه ، ولكن أهل الحديث اتفقوا على ذلك(٤) .

ج ـ أما عائشة : التي حاربت عليا وعادته ، والتي يتهمها الزهري بأنها لا تؤمن في بني هاشم ؛ فقد أرسلت هذه الرواية ، ولم تبين لنا عمن روتها ، فإنهم يقولون : إنها قد ولدت بعد البعثة ، وإن كنا نحن نناقش في ذلك(٥) .

وأخيرا ، فإن لنا كلاما طويلا في بقية الأسانيد في الصحاح وغيرها لا مجال له هنا ، ونكتفي بهذا القدر ، لنشير إلى بقية ما في الرواية من هنات.

ثانيا : تناقض الروايات الظاهر لدى كل أحد ، ويظهر ذلك بالملاحظة والمقارنة ، ونكل ذلك إلى القارئ نفسه ، وهذا يعطي أن هناك طائفة من الروايات مكذوبة لأن هذا الاختلاف لم يكن بالزيادة والنقيصة ليمكن قبوله ؛ على اعتبار أن أحد الرواة قد حفظ ولم يحفظ الراوي الآخر أو تعلق غرضه بهذا النحو من النقل ، وذاك بنحو آخر ، وكذا لو كان التناقض

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٦٤ ، وقاموس الرجال ج ٦ ص ٢٩٩.

(٢) الغارات ج ٢ ص ٥٧٦ ، وشرح النهج ج ٤ ص ١٠٢.

(٣) قاموس الرجال ج ٦ ص ٣٠٠.

(٤) تهذيب التهذيب ج ٩ ص ٤٥٠.

(٥) سيأتي ذلك إن شاء الله في فصل : حتى بيعة العقبة.

١٦

في مورد واحد مثلا ، فلربما يمكن الاعتذار عن ذلك بأن من الممكن وقوع الاشتباه غير العمدي من أحد النقلة.

ولكن الأمر هنا أبعد من ذلك ، فإن التناقض والاختلاف إن لم يكن في كل ما تضمنته تلك الروايات من نقاط ، ففي جلها مما يعني أن ثمة تعمدا للوضع والجعل ، وقديما قيل : «لا حافظة لكذوب ».

هذا كله ، مع غض النظر عن المناقضة بين هذه الروايات وبين الرواية التي يذكرها البخاري نفسه في أول كتابه بعد هذه الرواية مباشرة من أن أول ما نزل عليه «صلى الله عليه وآله» هو سورة المدثر ، ويلاحظ أنه ليس في تلك الرواية ذكر لأي شيء من تلك الأمور الغريبة والعجيبة التي تضمنتها رواية عائشة السابقة عليها ؛ فإن عدم ذكرها لشيء من ذلك يورث الشك والريب ، ويثير أكثر من سؤال عن السبب في إهمال التعرض لذلك.

ثالثا : إن رواية الصحاح ، بل وسائر الروايات تذكر :

أن جبرئيل قد أخذ النبي «صلى الله عليه وآله» فغطه ، أي عصره وحبس نفسه أو خنقه حتى بلغ منه الجهد ، أو حتى ظن أنه الموت ، ثم أرسله ، وأمره بالقراءة ؛ فأخبره النبي «صلى الله عليه وآله» : أنه لا يعرفها ، فلم يقنع منه ، بل عاد فغطه ، ثم أرسله ، وهكذا ثلاث مرات.

ولنا على هذا الكلام العديد من الأسئلة.

فإننا لا نعرف ما هو المبرر لذلك كله؟

وكيف جاز لجبرئيل أن يروع النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، وأن يؤذيه بالعصر والخنق ، إلى حد أنه «صلى الله عليه وآله» يظن أنه الموت ، يفعل به ذلك ، وهو يراه عاجزا عن القيام بما يأمره به ولا يرحمه ، ولا يلين له!!

١٧

ولماذا يفعل به ذلك ثلاث مرات ، لا أكثر ولا أقل؟!.

ولماذا صدقه في الثالثة ، ولا يصدقه في المرة الأولى؟ أو الثانية؟!

وإذا كان النبي «صلى الله عليه وآله» قد كذب عليه أولا ، فكيف بقي أهلا للنبوة؟! وإذا كان قد صدقه فلماذا لم يقتنع جبرئيل بكلامه ، وعاد فخنقه حتى ليظن أنه الموت؟!.

وأيضا ، هل جاء جبرئيل إليه بكتاب ليقرأه ؛ إذ إن قوله «صلى الله عليه وآله» : «ما أنا بقارئ» إنما يصح لو كان «صلى الله عليه وآله» قد فهم أن جبرئيل يأمره بالقراءة نفسها ـ لا بتعلم القراءة ـ كما ذكره السندي(١) .

وإذا كان المراد : القراءة بمعنى التلاوة ؛ فلماذا يطلب منه جبرئيل ذلك ، قبل أن يتلو عليه شيئا؟. ثم لماذا يعاند هو ويرفض ذلك؟!

وبعد هذا كله ، لماذا يستسلم النبي «صلى الله عليه وآله» لجبرائيل ليعذبه على هذا النحو الذي لا مبرر له؟

ثم لماذا يرجع مرعوبا خائفا؟! ألم يكن باستطاعته أن يلطمه لطمة يقلع بها عينه؟ كما فعل موسى بملك الموت من قبل؟! حيث إنه لما جاء ليقبض روحه ، لطمه على عينه فقلعها ، كما نص عليه البخاري ، وكثير من المصادر الأخرى!!(٢) .

__________________

(١) حاشية السندي على البخاري بهامشه ج ١ ص ٣ ط سنة ١٣٠٩ ه‍.

