أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى8%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 328734 / تحميل: 11840
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

هذا خيشومه وقطع منه حيزومه وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء من دونه فهو لحلوائهم هاضم ولدينه حاطم فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء أثره وصاحب الفقه

________________________________________________________

بالحلقوم من جانب الصدر: إفساد ما هو مناط الحياة والتعيش في الدنيا أو في الدارين والخب بالكسر: الخدعة، والخبث والغش، يقال رجل خب وخب بالفتح والكسر أي خداع، والملق بالتحريك: المداهنة والملاينة باللسان والإعطاء باللسان ما ليس في القلب.

قولهعليه‌السلام على مثله: أي من يساويه في العز والمرتبة من أشباهه وهم أهل العلم وطلبته، وقوله: من دونه أي من غيره يعني من غير صنفه وجنسه، أو ممّن هو دونه، ومن هو خسيس بالنسبة إليه وهاتان الفقرتان كالتفسير والبيان لخبه وملقه.

قولهعليه‌السلام فهو لحلوانهم: في بعض النسخ بالنون وهو بضم الحاء المهملة وسكون اللام: أجرة الدلال والكاهن وما أعطي من نحو رشوة، والمراد به ههنا ما يعطيه الأغنياء فكأنه أجرة لما يفعله بالنسبة إليه أو رشوة على ما يتوقع منه بالنسبة إليهم، وفي بعض النسخ لحلوائهم بالهمزة أي لأطعمتهم اللذيذة، والحطم: الكسر المؤدي إلى الفساد، يعني يأكل من مطعوماتهم ويعطيهم من دينه فوق ما يأخذ من مالهم، فلا جرم يحطم دينه ويهدم إيمانه ويقينه.

قولهعليه‌السلام خبره: بضم الخاء أي علمه، أو بالتحريك دعاء عليه بالاستيصال والفناء بحيث لا يبقى له خبر بين الناس، والأثر بالتحريك ما يبقى في الأرض عند المشي وقطع الأثر إمّا دعاء عليه بالزمانة كما ذكره الجزري، أو بالموت فإن أثر المشي من لوازم الحياة، أو المراد به ما يبقى من آثار علمه بين الناس، فلا يذكر به والأوسط أظهر، والكآبة بالتحريك والمد وبالتسكين: سوء الحال والانكسار من شدة الهم

١٦١

والعقل ذو كآبة وحزن وسهر قد تحنك في برنسه وقام الليل في حندسه يعمل ويخشى وجلا داعياً مشفقاً مقبلا على شأنه عارفا بأهل زمانه مستوحشا من أوثق إخوانه فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه.

وحدثني به محمّد بن محمود أبو عبد الله القزويني، عن عدة من أصحابنا منهم جعفر بن محمّد الصيقل بقزوين، عن أحمد بن عيسى العلوي، عن عباد بن صهيب البصري

________________________________________________________

والحزن، والمراد بها ههنا الحزن على فوت الفائت، أو عدم حصول ما هو متوقع له من الدرجات العالية، والسعادات الأخروية.

قولهعليه‌السلام قد تحنك في برنسه: وفي الكتابين قد انحنى في برنسه والبرنس بضم الباء وسكون الراء والنون المضمومة: قلنسوة طويلة كان يلبسها النساك والعباد في صدر الإسلام، وعلى نسخة الكتاب يومئ إلى استحباب التحنك للصلاة، والحندس بالحاء المهملة المكسورة والنون الساكنة والدال المكسورة: الليل المظلم أو ظلمة الليل، وقوله: في حندسه بدل من الليل، ويحتمل أن يكون « في » بمعنى « مع » ويكون حالا من الليل والضمير راجع إلى الليل، وعلى الأول يحتمل إرجاعه إلى العالم.

قولهعليه‌السلام ويخشى: أي من لا يقبل منه وجلا أي خائفا من سوء عقابه داعياً إلى الله طالباً منه سبحانه التوفيق للهدي والثبات على الإيمان والتقوى، مشفقاً من الانتهاء إلى الضلال أو مشفقاً على الناس، متعطفا عليهم بهدايتهم والدعاء لهم، « مقبلا على شأنه » أي على إصلاح نفسه، وتهذيب باطنه « عارفا بأهل زمانه » فلا ينخدع منه « مستوحشا من أوثق إخوانه » لما يعرفه من أهل زمانه.

قولهعليه‌السلام : فشد الله من هذا أركانه، أي أعضائه وجوارحه أو الأعم منها ومن عقله ودينه وأركان إيمانه، والفرق بين الصنفين الأوّلين إمّا بأن الأول غرضه الجاه والتفوق بالعلم، والثاني غرضه المال والترفع به أو بأن الأول غرضه إظهار الفضل

١٦٢

عن أبي عبد اللهعليه‌السلام .

٦ - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمّد بن يحيى، عن طلحة بن زيد قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول إن رواة الكتاب كثير وإن رعاته قليل وكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب فالعلماء يحزنهم ترك الرعاية والجهال يحزنهم

________________________________________________________

على العوام، وإقبالهم إليه، والثاني مقصوده قرب السلاطين والظلمة والتسلط على الناس بالمناصب الدنيوية.

الحديث السادس ضعيف.

قولهعليه‌السلام إن رواة الكتاب: يحتمل أن يكون المراد بالكتاب القرآن في الموضعين، فالمعنى أن الحافظين للقرآن بتصحيح ألفاظه وتجويد قراءته وصون حروفه عن اللحن والغلط كثير، ورعاته بتفهمه وتدبّر معانيه واستعلام ما أريد به من أهله، ثمّ استعمال ذلك كله على ما يقتضيه قليل « وكم من مستنصح للحديث » برعاية فهم معانيه، والتدبّر فيه، والعمل بما يقتضيه « مستغش للقرآن » بعدم رعاية موافقة الحديث له، وتطبيقه عليه، ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب ما يشمل الحديث أيضا، فالمراد بمستنصح الحديث من يراعي لفظه وبمستغش الكتاب من لا يتدبّر في الحديث ولا يعمل بمقتضاه، فيكون من قبيل وضع المظهر موضع المضمر، والأول أظهر يقال: استنصحه أي عده نصيحا خالصاً عن الغش واستغشه أي عده غاشا غير ناصح، فمن عمل بالحديث وترك القرآن فكأنه عد الحديث ناصحه، والقرآن غاشا له.

قولهعليه‌السلام فالعلماء يحزنهم ترك الرعاية: يعني أن العلماء العاملين يحزنهم ترك رعاية الكتاب والحديث، والتفكّر فيهما والعمل بهما، لما يعلمون في تركهما من سوء العقاب عاجلا وآجلا والجهال يهمهم حفظ روايته ويغمهم عدم قدرتهم عليه، لما يزعمونه كمالا وفوزا، ويمكن تقدير مضاف أي يحزنهم ترك حفظ الرواية، وقيل: المراد حفظ الرواية فقط، أي يصير ذلك سبب حزنهم في الآخرة، ومنهم من

١٦٣

حفظ الرواية فراع يرعى حياته وراع يرعى هلكته فعند ذلك اختلف الراعيان

________________________________________________________

قرأها يخزيهم من الخزي أي يصير هذا العلم سبباً لخزيهم في الدارين، وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالعلماء أهل بيت النبوة سلام الله عليهم، ومن يحذو حذوهم ممّن تعلم منهم، ويكون المراد أنهمعليه‌السلام يحزنهم ترك رعاية القرآن من التاركين لها، الحافظين للحروف فإنهم لو رعوه لاهتدوا به، وأقروا بالحق، والجهال وهم الّذين لم ينتفعوا من القرآن بشيء لا رواية ولا دراية ويحزنهم حفظ الرواية من الحافظين لها التاركين للرعاية لما رأوا أنفسهم قاصرين عن رتبة أولئك، ويحسبون أنهم على شيء وأنهم مهتدون، فتغبطهم نفوسهم، ويؤيد هذا المعنى ما يأتي في الروضة من قول أبي جعفرعليه‌السلام في رسالته إلى سعد الخير، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية، فإن في قولهعليه‌السلام : يعجبهم هناك بدل يحزنهم هنا، دلالة على ما قلنا، ويحتمل أن يكون المراد بالجهال هناك الحافظين للحروف فإنهم جهال في الحقيقة، ولا يجوز إرادته هيهنا لأنّه لا يلائم الحزن « انتهى » والأظهر أن المراد بالعلماء الّذين يستحقون هذا الاسم على الحقيقة، وهم الّذين يتعلمون لوجه الله تعالى ويعملون به، وبالجهال الّذين يطلبون العلم للأغراض الدنية الدنيوية ولا يعملون به، كما مر بيان حالهم، فالعلماء الربانيون يحزنون إذا فاتهم رعاية الكتاب والعمل به لفوت مقصودهم، وغيرهم من علماء السوء لا يحزنون بترك الرعاية، إذ مقصودهم حفظ الرواية فقط، وقد تيسر لهم، لكن ذلك يصير سبباً لحزنهم في الدنيا لأنّ الله تعالى يذلهم ويسلب عنهم علمهم، ويكلهم إلى أنفسهم، وفي الآخرة للحسرات الّتي تلحقهم لفوت ما هو ثمرة العلم والمقصود منه.

والحاصل أن مطلوب العلماء ما هو تركه يوجب حزنهم ومطلوب الجهال ما هو فعله يورث حزنهم وخزيهم، ولا يبعد أن يكون الترك في قوله ترك الرعاية زيد من النساخ، فتكون الفقرتان على نسق واحد، ويؤيده ما رواه ابن إدريس في كتاب

١٦٤

وتغاير الفريقان.

٧ - الحسين بن محمّد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن محمّد بن جمهور، عن عبد الرحمن بن أبي نجران عمن ذكره، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال من حفظ من أحاديثنا أربعين حديثاً بعثه الله يوم القيامة عالماً فقيها

________________________________________________________

السرائر مما استطرفه من كتاب أنس العالم للصفواني عن طلحة بن زيد قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : رواة الكتاب كثير، ورعاته قليل، فكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب، والعلماء يحزنهم الدراية، والجهال يحزنهم الرواية.

قولهعليه‌السلام فراع يرعى حياته: أي حياة نفسه أبداً ونجاته من المهالك وهو الّذي يراعي الكتاب ويطلب علمه لله ويعمل به، وراع يرعى هلكته بالتحريك أي هلاك نفسه وعقابه الأخروي، وهو الّذي ليس مقصوده إلا حفظ لفظ القرآن والحديث وروايتهما من غير تدبّر في معانيهما، أو عمل بهما، وأمّا قوله: فعند ذلك أي عند النظر إلى قلوبهم وضمائرهم، والاطلاع على نياتهم وسرائرهم كما قيل، أو عند ظهور الحياة والهلاك في الآخرة اختلف الراعيان أي راع الحياة وراعي الهلكة، أو راعي اللفظ وراعي العمل [ به ] وتغاير الفريقان بعد أن كانا متحدين بحسب الظاهر أو في الدنيا ممدوحين عند جهال الناس.

الحديث السابع ضعيف.

قولهعليه‌السلام أربعين حديثا: هذا المضمون مشهور مستفيض بين الخاصة والعامة بل قيل: إنه متواتر، واختلف فيما أريد بالحفظ، فقيل: المراد الحفظ عن ظهر القلب فإنه هو المتعارف المعهود في الصدر السالف، فإن مدارهم كان على النقش على الخواطر لا على الرسم في الدفاتر، حتّى منع بعضهم من الاحتجاج بما لم يحفظه الراوي عن ظهر القلب، وقد قيل: إن تدوين الحديث من المستحدثات في المائة الثانية من الهجرة، وقيل: المراد الحراسة عن الاندراس بما يعم الحفظ عن ظهر القلب والكتابة والنقل بين الناس ولو من كتاب وأمثال ذلك، وقيل: المراد تحمله

١٦٥

________________________________________________________

على أحد الوجوه المقررة الّتي سيأتي ذكرها في باب رواية الكتب، والحق أن للحفظ مراتب يختلف الثواب بحسبها، فأحدها: حفظ لفظها، سواء كان في الخواطر أو في الدفاتر، وتصحيحه واستجازتها وإجازتها وروايتها، وثانيها: حفظ معانيها والتفكّر في دقائقها واستنباط الحكم والمعارف منها، وثالثها: حفظها بالعمل بها والاعتناء بشأنها والاتعاظ بمودعها، ويومئ إليه بعض الأخبار، وفي بعض الروايات هكذا: من حفظ على أمتي أربعين حديثا، فالظاهر أن على بمعنى اللام أي حفظ لأجلهم كما قالوه في قوله تعالى( وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ ) (١) أي لأجل هدايته إياكم، ويحتمل أن يكون بمعنى « من » كما قيل في قوله تعالى( إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ) (٢) ويؤيده روايات، ويحتمل تضمين معنى الاشتقاق أو العطف أو التحنن أو أضرابها.

والحديث في اللغة يرادف الكلام، سمي به لأنّه يحدث شيئاً فشيئاً، وفي اصطلاح عامة المحدثين كلام خاص منقول عن النبي أو الإمام أو الصحابي أو التابعي أو من من يحذو حذوه، يحكى قولهم أو فعلهم أو تقريرهم، وعند أكثر محدثي الإمامية لا يطلق اسم الحديث إلا على ما كان عن المعصومعليه‌السلام ، وظاهر أكثر الأخبار تخصيص الأربعين بما يتعلّق بأمور الدين من أصول العقائد والعبادات القلبية والبدنية، لا ما يعمها وسائر المسائل من المعاملات والأحكام، بل يظهر من بعضها كون تلك الأربعين جامعة لأمهات العقائد والعبادات والخصال الكريمة، والأفعال الحسنة، وعلى التقادير فالمراد ببعثه فقيها عالماً أن يوفقه الله لأنّ يصير من الفقهاء العالمين العاملين، أو المراد بعثه في القيامة في زمرتهم لتشبهه بهم، وإن لم يكن منهم، وعلى بعض المحتملات الأول أظهر، وعلى بعضها الثاني كما لا يخفى.

ثم اعلم أن الفقيه يطلق غالباً في الأخبار على العالم العامل الخبير بعيوب النفس وآفاتها، التارك للدنيا، الزاهد فيها، الراغب إلى ما عنده تعالى من نعيمه وقربه ووصاله واستدل بعض الأفاضل بهذا الخبر على حجية خبر الواحد وتوجيهه ظاهر.

__________________

(١) سورة البقرة: ١٨٥.

(٢) سورة المطففين: ٢.

١٦٦

٨ - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه عمن ذكره، عن زيد الشحام، عن أبي جعفرعليه‌السلام في قول الله عز وجل -( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ) (١) قال قلت ما طعامه قال علمه الّذي يأخذه عمن يأخذه.

________________________________________________________

الحديث الثامن مرسل.

قوله تعالى( إِلى طَعامِهِ ) (٢) بعدها قوله تعالى:( أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً، وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ) (٣) .

قولهعليه‌السلام علمه: أقول هذا بطن الآية ولا ينافي كون المراد من ظهرها طعام البدن، فإنه لما كان ظاهراً لم يتعرض له، وكما أن البدن محتاج إلى الطعام والشراب لبقائه وقوامه واستمرار حياته كذلك الروح يحتاج في حياته المعنوي بالإيمان إلى العلم والمعارف والأعمال الصالحة ليحيي حياة طيبة ويكون داخلا في قوله تعالى( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ) ولا يكون من الّذين وصفهم الله تعالى في كلامه العزيز في مواضع شتى بأنهم موتي، ثمّ إنّ الغذاء الجسماني لما كان وجوده ونموه بنزول المطر من السماء إلى الأراضي القابلة لتنشق وتنبت منها أنواع الحبوب والثمار، وألوان الأزهار والأنوار والأشجار والحشائش، فيتمتع بها الناس والأنعام فكذلك الغذاء الروحاني يعني العلم الحقيقي إنما يحصل بأن تفيض أمطار العلم والحكمة من سماء الرحمة - وهو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث سماه الله تعالى سماء وأقسم به في مواضع من القرآن، وبه فسر قوله تعالى( وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ) وفسر البروج بالأئمّةعليه‌السلام على أراضي القلوب القابلة للعلم والحكمة، فينبت الله تعالى فيها أنواع ثمرات العلم والحكمة أو على قلوب الأئمّةعليه‌السلام ، فإنهم شجرة النبوة ليثمروا أنواع ثمرات العلم والحكمة

__________________

(١) سورة عبس: ٢٤.

(٢) سورة الأنعام: ١٢٢.

(٣) سورة البروج: ١.

١٦٧

٩ - محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن داود بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة وتركك حديثاً لم تروه خير من روايتك حديثاً لم تحصه.

________________________________________________________

ليغتذي بها أرواح القابلين للتربية وينتفع بها غيرهم أيضاً من الّذين كالأنعام بل هم أضل سبيلا، فإنهم أيضاً ينتفعون بالعلوم الحقة وإن كان في دنياهم، كما قال تعالى( مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ) والحاصل على الوجهين أنه ينبغي له أن يأخذ علمه عن أهل بيت النبوة الّذين هم مهابط الوحي، وينابيع الحكمة الآخذين علومهم من رب العزة حتّى يصلح أن يصير غذاء لروحه ويحييه حياة طيبة.

الحديث التاسع ضعيف.

قولهعليه‌السلام الوقوف عند الشبهة: أي التثبت عند اشتباه الحكم وعدم وضوحه وترك الحكم والفتوى خير من أن يلقي نفسه فجأه في الهلكة، وهي بالتحريك الهلاك

قولهعليه‌السلام لم تروه: صفة لقوله حديثاً كنظيره أو حال وهو إمّا على المجهول من باب الأفعال أو التفعيل أي لم تحمل على روايته، يقال: رويته الشعر أي حملته على روايته، وأرويته أيضا، ويمكن أن يقرأ على المعلوم من أحد البابين أي لم تحمل من تروي له على روايته، أو على بناء المجرد أي تركك حديثاً لم تكن راوياً له على حاله فلا ترويه خير من روايتك حديثاً لم تحصه، والإحصاء لغة العد، ولما كان عد الشيء يلزمه الاطلاع على واحد واحد مما فيه، استعمل في الاطلاع على جميع ما في شيء والإحاطة العلمية التامة بما فيه فإحصاء الحديث عبارة عن العلم بجميع أحواله متنا وسنداً وانتهاء إلى المأخذ الشرعي، وقوله: حديثاً لم تحصه، إظهار في موضع الإضمار، لكثرة الاعتناء بشأنه لأنّه عبارة أخرى عن معنى قوله: حديثاً لم تروه.

١٦٨

١٠ - محمد، عن أحمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن حمزة بن الطيار أنه عرض على أبي عبد اللهعليه‌السلام بعض خطب أبيه حتّى إذا بلغ موضعاً منها قال له كف واسكت ثمّ قال أبو عبد اللهعليه‌السلام لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحقّ قال الله تعالى( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١) .

١١ - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن سفيان بن عيينة قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول وجدت علم الناس كله في أربع أولها

________________________________________________________

الحديث العاشر: حسن أو موثق.

قولهعليه‌السلام كف واسكت: الأمر بالكف عند بلوغ ذلك الموضع إمّا لأنّ من عرض الخطبة فسر هذا الموضع برأيه وأخطأ أو لأنّه كان في هذا الموضع غموض ولم يتثبت عنده القاري، ولم يطلب تفسيره منهعليه‌السلام ، أو لأنّهعليه‌السلام أراد إنشاء ما أفاد وبيان ما أراد لشدة الاهتمام به، فأمره بالكف، ويحتمل أن يكون شرحا وبيانا لهذا الموضع من الخطبة، والقصد استقامة الطريق أو الوسط بين الطرفين وهو العدل والطريق المستقيم ويحتمل على بعد أن يكون المراد بالقصد مقصود القائل.

قولهعليه‌السلام ويجلوا: أي يذهبوا عنكم فيه العمى أي عمى القلب، والجهالة والضلالة.

الحديث الحادي عشر: ضعيف.

قولهعليه‌السلام في أربع: أي ما يحتاج الناس إلى معرفته من العلوم منحصر في أربع، وتأنيث الأربع باعتبار المعرفة المفهومة من قولهعليه‌السلام : أن تعرف في المواضع الآتية، وتذكير الأول وأخواتها باعتبار العلم، أو المراد أوّل أقسامها. أولها: أن تعرف ربك، بوجوده وصفاته الكمالية الذاتية والفعلية بحسب طاقتك، وثانيها: معرفتك بما صنع بك من إعطاء العقل والحواس والقدرة، واللطف بإرسال الرسل وإنزال الكتب

__________________

(١) سورة الأنبياء: ٧.

١٦٩

أن تعرف ربك والثاني أن تعرف ما صنع بك والثالث أن تعرف ما أراد منك والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك.

١٢ - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام ما حق الله على خلقه فقال أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عمّا لا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى الله حقه.

١٣ - محمّد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن ابن سنان، عن محمّد بن مروان العجلي، عن علي بن حنظلة قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنا.

________________________________________________________

وسائر نعمه العظام، وثالثها: معرفتك بما أراد منك وطلب فعله، أو الكف عنه وبما أراد من طريق معرفته وأخذه من مأخذه المعلومة بالعقل والنقل، ورابعها: أن تعرف ما يخرجك من دينك كاتباع أئمّة الضلال، والأخذ من غير المأخذ، وإنكار ضروري الدين، ويدخل في هذا القسم معرفة سائر أصول الدين سوى معرفة الله تعالى فإنها من ضروريات الدين، والإعدام إنما تعرف بملكاتها، وإن أمكن إدخالها في الأول لأنها من توابع معرفة الله وشرائطه، ولذا وصف تاركها في الآيات والأخبار بالمشرك، فعلى هذا يمكن أن يكون المراد بالرابع المعاصي، ويكون الثالث مقصوراً على الطاعات.

الحديث الثاني عشر حسن.

قولهعليه‌السلام أن تقولوا: يمكن تعميم القول بحيث يشمل اللساني والقلبي، « فقد أدوا إلى الله حقه » اللازم عليهم في بيان العلم وتعليمه، ومنهم من عمم وقال: لأنّه إذا قال ما علمه قولا يدل على إقراره ولا يكذبه بفعله وكف عمّا لا يعلمه هداه الله إلى علم ما بعده، وهكذا حتّى يؤدي إلى أداء حقوقه.