(٢) البخاري ط سنة ١٣٠٩ ه‍ ج ١ ص ١٥٢ ، أبواب الجنائز ، وج ٢ ص ١٥٩ باب وفاة موسى عليه السلام ، وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٠٠ باب فضائل موسى ، ومسند أحمد ج ٢ ص ٣١٥ ، ومصنف الحافظ عبد الرزاق ج ١١ ص ٢٧٤ ، وسنن

١٨

أم يعقل : أنه كان ـ والعياذ بالله ـ جبانا إلى هذا الحد؟! وكانت الشجاعة من مختصات نبي الله موسى وحده؟!

وأخيرا ، كيف يخاف نبينا هنا ، والله تعالى يقول :( يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) (١) .

قد ورد أن زرارة بن أعين سأل الإمام الصادق «عليه السلام» : كيف لم يخف رسول الله «صلى الله عليه وآله» فيما يأتيه من قبل الله أن يكون مما ينزع به الشيطان؟

فقال : إن الله إذا اتخذ عبدا رسولا أنزل عليه السكينة والوقار ، فكان الذي يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينه(٢) .

إشارة :

هذا ، ومن المضحك المبكي هنا : أن نجد البعض يحاول أن يستدل بهذه الرواية على رأي يكذبه العقل والنقل ، وبالذات يكذبه نص القرآن الكريم ؛ فنراه يجعل ذلك دليلا على جواز التكليف بما لا يطاق(٣) ـ كما هو مذهبهم ـ

__________________

النسائي ج ٤ ص ١١٨ ، وتاريخ الطبري ج ١ ص ٣٠٥ ، والبداية والنهاية ج ١ ص ٣١٧ ، والغدير ج ١١ ص ١٤٠ و ١٤١ عن بعض من تقدم ، وعن : مختصر تذكرة القرطبي للشعراني ص ٢٩ ، والعرائس للثعلبي ص ١٣٩ وكشف الأستار عن مسند البزار ، ج ١ ص ٤٠٤ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٠٤.

(١) الآية ١٠ من سورة النمل.

(٢) تفسير العياشي ج ٢ ص ٢٠١ والبحار ج ١٨ ص ٢٦٢.

(٣) فتح الباري ج ٨ ص ٥٥١ ، وإرشاد الساري ج ١ ص ٦٣.

١٩

الأمر الذي يصادم العقل والفطرة ، ويخالف القرآن ، كما في قوله تعالى :( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) (١) ، وقوله :( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٢) ، وقوله :( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (٣) وغير ذلك كثير.

رابعا : حول ما يذكر من خوفه «صلى الله عليه وآله» ، ودور زوجته وورقة وغيرهما في بعث الطمأنينة في نفسه نذكر :

ألف : كيف يجوز إرسال نبي يجهل نبوة نفسه ، ويحتاج في تحقيقها إلى الاستعانة بامرأة ، أو نصراني؟ ألم تكن هي فضلا عن ذلك النصراني أجدر بمقام النبوة من ذلك الخائف المرعوب الشاك؟

وحتى لو قبلنا ذلك ، فمن أين علم : أن تلك المرأة وذلك الرجل قد صدقاه ، وقالا الحقيقة؟

ولماذا لم يستطع هو أن يدرك ما أدركته تلك المرأة ، وذلك النصراني؟! أم يعقل أن يكون كلاهما أكبر عقلا وأكثر معرفة بالله وتفضلاته منه؟! نعوذ بالله من الزلل في القول والعمل.

وإذا جاز أن يرتاب هو مع معاينته لما يأتيه من ربه ، فكيف ينكر على من ارتاب من سائر الناس ، مع عدم معاينتهم لشيء من ذلك؟!.

قال السندي : «مقتضى جواب خديجة ، والذهاب إلى ورقة : أن هذا كان

__________________

(١) الآية ٢٨٦ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٧٨ من سورة الحج.

(٣) الآية ١٨٥ من سورة البقرة.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وأمثلة هذا تكثر.

وهذا شيخنا الذهبي من هذا القبيل، له علم وديانة، وعنده على أهل السنّة تحامل مفرط، فلا يجوز أنْ يعتمد عليه.

ونقلت من خطّ الحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائيرحمه‌الله ما نصّه: الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي لا شكّ في دينه وورعه وتحرّيه فيما يقوله في الناس، ولكنه غلب عليه مذهب الإِثبات ومنافرة التأويل والغفلة عن التنزيه، حتّى أثّر ذلك في طبعه انحرافاً شديداً عن أهل التنزيه وميلاً قوياً إلى أهل الإثبات، فإذا ترجم واحداً منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن، ويبالغ في وصفه ويتغافل عن غلطاته ويتأوّل له ما أمكن، وإذا ذكر أحداً من الطرف الآخر كإمام الحرمين والغزّالي ونحوهما لا يبالغ في وصفه، ويكثر من قول من طعن فيه، ويعيد ذلك ويبديه ويعتقده ديناً وهو لا يشعر، ويعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبها، وإذا ظفر لأحد منهم بغلطة ذكرها. وكذا فعله في أهل عصرنا إذا لم يقدر على أحد منهم بتصريح يقول في ترجمته: والله يصلحه. ونحو ذلك. وسببه المخالفة في العقائد. إنتهى.

والحال في شيخنا الذهبي أزيد ممّا وصف، هو شيخنا ومعلّمنا، غير أنّ الحق أحق أنْ يتّبع. وقد وصل من التعصّب المفرط إلى حدٍّ يسخر منه، وأنا أخشى عليه يوم القيامة من غالب علماء المسلمين وأئمتهم، الذين حملوا لنا الشريعة النّبويّة، فإن غالبهم أشاعرة، وهو إذا وقع بأشعري يبقي ولا يذر، والذي أعتقده أنّهم خصماؤه يوم القيامة عند من أدناهم عنده أوجه منه. فالله المسئول أنْ يخفّف عنه، وأن يلهمهم العفو عنه، وأن يشفّعهم فيه.