الحديث الثالث عشر ضعيف.

قولهعليه‌السلام على قدر رواياتهم(١) عنا: أي كيفا أو كما أو الأعم منهما وهو أظهر

__________________

(١) كذا في النسخ وفي المتن « روايتهم ».

١٧٠

١٤ - الحسين بن الحسن، عن محمّد بن زكريا الغلابي، عن ابن عائشة البصري رفعه أن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال في بعض خطبه أيها الناس اعلموا أنه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه ولا بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه الناس

________________________________________________________

وهذا طريق إلى معرفة الرجال غير ما ذكره أرباب الرجال، وهو أقوى وأنفع في هذا الباب فإن بعض الرواة نرى أخبارهم مضبوطة ليس فيها تشويش كزرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهما وبعضهم ليسوا كذلك كعمار الساباطي، وكذا نرى بعض الأصحاب أخبارهم خالية عن التقية كعلي بن جعفر، وبعضهم أكثرها محمولة على التقية كالسكوني وأضرابه، وكذا نرى بعض الأصحاب رووا مطالب عالية ومسائل غامضة وأسرار كثيرة كهشام بن الحكم ومفضل بن عمر، ولم نر في أخبار غيرهم ذلك، وبعضهم رووا أخباراً كثيرة، وذلك يدل على شدة اعتنائهم بأمور الدين، وبعضهم ليسوا كذلك وكل ذلك من مرجحات الرواة ويظهر الجميع بالتتبع التام فيها.

الحديث الرابع عشر مرسل والغلابي بالغين المعجمة والباء الموحدة، نسبة إلى غلاب لأنّه كان مولى بني غلاب وهم قبيلة بالبصرة.

قولهعليه‌السلام من انزعج: قال الجوهري أزعجه أي أقلعه من مكانه فانزعج « انتهى » أي أن العاقل لا يضطرب ولا ينقلع من مكانه بسبب سماع قول الزور والكذب والبهتان فيه، لأنّه لا يضره بل ينفعه والحكيم لا يرضى بثناء الجاهل بحاله، ومعائبه عليه، لأنّه لا ينفعه بل يضره، وقيل: لأنّ الحكيم عارف بأسباب الأشياء ومسبباتها، وأن التخالف يوجب التنافر، وأن الجاهل لا يميل إلا إلى مشاكلة فلا يثني إلا على الجاهل، أو من يعتقد جهله أو مناسبته له، أو يستهزئ به باعتقاده أو من يريد أن يخدعه، والحكيم لا يرضى بشيء من ذلك، ويمكن تفسيره بوجه آخر وهو أنه لما كان الجاهل عاجزا عن حق إدراك العلم والحكمة والصفات الكمالية الّتي يتصف الحكيم بها بل كلّ ما يتصوره من تلك الكمالات، فإنما يتصوره على وجه هو في الواقع منقصة، فثناؤه عليه إنما هو بالمعاني المذمومة الّتي تصورها من تلك الكمالات، فبالحقيقة مدحه

١٧١

أبناء ما يحسنون وقدر كلّ امرئ ما يحسن فتكلموا في العلم تبين أقداركم.

١٥ - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن عبد الله بن سليمان قال سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول وعنده رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعمى وهو يقول إنّ الحسن البصري يزعم أن الّذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار فقال أبو جعفرعليه‌السلام فهلك إذن مؤمن آل فرعون

________________________________________________________

ذم وثناؤه هجاء، فلذا قال العارفون بجنابة سبحانه: لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك فإنهم لا يقصدون من الأسماء الّتي يطلقونه عليه تعالى ما فهموه منها، بل يقصدون المعاني الّتي أراده تعالى وهم عاجزون عن فهمها.

قولهعليه‌السلام أبناء ما يحسنون: من الإحسان بمعنى العلم، يقال أحسن الشيء أي تعلمه فعلمه حسنا، وقيل: ما يحسنون أي ما يأتون به حسنا من العلم والعمل والأول أظهر، والمعنى أنه ليس شرف المرء وافتخاره بأبيه وأمه بل بعلمه، أو المراد أنهم إن كانوا يعلمون علم الآخرة فهم أبناء الآخرة، وإن كانوا يعلمون علم الدنيا فهم أبناؤها، أو المراد أنه كما أن نظام حال الابن وصلاحه بالأب كذا نظام حال الناس وصلاحهم بما يعلمونه، وقولهعليه‌السلام : وقدر كلّ امرء ما يحسن، أي مرتبته في العز والشرف بقدر ما يعلمه.

الحديث الخامس عشر ضعيف.

قولهعليه‌السلام فهلك أذن: أي إن كان الكتمان مذموما يكون مؤمن آل فرعون هالكاً حيث قال تعالى فيه( وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ ) (١) ولما كان غرض الحسن إظهار أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عنده علم سوى ما في أيدي الناس وتكذيبهمعليهم‌السلام فيما يدعون أن عندهم من علوم النبي وإسراره ما ليس في أيدي الناس، وأنهم يظهرون من ذلك ما يشاءون ويكتمون ما يشاءون للتقية وغيرها من المصالح، أبطلعليه‌السلام قوله بأن الكتمان عند التقية أو الحكمة المقتضية له طريقة مستمرة من

__________________

(١) سورة غافر: ٢٨.

١٧٢

ما زال العلم مكتوما منذ بعث الله نوحاعليه‌السلام فليذهب الحسن يمينا وشمالاً فو الله ما يوجد العلم إلا هاهنا.

باب رواية الكتب والحديث

وفضل الكتابة والتمسك بالكتب

١ - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام قول الله جل ثناؤه -( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (١) قال هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه لا يزيد فيه ولا ينقص منه.

________________________________________________________

زمن نوحعليه‌السلام إلى الآن، فليذهب الحسن الّذي يزعم انحصار العلم فيما في أيدي الناس يمينا وشمالاً أي إلى كلّ جهة وجانب ليطلبه من الناس، فإنه لا يوجد عندهم أكثر المعارف والشرائع.

قولهعليه‌السلام إلا هيهنا، لعله أشار إلى صدره الشريف أو إلى مكانه المنيف أو إلى بيت النبوة والخلافة.

باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب

الحديث الأول موثق.

قولهعليه‌السلام فيحدث به كما سمعه، لعلهعليه‌السلام جعل الأحسن مكان المفعول المطلق والضمير راجع إلى الأتباع كما أومأنا إليه في حديث هشام، فالمعنى أن أحسن الاتباع أن يرويه كما سمعه بلا زيادة ونقصان ويومئ إلى جواز النقل بالمعنى بمقتضى صيغة التفضيل، وعلى ما ذكرنا سابقاً من التفسير المشهور يكون تفسير المعنى الاتباع أي اتباع الأحسن لا يكون إلا بأن يتبعه قولا وفعلا من غير زيادة ونقص، ويؤيد الأخير قوله تعالى( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) (٢) .

__________________

(١) سورة الزمر: ١٨.

(٢) سورة الزمر: ٥٥.

١٧٣

٢ - محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن محمّد بن مسلم قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص قال إن كنت تريد معانيه فلا بأس.

________________________________________________________

الحديث الثاني صحيح.

قولهعليه‌السلام إن كنت تريد معانيه: أي إن كنت تقصد حفظ معانيه فلا تختل بالزيادة والنقصان، فلا بأس بأن تزيد وتنقص في العبارة، وقيل: إن كنت تقصد وتطلب بالزيادة والنقصان إفادة معانيه فلا بأس، وعلى التقديرين يدل على جواز نقل الحديث بالمعنى، وتفصيل القول في ذلك أنه إذا لم يكن المحدث عالماً بحقائق الألفاظ ومجازاتها ومنطوقها ومفهومها ومقاصدها لم تجز له الرواية، وأمّا إذا كان ألما بذلك فقد قال طائفة من العلماء لا تجوز إلا باللفظ أيضا، وجوز بعضهم في غير حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط، قال: لأنّه أفسح من نطق بالضاد، وفي تراكيبه أسرار ودقائق لا يوقف عليها إلا بها كما هي، لأنّ لكل تركيب معنى بحسب الوصل والفصل والتقديم والتأخير وغير ذلك لو لم يراع ذلك لذهبت مقاصدها، بل لكل كلمة مع صاحبتها خاصية مستقلة كالتخصيص والاهتمام وغيرهما، وكذا الألفاظ المشتركة والمترادفة، ولو وضع كلّ موضع الآخر لفات المعنى المقصود، ومن ثمّ قال النبي صلى الله وعليه وآله نصر الله عبداً سمع مقالتي وحفظها ووهاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وكفى هذا الحديث شاهداً بصدق ذلك، وأكثر الأصحاب جوزوا ذلك مطلقاً مع حصول الشرائط المذكورة، وقالوا: كلما ذكرتم خارج عن موضوع البحث لأنا إنما جوزنا لمن يفهم الألفاظ، ويعرف خواصها ومقاصدها، ويعلم عدم اختلال المراد بها فيما أداه، وقد ذهب جمهور السلف والخلف من الطوائف كلها، إلى جواز الرواية بالمعنى إذا قطع بأداء المعنى بعينه، لأنّه من المعلوم أن الصحابة وأصحاب الأئمّةعليه‌السلام لم يكونوا يكتبون الأحاديث

١٧٤

٣ - وعنه، عن محمّد بن الحسين، عن ابن سنان، عن داود بن فرقد قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام إني أسمع الكلام منك فأريد أن أرويه كما سمعته منك فلا يجيء قال فتعمد ذلك قلت لا فقال تريد المعاني قلت نعم قال فلا بأس.

________________________________________________________

عند سماعها، ويبعد بل يستحيل عادة حفظهم جميع الألفاظ على ما هي عليه، وقد سمعوها مرة واحدة خصوصاً في الأحاديث الطويلة مع تطاول الأزمنة، ولهذا كثيراً ما يروى عنهم المعنى الواحد بألفاظ مختلفة، ولم ينكر ذلك عليهم، ولا يبقى لمن تتبع الأخبار في هذا شبهة، نعم لا مرية في أن روايته بلفظه أولى على كلّ حال، لا سيما في هذه الأزمان لبعد العهد وفوت القرائن وتغير المصطلحات، وبالغ بعضهم فقال: لا يجوز تغيير « قال النبي » إلى « قال رسول الله » ولا عكسه وهو عنت بين بغير ثمرة، وقال بعض الأفاضل: نقل المعنى إنما جوزوه في غير المصنفات، أمّا المصنفات فقد قال أكثر الأصحاب لا يجوز حكايتها ونقلها بالمعنى، ولا تغيير شيء منها على ما هو المتعارف وهو أحوط.

الحديث الثالث ضعيف على المشهور.

قولهعليه‌السلام فتعمد ذلك: بالتائين وفي بعض النسخ بحذف إحداهما للتخفيف والتعمد القصد يقال تعمدت الشيء أي قصدته، يعني أتتعمد ترك حفظ الألفاظ وعدم المبالاة بضبطها، أو أنت نسي يقع ذلك منك بغير تقصير، أو المعنى أفتقصد وتريد أن ترويه كيف ما يجيء زائداً على إفادة المعنى المقصود أو ناقصاً عنه « قال: تريد المعاني » أي أتريد رواية المعاني ونقلها بألفاظ غير مسموعة وعبارات مفيدة من غير زيادة ونقصان فيها، ويمكن أن يقال: لما كان قول السائل يحتمل وجهين أحدهما عدم المجيء أصلاً، والآخر عدمه بسهولة استفهمعليه‌السلام وقال: أفتقصد عدم المجيء وتريده عمداً وتترك اللفظ المسموع لأجل الصعوبة فأجاب السائل بأن المراد الأمر الأول، وما في بعض النسخ من قوله: فتعمد بالتاء الواحدة قيل: يجوز أن يكون من المجرد يقال: عمدت الشيء فانعمد، أي أقمته بعماد معتمد عليه، أو من باب الأفعال يقال أعمدته أي جعلت تحته عماداً، والمعنى في الصورتين أفتضم إليه شيئاً من عندك تقيمه وتصلحه به، كما يقام الشيء بعماد يعتمد عليه.

١٧٥

٤ - وعنه، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام الحديث أسمعه منك أرويه عن أبيك أو أسمعه من أبيك أرويه عنك قال سواء إلا أنك ترويه عن أبي أحب إلي وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام لجميل ما سمعت مني فاروه عن أبي.

٥ - وعنه، عن أحمد بن محمّد ومحمد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن عبد الله

________________________________________________________

الحديث الرابع ضعيف.

قوله: وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام أمّا كلام أبي بصير أو خبر آخر مرسل.

قولهعليه‌السلام : سواء: لأنّ علومهم كلهم من معدن واحد، بل كلهم من نور واحد، كما سيأتي، وأمّا أحبية الرواية عن الأب فلعله للتقية، فإن ذلك أبعد من الشهرة والإنكار، وأيضا فإن قول الماضي أقرب إلى القبول من قول الشاهد عند الجماهير، لأنّه أبعد من أن يحسد ويبغض، وقيل فيه وجه آخر، وهو أن علو السند وقرب الإسناد من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما له رجحان عند الناس في قبول الرواية، خصوصاً فيما يختلف فيه الأحكام، وفيه وجه آخر وهو أن من الواقفية من توقف على الأب فلا يكون قول الابن حجة عليه فيما يناقض رأيه، بخلاف العكس إذ القائل بإمامة الابن قائل بإمامة الأب من دون العكس كليا، ووجه رابع أيضاً وهو التحرز عن إيهام الكذب فيما إذا سمع من الأب من سماعه بخصوصه من الابن، وذلك لأنّ كلّ مقول لأبي عبد اللهعليه‌السلام مقول لأبيه لفظا، فهو مسموع من أبيه ولو بالواسطة بخلاف العكس، لأنّه يجوز عدم تلفظه ببعض ما سمعه من أبيه بعد، وإن كان موافقاً لعلمه واعتقاده، قيل: ويحتمل تعلّقه بالأخيرة فقط، أي رواية المسموع من أبي عنه أحب إلى من روايته عني للوجوه المذكورة لا سيما الرابع، وقوله: ترويه مبتدأ بتقدير أن كقولك: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.

الحديث الخامس صحيح، ويدل على جواز تحمل الحديث بالإجازة وحمل الأصحاب قراءة الأحاديث الثلاثة على الاستحباب، والأحوط العمل به، ولنذكر ما به

١٧٦

ابن سنان قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام يجيئني القوم فيستمعون مني حديثكم فأضجر

________________________________________________________

يتحقق تحمل الرواية والطرق الّتي تجوز بها رواية الأخبار.

اعلم أن لأخذ الحديث طرقاً أعلاها سماع الراوي لفظ الشيخ، أو إسماع الراوي لفظه إياه بقراءة الحديث عليه، ويدخل فيه سماعه مع قراءة غيره على الشيخ، ويسمى الأول بالإملاء والثاني بالعرض، وقد يقيد الإملاء بما إذا كتب الراوي ما يسمع من شيخه، وفي ترجيح أحدهما على الآخر والتسوية بينهما أوجه، ومما يستدل به على ترجيح السماع من الشيخ على إسماعه هذا الخبر، فلو لا ترجيح قراءة الشيخ على قراءة الراوي لأمره بترك القراءة عند التضجر، وقراءة الراوي مع سماعه إياه، ولا خلاف في أنه يجوز للسامع أن يقول في الأول حدثنا وأنبأنا، وسمعته يقول، وقال لنا، وذكر لنا، هذا كان في الصدر الأول ثمّ شاع تخصيص أخبرنا بالقراءة على الشيخ، وأنبأنا ونبأنا بالإجازة، وفي الثاني مشهور جواز قول أخبرني وحدثني مقيدين بالقراءة على الشيخ، وما ينقل عن السيد ممّن منعه مقيداً أيضاً بعيد، واختلف في الإطلاق فجوزه بعضهم ومنعه آخرون، وفصل ثالث فجوز أخبرني ومنع حدثني، واستند إلى أن الشائع في استعمال أخبرني هو قراءته على الشيخ، وفي استعمال حدثني هو سماعه عنه، وفي كون الشياع دليلاً على المنع من غير شائع نظر.

ثم إن صيغة حدثني وشبهها فيما يكون الراوي متفرداً في المجلس، وحدثنا وأخبرنا فيما يكون مجتمعاً مع غيره، فهذان قسمان من أقسامها، وبعدهما الإجازة، سواء كان معينا لمعين كإجازة الكافي لشخص معين أو معينا لغير معين كإجازته لكل أحد، أو غير معين لمعين كأجزتك مسموعاتي أو غير معين كأجزت كلّ أحد مسموعاتي، كما حكي عن بعض أصحابنا أنه أجاز على هذا الوجه، وفي إجازة المعدوم نظر إلا مع عطفه على الموجود، وأمّا غير المميز كالأطفال الصغيرة فالمشهور الجواز، وفي جواز إجازة المجاز وجهان للأصحاب، والأصح الجواز وأفضل

١٧٧

ولا أقوى قال فاقرأ عليهم من أوله حديثاً ومن وسطه حديثاً ومن آخره حديثا

________________________________________________________

أقسامها ما كانت على وفق هذه الصحيحة بأن يقرأ عليه من أو له حديثاً ومن وسطه حديثاً ومن آخره حديثا، ثمّ يجيزه، بل الأولى الاقتصار عليه، ويحتمل أن يكون المراد بالأول والأوسط والآخر الحقيقي منها أو الأعم منه ومن الإضافي، والثاني أظهر وإن كان رعاية الأول أحوط وأولى، وبعدها المناولة وهي مقرونة بالإجازة وغير مقرونة، والأولى هي أن يناوله كتاباً ويقول هذا روايتي فاروه عني أو شبهه، والثانية أن يناوله إياه ويقول هذا سماعي ويقتصر عليه، وفي جواز الرواية بالثاني قولان، والأظهر الجواز لما سيأتي من خبر الحلال، وهل يجوز إطلاق حدثنا وأخبرنا في الإجازة والمناولة؟ قولان، وأمّا مع التقييد بمثل قولنا إجازة ومناولة فالأصح جوازه واصطلح بعضهم على قولنا أنبأنا وبعدها المكاتبة وهي أن يكتب مسموعة لغائب بخطه ويقرنه بالإجازة أو يعريه عنها، والكلام فيه كالكلام في المناولة، والظاهر عدم الفرق بين الكتابة التفصيلية والإجمالية كان يكتب الشيخ مشيراً إلى مجموع محدود إشارة يأمن معها اللبس والاشتباه: هذا مسموعي ومرويي فاروه عني.

والحق أنه مع العلم بالخط والمقصود بالقرائن لا فرق يعتد به بينه وبين سائر الأقسام ككتابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى كسرى وقيصر مع أنها كانت حجة عليهم، وكتابة أئمتناعليه‌السلام الأحكام إلى أصحابهم في الأعصار المتطاولة، والظاهر أنه يكفي الظن الغالب أيضاً في ذلك وبعدها الإعلام وهو أن يعلم الشيخ الطالب أن هذا الحديث أو الكتاب سماعه، وفي جواز الرواية به قولان، والأظهر الجواز لما سيأتي في خبر الحلال وابن أبي خالد، ويقرب منه الوصية وهي أن يوصي عند سفره أو موته بكتاب يرويه فلان بعد موته، وقد جوز بعض السلف للموصى له روايته ويدل عليه خبر ابن أبي خالد

والثامن: الوجادة وهي أن يقف الإنسان على أحاديث بخط راويها أو في كتابه المروي له معاصراً كان أو لا، فله أن يقول: وجدت أو قرأت بخط فلان أو في كتابه حدثنا فلان يسوق الإسناد والمتن، وهذا هو الّذي استمر عليه العمل حديثاً وقديماً، وهو من باب

١٧٨

٦ - عنه بإسناده، عن أحمد بن عمر الحلال قال قلت لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول اروه عني يجوز لي أن أرويه عنه قال فقال إذا علمت أن الكتاب له فاروه عنه.

٧ - علي بن إبراهيم، عن أبيه وعن أحمد بن محمّد بن خالد، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال أمير المؤمنينعليه‌السلام إذا حدثتم بحديث فأسندوه إلى الّذي حدثكم فإن كان حقاً فلكم وإن كان كذباً فعليه.

٨ - علي بن محمّد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن أبي أيوب المدني، عن ابن

________________________________________________________

المنقطع، وفيه شوب اتصال ويجوز العمل به وروايته عند كثير من المحققين عند حصول الثقة بأنه خط المذكور أو روايته وإلا قال بلغني عنه أو وجدت في كتاب أخبرني فلان أنه خط فلان أو روايته، أو أظن أنه خطه أو روايته لوجود آثار روايته له بالبلاغ ونحوه، يدل على جواز العمل بها خبر ابن أبي خالد، وربما يلحق بهذا القسم ما إذا وجد كتاباً بتصحيح الشيخ وضبطه، والأظهر جواز العمل بالكتب المشهورة المعروفة الّتي يعلم انتسابها إلى مؤلفيها، كالكتب الأربعة، وسائر الكتب المشهورة، وإن كان الأحوط تصحيح الإجازة والإسناد في جميعها.

الحديث السادس مرسل.

قولهعليه‌السلام فاروه عنه: أي إعطاء الكتاب لمن يعلم أنه من مروياته كاف في الرواية أو المراد أن العلم بأن الكتاب له ومن مروياته كاف للرواية عنه، سواء أعطي الكتاب أم لا.

الحديث السابع ضعيف على المشهور ويدل على مطلوبية ترك الإرسال بل لزومه.

وقولهعليه‌السلام إذا حدثتم: يحتمل أن يكون على بناء المعلوم أو المجهول، ولا يبعد تعميم الحديث بحيث يشمل أخبار الناس أيضا.

الحديث الثامن مجهول.

١٧٩

أبي عمير، عن حسين الأحمسي، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال القلب يتكل على الكتابة.

٩ - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتّى تكتبوا.

١٠ - محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن فضال، عن ابن بكير، عن عبيد بن زرارة قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها.