والذي أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه، وعدم اعتبار قوله

فلينظر كلامه من شاء ثمّ يبصر، هل الرّجل متحرٍّ عند غضبه أو غير

١٢١

متحر، وأعني بغضبه وقت ترجمته لواحدٍ من علماء المذاهب الثلاثة المشهورين من الحنفية والمالكية والشافعية، فإنّي أعتقد أن الرجل كان إذا مدّ القلم لترجمة أحدهم غضب غضباً مفرطاً، ثمّ قرطم الكلام ومزّقه وفعل من التعصّب ما لا يخفى على ذي بصيرة.

ثمّ هو مع ذلك غير خبير بمدلولات الألفاظ كما ينبغي، فربّما ذكر لفظة من الذم لو عقل معناها لما نطق بها، ودائماً أتعجب من ذكره الإِمام فخر الدين الرازي في كتاب ( الميزان ) وفي ( الضعفاء ). وكذلك السيف الآمدي وأقول: يا لله العجب، هذان لا رواية لهما، ولا جرحهما أحد، ولا سمع عن أحدٍ أنّه ضعّفهما في ما ينقلانه من علومهما، فأيّ مدخل لهما في هذين الكتابين. ثمّ إنا لم نسمع أحداً سمّى الإِمام فخر الدين بالفخر، بل إمّا الإمام وإمّا ابن الخطيب، وإذا ترجم كان في المحمدين، فجعله في حرف الفاء وسمّاه الفخر، ثمّ حلف في آخر الكتاب أنّه لم يتعمّد فيه هوى نفس، فأيّ هوى نفسٍ أعظم من هذا؟ فإما أنّ يكون ورّى في يمينه، أو استثنى غير الرواة. فيقال له: فَلِم ذكرت غيرهم. وإمّا أنْ يكون اعتقد أنّ هذا ليس هوى نفس، وإذا وصل إلى هذا الحدّ - والعياذ بالله - فهو مطبوع على قلبه »(١) .

وقال السبكي بترجمة أحمد بن صالح:

« قاعدةُ في المؤرخين نافعة جدّاً، فإنّ أهل التاريخ قد وضعوا من اُناسٍ أو رفعوا اُناساً، إمّا لتعصّب، أو لجهلٍ، أو لمجرّد اعتمادٍ على من لا يوثق به، أو غير ذلك من الأسباب. والجهل في المؤرّخين أكثر منه في أهل الجرح والتعديل. وكذلك التعصّب قلّ أن رأيت تاريخاً خالياً من ذلك.

وأمّا تاريخ شيخنا الذهبي - غفر الله له - فإنّه على جمعه وحسنه، مشحون بالتعصّب المفرط، لا واخذه الله، فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين، أعني

____________________

(١). طبقات الشافعيّة ٢ / ١٢ - ١٥.

١٢٢

الفقراء الذين هم صفوة الخلق، واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعيين والحنفيين، ومال فأفرط على الأشاعرة، ومدح فزاد في المجسّمة، هذا وهو الحافظ المدره والإِمام المبجّل، فما ظنّك بعوام المؤرخين »(١) .

وقال السبكي - بترجمة الحسين الكرابيسي، بعد الكلام في مسألة اللفظ -:

« فإذا تأمّلت ما سطرناه ونظرت قول شيخنا في غير موضع من تاريخه: أنّ مسألة اللفظ ممّا ترجع إلى قول جهمٍ، عرفت أن الرجل لا يدري في هذه المضايق ما يقول، وقد أكثر هو وأصحابه من ذكر جهم بن صفوان، وليس قصدهم إلّا جعل الأشاعرة - الذين قدّر الله لقدرهم أن يكون مرفوعاً، وللزومهم للسنّة أنّ يكون مجزوماً به ومقطوعاً - فرقةً جهميّة.

واعلم أنّ جهماً شر من المعتزلة كما يدريه من ينظر الملل والنحل، ويعرف عقائد الفرق، والقائلون بخلق القرآن هم المعتزلة جميعاً، وجهم لا خصوص له بمسألة خلق القرآن، بل هو شر من القائلين بالمشاركة إيّاهم فيما قالوه وزيادته عليهم بطامّات.

فما كفى الذهبي أنْ يشير إلى اعتقاد ما يتبرّأ العقلاء عن قوله من قدم الألفاظ الجارية على لسانه، حتى ينسب هذه العقيدة إلى مثل الإمام أحمد بن حنبل وغيره من السّادات، ويدّعي أنّ المخالف فيها يرجع إلى قول جهم؟

فليته درى ما يقول! والله يغفر لنا وله، ويتجاوز عمّن كان السّبب في خوض مثل الذهبي في مسائل هذا الكلام، وإنّه ليعزّ عليَّ الكلام في ذلك، ولكن كيف يسعنا السكوت، وقد ملأ شيخنا تاريخه بهذه العظائم التي لو وقف عليها العامّي لأضلّته ضلالاً مبيناً.

ولقد يعلم الله منّي كراهيّة الإزراء بشيخنا، فإنّه مفيدنا ومعلّمنا، وهذا

____________________

(١). طبقات الشافعيّة ٢ / ٢٢.

١٢٣

النزر اليسير الحديثي الذي عرفناه منه استفدناه، ولكنْ أرى أنّ التنبيه على ذلك حتم لازم في الدين »(١) .

وقال السبكي:

« زكريا بن يحيى بن السّاجي الحافظ، كان من الثقات الأئمة

روى عنه الشيخ أبو الحسن الأشعري. قال شيخنا الذهبي: وأخذ عنه مذهب أهل الحديث.

قلت : سبحان الله، هنا تجعل الأشعري على مذهب أهل الحديث، وفي مكانٍ آخر - لو لا خشيتك سهام الأشاعرة - لصرّحت بأنّه جهمي، وما أبو الحسن إلّا شيخ السنّة وناصر الحديث وقامع المعتزلة والمجسّمة وغيرهم »(٢) .