١١ - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، عن بعض أصحابه، عن أبي سعيد الخيبري، عن المفضل بن عمر قال قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام اكتب وبث علمك في إخوانك فإن مت فأورث كتبك بنيك فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم

________________________________________________________

قولهعليه‌السلام يتكل على الكتابة: الاتكال الاعتماد، أي إذا كتبتم ما سمعتم اطمأنت نفوسكم لتمكنكم من الرجوع إلى الكتاب إذا نسيتم، وفيه حث على كتابة الحديث، ويحتمل أن يكون المراد الترغيب على الحفظ بدون الكتابة، فإن مع الكتابة يتكل القلب عليه، ولا يسعى في حفظ الحديث والأول أظهر.

الحديث التاسع ضعيف على المشهور ويؤيد المعنى الأول للخبر السابق.

الحديث العاشر موثق كالصحيح.

قولهعليه‌السلام فإنكم سوف تحتاجون إليها: أي في زمان غيبة الإمام أو الأعم منه ومن زمان بعض الأئمّة المستورين عن أكثر شيعتهم لخوف المخالفين.

الحديث الحادي عشر ضعيف على المشهور.

قولهعليه‌السلام فأورث كتبك: أي اجعلها بحيث يصل إليهم بعدك، ويبقى في أيديهم أو علمهم علمها وحملهم روايتها، والهرج: الفتنة والاختلاف، وهو زمان الغيبة فإنه يكثر فيه الفتنة، واختلاط الحقّ بالباطل، ويدل على جواز الرجوع إلى الكتب في ذلك الزمان.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

وعوراء من قيل امرئ ذي قرابة

تصاممت عنها بعد ما قد سمعتها(١)

رجاة غد(٢) أن يعطف الرّحم بيننا

ومظلمة منه بجنبي عركتها

إذا ما أمور الناس رثّت وضيّعت

وجدت أموري كلّها قد رممتها(٣)

وإني سألقى الله لم أرم حرّة

ولم تتمنّى(٤) يوم سرّ فخنتها

ولا قاذف نفسي ونفسي بريئة

وكيف اعتذاري بعد ما قد قذفتها

***

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرنا أبو ذرّ القراطيسي قال حدثنا عبيد الله بن محمد ابن أبي الدنيا قال حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي أنّ رجلا من الأنصار حدثه قال قال مسكين الدّارمي:

ولست إذا ما سرّني الدّهر ضاحكا

ولا خاشعا ما عشت من حادث الدّهر(٥)

ولا جاعلا عرضي لمالي وقاية

ولكن أقي عرضي فيحرزه وفري

أعفّ لدى عسري وأبدي تجمّلا

ولا خير فيمن لا يعفّ لدى العسر

وإني لأستحيي إذا كنت معسرا

صديقي وإخواني بأن يعلموا فقري

وأقطع إخوانى وما حال عهدهم

حياء وإعراضا، وما بي من كبر

فإن يك عارا ما أتيت فربما

أتى المرء يوم السّوء من حيث لا يدرى

ومن يفتقر يعلم مكان صديقه

ومن يحيى لا يعدم بلاء من الدّهر(٦)

ومن مستحسن قوله:

إن أدع مسكينا فما قصرت

قدري بيوت الحي والجدر

____________________

(١) العوراء هنا: الكلمة القبيحة.

(٢) د، ف، وحاشية الأصل، وديوان المعاني: (رجاء غد).

(٣) رممتها: أصلحتها.

(٤) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (لم تأتمني).

(٥) أبيات منها في معجم الأدباء ١١: ١٢٩، واللآلئ: ١٨٦، وكنايات الجرجاني: ١٠، ٥٧

(٦) حاشية الأصل: (من نسخة): (ومن يغن).

٥٠١

وقيل: إن مسكينا ليس باسمه، وإنما اسمه ربيعة، وإنما سمّي بذلك لقوله:

وسمّيت مسكينا وكانت لجاجة

وإني لمسكين إلى الله راغب(١)

- ومعنى: قصرت قدري، أي: سترت، يريد أنها بارزة لا تحجبها السواتر والحيطان -

ما مسّ رحلي العنكبوت ولا

جدياته من وضعه غبر

وهذه كناية مليحة عن مواصلة السير وهجر الوطن، لأن العنكبوت إنما تنسج على ما لا تناله الأيدي ولا يكثر استعماله، والجديات: جمع جدية، وهي باطن دفّة الرحل.

لا آخذ الصّبيان ألثمهم

والأمر قد يغري(٢) به الأمر

- يقول: لا أقبّل الصبي؛ وأنا أريد التعريض بأمه.

ومثله لغيره:

ولا ألقي لذي الودعات سوطي(٣)

ألاعبه(٤) وريبته(٥) أريد

وأنشد ابن الأعرابي مثله:

إذا رأيت صبي القوم يلثمه

ضخم المناكب لا عمّ ولا خال

فاحفظ صبيّك منه أن يدنّسه

ولا يغرّنك يوما قلّة المال(٦)

- رجع إلى تمام القصيدة -

ولربّ يوم قد تركت وما

بيني وبين لقائه ستر

ومخاصم(٧) قاومت في كبد

مثل الدّهان فكان لي العذر(٨)

____________________

(١) الشعر والشعراء: ٥٢٩.

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (يعزي).

(٣) م: (صوتى).

(٤) د: (لألثمه)، ومن نسخة بحاشية ف: (لألهيه).

(٥) د، ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (وربته)، أي أمه التي تربه. والودعات:

الخرزات.

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (كثرة المال).

(٧) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (ومقادم).

(٨) في حاشيتي الأصل، ف: (إنما يكون العذر إذا كان ثم ظلم، فيقول: إنما أقاوم وأخاصم مظلوما متعدي عليه، وإذا كان كذلك، فيجب الاعتذار على الظالم؛ ويكون العذر لي، كقوله:

فإن كان سحرا فاعذريني على الهوى

وإن كان داء غيره فلك العذر

٥٠٢

- ويروى: (القمر)، والكبد: المنزلة التي لا تثبت فيها الأرجل، والدهان:

الأديم الأحمر -

ما علّتي(١) ! قومي بنو عدس

وهم الملوك وخالي البشر(٢)

عمّي زرارة غير منتحل

وأبي الّذي حدّثته عمرو

في المجد غرّتنا مبيّنة

للنّاظرين كأنّها البدر

لا يرهب الجيران غدرتنا

حتّى يواري ذكرنا القبر

لسنا كأقوام إذا كلحت

إحدى السّنين فجارهم تمر

- أي يستحلى الغدر به كما يستحلى التمر -

مولاهم لحم على وضم

تنتابه العقبان والنّسر

ناري ونار الجار واحدة

وإليه قبلي تنزل القدر

يقال: إنه كان له امرأة تماظّه، فلما قال ذلك قالت له: أجل؛ إنما ناره ونارك واحدة، لأنه أوقد ولم توقد، والقدر تنزل إليه قبلك؛ لأنه طبخ ولم تطبخ، وأنت تستطعمه.

ما ضرّ جاري إذ أجاوره

أن لا يكون لبيته ستر

- قال: ويقال إنها قالت له في هذا البيت أيضا: أجل إن كان له ستر هتكته -

أعمى إذا ما جارتي خرجت

حتّى يواري جارتي الخدر

ويصمّ عمّا كان بينهما

سمعي وما بي غيره وقر

وأنشد عمر بن شبّة لمسكين أيضا:

لا تجعلنّي كأقوام علمتهم(٣)

لم يظلموا لبّة يوما ولا ودجا(٤)

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (ما عابني).

(٢) من نسخة في حاشيتي الأصل، ف: (هو مسكين بن عامر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم؛ فهذا عدس وعدس أبو زرارة، مثل قثم؛ وقال ابن دريد: يقال عدس وعدس)، بضم الدال وفتحها.

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (لا تجعليني كأقوام علمتهم).

(٤) حاشية الأصل: (أي لم ينحروا للأضياف فيطعنوا في لبة أو ودج).

٥٠٣

إني لأغلاهم باللّحم قد علموا

نيئا، وأرخصهم باللّحم إذ نضجا

أنا ابن قاتل جوع القوم قد علموا

إذا السّماء كست آفاقها رهجا(١)

ياربّ أمرين قد فرّجت بينهما

إذا هما نشبا في الصّدر واعتلجا(٢)

أديم خلقي لمن دامت خليقته

وأمزج الحلو أحيانا لمن مزجا

وأقطع الخرق بالخرقاء لاهية

إذا الكواكب كانت في الدّجى سرجا(٣)

ما أنزل الله من أمر فأكرهه

إلاّ سيجعل لي من بعده فرجا

ما مدّ قوم بأيديهم إلى شرف

إلاّ رأونا قياما فوقهم درجا

وأنشد أبو العباس ثعلب له:

أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله

ولم يلهني عنه غزال مقنّع

أحدّثه إن الحديث من القرى

وتعلم نفسي أنه سوف يهجع

ومثله لغيره:

أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله

ويخصب عندي والمكان جديب

وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى

ولكنّما وجه الكريم خصيب

ومعنى:

* أحدّثه إنّ الحديث من القرى*

أي أصبر على حديثه، وأعلم أنه سوف ينام، ولا أعرّض بمحادثته فأكون قد محقت قراي؛ والحديث الحسن من تمام القرى.

وقال الأصمعي: أحسن ما قيل في الغيرة قول مسكين الدارمي:

ألا أيّها الغائر المستشيط

علام تغار إذا لم تغر

____________________

(١) الرهج: الغبار.

(٢) اعتلج. اضطرب.

(٣) الحزن: المفازة الواسعة، والخرقاء: الناقة السريعة.

٥٠٤

فما خير عرس إذا خفتها

وما خير بيت إذا لم يزر(١)

تغار على النّاس أن ينظروا

وهل يفتن الصّالحات النّظر

فإني سأخلي لها بيتها

فتحفظ لي نفسها أو تذر

إذا الله لم يعطه ودّها

فلن يعطي الودّ سوط ممرّ

ومن ذا يراعي له عرسه

إذا ضمّه والمطي السّفر!

قال المرتضىرضي‌الله‌عنه : وكان مسكين كثير اللهج بالقول في هذا المعنى، فمن ذلك قوله:

وإني امرؤ لا آلف البيت قاعدا

إلى جنب عرسي لا أفرّطها شبرا

ولا مقسم لا أبرح الدّهر بيتها

لأجعله قبل الممات لها قبرا

إذا هي لم تحصن أمام فنائها

فليس بمنجيها بنائي لها قصرا

ولا حاملي ظنّي ولا قيل قائل(٢)

على غيرة حتّى أحيط بها خبرا

فهبني امرأ راعيت ما دمت شاهدا

فكيف إذا ما سرت من بيتها شهرا

وأنشد أبو العبّاس(٣) عن أبي العالية لمسكين:

ما أحسن الغيرة في حينها

وأقبح الغيرة في كلّ حين(٤)

من لم يزل متّهما عرسه

مناصبا فيها لوهم الظّنون

يوشك أن يغريها بالذي

يخاف، أو ينصبها للعيون

حسبك من تحصينها ضمّها

منك إلى خلق كريم ودين

لا تظهرن منك على عورة

فيتبع المقرون حبل القرين(٥)

____________________

(١) حاشية الأصل: (للسؤال).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (وإن قال قائل).

(٣) ف: (أبو العيناء).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (غير حين).