وقال السبكي - بترجمة الأشعري -:

« وأنت إذا نظرت بترجمة هذا الشيخ - الذي هو شيخ السنّة وإمام الطائفة - في تاريخ شيخنا الذهبي، ورأيت كيف مزّقها وحار كيف يضع من قدره، ولم يمكنه البوح بالغض منه خوفاً من سيف أهل الحقّ، ولا الصبر عن السكوت لما جبلت عليه طوّيته من نقصه، بحيث اختصر ما شاء الله أن يختصر في مدحه، ثمّ قال في آخر الترجمة: من أراد أن يتبحّر في معرفة الأشعري فعليه بكتاب تبيين كذب المفتري لأبي القاسم ابن عساكر، اللّهم توفّنا على السنّة، وأدخلنا الجنّة، واجعل أنفسنا مطمئنّة، نحبُّ فيك أولياءك ونبغض فيك أعداءك، ونستغفر للعصاة من عبادك، ونعمل بمحكم كتابك، ونؤمن بمتشابه ما وصفت به نفسك. انتهى.

فعند ذلك يقضي العجب من هذا الذهبي، ويعلم إلى ما ذا يشير المسكين، فويحه ثمّ ويحه، وأنا قد قلت غير مرة: إنّ الذهبي استادي، وبه

____________________

(١). طبقات الشافعيّة ٢ / ١١٩ - ١٢٠.

(٢). طبقات الشافعيّة ٣ / ٢٩٩.

١٢٤

تخرّجت في علم الحديث، إلّا أنّ الحقّ أحقّ أنْ يتّبع، ويجب عليّ تبيين الحقّ، فأقول »(١) .

وقال السبكي - بترجمة إمام الحرمين الجويني، بعد كلام عبد الغافر الفارسي -:

« إنتهى كلام عبد الغافر، وقد ساقه بكماله الحافظ ابن عساكر، في كتاب التبيين. وأمّا شيخنا الذهبي - غفر الله له - فإنّه حار كيف يصنع في ترجمة هذا الإمام، الذي هو من محاسن هذه الاُمة المحمّدية، وكيف يمزّقها، فقرطم ما أمكنه، ثمّ قال: وقد ذكره عبد الغافر وأسهب وأطنب فيقال له:

هلّا زيّنت كتابك بها، وطرّزته بمحاسنها، فإنّها أولى من خرافاتٍ تحكيها لأقوامٍ لا يعبأ الله بهم

وقد حكى شيخنا الذهبي كسر المنبر والأقلام والمحابر، وأنهم أقاموا على ذلك حولاً، ثمّ قال: وهذا من فعل الجاهلية والأعاجم، لا من فعل أهل السنّة والاتباع.

قلت: وقد حار هذا الرجل ما الذي يؤذي به هذا الإِمام، وهذا لم يفعله الإِمام، ولا أوصى به بأن يفعل، حتى يكون غضّا منه، وإنّما حكاه الحاكون إظهارا لعظمة الإمام عند أهل عصره، وأنّه حصل لأهل العلم - على كثرتهم، فقد كانوا نحو أربعمائة تلميذ - ما لم يتمالكوا معه الصبر، بل أدّاهم إلى هذا الفعل، ولا يخفى أنّه لو لم تكن المصيبة عندهم بالغةً أقصى الغايات لما وقعوا في ذلك. وفي هذا أوضح دلالة لمن وقّفه الله على حال هذا الإِمام -رضي‌الله‌عنه - وكيف كان شأنه بين أهل العلم في ذلك العصر المشحون بالعلماء والزّهاد »(٢) .

____________________

(١). طبقات الشافعيّة ٥ / ١٨٢.

(٢). طبقات الشافعيّة ٦ / ٢٠٣.

١٢٥

وقال السبكي بترجمة أبي حامد الغزالي:

« ذكر كلام عبد الغافر: وأنا أرى أنْ أسوقه بكماله على نصّه حرفاً حرفاً، فإن عبد الغافر ثقةً عارفُ، وقد تحزّب الحاكون لكلامه حزبين، فمن ناقلٍ لبعض الممادح وتالٍ لجميع ما أورده ممّا عيب على حجة الإِسلام، وذلك صنيع من يتعصّب على حجة الإسلام، وهو شيخنا الذهبي، فإنّه ذكر بعض الممادح نقلاً معجرف اللّفظ محكيّاً بالمعنى، غير مطابق في الأكثر، ولـمـّا انتهى إلى ما ذكره عبد الغافر ممّا عيب عليه استوفاه، ثمّ زاد ووشّح وبسط ورشح، ومن ناقل لكلّ الممادح، ساكت عن ذكر ما عيب به، وهو الحافظ أبو القاسم ابن عساكر »(١) .

وقال السبكي - بترجمة الخبوشاني -:

« وكان ابن الكيزاني - رجل من المشبّهة - مدفوناً عند الشافعي -رضي‌الله‌عنه - فقال الخبوشاني: لا يكون صدّيق وزنديق في موضعٍ واحد، وجعل ينبش ويرمي عظامه وعظام الموتى الذين حوله من أتباعه، وتعصّبت المشبّهة عليه ولم يبال بهم، وما زال حتى بنى القبر والمدرسة، ودرّس بها، ولعلّ الناظر يقف على كلام شيخنا الذهبي في هذا الموضع من ترجمة الخبوشاني فلا يحتفل به وبقوله في ابن الكيزاني أنّه من أهل السنّة، فالذهبي -رحمه‌الله - متعصّب جدّاً، وهو شيخنا، وله علينا حقوق، إلّا أنّ حقّ الله مقدّم على حقّه. والذي نقوله: إنّه لا ينبغي أنْ يسمع كلامه في حنفي ولا شافعي، ولا تؤخذ تراجمهم من كتبه، فإنّه يتعصّب عليهم كثيراً »(٢) .