(٥) حاشية الأصل: (أي إياك أن تطلع المرأة منك على زنا وريبة؛ فإنها أيضا تزني أو تفعل كما فعلت).

٥٠٥

[٣٦]

مجلس آخر [المجلس السادس والثلاثون:]

تأويل آية:( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها )

 إن سأل سائل عن قوله تعالى في قصة يوسفعليه‌السلام :( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) ؛ [يوسف: ٢٤].

فقال: هل يسوغ ما تأوّل بعضهم هذه الآية عليه من أن يوسفعليه‌السلام عزم على المعصية وأرادها، وأنه جلس مجلس الرجل من المرأة، ثم انصرف عن ذلك بأن رأى صورة أبيه يعقوبعليه‌السلام عاضّا على إصبعه، متوعّدا له على مواقعة المعصية، أو بأن نودي له بالنهي والزّجر في الحال على ما ورد به الحديث؟

الجواب، قلنا: إذا ثبت بأدلّة العقول التي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أنّ المعاصي لا تجوز على الأنبياءعليهم‌السلام صرفنا كل ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنة إلى ما يطابق الأدلة ويوافقها، كما نفعل مثل ذلك فيما يرد ظاهره مخالفا لما تدل عليه العقول من صفاته تعالى، وما يجوز عليه أو لا يجوز.

ولهذه الآية وجوه من التأويل؛ كلّ واحد منها يقتضي نزاهة نبي الله تعالى من العزم على الفاحشة وإرادة المعصية.

أوّلها أنّ الهمّ في ظاهر الآية متعلّق بما لا يصح أن يعلّق به العزم أو الإرادة على الحقيقة؛ لأنه تعالى قال:( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ) ، فعلّق الهمّ بهما، وذاتاهما لا يجوز أن يراد أو يعزم عليهما؛ لأنّ الموجود الباقي لا يصحّ ذلك فيه، فلا بدّ من تقدير محذوف يتعلّق العزم به؛ وقد يمكن أن يكون ما تعلّق به همّه إنما هو ضربها أو دفعها عن نفسه، كما

٥٠٦

يقول القائل: كنت هممت بفلان، وقد همّ فلان بفلان؛ أي بأن يوقع به ضربا أو مكروها.

فإن قيل: فأي معنى لقوله تعالى:( لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها؟

قلنا: يمكن أن يكون الوجه في ذلك أنه لما همّ بدفعها وضربها أراه الله برهانا على أنه إن أقدم على ما همّ به أهلكه أهلها وقتلوه، أو أنها تدّعي عليه المراودة على القبيح وتقذفه بأنه دعاها إليه، وأنّ ضربه؟؟؟؟؟ لامتناعها، فيظنّ به ذلك من لا تأمّل له، ولا علم بأنّ مثله لا يجوز عليه، فأخبر الله تعالى بأنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء، ويعني بذلك القتل والمكروه اللّذين كانا يوقعان به، لأنهما يستحقان الوصف بذلك من حيث القبح، أو يعني بالسوء والفحشاء ظنّهم به ذلك.

فإن قيل: هذا الجواب يقتضي أنّ جواب فَلَوْ لا يتقدّمها، ويكون التقدير: لولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بضربها ودفعها، وتقدّم جواب فَلَوْ لا قبيح غير مستعمل، أو يقتضي أن تكون فَلَوْ لا بغير جواب.

قلنا: أما تقدّم جواب فَلَوْ لا فجائز، وسنذكر ما فيه عند الجواب المختص بذلك، غير أنّا لا نحتاج إليه في هذا الجواب، لأنّ الهمّ بالضرب قد وقع، إلا أنه انصرف عنه بالبرهان؛ والتقدير: ولقد همت به وهمّ بدفعها لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك، فالجواب في الحقيقة محذوف، والكلام يقتضيه، كما حذف الجواب في قوله تعالى:( وَلَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) ؛ [النور: ٢٠]، معناه: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لهلكتم، ومثله:( كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) ؛ [التكاثر: ٥، ٦]، معناه: لو تعلمون علم اليقين لم تتنافسوا في الدنيا، وتفاخروا بها؛ وقال امرؤ القيس:

٥٠٧

فلو أنّها نفس تموت سويّة

ولكنها نفس تساقط أنفسا(١)

أراد: فلو أنّها نفس تموت سويّة لانقضت وفنيت، فحذف الجواب؛ على أنّ من تأوّل هذه الآية على الوجه الّذي لا يليق بنبي الله تعالى، وأضاف العزم على المعصية إليه لا بد له من تقدير جواب محذوف، ويكون التقدير عنده: ولقد همّت بالزّنا وهمّ به؛ لولا أن رأى برهان ربه لفعله.

فإن قيل قوله: هَمَّ بِها كقوله:( هَمَّتْ بِهِ ) فلم جعلتم همّها به متعلّقا بالقبيح وهمّه بها متعلقا بما ذكرتم من الضرب وغيره؟

قلنا: أما الظاهر فلا يدلّ على ما تعلق به الهم والعزم فيهما جميعا، وإنما أثبتنا همّها به متعلّقا بالقبيح، لشهادة الكتاب والآثار؛ وهي ممن يجوز عليه فعل القبيح، ولم يؤمن دليل من امتناعه عليها؛ كما أمن ذلك فيهعليه‌السلام .

والموضع الّذي يشهد بذلك من الكتاب قوله تعالى:( وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ إلى قوله: إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ، [يوسف: ٣٠]، وقوله تعالى:( وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ ) [يوسف: ٢٣]، وقوله تعالى:( الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ (٢) وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) [يوسف: ٥١]، وفي موضع آخر:( قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) [يوسف: ٣٢].

____________________

(١) ديوانه: ١٤٠، وروايته: (تموت جميعة). وفي حاشية الأصل: (ويروى: (تساقط) [بضم التاء]، وساقط بوزن فاعل متعد؛ ويكون (أنفسا) مفعولا؛ وإذا روي: (تساقط) [بفتح التاء] جاز أن يكون (تفاعل) متعديا؛ والمعنى: أسقط. ويجوز أن يكون غير متعد أيضا؛ و (أنفسا) نصبت على الحال، كقوله تعالى:( تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا ) ، أي تساقط عليك ثمر النخلة رطبا، وقال الفراء: هو تمييز، وكلاهما حسن. ويجوز إذا كان حالا أن يفيد كثرة الرطب على الجذع فكأنها إذا تساقط رطبا).

(٢) حاشية الأصل: (معنى( راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ) ؛ أي طلبت منه أن ينزل عن نفسه فيسلمها منى؛ هذا هو هو حقيقة هذه الكلمة؛ فاختصر).

٥٠٨

والآثار واردة بإطباق مفسّري القرآن ومتأوّليه على أنها همت بالفاحشة والمعصية.

والوجه الثاني في تأويل الآية أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير، ويكون تلخيصه:

ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها؛ ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لولا أني تداركتك، وقتلت لولا أني خلّصتك، والمعنى: لولا تداركي لهلكت، ولولا تخليصي لقتلت، وإن لم يكن وقع هلاك ولا قتل؛ قال الشاعر:

فلا يدعني قومي صريحا لحرّة

لئن كنت مقتولا، ويسلم عامر(١)

وقال آخر:

فلا يدعني قومي صريحا لحرة

لئن لم أعجّل طعنة أو أعجّل(٢)

فقدم جواب فَلَوْ لا في البيتين جميعا، وقد استشهد عليه أيضا بقوله تعالى:( وَلَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ) ، والهمّ لم يقع لمكان فضل الله ورحمته.

ومما يشهد لهذا التأويل أنّ في الكلام شرطا، وهو قوله تعالى:( لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) ؛ فكيف يحمل على الإطلاق، مع حصول الشرط؟ وليس لهم أن يجعلوا جواب لَوْ لا محذوفا مقدّرا لأن جعل جوابها موجودا أولى.

وقد استبعد قوم تقديم جواب لَوْ لا عليها، قالوا: ولو جاز ذلك لجاز: (قام زيد لولا عمرو)، و (قصدتك لولا بكر) وقد بيّنّا بما أوردناه من الأمثلة والشواهد جواز تقديم جواب لَوْ لا، والّذي ذكروه لا يشبه ما أجزناه.

وقد يجوز أن يقول القائل: (قد كان زيد قام لولا كذا وكذا)، و (قد كنت قصدتك لولا أن صدّنى فلان)، وإن لم يقع قيام ولا قصد؛ وهذا هو الّذي يشبه الآية؛ وليس تقديم

____________________

(١) صريحا: خالص النسب.

(٢) م:

فلا يدعني قومي ليوم كريهة

لئن لم أعجّل ضربة أو أعجل

وفي حاشية الأصل: (في نسخة س البيت الثاني مقدم على الأول).

٥٠٩

جواب لَوْ لا بأبعد من حذف جواب لَوْ لا جملة من الكلام. وإذا جاز عندهم الحذف - لئلا يلزمهم تقديم الجواب - جاز لغيرهم تقديم الجواب حتى لا يلزم الحذف.

والجواب الثالث ما اختاره أبو عليّ الجبّائي - وإن كان غيره قد تقدمه إلى معناه - وهو أن يكون معنى هَمَّ بِها اشتهاها، ومال طبعه إلى ما دعته إليه. وقد يجوز أن تسمّى الشهوة في مجاز اللغة همّاً؛ كما يقول القائل فيما لا يشتهيه: ليس هذا من همّي، وهذا أهمّ الأشياء إلي؛ ولا قبح في الشهوة لأنها من فعل الله تعالى فيه؛ وإنما يتعلق القبح بتناول المشتهي.

وقد روي هذا التأويل عن الحسن البصري قال: أما همّها فكان أخبث الهم، وأما همّه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء، ويجب على هذا الوجه أن يكون قوله تعالى:( لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) ، متعلق بمحذوف؛ كأنه قال: لولا أن رأى برهان ربه لعزم أو فعل.

والجواب الرابع، أنّ من عادة العرب أن يسمّوا الشيء باسم ما يقع عنده في الأكثر، وعلى هذا لا ينكر أن يكون المراد ب هَمَّ بِها خطر بباله أمرها(١) ، ووسوس إليه الشيطان بالدعاء إليها؛ من غير أن يكون هناك همّ أو عزم، فسمّي الخطور بالبال همّا من حيث كان الهمّ يقع في الأكثر عنده، والعزم في الأغلب يتبعه.

وإنما أنكرنا ما ادّعاه جهلة المفسرين ومخرّفو القصّاص، وقرفوا به نبي اللهعليه‌السلام ، لما في العقول من الأدلة على أن مثل ذلك لا يجوز على الأنبياءعليهم‌السلام ؛ من حيث كان منفّرا عنهم، وقادحا في الغرض المجرى إليه بإرسالهم؛ والقصّة تشهد بذلك؛ لأنه تعالى قال:( كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ) ؛ ومن أكبر السوء والفحشاء العزم على الزنا، ثم الأخذ فيه، والشروع في مقدماته؛ وقوله تعالى أيضا:( إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) يقتضي تنزيهه

____________________

(١) س: (ما أخطر بباله أمرها).

٥١٠

عن الهمّ بالزّنا، والعزم عليه. وحكايته عن النسوة قولهن:( حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) ؛ [يوسف: ٥١]، تدل أيضا على براءته من القبيح.