وقال اليافعي في سنة ٥٩٥:

« قال الذهبي: وفيها كانت فتنة الفخر الرازي صاحب التصانيف، وذلك

____________________

(١). طبقات الشافعيّة ٦ / ٢٠٣.

(٢). طبقات الشافعيّة ٧ / ١٤.

١٢٦

وحميت الفتنة، فأرسل السلطان الجند وسكّنهم، وأمر الرازي بالخروج.

قلت : هكذا ذكر من المؤرخّين من له غرض في الطعن عل، الأئمة وفي طائر جاءت به أُم أيمن شعر بيان لمن بالحقّ يرضى ويقنع.

ثمّ أتبع ذلك بقوله: وفيها كانت بدمشق فتنة الحافظ عبد الغني، وكان أمّاراً بالمعروف، داعياً إلى السنّة، فقامت عليه الأشعريّة، وأفتوا بقتله، فأُخرج من دمشق مطروداً.

انتهى كلامه بحروفه في القصّتين معاً، ومذهب الكراميّة والظاهريّة معروف، والكلام عليهما إلى كتب الاُصول الدّينيّة مصروف، فهنالك يوضح الحق البراهين القواطع، ويظهر الصّواب عند كشف النقاب للمبصر والسامع »(١) .

وقال السيوطي في ( قمع المعارض في نصرة ابن الفارض ):

« وإنْ غرّك دندنة الذهبي، فقد دندن على الإِمام فخر الدين ابن الخطيب ذي الخطوب، وعلى أكبر من الإِمام، وهو أبو طالب المكّي صاحب قوت القلوب، وعلى أكبر من أبي طالب، وهو الشيخ أبو الحسن الأشعري، الذي يجول ذكره في الآفاق ويجوب، وكتبه مشحونة بذلك: الميزان، والتاريخ، وسير النبلاء، فقابل أنت كلامه في هؤلاء، كلاّ والله لا يقابل كلامه فيهم، بل نوصلهم حقّهم ونوفيهم ».

أقول : وإذا كان هذا حال تعصّب الذّهبي بالنسبة إلى من خالفه في العقيدة من أهل السنّة، فما ظنك بحاله بالنسبة إلى من روى منهم شيئاً في مناقب أهل البيت؟ وما ظنّك بحاله بالنسبة إلى علماء الإِماميّة؟ وما ظنّك بحاله بالنسبة إلى الأئمة من العترة الطاهرة؟

من تعصباته ضدّ أهل البيت ومناقبهم

فلقد أورد في كتابه ( ميزان الاعتدال في نقد الرجال ) الإِمام جعفراً

____________________

(١). مرآة الجنان - حوادث ٥٩٥.

١٢٧

الصّادق، والإِمام موسى الكاظم، والإِمام علي بن موسى الرضا،عليهم‌السلام ، وعدداً كبيراً من أبناء أئمّة أهل البيت وذريّة العترة الطّاهرة

بل لقد جرح الرّجل من أهل البيت لا لشيءٍ، بل لمجرّد روايته الفضيلة من فضائل جدّه أمير المؤمنينعليه‌السلام فاستمع إلى قوله:

« الحسن بن محمّد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله بن الحسين ابن زين العابدين علي ابن الشهيد الحسين العلوي، ابن أخي أبي طاهر النسّابة، عن إسحاق الدبّري، روى بقلّة حياءٍ عن الديري، عن عبد الرزاق باسنادٍ كالشمس: علي خير البشر.

وعن الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن محمّد بن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر مرفوعاً قال: علي وذريّته يختمون الأوصياء إلى يوم القيامة.

فهذان دالاّن على كذبه ورفضه، عفا الله عنه »(١) .

بل الأشنع والأفظع من هذا: ترجمته يزيد بن معاوية، من غير أن يذكر ما ارتكبه بحق سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وريحانته، الإِمام الحسين الشهيد وأهل بيتهعليهم‌السلام ، فقد أعرض عن ذلك وكأنه لم يكن. أو كأنّه من الاُمور السهلة والقضايا الجزئية التي لا تستحق الذّكر إنّه قال في كتابه ( تذهيب التهذيب ) ما نصّه:

« يزيد بن معاوية، أبو شيبة الكوفي، عن عبد الملك بن عمير، وعنه سعيد بن منصور. ذكر للتمييز.

قلت : ويزيد بن معاوية الاُموي، الذي ولي الخلافة وفعل الأفاعيل سامحه الله. وأخباره مستوفاة في تاريخ دمشق، ولا رواية له. مات في نصف ربيع الأول سنة ٦٤ وخلافته أقل من أربع سنين، وعمره ٣٩ سنة. قال نوفل بن

____________________

(١). ميزان الاعتدال في نقد الرجال ١ / ٥٢١.

١٢٨

أبي الفرات: كنت عند عمر بن عبد العزيز فذكر رجل يزيد بن معاوية فقال: قال أمير المؤمنين يزيد. قال عمر: تقول أمير المؤمنين يزيد! وأمر فضرب عشرين سوطاً. رواها يحيى بن عبد الملك بن أبي عتبة أحد الثقات عن نوفل. ذكرته للتمييز »(١) .

وأمّا طعنه في الرجال والمحدّثين الكبار من أهل السنّة بسبب رواية مناقب أهل البيتعليهم‌السلام فالشّواهد عليه كثيرة الأمر الذي جعل العلماء منهم إذا حقّق فضيلة من فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام نبّه على أنّه من أهل السنّة، وأكّد براءته من الشيعة والتشيع، لئلّا يرمى بالتشيع ويُتهم بالخروج عن طريقة أهل السنّة ونحن هنا نكتفي بذكر كلام العلّامة الشيخ محمّد معين السندي بعد إثبات عصمة أئمة أهل البيتعليهم‌السلام :

« وممّا يجب أنْ أُنبّه عليه أنّ الكلام في عصمة الأئمة إنّما جرينا فيها على ما جرى الشيخ الأكبر -قدس‌سره - فيها في المهدي رضي الله تعالى عنه، من حيث أن مقصودنا منه أن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه: « يقفو أثري، لا يخطأ » لـمّا دلّ عند الشيخ على عصمته، فحديث الثقلين يدلّ على عصمة الأئمة الطاهرين رضي الله عنهم، كما مرّ تبيانه. وليست عقدة الأنامل على أنّ العصمة الثابتة في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام توجد في غيرهم، وإنّما أعتقد في أهل الولاية قاطبةً العصمة بمعنى الحفظ وعدم صدور الذنب، لا إستحالة صدوره، والأئمة الطاهرون أقدم من الكلّ في ذلك، وبذلك يطلق عليهم الأئمة المعصومون. فمن رماني من هذا المبحث باتّباع مذهب غير السنّة ممّا يعلم الله سبحانه براءتي منه فعليه إثم فريته، والله خصيمه.

وكيف لا أخاف الاتّهام من هذا الكلام، وقد خاف شيخ أرباب السيّر في السيرة الشاميّة من الكلام على طرق حديث ردّ الشمس بدعائه صلّى الله عليه

____________________

(١). تذهيب التهذيب - مخطوط.

١٢٩

وسلّم لصلاة عليرضي‌الله‌عنه ، وتوثيق رجالها، أن يرمى بالتشيع، حيث رأى الحافظ الحسكاني في ذلك سلفاً له، ولننقل ذلك بعين كلامه. قالرحمه ‌الله تعالى لـمّا فرغ من توثيق رجال سنده: ليحذر من يقف على كلامي هذا هنا أن يظنّ بي أني أميل إلى التشيّع، والله تعالى أعلم أنّ الأمر ليس كذلك.

قال: والحامل على هذا الكلام - يعني قوله: وليحذر إلى آخره - أن الذهبي ذكر في ترجمة الحسكاني أنّه كان يميل إلى التشيّع، لأنّه أملى جزءٌ في طرق حديث ردّ الشمس. قال: وهذا الرجل - يعني الحسكاني - ترجمه تلميذه الحافظ عبد الغافر الفارسي في ذيل تاريخ نيسابور، فلم يصفه بذلك، بل أثنى عليه ثناءً حسناً، وكذلك غيره من المؤرّخين، ونسأل الله تعالى السلامة من الخوض في أعراض الناس بما لا نعلم. والله تعالى أعلم. انتهى.

أقول : وهذا الجرح في الحافظ الحسكاني إنّما نشأ من كمال صعوبة الجارح وانحرافه من مناهج العدل والإِنصاف، وإلّا فالحافظ من خدمة الحديث، بذل جهده في تصحيح الحديث وجمع طرقه وأسناده، وأثبت بذلك معجزةً من أعظم علامات النبوّة وأكملها، ممّا يقرّ بصحّته عين كلّ من يؤمن بالله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلّم. وكيف يتّهم ونسب إلى التشيّع بملابسة القضية لعليرضي‌الله‌عنه ؟ ولو صحح حافظ حديثاً متمحّضاً في فضله لا يتّهم بذلك، ولو كان كذلك لترك أحاديث أهل البيت رأساً.

ومن مثل هذه المؤاخذات الباطلة طعن كثير من المشايخ العظام.

ومولع هذا الفن الشريف إذا صحّ عنده حديث في أدنى شيء من العادات كاد أن يتّخذ لذلك طعاماً فرحاً بصحة قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنده، وأين هذا من ذاك؟ ولـمّا اطّلع هذا الفقير على صحّته كأنّه ازداد سمناً من سرور ذلك ولذّته. أقرّ الله سبحانه وتعالى عيوننا بأمثاله. والحمد لله ربّ العالمين »(١) .

____________________

(١). دراسات اللبيب في الاُسوة الحسنة بالحبيب - مبحث العصمة.

١٣٠

قوله: نقلاً عن الذهبي:

« لقد كنت زمناً طويلاً أظنّ أنّ هذا الحديث لم يحسن الحاكم أنْ يودعه في مستدركه، فلمـّا علقت هذا الكتاب رأيت القول من الموضوعات التي فيه ».

أقول:

أوّلاً :نقول ( للدهلوي ) الجسور: لقد صحّفت لفظ « لم يجسر » بلفظ « لم يحسن » فأسأت الفهم ولم تحسن النقل، وهذا دليل على طول باعك!!

وثانياً :نقول للذهبي: إن قولك: لقد كنت زمناً طويلاً اعتراف منك بأنّك قد تهت زمناً طويلاً في مهامة الجهل، ولم تقف على كتاب المستدرك السائر في البلدان والأمصار، والمتداول بين خدمة الأخبار والآثار، فلِمَ كنت مع جهلك تزعم أن إدخال حديث الطير في المستدرك جسارة، وهل هذا الزعم منك إلّا خسارة وأيّ خسارة؟! ومع ذلك: فكيف تحكم وقت التعليق بالوضع على هذا الحديث الشريف، ولا تأخذ بطرف من التحقيق، ولا تقبل قول الحاكم، ولا تحتفل بأنّه من مروّيات الأساطين وأجلّة المحدّثين؟ كيف رميت الحديث بالوضع من غير دليل، فأرديت أتباعك بالإضلال والتضليل؟ ولكن - لله الحمد - حيث أفقت من سكر التعصّب والشنآن وغلبة البغي والعدوان، فاعترفت في كتاب ( الميزان ) بالحقّ الصريح الواضح البرهان، كما اعترفت في ( تذكرة الحفّاظ ) بأنّ طرق هذا الحديث كثيرة جدّاً حتّى أفردتها بمصنف مجدّاً.