فأما البرهان الّذي رآه فيحتمل أن يكون لطفا لطف الله له به في تلك الحال أو قبلها، اختار عنده الانصراف عن المعاصي، والتنزه عنها.

ويحتمل أيضا ما ذكره أبو عليّ، وهو أن يكون البرهان دلالة الله تعالى له على تحريم ذلك عليه، وعلى أنّ من فعله يستحق العقاب. وليس يجوز أن يكون البرهان ما ظنّه الجهّال من رؤية صورة أبيه يعقوبعليه‌السلام متوعّدا له، أو النداء له بالزجر والتخويف، لأنّ ذلك ينافي المحنة، وينقض الغرض بالتكليف، ويقتضي ألاّ يستحق على امتناعه وانزجاره مدحا ولا ثوابا؛ وهذا سوء ثناء على الأنبياء، وإقدام على قرفهم بما لم يكن منهم، ونحمد الله على حسن التوفيق.

***

[أخبار متفرقة لإبراهيم بن العباس الصولي وذكر طائفة من شعره:]

روى أحمد بن عبد الله بن العباس الصولي الملقب بطماس قال: كنت يوما عند عمّي إبراهيم بن العباس(١) ، فدخل عليه رجل فرفعه حتى جلس إلى جانبه، أو قريبا من ذلك، ثم حادثه إلى أن قال عمي: ياأبا تمام؛ ومن بقي ممن يعتصم به ويلجأ إليه؟ قال: أنت لا عدمت - وكان إبراهيم طويلا - أنت والله كما قيل:

يمدّ نجاد السّيف حتّى كأنّه

بأعلى سنامي فالج يتطوّح

ويدلج في حاجات من هو نائم

ويوري كريمات النّدى حين يقدح

إذا اعتمّ بالبرد اليماني خلته

هلالا بدا في جانب الأفق يلمح

يزيد على فضل الرّجال فضيلة

ويقصر عنه مدح من يتمدّح

____________________

(١) هو أبو إسحاق إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول، شاعر مجيد؛ توفي سنة ٢٤٣، وله ديوان شعر، نشره الأستاذ عبد العزيز الميمني؛ ضمن مجموعة الطرائف سنة ١٩٣٧ م (وانظر ترجمته في الأغاني (٢٠٩ - ٣٣، وابن خلكان ١: ٩ - ١١، ومعجم الأدباء، ١: ١٦٤ - ١٩٨، وتاريخ بغداد ٦: ١١٧).

٥١١

فقال له إبراهيم: أنت تحسن قائلا، وراويا، ومتمثلا؛ فلما خرج تبعته وقلت له: اكتبني الأبيات، فقال: هي لأبي الجويرية العبدي(١) فخذها من شعره.

***

وروي عن يحيى بن البحتري قال: رأيت أبي يذاكر جماعة من أمراء أهل الشام بمعان من الشعر، فمرّ فيها ذكر قلة نوم العاشق وما قيل فيه، فأنشدوا إنشادات كثيرة، فقال لهم أبي: قد فرغ من هذا كاتب كان بالعراق فقال:

أحسب النوم حكاكا

إذ رأى منك جفاكا(٢)

منّي الصّبر ومنك ال

هجر فابلغ بي مداكا

بعدت همّة عين

طمعت في أن تراكا

أو ما خطّ لعيني

أن ترى من قد رآكا

ليت حظّي منك أن تع

لم ما بي من هواكا

قال أبي: إنه تصرّف في معان من الشعر في هذه الأبيات، قال: وكتبها عنه جماعة من حضر؛ والأبيات لإبراهيم بن العباس الصولي.

***

وأخبرنا عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال: لما بايع المأمون لعلي ابن موسى الرّضاعليهما‌السلام بالعهد، وأمر الناس بلبس الخضرة صار إليه دعبل(٣) بن علي

____________________

(١) اسمه عيسى بن أوس بن عصبة؛ أبو جويرية العبدي؛ شاعر محسن متمكن؛ ذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف: ٧٩، والمرزباني في المعجم: ٢٥٨.

(٢) ديوان إبراهيم بن العباس: ١٤٨.

(٣) هو دعبل بن علي الخزاعي، شاعر مطبوع؛ كان هجاء خبيث اللسان؛ ولم يسلم من لسانه أحد ممن عاصره من الخلفاء والوزراء ولا من أولادهم وأولاد أولادهم؛ ولا ذو نباهة؛ أحسن إليه أو لم يحسن، وكان من مشاهير الشيعة؛ قال ياقوت (وقصيدته التائية في أهل البيت من أحسن الشعر وأسنى المدائح، قصد بها علي بن موسى الرضا بخراسان، فأعطاه عشرة آلاف درهم، وخلع عليه بردة من ثيابه، فأعطاه بها أهل قمّ ثلاثين ألف درهم فلم يبعها؛ فقطعوا عليه الطريق ليأخذوها فقال لهم: إنها تراد للّه -

٥١٢

وإبراهيم بن العباس الصولي - وكانا صديقين لا يفترقان، فأنشده دعبل:

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات(١)

وأنشده إبراهيم بن العباس على مذهبها قصيدة، أولها:

أزالت عزاء القلب بعد التّجلّد

مصارع أولاد النّبيّ محمّد

قال: فوهب لهما عشرين ألف درهم من الدراهم التي عليها اسمه، وكان المأمون أمر بضربها في ذلك الوقت؛ فأما دعبل بن عليّ فصار بالشّطر منها إلى قمّ، فاشترى أهلها منه كلّ درهم بعشرة، فباع حصته بمائة ألف درهم.

____________________

 - عز وجل؛ وهي محرمة عليكم؛ فدفعوا له ثلاثين ألف درهم، فحلف ألا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه، فأعطوه كما واحدا؛ فكان في أكفانه؛ ويقال: إنه كتب القصيدة في ثوب وأحرم فيه؛ وأوصى بأن يكون في أكفانه، ونسخ هذه القصيدة مختلفة، في بعضها زيادات؛ يظن أنها مصنوعة)، وتوفي دعبل سنة ٢٤٦.

(وانظر ترجمته في معجم الأدباء ١١: ١٩: ١١٢، وابن خلكان ١: ١٧٩ - ١٨٠، والأغاني ١٨: ٢٩ - ٣٢، وتاريخ بغداد ٨: ٣٨٢).

(١) القصيدة في معجم الأدباء، وتنوير الأبصار: ١٤١، ١٤٢؛ ومطلعها فيه:

ذكرت محلّ الرّبع من عرفات

وأجريت دمع العين بالعبرات

وفكّ عرى صبري وهاجت صبابتي

رسوم ديار أقفرت وعرات

مدارس آيات ...

وفيها يقول:

ألم تر أني من ثلاثين حجة

أروح وأغدو دائم الحسرات

أرى فيئهم في غيرهم متقسّما

وأيديهم من فيئهم صفرات

فآل رسول الله نحف جسومهم

وآل زياد حفّل القصرات

بنات زياد في القصور مصونة

وآل رسول الله في الفلوات

إذا وتروا مدّوا إلى أهل وترهم

أكفّا عن الأوتار منقبضات

فلولا الّذي أرجوه في اليوم أو غد

لقطّع قلبي إثرهم حسرات

٥١٣

وأما إبراهيم بن العباس فلم يزل عنده بعضها حتى مات؛ قال الصولي: ولم أقف من قصيدة إبراهيم على غير هذا البيت.

قال: وكان السبب في ذهاب هذا الفن من شعره ما حدّثني به أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات والحسين بن عليّ الباقطاني(١) قالا: كان إبراهيم بن العباس صديقا لإسحاق بن إبراهيم أخي زيدان الكاتب المعروف بالزّمن، فأنسخه شعره في عليّ بن موسى الرّضاعليهما‌السلام ، وقد انصرف من خراسان، ودفع إليه شيئا بخطّه منه، وكانت النّسخة عنده إلى أن ولي المتوكل، وولي إبراهيم بن العباس ديوان الضّياع، وقد كان تباعد ما بينه وبين أخي زيدان، فعزله عن ضياع كانت في يده بحلوان وغيرها وطالبه بمال وألحّ عليه، وأساء مطالبته، فدعا إسحاق بعض من يثق به من إخوانه، وقال له: امض إلى إبراهيم بن العباس، فأعلمه أنّ شعره في عليّ بن موسى بخطّه عندي، وبغير خطّه، والله لئن استمرّ على ظلمي(٢) ، ولم يزل عنّي المطالبة لأوصلنّ الشعر إلى المتوكل؛ قال: فصار الرجل إلى إبراهيم بن العباس، فأخبره بذلك، فاضطرب اضطرابا شديدا، وجعل الأمر في ذلك إلى الواسطة في ذلك حتى أسقط جميع ما كان طالبه به، وأخذ الشعر منه، وأحلفه أنه لم يبق عنده منه شيء، فلما حصل عنده أحرقه بحضرته.

وذكر أبو أحمد يحيى بن عليّ المنجم أنّ أباه عليّ بن يحيى كان الواسطة بينهما.

قال الصولي: وما عرفت من شعر إبراهيم في هذا المعنى شيئا إلاّ أبياتا؛ وجدتها بخط أبي قال: أنشدني أخي لعمه في عليّ بن موسى من قصيدة:

كفى بفعال امرئ عالم

على أهله عادلا شاهدا(٣)

أرى لهم طارفا مونقا

ولا يشبه الطّارف التالدا

يمنّ عليكم بأموالكم

وتعطون من مائة واحدا

____________________

(١) حاشية الأصل: الباقطان: قرية بالعراق، والنسبة إليها باقطاني؛ وثم أيضا قرية يقال لها باقطينا؛ والنسبة إليها باقطيني.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (ظلمه).

(٣) ديوانه: ١٧٢، ومن نسخة بحاشية الأصل: (على قومه عادلا).

٥١٤

فلا حمد الله مستنصرا(١)

يكون لأعدائكم حامدا

فضلت قسيمك في قعدد(٢)

كما فضل الوالد الوالدا

قال الصولي: فنظرت في قوله:

* فضلت قسيمك في قعدد*

فوجدت عليّ بن موسىعليهما‌السلام والمأمون متساويين في قعدد النسب، وهاشم التاسع من آبائهما جميعا.

وروى الصولي أنّ منشدا أنشد إبراهيم بن العباس وهو في مجلسه في ديوان الضّياع:

ربّما تكره النفوس من الأمـ

ر له فرجة كحلّ العقال(٣)

قال: فنكت بقلمه ساعة ثم قال:

ولربّ نازلة يضيق بها الفتى

ذرعا وعند الله منها مخرج(٤)

كملت فلما استحكمت حلقاتها

فرجت وكان يظنّها لا تفرج

فعجب من جودة بديهته.

وأخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني القاسم بن إسماعيل أبو ذكوان الراوية قال: كنت بالأهواز أيام الواثق، وإبراهيم بن العباس يلي معونتها وخراجها، فوصفت له بالأدب فأمر بإحضاري، فلما دخلت عليه قرّب مجلسي وقال: تسلّف(٥) أنس المطاولة؛ فإن الاستمتاع لا يتمّ إلاّ به، فانبسطت وتساءلنا عن الأشعار، فما رأيت أحدا قطّ أعلم بالشعر منه، فقال لي: ما عندك في قول النابغة:

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة):* فلا حمد الله مستبصر*

(٢) حاشية الأصل: (في قعدد) تتعلق بقسيمك، والقعدد: الأقرب إلى الأب الأكبر، وفلان أقعد من فلان نسبا إذا كان أقرب إلى الأب الأكبر.