وثالثاً : نقول لأساطين العلم ومراجيح الحلم: أُنظروا بعين الإِنصاف تاركين للإِعتساف، كيف سفر الحق غاية السفور، ووضح نهاية الظهور، وبانت الطريقة الواضحة، واستنارت المحجة اللّائحة، حيث أقرّ مثل هذا الجاحد بتفريطه في أمر هذا الخبر الرفيع الأثير، وظهر صدق قوله تعالى( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ ) .

١٣١

كلامُ ( الدّهلوي ) في الحاشية

وإذْ عرفت بطلان ما قاله ( الدّهلوي ) في متن ( التحفة ) فلنبطل كلامه في الحاشية في هذا الموضع قال في الحاشية:

« قالت النواصب: لقد كذب أنس ثلاثاً في قوله لعلي: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حاجة على ما في كتاب المجالس للشيخ المفيد، فكيف يجوز قبول روايته لهذا الحديث؟ ».

وجوه الجواب عن هذا الكلام

أقول:

قبل كلّ شيء: هل هذه الشبهة التي نقلها عن النواصب صحيحة وواردة عند ( الدهلوي ) أو باطلة مردودة؟ إن قال بصحّتها فقد قلّد النّواصب وألقى بنفسه وأتباعه في دركات أسفل السّافلين، وتلك عاقبة الذين ظلموا آل محمّد ونصبوا لهم العداء إلى أبد الآبدين والمتيقّن هذا الشقّ، لأنّ نقل القول والسكوت عليه دليل التّسليم والقبول كما ذكر ( الدهلوي ) وتلميذه ( الرشيد ) ويشهد بذلك جدّه وجهده في متن ( التحفة ) لأجل ردّ حديث الطير ودعوى وضعه.

وإنْ قال ببطلانها فلما ذا ذكرها ولم يجب عنها؟

ثمّ إنّ الأصل في هذه الشبهة هو « الأعور الواسطي » فإنْ كان مراد ( الدهلوي ) من « النواصب » هو « الأعور » فمرحباً بالإِنصاف وحبّذا الأئتلاف - ولا مانع من إطلاق « النّواصب » بصيغة الجمع عليه، لشدّة عداوة « الأعور » ونصبه -.

١٣٢

وكيف كان فالشبهة - هذه - مندفعة بوجوه:

كذِبُ « أنس » موجود في روايات أهل السنّة

الأوّل : إنَّ كذب « أنس » في قصّة حديث الطير ثلاث مرّات لا اختصاص له بروايات الإِماميّة للقصة، بل موجود في روايات أهل السنّة أيضاً كما عرفت في قسم السند واعترف به ( الدهلوي ) في ( فتواه ) المذكورة سابقاً، وقد روى العيدروس اليمني قائلاً:

« روي عن أنس قال: كنت أحجب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسمعته يقول: اللّهم أطعمنا من طعام الجنّة، فأُتي بلحم طير مشوي، فوضع بين يديه فقال: اللّهم ائتنا بمن نحبه ويحبّك ويحبّ نبيّك. قال أنس: فخرجت فإذا علي بالباب، فاستأذنني فلم آذن له، ثمّ عدت فسمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل ذلك، فخرجت فإذا علي بالباب، فاستأذنني فلم آذن له - أحسب أنه قال: ثلاثاً - فدخل بغير إذن، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما الذي أبطأ بك يا علي؟ قال: يا رسول الله جئت لأدخل فحجبني أنس. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لِمَ حجبته؟ فقلت: يا رسول الله، لـمّا سمعت الدعوة أحببت أنْ يجئ رجل من قومي فتكون له. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما يضرّ الرجل محبّة قومه ما لم يبغض سواهم. أخرجه ابن عساكر »(١) .

استدلال الإِماميّة بروايته من باب الإِلزام

والثاني : إن رواية أنس مقبولة لدى أهل السنّة، واحتجاج الإِماميّة بروايته إلزاماً عليهم وإفحاماً لهم صحيح وتام ولا يضرّ بذلك كونه عندهم فاسقاً كاذباً كما هو واضح

____________________

(١). العقد النبوي والسرّ المصطفوي - مخطوط.

١٣٣

الفضل ما شهدت به الأعداء

والثالث : إنّه لا ريب في عداء أنس لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، والشواهد على ذلك عديدة، منها موقفه منهعليه‌السلام في قصة الطائر - فإذا روى شيئاً في فضله ومنقبته قُبل، لأنّ الفضل ما شهدت به الأعداء ومن الواضح أنّه لو روى هذا الحديث عمر بن الخطاب أو أبو بكر لكان اعتباره أكثر والإِعتماد عليه أشد، وكان أدخل في الإِلزام والإِفحام.

قال الشيخرحمه‌الله السندي في بيان أمارات الحديث الموضوع: « منها إقرار واضعه به، وليس هذا قبولاً لقوله مع فسقه، وإنّما هو مؤاخذة بموجب إقراره، كما يؤخذ بالإِعتراف بالزنّا أو القتل، ولذا جعل إقراره أمارة، لأنا لا نقطع على حديثه بالوضع، لاحتمال كذبه في إقراره بفسقه، نعم إذا انضم إلى إقراره قرائن تقتضي صدقه فيه قطعنا به، سيّما بعد التوبة »(١) .

رواية غير « أنس » من الصّحابة

الرابع : إنّه لم ينفرد أنس برواية هذا الحديث ليقال: كيف تعتمدون على رواية الفاسق الكاذب. بل لقد رواه جمع غيره من الصّحابة، وعلى رأسهم سيّدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام . ومن رواته منهم: ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وسفينة مولى النبيّ، وأبو الطفيل، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، وأبو مرازم يعلى بن مرّة إذن، لقد رواه غيره من الصّحابة. بل إن رواية الأمير كافية للإِحتجاج والإِستدلال وقاطعة للسان القيل والقال.

____________________

(١). مختصر تنزيه الشريعة - المقدمة.

١٣٤

كلامٌ آخر له في الحاشية

وذكر ( الدهلوي ) في الحاشية وجهاً آخر لإِبطال حديث الطّير، نتعرّض له ونجيب عنه، لئلّا يبقى شيء من ناحيته لم يتّبين فساده في هذا المقام لقد قال ( الدهلوي ) في الحاشية هنا:

« قال السيد الحميري:

وفي طائر جاءت به أُم أيمن

بيان لمن بالحقّ يرضى ويقنع.

وقال الصاحب ابن عباد:

علي له في الطير ما طار ذكره

وقامت به أعداؤه وهي تشهد

هذه الرواية تكذّبها رواية أبي علي الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن الإِمام أبي عبد اللهعليه‌السلام : إن الطير جاء به جبرئيل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كان جائعاً، ودعا الله أن يشبعه » انتهى.

وجوه الجواب عن هذا الكلام

وهذا الوجه كسابقه - وكسائر كلمات ( الدهلوي ) - مردود وبالرغم من وضوح بطلانه وسقوطه لدى أولي الألباب وأصحاب الأنظار فإنا نفصّل الكلام في ردّه وبيان وهنه في وجوه:

هذا الاعتراض يتوجه إلى روايات أهل السنّة أيضاً

الأوّل : إنّه لـمّا كان أهل السنّة يروون هذا الحديث، وينصّ كبار علمائهم على صحته أو حسنه ويجعلونه حجةً، فإنّ عليهم الجواب عن هذا الاعتراض، لأنّ الإِختلاف الذي أشار إليه ( الدهلوي ) موجود في رواياتهم،

١٣٥

ففي بعضها: أنّ الطير أرسلته أُم سليم، و في آخر: إنّه أرسلته أُم سلمة رضي الله عنها ، و في ثالث: أنّه جاءت به أُم أيمن، و في رابع: أنّه جاء من الجنّة

بل إنّ ( الدهلوي ) لـمّا ذكر الحديث قال: « كان عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طائر قد طبخ له أو أُهدي إليه ».

وبالجملة، فإنّ روايات أهل السنّة في كيفية مجيء الطائر إلى رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وحضوره عنده مختلفة وكما أنّ هذا الاختلاف غير قادح في ثبوت الحديث لدى رواته ومصححيه ومثبتيه من أهل السنّة فكذلك الإِماميّة.

مقتضى القاعدة الجمع كما في نظائر المقام

وثانياً : إنّ هذا الإِعتراض من ( الدهلوي ) يكشف عن جهله بفنون الحديث وعلومه وقواعده، هذا الجهل الذي أدّى به إلى الحكم بوضع الحديث بمجرّد اختلاف ألفاظه لكن هذا لا يختص بهذا الحديث أو ببعض الأحاديث الأخرى، فإنّ الاختلاف موجود في مئات الأخبار الحاكية للقضايا والحوادث والخصوصيّات، ولا يقول أحد ببطلان جميع تلك الأحاديث وكذب كلّ تلك الحوادث، بل يجمع بينها مهما أمكن على تعدد الواقعة وأمثال ذلك من طرق الجمع، كما عرفت سابقاً من تصريحات أساطين القوم.

وهذا الجمع المشار إليه ممكن هنا، بأن تكون الواقعة متعدّدة، فمرةً جاء جبرئيلعليه‌السلام بالطائر من الجنّة، ومرةً قدّمته أُم أيمن إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لا منافاة بين مفادي شعر الحميري ورواية الاحتجاج

وثالثاً : لا منافاة بين مجيء أُم أيمن بالطير وقت الأكل، وبين مجيء جبرئيلعليه‌السلام به، إذ من الممكن أن يكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلّمه

١٣٦

إيّاها بعد مجيء جبرئيلعليه‌السلام به، ثمّ جاءت به إليه بعد ذلك. وأمّا ما وقع في رواية المستدرك للحاكم من أن أُم أيمن لـمّا سألها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الطّير قالت: « هذا الطائر أصبته فصنعته لك » فليس بمنافٍ لما ذكرنا، لأن كلامنا مسوق للجمع بين ما ورد في طرق أهل الحقّ، لا للجمع بين ما ورد من طرق أهل الخلاف ولم يقع في روايةٍ من روايات أهل الحق أن الطائر صنعته أُم أيمن. انتهى. قاله السيد محمّد قلي طاب ثراه.

خلط وخطأ للدهلوي في المقام

ورابعاً : إنّه لا دخل لشعر الصاحب ابن عبّاد الذي ذكره بعد شعر السيد الحميري بالإِختلاف، إذ لم يتعرّض الصاحب في هذا البيت إلى كيفية مجئ الطائر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليكون مدلوله مخالفاً لشعر الحميري أو لرواية الطبرسي في الاحتجاج. ومن هنا يظهر اختلاط الأمر على ( الدّهلوي ) مع أنّه قد أدّعى متانة بحوثه في هذا الكتاب في مقابلة أهل الحقّ.

نتيجة البحث: سقوط دعوى الوضع

وقد تحصّل إلى هنا - حيث تعرضنا لِما ذكره ( الدهلوي ) في متن ( التحفة ) وحاشيتها - سقوط دعوى وضع حديث الطّير، وقد عرفت التنصيص من ابن حجر المكّي وغيره على بطلان هذه الدّعوى.

وهذا تمام الكلام مع ( الدهلوي ) في هذا المقام. والحمد لله وحده.

* * *

١٣٧

١٣٨

مع العلماء الآخرين

في أباطيلهم حول حديث الطَّير

١٣٩

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376