(٣) البيت لأمية بن أبي الصلت؛ وهو في شعراء النصرانية: ٢٠٣، واللسان (فرج). والفرجة؛ بالفتح مصدر؛ وبالضم اسم، والرواية بالفتح.

(٤) ديوانه: ١٧١.

(٥) حاشية الأصل: تسلف؛ أي خذه سلفا؛ يعني أنك ستنبسط إلى بعد المطاولة؛ فخذ ذلك سلفا وانبسط).

٥١٥

ألم تر أنّ الله أعطاك سورة

ترى كلّ ملك دونها يتذبذب(١)

فإنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب

فقلت: أراد تفضيله على الملوك، فقال: صدقت، ولكن في الشعر خب ء(٢) ، وهو أنه اعتذر إلى النعمان من ذهابه إلى آل جفنة إلى الشام، ومدحه لهم، وقال: إنما فعلت هذا لجفائك بي، فإذا صلحت لي لم أرد غيرك، كما أنّ من أضاءت له الشمس لم يحتج إلى ضوء الكواكب؛ فأتى بمعنيين: بهذا، وبتفضيله، قال: فاستحسنت ذلك منه.

وكان إبراهيم بن العباس من أصدق الناس لأحمد بن أبي دؤاد، فعتب على ابنه أبي الوليد من شيء قدّمه، ومدح أباه وأحسن في التخلّص كلّ الإحسان فقال:

عفّت مساو تبدّت منك واضحة

على محاسن بقّاها أبوك لكا(٣)

لئن تقدّم أبناء الكرام به

لقد تقدّم أبناء اللّئام بكا

ولإبراهيم:

تمرّ الصّبا صفحا بساكن ذي الغضا

ويصدع قلبي أن يهبّ هبوبها(٤)

قريبة عهد بالحبيب وإنما

هوى كلّ نفس حيث كان حبيبها

تطلّع من نفسي إليك نوازع

عوارف أنّ اليأس منك نصيبها

وأخذ هذا من قول ذي الرّمة:

إذا هبّت الأرواح من نحو جانب

به آل مي هاج شوقي هبوبها(٥)

هوى تذرف العينان منه، وإنما

هوى كلّ نفس حيث كان حبيبها

ولإبراهيم:

دنت بأناس عن تناء زيارة

وشطّ بليلى عن دنوّ مزارها(٦)

وإنّ مقيمات بمنقطع اللّوى

لأقرب من ليلى وهاتيك دارها

____________________

(١) ديوانه: ١٣.

(٢) الخبء: ما خبىء واستتر، كالخبيء.

(٣) ديوانه: ١٦٢.

(٤) ديوانه: ١٣٩.

(٥) ديوانه: ٦٥ - ٦٦.

(٦) ديوانه: ١٤٥، وفي حاشية الأصل: (يروى البيتان لمحمد بن عبد الملك الزيات).

٥١٦

 وأخذ ذلك من قول النظار الفقعسيّ:

يقولون هذي أم عمرو قريبة

دنت بك أرض نحوها وسماء

ألا إنّما بعد الحبيب وقربه

إذا هو لم يوصل إليه سواء

ووجدت بعض أهل الأدب يظنّ أن إبراهيم بن العباس سبق إلى هذا المعنى في قوله:

كن كيف شئت وأنّى تشا

وأبرق يمينا وأرعد شمالا(١)

نجا بك لؤمك منجى الذّباب

حمته مقاذيره أن ينالا(٢)

حتى رأيت مسلم بن الوليد قد سبق إلى هذا المعنى، فأحسن غاية الإحسان فقال:

أمّا الهجاء فدقّ عرضك دونه

والمدح عنك كما علمت جليل(٣)

فاذهب فأنت طليق عرضك إنّه

عرض عززت به وأنت ذليل

____________________

(١) ديوانه: ١٦٣.

(٢) من نسخة بحاشية الأصل: (مقاذره).

(٣) ملحقات ديوانه: ٢٤٢.

٥١٧

[٣٧]

مجلس آخر [المجلس السابع والثلاثون:]

تأويل آية:( قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى حاكيا عن يوسفعليه‌السلام :( قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) ، [يوسف: ٣٣].

فقال: إذا كانت المحبة عندكم هي الإرادة، فهذا تصريح من يوسفعليه‌السلام بإرادة المعصية؛ لأن حبسه في السجن، وقطعه عن التصرف معصية من فاعله؛ وقبيح من المقدم عليه؛ وهو في القبح يجري مجرى ما دعى إليه من الزنا. وقوله من بعد:( وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ ) يدل على أنّ امتناعه من القبيح(١) مشروط بمنعهنّ وصرفهنّ(١) عن كيده؛ وهذا بخلاف مذهبكم، لأنكم تذهبون إلى أنّ ذلك لا يقع منه؛ صرف النّسوة عن كيده، أو لم يصرفهنّ.

الجواب، قلنا: أما قوله:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ففيه وجهان من التأويل:

أولهما أنّ المحبّة متعلقة في ظاهر الكلام بما لا يصحّ في الحقيقة أن يكون محبوبا مرادا؛ لأنّ السجن إنما هو الجسم، والأجسام لا يجوز أن يريدها؛ وإنما يريد الفعل فيها، أو المتعلّق بها؛ والسجن نفسه(٢) ليس بطاعة ولا معصية، وإنما الأفعال فيه قد تكون طاعات ومعاصي بحسب الوجوه التي يقع عليها؛ وإدخال القوم يوسفعليه‌السلام الحبس، أو إكراههم له على دخوله معصية منهم؛ وكونه فيه وصبره على ملازمته، والمشاقّ التي تناله باستيطانه طاعة منه وقربة، وقد علمنا أنّ ظالما لو أكره مؤمنا على ملازمة بعض المواضع، وترك

____________________

(١ - ١) د، ف: (مشروط بمنعهم وصرفهم).

(٢) حاشية ف (من نسخة): (وحده).

٥١٨

التصرّف في غيره لكان فعل المكره حسنا، وإن كان فعل المكره قبيحا. وهذه الجملة تبيّن ألاّ ظاهر في الآية(١) يقتضي ما عنده؛ وأنه لا بدّ من تقدير محذوف يتعلق بالسّجن؛ وليس لهم أن يقدّروا ما يرجع إلى الحابس من الأفعال؛ إلاّ ولنا أن نقدّر ما يرجع إلى المحبوس؛ وإذا احتمل الكلام الأمرين، ودلّ الدليل على أنّ النبيعليه‌السلام لا يجوز أن يريد المعاصي والقبائح اختصّ المحذوف المقدّر بما يرجع إليه مما ذكرناه، وذلك طاعة لا لوم على مريده ومحبّه.

فإن قيل: كيف يجوز أن يقول:( السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ، وهو لا يحبّ ما دعوه جملة؛ ومن شأن هذه اللفظة أن تدخل بين ما وقع(٢) فيه اشتراك في معناها؛ وإن فضّل البعض على البعض؟

قلنا: قد تستعمل هذه اللفظة في مثل هذا الموضع؛ وإن لم يكن في معناها اشتراك على الحقيقة، ألا ترى أنّ من خيّر بين ما يحبه وما يكرهه جائز أن يقول: هذا أحبّ إلي من هذا، وإن لم يجز مبتدئا أن يقول من غير أن يخيّر: هذا أحبّ إلي من هذا، إذا كان لا يحبّ أحدهما جملة!

وإنما يسوغ ذلك على أحد الوجهين دون الآخر؛ من حيث كان المخيّر بين الشيئين لا يخيّر بينهما إلاّ وهما مرادان له، أو مما يصحّ أن يريدهما، فموضوع التخيير يقتضي ذلك، وإن حصل فيما ليس هذه صفته، والمجيب على(٣) هذا متى قال: كذا أحبّ إلي من كذا كان مجيبا على ما يقتضيه موضوع التخيير، وإن لم يكن الأمران يشتركان في تناول محبته.

وما يقارب ذلك قوله تعالى:( قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ) ؛ [الفرقان: ١٥]، ونحن نعلم ألاّ خير في العقاب؛ وإنما حسن ذلك لوقوعه موقع التوبيخ والتقريع على اختيار

____________________

(١) حاشية ف (من نسخة): (للآية).

(٢) حاشية ف (من نسخة): (يقع).

(٣) حاشية ف (من نسخة): (عن هذا).

٥١٩

المعاصي على الطاعات، وأنهم ما ركبوا المعاصي وآثروها على الطاعات إلاّ لاعتقادهم(١) أنّ فيها خيرا ونفعا، فقيل: أذلك خير على ما تظنونه وتعتقدونه، أم كذا وكذا؟

وقد قال قوم في قوله تعالى:( أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ) إنما حسن ذلك لاشتراك الحالين في باب المنزلة، وإن لم يشتركا في الخير والنفع، كما قال تعالى:( خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ) ؛ [الفرقان: ٢٤]، ومثل هذا يتأتّى في قوله تعالى:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ ) لأنّ الأمرين - يعني المعصية ودخول السجن - مشتركان في أنّ لكل منهما داعيا، وعليه باعثا، وإن لم يشتركا في تناول المحبة، فجعل اشتراكهما في داعي المحبة اشتراكا في المحبة نفسها وأجرى اللّفظ على ذلك.

ومن قرأ هذه الآية بفتح السين فالتأويل أيضا ما ذكرناه؛ لأن (السّجن) المصدر، فيحتمل أن يريد: أنّ سجني لهم نفسي، وصبري على حبسهم أحبّ إلي من مواقعة المعصية؛ ولا يرجع بالسجن إلى فعلهم بل إلى فعله.

والوجه الثاني أن يكون معنى( أَحَبُّ إِلي ) أي أهون عندي وأسهل عليّ؛ وهذا كما يقال لأحدنا في الأمرين يكرههما معا: إن فعلت كذا وإلا فعل بك كذا وكذا؛ فيقول: بل كذا أحبّ إلي، أي بمعنى أسهل وأخفّ، وإن كان لا يريد واحدا منهما؛ وعلى هذا الجواب لا يمتنع أن يكون إنما عنى فعلهم به دون فعله، لأنه لم يخبر عن نفسه بالمحبة التي هي الإرادة؛ وإنما وضع أَحَبُ موضع أخف، والمعصية قد تكون أهون وأخفّ من أخرى.

وأما قوله:( وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ ) فليس المعنى فيه على ما ظنّه السائل؛ بل المراد: متى لم تلطف لي ممّا يدعوني إلى مجانبة المعصية، ويثنيني إلى تركها ومفارقتها صبوت؛ وهذا منهعليه‌السلام على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى، والتسليم لأمره، وأنه لولا معونته ولطفه ما نجا من كيدهنّ؛ ولا شبهة في أن النبيعليه‌السلام إنما يكون

____________________

(١) حاشية ف (من نسخة): (لاعتقادتهم).

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679